الأحد، 13 يونيو 2021

عاشق المجد 5 / 6 - أ.عبد العزيز بن عبد الله السالم

عاشق المجد - دراسة في ست حلقات

(الحلقة الخامسة)

أ.عبد العزيز بن عبد الله السالم
صحيفة الرياض - السبت
18/ 1/ 1418هـ - 9/ 2/ 1998م


الوحدة العضوية للقصيدة:

     تحت هذا العنوان حدد المؤلف المنحى الشعري للشاعر أبي ريشة وأنه اختار لنفسه أن يكون شاعر قصيدة لا شاعر بيت؛ "بمعنى أن القصيدة عنده وحدة متكاملة يأخذ بعضها برقاب بعض حتى تنتهي مع البيت الأخير نهاية تثير الدهشة وهو ما كان يسميه بيت المفاجأة".

     ومضى المؤلف بعد ذلك يتحدث في تحليل واسع يتفق وثقافته الواسعة عن آراء النقاد القدامى والمعاصرين في هذه القضية التي أخذت أبعاداً واسعة، وبعد أن استعرض وجهات نظر النقاد من قدامى ومحدثين وما قالوه عن وحدة البيت الشعري، وعن الوحدة العضوية للقصيدة العربية، تحدث عن الوحدة العضوية في الشعر الحديث، واستشهد بنقل أقوال كثيرة لنقاد عديدين، وقد شغل هذا الاستشهاد (18) صفحة من الكتاب.

     وفي تحليل المؤلف للوحدة العضوية للقصيدة يؤكد "أن الدعوةَ إلى الوحدة العضوية من حيث هي عمل فني يراد له أن يكون متكاملاً مترابطاً متين النسج يقع كل جزء منه في مكانه المناسب، وينجو من الاستطراد، ويركز على فكرةِ القصيدة وموضوعِها؛ أمرٌ لا غبار عليه. بل هو جيد، وربما كان أكثر انسجاماً مع روح العصر الذي لا يطيق التنوع والانتقال من خاطرة إلى أخرى، ومن محور إلى آخر، لكن العيب الكبير الذي وقع فيه دعاتها هو آفة التعميم والإصرار على انتقاص أي قصيدة مهما كانت جيدة إذا كانت تعددت محاورها".

     ويخلص الدكتور حيدر بعد هذا التحديد لمفهوم الوحدة العضوية لدى أكثر الشعراء المعاصرين إلى القول: "وأياً كان الأمر فإن خاتمة القصيدة عند أبي ريشة خاتمة مؤدية جداً تبهر المتلقي، وتتركه في ذروة درجات التواصل، بحيث يمكن لنا أن نقول: إنه لم يكن فيها الوحيد، لكنه كان فيها السابق والمبرز والمتفرد".

***

الصورة الشعرية:

     يختلف وضع الكلمة في الصيغة النثرية عن وضعها في الصورة الشعرية، لما يتطلبه الشعر من تصوير للخوالج النفسية، وتجسيد للمشاعر التي يقدمها الشاعر، ويضفي عليها من روحه وحيويته ما يبعث فيها روح الأصالة، ويبث من خلالها إرادة التأثير، فالشعر مصدر الإلهام لمن يتمتع بالموهبة، والصورة الشعرية ذات أبعاد. وعن هذه الأبعاد يقول المؤلف: "إذا كان مصدر الشاعر في استقاء مواد صورته هما "الطبيعة والثقافة"، فإن ذلك لا يعني أنه ينقل عنهما نقلاً حرفياً مباشراً، وإنما هو يتجاوزهما إلى إضافته هو إلى الموقف، وهي إضافة تتكون من انفعاله، واتجاه أفكاره ورغباته، والجو العام الذي يتفاعل معه". ثم يضيف ما يوضح الصورة توضيحاً أكثر حين يتحدث عن الإطار العام للصورة الشعرية فيرى: "أن الشاعر يجد نفسه أمام مصادر كثيرة للصور، لكنه لا ينقل عنها نقلاً حرفياً، بل ينقل عنها من خلال اختياره وإضافته وتبديله، وتجاهله للعلاقات بين مواد الصورة وبنائه لعلاقات أخرى".

     وبعدما انتهى إلى هذه النتيجة أفاض في توسيع نطاق الصورة بإيراد أقوال كثيرة لعدد من الأدباء الكبار والكتاب المعاصرين في هذا الصدد، ثم عقب على استعراضه العام بتحديد الصورة عند شاعره موضوع هذه الدراسة، حيث قال: "ولقد شكلت الصورة الشعرية دعامة أساسية من دعائم البنية الفنية عند أبي ريشة مثلها مثل الوحدة العضوية وبيت المفاجأة".

     وتابع بعد ذلك اجتلاء الصورة عند هذا الشاعر بقوله: "إن الصورة المكثفة من أهم ما امتلكه أبو ريشة ونقصد بها تلك الصورة التي توجز الكثير في القليل، والتي تومض كأنها لمحة برق. لكنها تدعك مأخوذاً مسلوباً. إنها جرعة مركزة لكن مفعولها كبير وغني". وقد حشد المؤلف صوراً من الشواهد العديدة من شعر أبي ريشة ليدلل على كثافة الصورة الشعرية عند الشاعر، فهو كما قال المؤلف: "كان أبو ريشة صاحب قصد واعٍ هادف ومُلح أيضاً في صنعته الشعرية. بدا هذا الأمر في حرصه على الوحدة العضوية، وبيت المفاجأة والتصوير".

***

الموسيقى الشعرية:

     ارتبط الشعر العربي بالذات بالموسيقى ارتباطاً جذرياً منذ بدايته، فمنذ بدأ الشعر مع حداء الإبل والعرب ينشدون الأشعار المنغمة وهم يحدون القوافل، وكما نقل المؤلف عن أستاذنا الدكتور شوقي ضيف عن نشأة الشعر مع الغناء في بداياته الأولى حيث قال: "وأغلب الظن أنهما كانا مترابطين في أول نشأتهما ترابطاً وثيقاً، ثم انفصلا بمضي الزمن ورقي كل منهما، وأصبحت له طبيعته الخاصة، ولا تزال طوابع هذه النشأة بارزة في الشعر، فلا يوجد شعر بدون موسيقى، وهي فيه تقوم مقام الألوان في الصورة، فكما أنه لا توجد صورة بدون ألوان؛ كذلك لا يوجد شعر بدون موسيقا وأوزان وأنغام".

     وتوكيداً لما سلف فإننا نلمس في حاضرنا في مجال الشعر الشعبي الذي يجري إنشاده في المحاورات لأنه يرتكز على التنغيم الموسيقي والأبيات الموزونة، وهو شعر يصدر عن السليقة، ويقال على البديهة مباشرة. يبدأ شاعر بالإنشاد فيرد عليه آخر على المنوال نفسه. يجري ذلك أمام مشهد من الحضور، وكل شاعر يؤدي شعره بصوت منغم، ولشعره جرس موسيقي يتكيف مع طبيعة الإنشاد المشهود، والإنسان مفطور على الميل إلى الأصوات الجميلة والنغمة المريحة. لذلك نجده وهو لا يزال في مهد الطفولة ينام على هدهدته بصوت منغوم يسري في كيانه فيجلب له النوم، وعندما يكبر معه هذا الإحساس فإنه يتجسد في حب أصوات الطيور، وخرير الجداول، وحفيف أوراق الأشجار، وما يدخل في هذا الإطار من أهازيج وأناشيد وأشعار. وقد تحدث المؤلف عن بدايات الموسيقى الشعرية منذ تاريخ الشعر اليوناني في العهود الغابرة حتى العصر الحالي، وقدم نماذج كثيرة من أقوال عديد من العلماء والأدباء الأوائل، وكذلك من الأدباء والشعراء في العصر الحاضر.

     وقد استوعب هذا الفصل مساحة كبيرة من الصفحات حفلت بأقوال عدد من المنظرين في هذا المجال، وعزا المؤلف تأثر الشاعر بالموسيقى الشعرية إلى سبعة عوامل فصلها، وأرجع إليها الانطباعات الذاتية، وأسهب كذلك في الحديث عن بحور الشعر التامة والمجزوءة، وتعدد الأوزان داخل القصيدة الواحدة، وقد حمله التوسع في هذا المضمار بحس الشاعر (فهو أديب وشاعر) إلى الحديث عن القوافي المطلقة والمقيدة والمشتركة والمنوعة، والقوافي المأنوسة. كما أفاض في الحديث عن الموسيقى الداخلية للقصيدة، وقد طوى هذا الفصل (83) صفحة، من الصفحة

***

لغة الشعر:

     لا تختلف لغة النثر والشعر في طبيعتها واشتقاقاتها ودلالتها، لكنها تختلف في أسلوب توظيفها وفي إيقاعها، فالكلمة في النثر تؤدي المعنى المقصود بحسب الدلالة المحددة. أما الكلمة في الشعر فهي شحنة أحاسيس تتفجر داخل الشاعر فتتحول الكلمات عنده إلى ورود، أو قذائف وفق طبيعة الموضوع الذي يستدعي الرقة أو الخشونة، فالشعر الغزلي يختلف عن الشعر الوطني، وكل لون من ألوان الشعر له كلماته الخاصة، واستعمالاته المناسبة كما هو الوضع بالنسبة لجميع فنون الآداب والعلوم، فالنثر الفني يختلف عن نثر المتون العلمية، أو أي كلام لا يلزم منه إلا أن يكون مفيداً، وكل فن من فنون القول وسيلته التي توصله إلى القارئ أو المستمع هي الكلمة، فإذا وضعت في غير موضعها صارت نشازاً تبعث النفور لدى المتلقي بدل أن تجتذبه، وهي ذاتها إذا وضعت في موضعها الصحيح أدت دورها المطلوب لتحقيق الغاية من صياغتها لاجتذاب المتلقي وإقباله عليها.

     وللشعر لغة خاصة به ترتفع فوق مستوى النثر بحكم أن الشعر الحقيقي صادر عن انفعال بحدث، أو تأثر بموقف، أو تجاوب مع منظر جمالي، أو مشهد طبيعي، أو أي مظهر للجمال الحسي أو المعنوي. فتسمو الشاعرية للتعبير عن ذلك بكلمات ذات تأثير تترجم عن معاناة الشاعر وأحاسيسه. وقد نقل المؤلف تعريفات كثيرة للغة الشعر بصفة عامة عن قدامى ومحدثين حتى انتهى إلى اختلاف النقاد في لغة شاعرنا "بين فريقين. فريق يتهمه بضعف لغته، وقلة مفرداته، وقلة اتصاله بالتراث اللغوي، وفريق يقف مناقضاً لذلك يشيد بلغة أبي ريشة، ويرفع من مكانها".

     أما الشاعر نفسه عمر أبو ريشة فقد قال في مقابلة صحفية نشرت في الشرق الأوسط ما نصه: "علاقتي بالشعر بعيدة الجذور، وكل كلمة أستعملها أدرسها وأعيها وأعرف موقعها وأبعاد معانيها، الشعر عندي عالم فسيح بلا حدود، أجوبه بملء حريتي متى شاء لي الإحساس". وإذا كان لكل شاعر كبير معجمه الشعري فإن لشاعرنا معجمه الخاص، ويمكن الرجوع إلى هذه الدراسة عنه للتعرف على منهجه ومعجمه الشعري.

***

الرمز الشعري:

     من الشعراء المعاصرين من يلجأ إلى الرمز في شعره سواءً كان ذلك عن إبداع أو تقليد لكن أبا ريشة لا يقلد، وإنما يتمثل الرمز الذي يلامس مشاعره، ويهز وجدانه فيسجله أحرفاً بارزة في شعره، وأكثر ما يتجسد هذا الرمز في الصحراء، فهي مصدر إلهام له بحكم أن جزيرة العرب تمثل الصحراء في ذهنه، فهي المكان الذي نزل فيه الوحي، وانتشر منه نور الإسلام، وأن هذه الصحراء العربية ضمت بطولات الفاتحين، واحتضنت مكارم الأخلاق، وبهذا المفهوم كان للصحراء حضور في شعره لارتباطها في ذهنه بالمروءات والبطولات، والأصالة والحرية، والإباء والشجاعة والكرم.

     وعلى هذا الأساس وظف هذا الرمز في شعره لارتباطه بتلك الفضائل والخصال الحميدة، وهو يؤكد هذا المعنى حين يقول: "إن الصحراء ارتبطت بذهني ارتباطاً وثيقاً، فوالدي من العرب الأقحاح، وقد رأيت هذه الأرض الجرداء خيراً من كل أراضي الدنيا". ولذلك فإنه يحرص على تسجيل مظاهر الصحراء، ورص معالمها المتمثلة في الحياة الخشنة، والفارس المتحفز، وأدوات العربي البدوي التي تصاحبه في حله وترحاله كالسيف والخيل، والخيمة الصغيرة التي تتسع لكثرة الأضياف، وتمتد مع امتداد واحات الكرم الأصيل. وحين ينحرف بدوي مترف، ويتخلى عن عادات قومه، ويدير ظهره لتلك السجايا الشامخة، يلهب ظهره بسياط شعره الموجعة، فيسخر من انقلاب الحياة الصافية الصامدة إلى حياة خاملة تافهة تنعكس فيها تلك المعاني إلى ضدها:

فــإذا النخوة والكبـــــر على
               ترف الأيــــــام جرح موجع
هانت الخيل على فرســـانها
               وانطوت تلك السيوف القطع
والخيـــام الشم مالت وهوت
               وعوت فيها الريــاح الأربع

     هذه أبيات من قصيدة تصور غضبة الشاعر وسخطه على مظاهر الترف الحضاري المصحوب بالتهالك على الملذات، والتخلي عن القيم، فيستدعي في ذهنه رمز الصحراء عندما أضاء نورها بوهج الإسلام، وارتفعت رايات النور، وتألق المجد، وسار موكب الهدى يشق دروبه رافعاً علم التوحيد بعزيمة واثقة وإرادة حاسمة:

من هنــا شق الهدى أكمامه ... وتهـــادى موكباً في موكب
وأتى الدنيــــا فرفت طربـاً ... وانتشت من عبقه المنسكب
وتغنــــت بالمروءات التي ... عرفتها في فتـــاها العربي

     وأبو ريشة يهوى التحليق بشعره في الآفاق كالنسور، ولذا فإن النسر عنده رمز لهذا التحليق، فهو يستدعيه في كثير من شعره الوطني ليؤكد تحليقه في أجواء لا يرتفع إليها سوى النسور، وهو لهذا يأبى أن يهبط إلى السفوح، فقد عاش للمجد، والمجد لا ينال بالهبوط وإنما بالتسامي، والنسور تحتل قمم الجبال العالية، لكن عندما تختل المعادلة الصحيحة يهبط النسر إلى السفح ليزاحم بغاث الطير على ما يأكله، وعندما ينتهي به الأمر إلى هذا الوضع المزري يلجأ إلى الانتحار لئلا يعيش حياة ذليلة، والشاعر يصور هذا المشهد من خلال قصيدة مطلعها:

أصبــــح الســــــفح ملعباً للنسور
               فاغضبي يا ذرى الجبال وثوري

     ثم ينتهي إلى بيت القصيد حينما يتصور حاله مثل هذا النسر الذي كان عزيزاً في ذراه العالية ثم هبط إلى السفوح ليسد جوعه، لكنه وجد نفسه تزاحمه البغاث من الطير وتدفعه وهو لا يستطيع أن يدافع عن نفسه لما ناله من الكبر، فضاقت به الحياة، فلم يجد مفراً من التحليق عالياً، ثم هوى جثة هامدة. وكذلك ينبغي أن يكون كل حر، والشاعر يلتقط رموزه من حياة الصحراء، ومن صميم الحياة العربية.

***

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة