الأحد، 13 يونيو 2021

عاشق المجد 6 / 6 - أ.عبد العزيز بن عبد الله السالم

عاشق المجد - دراسة في ست حلقات

(الحلقة السادسة)

أ.عبد العزيز بن عبد الله السالم
صحيفة الرياض
16/ 2/ 1418هـ - الموافق 21/ 6/ 1997م



تبديل وتعديل:

     الشاعر الذي يحترم نفسه ويقدر قراءه ـ ومثله الأديب ـ عندما يعود لجمع عطائه وإصداره يحرص على ألّا يقدم لجمهوره إلّا ما يرضى عنه حينما يضع إنتاجه في ميزان الجودة. فالأديب أو الشاعر لا يكتب أو يقول شعراً يكون موضع رضاه على الدوام، فحياته كلها ليست تجليات وإلهاماً وإبداعاً، وإنما فيها ما هو كذلك، وما هو عكس ذلك، فالكتابة أو الشعر الذي يجيء بمعزل عن التفاعل مع الجو الذي أوحى إلى الكاتب أو الشاعر يجعل العطاء فاتراً لا تحس فيه حرارة الانفعال، ولا وهج الروح التي تمليه، وفي ظل هذا المفهوم كان أبو ريشة كما يقول المؤلف: "يعيد النظر في شعره كثيراً، وربما أسقط قصائد كاملة من شعره فيما نشر من دواوين، وربما عدل تعديلاً كبيراً أو صغيراً في بعض شعره حين يعيد نشره في طبعة تالية، ومرد ذلك أنه كان كثير التجويد في شعره. ذلك أنه كان يتأنى فيه ويتعنى ويبذل جهداً غير عادي لأنه كان شاعر صنعة أكثر منه شاعر طبع".

     واستشهد المؤلف ببعض أشعاره التي أجرى عليها الشاعر التعديل والتبديل والحذف والإضافة. وفي مقابلة صحفية معه عندما سئل عن البيت الأخير الذي يسميه ببيت المفاجأة والذي عادة ما يكون ختام القصيدة أجاب: "القصيدة عندي وحدة متكاملة تحمل فكرة جديدة تعودت أن أختمها ببيت الاستثارة، أو كما تقول بيت المفاجأة".

***

القصة الشعرية:

     استعرض المؤلف وضع القصة الشعرية لدى الأدباء والنقاد المعاصرين، والتفاوت الواقع بين كثيرين منهم حيال هذا اللون من العطاء، فمنهم من يرى أن النثر هو أداة القصة، وأن الشعر ليس كذلك، ومنهم من أخضع النص للتجربة الشعورية سواء كانت الأداة نثراً أو شعراً، ومنهم من حاول التوفيق بين الرأيين بإرجاع ذلك للشاعر نفسه، فإن كان باستطاعته أداء القصة شعراً بعناصرها المكتملة كان ذلك ممكناً، وإن لم يكن مؤهلاً لها لم تكن قصة شعرية مهما حاول ادعاء ذلك.

     وفي هذا المجال فقد أثبت المؤلف أن للقصة الشعرية عند شاعرنا "قيمة فنية كبيرة تدل على مقدرته في ضبط عناصرها، وتحريك أحداثها، ورسم شخصياتها بما يؤدي في النهاية إلى تحقيق الأثر الذي ينشده الشاعر لدى المتلقي". ويستشهد بقصيدته: (هكذا)، ويصفها بأنها قصة شعرية محكمة، وإن كانت محدودة بثلاثة عشر بيتاً فقط، والقصة الشعرية الأخرى تتمثل في قصيدة تبلغ خمسة عشر بيتاً حين التقى في الطائرة بفتاة إسبانية من أصول عربية حدثته عن أمجاد أجدادها القدامى العرب وهي لا تعرف أنه عربي، وهي قصة شعرية رمزية فيها تمجيد لماضي العرب، وحسرة على حاضر الأمة العربية، وعلى لسانها أجرى هذا السؤال المثير:

هؤلاء الصيد قومي فانتســب
               إن تجد أكرم من قومي رجالا

     ويأتي البيت الأخير الذي يختم به القصيدة، وهو البيت الذي ينطوي على المفاجأة:

أطرق القلب وغامت أعيني
               برؤاها وتجــــاهلت السؤالا

     فرض عليه الموقف وهو العربي الأصيل أن تفيض عيناه بالدموع حزناً لأنه لم يجد الرد على السؤال الذي يحمل تمجيد قومه من إسبانية تنتمي في أصولها إلى العرب في عصر سبق، ولا تعرف ما انتهى إليه وضعهم في هذا العصر.

     وله قصة شعرية تمثلت في قصيدة (جان دارك) قالها في مطلع شبابه عام 1935م، تقع في أربعة مشاهد، وفي عام 1940م قال قصيدة (كاس) وأحداثها تدور حول قصة الشاعر الحمصي عبد السلام بن رغبان المشهور بديك الجن الذي قتل جاريته - وكان قد تزوجها - لفرط غيرته عليها حين توهم أنها خانته، فلما تبين له خطؤه ندم ندامة شديدة حين لم يعد الندم يفيد، واشتد ندمه عليها حتى لحق بها. والشاعر يبني على هذه الحادثة قصته الشعرية التي صاغها في سبعة مقاطع، وله قصائد في هذا المجال عدا ما ذكر تمثل القصة الشعرية مثل: (دليلة) و(نسر) و(لوعة) و(بلادي).

     وقد وصفه المؤلف بأنه "يعتمد في قصصه بدرجات تتفاوت وتتناوب على الإيحاء والتلميح، وعلى المباشرة والتصريح، ويعنى بتصوير العناصر المحيطة بالواقعة، والممهدة لها، والمعينة على استيعابها، ورسم الشخصية من الداخل والخارج، وربما أنطقها ببعض ما يريد، وربما نطق ببعض ما تريد، فعبر عنها وعبرت عنه".. ولعل أروع قصصه الشعرية: (لوعة) وهي في رثاء ابن أخته علي الشهابي، وقد بعثت إليه تخبره بالفاجعة في وفاة ابنها، وهو يلخص فجيعته في البيت الأخير:

ما لهـا تنحرني نحراً على ... قولها مات ابنها مات علي

     ولم يذكر منها المؤلف في هذا الفصل سوى هذا البيت، ولو أنه وضع فهرساً للشعر في كتابه لسهل على القارئ الرجوع إلى قصائد الشاعر التي استشهد بأبيات منها، وقد وصف المؤلف القصيدة بأنها: "متفردة في كونها رثاء، ومتفردة في كونها قصة، وهي نموذج من أروع نماذج الجهد الفني المبدع".

***

الملحمة الشعرية:

     يقدم المؤلف عن الملحمة في شعر أبي ريشة بالحديث عن الملحمتين اليونانيتين الشهيرتين: (الإلياذة) و(الأوديسة)، وهما - كما هو معلوم - أقدم الملاحم الشعرية على الإطلاق، وقد أفاض المؤلف في استعراض الملاحم وأنواعها وأدوارها وتواريخها، والتعريف بها، وأسماء كثير من الشعراء الذين أنشؤوا الملاحم في العصور القديمة، أو في العصر الحديث. وقد توسع في تغطية هذا الموضوع بما هو مؤهل له من ثقافة واسعة، وبما وهبه الله من طاقة متميزة. وبعد تلك الإفاضة الشاملة عن الشعر الملحمي والآراء النقدية التي استعرضها تساءل: أين يقف أبو ريشة بين تلك الآراء؟ وأشار بصفة خاصة إلى قصيدتيه المطولتين (خالد) و(محمد)، وقد سبق ذكرهما في فصل سابق، وكان نظم الأولى عام 1938م، ونظم الأخرى عام 1941م.

     والأولى تتضمن ملامح من سيرة البطل المغوار خالد بن الوليد رضي الله عنه وتسجيل بعض بطولاته، والثانية نظمها في السيرة النبوية الكريمة وكان يعدها مقدمة لملحمة إسلامية طويلة لكنه لم يحقق وعده في كل ما وعد به من ملاحم أو ما كان يعتزم إتمامه منها، فظلت أمنيات يطلقها عسى أن تكون حافزاً له على إنجازها، لكنها لم تتجاوز مجرد آمال ينحسر عنها الزمان، وتمضي السنون وهي راكدة لم تتحقق.

     وبعد أن يستعرض المؤلف هاتين القصيدتين، ويضعهما في ميزان الشعر الملحمي يقرر "أن فيهما جملة من خصائص الشعر الملحمي". ويحاول بعد ذلك أن يدلل على أن شاعرنا له نصيب من هذا الفن الشعري، ولو لم تكتمل جميع أدوات الملحمة فيما وصفه من شعر بالملاحم، كما يشير المؤلف إلى قصيدة (رمل) ويحللها، ويضفي عليها السمة الملحمية.

     وينهي هذا الفصل بأن شاعرنا المسلم "لم يتابع النموذج اليوناني متابعة دقيقة، ولكنه حسناً فعل، فذلك النموذج لا يناسب العصر أولاً، ولا يناسب أبطال أبي ريشة - وهو مسلم، وهم مسلمون – ثانياً. ولعل من الحكمة والإنصاف أن ندرك ما يلائم العصر والظرف والشاعر وأبطاله في أي عمل ملحمي إدراكاً يوسع أمامنا دائرة الاختيار والتطوير بحيث يكون لكل عصر وشاعر نوع خاص لملحمته يعبر فيه عما يريد، ويوصل للمتلقي الرسالة التي يريد".

***

المسرح الشعري:

     الفن المسرحي جديد على فنون الآداب العربية عامة والشعر منها بصفة خاصة، فقد بدأ هذا الفن متأخراً عن الغرب كثيراً، ولعل أول شاعر عربي قال الشعر المسرحي هو الشاعر الكبير أحمد شوقي الذي أصدر عدة مسرحيات شعرية كانت بداية مبكرة في الأدب المعاصر، ولذلك حدث فيها بعض ثغرات ككل بداية.

     وقد نهج أو ريشة هذا النهج في محاولة لاقتحام هذا الميدان فأنشأ مسرحيته الشعرية التي أطلق عليها اسم: (ذي قار)، وكان ذلك في مستهل حياته وبالتحديد في عام 1929م، وتتكون هذه المسرحية من أربعة فصول، وكما يقول المؤلف عن الشاعر: إنه "لم يأخذ بالأصل التاريخي للواقعة، وإنما اختار منها، وأضاف وتخيل".

     وأوضح أن الهدف منها تمجيد أيام العرب، واستحضار ماضيهم المشرف، وذلك لاستنهاض الهمم العربية في مواجهة الاستعمار الذي كان جاثماً إذ ذاك على كثير من البلدان العربية التي استنزف خيراتها، وامتهن شعوبها.

     والمسرحية الثانية (محكمة الشعراء) وهي تختص بمحاكمة شعراء عصره.

     أما العمل المسرحي الثالث فهو (أوبريت عذاب)، وفكرته غريبة استمدها من حياة الغرب.

     أما الرابعة فاسمها (الطوفان).

     والخامسة مسرحية (سمير أميس).

     وذكر المؤلف أن هذا الشاعر أشار إلى نظمه مسرحيات أخرى تحت العناوين التالية (تاج محل)، و(علي)، و(الحسين) لكن لم تظهر إلى الوجود "على الرغم من إعلانه المتكرر عنها في مناسبات كثيرة مختلفة".

     ولعله أطلق تلك الوعود وكانت تتراءى له ظلالها في ذهنه، أو أنها بدايات تجارب لم يتمكن من تحقيقها، أو لعله أحب أن يبرز في الساحة الأدبية بما تصور أنه قادر على الوفاء به، ثم لم يستطع الوفاء بما وعد.

     أما تعليل المؤلف لموقف الشاعر من تلك الوعود دون الالتزام بالوفاء فقد جاء على النحو التالي: "ربما كان السبب هو أن الشاعر عرف من خلال المعاناة أنه شاعر غنائي قبل كل شيء، وليس شاعراً مسرحياً، فلم يعد ما نشر، ولم ينجز ما وعد، ولعله أحسن بذلك غاية الإحسان، فلكل امرئ قدرات يحسن به ألا يحملها ما لا تطيق".

     وبعد: فقد راعيت أن أكتب متقيداً بفصول الكتاب لتحليلها حسب ترتيبها وتسلسلها وقد تجاوزت فصل (مواقف جريئة) لأنه امتداد لما قبله (إباء وكبرياء)، ومتصل بما بعده (شعره الوطني). وقد توسعت في الحديث عن هذين الفصلين إلى جانب أن أهم قصيدة استشهد بها المؤلف عن مواقف الشاعر الجريئة هي قصيدة (أمتي)، وقد كتبت عنها بمفردها كتابة مستقلة، لذا لم يعد في هذا الفصل ما يضيف جديداً للقارئ لاستيفاء محتوياته فيما تمت كتابته عن الشاعر في هذا الصدد، وتفادياً لتكرار الاستشهاد بما ورد من شعر في موضوع طبيعته واحدة.

***

     والجهد المبذول في إعداد هذه الدراسة الوافية عن الشاعر الكبير جهد كبير وملموس، والطباعة جيدة جداً، والأخطاء المطبعية لا تكاد تذكر، ولأن الكمال متعذر لما طبع عليه الإنسان من قصور بحكم طبيعته البشرية التي يعتريها النقص رغم التفوق والإتقان وحسن الأداء؛ لذلك تظل بعض ملاحظات محدودة رأيت إبداءها لأخي الدكتور حيدر ليتلافاها عند إعادة طبع الكتاب إن شاء الله تعالى. والأخطاء في الطباعة واقع تعاني منه المطبوعة العربية، وهي في المطبوعة اليومية كالصحيفة أكثر منها في المطبوعة الدورية أو الكتاب. لذلك فقد تكون الأغلاط المطبعية الواردة فيما نشرته عن هذا الكتاب موازية لما سأورده من أخطاء مطبعية عن الكتاب نفسه وهي على النحو الآتي:

1ـ جرى عنوان (عاشق المجد) في أعلى كل صفحة من صفحات الكتاب، وكان الأولى وضع عنوان كل فصل في الصفحات التي تضم الفصل ذاته ليسهل الاستدلال عليه؛ لأن ذكر عنوان الكتاب في كل صفحة لا يفيد، بخلاف ما لو ذكر عنوان كل فصل في الصفحات المخصصة له.

2ـ تمنيت لو أضاف المؤلف إلى فهارس الكتاب فهرساً بأبيات قصائد الشاعر التي ورد الاستشهاد بها في الكتاب ليسهل الرجوع إلى الشاهد من خلال هذا الفهرس.

3ـ في فصل (في رحاب فيصل) ذكر المؤلف في مجال صلة الشاعر بالملك فيصل حينما كان أبو ريشة سفيراً لبلاده في واشنطن؛ الجملة الآتية: "وكان فيصل مندوباً لبلاده في الأمم المتحدة". والصحيح أنه كان يجمع إلى جانب مهامه العليا منصب وزير الخارجية، وكان يرأس وفد بلاده لدى هيئة الأمم المتحدة لا مندوباً لديها لأن المندوب الدائم هناك تابع للخارجية، وينضوي تحت رئاسة وزيرها.

4ـ مع ندرة الأغلاط وخاصة النحوية فقد وردت خطأً في صفحة (41) الجملةُ التالية: "ضرب لذلك الحفل سرادق فخماً".

5ـ ورد في صفحة (78) في البيت الثالث بأول الصفحة: فلست أو نعجة؛ بدلاً من: أول.

6ـ وفي صفحة (95) لتجميد: لتمجيد.

7ـ وفي صفحة (144) ورد في الشطر الثاني من بيت شوقي "قاصيها" بدلاً من: قاصيهما.

8ـ وفي صفحة (185) قصة امره بدلاً من امرأة سقطت الألف.

9ـ وفي صفحة (324) مؤئل بزيادة همزة بدل موئل.

10ـ وفي صفحة (356) جاء التعليق في نهاية الصفحة على نص ذكر أن نشره كان في (جريدة الأربعاء) والأربعاء ملحق أسبوعي يصدر عن صحيفة المدينة.

11ـ في فصل: تبديل وتعديل صفحة (413) وردت نصوص مقوسة سقط التعليق الذي ينسبها إلى مصدرها.

12ـ حدد المؤلف فترة بقاء الشاعر في حلب بعد عودته من بريطانيا بأنها 17 عاماً، وذلك في صفحة (22) في حين ذكر بأنها 18 عاماً في صفحة (385).

13ـ استشهد المؤلف في فصل (القصة الشعرية) صفحة (450) ببيت واحد من قصيدة الشاعر (لوعة)، ولم يشر إلى ورود القصيدة كاملة في فصل (الوحدة العضوية) صفحة 167 للرجوع إليها، وهي قصيدة تتجسد فيها روح القصة وكان الأولى الاكتفاء بالإشارة إليها في ذلك الفصل، وإيرادها بكاملها في فصل القصة الشعرية.

     وكما يرى القارئ؛ فإن ما ذكرته من ملاحظات لا تعد من الأخطاء الجوهرية، وإنما هي أخطاء عابرة لا يسلم منها أي عمل أدبي ولا سيما إذا كان في حجم هذه الرسالة القيمة التي ضمها هذا الكتاب الذي يعد فاتحة أعمال الصديق الدكتور حيدر الغدير في عالم التأليف، وهي بداية تدعو إلى المزيد من التواصل في هذا الميدان من مثقف متمكن قادر على العطاء والتأليف.

***

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة