الأحد، 26 سبتمبر 2021

كتاب الرثاء في شعر البارودي وشوقي وحافظ - الفصل الرابع - 01 - كمية الرثاء


الفصل الرابع
(موانة بين مراثي الشعراء الثلاثة)

01- كمية الرثاء:


     تفاوت كمية الرثاء بين الشعراء الثلاثة تفاوتاً واضحاً، مع أنهم عاشوا أعماراً متماثلة، واثنان منهما (حافظ وشوقي) كادا يتطابقان في حيز الزمان والمكان، وبالتالي في المرحلة التاريخية. وشوقي هو الأكثر إنتاجاً في مراثيه يليه حافظ ثم البارودي.

     أما شوقي فقد احتل الرثاء في شعره حيزاً أكبر من صاحبيه بكثير، بل أكبر مما هو معروف عنه لدى النظرة الأولى إلى ديوانه. ففي (( الشوقيات)) احتلت المراثي الجزء الثالث منها كله حيث نعثر على ستين قصيدة، تستغرق هذا الجزء الذي قام على إخراجه الأستاذ محمود أبو الوفا. لكن الدكتور أحمد الحوفي حين أخرج ديوان شوقي أوصل مراثيه إلى اثنتين وسبعين مرثية، فقد ضم إلى القصائد الستين اثنتي عشرة قصيدة أخرى نقلها من أمكنتها في ((الشوقيات)) إلى حيز الرثاء.

     وقد عنيت هذه الدراسة بمراث جاءت في ((الشوقيات المجهولة)) عددها ثلاث وعشرون مرثية، كما عنيت باثنتين وعشرين مرثية أخرى مما تمت دراسته تحت عنوان ((مراث من نوع آخر))، وبهذا وجدنا أنفسنا أمام مئة وسبع عشرة مرثية، وهو قدر هائل من الشعر يزيد على خمسة آلاف بيت.

     أما حافظ فقد اشتملت الطبعة الجديدة من ديوانه على واحدة وخمسين قصيدة بزيادة أربع قصائد على الطبعة الأولى، تضاف إلى ذلك ثلاث قصائد جاءت في باب المدح وهي أقرب للرثاء. أما القصائد التي اتصلت بالرثاء بسبب أو بآخر فهي ثماني قصائد وبهذا نجد أنفسنا أمام اثنتين وستين مرثية لحافظ، وهو قدر كاف من الشعر يعطينا فكرة واضحة عن مراثي حافظ، يبلغ قرابة ألف وست مئة بيت.

     أما البارودي فهو أقل الثلاثة إنتاجاً في هذا المجال، ففي ديوانه ست عشرة مرثية، تلحقها ثلاث قصائد اتصلت بالرثاء اتصالاً ما، ومرثيتان عثرنا عليهما في ((أوراق البارودي)) للدكتور سامي البدراوي، وكل هذه القصائد تصل إلى ثلاث مئة وخمسة وثلاثين بيتاً فقط، وهو قدر ضئيل من الشعر، بالقياس إلى ديوان البارودي وحياته الغنية الحافلة بالأحداث والعلاقات والمعارك.

    والحقيقة أن مثل هذا الأمر يحتاج إلى تعليل، فالشعراء الثلاثة عاشوا أعماراً متماثلة إذ ماتوا جميعاً عن بضع وستين سنة. وحافظ وشوقي بالذات عاشا معاً وماتا معاً في حيز زماني ومكاني واحد، خلافاً للبارودي الذي سبقهما للوفاة بحوالي ثلث قرن.

     لو بدأنا بالبارودي لأمكن التعليل لقلة مراثيه بعدم الاستقرار أولاً وبالنفي ثانياً. أما عدم الاستقرار فإنه كان رجل حرب وسياسة، وقد تنقل في عمله بين القاهرة وإستامبول فضلاً عن حروبه في كريت وروسيا. وأما النفي فهو الكارثة الكبرى، إذ كانت فجيعة وطنية وشخصية معاً قذفت بالشاعر إلى مكان سحيق ليعيش مع الإحباط واليأس والتلاوم، أنضج فترات عمره العقلي والفني. وبهذا لم يتح للبارودي أن يعيش دهراً طويلاً متصلاً في بلده كحافظ وشوقي وهو ما حرمه من المعايشة المستمرة لما يجري فيه، ومنه وفاة أعلام كان سوف يرثيهم، بل لعله في فترة النفي رأى نفسه جديراً بأن يرثى لما آل إليه أمره من سوء، لهذا وجدنا مراثيه تكاد تنصب على ذويه ممن يموتون في المنفى أو في مصر حيث تركهم، ثم على خاصة أصدقائه الذين لابد أن ذكراهم ظلت حية في أعماقه.

     يضاف إلى ذلك أن البارودي كان رجلاً أبياً شديد الاحترام لنفسه، كثير الاعتداد بها وهو ما دعاه إلى الترفع عن أن يرثي أحداً بدافع من المجاملة أو المنافسة خلافاً لحافظ وشوقي، وليس في ديوانه إلا قصيدة واحدة قالها بداعي المجاملة وهي رثاؤه حبيب مطران عم خليل مطران، كما أن إباءه هذا جعله يرفض أن يكون شاعر بلاط لمجرد صلاته الرسمية بالخديوي، ومن هنا تخلو مراثيه من بيت واحد في الأسرة العلوية حتى في فترة ما قبل النفي.

     أما حافظ وهو الأوسط بين الثلاثة في عدد المراثي فإننا نظفر له بقدر طيب من شعر الرثاء يزيد كثيراً على ما لدى البارودي، ويقل كثيراً عما لدى شوقي.

     وليس لأحد أن يلزم الشاعر برثاء من لا يريد رثاءه، ولكن ذلك لا يمنع أن يتساءل الإنسان عن صوت حافظ في مناسبات معينة لم يكن من المنتظر أن يغيب عنها، فأين مراثيه في ذويه حيث لا نعثر له على مرثية واحدة فيهم، وهو الرجل الطيب البار الوفي؟ ثم أين هي مراثيه في أعلام العروبة والإسلام؟ الذين كان لهم أثر كبير مثل عمر المختار والشريف حسين ويوسف العظمة؟ بل كيف له أن يسكت عن حادث جلل مثل إلغاء الخلافة العثمانية، وضرب الفرنسيين لدمشق بالقنابل؟ إن هذا يؤكد أن البعدين الإسلامي والعربي ضامران في مراثي حافظ بالقياس إلى مراثي شوقي، ولعل السبب هو أن القضية الإسلامية لدى شوقي أوسع منها لدى حافظ الذي كان إلى حد كبير يدور في فلك الدائرة المصرية فلا يكاد يتجاوزها، والمعروف أنه لم يتول منصباً مهماً كشوقي وسع دائرة اهتمامه ومعارفه، كما أنه كان قليل الأسفار فلم يعرف سوى إيطاليا وسوريا ولبنان. يضاف إلى ذلك أن هناك احتمالاً قوياً هو ضياع شيء من مراثي حافظ لما عرف عنه من إهمال.

     أما شوقي فهو صاحب المراثي الكثيرة حتى إن مراثي صاحبيه معاً لا تصل إلى نصف مراثيه. وكثرة المراثي لدى شوقي يمكن أن تعزى لعدد من الأسباب:

1- سعة الرؤية الدينية لديه، وهو ما جعل اهتمامه واسعاً فرثى عدداً من أعلام المسلمين غير العرب ورثى الخلافة العثمانية رثاء حاراً واعياً يدل على ولاء بصير، وترجع هذه الرؤية الدينية الواسعة لدى شوقي، والتي يتفوق فيها بوضوح على صاحبيه إلى ثقافته المتنوعة ودراسته المتصلة الحلقات فضلاً عن الظروف المواتية التي هيأت له الاتصال بأعلى سلطة في القاهرة وإستامبول. لهذا نجد فهمه للإسلام ديناً، وللمشكلة الإسلامية قضية صراع سياسي وديني وحضاري بين الغرب وبين الأمة الإسلامية أوسع بكثير مما هو لدى البارودي وحافظ.

2- غزارة مخزونه اللغوي والثقافي، وإخلاصه لفنه، وتفرغه له، وقدرته الهائلة على النظم، وهو ما جعله سريع الاستجابة لما يريد أو يراد منه، يظهر ذلك في شعره كله لا في المراثي وحدها.

3- سعة علاقاته المصرية والعربية الإسلامية بسبب موقعه السياسي وبسبب شهرته السياسية وبسبب حياته المستقرة الوادعة، وقد أعانه على ذلك قربه من سيد القصر في عابدين حيث كان من خاصته وهو ما زاد من ثقافته وصداقاته، وثراؤه الذي أعطاه سعة من الوقت، وحتى حين خسر موقعه السياسي ظلت له شبكة علاقاته الواسعة، وكان بيته في الجيزة لا يكاد يخلو من الزائرين على اختلاف طبقاتهم ومستوياتهم.

4- تداخل الدماء في أصوله الأمر الذي جعل ولاءه العثماني يظهر في جملة من الأمور منها المراثي، فقيه دماء عربية كردية شركية تركية يونانية، ولابد أن تنوع هذه الدماء نوع في اهتماماته، وبخاصة إزاء الأسرة الحاكمة في تركيا التي أحبها بدافع الدم وبدافع الدين، ثم بدافع تلاقي رغبة ممدوحه الخديوي عباس في القاهرة، مع السلطان عبدالحميد في الآستانة ضد الإنجليز. وقد أحس شوقي بأن هذا الولاء شكل له عند بعضهم ما يشبه الاتهام، فلم ينفه، بل اعتز به حين قال:

حتى اتهمت فقيــــل تركي الهـوى     صدقوا هوى الأبطال ملء فؤادي
وأخي القريب وإن شقيــت بظلمه     أدنى إلي من الغريب العــادي[1]

5- إعجابه بشعره وإحساسه أنه أمير الشعراء، وأنه شاعر العصر وشاهده أيضاً، وهو ما حمله على أن يرثي كل ميت ذي أهمية حتى لو كان الرثاء بدافع المجاملة أو الرغبة في التسجيل، ولعل هذا سبب من أسباب تلك الإشارات الكثيرة التي نجدها في شعره والتي تتحدث عن أمور جرت أيام من يرثيهم. وقد مر بنا أن الأستاذ أحمد محفوظ ذكر أنه رثى أناساً يكرههم[2]، كما مر بنا أنه كان يتوهم نفسه نداً للخليفة في تركيا، فيقول له:

يــــــا واحد الإسـلام غيــــــــر مدافع     أنـــــا في زمانــــــك واحد الأشعـــار
لي في ثنـــــائك وهو بــــــاق خــــالد     شعر على الشعرى المنيفة زاري[3]

     ويقول له أيضاً:

ملـــــكت أميـــر المؤمنين ابن هــانئ
               بفضــل له الألـبـــــاب ممتــــــــلكات
وما زلت حســـان المقــــــام ولم تزل
               تليــــني وتســـري منك لي النفحــات
زهــدت الــذي في راحتيــك وشاقني
               جوائــــز عنـــد الله مبتـغيــــــــــــات
ومن كان مثـــلي أحمد الوقت لم تجـز
               عليـــه ولو من مثـــــلك الصدقـــــات
ولي درر الأخلاق في المدح والهوى
               وللمتنــــبي درة وحصــــــــــــاة[4]

     بل إنه يجعل شعره أبقى وأخلد من أنقرة فيقول لها:

قـــلمي وإن جهــــل الغبي مكــــانه     أبقى على الأحقاب من ماضيك[5]

6- حبه للتاريخ الذي جعله يكثر من النظم فيه من جانب، ويتأمل في حركته وأحداثه من جانب، ومن هنا يبدو واضحاً لماذا كثرت مراثيه في الدول والنكبات العامة أكثر من صاحبيه، ومن هنا نفهم لماذا يبدو لنا أحياناً كما لو كان فيلسوفاً ينظر في حركة الحياة وسنن الاجتماع نظراً عميقاً ذكياً، ولعل خير ما يمثل ذلك قصيدته ((الأندلس الجديدة)):

يــــا أخت أندلــــــس عليك سلام     هوت الخلافة عنك والإسلام[6]

7- اقترابه من الشعب إثر عودته من المنفى، حيث صار أدنى إليه وأكثر احتفاء به، وأكثر تعبيراً عن وجدان المصريين أولاً والعرب ثانياً والمسلمين ثالثاً.

* * *

     هذه الأسباب تفسر لنا غزارة إنتاج شوقي في الرثاء، وهي غزارة غنية متنوعة تفرد بها بحيث لا يكاد يوجد له نظير فيها كما يقول الدكتور أحمد محمد الحوفي: ((ولا عجب في وفرة مراثي شوقي وفرة لا نظير لها في شعر أحد من شعراء العربية القدامى والمحدثين، لأن شوقي كان شاعر مصر وشاعر العروبة وشاعر الإسلام، يعبر عن أفراح المصريين والعرب والمسلمين وعن أتراحهم، فلم يكن بد من رثائه لعظمائهم وعزائه في سادتهم وقادتهم))[7]. إن شوقي – في مراثيه وفي غيرها من قصائده – يمكن أن يعد شاهداً على عصره، بحيث لو جدولنا ما نظمه في تسلسل تاريخي، لاستطعنا أن نعرف معالم هذا العصر، من وقائع، ومراث، ومدائح، وتهنئات، ومخترعات، وما إلى ذلك، وبغاية الوضوح، والأمثلة على ذلك كثيرة جداً ينطق بها ديوانه من أوله إلى آخره.

-------------------
[1] الشوقيات المجهولة 2/200.
[2] حياة شوقي، ص 108.
[3] الديوان 1/102.
[4] الديوان 1/436.
[5] الديوان 1/356.
[6] الديوان 1/385.
[7] أضواء على الأدب الحديث، ص 153.

كتاب الرثاء في شعر البارودي وشوقي وحافظ - الفصل الثالث - 14 - ملحق: مراث من نوع آخر


الفصل الثالث
(الرثاء في شعر البارودي)

14- ملحق: مراث من نوع آخر:


     لم نعثر في ديوان البارودي على قصائد مما يمكن تسميته الرثاء العام، مثل تصوير حريق، أو زلزال، أو وباء عام، أو سقوط دولة، أو عزل حاكم، وما إلى ذلك، مما وجدناه لدى صاحبيه وتلميذيه شوقي وحافظ . ولعل السبب انهماكه في الحرب والسياسة قبل النفي، واستيلاء الحزن عليه بعده، وهو حزن وضع عليه بصماته الواضحة، لأن مدة النفي طالت، والأصدقاء المنفيين تلاوموا، والصحة ضعفت، والأهل والأحباب أخذوا يموتون بالتدريج.

كتاب الرثاء في شعر البارودي وشوقي وحافظ - الفصل الثالث - 13 - وحدة وتعدد


الفصل الثالث
(الرثاء في شعر البارودي) 

13- وحدة وتعدد:


     يشعر الدارس بقدر كبير من الصعوبة وهو ينظر في مراثي البارودي باحثاً عن معالم الوحدة فيها، ذلك أن هذه الوحدة غريبة عن تقاليد القصيدة العربية من ناحية، ثم هي ثمرة من ثمار النقد الحديث من ناحية أخرى، ظهرت في مرحلة ما بعد البارودي، فأنى له أن يتأثر بها؟.

     على أن للأمر جانباً مهماً آخر لابد من إيراده هنا، وهو أن إلزام الشاعر بالوحدة، فيه قدر كبير من التحكم والإكراه، فالشعر ليس عملاً عقلياً صرفاً يمكن السيطرة عليه، والشاعر ليس كاتب مقالة علمية محكومة بضوابط صارمة، وأفضل من مطالبة الشاعر بالتزام الوحدة أن نطالبه بالصدق أولاً وبالجودة الفنية ثانياً، فإذا تحقق له ذلك فزنا منه بشعر جيد سواء التزام الوحدة أم لم يلتزمها.

     لو نظرنا في قصيدة البارودي في رثاء زوجته عديلة يكن، وهي درة مراثيه، لوجدنا في القصيدة عدداً من المحاور، فقد بكى فيها نفسه بكاء يقترن فيه الحزن بالفخر، وبكى بناته اللواتي تركتهن الفقيدة دون راع، وبكى الفقيدة نفسها، ونظر في التاريخ يحاول التماس العبرة منه والصبر، وعاد إلى الله تعالى يطلب منه العون على المصاب، وبهذا لا يمكن للقصيدة أن تصنف بأنها من القصائد ذوات الوحدة، ومع ذلك فالقصيدة جيدة، بل ممتازة، فهي صادقة أعلى ما يكون الصدق، والمحاور التي تداولتها القصيدة، فيها أكثر من رابط نفسي يجمعها إلى بعضها، والصياغة جيدة محكمة، والموسيقى رائعة، والتصوير حي مؤثر، لذلك تستحق هذه القصيدة – بجدارة – أن تتسنم درجة الخلود.

     وقصيدة البارودي في رثاء ابنه علي التي تقع في ثلاثة عشر بيتاً، يمكن أن توصف بأنها حققت شرط الوحدة وهي قصيدة جيدة، عاطفة وتصويراً وموسيقى وصياغة.

     وإذن فالمعول على الصدق والجودة في الحكم على مراثي الشاعر، ثم إن إلزام الشاعر العربي بالوحدة فيه تعسف كبير خاصة إذا كان في مثل ظروف البارودي. ولو حاولنا أن ننظر في جميع مراثي الشاعر باحثين عن الوحدة لأمكن لنا أن نجدها في مراثيه لابنته، ولعبدالله فكري، ولحبيب مطران، ولابنه علي الذي رثاه ثلاث مرات، ولحاضنته، ولإسماعيل سليم، ولأخته، ولصديقه، وتبقى قصائده الأخرى في الرثاء تفتقر إلى هذه الوحدة وهي مراثيه في: عبدالله فكري وحسين المرصفي، وعديلة يكن، والشدياق، ووالدته، وعلي الطهطاوي.

كتاب الرثاء في شعر البارودي وشوقي وحافظ - الفصل الثالث - 12 - موسيقى الشعر


الفصل الثالث
(الرثاء في شعر البارودي) 

12- موسيقى الشعر:


     تمثل البارودي جميع عناصر التراث الشعري العربي في أفضل عصوره تمثلاً حياً واعياً كان من أهم أسباب إجادته وتفوقه، ومن بين هذه العناصر ((الموسيقى)). فالبارودي يروع القارئ والسامع بموسيقاه، حتى ليجتاز به القرون فيخال نفسه مع واحد من أعظم شعراء العربية الكبار الذين دانت اللغة والتقاليد الشعرية لعبقريتهم.

     فالموسيقى عنده مستويه استواء كاملاً، من حيث البحور، ومن حيث اختيار القوافي، ومن حيث الموسيقى الداخلية التي تتردد داخل البيت الواحد.

     ومن استعراض البحور التي اختارها الشاعر لمراثيه، نجده قد اختار البحور الطويلة ذات التفعيلات الكثيرة، وأكثر مراثيه نظمت على البحر الطويل ثم الكامل فالبسيط والوافر. واختياره البحر الطويل بالذات مناسب لأنه بتفعيلاته الثمانية المتطاولة يستوعب ما يريده من معان يعبر فيها عن أحزانه.

     يقول في رثاء ابنه علي:

بكيــــت عـليـــاً إذ مضى لـسـبيـــــــــــــــله
               بعـيـــــــن تكــــاد الروح في دمعها تجــري
وإني لأدري أن حــــــــــــزني لا يــــــــفي
               بــرزئي ولكن لا سـبيــــــل إلى الصبـــــــر
وكيــــف أذود الـقــــلب عن حســــــــــراته
               وأهـــون ما ألـقـــــاه يـصـدع في الصخـــر
يـلـــــومونني أني تجــــــاوزت في الـبـــكا
               وهـل لامرئ لم يـبـــك في الحزن من عـذر
إذا المرء لم يـفـــــرح ويحـــــزن لـنعــــمة
               وبــؤس فـــــلا يـرجى لـخيـــــر ولا ضـــر
وما كـنـــــت لولا قـســــــمة الله في الورى
               لأصبــــر لكنـــــا إلى غــــــايـة نـســـــري
لـقـــــد خفــــف البلوى وإن هي أشرفــــت
               على النفس ما أرجوه من موعد الحشر[1]

     هذه الأبيات على البحر الطويل، والتأمل فيها يدل بوضوح كيف ساعد البحر على استيعاب المعاني، ففي البيت الأول يقرر الشاعر أنه بكى ابنه الفقيد الذي مضى لسبيله، وهذا المعنى استوعبه الشطر الأول من البيت، حتى إذا وصلنا إلى الشطر الثاني، وجدنا إضافة تصور الحزن الذي ملك على الشاعر قلبه بحيث كادت الروح تجري مع العين الشرقة بالدمع.

     في البيت الثاني نعلم أن الشاعر محزون حزناً لا يكافئ المصيبة، لكن تكملة الشطر الثاني بعد كلمة ((برزئي)) أعطتنا معنى إضافياً وهو أنه لا سبيل إلى الصبر، وهو ما يجعل أمر الحزن أمراً متصلاً.

     وفي البيت الثالث يؤدي شطرا البيت معنيين متكاملين، ينهض بكل واحد منهما أحد الشطرين، فالشطر الأول نعلم منه أن الشاعر لا يستطيع رد الأحزان عن قلبه، أما الشطر الثاني فهو يعلل لذلك، إذ إن المصيبة من الهول بحيث إن أهونها يصدع الصخر، فمن أين للشاعر إذن أن يصبر ويتعزى؟

     والبيت الرابع يشبه البيت الثالث، حيث ينهض كل شطر منه بمعنى يتصل بالآخر. والبيت الخامس يقرر فيه البارودي أن المرء خلق ليفرح للنعمة، ويحزن للمصيبة، وبعد ذلك تسعفه مسافة البحر الممتدة ليقرر معنى إضافياً متصلاً، وهو أن المرء بفرحه وحزنه إنما يقوم بما يتوقع منه من خير وشر.

      والشطر الأول من البيت السادس مع الكلمة الأولى من الشطر الثاني، يستوعب المعنى الذي يريده الشاعر من أن قضاء الله تعالى في الناس يدعوه للصبر، ثم تأتي بقية الشطر الثاني لتقرر معنى آخر يتصل بما يحتاجه الشاعر من صبر واحتمال وهو أن الجميع إلى فناء.

     والبيت الأخير نرى فيه الشاعر صابراً على البلوى، ونرى البلوى كبيرة متجاوزة للحد، ونجد فيه أيضاً النظر إلى يوم القيامة وهو نظر يعين على السكينة والصبر.

     وهذا الاستعراض يدل بوضوح على قدرة البحر الطويل على استيعاب المعاني والأفكار التي أراد الشاعر أن يبثها في مرثيته.

     ويمكن أن نجد حالاً مشابهاً لذلك في رثاء البارودي لعلي الطهطاوي:

ألا قـاتل الله الحيـــــــاة فـإنهـــــا     إلى المــوت أدنى من فم لـبنـــان
إذا ما بنانا الدهر ظلت صروفــه     تهدمنـــــا والدهر أغدر بــــــاني
تخـــادعنا الدنيا فنلهو ولم نخـــل     بــأن الردى حتم على الحيـــوان
لقـد فجعتنـــا أم دفــــر وما درت     بـــأروع من نســــل النبي هجان
ســـليم نواحي الصدر لا يستفـزه     نـــزاع إلى البغـضــــاء والشنآن
يعاشر بالحسـنى فإن ريب لم يفه     بســـوء ولم ترمز لـــــه شفتـــان
لقـــد كان خــلاً لا يشـــان بغدرة     وصـــاحب غيــب طاهر وعيـان
إذا قــــال كان القول عنوان فعله     ويـــا رب قـول نافـــذ كسنـــــان
خــلال يفوح المسك عنها محـدثاً     ويثــني على آثارها الملـوان[2]

     هذه الأبيات من البحر الطويل، والنظر فيها يوضح كثيراً قدرة البحر على استيعاب المعاني والأفكار التي يريدها الشاعر بسبب تفعيلات البحر الثمانية التي تعينه على ذلك.

     وكما يسعف البحر الطويل الشاعر في استيعاب المعاني، يسعفه أيضاً بموسيقاه الجليلة الوقورة الممتدة على تمثل الحزن والتعبير عنه. ويمكن أن نجد مصداقاً لذلك في قول البارودي في رثاء والدته:

لعـــمري لقد غـــال الردى من أحبه
               وكـــــان بـودي أن أموت ويـســـلما
وأي حيــــاة بعـــــــــــد أم فقــــدتها
               كما يفقـــد المرء الزلال على الظـما
تولــت فولى الصبر عني وعـــادني
               غـرام عليها شـــــف جسمي وأسقما
ولم يبـــق إلا ذكرة تبعــــــث الأسى
               وطيــف يوافيـــني إذا الطرف هوما
وكـــانت لعيــــني قــرة ولمهجـــتي
               سروراً فخاب الطرف والقلب منهما
فيـــا خبــــراً شف الفـؤاد فأوشــكت
               سويـــداؤه أن تستحيــــــل فتســجما
إليــــك فقــــد ثـلمت عرشــاً ممنعــاً
               وفللت صمصاماً وذللت ضيغما[3]

     الأبيات كما هو واضح على البحر الطويل، وقراءتها مرة بعد مرة، وتمثل وقعها الموسيقي على الأذن يبين لنا كيف وفق الشاعر في التعبير عن حزنه من خلالها، حيث له أن يضع المعنى وأن يمتد بالجملة، وأن يجزئها إلى فقرات يقف عند كل فقرة كأنه يتنهد ويتوجع ويطلق آهاته الحبيسة. إن بوسعنا أن نقرأ البيت الأول، فنتوقف بعد كلمة ((لعمري)) إذ تعيننا الياء التي انتهت بها الكلمة على التوقف والمد المترنم معاً. ثم لنا أن نتوقف في نهاية الشطر الأول عند الهاء المضمومة، وأن نتوقف في نهاية كلمة ((بودي)) في الشطر الثاني لنحصل على الإيقاع والترنم اللذين حصلنا عليهما من كلمة ((لعمري)) في الشطر الأول، وقدرتنا هذه على التوقف والترنم تتضام مع القافية وحرف الروي، فتتجمع لدينا الموسيقى الداخلية مع الموسيقى الخارجية لنفوز بأنغام أروع وأكثر تأثيراً.

     وما وجدناه في البيت الأول من توقف وترنم، نجده في البيت الثالث في كلمة ((عني)) وكلمة ((عادني)) وكلمة ((جسمي))، ونجده في كلمة ((يوافيني)) في البيت الرابع، وكلمة ((لعيني)) في البيت الخامس، كما نجده في التقابل الموسيقي في نهاية كلمتي ((ممنعاً)) و((صمصاماً)) في البيت السابع.

     ومراثي البارودي تنتهي جميعها بقواف مطلقة باستثناء قصيدة واحدة هي رثاؤه إسماعيل سليم التي تنتهي بهاء ساكنة ((دمه)).

     ولا ريب أن هذه القوافي المطلقة تعين على المد بالصوت والترنم، وهو ما يهيئ الفرصة لإطلاق الآهات مع هذا الامتداد، وبهذا تناسب الأحزان أكثر مما تناسبها القوافي المقيدة التي لا نجد منها في مراثي البارودي إلا قصيدة واحدة.

     وينتفع البارودي من التقابل والوصف ليضيف بعداً جديداً للموسيقى الداخلية في شعره يزيدها غنى وتنوعاً. يقول في رثائه حسين المرصفي وعبدالله فكري:

ليت شعري متى أرى روضة المنــ
               ــيـل ذات الـنخيــــــل والأعنـــــاب
حيـــث تجــــري السـفين مستبقـات
               فـوق نهــــر مثل اللجـيــــن المذاب
قــد أحــاطت بشـــاطئيه قصــــــور
               مشرقـــــات يلحـن مثــــل القبـــاب
ذاك مرعى أنسي وملعـــــب لهوي
               وجنى صبوتي ومغنى صحابي[4]

     إن كلمة ((مستبقات)) في نهاية الشطر الأول من البيت الثاني جاءت حالاً لكلمة (السفين) ونصبت بالكسرة ونونت وسبقت تاءها ألف ممدودة فزاد وقعها الموسيقي، ومثل ذلك كلمة ((مشرقات)) التي جاءت وصفاً لكلمة ((قصور)) في البيت الثالث، أما البيت الرابع فإنه يكتسب قيمة موسيقية خاصة من جمله الأربعة ((مرعى أنسي)) و ((ملعب لهوي)) و ((جنى صبوتي)) و((مغنى صحابي)) فالجمل الأربعة متماثلة تماثلاً موسيقياً تاماً، فكلمات ((مرعى - ملعب - جنى - مغنى)) تتقابل وتتماثل، ثم تضاف كل واحدة منها إلى كلمة أخرى تنتهي بالياء ((أنسي - لهوي - صبوتي - صحابي)) فتتضاعف الموسيقى بهذا التماثل والتقابل، لذلك يمكن لنا أن نجد أربع وقفات في البيت نستطيع بها أن نترنم ونتمثل الموسيقى خاصة أن كل واحدة منها تنتهي بياء ((أنسي - لهوي - صبوتي - صحابي)).

     ويمكن أن نجد نموذجاً مماثلاً لهذا اللون من الموسيقى في ألفاظه (جدتي) و(كساني) وفي (خلعة) و(رثة) وفي (حاجبي) و(عيني):

أخـــلق الشيب جدتي، وكساني     خـلعـــة منه رثـــــة الجـلبــاب
ولوى شعر حاجبي على عيني     حتى أطـــــــل كـالهـــــــــداب

     وإذا جئنا إلى رثاء البارودي لحبيب مطران، ظفرنا كذلك بهذا اللون من الموسيقى:

فيـــا صــاحبي مهلاً، فلست بواجـــد
               ســـوى حاضر يبـــكي فجيعة غائب
وصبـــراً فإن الصبر أكرم صــاحب
               لمن بان عن مثواه أكرم صاحب[5]

     نجد ذلك في (واجد) و (حاضر) و (غائب) في البيت الأول، وفي (صاحب) و(صاحب) التي ترد كل منهما في نهاية الشطرين من البيت الثاني.

     وقصيدته الشهيرة المتألقة في رثاء زوجته عديلة يكن تقدم لنا شواهد جديدة على هذه الموسيقى، يقول:

أيــد المنــــون قدحت أي زنــــــاد     وأطـــرت أية شعــــلة بفـــــؤادي
أوهنـــت عزمي وهو حملة فيــلق     وحطمت عودي وهو رمح طـراد
لم أدر هل خطــــب ألم بســـاحتي     فأناخ، أم سهم أصاب سوادي[6]

     في البيت الأول نجد الموسيقى الداخلية في (قدحت) و(أطرت) وفي (أي) و(أية) وفي البيت الثاني نجدها في (أوهنت عزمي) و(حطمت عودي) وفي (هو) و(هو) وفي (حملة فيلق) و (رمح طراد) كلمة كلمة، وجملة جملة. ونجدها في البيت الثالث في همزات ((أدر – ألم – أناخ – أم – أصاب)) كما نجدها في كلمتي (خطب) و(سهم) وكلمتي (ساحتي) و(سوادي) وأفعال (ألم – أناخ – أصاب).

ونتوقف عند قوله:

أستنجد الزفــرات وهي لوافح     وأسفه العبـــرات وهي بوادي
لا لوعتي تـدع الفؤاد ولا يدي     تقوى على رد الحبيب الغادي

     فشطرا البيت الأول يتقابلان تقابلاً تاماً، من حيث التركيب اللغوي والموسيقي، فكل كلمة تقابل نظيرتها في الشطر الآخر نوعاً وموقعاً وإعراباً وموسيقى.

     وكلمتا (لوعتي) و (يدي)، وكلمتا (تدع) و (تقوى) وكلمتا (الفؤاد) و(الحبيب) تتقابل تقابلاً يثري موسيقى البيت ويغنيها، وذلك في البيت الثاني.

     ولو نظرنا في رثاء البارودي للشدياق، لظفرنا بهذه الموسيقى في قوله:

فأجسادنا في مطرح الأرض همــد     وأرواحنا في مسرح الجو رتع[7]

     إن شطري البيت يتقابلان تقابلاً تاماً من حيث التركيب اللغوي والموسيقي، فكل كلمة تقابل نظيرتها في الشطر الآخر نوعاً وموقعاً وإعراباً وموسيقى وهو ما يغني موسيقى البيت ويثريها.

     ومثل هذا التقابل التام الذي يقدم إضافة جيدة للموسيقى الداخلية، نجده في قول البارودي في القصيدة نفسها:

تسيـر بنا الأيام والموت موعـد     وتدفعنا الأرحام والأرض تبلع

     وفي رثاء البارودي لوالدته نجد الموسيقى الداخلية واضحة من تماثل الأفعال ((شادوا - بادوا - حلوا)):

فأين الألى شادوا وبادوا ألم نكن     نحل كما حلوا ونرحل مثلما[8]

     ويقول البارودي في القصيدة نفسها، وهو يتحدث عن سطوة الدهر:

هو الأزلم الخداع، يخفر إن رعى     ويغـدر إن أوفى ويصمي إذا رمى
فـــكم خـــان عهـداً واستباح أمانة     وأخــلف وعداً واستحـــل محـرما

     وواضح من هذين البيتين كيف أدى التقابل بين الجمل إلى إغناء الموسيقى الداخلية، حيث نجد في الأول ثلاث جمل متقابلة تقابلاً تاماً في التركيب اللغوي وفي الموسيقى (يخفر إن رعى - يغدر إن أوفى - يصمي إذا رمى) وأربع جمل أخرى على نفس النسق (خان عهداً - استباح أمانة - أخلف وعداً - استحل محرماً).

     ونجد الأمر نفسه في قوله في القصيدة نفسها أيضاً:

ولا زال ريحان التحية ناضراً     عليك وهفــاف الرضا متنسما

     حيث تتقابل الجملتان (ريحان التحية ناضراً) و (هفاف الرضا متنسما) تقابلاً تاماً في التركيب والموسيقى والإيقاع.

     ونجد الأمر نفسه في رثائه إسماعيل سليم:

ينكفـــت الجيش حين يفجـــــؤه     ويصعق القرن حين يلتزمه[9]

     فالتقابل تام بين الشطرين يزيد من الوقع الموسيقي، الذي يحدثه التقابل بين كلمتي ((ينكفت)) و((يصعق)) وبين كلمتي ((الجيش)) و((القرن)) وبين كلمتي ((يفجؤه)) و((يلتزمه)).

     وهكذا يمكن للدارس أن يصف موسيقى البارودي في مراثيه بأنها موسيقى وفق فيها الشاعر توفيقاً بعيداً. من حيث اختيار البحور التي تعين بتفعيلاتها على حشد المعاني واستيعابها، وعلى الوقع الوقور المناسب للأحزان، ومن حيث اختيار القوافي المطلقة التي تعين على الامتداد بالصوت إلى آخر مداه، خلافاً للقوافي المقيدة، يضاف إلى ذلك تلك الموسيقى الداخلية التي نحظى بها أيضاً مما نجده داخل البيت الواحد من تقابل وتماثل ووصف، وصياغة محكمة مستوية.

     من أجل ذلك لم يكن غريباً أن يقرر الدكتور سامي بدراوي أن (( أبرز ما يلفت النظر في موسيقى البارودي هو أنها إيجابية إيقاعية إلى أبعد الحدود، ففي نماذجه المختلفة تسهم الموسيقى إسهاماً حيوياً في تجسيد الموقف الذي يعبر عنه بشكل تصويري ... وإيجابية موسيقى القصيدة ظاهرة عامة في شعر البارودي حيث يلعب الإيقاع دوراً حيوياً في تجسيد المواقف والإيحاء من خلالهما معاً))[10]. كذلك لم يكن غريباً أن يقرر الدكتور شوقي ضيف أننا ((لا نكاد نمضي في قراءة ديوان البارودي حتى نراع روعة شديدة بموسيقاه وهي روعة ترد إلى احتفاظه بخصائص العبقرية الموسيقية لشعرنا العربي في آياته القديمة الخالدة التي حفرت ألحانها في ذاكرة الزمن ... والبارودي هو الذي أعد لازدهار ملكة الإبداع الموسيقي في شعرنا الحديث، فقد استرد قيثارته القديمة، استرد روحها وأنغامها القومية التي تعد جزءاً لا يتجزأ من كياننا وجوهر حياتنا ... والروعة الموسيقية عنده تأتي من استيعابه الرائع لموسيقى شعرنا التقليدية استيعاباً جعله يحكم صياغة شعره إحكاماً بحيث لا تسمع فيها عوجاً ولا انحرافاً، كما جعله يحكم أنغامه وألحانه قصرت أو استطالت بحيث لا تسمع فيها نبواً ولا شذوذاً))[11].

----------------------
[1] الديوان 2/111.
[2] الديوان 4/99.
[3] الديوان 3/394.
[4] الديوان 1/104.
[5] الديوان 1/133.
[6] الديوان 1/237.
[7] الديوان 2/242.
[8] الديوان 3/394.
[9] الديوان 3/414.
[10] أوراق البارودي، ص 35.
[11] البارودي رائد الشعر الحديث، ص 204 – 205 – 207.

كتاب الرثاء في شعر البارودي وشوقي وحافظ - الفصل الثالث - 11 - الصورة الشعرية


الفصل الثالث
(الرثاء في شعر البارودي) 

11- الصورة الشعرية:


     تكثر الصور في مراثي البارودي وتتنوع، فهي مرة صورة مكثفة مشعة، وهي مرة أخرى صورة مفصلة، وأحياناً تستحيل إلى لوحة ومشهد، كما أنها تعنى مرة بتصوير الخلجات النفسية وتعنى أخرى بتصوير المشاهد الحسية.

     يقول في صديقه عبدالله فكري:

ثوى برهة في الأرض حتى إذا قضى
               لبــــانتـه منـــها دعتــــه سمــــــــــاؤه
ومـا كان إلا كوكبــــاً حــــل بـالثــرى
               لوقـــت فـلما تـم شــــــال ضيـــــــاؤه
نضــــا عنه أثـــواب الفناء ورفرفــت
               إلى الـفـــلك الأعــلى به مضــــــواؤه
فأصبـــح في لــج من النور سابحـــــاً
               سواحــــله مجهـــــولـة وفـضـــــــاؤه
تجــــرد من غمد الحوادث ناصعـــــاً
               وما السيــــف إلا أثـــره ومضاؤه[1]

     في هذه الأبيات يصور البارودي انتقال المرثي من عالم الفناء إلى عالم البقاء، فقد مكث في الأول مدة من الزمن هي أجله فلما انتهى لبى داعي السماء، فكان مثل كوكب ارتفع ضياؤه بانقضاء أمده، وفي عالم البقاء خلع عن نفسه أثواب عالمه الأول، واندفع إلى الفلك الأعلى متقدماً، ليؤول إلى بحر هائل من النور لا يمكن معرفة أبعاده وأعماقه، لقد كان سيفاً ظهر أروع ما يكون حين تخلى عن غمده، وغمده هنا هو عالم الفناء وروعته هنا هي ما آل اليه في عالم البقاء.

     وفي رثائه لعبد الله فكري وحسين المرصفي، يحن إلى مصر وهو في منفاه البعيد فيقول:

ليت شعري متى أرى روضة المـنـ     ـــيــــــل ذات النخيل والأعنــــــاب
حيـــث تجـري السفين مستبقـــــات     فـــوق نهر مثــــل اللجيـــن المذاب
قـد أحـــاطت بشــــاطئيه قصـــــور     مشرقـــــات يلحن مثــــل القبــــاب
ملعـــب تســـرح الـنـــــواظر منــه     بيــــن أفـنــــــان جنــة وشعــــــاب
كـلمـا شــــــافـه الـنســــــيم ثــــراه     عــــاد منــــه بنفحـــــة كالمــــلاب
ذاك مرعى أنسي ومرتــــع لهــوي     وجنى صبــــوتي ومغنى صحــابي
لـســت أنســـــاه ما حييت وحاشـــا     أن تراني لعهـــــده غير صـابي[2]

     إن هذه الأبيات تصوير دقيق للروضة والنيل وما حولهما، وهو تصوير تتعدد عناصره وتتكامل لتستحيل إلى لوحة نابضة بالحياة والحركة، ففي اللوحة النخيل، وفيها العنب، وفيها السفن التي تتسابق على نهر كالفضة الذائبة، وفيها القصور المشرقة المضيئة التي تحيط بجانبي النهر كأنها قباب تلفت النظر فيظل يتردد بينها وبين الأشجار الباسقة، وفيها الماء الجاري الذي تضوع رائحته كالطيب كلما مسه النسيم، وروضة المنيل هذه التي قدمها البارودي في هذه اللوحة المتكاملة، تتصل به ماضياً وحاضراً، تتصل به ماضياً بالذكرى التي لا تفارقه، وتتصل به حاضراً بالأمل في أن يراها مرة ثانية.

     وفي القصيدة نفسها يقدم لنا البارودي لوحة رائعة متكاملة، نراه فيها وقد توالت عليه المصائب ففعلت به الأفاعيل:

أخــلق الشيـــب جدتي وكســاني     خلعـــــة منـــه رثــــة الجلبـــاب
ولوى شعــــر حاجـبي على عيــ     ــني حـــــتى أطل كـالهـــــــداب
لا أرى الشيء حيــن يســنـح إلا     كخيـــــال كأنني في ضبـــــــاب
وإذا ما دعيــــــت حـــرت كأني     أسمــع الصوت من وراء حجاب
كــلمـا رمت نهضــــــة أقعـدتني     ونيــــة لا تقــــلهـا أعصــــــابي
لم تـــدع صـــولة الحوادث مني     غيــــر أشــــلاء همة في ثيــاب
فجعتـــني بوالـــــدي وأهـــــــلي     ثم أنحـــت تـــــكـر في أتــرابي

     وواضح أن هذه الصورة تعبر عن مشهد متكامل بجميع عناصره، فالشبـاب النضر ذوى، وحل محله الشيب والوهن والمرض، والبارودي إذ يقرر ذلك لا يكتفي بالأمر على إجماله، بل يدخل في التفاصيل التي تؤكده وتبينه، فالحاجب متهدل على العين، والبصر ضعيف تبدو معه الأشياء كأنها خيال عابر في ضباب كثيف، والسمع واهن لذلك يظن من يناديه بعيداً، وإذا ما أراد النهوض قعد به ضعف أعصابه، لقد توالت عليه النكبات فلم تبق في برديه إلا أشلاء همة وحطام عزيمة، فجعته بوالديه وأهله، ثم طفقت تفجعه في أصحابه، لقد نجح الشاعر نجاحاً كبيراً في التقاط عناصر اللوحة، وضمها إلى بعضها حتى ظهر لنا فيها بأجلى صورة، بحيث لو أراد فنان مقتدر أن يصور البارودي من خلال هذه اللوحة لاستطاع ذلك ولقدم لنا صورة دقيقة رسمها بفرشاته كما رسمها البارودي بكلماته.

وكما استطاع البارودي تصوير الحركة الحسية في هذه اللوحة، استطاع أيضاً تصوير الحركة النفسية، نرى ذلك في آخر بيتين من الأبيات السابقة، حيث فتكت الحوادث بعزمه كما فتكت بجسمه فلم تبق منه إلا الحطام.

وقصيدة البارودي في رثاء زوجته، وهي درة مراثيه، تمتلئ بالتصوير الحي الرائع المتنوع، يبدأ البارودي قصيدته على النحو التالي:

أيد المنـــون قدحت أي زنــــــاد     وأطرت أية شعـــــلة بفــــــؤادي
أوهنت عزمي وهو حملة فيـــلق     وحطمت عودي وهو رمح طراد
لــم أدر هل خطب ألم بســـاحتي     فأنــــاخ أم سهم أصـــاب سوادي
أقــذى العيون فأسبــــلت بمدامع     تجـــري على الخدين كالفرصـاد
ما كنــــت أحسبني أراع لحادث     حتى منيـــــت به فــــــأوهن آدي
أبــلتــني الحسرات حتى لم يكـد     جسمي يـلـوح لأعيـــــــن العـواد
أستنـجد الزفــــرات وهي لوافح     وأسفه العبرات وهي بـوادي[3]

     والتصوير حي، يروع القارئ والسامع منذ البيت الأول، حيث نرى المنون تشعل نار الأحزان في قلب الشاعر، ثم نراها في البيت الثاني تحطمه نفسياً وتحطمه جسدياً، تحطمه نفسياً إذ توهن عزيمته وكانت جبارة، وتحطمه جسدياً إذ تكسر بناءه وكان قوياً كالرمح، وعيناه تسيلان دماً لا دمعاً لشدة المصيبة التي تشتد عليه حتى تضعف جسمه فلا يكاد يراه الزائرون من الهزال، وهو في موقف صعب يطلب فيه العون من الزفرات وهي حارة لافحة، ويرى الدموع سفاهة لكنها تسيل رغماً عنه.

     وفي بيت رائع يقدم لنا البارودي صورة حية غنية مكثفة، نرى فيها الشاعر ممزقاً، ذلك أنه يريد أن يرد الحبيب الراحل إلى الحياة وأنى له ذلك، وأنه يريد أن تهدأ نيران قلبه لكنه لا يستطيع، فهو بين ما يريده من ناحية، وما يعجز عنه من ناحية ممزق متآكل، أحاقت به لوعة لا تنتهي وعجز لا يتوقف:

لا لوعتي تدع الفؤاد ولا يـدي     تقوى على رد الحبيب الغادي

     وفي لوحة رائعة نرى أثر المصاب على بنات الشاعر محزناً مفصلاً مؤسياً:

يـــا دهر فيم فجعتني بحليـــــلة     كانت خلاصة عدتي وعتــادي
إن كنت لم ترحم ضناي لبعدها     أفلا رحمت من الأسى أولادي
أفردتهـن فلم ينــــمن توجعـــــاً     قرحى العيون رواجف الأكبـاد
ألقين در عقــودهن وصغن من     در الدموع قـلائـــــد الأجيــــاد
يبكيـــن من وله فـراق حفيــــة     كانت لهـــن كثيـــرة الإسعـــاد
فخـــدودهن من الدموع نـديــة     وقلوبهن من الهموم صــــوادي

     في هذه الأبيات يعاتب البارودي الدهر لأنه فجعه بزوجته الغالية في البيت الأول، وفي البيت الثاني يذكره بأنه كان عليه أن يرحم الأولاد الصغار إن لم يرد رحمة الأب الكبير، وكان بوسع الشاعر أن يتوقف عند هذا البيت لأننا علمنا منه سوء حال الصغار بعد وفاة أمهم، لكنه مد الصورة ودخل في تفاصيلها الجزئية المحزنة ليكون وقعها أكبر، لذلك صار بوسعنا أن نرى الفتيات الصغيرات وقد جفاهن النوم، منفردات متوجعات، عيونهن متقرحة بسبب البكاء، وأكبادهن راجفة بسبب الحزن، وفي إضافة تفصيلية للصورة نجد الدموع صارت عقوداً تحيط بأجيادهن بدل القلائد، ذلك أنهن يبكين بكاء يكاد يذهب بالعقل أماً كانت كثيرة العناية بهن. لقد استطاع البارودي أن يقدم صورة متكاملة تحولت إلى لوحة فيها كل العناصر التي تجعلها تأسر الإنسان.

     وكما وفق البارودي في تصوير حالة البنات تصويراً محزناً، وفق أيضاً في تصوير حاله هو الآخر تصويراً محزناً:

ولهي عليك مصاحب لمسيــرتي     والدمع فيــك ملازم لوســـــادي
فـــإذا انتبهت فأنت أول ذكــرتي     وإذا أويـــت فأنت آخــــر زادي
أمسيت بعدك عبرة لذوي الأسى     في يوم كل مصيبـــة وحـــــــداد
متخشعــاً أمشي الضــراء كأنني     أخشى الفجاءة من صيال أعادي
ما بيــن حزن باطن أكل الحشــا     بلهيـــب ســـورته وسقم بــــادي
ورد البريـــد بغيــــــر ما أملتــه     تعس البريد وشاه وجه الحــادي
فسقـــطت مغشيـــــاً علي كأنـما     نهشت صميــم القلب حيـة وادي

     فالحزن على الفقيدة يظل معه طوال نهاره حيث يذهب، حتى إذا جنه الليل أوى إلى فراشه فسالت دموعه فبللت وساده ولازمته، وذكراها هي أول ما يصحو عليه وآخر ما يؤول إليه حين ينام، ومادام أمره هكذا فلا غرابة أن صار نموذجاً للأحزان ينظر إليه الناس كلما حلت مصيبة، ووقع الكارثة جعل المخاوف تنتابه فهو يمشي متسللاً محاذراً خوفاً من عدو يفتك به، وهو لا ينفك عن هذه الحال وآثارها الضارة على باطنه وظاهره، وفي مقابلة متناقضة نرى البارودي يتناول البريد بما يرجو أن يسر فإذا به يفجعه بما يسوء، وهو ما يزيد من حجم المأساة، وما يجعله يدعو على البريد وحامله، ويسقط مغشياً عليه كأنما نهشته حية شديدة السم. إن هذه الأبيات لوحة متكاملة فيها تصوير الحركة الحسية وتصوير الحركة النفسية بما يعجب ويأسر.

     ويبرع البارودي في تصوير حزنه على ابنه علي:

كيف طوتك المنـــــون يا ولــدي     وكيــف أودعتـــــك الثرى بيدي
واكبـــدي يـــا علي بعـــــــدك لو     كانـــت تبــــل الغليـــل واكبدي
فقـــدك ســـل العظـــــام مني ور     د الصبر عني وفت في عضدي
كم لـيــــلة فيـــك لا صبـــاح لهـا     سهرتهـــا بــاكيـــــاً بـلا مـــــدد
دمع وسهـــــــد وأي نــــــاظـرة     تبقى على المدمعيـن والسهد[4]

     ففي هذه الأبيات نرى المنون تطوي الفقيد، ونرى الأب يدفنه بيده، ونراه يبكي ويتوجع من أعماق كبده لكن هذا التوجع لا يذهب ما به من حزن، فرحيل الولد العزيز أوهن منه العظام فما يحتمل، ورد عنه الصبر فما يطيق، وفت في عضده فما يقوى، ثم تأتي بقية الصورة بالدمع الذي لا يكف، والأرق الذي لا ينقطع وهو ما يكاد يذهب بعينه التي لا تبقى مع هذه الأكدار.

     وفي رثائه لأبيه استطاع أن ينقلنا إلى عالم البادية من خلال تصوير دقيق لأثر الوفاة على الناس، بحيث يخيل إلينا أننا في أحد مضارب القبائل العربية، حيث الدواب والأنعام وحيث يموت البطل الذي ترهبه الأقران، وحيث الكرم العربي الذي يفتقد من ينهض بأعبائه، وحيث الخيل التي ستظل تلهو في أعنتها لغياب من كان يقاتل عليها، وحيث السيوف التي ستصدأ في أغمادها لأنها لن تجد من يستعملها:

لا فــــارس اليوم يحمي السـرح بالوادي
               طـــاح الردى بشهــاب الحي والنــــادي
مات الذي ترهب الأقـــران صولتـــــــه
               ويتـــقي بـــأسه الضرغــــامة العـــادي
هــل للمكــــارم من يحيي منــــــاسـكها
               أم للضــــلالة بعـــد اليـــوم من هـــادي
جف الندى وانقضى عمر الجدا وسـرى
               حــــكم الردى بين أرواح وأجـســـــــاد
فـلتــــمرح الخيـــل لهواً في مقــــاودها
               ولتصـــدأ الـبيـــض ملقـــاة بأغمـاد[5]

     وفي رثائه للشدياق يعرض لنا لوحة حية متكاملة العناصر، مؤتلفة الجزئيات، لسطوة الموت وغلبته للجميع:

نميــــل من الدنيـــــا إلى ظل مزنة     لهـــا بــــارق فيه المنيـــــة تـــلـمع
وكيف يطيب العيش والمرء قــــائم     على حــــذر من هول ما يتوقـــــع
بنـــا كل يوم للحـــوادث وقعـــــــة     تسيـــل لها منـــا نفــــــوس وأدمـع
فأجســادنا في مطرح الأرض همد     وأرواحنا في مسرح الجو رتع[6]

     فالناس يركنون إلى الدنيا ونعيمها علماً أن المنية تهددهم دائماً بالانقضاض عليهم، لذلك لا يطيب لهم العيش بسبب ما يرهبون من مفاجآتها، ذلك أن لها على الدوام فتكات تترك أجساد صرعاها هامدة في التراب أما الأرواح فهي في السماء. واللوحة مكتملة العناصر فيها رغبة الناس في التمتع في الدنيا، وفيها أيضاً خوفهم الدائم من هجمة الموت، وفيها الوقائع المتجددة التي تقتل الناس وتتركهم على الأرض جثثاً هامدة.

     وفي بيت واحد نجد صورة مكثفة غنية تلخص حكاية الحياة كلها، مسير متصل ينتهي بالموعد المحدد، وأرحام تدفع المواليد الجدد، وأرض تبلع الموتى والهالكين:

تسيـر بنا الأيام والموت موعد     وتدفعنا الأرحام والأرض تبلع

     وفي بيت واحد آخر يحسن تصوير عظم المصيبة بالفقيد، حيث فقده الناس أشد ما يكونون حاجة إليه كما يفقد المرء الماء على الظمأ:

فقدناه فقدان الشراب على الظما     ففي كل قـــلب غــــلة ليس تنقع

     وفي رثاء البارودي لأمه يوفق في تصوير الحركة النفسية لمطامع الإنسان التي لا تنتهي، فهو يطلب حاجة معينة يجعلها همه ودأبه حتى إذا فاز بها، طلب حاجة أخرى وجعلها أيضاً همه ودأبه، وما تزال هذه المطامع تورده مواردها حتى لو تحطم في سبيل ما يؤمله:

يـــود الفتى في كـــــل يوم لبـــــانة
               فـــإن نـالهــا أنحى لأخرى وصمما
طمـــاعة نفس تورد المرء مشرعاً
               من البؤس لا يعدوه أو يتحطــما[7]

     ويوفق توفيقاً بعيداً في تصوير موقفه لما جاءه نعي أمه وهو في الحرب، بكل جوانب حركته النفسية وحركته الحسية، فقد كان يقاتل عندما جاءه النبأ فاستولى عليه الحزن وألقى من كفه الحسام وكف عن القتال، لكن عقله لم يلبث أن غلب عاطفته، فأطاع عقله وعصى عاطفته، ذلك أن عقله كان يهيب به أن يرجع إلى القتال حتى يخرج منه بما يليق به من الشجاعة التي عرفت عنه، ففعل ذلك، وكان له ما أراد، وحين جاء الليل وهدأ القتال خلا بنفسه ليبكي على أمه، وبذلك قام خير قيام بما أملاه عليه قلبه وما أملاه عليه عقله ولكن دون أن يجور أحدهما على الآخر:

فيـــا خبراً شف الفؤاد فأوشــــــكت     سويـــداؤه أن تستحيــل فتسجــــما
إليـــك فقد ثـلمــــت عرشاً ممنـــعاً     وفــللت صمصــاماً وذللت ضيغما
أشـــاد به النـــاعي وكنت محاربــاً     فألقيــت من كفي الحسام المصـمما
وطـــارت بقــلبي لوعة لو أطعتـها     لأوشـــك ركن المجــــد أن يتـهدما
ولكنــني راجعــت حلمي لأنثــــني     من الحرب محمود اللقــــاء مكرما
فلما استرد الجنــد صبغ من الدجى     وعــاد كلا الجيشـــين يرتاد مجثما
صرفت عنــاني راجعــاً ومدامعي     على الخد يفضحن الضمير المكتما

     ويقدم لنا الشاعر الدهر في صورة غنية مكثفة في بيتين اثنين تومض وتوحي، وتضعنا أمام المتناقضات بداية ونهاية:

هو الأزلم الخــداع يخفر إن رعى     ويغدر إن أوفى ويصمي إذا رمى
فكم خان عهـــداً واستبــــاح أمانة     وأخــــلف وعداً واستحل محـرما

     فالدهر خداع خوان، يخون إذا عاهد، ويغدر إذا وافق، ويصيب الناس في مقاتلهم، والنظر في صفحته يدل على ذلك، فكثيراً ما استباح الأمانة، واستحل المحارم، ونقض المواثيق، وفاجأ الناس بما يكرهون.

     ويوفق الشاعر في تصوير قصر الدنيا وسرعتها تصويراً خاطفاً مؤدياً، إذ يقول في رثاء علي الطهطاوي:

ألا قاتــــل الله الحيــــــاة فإنهـــــا     إلى الموت أدنى من فم لبنان[8]

     ويوفق أيضاً في تصوير حركة الهدم والبناء المستمرة بفعل الدهر، وهي حركة دائبة تمثل سنة من سنن الله تعالى في الحياة:

إذا ما بنانا الدهر ظلت صروفه     تهدمنــــا والدهر أغدر بـــــاني

     ولك أن تتخيل من هذا البيت عملية الهدم وعملية البناء تتسابقان وتتعاقبان، والدهر يمكث وراء ذلك يراقب ما يجري بتدبيره وسعيه، والناس لا تتوقف عندهم عجلة الحياة والرغبة فيها، والفناء يأتي عليهم وعلى مطامعهم، ويستمر الأمران المتناقضان يدوران وكأن كل واحد منهما لازم من لوازم الآخر.

     إن البارودي مصور مقتدر، يلون الصورة وينوع فيها ويعدد في عناصرها حتى تستحيل لوحة أو مشهداً، أو يأتي بها لمحة تلمع وتضيء كأنها برق سريع، وبراعته في تصويره للجانب الحسي كما في تصويره للروضة والنيل لا تقل عن براعته في تصويره للجانب النفسي كما في تصويره لحاله وقد توالت عليه المصائب في سيلان.

     وقد أعان البارودي على أن يكون شاعراً مصوراً مقتدراً قوة خياله، وسعة محفوظاته، وكثرة تجاربه، وتوقد همته، وعميق إحساسه بالحياة ورغبته فيها.

     لذلك يقول الدكتور شوقي ضيف ــ بحق ــ عن صور البارودي: ((لا يروعنا البارودي بصدقه في وصف أحاسيسه وما مر به من أحداث الحياة وأحاط به من واقعها في بيئته وغير بيئته فحسب، بل يروعنا أيضاً بملكته الخيالية التي أتاحت له تصوير المشاهد الكبيرة تصويراً ينبض بالحركة والحيوية الدافقة، ولا نقصد المشاهد الحسية وحدها، بل نقصد أيضاً المشاهد النفسية، إذ استطاع دائماً أن يرسم ما يجري من حوله وفي نفسه رسماً تخطيطياً دقيقاً))[9].

     وبعد أن يعرض لنماذج من صور البارودي يخلص إلى القول: ((وعلى هذا النمط تكثر الصور في شعر البارودي كثرة مفرطة، بحيث يعد في طليعة شعراء العرب المصورين، وهو ليس مصوراً فحسب، بل هو بارع التصوير، وهي براعة ترد إلى غنى خياله وقوة استحضاره للمشاهد الحسية وتمثله للمشاهد النفسية، كما ترد إلى فطنة قوية حادة وإحساس عميق بالروح المنبثة في الكائنات من حوله))[10].

-------------------
[1] الديوان 1/81.
[2] الديوان 1/104.
[3] الديوان 1/237.
[4] الديوان 1/248.
[5] الديوان 1/250.
[6] الديوان 2/242.
[7] الديوان 3/394.
[8] الديوان 4/99.
[9] البارودي رائد الشعر الحديث، ص 188.
[10] المرجع السابق، ص 204.

كتاب الرثاء في شعر البارودي وشوقي وحافظ - الفصل الثالث - 10 - لغة البارودي


الفصل الثالث
(الرثاء في شعر البارودي) 

10- لغة البارودي:


     ريادة البارودي للشعر العربي الحديث أمر يجمع عليه الدارسون، وهي ريادة موضوعية وريادة فنية معاً. وأهم أسباب هذه الريادة، موهبته القوية، وسعة اطلاعه على روائع الشعر العربي، وطريقته في التعلم التي جعلته يتصل اتصالاً مباشراً بهذه الروائع متجاوزاً عصور الضعف والركاكة، وهي عصور كان لابد لها من أن تضع بصماتها عليه، لو أنه درس من خلال الطريقة التقليدية التي كانت سائدة في عصره.

     وقد أدى هذا إلى أثر واضح في صياغة البارودي لشعره، فالألفاظ عنده قوية لا تخطئ أن تجد فيها آثاراً بدوية أحياناً، ولكن من دون إغراب أو مبالغة، والعبارة عنده مستوية ومحكمة النسج بحيث يشعر الدارس بتلاحمها تلاحماً متيناً، لا نبو فيه ولا شذوذ، وذلك يدل على طبع سوي أحكمته القراءة الواعية لعيون الشعر العربي، وملكة صقلتها روحه المتوثبة الطموح التي جعلت من كبار شعراء العربية نموذجاً لها، ولذلك ما تكاد تقرأ في شعر البارودي حتى تشعر أن صياغته تردك إلى عالم الفحول من شعراء العربية كالمتنبي والشريف الرضي وأبي فراس.

     بعد أن ينقل الدكتور شوقي ضيف عن الشيخ حسين المرصفي ما رواه في الجزء الثاني من كتابه ((الوسيلة الأدبية)) كيف أن البارودي لم يقرأ كتاباً في فن من فنون العربية، لكنه بدأ يطلع على دواوين الشعر العربي فتصور في برهة يسيرة هيئات التراكيب العربية فصار يقرأ ولا يكاد يلحن، ثم حفظ الكثير من الشعر دون كلفة، يقول: ((والمرصفي بذلك يذيع السر في براعة البارودي، وتمثله المنقطع النظير للسليقة العربية، فإنه لم يكون قريحته الشعرية بالطريقة التي كانت متبعة في عصره والتي كانت تردد فيها قواعد النحو والعروض وصور سقيمة من الشعر المسف المبتذل المليء بأعشاب البديع والمخمسات والتضمينات الركيكة، وإنما كونها بالتزود من رواية النماذج الرائعة لشعراء العربية القدماء. وقد مضى يستظهرها مردداً نظره فيها حتى فقه أسرار تراكيبها وأحكم طبيعته وأرهف ذوقه واستقامت له شاعريته، وعلى هذا النحو تكاملت للبارودي سليقته العربية بنفس الطريقة التي كان يصطنعها شعراؤها في العصور القديمة وفي أعمق هذه العصور، وأقصد العصرين الجاهلي والإسلامي، فإن الشاعر حينئذ كان يعتمد في تكوين سليقته على استظهار أشعار النابهين من معاصريه وأسلافهم، وما يزال يأخذ نفسه بروايتها وفهمها وتمييز مقاصدها وتبين مواقع الجمال الفني بها حتى يسيل الشعر على لسانه بنفس الصورة ونفس الألحان والأنغام المطربة، مذيعاً فيه مشاعره ومشاعر قومه، دون أن يحول بينه وبين ذلك عائق من بديع أو غير بديع))[1].

     هذه الطريقة الصحيحة في تعلم العربية، جعلت البارودي يتمثل روائعها الشعرية تمثلاً تاماً فصارت جزءاً لا يتجزأ منه، يفكر بها. ويشعر بها، وينظم بالتالي بها فيأتي نظمه على أمثال تلك الروائع بصورة عفوية، وهذا هو الفرق بين تمثل اللغة روحاً وألفاظاً وتراكيب، وبين تعلمها بطريقة حفظية استظهارية تجعل الإنسان يعبر بها وكأنه يعبر بلغة أجنبية عنه.

     فإذا أضيف إلى هذه الطريقة جملة الظروف المواتية للبارودي من ذكاء قوي، وذاكرة قوية، وملكة نادرة، وأسباب عيش مسعف لما يريد، كان لنا أن نعرف لماذا تفوق البارودي في صياغته اللغوية.

     يقول البارودي في رثائه الشهير لزوجته:

أيـــد المنــــون قدحت أي زنــــاد     وأطرت أيـة شعــــــلة بفــــؤادي
أوهنـــت عزمي وهو حملة فيـلق     وحطمت عودي وهو رمح طراد
ما كنت أحسبــــني أراع لحــادث     حتى منيــــت به فـــــــأوهن آدي
أبلتــــني الحسـرات حتى لم يكــد     جســمي يـلــوح لأعين العـــــواد
أستنجــــد الزفـــرات وهي لوافح     وأسفــــه العبــــرات وهي بوادي
يــا دهـر فيــم فجعــــتني بحليــلة     كــانت خلاصة عدتي وعتــــادي
إن كنت لم ترحم ضنـــاي لبعدها     أفــــلا رحمت من الأسى أولادي
أفردتهــن فــــلم ينمن توجعـــــــاً     قرحى العيـــــون رواجف الأكباد
ألقيـــن در عقودهن وصغــن من     در الدموع قـلائـــــد الأجيـــــــاد
يبكيـــــن من وله فـــراق حفيـــة     كـــانت لهــن كثيـــرة الإسعــــاد
فخــــدودهن من الدموع نديـــــة     وقلوبهن من الهموم صـوادي[2]

     إن ألفاظ هذه الأبيات قوية جزلة، فيها فحولة بادية، لا تجد فيها لفظاً مسفاً أو مبتذلاً، وهي منتقاة انتقاء جيداً لأداء المعاني التي يريد الشاعر أن يقولها لنا، ومع ذلك ليس فيها غريب لا يفهم، أو يتعسر التلفظ به ويشق. وهذه الألفاظ تقع موقعها المقرر في سياق التراكيب دون إكراه أو افتعال، أما التراكيب فإنها مستقرة مستوية يأخذ بعضها برقاب بعض دون نبو أو شذوذ، ولذلك كانت الصياغة على أعلى درجات الجودة والإحكام والإتقان، كأنها قطع حجارة نحتت نحتاً دقيقاً منضبطاً متساوياً بيد قادرة صناع، ثم ضمت إلى بعضها ضماً قوياً فإذا بها بناء واحد.

     ويقول البارودي في رثائه للشدياق:

نميــــل من الدنيــا إلى ظل مزنة     لهـــا بــــارق فيــه المنيـــة تـلمع
وكيف يطيب العيش والمرء قائم     على حــذر من هول ما يتوقـــــع
ومن عجب أنا نســــاء ونرتضي     ونـدرك أسبـــاب الفنـــاء ونطمع
ولو عـــلم الإنسان عقبـــان أمره     لهـــان عليه ما يســــر ويفجــــع
تسيــر بنا الأيام والموت موعـــد     وتدفعنـــا الأرحام والأرض تبلع
عفـــاء على الدنيا، فما لعــــداتها     وفــاء، ولا في عيشها متمتع[3]

     وفي هذه الأبيات تظهر صياغة البارودي المحكمة القوية، فهي تتشكل من ألفاظ جزلة قوية، وجمل مسترسلة محكمة، وقدرة على حسن التصرف بالكلام وتوزيع أجزاء الجمل، وهو ما يوضح المعنى ويحكم الترابط، ويزيد من الوقع الموسيقي.

     يمضي البيت الأول باتساق وانسجام ليقرر فيه البارودي حب الناس للحياة مع الكوارث والنذر، الأمر الذي يستدعي التساؤل عن سر ذلك وهو ما يأتي به البيت الثاني، حتى إذا جئنا البيت الثالث وقعنا على تقابل جميل يتساوى فيه الشطران ويتناظران، أما في البيت الرابع فنجد الشاعر ينتهي إلى النتيجة التي يؤول إليها الأحياء وهو ما ينبغي معه أن تهون عليهم مسراتهم وأحزانهم، لأن الدنيا قافلة دائبة كما يقرر ذلك البيت الخامس في تقابل جميل بين الشطرين، وروعة لتقسيم للكلام داخل كل شطر، أما البيت السادس فيأتي ليتم معنى البيت السابق له ويقرر أن الدنيا إلى زوال لأن وعودها لا تنجز وعيشها لا يستطاب.

     ومتابعة مراثي البارودي، تقود إلى نفس النتيجة التي قاد إليها النظر في النموذجين السابقين.

     وهكذا تطلع علينا صياغة البارودي، لنجدها دائماً على أعلى درجات القوة والاكتمال، ألفاظاً قوية جزلة، وتراكيب جيدة السبك متلاحمة النسج، تدل على طبع سوي وسليقة عربية صميمة، لا نبو فيها ولا تكلف ولا إكراه، نجت من عصور الضعف اللغوي، واتصلت بعصور القوة والفحولة، لذلك ما تكاد تمضي في قراءة البارودي حتى تحسب نفسك مع أحد شعراء العربية الكبار الأوائل.

     يقول الدكتور شوقي ضيف: ((ولا يختلف اثنان في أن البارودي كان يفقه أسرار العربية وصورها البلاغية فقهاً دقيقاً، وأنه أحكم سليقته إحكاماً بكثرة ما قرأ وحفظ من نماذجها الرفيعة ... ومن أجل ذلك اتسق التعبير الشعري عنده اتساقاً عجيباً بحيث لا تلقاك فيه كلمة نابية، ولا أخرى استكرهت على أن تنزل في غير موضعها، بل كل كلمة تنزل في مكانها نزولاً طبيعياً وكأنما قدرت له تقديراً))[4].

     وأما الأستاذ العقاد فإنه يقول:((كان محمود سامي البارودي شاعراً رائع اللفظ بليغ العبارة، وكانت روعته المتانة والفخامة وبلاغة السراوة والجزالة، وربما رجحته هذه المزايا على شوقي في ناحيتها))[5].

     وأما الدكتور أحمد هيكل فإنه يقول: ((كان البارودي أوضح الجميع أخذاً بهذا الاتجاه الجديد فهو أقواهم شاعرية وأعلاهم قامة وأغزرهم نتاجاً، وأبعدهم عن التقليدية التي غلبت على كثير من شعراء تلك الفترة، ومن هنا يعتبر البارودي بجدارة رائد هذا الاتجاه الذي اتجه بأسلوب الشعر إلى الأسلوب القديم المشرق الحي، البعيد عن التهافت والتستر بالمحسنات، فهو مؤسس الاتجاه المحافظ البياني في الشعر الحديث، وليس المراد بالمحافظة أي لون من التقليدية أو المحاكاة بمعناها الرديء الذي تلغى معه الشخصية أو تغلق العيون والمشاعر عما يحيط بالشاعر ويمس نفسه، وإنما المراد بالمحافظة اتخاذ النمط العربي المشرق مثلاً أعلى في الأسلوب الشعري وهذا النمط تمثله تلك النماذج الرائعة من الشعر التي خلفها قمم الشعراء في عصور الازدهار في المشرق والأندلس))[6]. وهكذا تتلاقى شهادات ثلاثة دارسين كبار لتؤكد لنا صحة لغة البارودي وتميزها، وامتلاك صاحبها لأدواتها امتلاك الخبير المتمكن المتصرف، الذي يضع مفرداتها وتراكيبها على أحسن ما يكون البناء اللغوي، في محافظة لا تلغي الشخصية، وتجديد لا يقطع الجذور.

----------------------
[1] البارودي رائد الشعر الحديث، ص 98.
[2] الديوان 1/237.
[3] الديوان 2/241.
[4] البارودي رائد الشعر الحديث، ص 129.
[5] مهرجان أحمد شوقي، ص 5.
[6] تطور الأدب الحديث في مصر، ص 62.

كتاب الرثاء في شعر البارودي وشوقي وحافظ - الفصل الثالث - 09 - صدق رائع


الفصل الثالث
(الرثاء في شعر البارودي) 

09- صدق رائع:

     من أجمل ما يروع الدارس لحياة البارودي وشعره، صدقه مع نفسه، ولا غرابة في ذلك، لأن هذا الصدق ثمرة طبيعية للفروسية التي نشأ عليها وأشرب حبها، فرافقته في جميع مراحل حياته. وأخلاق الفروسية تدعو إلى الصدق، وتدعو إلى الوفاء، وهذان المعنيان من ألزم لوازم المراثي الجيدة.

     يقول البارودي في رثاء ابنته ستيرة التي جاءه نعيها وهو في المنفى:

فزعت إلى الدموع فلم تجبـــني     وفقـــد الدمـــع عند الحـزن داء
وما قصـــرت في جزع ولكــن     إذا غلب الأسى ذهب البكاء[1]

     وهو بهذين البيتين أبان عن حزنه الممض، ووجد عذراً لنفسه أنه لم يقل في ابنته سواهما، فقد استبد به الحزن فغلبه على البكاء، كما غلبه على النظم.

     أما صديقه عبدالله فكري الذي كان نوراً يمشي بين الناس، فهو يود أن يفتديه لو كان إلى ذلك سبيل:

ألا بأبي من كان نوراً مجسـداً     يفيض علينا بالنعيم رواؤه[2]

     ولولا يقينه أنه في جنة الله تعالى وهو ما يدعوه إلى الصبر والعزاء، لبكى عليه بكاء يسلمه إلى العمى:

ولـــولا اعتقـــــادي أنه في حظيــرة     من القدس لاستولى على الجفن ماؤه

     والمصيبة به هائلة هدته هداً، وفتكت بقلبه فتداعى، فإذا بالأطباء عاجزون عن علاجه، وللطب مداه المحدود الذي لا يعدوه:

عليك ســلام من فؤاد نزا به     إليك نزاع أعجز الطب داؤه

     وفي رثائه لصديقه عبدالله فكري وأستاذه حسين المرصفي، نجده حزيناً جداً، لسلسلة الكوارث التي توالت عليه ومنها موت الفقيدين المرثيين، خاصة أنهما ماتا وهو في المنفى:

لـم تـدع صـــــولة الحوادث مني     غيــــر أشـــلاء همة في ثيــــاب
فجعــــتني بوالــــــــــدي وأهـلي     ثــم أنحــت تـكـر في أتـــــرابي
كــل يـوم يـــزول عني حبـــيـب     يــا لقـــلبي من فرقة الأحبــــاب
أين مني حسين، بل أيـن عبد اللـ     ــه رب الـكمـــــــــــال والآداب
مضيــــا غير ذكرة وبقــــاء الـذ     كــر فخـــر يــدوم للأعقـــــــاب
لم أجــــد منــــــهما بديلاً لنفسي     غير حزني عليهما واكتئابي[3]

     إن موت أقربائه وأصدقائه، جعل منه بقية أشلاء، ذلك أن المحنة بهم طحنته طحناً، فجعته بذويه، ثم مضت تفجعه بصحبه، فيزول كل يوم منهم حبيب، فأنى لقلبه أن يحتمل ذلك كله؟ وأنى له أن يجد بديلاً عما يكابد من أحزان؟

     أما رثاؤه لزوجته عديلة يكن فهو درة مراثيه، وهي قصيدة رائعة تفيض بالصدق والوفاء والحزن المرير والتصوير الحي، لذلك لا غرابة أن كانت أفضل مراثيه وأروعها، ولذلك لا غرابة أن وجدنا الدكتور شوقي ضيف يصفها بأنها ((تعد من غرر المراثي في لغتنا العربية))[4].

     ومن البيت الأول من القصيدة نشعر بالحرقة على الفقيدة العزيزة التي ضاعف حزنه عليها أنها ماتت أيام نفيه:

أيد المنون قدحت أي زنـــــاد     وأطرت أية شعلة بفؤادي[5]

     إن الشاعر يسأل الموت سؤالاً محزوناً مريراً عن النار التي أوقدها في قلبه، وهي نار أوهنت عزمه وكان قوياً وحطمت جسمه وكان صلباً وأصابته بسهم حل في سواد قلبه، فإذا بدموعه تنهل على خديه كأنها دماء جارية:

أوهنــــت عزمي وهو حملة فيلق     وحطمت عودي وهو رمح طراد
لم أدر هل خطب ألم بســــــاحتي     فأنــــاخ أم سهم أصـــاب سوادي
أقـذى العيـــون فأسبـــلت بمدامع     تجــري على الخدين كالفرصــاد

     والشاعر لقوة شخصه وما أشربه من الفروسية التي تجعل أبناءها رجالاً أشداء، لم يكن يحسب أنه يراع لحادث، فلما ماتت زوجته تبين له أن موتها فوق طاقته، فإذا به لا يحتمل المصاب، وإذا بالحزن يبليه حتى يكاد جسمه لا يبين للعواد الزائرين الذين جاؤوه للتعزية، وإذا به يستنجد الزفرات وهي محرقة، ويحاول كتم الدموع لكنه لا يستطيع:

ما كنت أحسبني أراع لحادث     حتى منيــــت به فأوهـن آدي
أبلتني الحسرات حتى لم يكـد     جسمي يـــلوح لأعين العـواد
أستنجد الزفرات وهي لوافـح     وأسفه العبــرات وهي بوادي

     وفي بيت رائع يصور لنا حزنه الكبير، فهو بين أمرين كلاهما مر صعب، اللوعة لا تدع فؤاده، ويده لا تقوى على رد الفقيدة الغالية:

لا لوعتي تـدع الفؤاد ولا يدي     تقوى على رد الحبيب الغادي

     وفي أبيات جميلة تفيض بالحزن المرير يناجي الشاعر الدهر الذي سلبه زوجته ويسأله عما حمله على ذلك، ولماذا لم يبقها لأولاده إن لم يشأ إبقاءها له، ويصور له كيف ساء حال بناته من بعدها بسبب جنايته، فهن منفردات ليس لهن من يحميهن، لا يقدرن على النوم، وعيونهن متقرحة من البكاء، وأكبادهن مضطربة من الحزن، تركن عقود الدر التي كانت تحيط أعناقهن، وجعلن من دموعهن قلائد بديلة، خدودهن ندية بالبكاء الدائم وقلوبهن محترقة من الهم والغم:

يـــا دهر فيم فجعتـــــني بحليلة     كانت خلاصة عدتي وعتـــادي
إن كنت لم ترحم ضناي لبعدها     أفـلا رحمت من الأسى أولادي
أفردتهن فــــلم ينمن توجعـــــاً     قرحى العيون رواجف الأكبـاد
ألقيـن در عقودهن وصغن من     در الدموع قلائـــــد الأجيـــــاد
يبـــكيــن من وله فراق حفيـــة     كانــت لهن كثيـــــرة الإسعــاد
فخــــدودهن من الدموع نديــة     وقلوبهن من الهمــوم صــوادي

     لقد استطاع الشاعر أن ينقل لنا صورة حية من أحزانه على الزوجة الفقيدة، وعلى بناته اللواتي هدتهن الكارثة، وصور لنا حالهن في مشهد درامي موجع.

     ويتوجع البارودي لزوجته، وكيف ارتحلت عن منزلها الذي كانت نوره وضياءه لتصبح رهينة في جوف قبر أغبر مظلم مغلق:

أسليلة القمرين أي فجيـــــعة     حلت لفقدك بين هذا النـــادي
أعزز علي بـأن أراك رهينة     في جوف أغبر قـاتم الأسداد
أو أن تبيني عن قرارة منزل     كنت الضيــــاء له بكل سواد

     ويوفق البارودي كذلك في تصوير حزنه على زوجته الفقيدة، فجوانحه لا تقر بعدها، وفراشه لا يلين له. وألمه عليها رفيق دائم له، ودمعه ملازم لوسادته كلما جاء ينام، وحين ينتبه من نومه فهي أول من يتذكره، وحين يأوي إلى فراشه فهي آخر ما يصطحبه، لذلك صار نموذجاً غريباً للحزن ينظر إليه الناس ما تجددت المصائب، وصار خاشعاً ضعيفاً يمشي مستخفياً حذر عدو له قد يفاجئه ويؤذيه:

هيهات بعدك أن تقــــر جوانحي     أسفـــاً لبعــــدك أو يلين مهــادي
ولهي عليك مصاحب لمسيــرتي     والدمع فيــــك ملازم لوســــادي
فإذا انتبهت فأنت أول ذكـــــرتي     وإذا أويت فـــــأنت آخـــر زادي
أمسيت بعدك عبرة لذوي الأسى     في يوم كل مصيبــــة وحــــــداد
متخشعــــاً أمشي الضراء كأنني     أخشى الفجاءة من صيال أعادي
ما بين حزن باطن أكل الحشــــا     بلهيب سورتــــه وسقم بــــــادي

     ويوفق البارودي في إبراز عاطفته الحزينة، حين يصور هول الكارثة على نفسه أول مفاجأة النبأ له، وخاصة في التناقض الحاد بين الأمل الذي كان وهماً، والكارثة التي باتت حقيقة:

ورد الـبـريد بغيـــــــر ما أملته     تعس البريد وشاه وجه الحادي
فسقـــــطت مغشياً علي كأنــما     نهشت صميم القلب حيـة وادي
ويـلـمه رزءاً أطــــــار نعيـــه     بالقـــــلب شعـــــلة مارج وقاد
قد أظلمت منه العيــــون كأنما     كحل البـــكاء جفـــونها بقتـــاد
عظمت مصيبته علي بقدر مـا     عظمت لدي شماتة الحســــــاد

     إن حزنه الصادق يظهر في هذه الأبيات بأجلى حالاته، لقد تناول البريد وهو يرجو أن يجد فيه ما يسره فإذا به يجد ما يسوؤه، لذلك يدعو عليه، ويدعو على حملته، ويسقط على الأرض فاقداً وعيه كأن حية سامة نهشت قلبه، ذلك أن المصاب أوقد فيه النار، وأجرى دموع عينيه اللتين كأنما وخزتهما الأشواك، وعظمت عليه مصيبته بفقدان الزوجة الغالية كما عظمت عليه مصيبته بشماتة الحاسدين.

     ويحمل البارودي في مودة حانية ورقة بالغة وصدق ظاهر، النسيم الذي يهب رسالة منه إلى قبر الفقيدة، ينقلها من منفاه البعيد إلى حيث دفنت الفقيدة في مصر، وفي الرسالة مودة وتحية للزوجة العزيزة، وفيها يبثها شكواه ممن حوله في المنفى إذ أخذوا يتلاومون، صحت أجسادهم ومرضت قلوبهم، وفشا فيهم الحسد، حتى إنهم يريدون الإحسان إلى أنفسهم من خلال الإساءة إليه:

سر يا نسيــم فبـــــلغ القبر الذي     بحـمى الإمام تحيــــتي وودادي
أخبـــره أني بعــــده في معشــر     يستجلبـــــون صلاحهم بفسادي
طبعـــوا على حسـد فأنت تراهم     مرضى القلوب أصحة الأجساد
ولو انهم علموا خبـيئة ما طـوى     لهم الردى لم يقـدحوا بزنــــــاد

     ويختم البارودي قصيدته الرائعة بأبيات تفيض بالصدق والوفاء، والدعاء واللوعة، وحفظ عهود المودة، فيقول:

فاستهد يا محــمود ربك والتـمس     منه المعــــــونة فهو نعم الهـادي
واســـأله مغفرة لمن حل الثــرى     بالأمس فهو مجيب كل منــــادي
هي مهجة ودعت يوم زيــــــالها     نفسي وعشـــت بحسرة وبعــــاد
تالله ما جفت دموعي بعــــــد مـا     ذهب الردى بك يا ابنة الأمجــاد
لا تحسبيني ملت عنك مع الهوى     هيهات ما ترك الوفاء بعــــــادي
قد كدت أقضي حسرة لو لم أكـن     متوقعــــاً لقيـــــاك يوم معـــادي
فعـليـــك من قـلبي التحيــــة كلما     نــاحت مطــــوقة على الأعــواد

     إن الشاعر يطلب من ربه الرحمة للفقيدة الغالية، التي ودع بوداعها كل شيء وانكفأ على نفسه منفرداً متحسراً، وهو يقسم أن الدموع ما جفت على الراحلة العزيزة، يحمله على ذلك الوفاء الذي عرف به، والذي يجعله يتذكرها على الدوام.

     إن مرثية البارودي لزوجته عديلة يكن، قصيدة حية مؤثرة، استكملت كل الأدوات اللازمة لتظفر بالتفوق في مستوى شعر البارودي، وفي مستوى الشعر العربي. يقول الدكتور علي محمد الحديدي عنها:((ومطولة البارودي التي يبكي فيها زوجته الحبيبة ويندبها على البعد، من نادر الشعر العربي، فقليلاً ما رثى الشعراء العرب زوجاتهم ... وقد استطاع البارودي أن يصور الحزن الحقيقي على الحبيب الفقيد، حتى ليكاد المرء يحس من القصيدة لهفة الشاعر وقد وهن عزمه، في عباراته، ويشعر بجمرات الحزن في كلماته، ويرى الدمع مدراراً على وسادته، والحزن في القصيدة حزن عميق جدير بأن يعد نموذجاً في الشعر العربي للعاطفة الصادقة))[6].

     وقصيدة البارودي في ابنه علي الذي توفي أيام نفيه، هي من أجمل مراثيه وأحفلها بالحزن واللوعة والصدق:

كيــف طوتــك المنـــــون يا ولـــدي
               وكيـــف أودعتـــــك الثـــرى بيــدي
واكبـــــدي يـــا عــلي بعــــــــدك لو
               كــــانت تبــــل الغليــــل واكبـــــدي
فقـــــدك ســــل العـظــــــام مني ور
               د الصبر عني وفت في عضدي[7]

     إنه يتساءل متعجباً متحسراً كيف طوت المنون ابنه الصغير، وكيف استطاع أن يودعه الثرى بيديه، وهو محترق الكبد لوفاته التي أضعفت جسمه، وردت صبره، وفتت في عضده.

     ودمع الشاعر مقترن بأرقه الدائم، وهو ما أضعف عينه التي اجتمع عليها البكاء والسهر معاً، ولهفته على معالم النجابة وأمارات الذكاء مما رآه في ابنه الفقيد لا تنتهي، ومما زاد في حجم المصيبة أن المفاجأة فيها كانت من حيث لا يتوقع، ولذلك فهو يود أن يعصف به الهيام لا الحلم لولا بقية من حياء تدعوه إلى الصبر:

كــم لـيــــــلة فيـــك لا صبـاح لهـا
               سهـــــرتهــا بــاكياً بـلا مـــــــــدد
دمــــــع وســــــهـد وأي نـــاظرة
               تبــــقى عــلى المدمعيـــن والسهد
لهـــــفي على لمحــــة النجــابة لو
               دامت إلى أن تـفــــوز بالســـــــدد
ما كنت أدري إذ كنت أخشى عليـ
               ـك العيـــن أن الحمــــــام بالرصد
فاجــــأني الدهر فيـك من حيث لا
               أعلم ختــــلاً، والدهر كالأســـــــد
لولا اتقاء الحياء لا عتضـت بالـــ
               ــحـــلم هيـــــاماً يحيــق بالجـــــلد
لـكن أبــت نفـسي الـكـــــريمة أن
               أثــــلـم حــــد العـــــزاء بالـكمــــد

     ويطلب الشاعر من قلبه أن يبكي على ابنه، لأن بكاء القلب يبلغ ما لا يبلغه بكاء العين، وإذا كان الموت قد أطبق على الولد فإن المصاب به أطبق على الوالد، الذي يسلم على ابنه أحسن سلام ويودعه أحسن توديع:

فليبــــك قلبي عليك فالعيـن لا     تبـــلغ بالدمع رتبــة الخــــــلد
إن يك أخنى الردى عليك فقـد     أخنى أليم الضنى على جسدي
عليك مني الســــلام توديـع لا     قـــال، ولكن توديع مضطهــد

     ويبدو أن حزنه على ابنه علي ظل يتجدد. لذلك نجده يعود مرة ثانية إلى رثائه له في قطعة من سبعة أبيات تفيض بالحزن الصادق:

بكـيــــت علـيــــاً إذ مضى لـسبيــــــــــــله
               بعيـــــن تـــــكـاد الروح في دمعها تجـري
وإني لأدري أن حــــــــــزني لا يـــــــــفي
               برزئي ولــكـن لا سبيــــــل إلى الصبـــــر
وكيـــف أذود الـقـــــلب عن حســــــــراته
               وأهــــون ما ألـقــــــاه يصدع في الصخــر
يـلومونني أني تجـــــاوزت في الـبــــــــكا
               وهـل لامرئ لم يبــــك في الحزن من عذر
إذا المــــرء لم يـفــــرح ويحــزن لنعــــمة
               وبـؤس فلا يـــرجى لـنفــــــع ولا ضـــــــر
وما كـنــــت لولا قســـمة الله في الـــــورى
               لأصبـــــر لـكنــــا إلى غـــــــاية نســــري
لقـــد خفـــــف البـــلوى وإن هي أشـــرفت
               على النفس ما أرجوه من موعد الحشر[8]

     وعاد البارودي لرثاء ابنه أيضاً مرة ثالثة، وتكرار الرثاء ثلاث مرات يدل على الحزن العميق من ناحية، وعلى العاطفة المتقدة من ناحية:

لم أصطبـــر بعدك من سلوة     لكن تصبــــرت على جـــمر
وشيــــمة العاقل في رزئـــه     أن يسبق السلوة بالصبر[9]

     ويدفع الوفاء البارودي إلى رثاء حاضنته في ثلاثة أبيات تفيض بالحزن الصادق عليها، يحلف لها فيها أنه لن ينساها، ولن ينسى كريم أخلاقها، ويدعو لها بالجنة:

أمريــــم لا والله أنســــــــاك بعـــــــــــد ما
               صحبتــــك في خفــض من العيش أنضـــر
فقـــــد كنــــت فينــــا بـــرة القول ســـــرة
               سليــــــمة قــــلب في مغيــــــــب ومحضر
فلقيــــت من ذي العرش خيــــــر تحيـــــة
               توافيك في روض من القدس أخضر[10]

     ويتوجع البارودي لوفاة صديقه أحمد فارس الشدياق، توجعاً يجعل جنبه لا يقر، وفؤاده منصدعاً للمصاب الذي كان كبيراً بحيث شعر أصحابه أنهم فقدوا به ما يفتقده الظامئ، حين لا يجد الماء للشرب أوان اشتداد حاجته إليه:

أبعد سمــــير الفضل أحمد فارس     تقر جنـــــوب أو يلائم مضجــــع
كفى حزناً أن النوى صــدعـت به     فــؤاداً من الحدثـــــان لا يتصدع
وما كنت مجزاعاً ولكن ذا الأسى     إذا لم يســــاعده التصبر يجـــزع
فقدناه فقدان الشــراب على الظما     ففي كل قلب غلة ليس تنــقع[11]

     وفي رثائه لأمه نجده محزوناً حزناً مراً عليها، فقد غالها الموت الذي لا يرحم، وكان يود أن تسلم ويموت بدلاً عنها، وحياته لا قيمة لها بعد خسارته لأمه التي فقدها كما يفقد الظمآن الماء العذب وقد ألح عليه الظمأ، وقد اشتد به الحزن لوفاتها شدة أمرضته، ولم يبق له منها إلا ذكرى تحزن وطيف يزور، لقد كانت له سروراً وبهجة خسرهما بوفاتها:

لعـــمري لقد غال الردى من أحبـــه
               وكــــان بودي أن أمـــوت ويســـلما
وأي حيــــاة بعـــد أم فقــــــــــدتهــا
               كما يفقد المرء الزلال على الظمــــا
تولـــت فولى الصبــر عني وعادني
               غرام عليـــها شف جسمي وأسقـــما
ولم يبـــق إلا ذكرة تبعــــــث الأسى
               وطيــف يوافيـــني إذا الطرف هوما
وكانت لعيــــني قـــرة، ولمهجــــتي
               سروراً فخاب الطرف والقلب منهما
فــلولا اعتقــــــادي بالقضاء وحكمه
               لقطعــــت نفسي لهفـــة وتندما[12]

     ويدعو البارودي لوالدته بالرحمة، وأن تشرب من الكوثر كأساً عذبة شهية، ويطلب من قلبه البكاء عليها لأن القلب أوفى للعهود، ويقسم لها إنه لن ينساها ما أشرقت شمس وما حن طير حتى يلقاها بين يدي الله:

سقتــــك يد الرضوان كأس كرامة
               من الكوثر الفياض معسولة اللمى
ولا زال ريحــان التحية ناضــــراً
               عليك وهفـــــاف الرضا متنســـما
ليبــــك عليك القلب لا العيـن إنني
               أرى القلب أوفى بالعهــود وأكرما
فو الله لا أنســـاك ما ذر شــــارق
               وما حن طيـــر بالأراك مهيــــنما
عليك ســــلام لا لقــــــاءة بعــــده
               إلى الحشر إذ يلقى الأخير المقدما

     ويفيض رثاؤه لعلي رفاعة الطهطاوي بالحزن الصادق العميق، وبالثناء المستطاب على الفقيد الكريم:

مضى وأقـمنـــــا بعــــده في مــــآتم
               عـلى الفضل نبـــــكيه بأحمر قــاني
فـــلا عين إلا وهي بالدمع ثــــــــرة
               ولا قــــلب إلا وهو ذو خفقـــــــــان
حفــــاظاً وإشفاقــــاً على متــــرحل
               خـــلت أربع من شخصـه ومغـــاني
فقـدنـــــاه فقــــدان الظماء شــرابهم
               بديمـــومة والـــورد لـيــــس بــداني
لعـــمري لقد هــــاج الأسى بعد فقده
               بنــــا لـوعــــة لا تنثـــــني بعنــــان
ضمـــان على قلبي صيـــــانة عهده
               وما خيــــر قلب لا يفي بضـــــــمان
لـقـــد كان خـــلاً لا يشان بغــــــدرة
               وصـــاحب غيــب طـــاهر وعيـــان
خـــلال يفوح المسك عنها محدثـــــاً
               ويثـــــني على آثـــــارها الملـــــوان
فلا غرو أن تدمى العيون أســـــــافة
               عليك ويرعى الحزن كل جنان[13]

     فالبارودي يصور عظم الكارثة التي حلت بوفاة المرثي، فشاع الحزن، وبكى الناس دماً أحمر قانياً عليه، ولا غرابة في ذلك فقد فقدوه أحوج ما يكونون إليه كما يفقد الظماء الماء وهم منقطعون في الصحراء. ويتعهد البارودي محمولاً بوفائه وأخلاقه أن يظل حافظاً عهد الفقيد الذي كان طاهراً في السر والعلن، متصفاً بأفضل الأخلاق التي تضوع كالمسك، ويثني عليها الليل والنهار، ولذلك لا غرابة أن يحزن عليه الجميع وأن تدمى عليه العيون والقلوب.

     ورثاء البارودي لأخته يصور تصويراً حياً حزيناً ألمه عليها، حيث نجد أن مقلته يذهب البكاء بها، وحين تنفد الدموع يسيل الدم، ذلك أن الشقيقة الفقيدة كانت نادرة في دينها وحيائها وعفافها وثقافتها وكانت تطارحه فنون البلاغة والإنشاء:

هي مقـــلة ذهب البكــــاء بمائها     مقذية والبيـــــــــن من أقــذائها
نفــــدت مدامعها فأعقــــــبها دم     تجـــــري سوابقه على أرجائها
تبكي لصورة عفة حجب الردى     عني براعة فضـــــلها وروائها
أخت وما الأخـــوات كن كمثلها     في دينــــها وعفافها وحيــــائها
ذهبت وأبقت في فــؤادي لوعة     تترقص الأحشـــاء من برحائها
كانت تطارحني فنــــون بلاغة     مصقولة الأطراف من إنشــائها
ماذا على الأيـــــام وهي بخيـلة     لو أنها سمحت لنـا ببقـائها[14]

     وحين رثى صاحباً له، اعتصره الحزن فأحسن وأجاد، وهو يثني على الفقيد من ناحية ويصف أحزانه من ناحية أخرى:

يــا فقيــد العـــــلم والوطــن     بنــت عن عيني ولم تبــــن
أنت في قــــلبي وإن ذهبـت     بــــك عني غـــــدرة الزمن
كيف لا يبــــــكيك ذو شجن     أنت منه موضع الشجـــــن
كان قـلبي للســـــــرور فمذ     غبــــت عني صار للحـزن
قد أشـــــت الدهر ألفتـنـــــا     ليت هذا الدهر لم يكن[15]

     إن الفقيد بان عن الدنيا لكنه لم يبن عن قلب الشاعر الذي يبكيه إذ عصف به الزمن، وقلب الشاعر الذي كان للسرور باجتماعه مع صديقه، صار للحزن بعد أن تمزق الشمل فمات الفقيد وترك الشاعر وحيداً يبكي فيه الألفة الزائلة.

     وهكذا يظل الصدق الذي عرف به البارودي في حياته بارزاً في شعره عامة وفي رثائه خاصة، وهو صدق مبعثه نفس وفية ترى الكذب عاراً والنفاق دناءة، ومبعثه أيضاً بكاء أقارب رحلوا، وأصدقاء ماتوا، زاد من فجيعة الشاعر بهم أن معظمهم حل بهم الموت وهو في المنفى فكانت المصيبة بهم مضاعفة.

     وهو صدق يجعله ــ وهو الفارس الأبي ــ لا يخجل من تصوير وقع الكارثة عليه وضعفه أمامها، ويجعله يسائل الدهر عن سبب جنايته على من يحب، ويدعو على البريد وحامله حين وافاه بغير ما أمل، ويحمل النسيم تحية حارة من سيلان إلى القاهرة، ويعاهد على دوام التذكر وطلب الرحمة، ويتمنى لو استطاع أن يكون الفداء لو كان إلى ذلك سبيل.

     هذا الصدق في حياة الشاعر وفي مواقفه، وفي شعره هو أمر يلمسه الدارس للبارودي حيث توجه، لذلك قرر الدكتور شوقي ضيف وهو يتحدث عن صدق التجربة عند البارودي أن ((شعر البارودي صورة صادقة لحياته وقومه وبيئته المصرية وكل ما ألم به من بيئات، وهو يروعنا بهذا الصدق الذي لا يشوبه تمويه، وهو صدق استتبع في قصيدته أن تكون تجربة فنية أحسها الشاعر وملأت جنبات قلبه وهي تجربة لا تزال أبياتها تتولد من نفسه متلاحقة، بيتاً من وراء بيت، حتى تتم القصيدة صورة لنفسه ومشاعره ... فالقصيدة تنفصل من ذات نفسه صورة صادقة أمينة كأجمل ما تكون الأمانة والصدق، وكان يشعر بذلك شعوراً عميقاً بل شعوراً متأصلاً في أطواء نفسه ... وحقاً لم يجر في نفسه شيء إلا صوره في شعره وجسده تجسيداً، وكأنه يقتطعه منها اقتطاعاً، وكانت نفساً خصبة، عمقت اتصالها بالحياة وكل ما أحاط بها اتصالاً زادها خصباً إلى خصب، وهو اتصال أعد لتطور واسع في شعرنا الحديث إذ وصله بحياتنا الواقعة وانطباعاتها المختلفة))[16].

     وقد يكون صدق البارودي في مراثيه أحد الأسباب التي جعلته مقلاً فيها، فهو لا يرثي إلا محزوناً منفعلاً، وبهذا نجا مما وقع فيه شوقي وحافظ إذ كانا يرثيان في بعض الأحيان، مدفوعين بالمجاملة أو المنافسة أو الرغبة في الظهور. يقول الأستاذ عمر الدسوقي:((ولم يرث البارودي إلا صديقاً أو قريباً، فلم يكن رثاؤه مفتعلاً أو من شعر المناسبات، وإنما كان منبعثاً من عاطفة صادقة))[17]، يضاف إلى ذلك أن معظم مراثي البارودي قالها في فترة النفي، وهو ما جعل عاطفته أكثر صدقاً وأشد انفعالاً، وقد ذكر ذلك الأستاذ عمر الدسوقي حيث قال:((ومما زاد رثاءه حرارة أنه قال معظمه وهو في المنفى فزاد في أساه لوعة النوى عن الوطن وحرمانه من التزود من الميت بنظرة أو حديث))[18].

وقد لاحظ الأمر نفسه الدكتور إبراهيم السعافين حيث قرر أن الرثاء عند البارودي كان ((غرضاً ذاتياً خالصاً، قصره على أصدقائه الأقربين وذويه الأدنين، كالزوجة والوالدين والأبناء والأصدقاء الخلصاء، ولم يؤثر عنه أنه رثى كما رثى شعراء البلاط، بل كان رثاؤه متصلاً بذاته لا يتعداها إلى المجاملة والتكلف، لهذا فإن هذا الغرض لم ينل حيزاً كبيراً في الديوان))[19].

     وهكذا يمكن للدارس أن يقرر أن صدق التجربة عند البارودي كانت أحد الأسباب الأساسية في قلة مراثيه حيث لم يرث إلا منفعلاً محزوناً، غير محمول بدافع من دوافع المجاملة أو المنافسة. وحين أشاد الدكتور عبدالقادر القط بالبارودي، ودوره التجديدي وتفوقه وريادته، جعل من ذلك ((التجربة الصادقة واللمسات الذاتية)). يقول: ((أما البارودي فقد أتاحت له موهبته وظروف حياته أن يؤدي دوره في حركة الإحياء تلك، على خير ما كان يمكن أن يؤدي في ذلك العصر، فشعره يكاد يشبه في نسجه ومعجمه وبناء عبارته وصوره وأخيلته شعر الكبار من شعراء العصر العباسي ... وهكذا اجتمع في شعر البارودي أسلوب، إن يكن قديماً فهو على أية حال جديد بالنسبة إلى عصره، متفوق كل التفوق بالقياس إلى عصور التخلف، وتجربة صادقة ولمسات ذاتية طالما افتقدها الشعر العربي في تلك العصور))[20].

-------------------
[1] الديوان 1/81.
[2] الديوان 1/81.
[3] الديوان 1/104.
[4] البارودي رائد الشعر الحديث، ص 122.
[5] الديوان 1/237.
[6] محمود سامي البارودي، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، القاهرة، 1967م، ص 165-166.
[7] الديوان 1/248.
[8] الديوان 2/111.
[9] الديوان 2/112.
[10] الديوان 2/111.
[11] الديوان 2/242.
[12] الديوان 3/394.
[13] الديوان 4/99.
[14] د. سامي بدراوي: أوراق البارودي، ص 70.
[15] المرجع السابق، ص 108.
[16] البارودي رائد العصر الحديث، ص 187 – 188.
[17] محمود سامي البارودي، ص 42.
[18] المرجع السابق، ص 42.
[19] مدرسة الإحياء والتراث، دار الأندلس، بيروت، ط1، 1981م، ص 173 – 174.
[20] الاتجاه الوجداني في الشعر العربي المعاصر، ص 25 – 26.

الأكثر مشاهدة