الأحد، 13 يونيو 2021

عاشق المجد 4 / 6 - أ.عبد العزيز بن عبد الله السالم

عاشق المجد - دراسة في ست حلقات

(الحلقة الرابعة)

أ.عبد العزيز بن عبد الله السالم
صحيفة الرياض
2/ 2/ 1418هـ - الموافق 7/ 6/ 1997م


شعره الوطني:

       امتداداً لمواقفه الجريئة يجيء شعر عمر أبي ريشة الوطني جريئاً لا تنقصه الشجاعة، فهو شاعر شجاع لا يعتريه التردد في المواقف الوطنية، ولا النكوص عن قول ما يعتقده ويؤمن به. تبهره البطولات، وتشده الفروسية العربية، فقد كان معجباً كما يقول المؤلف: "بشخصية الفارس العربي مروءة ونجدة وبطولة، وكان يحاول أن يتمثل هذه الشخصية.. كان فيه نزوع حاد إلى التمرد والحرية، وكراهية للأغلال والقيود، وكانت جراح أمته جراحاً شخصية له، وشاعر من هذا النوع لا يمكن بحال أن يعيش لنفسه في ذاتية ضيقة مغلقة".

       وفي هذا المضمار يقول أبو ريشة عن نفسه: "إن كلمة وطنية عنت بالنسبة لي أكثر من شعور: إنها مواقف سامية، وأعمال كبيرة. حزنت لأحزان قومي، وفرحت لأفراحهم؛ إلى كل بلد من البلدان العربية انتموا، ولطالما رأيت في كلمة (وطنية) اللغة العربية وأعلامها، والأدباء الذين أحيوا هذه اللغة، وجعلوها حية تخفق في القلوب والضمائر".

       هذا كلام رجل يؤمن بدينه، ويحب قومه، ويحترم لغته، ويقدر عروبته. وبالرغم من أن المرحلة المهمة من دراسته كانت في الجامعة الأمريكية وفي بريطانيا؛ فإنه لم يتنكر للغته، ولا تخلى عن وطنيته، ولم تحمله ثقافته الغربية للانحياز للتغريب الفكري، وإنما ظل وفياً لمبادئه، متصلاً بتراثه، متأثراً بأسلافه، مؤثراً في أمته. وحين بدأ امتداد النفوذ الصهيوني كالأخطبوط، واتسعت أهدافه لتشمل ما لم يكن في أذهان العرب، وحقق مكاسب كبيرة على الصعيد الدولي، وفي مجال الرأي العام العالمي؛ كان موقف شاعرنا موقف المسلم الغيور، والعربي المناضل، فقد عبّر عن أحاسيسه في هذا الصدد عندما قال: "يقلقني الخطر الصهيوني الحاقد، ولست أذكر أني اعتليت منبراً بعد عودتي من بريطانيا عام 1932م إلا وأشرت في كلامي إلى خطر الصهيونية، وما تعده لأبناء الأمة العربية من دسائس ومؤامرات".

       ولذا نجد شعره الوطني يمتاز بحشد المعاني المؤثرة، والكلمات المثيرة إلى جانب الأسلوب الذي ينتهجه الشاعر في وطنياته، وما يضفي عليه إلقاؤه لشعره من تأثير بالغ، وحشد للمشاعر حوله بما جعله مؤهلاً لأن يكون بحق شاعر العروبة، رافعاً لراية الجهاد ضد المستعمر الذي مكن للصهيونية الماكرة ذات الأطماع الغادرة. وها هي ذي دولتها المتسلطة لا تزال تمارس أنواع المكر والخداع، وهي تبني نفسها بفرض الأمر الواقع حيناً، وبالمراوغة حيناً آخر، وبالقوة في أكثر الأحيان، وأرض فلسطين تنتهب، وقدسها يمتهن، ولا نملك إلا أن نشكو إلى الله ضعف قوتنا، وقلة حيلتنا، وهواننا على الآخرين.

       وقد مضى الحديث عن قصيدته الوطنية الرائعة: (أمتي)، وفي قصيدته (خالد) يخاطب سيف الله خالد بن الوليد رضي الله عنه، البطل الذي تجسدت فيه الشجاعة، وكان نموذجها الحي على مدى التاريخ.

       وأبو ريشة في هذه القصيدة يعتذر للبطل الذي واراه الثرى في بلاده سوريا، يعتذر عن تعثر الأمة العربية التي تضم أرضُها رفاتَه، ويعده بأنها ستعود إلى ميدان النضال من جديد لتسفح الدم جهاداً في سبيل الله لتحرير الأرض وإجلاء المستعمر، فلا يزال للرجولة دور يؤدى، وللنخوة صدى يرتفع رغم خيانة نفر من الخانعين الذين لفظهم المجتمع، وبصق عليهم التاريخ، وها هو ذا الشاعر يتفجر أسى وحسرة:

لا تقــل ذلـت الرجولة يا خــــــا
               لـــد واستســـلمت إلى الأحــزان
حمحمات الخيول في ركبك الظا
               فــــر ما زلن نشـــــــــوة الآذان
كم طوت هـذه الربـــوع أفـــــلا
               ذ قلـــــوب بدريـة الخفقــــــــان
قــم تلفت ترى الجنود كما كــــا
               نــــوا منـــار الإبــاء والعنفوان
ما تخــــلوا عن الجهــــاد ولكن
               قـــــادهم كل خــائن وجبــــــان

     فشاعرنا عربي أصيل تسري في شرايينه عزة صقلتها المحن، وأكدتها كثرة المآسي حتى تكسرت النصال على النصال. وفي هذا الإطار ينظر إلى الأرض العربية الخضراء التي يزاحمنا عليها الأعداء في محاولات مستمرة لاقتلاع الجذور العربية، وإبعاد الإسلام من المواجهة التي يحتلها في نفوس العرب والمسلمين، لذلك يتمنى أن تعود الأرض جرداء وهي تعطي الرجال؛ لا خضراء وهي تحتضن الأعداء، فيسأل الله أن يردها قفراء حتى لا تكون مطمعاً للعدو، فنحن نهواها حتى لو كانت مجدبة ما دامت تنتج الرجال:

كيف نمشي في رباها الـ ... ــخضر تيـهاً واختيــــالا
وجـراح الــذل نخفيـــــــ ... ــها عن العـــــز احتيالا
ردها قفــــــــراء إن شئـ ... ــت وموّجـــــــها رمالا
نحـن نهواها على الجــد ... ب إذا أعطـت رجـــــالا

     وعندما تم رحيل الاستعمار الفرنسي عن سوريا تحققت أمنية غالية من أمانيه الممزوجة بأماني مواطنيه، وقد جاء الاستقلال ثمناً للتضحيات الجريئة والكفاح الشريف، وعلى أصوات هتافات الفرحة، وأناشيد الابتهاج تحولت البلاد إلى مهرجان ترفرف أعلامه الوطنية وراياته العربية، وسار المواطنون في موكب تحوطه القلوب، ويعلوه السرور وكأنه في عرس متفرد بالبهجة وحده. وهذا المشهد أملى على الشاعر قصيدة أطلق عليها اسم: (عروس المجد) وهو عاشق المجد، ولذا فإنه يتجه إلى بلاده الحبيبة، وإلى نفسه، مشاركاً في بهجتها بشعره الذي يصدر من أعماق قلبه، وينسكب من فيض وجدانه:

يا عروس المجد تيهي واسحبي
               في مغــــانينا ذيول الشـــــــهب
لن تـري حفنــــــة رمل فوقهــا
               لم تعــــطَّر بدما حـــــــــرٍّ أبي

***

شعره الإسلامي:

     كانت له في هذا الميدان مشاركات ملموسة؛ فقد أنشأ قصائد مطولات كان نفسه فيها مديداً حتى توهم أنه قادر على أن يصوغها على هيئة ملاحم شعرية، ولكن كانت أمانيه أوسع من قدرته، وأحلامه أكبر من إرادته، فوقف بهذه القصائد حيث كانت، وأضاف إلى بعضها بعض إضافات لا ترقى بها إلى رتبة الملحمة، وهذه القصائد التي تميزت بالروح الإسلامية أربع، وهي حسب ترتيب إنشائها وعناوينها: (خالد)، (محمد)، (من ناداني)، (أنا مكة).

     في القصيدة الأولى تصوير لفروسية البطل الفارس الفاتح خالد بن الوليد سيف الله رضي الله عنه، وفي القصيدة الثانية تصوير لجوانب من سيرة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وكانت القصيدتان السابقتان من شعره في مرحلة شبابه، والأولى قبل الثانية بفترة زمنية محددة. أما القصيدتان الأخريان: الثالثة والرابعة فهما من شعره في مرحلة كهولته، وهما تتحدثان عن أمجاد الإسلام. ومعلوم أن العاطفة الإسلامية العربية تبلغ ذروتها عند هذا الشاعر العربي الأصيل الذي كانت دراسته الجامعية في معاهد أجنبية، وقد أمضى شطراً من حياته في بلدان أجنبية، لكنه ظل مع كل ذلك متمسكاً بدينه، مفاخراً بعروبته، وهذه ميزة تسجل ضمن ميزاته.

     ومما قاله المؤلف عن توجهه الإسلامي: "كانت ثقافته الإسلامية أقل بكثير من حبه للإسلام، ولذلك عندما عاش في الهند سفيراً لبلاده أعجب بجوانب من الديانات الهندية مع ما فيها من مجافاة لروح الإسلام، وسجل بعض الإعجاب من المعابد الهندية في شعره، لكنه في مقابلة معه في لبنان بعد ذلك قال كلاماً ينطوي على محاسبة للنفس واعتراف بالخطأ، حيث يقول في صراحة تحمد له: يخيل لي أحياناً أني حدت عن طريق الله كلما تراكمت على نفسي الخطايا. أنا أحيا على كل حال في رحاب نفس نقية صافية مشبعة بالإيمان".

     ولعل مما يحمد له كما ذكر المؤلف: "أن شعره خلا من الرموز الوثنية اليونانية تماماً، وخلا من الرموز الوثنية المسيحية إلا واحداً منها هو الصلب كان يطل على قلة". وتلك الرموز شائعة في الشعر الحديث.

***

     لكل فرد أخطاؤه، وربما شذوذه الفكري، ومن ذلك إعجاب الشاعر بتلك المعابد الهندية والاهتمام بها في شعره، فعندما كان يعمل سفيراً في الهند شدته رياضة (اليوجا) وهي رياضة يتجسد فيها العنف، ولكنه – كما حدثنا رحمه الله - مارسها بجدية، وتلقى تدريباتها العنيفة على يد مدرب هندي مختص بهذه الرياضة التي اشتهرت به الهند، وقد غيرت بعض ما ألفه في مجرى حياته، فقد تخلى عن النظارة التي كان يظن أنه يصعب تخليه عنها، ولم يعد يهتم بلباس ثقيل في الشتاء أو خفيف في الصيف، فكان كما يقول: "يلبس لباس الصيف في الشتاء والصيف"، لأن هذه الرياضة المجهدة صنعت لديه مناعة – كما يعتقد – ضد كثير من عوامل الإحباط، وأكسبته قدرة – كما يؤكد ذلك – في مواجهة تقلبات الأجواء، واختلاف الطقوس، أو هذا ما أوحت به إليه تلك الرياضة (اليوجا).

     ولهذا الشاعر تصرفات عجيبة لعل من أعجبها أنه كان يذهب إلى المقبرة في حلب، ويظل ساعة أو ساعتين وربما أكثر من ذلك في الليل المظلم مصطحباً معه زوجته في كثير من الأحيان، وهي تغالب الخوف في نفسها طيلة الجلسة الطويلة المملة في المقبرة تنتظر حتى ينتهي من جلسته الصامتة بين القبور لهدف غير واضح، وغاية غير مفهومة، فليس من الوارد أنه يذهب لزيارة القبور لأنها تذكر بالآخرة! ولعله يجد من الأنس في بعض حالاته بالأموات أكثر مما يجده بين الأحياء، وذلك ما حمله على أن يقول: "إن المقابر دون سواها تسري عني وتريحني كلما أرهقتني أثقال الحياة". وهو تفسير شديد الغرابة في أن يجد فيما لا يتصور أحد سواه أن تكون المقابر مجال تسرية أو تسلية، ولعل هذا من شذوذ بعض الشعراء الذين لكل منهم منظور خاص به.

     فالمقابر ترتبط في أذهان الناس بالرهبة والخشية من المجهول كما هو المعهود في واقع الحياة، فهو يرى شخصياً عكس ما هو مشهود ومعروف لدى الناس في هذا التصور بالذات، وهو موقف يؤكد شذوذه وخروجه عن المألوف. والموت بطبيعته يثير في الإنسان مشاعر الخوف منه، وتحاشي الأسباب المؤدية إليه، والمقابر هي مساكن الأموات، وزيارتها في الليل خاصة مما يستدعي الوحشة، ولو جرى طرح مثل هذا السؤال: هل بالإمكان أن تكون زيارة المقابر والجلوس بين القبور ساعات من الليل المظلم مدعاة للتسرية عن النفس؟ لكان الجواب بسؤال مماثل: كيف يجد الإنسان الحي متعة في البقاء مدة من الزمن مع أجساد فارقتها أرواحها، فهي رمم بالية وأجسام فانية، تحللت في التراب، ولم يعد يربطها بالأحياء صلات كما كانت على قيد الحياة؟.

     لكن إذا قال لك شخص تحمل له في نفسك قدراً من الاحترام وله من الإعجاب عندك مثل ذلك: إنه يجد راحته النفسية بين القبور في الليل المعتم، وإنه انقياداً لهذا التوجه يبقى فترة طويلة وهو مسترسل في شرود يشبه الذهول على حد تعبيره، فكيف تحكم على مسلكه هذا!؟ وبماذا تصف صاحب هذا الموقف وتصنفه!؟ هل تصنف هذا التصرف بأنه جنون! والجنون فنون – كما يقال – أو أنه جنوح إلى الشذوذ الذهني، والشذوذ ليست له قاعدة؟! لا تتسرع بإصدار الحكم لأن الذي يقول ذلك الكلام ويقوم بذلك التصرف – كما نقل إلينا المؤلف – شاعر تحبه وتعجب به: إنه الشاعر الكبير عمر أبو ريشة، ولعله ينطبق عليه ما ينطبق على الشعراء الذين هم في كل واد يهيمون.

***

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة