الأحد، 13 يونيو 2021

عاشق المجد 1 / 6 - أ.عبد العزيز بن عبد الله السالم

عاشق المجد - دراسة في ست حلقات

(الحلقة الأولى)

أ.عبد العزيز بن عبد الله السالم
الرياض: 11/ 1/ 1418هـ - الموافق 17/ 5/ 1997م


     يجد المرء نفسه في بعض الحالات التأملية مشدوداً إلى ذكرى عزيزة عليه لا سيما إذا كانت تنطوي على ذكرياته عندما كان في ربيع الشباب وهو يرى نفسه في خريف العمر. أما هذه الذكرى التي استدعتها الذاكرة عبر مدة تقارب أربعين عاماً فتتعلق بالزمالة الجامعية عندما كنت طالباً في كلية الآداب بجامعة القاهرة، فقد لفت نظري بصفة خاصة نقاش طالب متفتح الذهن، جم المواهب، يلقي أسئلة ذكية، ويجيب حين يُسأل إجابات موفقة.

     وبعد تخرجه من الجامعة لم تقف به طموحاته عند حدود التعليم الجامعي وإنما بدأ ثقافته الواسعة بعد أن ودع الجامعة. فقد اتجه بكل ما لديه من طاقة، وما وهبه الله من إدراك لتثقيف نفسه تثقيفاً ذاتياً، فأكب على القراءة ووسع دائرة الاطلاع، فلم يتوقف عند المؤهل الذي حصل عليه، وإنما جعل من حصوله على الشهادة الجامعية بداية للتحصيل العلمي الجاد، والثقافة العامة العميقة. ونتيجة لبناء شخصيته العلمية بناءً ذاتياً إلى جانب تلك الثقافة المتميزة، فقد استطاع أن يصدر كتاباً متميزاً في مادته عميقاً في دراسته تحت عنوان (عاشق المجد عمر أبو ريشة شاعراً وإنساناً). أما الطالب السابق والكاتب الحالي فهو الزميل الصديق الدكتور حيدر الغدير. تلك كانت صلتي بالكاتب، وقد امتدت بيننا رابطة الصداقة بعد رابطة الزمالة، فظلت له في نفسي مكانة الزميل القديم الوفي، ومنزلة الصديق العزيز الدائم.

     أما صلتي بالشاعر موضوع الكتاب فهي صلة إعجاب قديم يتجدد، ومثلي كثيرون يهزهم شعره، ويعجبون بتوجهه، فهو شاعر له تفرده وشموخه وإباؤه. يحملك في شعره إلى آفاق متسامية تجعلك تحلق مع النسور في سماء مفتوحة، وتعيش مع الإباء العربي في أجواء سامقة، فيشدك إعجاباً، ويبهرك عطاءً.

     لا تدري لماذا تقبل على شخص وتنفر من آخر!؟ سواء كان ذلك عن طريق اللقاء المباشر، أو من خلال الصلات الأدبية، وسواء كان ذلك مع الأحياء أو مع الذين رحلوا عن هذه الدنيا وتركوا خلفهم آثارهم، وأنت إزاء هذا الموقف لا تجد تعليلاً تقف عنده، ولا تحليلاً تركن إليه، ولا يمكن تفسير ذلك إلا أنه مزاج، فأنت تعجب بشاعر أو كاتب أو عالم تفصلك عنه مسافات زمنية بعيدة من العصور المتعاقبة، فتحب من تحبن وتكره من تكره؛ دون محاكمة لمزاجك الذي فرض عليك الحب أو الكره دون سبب جوهري معلوم سوى الهوى الشخصي والمزاج الفردي.

     ولذلك كان الاختلاف حول علماء وكتاب وشعراء منذ العصر الجاهلي حتى عصرنا الحاضر، فمثلاً المتنبي هذا الشاعر الجهير الذي تفصلنا عنه أكثر من عشرة قرون، لا يزال الناس إزاءه مختلفين، منهم من يرتفع به إلى الأفق الأعلى، ومنهم من يهبط به إلى قرار سحيق. والذين رفعوه والذين رفضوه جميعهم لم يروهن ولم يعايشوه، ولكن أمزجتهم أملت على كل فريق موقفه، ويقاس على ذلك سواه من الشعراء والأدباء السابقين أو المعاصرين.

     وذلك الموقف يتكرر مع الشاعر موضوع هذه الدراسة (أبو ريشة)، فقلما تجتمع لفرد مجموعة من الصفات والمزايا، فتجتمع فيه الوسامة، والقامة المديدة وحسن المنطق، وكرم الشمائل؛ إلى جانب جمعه كذلك بين إجادة الشعر قولاً وإلقاءً، وبتلك الصفات والميزات تلتقي الجوانب المهمة في الشخصية الجماهيرية اللافتة للنظر. ومما يضفي على شخصية شاعرنا أهمية أنه جمع بين الثقافة العالية والدبلوماسية الناجحة، فقد مثل بلاده سفيراً في عواصم كبيرة في أمريكا الشمالية، وأمريكا الجنوبية، وفي الهند، وكان له حضور مشهود في كل عاصمة مثل فيها بلاده حقق لها وللعرب عامة سمعة كريمة. وكانت إجادته لعدة لغات من العوامل المهمة في بناء مكانته السياسية والاجتماعية، وقد ساعدته ثقافته الجيدة واعتزازه بنفسه على الاحتفاظ بمكانة مرموقة في كل مجتمع يحل فيه، فقد كان يعمل على تكوين صداقات عديدة، وإقامة علاقات متينة لا كدبلوماسي حصيف فحسب، وإنما أيضاً كمثقف كبير.

     يحتل الكتاب موضوع هذه الدراسة مساحة من الورق تبلغ كمية صفحاته وفهارسه (540) صفحة، ويتكون من مقدمة موجزة وحديث مختصر عن ديوان الشاعر، ثم تتوالى فصول الكتاب على النحو التالي: صورة كلية ـ مسيرة الحياة ـ في رحاب فيصل ـ إباء وكبرياء ـ مواقف جريئة ـ شعره الوطني ـ شعره الإسلامي ـ الوحدة العضوية ـ الصورة الشعرية ـ الموسيقى الشعرية ـ لغة الشعر ـ الرمز الشعري ـ تبديل وتعديل ـ القصة الشعرية ـ الملحمة الشعرية ـ وتحت كل فصل من هذه الفصول أورد المؤلف استشهادات بأبيات من شعر الشاعر للتدليل على توجهه ورصد مساره.

المقدمة:

     لا يزيد حجمها عن صفحة واحدة وإطلاق عنوان مقدمة عليها يعتبر تجوّزاً لمدلول المقدمات أو تجاوزاً لهذا المفهوم، وليعذرني أخي الدكتور حيدر إذا لم أصنفها في عداد المقدمات، فهي لا يمكن أن تقدم سوى صورة موجزة لا تعطي انطباعاً وافياً عن الكتاب وإن كانت تعرف بالهدف من إصداره، وأنه في الأساس رسالة علمية، وهي الرسالة التي نال بها المؤلف الدكتوراه، وأنه حوّر هذه الرسالة لتخليصها من الرتابة الأكاديمية لتكون مناسبة مع مسار الثقافة العامة التي تعني القارئ على مستوى النطاق الواسع لا التخصص المحدود.

     وكان المفترض أن يقدم لنا المؤلف - وهو قادر على ذلك - موجزاً لكل فصل من الكتاب ليكون بمثابة المفتاح الذي يقود إلى فصول الكتاب، ولعله فعل ذلك في الأساس عند المناقشة كما هو مفترض، ثم عدل عن تلك المقدمة الوافية لتحل محلها هذه التي أسماها مقدمة، وهي لا تزيد على أن تكون إشارة عابرة لا تقدم الكتاب في فكرته العامة وإنما تنوه فقط عن الكتاب في أساسه، ولعله قصد من ذلك أن لا يكتفي القارئ بقراءة مختصرة لهذه الفصول ويكتفي بها عن قراءة الكتاب. ويعلل اختصار المقدمة بقوله: (حين عزمت على طباعته كتاباً للناس أجريت فيه بعض التعديل، وأضفت إليه مواد تتناول حياة الشاعر ونفسيته ومواقفه وموضوعات شعره وطائفة من أخباره، لذلك يجد القارئ فرقاً واضحاً بين الأصل الذي تغلب عليه التقاليد العلمية المقررة وبين الإضافات التي لا تلتزم بذلك). ولا أدري كيف يجد القارئ - وأنا أحد القراء - فرقاً واضحاً بين الأصل وبين الإضافة، ولم يتم الاطلاع على الأصل لأنه فيما يبدو لي غير مطبوع؟!

ديوان الشاعر:

     تمنيت لو أن هذا الفصل تأجل إلى نهاية الكتاب لأنه يختص بالحديث عن شعر الشاعر وطبعات دواوينه التي يقول عنها المؤلف: (كان الشاعر يكرر في الإصدار اللاحق ما جاء في الإصدار السابق) وما قيل عن ملاحمه الشعرية، وما سبق أن ورد على لسانه من وعود بالوفاء بما التزم به من اكتمال قصائده الطوال، أو إنشاء ملاحم وقصص شعرية طويلة مما يحمل على الظن أنه لم ينجزها - كما يقول المؤلف - أو أن ما أنجزه منها لم يرض عنه فطواه. وأضيف إلى ذلك أنه ربما كان يتمنى في أعماقه إصدار ملاحم وقصص شعرية مطولة ولم يتسع الوقت أمامه ليحقق أحلامه، ولو جعل المؤلف هذا الفصل نهاية للكتاب لكان أفضل حتى لا يصطدم القارئ المعجب في شاعره المفضل.

صورة كلية:

     هذا الفصل يقدم لنا الشاعرَ تقديماً وافياً بأصوله العربية ومولده ونشأته وتعليمه، ويرسم لنا صورته متكاملة حسياً ومعنوياً، فنجده فارع الطول، وسيم الطلعة، أنيق المظهر، طلق الحديث، يجتذب السمَّار في المجالس، صاحب طبع كريم مع إجادة لعرض آرائه بشكل مهذب، وفي تنسيق مرتب يملأ المحافل، إذا ألقى شعراً أو تحدث كلاماً يشد السامعين ويبهر الحاضرين. هذه صورته الظاهرة.

     أما صورته الباطنة فكما وصفه الدكتور حيدر: ((مسلم محب للإسلام، غيور عليه، مدافع عنه، يعترف بتقصيره وضعفه البشري، ويسأل الله المغفرة. وثقافته الدينية أقل بكثير من حبه لدينه وغيرته عليه)).

     وبهذا التحليل لشخصيته دلل المؤلف على أنه كان عادلاً في عواطفه بين تفريط وإفراط، أي بين كيل الثناء دون حساب لشاعره، وبين قول الحقيقة كما يعرفها. وبهذه الوسطية في الرؤية تحدث عمّا له، وعمّا عليه.

     وقد اشتهر بأنه شاعر غنائي أسهم بشعره في أغراض متعددة على غرار ما فعله أكثر الشعراء، فلم يحصر نفسه في دائرة بذاتها، وإن كان يجد نفسه في الشعر الوطني الذي يجيده ويجيد إلقاءه بشكلٍ يشد إليه الانتباه، ويجعله محط الأنظار، وموضع التقدير.

     فشعره جماهيري الصدى، ولعله أراد له أن يكون كذلك، فهو معجب بنفسه من خلال إعجاب الناس به، أو لعله صنع هذه الهالة حوله ليكون محل الإعجاب على نطاق واسع، ومعلوم أن شعر الشاعر قطعة من وجدانه، وصورة من نفسه، فهو يلقي ظلالاً كثيفة على مواقفه، ويعطي انطباعاً عن أنماط حياته: ((وشعر عمر يدل إلى حد بعيد على حياته، وعلى عصره، وعلى صنعته على السواء. وإن من أمارات الشاعر العظيم أن يحقق شعره هذه الدلالة فيكون صورة (نوعية) تترجم عن ذاتها، لا صورة (نمطية) تكرر الآخرين)).

مسيرة الحياة:

     في هذا الفصل يتحدث المؤلف عن أسرة الشاعر، فيقدم لنا لمحة تاريخية عن أفراد أسرته، فوالده - واسمه شافع أبو ريشة - كان قد عمل في بداية حياته الوظيفية في فلسطين، حيث ولد ابنه عمر، ثم عاد إلى بلدته مدينة حلب، حيث نشأ هذا الابن الذي أصبح شاعراً مرموقاً فيما بعد، وذكر المؤلف أن والده هذا شاعر لكنه مقل، وأن أمه كانت تحب الشعر وترويه، وأن لأخته زينب حظاً منه، وكذلك كان أخوه ظافر يقول الشعر.

     لكن لم يبرز في هذا الميدان من الأسرة سوى عمر الذي حقق شهرة كبيرة في مجاله هذا، وفي غيره من المجالات السياسية والاجتماعية. وقد اهتم والده بنشأته فألحقه بالجامعة الأمريكية في لبنان، ثم أرسله بعد ذلك في بعثة دراسية إلى إنجلترا لدراسة صناعة النسيج، وهي دراسة مغايرة لاستعداده الذهني وتوجهه الأدبي. يؤكد ذلك أنه عندما عاد بعد الدراسة التي تخصص فيها لم يزاول اختصاصه، وإنما عمل في مجال يتفق مع استعداده وطبيعة اتجاهه.

     وهو ليس بدعاً في هذا المجال، فقد كان عدد من الكتاب والشعراء المرموقين أصحاب تخصصات بعيدة عن استعداداتهم، ومع ذلك كان لهم حضورهم الفكري ومستواهم الثقافي المخالف لدراستهم العلمية ومنهجيتهم التخصصية، ولكن الموهبة هي التي تبرز في الساحة، وتحقق الحضور الأدبي أو الشعري لصاحبها، وعلى هذا النهج كان المفكر الجزائري مالك بن نبي الذي تخصص في الهندسة الكهربائية، والشاعر المهندس علي محمود طه، والطبيب الشاعر إبراهيم ناجي، وقد جمع الدكتور عبد السلام العجيلي بين الطب تخصصاً وممارسة وبين الأدب كاتباً وروائياً وقصاصاً وشاعراً.

     أما شاعرنا عمر أبو ريشة فقد تألق في الشعر خاصة، وبرع فيه، واتخذ منه منبراً يترجم عبره عن أحاسيسه الذاتية ومشاعره الوطنية، فقد توهجت مواهبه الأدبية، وبرزت شاعريته خلال السبعة عشر عاماً التي أمضاها في حلب بعد عودته من دراسته في بريطانيا. ومصدر ذلك التوهج أن المستعمر الفرنسي لبلاده سوريا كان هو الشغل الشاغل للأحرار من المواطنين الذين يرفضون وصاية الاستعمار، فكان تصدي الشاعر للمستعمرين وللخانعين لسطوة المستعمر، فقد اتخذ من شعره سوطاً يلهب به ظهور أولئك الذين دخلوا الوطن عنوة، وفرضوا سلطتهم بالقوة، واستأثروا لأنفسهم بخيرات البلاد، ومن شايعهم أو مشى في ركابهم.

     فكان شعره يوقظ ، ويستنهض الغافلين، ويستثير تطلع المتحفزين، وكان إلقاؤه المتميز وشعره الوطني مما يستنفر نخوة الشعب السوري العربي الأبي، وبذلك أصبح له صوت مسموع، وصدى ملموس، فقد كان المواطنون يهتفون وراءه في كل محفل، ويتجاوبون مع إلقائه الذي كان له إيقاع يستفز المستمع، ويقلق المستعمر، وقد تميز إلقاؤه بجهارة الصوت، وحسن الأداء، وسلامة التعبير، فكان موهوباً في الإلقاء كما أنه موهوب في الشعر.

*****

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة