الأحد، 13 يونيو 2021

رثاء العلماء في شعر حيدر الغدير - أ.شمس الدين درمش

رثاء العلماء في شعر حيدر الغدير

أ.شمس الدين درمش

     للعلماء مكانة كبيرة في نفوس المسلمين عامة، فهم ورثة الأنبياء في العلم، لا في الدرهم والدينار، وقد رفع الله سبحانه مكانتهم فقال: [يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ] (المجادلة:11)، والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة. والعلم الذي يرفع مكانة صاحبه ليس هو مجرد العلم بالمسائل، وإن كان ذلك مهمّا، ولكنه هو العلم الذي يجعل صاحبه ربانيا عاملا بعلمه. وقد اشتهر في تاريخنا علماء من هؤلاء بعد عصر الصحابة والتابعين الذين هم خير القرون، مثل أئمة الفقه الأربعة، وكبار المحدثين، وأصحاب أولئك الفقهاء والمحدثين.

     واشتهر في عصرنا من هؤلاء العلماء في كل بلد على امتداد العالم الإسلامي من أخلصوا دينهم لله، وكانوا ربانيين على منهج السلف الصالح رضي الله عنهم، وكان لوفاتهم أثر عميق في المسلمين في شتى بقاع الأرض، واهتز شاعرنا حيدر الغدير لوفاتهم، فعبر عن حزنه عليهم بقصائد تموج حرارة وألما وأسى، فرثى الشيخ عبدالعزيز بن باز، والشيخ علي الطنطاوي، والشيخ أبا الحسن الندوي، والشيخ محمد السالم، ولنقف عند رثائه كل واحد من هؤلاء العلماء رحمهم الله تعالى.

***

رثاء الشيخ عبد العزيز بن باز:

     تبوأ الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، مكانة عالية في قلوب المسلمين عامة، وفي المملكة العربية السعودية خاصة، فقد كان مفتي عام المملكة، ورئيس هيئة كبار العلماء، وتولى رئاسة الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، وهو عضو مؤسس في رابطة العالم الإسلامي، هذه المهمات الجسام جعلته على تواصل دائم مع علماء العالم الإسلامي في قضاياه المصيرية.

     وقد أحبه الناس، ليس لتوليه هذه المناصب، وإنما لصفات أخرى خلقية ونفسية، في رأسها الورع والزهد في الدنيا، يقول الشاعر حيدر الغدير عنه في مقدمته النثرية لقصيدة الرثاء التي كتبها بعنوان (ترجلت في التسعين ص 57 من ديوان من يطفئ الشمس): "إلى الشيخ الصالح عبد العزيز بن باز رحمه الله الذي كان أعجوبة الصبر، ونموذج الزهد، ومثال النقاء والكرم، وبقية السلف الصالح."

     ويصف لنا موكب جنازته المهيب فيقول:

مضى الشيخ عن دنياه فالموعد الحشر
               وضــــم غواليــــه المطهــــرة القبـــر
وســــار به النعش المهيــــب وأكبـــد
               حِـــرارٌ عليـــها من مهـــابته وقــــــر
يضــــوع الهـدى منه نقياً ممسَّـــــــكا
               كما ضــــاع من أغلى قواريره العطر

     وقد ازدحم الناس في موكب جنازته بشكل لم يقع لأحد من المعاصرين، فعرف بذلك مدى تغلغل محبته في القلوب بصدق وإخلاص، يقول الشاعر مصورا ذلك:

ملايين تدعو والقـــلوب كســـيرة
               ويســـعفها دمع ويخذلها صبـــــر
تقول مضى الشيخ العفيف إزاره
               وخر من العليـــــاء في ليله البدر

     وقد حزن الكبير والصغير لوفاته، وصار لديهم ما يشبه اليقين أن مكان الشيخ سيبقى خاليا، ولن يعوض بمثله!

     وقد عمر الشيخ عبد العزيز حتى بلغ التسعين، وكان عمرا مباركا مليئا بجلائل الأعمال، يقول الشاعر:

ترجل في التســـعين فــــارس حلبة
               وأفراسه الإيمان والعـــــلم والذكــر
وصبــــر جميــل لا يشان بشـــائن
               تـــلازمه التقوى ويرفده الشــــــكر
وحب لكــل المســـــــــــلمين ونيـة
               صفت فهي في أنقى مواسمه القطر
ونصــــــح لذي مال وجاه وصولة
               ونصرة منكوب أضـــــر به العسر

     وقد عدد الشاعر مجموعة من الصفات التي تحلى بها الشيخ رحمه الله، من الإيمان والعلم والذكر، والصبر الجميل، والتقوى والشكر، ومحبته وحدبه على المسلمين، ونصحه للأغنياء بالبذل، ومساعدة المحتاجين، وغير ذلك من فضائل الأعمال والأخلاق.

     ويصور الشاعر تحول الشيخ من طالب علم بمنطقة نجد داخل الجزيرة العربية، إلى عالم يراه المسلمون في مقام الأبوة عطفا وشفقة واهتماما، وحقيقة غلب على الشيخ في آخر عهده لقب الشيخ الوالد، فيقول:

وكــان بنجــد بدؤه بيـــــد أنــــــه
               تسامى به للخيـــر من عزمه مُهْر
فصــار أبــــــاً للمسلمين جميعهم
               يروح إليه البيض والسود والسمر
وعرب وأعجام وشــرق ومغرب
               وما ضاق بالغادين بيت ولا صدر

     وتُذْكر قصص كثيرة عن كرم الشيخ وبذله من ماله الخاص لأصحاب الحاجة الذين ينزلون بساحته وداره، وربما لامه بعض من حوله في ذلك، وطلب منه أن يمسك قليلا، ولكن الشيخ لم يكن يلتفت لذلك، ليقينه التام بأن الله سبحانه وعد كل منفق خلفا، وكل ممسك تلفا، ويصور الشاعر كل ذلك قائلا:

وكان النـــدى للشيخ توأم روحه
               إذا آده عســر وإن أقبــــل اليسر
وما كنز الأموال فالبـــذل طبعه
               كـــأن نداه النهر أو دونه النهــر
وما خاف من فقر فربك مخـلف
               وأملاكه من بعضها البر والبحر
يقول لمن لاموه ما المـال بغيتي
               وفيَّ يقيــــن لا يرام له ستــــــر

     ويتأسى الشاعر عن الشيخ الراحل بخلفه، بما يخفف بعض الحزن، ويعطي بعض الأمل، فيقول:

رحلت ولكن في الحمى ألف واعد
               وألف صباح ملؤها الطيب والبشر
وجيش بشارات حســــان صوادح
               ألذ من النعمى غـلائلها الخضـــــر

     وإذا نظرنا إلى الموضوع وهو رثاء عالم ديني ومعلم ومرب؛ نفاجأ بانحراف القصيدة في نهايتها عن الموضوع، فجيش البشارات، وألف واعد، وألف صباح ينبغي أن يكون من طلبة العلم والدعاة والمربين الذي يكونون على منهج الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، بينما الشاعر انساق بما هو مسكون به في معركته مع اليهود في فلسطين وفي القدس، لذلك جعل تلك البشارات فتوحا حربية، وسيوفا ورماحا ورجالها من أبطال الحروب؛ بدلا من الأقلام والمحابر والدفاتر والكتب التي هي ساحة الشيخ رحمه الله، فيقول:

وجيش من الفرسان راياته الردى
               يروح به نصر ويغـــــدو به نصر
عليه فتى الـفتيـــــان خالد مصـلتاً
               يدك أعــــاديه إذا أمهــــا الذعـــر
له الظفر الميمون درب وصاحب
               وعادته الإقــــدام (والفتكة البكر)
وسعـد يقود الخيل جرداً ضوامراً
               يســـابقه زيد ويصحبــــــه عمرو

     فالألفاظ التي تضمنتها هذه الأبيات من: جيش من الفرسان راياته الردى، وخالد (ابن الوليد) فتى الفتيان يدك أعاديه، والإقدام والفتكة البكر، وسعد (ابن أبي وقاص) يقود الخيل جردا، يسابقه زيد (ابن حارثة)، ويصبحه عمرو (ابن العاص)؛ هذه الألفاظ نقلتنا إلى ساحات المعارك الكبرى في العصر الأول! وإن كان لابد فالأولى استدعاء علماء الصحابة مثل ابن عباس وأبي هريرة ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبَيّ بن كعب وغيرهم رضي الله عنهم جميعا.

***

رثاء الشيخ علي الطنطاوي:

     كان الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله مختلفا عن غيره من العلماء بأمور عديدة جعلت منه فذا متفردا، فهو إلى جانب العلم الشرعي الذي عرف به؛ أديب بارع، وكاتب مجل، له إلمام بعدة لغات غير العربية التي يعد أحد فرسانها.

     وليست هذه ما ميزته، إنما أسلوبه الذي كان يعرض به معارفه ويخاطب مستمعيه، ومهاراته الشخصية في التواصل جعلته محل إعجاب لدى كل من عرفه على مستوى العالم الإسلامي فضلا عن العالم العربي.

     وفي المملكة العربية السعودية التي قضى شطر عمره الأخير اشتهر ببرنامجه التلفزيوني (على مائدة الإفطار)، وبرنامجه (نور وهداية)، وبرنامجه الإذاعي (مسائل ومشكلات). وله مؤلفات كثيرة يغلب عليها السمة الأدبية، وقل أن يقرأ له قارئ ولا يتعلق به!

     وشاعرنا حيدر الغدير أحد المعجبين به وبأدبه وكتاباته وأسلوبه، ويمكن لقارئ شعره أن يكتشف ذلك بسهولة. وكان لوفاة الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله أثر كبير على شاعرنا فكتب قصيدته (شاهد القرن، ص60، من ديوان من يطفئ الشمس)، وقدم لها قائلا: "كان الشيخ علي الطنطاوي من أبرز شهود القرن ودعاته، علماً وحكمة، وعقلاً وذكاء، وبياناً وفصاحة، وطرفة بديعة، وثقافة واسعة، وقدرة على مخاطبة جميع المستويات والأعمار والتأثير فيهم. رحمه الله رحمة واسعة وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وعوضهم عنه خير العوض. كانت حياته غنية متنوعة، وهو ما يتيح لأصحاب الأقلام الكتابة عنه من جوانب كثيرة في أعمال علمية، أو أدبية على السواء."

     ومطلع هذه القصيدة يشعر القارئ أنها قيلت قبل وفاة الشيخ، ثم استكملت، أو كان فد زاره قبل أيام من وفاته، فهو يصف لحظات الحياة قبل الوفاة بالحوار بينه وبين الشيخ، يقول حيدر الغدير:

حُـــمَّ الرحيـــل وما رأيتك تشـــفق
               وأجبــــته والوجـــه طلق مشـــرق
فعجبــت يا شيخي وجئت مســائلاً
               فيــم البشــــاشة والرضـا والرونق
كيف ابتسمت وكان بشرك كالسنـا
               ولمن هششت ومن لقيت ومن لقوا

     وأمام هذه التساؤلات من الشاعر عن صفاء الشيخ وهدوئه وطمأنينته في مواجهة الموت، يجيبه الشيخ قائلا:

فأجبت إني للرحيـم مســــــافر
               فعـلام أشـــــــكو يا بني وأقلق
والله رحمتــــه ملاذي مُشْرعاً
               أبوابَه وبي الرجـــــاء المطلق
أني ظفرت بها فماتت خشيتي
               قبلي فقل أنـّى أخـــاف وأشفق

     فيأتي جواب الشيخ مطمئنا برحمة الله سبحانه، واثقا من تحقق رجائه بربه، ومن كان كذلك فلماذا يخاف ويخشى من الموت!؟

     ويأخذنا الشاعر الغدير إلى الحياة الحافلة التي أمضاها الشيخ الطنطاوي في العلم والدعوة والكتابة دفاعا عن الأمة ومقدساتها، فيتحدث عن سبعين سنة من عمره؛ مجتزئا منها ثلاثة عقود، فقد قارب الشيخ مئة عام، وما اقتطعه الشاعر يزيد على وقت التكون والتشكل العلمي والتربوي الذي يسبق الحياة العملية، لذلك يعد الرقم سبعين مقاربة، وكناية عن الكثرة من السنين، فيقول:

سبعيـــــن عــــاماً عشت فــــارس حلبة
               لك في المحــــــافل شــــدة وترفــــــــق
أبـداً بيـــــــانك كالحســــــام مظفــــــــر
               وثبــــاتك المعهـــــود عــزم يبــــــــرق
والليــــــــن أنت وأنت فيـــه نضـــــارة
               فــــــإذا عـدا العــــادي فأنت المحنــــق
ويعينك الإيمــــــان وهــو حميـــــــــــة
               ويعينك القـــــول الجميـــــل الأليـــــــق
ويعينك العــــــلم الغزيـــــــر وحبــــــه
               ويعينك العـقــــــل الذكي الأسـبـــــــــق
ويعينك الحـــــب الذي قــــــــد نلتــــــه
               بين الأنـــــــام فإن رأوك تحلقـــــوا[1]
مطـروفـــــة أبصــــــارهم مأخــــــوذة
               فيهم هيـــــام الطفل حيـــــن يحـــــــدق
وبهم إلى الرائي[2] استباق ذوي هوى
               إن قيــل جــــــــاء الألمعي المفـــــــلق

     ويعدد الشاعر وسائل الشيخ علي الطنطاوي في مواجهة من يتصدى لهم في حلبة العلم والأدب والكتابة والحديث..، وهي الشدة والرفق، وقوة البيان، والثبات، والإيمان، والقول الجميل، والعلم الغزير، والعقل الذكي، وحب الآخرين، وهذه الصفات مجتمعة جعلت منه محط الأنظار عندما كان يظهر في التلفاز الذي كان يسميه (الرائي)، فيحلقون حوله والعيون مشدودة إليه، والسماع مرهفة لسماع حديثه.

     وكان رحمه الله يعطي إجابات غير متوقعة أحيانا يدهش السائل والسامع مع احتفاظه دائما بابتسامته ودعابته، يقول الشاعر الغدير:

عقل يجوب المعضلات فيجتلي
               أغــوارها وخبيـــــئها ويدقـــق
ويزفها للنــاس تزهر كالضحى
               والســــامعون تشوف وتشــوق
وعلى الوجــوه إذا رأوك مودة
               وعلى القــلوب بشـــاشة وتعلق

     وكان الدفاع عن اللغة العربية الفصحى أحد أبرز مجالاته، ولكنه كان مع ذلك يدعو إلى تبسيط اللغة، وتخليصها من تعقيدات النحو، وله في ذلك مقالات في كتبه، معروفة، يقول الشاعر الغدير:

كنت البيــــان سريـــــه وجليه
               يتـــلى فيطرب أو يقال فيعشق
تبكي الفصاحة بعده أمجـــادها
               وتظل من حزن شجاها تطرق
وتقول هل من فارس من بعده
               يهب الروائع كالسـنـــا ويحلق
أم أن أغربة البيــــــان وبومه
               خلـت الديار لها فراحت تنعق

     وإذا كان الناس قد اعتادوا على كنز الأموال التي تفنى؛ فإن الشيخ علي الطنطاوي ترك كنزا من العلم لا يفنى، وحري به أن يهنأ بكنزه، فيقول:

ولقد تبددها سفــــــاهة وارث
               يعدو عليها أو يضــل ويفسق
فاهنأ بكنـــزك يا علي فــــإنه
               أغلى الكنوز الباقيات وأسمق

     ويذكر اهتمام الشيخ الطنطاوي بقضايا الأمة الإسلامية العربية وغير العربية، وجهاده في الدفاع عنها، فيقول:

المســـلمون عشيــــــرة لك كلهم
               إن يحزنوا أو يفرحوا أو يقـــلقوا
تأسى لهم وتذود عن حرمـــاتهم
               وتكـــاد من آلامهـــم تتـمـــــزق
فإذا انجلت عنهم وعنك همومهم
               ضحــكت بوجهك بسمة تتــــألق

     فهو يحزن بأحزانهم، ويفرح بأفراحهم، وهو مصداق تشبيه الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين بالجسد الواحد.

     وكان الشيخ رحمه الله يقلق لما يحصل بين الدعاة إلى الله من خلافات، فيحاول قدر جهده الإصلاح بينهم بشفقة الأب ونصحه، يقول الغدير في ذلك:

أمّا الدعــــاة فأنت فيهم والــــد
               يحنو ويصلح بينهم ويوفق[3]

     وهو بعد ذلك شديد الصلة بكتاب الله يتلوه ويستنبط لطائف المعاني، ويختلي بنفسه مع الله سبحانه فتأخذه الخشية والخوف، وتسيل دموعه، يقول الغدير:

وإذا عكفت على الكتـــاب فآية
               تجلى لديك فليس فيها مغـــــلق
وإذا خــلوت بربك الملك الذي
               يهب الحياة كما يشــاء ويرزق
راعتـــك قدرته فقلبــك واجف
               من روعة تربو ودمعك مهرق

     ويطوف بنا الغدير مع الشيخ الطنطاوي في رحلة هجرته من بلده الحبيب الذي ما انفك يذكره ما بقي فيه عرق ينبض، ولم تغادر لسانه عبارة: عندنا في الشام! فلما أخرج منها كارها، تمنت كل ثنية من الأرض أن تكون وطنا لهذا الأديب العالم، والعالم الأديب، هكذا يصور لنا الشاعر حيدر الغدير محبة البلاد العربية والإسلامية لهذا الإنسان، ولكن الله سبحانه اختار له أفضل بلد في الأرض قاطبة، إنها بلد الله الحرام، إنها مكة المكرمة، يقول الغدير:

ومضيـــت حين مضيــــت كل ثنية
               في الأرض ودت أنها لك نُمْرق[4]
لكن ظـفـــرت بمكة ولـقـــــد رجت
               أن وسَّــــدتك مع المحبـــــة جــــلق
يــا طالما غنيــــــــــتهـا وعشقتـــها
               ودمشــق[5] حسن عند مثلك يعشق
وحبــــــاك ربـك عن دمشــــق مكة
               وهي الأجـــل جــــــلالة والأعـرق

     وكما كانت حياته في مكة؛ كانت وفاته ومثواه الأخير فيها:

وسكنتها حيـــاً وميتـــاً بوركت
               سكنــاً تظل له النفوس تشـــوّق
وسكنت جار المروتين وزمزم
               وحراء جـارك وهو هدي يعبق
والكعبــــة الزهراء منك قريبة
               وحفيــة فيها السنـــــا والرونق
يا طيب حظك بالجــوار وأهله
               لمـــــا أتوك بشـــــائراً تتــدفق

     وأخيرا يودعه في مثواه الأخير، مهنئا له بهذا الجوار الذي حصل عليه، فيقول:

نم حيث أنت لك الملائك مؤنس
               في روضــــــة بنعيمها تتــــأنق

     وعبارة الشاعر الأخيرة تذكرنا بالبيت الذي قاله في رثاء الشاعر عمر بهاء الدين الأميري، حيث يقول:

نم في جوار الأكرمين يحفهم
               ويحفك الرضوان والإستبرق

     فما أعظم المكانين، وما أحسن الجوارين، وما أكرم المرثيين الشيخ الأديب علي الطنطاوي في مقبرة المعلاة بمكة المكرمة، والشاعر الداعية عمر بهاء الدين الأميري في مقبرة البقيع بالمدينة المنورة!.

***

رثاء الشيخ أبي الحسن الندوي:

     للشيخ أبي الحسن الندوي رحمه الله مكانة أثيرة عند الشاعر حيدر الغدير، ويكن له محبة جمة، وذلك أن الله سبحانه وضع للندوي القبول عند المسلمين عربهم وعجمهم، وجولاته في العالم زادت من هذه الآصرة، إذ عرفه الكثيرون عن قرب، وقد عرف في البلاد العربية بكتابه: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟ قبل أن يعرفوه بشخصه. وكان لشخصيته العلمية والأدبية والسياسية في بلده الهند تأثير كبير في الوقوف أمام كثير من المخططات التي حيكت ضد المسلمين هناك.

     ومكانته رحمه الله في رابطة العالم الإسلامي جعلت صلاته قوية برجال العلم والدولة في المملكة العربية السعودية. وهو فوق ذلك كله سليل النسب الحسني الشريف، وندوة العلماء التي تولى رئاستها دهرا من الزمن تعد درة إنجازاته، إضافة إلى رابطة الأدب الإسلامي العالمية.

     كل هذه العوامل جعلت من الرجل العلامة علامة بارزة في حياة المسلمين في القرن العشرين، ولما توفي حزن العالم الإسلامي كله عليه، إذ إن ذلك العام شهد وفاة عدد من كبار العلماء حتى سماه الكثيرون عام الحزن.

     وقد رثاه شاعرنا حيدر الغدير بقصيدة جعل عنوانها: (لوحت للناس، ص67، من ديوان من يطفئ الشمس)، وكتب لها مقدمة نثرية قال فيها: "كان الشيخ الصالح أبوالحسن علي الحسني الندوي رحمه الله، من أجل الدعاة مكانة، ومن أصدقهم زهداً، ومن أصبرهم على الدعوة، ومن أعفهم نية ولساناً وسلوكاً. عاش مسكوناً بهموم المسلمين، محباً لاجتماعهم، كارهاً لخلافهم، باذلاً في ذلك كل ما يستطيع. وكان مشغوفاً بالربانيين والزهاد، مقتفياً آثارهم. كان معنا بجسمه، وكان معهم بروحه، فكأنه بقية من السلف الصالح جاءت تقيم علينا الحجة."

     وقد بدأ قصيدته كما غالب قصائد الرثاء بالحكمة من الحياة والموت، والصبر على المصائب، لأن الحزن لا يعيد الميت الراحل، يقول:

لا الحزن يرجع من غـــــابوا ولا الجلد
               يفنى الجميــــع ويبقى الواحـــــد الأحد
هذي الحيـــاة مطايــــــا الموت دائبــة
               والشــاهد الشمس والخضراء والأبـــد
والليــــل والصبــح والحدبــــاء بينهما
               تمشي بركبــــانها تهــــفو وتتـئــــــــد
والناس مذ خلقوا والأرض مذ عمرت
               ســـلها ففي جوفهـــا الآبـــــــاء والولد

     والندوي رحمه الله عرف ببساطة حياته رغم ما توافرت له من أسباب النعيم، فلذلك وصف بأنه بقية السلف الصالح، تقوى وزهدا وصدقا ورشدا وحلما وصبرا وجلدا ونصحا، يقول في ذلك:

بقيـــة الســلف الأبـــــرار قد كرموا
               وأنت فيـهم ومنـــهم نجــمة تَقِـــــــد
أنت المجلي إذا التقوى زهت فرحـاً
               بالأتقيـــاء وبـان الصـدق والفنـــــد
وواحة بالهـــدى والصـــدق عامرة
               وقـد تلاقى عليها الفضل والرشـــد
والحـــلم في دأب والحـزمُ في أدب
               والنصح فـي حدب والصبر والجلد
وصولة الأكرمين الغر إن غضبوا
               وخشــعة الأكرمين الغر إن زهدوا

     وهذا الزهد منه ليس زهد الحرمان، ولكنه زهد المستغني الذي تأتيه الدنيا فيرفضها، وتكون بين يديه فيدفعها براحته برفق، بعد أن يأخذ منها بُلْغته، يقول الغدير مشبها زهده بزهد الحسن البصري وعمر بن عبد العزيز والغزالي رضي الله عنهم:

رضيت طبعَ الألى عزت معـادنهم
               إذ جـــاءك العيش فيه اللين والغيـد
فقـــلت: كلا لقـــد آثــــرتُ آخرتي
               فهي الغنى والذي تحبـــــــونه زبد
كأنك الحســـن البصـــري أو عمر
               أو الغـزاليُّ زانوا الدهر إذ زهـدوا
لأن زهدك زهد الصــــــادقين لهم
               عزم على صهوة الإخلاص منعقد

     والندوي مثل أخويه السابقين الشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ علي الطنطاوي لم يأبه بما يترك من متاع الدنيا، ولكنه ترك علما ينتفع به، ومؤسسة علمية كبرى تخرج العلماء، وهذا أنفع له وأبقى من المال الفاني، يقول الغدير:

أبقى من المال ما أبقيت من عمل
               يزهو به وهو في عليـــــائه الرأد
في (ندوة) قدتها غـــــراء عامرة
               بالمتقين على ساحـــاتها احتشدوا
صرح أقمت على التوحيد رايتـه
               وقــــام يعليـــه أبنـــاء له نجـــــد

     فهذه الندوة هي جامعة ندوة العلماء في الهند التي ينتسب إليها أبو الحسن الندوي، وأجيال من طلبة العلم الذي حملوا نسبة الندوي.

     وقد عانى الشيخ أبو الحسن من عدد من الأمراض والأسقام لكنه كان صابرا شاكرا، لا يتضجر ولا يتسخط، طالبا رضاء الله سبحانه بالرضا بقضائه وقدره، يقول الشاعر الغدير:

رضيت أسقامك الغرثى فلا صخب
               ولا شـــكاة ولا حــــزن ولا كـمـــد
شـــكرتها وجــذاها فيــك حــــارقة
               وأنت بالصبــــر والتسبيــح تبتــرد
رأيتـها محنــــة في طيـها نعـــــــم
               ومنـــة حفـــها الإحســان والرغــد
لأنــك المرء بالأقدار قد رضيـــت
               نفـس لــه فهنــــاء كل ما تجــــــــد

     ولما توفي الندوي رحمه الله حزن الناس، وأقيمت عليه صلاة الغائب في الحرمين الشريفين في ليلة من ليالي العشر الأخير في رمضان، وتناقلت الألسنة والصحف خبر وفاته، يقول الشاعر مصورا أثر وفاته:

أبا البهـــاليل من عرب ومن عجــم
               شبوا على سمتك الميمون واجتهدوا
بكتــــك أفئــــدة منــــهم وألســـــنة
               وقبــــل أدمعــهم وهي السها الكبـد
بكــوا أبوتـك الزهـــراء صــــافية
               وعاينوا الرزء لمــــا جل وافتقـدوا

     وهنا يرق قلب حيدر الغدير رقة شديدة ويغلبه الحزن، فيتغير أسلوبه تعبيره ليأخذ منحى بنويا مؤثرا، فيخاطب الشيخ الندوي بالأب الأجل والأستاذ - وحق لمثله ذلك - فيقول مودعا:

أبي الأجلَّ وأستــــاذي إليـــك يدي
               مددتهــــا وأنــــا أزهو وأحتشـــــد
بهـــا كتبـــت بكل الحب قــــافيتي
               فهل شفت بعض ما أشكو وما أجد
يا ليـــــت لي مثل قبر أنت سـاكنه
               عســـــاي ألقى الذي لاقيت إذ أفـد

     ونكاد نلتهب معه في بيته الأخير، ونرجو ما رجاه من الخير في صحبة الصالحين في الدنيا والآخرة، ونسأل الله سبحانه أن يجعل قبورنا روضة من رياض الجنة.

     وفي خاتمة القصيدة، يرى الشاعر الغدير وفاة الندوي تلبية دعوة الكريم الواحد الأحد، كان الندوي ينتظرها ويتشوق لها، ويتشوف إليها، فلما حان موعد اللقاء تهلل وجهه بالبشر، وأمل من الخير القادم مثل مضى، ورفع يده لأهله وأحبابه ملوحا مودعا كما يفعل الناس في أسفارهم في الدنيا غالبا، وهي صورة حركية جميلة أخاذة، ولفتة شعرية بديعة من حيدر الغدير في حسن الخاتمة والختام، فيقول:

لبيـــت أحـــلى نداء عشـــت ترقبــــه
               لمـــا دعـــاك إليـــه الواحد الصــــمد
وقـــلت والبشـــر ريــــان ومؤتــــلق
               قد طاب أمسي وأرجو أن يطيــب غد
لوحت للنـــــاس إذ ودعتــــــهم بيـــد
               لمـــا دعتــــك إلى دار البقــــــــاء يد

     رحم الله الشيح أبا الحسن الندوي، وأحسن مثوبته، ونفعه بما قدم من علم ودعوة في سبيل الله عز وجل.

***

رثاء الشيخ محمد السالم:

     هذه القصيدة مخلتفة إلى حد كبير عن قصائد الرثاء الثلاث السابقة، فالمقدمة النثرية جاءت مقتضبة غير دالة على شخصية المرثي، فالقارئ بعد السنين التي مرت على وفاة الشيخ محمد السالم ليس هو القارئ الذي عاصره وسمع به، وإذا دخلنا في سطور القصيدة فإننا لا نجد فيها ما يدل على المرثي، وأعماله، واهتماماته، وصفاته الشخصية الخلقية والنفسية، غير البيت الذي ورد فيه اسمه (محمد)، وبذلك تفقد القصيدة كثيرا من ملامح الرثاء سوى شعر الحكمة الذي يرافق كل قصائد الرثاء، خصوصا حديث الشاعر عن زوال الدنيا، وتذكر الآخرة وما يتعلق بهما من معان.

     فقد اختار الشاعر حيدر الغدير لقصيدته عنوان (ابتهال، ص77، من ديوان من يطفئ الشمس)، والعنوان ليس له علاقة بالموضوع، وكتب جملة نثرية جاء فيها: "في رثاء الفقيد الطيب الشيخ محمد السالم رحمه الله."

     وافتتح القصيدة بالحديث عن زوال الدنيا، وخداعها للإنسان، وأن الإنسان يكون أسيرا لأمانيه فيها، وينسى الموت الذي هو قرين الإنسان ورقيبه الذي لا يفارقه، ثم يأخذه على غفلة، وعند ذاك يشعر أنه كان في حلم نائم فانتبه، يقول الغدير:

عزاءك هذه الدنيــا ارتحــال ... وآل خـــــادع يتـــــــــلوه آل
وسرب من أمانينــــا اللواتي ... تخب بنا وقد ينـــــأى النوال
وقد يدنو ونحــن له أسـارى ... ولا ندري ويغرينا المحـــال
وننسى الموت وهو لنا قرين ... رقيـــــب ليس يدركه الملال
يســـالمنا وتفجؤنــــــا رحاه ... فتطحننـــا إذا كـــان الزوال
هي الدنيـــا منــــام ثم صحو ... ومكث سويعـــــة ثم انتقــال

     ويأخذ الشاعر بعد ذلك في كشف المزيد من أوصاف الدنيا الخادعة، ثم يرغبنا في الجنان التي أعدها الله سبحانه للصالحين من عباده، فيقول:

هي الدنيـا كما قد قيل دنيـا ... لها في الغدر أخبار طوال
وخير من متــارفها وأبقى ... جنــــان لا يحيط بها مقال

     ويدعو الله أن يبوئنا هذه الجنان فيقول:

أيا ربـــــاه بوئنا جنـــــــاناً ... حساناً يزدهي فيها الجمـال
وبوئنــــا ذراها طيبـــــات ... فأنت المرتجى ولك الجلال

     ويختم القصيدة ببيتين يدعو فيهما للمرثي، ويذكر من صفته أنه كان برا، كريم الخصال، طاهر القلب، عفيفا، صادق القول، حسن الأفعال، فيقول:

وبوئها (محـــمد) فهو بر ... له في كل مكرمة خصال
يزكيه فـــؤاد عـــاش عفاً ... وتحمده مع القـول الفعال

     ويلفت نظرنا في هذه النهاية أن الدعاء للمرثي جاء تبعا لدعاء الشاعر لنفسه بصيغة جمع المتكلم: (أيا رباه بوئنا)، ثم قال: (وبوئها "محمد" فهو بر)، وهذا الترتيب أفقد المرثي أهميته في القصيدة، فضلا عن وقوع الشاعر في ضرورة شعرية في منع اسم العلم (محمد) من الصرف مع أنه يملك التصرف والالتفاف على هذه الضرورة الشعرية.

     وتذكرني هذه القصيدة بمرثية أبي العلاء في صديقه أبي حمزة الفقيه:

غير مجد في ملتي واعتقادي
               نَـوح بـــــاك ولا ترنم شـــاد

     حيث غلب عليها شعر الحكمة، ولا يكاد القارئ يجد فيها ذكرا للمرثي. وأرى أن الشاعر الغدير لو استقبل من أمر رثائه للشيخ محمد السالم رحمه الله؛ ما استدبر؛ لغير الكثير حذفا وإضافة، وتقديما وتأخيرا.

---------------------

[1] كان الشيخ أشهر محدثي الإذاعة والتلفزيون في عصره، وكان الناس على اختلاف طبقاتهم يتحلقون حول التلفزيون حين يطل منه وفيهم شوق أخاذ.
[2] (الرائي) كلمة اقترحها الشيخ بديلاً عربياً عن (التلفزيون).
[3] كان الشيخ يحزن كثيراً لما يراه بين الدعاة من خلاف، وكان يدعو كثيراً إلى جادة وسطى مشتركة تسعهم جميعاً، وكان يفرح كثيراً إذا أصلح بين بعضهم.
[4] النمرق: الوسادة الصغيرة.
[5] كان الشيخ عاشقاً للشام عامة، ولدمشق خاصة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة