السبت، 29 يناير 2022

كرم العبد الفقير فوق كرم الغني الأمير

كرم العبد الفقير فوق كرم الغني الأمير

(1)
المنصور – رجل

الرجل: بارك الله فيك يا أمير المؤمنين.. لقد هدأت في عهدك الفتن، وسكنت الأمور، وطاب عيش الناس.

المنصور: لله الحمد على ما أولى وأنعم.

الرجل: إن عهدك يا أمير المؤمنين عهد خير وبركة، فقد قصمتَ ظهور الأعداء، وأذعَت العدل والأمن في الناس حتى اطمأنوا وفرحوا، وباتوا وهم يقولون: اللَّهمَّ احفظ علينا أمير المؤمنين أبا جعفر المنصور.

المنصور: اللَّهمَّ لك الحمد، اللَّهمَّ لك الحمد، أنت تعلم كم سهرتُ وقاسيتُ حتى هدأتِ البلاد، وطاب عيش العباد..

الرجل: إنك لمأجورٌ مشكورٌ إن شاء الله على ذلك.

المنصور: اللَّهمَّ مكِّن لي في الأرض أحكم بشرعك، وأجاهد في سبيلك.

الرجل: إن نعمة الله عليك يا أمير المؤمنين ضافية سابغة، فإنه قد مكَّن لك، وبسطَ سلطانك.

المنصور: صدقت أيها الرجل!.. لكنني لا يزال الأرق يعاودني ليلةً بعد ليلة.

الرجل: ولِمَ يا أمير المؤمنين!؟ حفظك الله ورعاك، هل من خارج!؟ هل من صاحب فتنة!؟ هل من عدو!؟

المنصور: لا.. ولله الحمد والشكر، لكن نفراً ممن كانوا لنا معادين معاندين وحاربونا أشد الحرب لا يزالون مختفين عن الأنظار.

الرجل "في لهجة متسائلة": فذاك الذي يقلقك يا أمير المؤمنين!؟

المنصور: إي والله.. ذاك الذي يقلقني.

الرجل: ما كان الأمر يستحق هذا كله.. قومٌ لا حول لهم ولا طَول متوارون خائفون.

المنصور: "في لهجة حازمة" لا.. غيرك يقولها.. إنَّ من ألقت إليه الأمة مقاليدها لا ينبغي له أن يستهين بخصم، فذلك ليس من الحزم في شيء.

الرجل: أما والله إن أمير المؤمنين لحازمٌ حقاً. "صمت قصير" ترى هل لي أن أعرف من هو الذي يشغل بالك؟

المنصور: إنه معن بن زائدة الشيباني. "صمت قصير" ذلك الذي كان سيفاً لبني أمية، وقاتَلنا أشد القتال.

الرجل: فإن الناس يعرفون يا أمير المؤمنين أنك طالب له، وما أرى إلا أن الظفر به قريب إن شاء الله.

المنصور: إن شاء الله. "في صوتٍ آمرٍ حازم" أعلِنْ عن جائزة كبيرة لمن يأتي بمعن.. وليكن رجالك طالبين له حتى يظفروا به.

الرجل: أمرُ مولاي.. في الحال أنفذ طلبك.. والله هو المسؤول أن يوفقنا إلى العثور عليه.

(2)
معن بن زائدة – مولى له

معن: كيف ترى الأمر أيها المولى الأمين؟

المولى: إن المسالك تنسدُّ في وجوهنا يا معن واحداً إثر الآخر.

معن: ولِمَ يا تُرى؟

المولى: إن الأمر قد توطد لأبي جعفر المنصور.

معن: صدقت.

المولى: وأنت تعلم ذكاءه ودهاءه، وحزمه ويقظته.

معن: إنه من ذلك على حظ كبير.

المولى: وقد أعلن عن جائزة كبيرة لمن يأتي بك أو يدل عليك.

معن: الله خيرٌ حافظاً وهو أرحم الراحمين. "صمت" بِمَ تشير عليَّ!؟ فإني أراك ناصحاً أميناً.

المولى: عسى أن أكون كذلك.

معن: بل أنت حقاً كذلك، لقد لازمتني ووفيت لي في أيام رخائي وأيام شدتي.

المولى: أرى أن تعجِّل في الخروج إلى البادية، فكثير من الناس يبحثون عنك طمعاً في الجائزة.

معن: هو ما عزمنا عليه من قبل.. ولعلي في هيئتي الجديدة أقرب إلى النجاة.

المولى: ولِمَ لا!؟.. وقد لبست جُبَّةَ صوفٍ غليظة، وخففتَ لحيتكَ وعارضَيْك، ومكثتَ في الشمس أياماً حتى تغير لونك؟

معن: إنما هي أسبابٌ نأخذ بها، وإنما النجاة من الله.

المولى: امض الآن إلى البادية حتى يَخِفَّ عنك الطلب.. واعلم أني باقٍ على الوفاء لك حيث تعلم.

معن: بارك الله فيك، وجزاك خيراً.. والله لئن رُزِقتُ الأمن والعافية من جديد ليكونَنَّ لك شأن عندي.. أي شأن!.

المولى: حفظك الله في حِلِّكَ وترحالك، ووفقك ورعاك.. اخرج إلى البادية راشداً محفوظاً.

معن: إني خارجٌ الآن.. السلام عليكم.

المولى "في صوتٍ هادئٍ حزين": وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. اللَّهمَّ احفظ معن بن زائدة، وارزقه الأمن والسلامة.

(2)
معن – رجل من شرطة المنصور أسود اللون

معن "في صوت هادئ": الحمد لله رب العالمين.. أحسب أني الآن في نجوة وأمن في هذه البادية إن لم يكن الرجل الأسود الذي ركب ناقته ورائي من جند المنصور أو عيونه.

"وقع خطى هادئة تبدأ خافتة، ثم تتضح شيئاً فشيئاً"

معن "في صوت هادئ": من هذا الذي يقترب مني يا ترى؟ "يسمع صوت الخطى".. أهو رجل لا شأن له بي أم واحد من عيون المنصور؟ "يسمع صوت الخطى" إن يكن نظري صادقاً فإنه الرجل الأسود نفسه. "وقع الخطى واضح"

الأسود "في لهجة هادئة حازمة": معن بن زائدة الشيباني.. أليس كذلك؟

معن "في صوت متردد": أوَما تلقي السلام أولاً يا رجل؟

الأسود: بلى.. بلى.. أصبت يا معن، وكيف لا ألقي السلام على معن بن زائدة الشيباني؟

معن "في صوت هادئ": اتق الله يا رجل، وأين أنا من معن؟

الأسود: بل أنت معن، أنت بُغيةُ أمير المؤمنين.

معن: لقد أخطأتَ يا رجل.. ومن أنا حتى يطلبني أمير المؤمنين؟

الأسود: دع عنك هذا يا معن، فأنا والله أعرف بك.. أنت معن بن زائدة الذي يطلبه أمير المؤمنين.

معن "بعد صمت قصير وفي لهجة إغراء": اسمع يا هذا.. إن كانت القصة كما تذكر فهذا جوهر حملته معي بأضعاف ما بذله المنصور لمن جاءه بي، فخذه ولا تسفك دمي.

الأسود: هاته أنظر إليه.

معن: خذه.. "صوت حركة شيء" ها هو بين يديك.

الأسود "بعد صمت قصير": لقد صدقت يا معن.. إنه لجوهر نفيس!.. ولست قابله حتى أسألك عن شيء فإن صدقتني أطلقتك.

معن "مسرعاً": قل..

الأسود: إن الناس وصفوك بالجود، فأخبرني هل وهبتَ مالك كله قط؟

معن: لا.

الأسود: فالنصف؟

معن: لا.

الأسود: فالثلث؟

معن: لا.

الأسود "بعد صمت": فما أكثر شيء وهبتَه من مالك!؟

معن: أظن أني وهبت العُشرَ منه.

الأسود: ما ذاك بعظيم، أنا والله راجل، ورزقي من المنصور عشرون درهماً، وهذا الجوهر قيمته ألف دينار وقد وهبته لك.

معن "مندهشاً": ها..

الأسود: ووهبتك لنفسك ولجودك المأثور بين الناس..

معن "مندهشاً": إنك والله لرجل.

الأسود: لتعلم أن في الدنيا من هو أجود منك، فلا تعجبك نفسك، ولتظل على جودك وكرمك بين الناس. انصرف راشداً محفوظاً، وكن شديد الحذر، فإن المنصور جادٌّ في طلبك.

معن "في صوتٍ مندهش ومُعجب معاً": يا هذا لقد فضحتني، ولسَفْكُ دمي أهونُ عليَّ مما فعلت، فخذ ما دفعتُه إليك فإني في غنى عنه.

الأسود "ضاحكاً": أردت أن تكذبني في مقامي هذا، فوالله لا آخذه، ولا آخذ لمعروفٍ ثمناً أبداً.. أستودعك الله يا معن.. احفظ وصاتي جيداً، وكن على حذر.
*****

السجين والموت والنجاة

السجين والموت والنجاة

(1)
مرداس في السجن – سجين آخر

"حديث مرداس تبدو عليه الرزانة والثقة، وحديث الآخر تظهر فيه الحدة والعصبية والقلق"

مرداس: اللَّهمَّ إننا نحمدك حَمْدَ الشاكرين في السراء والضراء.

الآخر "في صوت يبدو عليه الضيق": اللَّهمَّ عجّل لنا بالفرج، وخلصنا من هذا السجن، وأعِدنا إلى أهلنا سالمين.

مرداس: لا تقلق يا أخي، فوِّض الأمر لله، فهو أرحمُ بنا.

الآخر "في صوته القلق": إنني مفوضٌ أمري لله يا مرداس.. وإنما أنا أدعو وأجتهد في الدعاء.. "في عصبية" فهل في ذلك بأس؟

مرداس: لا.. ليس في ذلك بأسٌ قط.

الآخر: أما عرفنا أن الدعاءَ مُخُّ العبادة؟

مرداس: بلى يا أخي!.. فَلْأَدْعُ أنا.. وَلْتَدْعُ أنت أيضاً.. فذلك مما يرفع درجاتنا، لكنني أوصيك بالصبر.

الآخر "في ضيقٍ وعصبية": الصبر، الصبر، نحن في السجن على اجتهادِنا في العبادة، وحرصِنا على الطاعة، وعُبَيْدُ الله بن زياد وهو ظالمٌ آثم يفتكُ بنا كيفَ يشاء.

مرداس: إن الأمرَ لله يضعُه حيث يشاء.

الآخر: الأمرُ كلُّه حقاً لله يا مرداس!.. لكن هذا لا ينبغي أن يقودَنا إلى العجز والقعود.

مرداس: يَغفِرُ الله لك يا أخي.. لو كُنّا ممن آثرَ القعودَ لَما قُتِلَ مِنّا مَن قُتِلَ، وسُجِنَ مَن سُجِن.

الآخر "في حِدَّة وعصبية": لكن أليس مما يبعث على الحزن أن تنتهي الأمور إلى هذا الذي نحن فيه؟ أصحابُنا بين قتلٍ ومطاردة، وبين سجنٍ طويل الله يعلمُ نهاية هذا الذي نحن فيه.

مرداس: إنما علينا أن نصبر ونَثبُتَ على الحق.. وثباتنا هذا نصرٌ غير قليل، ثم لا تنسَ أن الله عز وجل جعلَ الابتلاء من نصيبِ من يحبُّهم الأمثلَ فالأمثل.

الآخر "في ضيق": إنني إنما أسأل الله العافية.

مرداس: لا تثريب عليك قط في هذا!.. فالرسول صلى الله عليه وسلم علَّمَ عمَّه العبّاس أن يسأله العافية، لكن إذا كان ابتلاءٌ فعلينا الصبر والثبات.

الآخر: اللَّهمَّ عجِّل بالفرج، اللَّهمَّ رُدَّنا إلى أهلينا ومساكنِنا، اللَّهمَّ فُكَّ عنا هذه القيود والأغلال.

مرداس: ما أحسن ما دعوت!.. لكن حذارِ أن يؤولَ أمرُكَ إلى اليأسِ يا أخي، وعليك بتلاوةِ القرآن، ومداومةِ الذكر.. وإن الله تعالى جاعلٌ للذي تراه فرجاً ومخلصاً.

(2)
مرداس – السجّان

"خطوات ثقيلة على الأرض.. أقفال تُقفَل.. أبواب حديدية تُغلَق.."

السجان "كأنه يناجي نفسه": واللهِ ما طابت لي هذه الوسيلةُ في الرزق، صباحي مع المساجين، ومسائي مع المساجين، والويلُ لي إن هرب مني أحد. عليَّ أن أتفقدَهم واحداً واحداً، وأنفذ وصايا الأمير في كلٍّ منهم كما طلب.. اللَّهمَّ هيِّئ لي عملاً كريماً سوى عملي هذا.

مرداس: "صوت مرداس يتلو القرآن الكريم في خشوعٍ ورقةٍ وحنان":

﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ* وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ* وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ [الزمر: 53-55].

"صوت مرداس يدعو في خشوع مؤثر":

اللَّهمَّ اغفر لي ذنوبي وخطاياي، وأسبِغ عليَّ ثوب رحمتك. اللَّهمَّ اجعلني من المنيبين إليك، الصادقين الخاشعين. اللَّهمَّ طهِّرني من الكذب والنفاق والرياء، واجعلني مُخْلَصاً لك، واجعل أمري كلَّه، دقيقَه وجليلَه خالصاً لوجهك الكريم يا الله يا أرحم الراحمين.

السجان "في صوت هادئ": إن مرداساً قد فتَّت قلبي، أدهشني والله اجتهاده في العبادة، وصبره وثباته.. "وقع خطى السجان يمشي على الأرض بهدوء".

السجان: كيف أنت اليوم يا مرداس؟

مرداس: الحمد لله رب العالمين، عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، إن أصابه خيرٌ شكر فكان خيراً له.. وإن أصابه شرٌّ صبر فكان خيراً له. اللَّهمَّ اجعلني مؤمناً شاكراً في السراء، صابراً في الضراء.

السجان: ها قد هدأ الليل، وخَلَتِ الشوارع، فاذهب إلى بيتك، وعُدْ إليَّ قبل الفجر، وحذار أن يراك أحد.

مرداس: بورك فيك، إنك واللهِ رجلٌ صالح.. شهورٌ مضت وأنت تُخرِجني من السجن وأنا أعود إليك.. أسأل الله جل شأنه أن يجزيك عني خير الجزاء.

السجان: أنت رجلٌ وفيٌّ، وأنا واثقٌ بك، ولو أنك أردتَ الهرب لكان ذلك بوسعك، لكنك تعود دائماً.

مرداس: ما كان للمسلم أن يَغدُر، إني عائدٌ إليك أياً كان الأمر.

السجان: اخرج، اخرج مُصاحَباً محفوظاً. دعني أفتح الباب، "بابٌ يفتح"، وأفك هذه القيود "قعقعة" امضِ يا مرداس.. واذكرني باللّه عليك في صالح دعائك.. عجِّل فما ثَمَّةَ عينٌ ترانا الآن.

(3)
مرداس – زوجته

"مرداس يتحدث هادئاً ثابتاً رزيناً، والزوجة حديثها مضطرب منفعل يختلط أحياناً بالبكاء"

الزوجة "بصوت غاضب منفعل": وكيف تعود إلى سجنك يا مرداس؟

مرداس: إن الفجر قد اقترب، ولا بد لي من الرجوع.

الزوجة: لكن الأمر هذا اليوم مختلف.. إن عُبَيْدَ الله بن زياد قد أمر بقتلكم جميعاً صباح هذا اليوم.

مرداس: ما كان المسلمُ لِيَغدُرَ أو يخون.

الزوجة: أتلقي بنفسك إلى الموت؟

مرداس: يقضي الله ما يشاء.. لقد أحسن السجان لي، فمنذُ زمنٍ وهو يتركني آتي إلى داري وأعودُ إليه قبل الفجر، فهل أقابلُ ذلك بالغدر؟

الزوجة "باكية": لكن الحال الآن مختلفٌ يا مرداس، كنتَ تعودُ كل يومٍ إلى السجن، أما اليوم فأنت عائدٌ إلى القتل.

مرداس: لن أغدُرَ قط.

الزوجة "باكية": أما قلت لك: إن ابن زياد قد أمر بقتلكم جميعاً هذا الصباح؟

مرداس: بلى.

الزوجة: فكيف تعودُ إلى السجن؟

مرداس: لن أغدُرَ برجلٍ لا أعرفُه، فكيف بهذا السجّانِ الذي أحسنَ إلي؟

الزوجة: "تبكي"..

مرداس: أنا الكَمِيُّ وتأبى الغُرُّ من شِيَمِي نُكْرانَ نعمةَ مَن أسدى إليَّ يدا.

الزوجة: "تجهش بالبكاء"

مرداس: ما كنتُ لأغدر!.. ما كنتُ لأغدر!.. إني عائدٌ إلى السجن، والله يقضي ما يشاء.

(4)
مرداس – السجّان

السجان: واللهِ إنكَ لرجلٌ كريم يا مرداس.. عُدْتَ إليَّ لأضعَ في يدك القيود وأنت تعلم أن ابن زياد قد أمر بقتلكم.

مرداس: ما كان المسلمُ ليخون.. يقضي اللهُ ما يشاء.. وإني راضٍ بقضائه.. حسبيَ الله ونعمَ الوكيل.

السجان: لقد أدهشني أمركَ يا مرداس!.. والله لَأفضِيَنَّ بما كان منكَ لابن زياد.

مرداس: أما تَحْذرُهُ على نفسِك؟

السجان: بلى والله.. إنه لظلومٌ غشوم.. لكني واللهِ قد أعجبني ما فعلت، ولأبذلنَّ جَهدي كلَّه لاستنقاذِك، وعسى أن يُعْجِبَهُ ما فعلتَ فيعفوَ عنك.

(5)
ابن زياد – السجّان

السجان "يتحدث بحماسةٍ وقلقٍ ورجاء": هذه قصة مرداسٍ معي أطال الله بقاءك أيها الأمير!.. لقد كان وفياً معي إذ عادَ وهو يعلمُ أنه القتل.. ولقد كنتُ وفياً معك إذ جَلَوْتُ لك حقيقة الأمر.. وأنت حفِظك الله أجدرُ مِنّا بالمكرُماتِ فَهَبْ مرداساً لي، واعفُ عنه جزاك الله خير الجزاء.

ابن زياد: واللهِ إن أمر مرداسٍ لعجيب!.. وإنَّ صِدْقَكَ معي لمكرمة، ولن أكونَ ألْأَمَ الثلاثة. اذهبْ فقد وهبتُ مرداساً لك.. ولكن حذارِ أن تعودَ في قابلِ الأيام إلى مِثلِ ما فعلت.
*****

معروف قتيبة ووفاء الأسير

معروف قتيبة ووفاء الأسير

(1)
الحَجّاج – قتيبة – رجل

الحجاج: ما رأيت شيئاً كالسيف يطفئ نار الفتن، ويقمع العُصاة.

قتيبة: لقد كنتَ دواء العراق.. لقد أصاب أميرُ المؤمنين حين اختارك لأرض الفتن والعصيان.

رجل: لقد ذاع صيتك بين الناس.. حتى إن ذُكِر بينهم اسم الحجاج دخلتهم الرهبة والخوف.

الحجاج "في قوة واعتزاز": أنا أمضى سهم في كنانة أمير المؤمنين.. لقد وطّأتُ له العراق فهو هادئ آمن..

الرجل: وضعتَ لقومك بني ثقيف مجداً مؤثلاً حتى إن الواحد منهم ليشمخ بأنفه، ويدّعي أنه قريب لك وإن بَعُد.

الحجاج "يضحك ويتحدث في غرور وقوة": إنني الحجاج بن يوسف الثقفي، أعظم ولاة بني أمية، ليس فوقي سوى أمير المؤمنين.

"بعد صمت قصير وفي صوت آمِر"

الحجاج: ما فعلتم بالعصاة الذين أسرناهم؟

الرجل: أنفذنا فيهم أمرك أيها الأمير.. قتلناهم.

الحجاج "آمراً": جميعاً؟

الرجل: بقي منهم واحد حين أقيمت صلاة المغرب.

الحجاج: يا قتيبة..

قتيبة: خيراً أيها الأمير؟

الحجاج: انصرف بهذا الرجل حتى تغدو به عليَّ في الصباح.. ليلحق إذ ذاك بغيره من العصاة والمتمردين.

قتيبة: كما تحب أيها الأمير.

(2)
قتيبة – الأسير

قتيبة: ويحك أيها الرجل!.. كيف خرجت على الحجاج وأنت تعرف صرامته وقوته!؟

الأسير "في صوت مستعطف": يا أيها الأمير!.. يا قتيبة بن مسلم!.. والله لأصدقنك، إني والله ما خرجت على المسلمين، ولا استحللت قتالكم، ولكن ابتُليتُ بما ترى.

قتيبة: أين تفرُّ من سيف الحجاج وقد وقعت بين يديه؟

الأسير: أطال الله بقاءك.. والله ما كذبتك قط.

قتيبة: غداً ألقِ بعذرك بين يدي الحجاج.

الأسير "حزيناً": سيكون السيف أسبق إليَّ. "صمت" هل لك في معروف؟

قتيبة: قل ما تشاء.

الأسير "مستعطفاً": عندي ودائع وأموال.. فهل لك أن تخلي سبيلي، وتأذن لي حتى آتي أهلي وأرد على كل ذي حق حقه وأوصي، ولك عليَّ أن أرجع حتى أضع يدي في يدك.

قتيبة "ضاحكاً": أتريد مخادعتي أيها الرجل!؟.. امضِ معي، وغداً أذهب بك إلى الحجاج، وإني من أمرك لبريء.

الأسير: "يبقى صامتاً".

"وقع خطى على الطريق"

الأسير "في لهجة استعطاف": أيها الأمير، إنني أعاهدك باللّه القوي العظيم أن أعود إليك قبل الفجر.

قتيبة "في صوت هادئ": تعاهدني باللّه القوي العظيم، تعاهدني باللّه القوي العظيم.. ماذا أنت فاعل إن ذهبت؟

الأسير: أذهب إلى أهلي فأوصي وأردُّ الودائع.

قتيبة "في صوت هادئ": فاذهب أيها الرجل، ولا تنسَ أنك عاهدتني باللّه.

الأسير "فرِحاً": بارك الله فيك وجزاك خيراً.. والله لأعودنَّ إليك ولن أخون.

(3)
قتيبة – زوجته – الأسير

"الحديث بين قتيبة وزوجته، يظهر عليه الحزن والندم"

الزوجة: ويحك يا قتيبة! أمِثلُك يفعل هذه الفِعلة!؟

قتيبة: دعيني من لومك يا امرأة!.. والله ما ملكتُ نفسي إذ قلتُ له: اذهب، وإنه قد عاهدني باللّه القوي العظيم.

الزوجة: وهل له عهدٌ إن كان خائناً؟ "تتحسر" آه.. إن زَلَّة الأريبِ كبيرةٌ حقاً.

قتيبة: سبق السيفُ العذل.. "في صوتٍ ضارع": اللَّهمَّ رد لي هذا الأسير فإنما تركته لأنه عاهدني بك يا رب.

الزوجة: ها قد كاد الفجرُ ينبلِج وصاحبك لم يأتِ بعدُ يا قتيبة.

قتيبة: فوّضتُ أمري لله..

الزوجة: أنت تعلم كم أحسن الحجاج إليك.. كيف تفعل معه هذه الفِعلة!؟ كم حاسدٍ لك وشانئٍ ومُبغضٍ سوف ينتهِزُها ليُغيِّر قلب الحجاج عليك!..

قتيبة: اللَّهمَّ لا تخيِّب فراستي في هذا الأسير.

الزوجة "في ضجر وحزن": يا لها من ليلة طويلة!.. ويا له من هَمٍّ ثقيل! تُرى كيف ستغدو إلى الحجاج وحدك في الصباح وقد تركتَ الأسيرَ يُفلِت من بين يديك!؟

"الباب يُطرَق بشدة"

قتيبة "بسرعة": ترى أيكون هو؟ "وقع خطاه على الأرض"

الزوجة "ضارعة": اللَّهمَّ اجعله أسير قتيبة.. "الطَّرْق يتوالى"

قتيبة: "وقع خطاه على الأرض، ثم صوت الباب يفتح"..

الأسير: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

قتيبة "فرِحاً": وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.. والله إنك لرجل شريف، وإن فيك لموضعاً للصنيعة والإحسان، وإنني غير تاركٍ إياك، يقتلك الحجاج دون أن أكلمه فيك.

الأسير: جزاك الله خير الجزاء.. ودَّعتُ أهلي، وأدَّيتُ الودائع، وأوصيتُ وصلَّيتُ واستغفرت، وها أنذا الآن معك.

قتيبة: إنك رجل حُر، وإن فيك موضعاً للصنيعة، الحمد لله الذي لم يخيِّب فراستي فيك.

(3)
الحجاج – قتيبة

قتيبة: وهكذا أيها الأمير -أطال الله بقاءك- عاد الرجل إليَّ، وكان بوسعه أن يهرب.

الحجاج: إن أسيرك يا قتيبة رجلٌ حُرٌّ والله!..

قتيبة: إي والله أيها الأمير، لقد قال لي حين عاد: لقد جعلت لك عهد الله عليَّ، أفأخونك ولا أرجع؟

الحجاج: ما كان الحرُّ ليغدر أو يخون.. أتريد أن أهبه لك يا قتيبة؟

قتيبة: إي والله أيها الأمير، إنك أهل للعفو، وإنه أهل للصنيعة والإحسان..

الحجاج: هو لك فانصرف به معك.

قتيبة: بارك الله فيك، وأطال بقاءك.. كانت ليلةً ما أطولها!.. أعقبت صباحاً ما أحسنه!.. الحمد لله الذي وفَّقنا نحن الثلاثة إلى هذا الخير العظيم.
*****

المسلم الأسير ورستم قائد الفرس

المسلم الأسير ورستم قائد الفرس

رستم – جالينوس – حاجب – رجل مسلم

رستم: إن يزدجرد رجل قليل التجربة والخبرة.. "في ضيق وتأفف" أقسمُ بالنار أنه ليس أهلاً لحكم فارس.

جالينوس: صدقت يا رستم.

رستم "في ضِيق": آه.. آه.. لو لم يكن هؤلاء المسلمون في حربٍ معنا لكان لي مع يزدجرد هذا شأن آخر.

جالينوس: هوّن عليك يا رستم.. أنت بطل فارس، وأنت فارسها المؤمل، وبلادنا اليوم يكاد يجتاحها هؤلاء المسلمون الغزاة.. فدع عنك يزدجرد فأمامنا اليوم ما هو أخطر.

رستم: ويحك يا جالينوس.. إنني اليوم بين نارين. يزدجرد وَلّاني قتال هؤلاء المسلمين.. لكنه ما زال يلاحقني برسائله وأوامره.

جالينوس: إنه يود الإسراع في مقابلة المسلمين في معركة فاصلة.

رستم: هو رجل لا علم له بالحرب.. وأنا أريد أن أطاول هؤلاء، فليس من صالحنا لقاؤهم الآن.

جالينوس "في لهجة متسائلة": فذلك الذي أهمّك يا رستم؟

رستم: هو ذاك يا جالينوس، نار يزدجرد من ورائي، ونار المسلمين يقودهم سعد بن أبي وقاص من أمامي.

جالينوس: أنت أمل فارس في محنتها اليوم، فدع عنك ما يؤذيك، فثمة معركة ضارية تنتظرنا في القادسية.

رستم "محزوناً": يزدجرد أكل قلبي، فهو يلاحقني بأوامره من المدائن.. وعُمر أكل قلبي هو الآخر.. إنه مقيم في المدينة ويسرب إليّ هؤلاء المقاتلين الشجعان.

جالينوس "في احتقار": أهؤلاء مقاتلون؟ أهؤلاء شجعان؟ لا يا رستم!.. نحن أبناء فارس أقوى منهم وأعظم.

رستم: ليس حكيماً يا جالينوس من استهان بقوة أعدائه.

جالينوس: أما تذكر شأن هؤلاء يا رستم قبل سنوات قلائل؟ لقد كانوا أشقى الأمم حظاً.

رستم: صدقت.. لقد كانوا كذلك.

جالينوس: كان الذي يُوفَّقُ للقدوم إلى بلادنا في تجارة أو زيارة يعدُّ نفسه صاحب حظ عظيم.

رستم "في ضيق": صدقت.. صدقت.. كانوا.. كانوا.. كانوا.. انظر إليهم اليوم يا جالينوس.. أما اقتحموا على هِرَقْل ديار الشام!؟

جالينوس: بلى.

رستم: أما هزموا جيوشه الجرارة وهو الإمبراطور المظفر الذي هزمنا قبل سنوات قليلة وكاد يقتلع فارس من أصولها!؟

جالينوس: بلى.

رستم: أما مضت عليهم ثلاث سنوات وهم يجوسون خلال ديارنا يقتلون ويأسرون؟

جالينوس: بلى.

رستم: إنَّ لهؤلاء شأنا جديداً في يومنا هذا..

جالينوس "في ازدراء": لا تعظِّم شأنهم يا رستم.

رستم "في صوت هادئ حزين": بل أنت لا تُحقِّر من شأنهم يا جالينوس.. وددتُ لو عرفتُ كيف حدث في هؤلاء مثل هذا التغيير الكبير..

جالينوس "في صوتٍ متردد": أأصارحكَ يا رستم؟

رستم: أجل.. الصراحة خيرٌ لي ولك.. وأنت عندي محل ثقة يا جالينوس من بين قادة جيشي هذا.. فقل ما شئت.

جالينوس: إن يسمع جيشك هذا الذي تقول، ينكل عن القتال.. لأنه سيزدري نفسه، ويهول من أمر المسلمين.

رستم "في صوته الهادئ الحزين": لقد نصحتني فصدقتني يا جالينوس.. وأنا سوف أصدقك كذلك.

جالينوس: شكراً لك.. أرجو أن أكون عند حسن ظنك.

رستم: لقد ألقِيَ في خلدي أن الهزيمة سوف تحل بنا..

جالينوس "في استنكار": لا.. يا رستم.. لا.. غيرك يقول ذلك.

رستم: إنَّ لهؤلاء المسلمين نيةً في القتال صادقة أمضى من عَددنا، وأقوى من عُددنا.

جالينوس: ما أراك إلا قد بالغت يا رستم.

رستم: لماذا نحن نتجادل هكذا؟ فلنحضر الأسير المسلم الذي طلبت منك ومن آزاذ مرد أن تأتياني به ولنتحدث معه.

جالينوس "في صوتٍ عالٍ": أيها الحاجب.. أيها الحاجب!..

"باب يُفتَح – وقع خطى"

الحاجب: أمر مولاي..

جالينوس: سيدك رستم يريد إحضار الأسير المسلم الذي من الغرفة المجاورة.

الحاجب: في الحال يا مولاي.. "خطاه ينصرف.. الباب يُغلَق"

جالينوس: حين طلبتَ أن نأتيك برجل من جند سعد ركبت بنفسي ومعي آزاذ مرد في مئة رجل.. حتى انتهينا إلى القادسية فوجدنا واحداً من جند المسلمين منفرداً فاختطفناه وعُدنا به سريعاً، ولم يتمكن الأعداء من اللحاق بنا.

رستم: أنت عندي يا جالينوس أحب قوّادي إليَّ، وإني لأضع بين يديك ما أقتنع به ما لا أضعه لدى الآخرين..

"الباب يُفتح.. خطى رجلين وصوت سلاسل"

الحاجب: هذا هو الأسير يا مولاي..

رستم: فك قيوده أيها الحاجب وانصرف..

الحاجب: أمر مولاي.. "قعقعة القيود وهي تُفَكُّ.. خطى الحاجب.. الباب يُفتح ويُغلَق"

رستم "في همس": نحن وحدنا مع هذا الأسير يا جالينوس.. وسنحاول معرفة ما الذي في نفوس جيش سعد من حديثنا معه.

رستم: من أنت أيها الرجل؟

المسلم "في صوت تظهر عليه القوة والثقة خلال الحديث كله، وحتى نهاية المشهد": رجلٌ من عامة المسلمين.

رستم: أتدري أين أنت الآن؟

المسلم: أسيرٌ بين أيديكم.

رستم: أنت الآن تُحدِّث "يفخم الكلام" رستم بطل فارس..

المسلم: أنت رستم إذن قائد جيش الفرس..

رستم: اسمع أيها الرجل.. واصدقني في الحديث.

المسلم: لأصدُقنَّك في الحديث كائناً ما كان الأمر.

رستم: ما جاء بكم؟.. وماذا تطلبون؟

المسلم: جئنا نطلب موعود الله.

رستم: وما هو.. "في هزء" هذا الموعود الذي جئتم تطلبون؟

المسلم: أرضكم وأبناءكم ودماءكم إن أبيتم أن تسلموا.

رستم "في هزء وبلهجة متسائلة": فإن أسلمنا؟

المسلم: إن أسلمتم فنحن منكم وأنتم منا.. لكم ما لنا وعليكم ما علينا.

رستم "في هزء": وإن أبينا؟

المسلم: أنتم عندها بين أمرين، إما القتال وإما الجزية.

رستم: وما الجزية؟

المسلم: مالٌ تدفعونه لنا، وتأمنون على دياركم وأموالكم.

رستم "غاضباً": نحن ندفع لكم مالاً؟! "يقهقه ساخراً" ها.. ها.. ها.. "بعد صمت قصير" فإن أبينا؟

المسلم: ليس أمامكم سوى القتال.

رستم: فإن قُتِلتم؟

المسلم: في موعود الله أن من قُتِل منا أدخله الله الجنة، وأنجز لمن بقي منا ما قلت لك.

رستم "ساخراً": هكذا إذن..

المسلم: أجل نحن على يقين.

رستم "ساخراً": قد وُضِعنا في أيديكم إذن؟

المسلم: ويحك يا رستم.. إن أعمالكم وضعتكم فأسلمكم الله بها، فلا يغرنك ما ترى حولك.. فإنك لست تجاول الإنس، وإنما تجاول القضاء والقدر..

رستم "غاضباً صارخاً: القضاء والقدر.. القضاء والقدر.. لأدفننَّكم في القادسية غداً.

المسلم: بل نحن سوف نفعل إن شاء الله.. وما أحسبك ستعود حيّاً إلى بلادك يا رستم.

رستم "صارخاً غاضباً": أيها الحرس اقتلوا هذا الرجل.. اقتلوه..

المسلم: لك الحمد يا رب رزقتني الشهادة في سبيلك.

"ضجّة.. وقع خطى كثيرة.. قعقعة سلاح.."

رستم: خذوا هذا الرجل فاقتلوه..

الحاجب: أمر مولاي.. "يخرج ويخرج المسلم وتهدأ الضجة"

رستم "بعد صمت، وفي صوت حزين": أرأيت يا جالينوس إلى هذا الرجل وهو من عامة جندهم!؟

جالينوس: أجل رأيت يا رستم..

رستم: إن الهزيمة ستحل بنا في القادسية.. سأدخل هذه المعركة كارهاً يا جالينوس طاعةً ليزدجرد الذي أكل قلبي بأوامره..

جالينوس: نحن أكثر عدداً، وأقوى عُدة يا رستم.

رستم "في هدوء حزين": لكن هل فينا مثل هذا الرجل الذي هو من عامة جيش سعد؟.. عمر أكل قلبي بهذا الجيش الذي أرسله.. وما أحسب إلّا أن شمس فارس قد آذنت بالغروب، وبدأ فجر هؤلاء المسلمين.
*****

الجمعة، 28 يناير 2022

العفو عن أبي دلف العجلي

العفو عن أبي دلف العجلي

(1)
الأفْشِين – تابع له

الأفشين "في صوت ينم عن الحقد والتشفي": أخيراً وقعَ أبو دُلَف بين يدي.. هيه.. ما أصغَرك في الحديد.. وأحقرك يا أبا دلف!.

التابع1: أطال الله عمرَ مولاي الأفشين، ما زلتَ تسعى بأبي دُلفٍ عند المعتصم حتى وقعَ بين يديك جزاءً لسوء صُنعه.

الأفشين: ذلك ليعلمَ أنه ليس لي بِنِدٍّ. "في صوتٍ عالٍ" تباً له! لقد كان يحسبُ نفسه كُفْؤاً لي، وكان يساوِرُني ويغالبني، وما درى أنه ليس اليوم من هو أعظمُ مني سوى المعتصمِ أمير المؤمنين.

التابع1: إن وقوع أبي دلف بين يديك سيزيد من قوَّتِكَ وسطوتِكَ يا مولاي.

الأفشين: وكيف؟

التابع1: سيزولُ من طريقك أكبرُ منافسيك وأشدُّهم قوة.

الأفشين: صدقت.

التابع1: وسوف يُفكرُ كبارُ القادةِ والولاةِ عشراتِ المراتِ قبل أن تطمحَ أنفُسُهم إلى مُساماتِكَ ومنافستِك.

الأفشين "فرِحاً": صدقت، صدقت.

التابع2: وسيعلمُ الناسُ كلُّهم منزلتك عند أمير المؤمنين فيخافونك ويهابونك.

الأفشين: صدقت، صدقت. "في صوت الحاقد" سأمتعُ نظري بك يا أبا دلف.. "يهدأ صوته ويصبح يصرّ على مخارج الحروف ويخرج الجُمل بهدوء كأنه يتلذذ بها" منظرُكَ في القيود، والحرّاس يسوقونك، مِشْيَتُك وأنت زائغُ البصر، وقوفُكَ بين يديّ وأنت ذليل صاغر، رأسك وقد أطاحَ به الجلّاد، دمُك وقد سال على النِّطْع. "صمت قصير يضحك بعده ضحكاً غليظاً".

التابع1: إن هذا اليومَ من أيامِ سعادتك يا مولاي، جعلَ الله أيامك كلَّها سروراً وبهجة.

الأفشين: هل كل شيء مُعَد؟

التابع1: أجل. أبو دُلَف أسيرٌ مقيَّد، والسيَّافُ ينتظرُ إشارتك.

الأفشين: أحسنتم صنعاً. هيَّا بنا الآن لنشهدَ نهاية هذا المنافس العنيد.
***

(2)
أبو دُلَف – الأفشين – التابع – أحمد بن أبي دُؤَاد

الأفشين "في صوت عالٍ ساخر": كيف أنتَ اليوم يا أبا دلف؟ لعلك سعيدٌ مرتاح البال.

أبو دُلَف "في صوت هادئ": الحمدُ لله تعالى، له الحمدُ في السرَّاء والضرَّاء.

الأفشين: أرأيت عاقبةَ أفعالك؟ أرأيت أين انتهى بك كيدُكَ لي ومنافستكَ إياي؟

أبو دُلَف: لِصَوْتِكَ أن يعلو على صوتي، فأنا مقيَّد أنتظرُ القتل، وأمري الآن بينَ يديك.

الأفشين: ألستَ بنادمٍ على سوءِ صنيعك؟

أبو دُلَف: ما فعلتُ ما أندمُ عليه، وأعمالي كلُّها بيضاءُ نقية.

الأفشين "ساخراً": لعلك صدَّقتَ أقوالَ الشعراء فيك، فَخِلْتَ نفسَك كما يزعمون.

أبو دُلَف: أنا أدرى بنفسي منك ومنهم.

الأفشين "ينشد في سخرية":

إنما الدنيــا أبو دُلَــف بينَ باديهِ ومُحْتَضَرِهْ
               فإذا ولَّى أبو دُلَف ولّت الدنيا على أثَرِهْ[1]

الأفشين: هكذا كانوا يُنْشِدونك ويقولون فيك، أليس كذلك!؟

أبو دُلَف: مهما تسخر مني فلن تضرّني، الناس يعرفون من هو أبو دُلَف.

الأفشين: أيها المغرور!.. أيها السفيه!.. انظر نظرةَ وداعٍ إلى الدنيا قبل أن يهوي عليك السيف، ليرتاحَ الناس من ظلمِكَ وأذاكْ.

"الباب يقرع ثم يدخل التابع"

التابع3: السلامُ على مولاي الأفشين.

الأفشين: وعليكم السلام أيها التابعُ الأمين.

التابع3: بالبابِ أحمدُ بن أبي دُؤَاد يريدُ الدخول

الأفشين: قل له: إني الآن مشغولٌ، فليعدْ فيما بعد.

التابع3: قلت له ذلك فأبى يريد أن يدخل.

الأفشين "في صوتٍ عالٍ غاضب": لن يدخل.

أحمد "الباب يفتح ويغلق، صوت خطاه، يتحدث بصوت عالٍ": بل لَأدْخُلَنْ.. "صوت خطاه".

أحمد: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أَمِثْلي يُمْنَعُ من الدخول يا أفشين؟

الأفشين: لا.. لا.. لكني أردت أن أَفْرُغَ من أمر أبي دلف.

أحمد: اسمع أيها القائد الشجاع، إنه لا شيء كالعفوِ يُكْتَسَبُ به الثواب، وتُمْحَى به الأحقاد، وتُنَالُ به حُسْنُ الأحدوثة.

الأفشين "غاضباً": لا.. لا.. ليس ثمةَ سبيلٌ للعفو عن أبي دلف.

أحمد "في صوت هادئ": يا أفشين!.. لا يحمِلنَّك الغضب على أمرٍ ربما ندمتَ عليه.. ومثلُكَ على عداوته لأبي دلف لا يخفى عليه فضلُ الرجلِ وشجاعته وجودُه.

الأفشين: مضى وقت العفو يا أحمد، ولا بدَّ من القتل.

أحمد "في صوت هادئ يحاول به استرضاء الأفشين": ليس هناك وقتٌ للعفو يمضي، إنه من مكارم الأخلاق، وبوسعك أن تعفوَ الآن يا أفشين لتنطلقَ ألْسُنٌ بالدعاء لك، سوف تنطلق بالدعاء عليك إنْ كانت الأخرى.

الأفشين: لا.. لا.. لا بدَّ من قتل أبي دلف، ليكونَ في ذلك عظةٌ لكل شانئ.

أحمد "في هدوئه": اسمع يا أفشين، اعفُ عن أبي دلف، ولتكُنْ لك قِلادةٌ في عنقي أكافئك عنها في قابل الأيام.

الأفشين "صارخاً": لا.. لا.. لن أعفو.

أحمد "صارخاً": بل لتَعفُوَنَّ وأنت كاره.

الأفشين "غاضباً": ويحكَ أتعلم ما تقول!؟

أحمد "غاضباً": أعلم جيداً. اسمع يا أفشين، إلى متى أستعطفُكَ وأسألُكَ وأنت تأبى؟ إني رسولُ المعتصم إليك، يأمرُك ألّا تُحْدِثَ بأبي دلف حدثاً، وإن مسَّه سوءٌ أو قُتِل فإنه قاتِلُكَ به.

الأفشين: "وقد هدأ صوته" ماذا.. ماذا تقول؟

أحمد: الذي سمعت. اشهدوا أيها الحضور أني قد بلَّغتُه رسالةَ أمير المؤمنين، وأبو دُلَف حيٌّ معافى. "غاضباً": إني منصرفٌ الساعةَ إلى أميرِ المؤمنين. "صوت خطاه على الأرض بسرعة، الباب يفتح ويغلق في عنف"

رجال "همهمة": نعم.. نعم.. نشهد.

(3)
أحمد – المعتصم

أحمد: يا أميرَ المؤمنين، حفظك الله ورعاك، لقد أقدمتُ على أمرٍ عظيم، عسى أن يَسَعَهُ حِلْمُكَ وجودُك أطالَ اللهُ بقاءك.

المعتصم: وما ذاك يا ابنَ أبي دؤاد؟

أحمد: دخلت على الأفشين وهو يقرِّعُ أبا دلف ويشتمُه، وأبو دُلَف مقيّد، والسيّافُ ينتظر الأمر ليقتلَه، فاستعطفتُ الأفشين لعله يعفو فأبى، فلما رأيتُ عنادَه زعمتُ له أني رسولٌ من عندك..

المعتصم "في لهجة متسائلة": رسولٌ من عندي؟

أحمد: أجل!.. قلت له: إني رسولُ أمير المؤمنين إليك، وهو يأمرُكَ ألّا تُحْدِثَ بأبي دلف حدثاً، وإن مسَّه سوءٌ أو قُتِل فإنه قاتِلُكَ به.

المعتصم: ويحك! وما حملَكَ على ذاك؟

أحمد: حملني ما عرفتهُ من حلمِكَ يا أمير المؤمنين، فأطمعني ذلك، فزعمت للأفشين ما زعمت لأنقذَ أبا دلفٍ من القتل. وإني لعظيمُ الرجاء ألّا تردَّني، وأن تقبل شفاعتي في أبي دلف.

المعتصم: والله إن ما فعلتَ لعظيم، زعمتَ أنك رسولي إلى الأفشين.. إنها جرأةٌ كبيرة عليّ، أليس كذلك؟

أحمد: أجل، هو كذلك، لكنَّ حلمَكَ أعظمُ منه يا مولاي.

المعتصم: فقد قبلتُ شفاعتك يا أحمد، وسوف أرسل الساعةَ إلى الأفشينِ مَنْ يكفُّ يدَه عن أبي دلف.
*****
--------------
[1] ينسب إلى الشاعر أبي الحسن بن علي بن جبلة الخراساني، ويلقب: بالعكوك.

الاثنين، 24 يناير 2022

جود عرابة الأوسي

جود عرابة الأوسي

     كان الرجل يتحدث عن جودٍ قَلَّ أن وُجِدَ له مثيل، جودٌ يدل على صفاءِ نفس، ومضاءِ عزيمة، وثقةٍ باللّه عز وجل لا تشوبها شائبة.

     كان يتحدث وهو واثق أنَّ قصة ما عرفه من كرم عرابة الأوسي إنما هي حادثة نادرة، ستشد إليها الأعناق، وتجذب إليها الأسماع، وتنتزع الإعجاب الكبير المثير.

     ولم يكن الرجل يصول في غير ميدان، أو يحارب إذ لا فرسان، بل كان في حلبة سبقه إلى الحديث فيها صاحبان له، واحد يروي قصة كرم عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وواحد يروي قصة كرم قيس بن سعد بن عبادة. وقد وقف هذا الصاحبان فجاء كل منهما في حديثه بالرائع المعجب. وإذن.. فإن الأمر خطير، وإذن.. فإن التنافس جدي، فالفرسان كرام، والسباق حاد عنيف.

     وقف الرجل يتحدث عن كرم عرابة الأوسي، بعد أن سبقه إلى الحديث صاحباه.. لكنَّ علائم الثقة كانت بارزة عليه.. وقف وقال:

     مضيت إلى عرابة، فوجدته قد خرج من داره إلى الصلاة، وإذا هو كفيف لا يبصر.. وإذا هو يتوكأ على عبدين له.. هما جناحاه يستعين بهما حيث يذهب، وحيث يعود.

     وحين شاهدت هذا المنظر، اشتدت بي الدهشة، وتملكني إحساس حار بالعطف والرثاء على هذا الرجل النبيل الذي لم تكد الأيام تُبقي له ما يستعين به.

     كادت قواي تتلاشى، وكاد وعيي يزول، ذلك أن الحزن استبد بي لمنظر عرابة، وهو متعب مهزول مكفوف. تمشت في مفاصلي رعدة قوية، واجتاح فؤادي تيار حزنٍ جارف، وهممت أن أعود من حيث أتيت.. لكنني كنتُ مندفعاً في أعماقي لأثبت للجميع أن عرابة الأوسي هو حقاً أسخى الناس.

     وتقدمتُ من هذا الضرير المتعَب فألقيت عليه السلام. وسارع إلى رده مسروراً حفياً، ووقف ينتظر.. لكأنه قد أحسّ أنني صاحب حاجة، جئت إليه أطلب منه العون والرفد.. لكنني وقد أحزنني المنظر، وجدت لساني حبيساً في فمي فما أنا بقادرٍ على الكلام.. ووقفت وأنا ساكت، ووقف عرابة وهو منتظر.

     وكأن ما اعتاده عرابة من جود قديم عُرِف به واشتُهِر، جعل له حاسة خاصة يعرف بها حوائج العفاة المعوزين.. لذا سارع إليَّ يقول: مَنْ.. وماذا تريد؟

     وسكت ينتظر.. ووجدتُ أنه لا بد لي من الكلام.. فقلت له: إني ابن سبيل، ومنقطع. ورأيت أسارير عرابة يعلوها الحزن الشديد، فقدّرت في نفسي عذراً لهذا الرجل النبيل، وأحسست أن ظني قد صدق حين قال لي: والله ما تركت الحقوق مالاً لعرابة، وهممت أن أعتذر منه، وأن أطيب خاطره، وأن أنطلق من فوري دفعاً لإحراج الشيخ الجليل النبيل الكفيف.

     وكِدت أحث خطاي، وأجمعت على النجاء مِن هذا الموقف الثقيل.. لكنَّ صوت عرابة جمَّد حركتي، ذلك أنه هتف بي قائلاً: خذ العبدين.

     وتساءلتُ في نفسي كيف آخذ العبدين وهما جناحاه؟ إني إنْ فعلتُ ظالمٌ ظالمٌ ظالم. لقد عرفتُ جوده وكفى!.. وقد فزتُ في السباق حيث أكدت أن عرابة الأوسي هو أسخى الناس.. وإذن فلْيَبْقَ للرجل الكفيف جناحاه، ولأذهب من فوري فقد كفاني ما شهدت من عرابة، حزناً وشفقة، وجوداً وإيثاراً وكرم نفس.

     جئتُ لعرابة فقلت له: بورك فيك، وجزيت خيراً، ما كنتُ لأقطع جناحيك.

     وحسبتُ أني أدليتُ عند عرابة بالحجة البيّنة التي لا تنقطع، والبرهان الناصع الذي لا يُرَد.. على أني قد كرمت عطاءه بالقبول في الوقت الذي هيّأت فيه كل أسباب الاعتذار.

     حسبت ذلك وأكدت له قولتي: "ما كنتُ لأقطع جناحيك"، لكنَّ الرجل فاجأني بما لم أكن أحسب.

     لقد قال لي: إنْ لم تأخذهما فهما حُرّان.. فإن شئت فخُذ، وإن شئت فأعتق.

     وأذهلتني المفاجأة التي لم أكن أتوقع، وعقد لساني الدهشة التي سيطرت على الموقف، وتركتني لا أملك شيئاً إلّا أن أعتصم بالسكوت.

     لكنَّ عرابة كان يتصرف بأسرع مما كنت أقدر.. لقد نفّذ في الحال أمره في العبدين.. فقد تركهما، وأخذ يتلمس الحائط في طريقه إلى المسجد.

     وكان منظراً لا يُنسى، منظرُ شيخٍ كفيفٍ مُتعب، يعتمد في طريقه إلى الصلاة على حائطٍ يتلمّسه بيديه، يحاول بذلك أن يدفع عن نفسه عثار الطريق.

     ومضى عرابة، ومضيت أنا، وقد أيقنت أنَّ عرابة أسخى الناس، ذلك أنه أعطى إذ أعطى عن ضيقٍ وقلة، حين أعطى الآخرون عن فضلٍ وسعة.
*****

إيثار ثلاثة أصدقاء

إيثار ثلاثة أصدقاء

     المال نعمة من الله عز وجل، يضعها بين أيدي العباد ليبلوهم: أهم شاكرون أم جاحدون!؟ ولينظر أي شيء بها يعملون!؟

     ولعل أعظم مكرمات المال أن يستغني به المرء عن سؤال الناس، ويصون وجهه من الذهاب إلى حيث لئيمٌ يتشفى، أو بخيلٌ يضن. ولعل من أعظمها أيضاً أن يمد يد العون لمحتاج، ويبادر بالغوث إلى كريم أضنت عليه الأيام، طلباً لمرضاة صاحب المال وواهبه، الله عز وجل.

     كان الرجل يفكر في أمره ويعود إلى التفكير، وكان ينظر في واقع حاله ويعود إلى النظر، وكان يتأمل فيما آل إليه وضعه ويعود إلى التأمل، وكان يعود من ذلك كله محزوناً مكلوم الفؤاد.

     إن ضيقاً شديداً قد ألحّ على صاحبنا جعله لا يدري كيف يقوم بأود ذويه وفيهم صغار لا يقدرون على شيء، وليس بوسعهم أن يحتملوا مثل هذه الضائقة!؟

     وطفق الرجل يبحث عن رزق طيّب حلال يسد به أفواهاً جائعة، ويكسو أجساداً بليت ثيابها، ويدخل البهجة والسرور على صبية صغار فارقتهم بسمة الطفولة بما فيها من براءة محببة، وعذوبة طليقة، منذ أمد ليس بالقصير.

     لكنه كان يعود من ذلك كله خاوي الوفاض، يجرّ نفسه إلى البيت جراً، ولا يدري كيف سيواجه العيون الزائغة التي أضرّ بها الجوع المتواصل!؟ فإذا بها أسئلة محرجة لا يقدر الوالد على مواجهتها فضلاً عن الرد عليها، وإذا بها سهام مصيبة تقع من قلب الوالد المحزون في مقتل.

     ومرت الأيام والحال على هذه الشاكلة، وتعاقبَ الجديدان والضائقة تشتد وتحكم قبضتها إحكاماً يشق الفكاك منه، والوالد مرهق محزون، والأم والهة شجية، والصغار ناحلون واهنون.
* * *

     وسرت في الناس بهجة حبيبة ذات يوم، وبدت على الوجوه طلاقة وبشاشة، وارتسمت على الأسارير هناءة ووضاءة، ومشى في النفس رَوْح كريم محبّب، لقد اقترب العيد.

     والعيد أيام بهيجة مونقة يغسل الناس فيها أجسادهم، ويلبسون الزاهي الجديد، ويغسلون أنفسهم وسرائرهم؛ إذ يُلقون وراءهم متاعبهم التي لا تنتهي، ويستلّون سخائمهم، ويتناسون أحقادهم، ويُقبلون على الحياة، وعلى التعامل بعضهم مع بعض بصدور مفتوحة، وسرائر نقيّة، وفيهم آمال عراض وضاء.

     وحزّ ذلك كله في قلب الأم فهتفت بزوجها محزونة متألمة: أمّا نحن فنصبر على البؤس والشدّة، وأما صبياننا هؤلاء فقد قطعوا قلبي رحمة لهم، لأنهم يرون صبيان الجيران وقد تزينوا في عيدهم، وأصلحوا ثيابهم، وهم على هذه الحال من الثياب الرثة، فلو احتلت بشيء تصرفه في كسوتهم!. وكانت الأم على حق فيما قالت، وكانت حجتها ناصعة مقنعة، فطفق الرجل يتذكر صاحباً له يستدين منه.

     وتذكر صاحبه عبد الله، وهو نعم الصاحب الوفي، وبينهما مودة قديمة وحقوق وعهود، فسارع يكتب إليه يسأله التوسعة، ويستعجله في المبادرة.
* * *

     وكانت فرحة الرجل كبيرة، وكانت فرحة زوجه أكبر حين جاء مَنْ يحمل إليه من صديقه عبد الله كيساً فيه ألف درهم.

     ألف درهم!! إنه مال طيب، سيدخل البهجة والسرور على هؤلاء الصغار الذين ثقلت عليهم الوطأة، واشتدت عليهم الأمور، بل إنه سيُدخِلها على الأبوين، ولم لا!؟ وهما – وإن كانا كبيرين قادرين على الاحتمال – يحبان أن يستقبلا العيد باسمَيْنِ سعيدَيْن. وجلس الرجل وزوجه يرتبان أمورهما، ويوزعان المال على الحوائج المختلفة، ويهيئان ما يحتاجه للعيد القادم، وما يحتاجه الصبية الصغار.
* * *

     وطُرِق البابُ، وقام صاحبنا مسرعاً يستقبل الزائر فإذا به صديق عزيز هو عبد الرحمن.. وتحادث الصديقان بعض الشيء، وما طال الأمر، ذلك أن عبد الرحمن جاء يشكو ضيق حاله، ويستدين شيئاً من المال.. ونهض صاحبنا فوضع الكيس بحاله بين يدي صديقه الذي سارع إلى الخروج شاكراً أنْ وفقه الله تعالى إلى مثل هذا الرجل الوفي الذي يلجأ إليه في الملمات.
* * *

     وحين رأت الزوجة ما صنع زوجها ضاقت ذرعاً، وهمت بالبكاء لولا أن تداركها الصبر فتذرعت به، وفوّضت أمرها إلى الله تعالى، وجلست محتسبة ساكنة، وخجل الرجل من زوجته، وخجل من النظر إلى أولاده الصغار، وأدركته رقة وحنان، وإشفاق وحياء، فلم يُطِق الجلوس في الدار، فمضى إلى المسجد فنام فيه ليلته تلك.
* * *

     وحين عاد إلى داره في الصباح فوجئ بطرق على الباب، وفوجئ بصديقه عبد الله وعبد الرحمن ومعهما كيس المال نفسه، وفيه الدراهم الألف لم تنقص شيئاً قط. وتكاشف الأصدقاء الثلاثة، وتصارحوا فكان أمرهم عجباً من العجب!.

     أرسل صاحبنا إلى عبد الله يستدين منه، ولم يكن لدى هذا سوى ألف درهم، فقام بإرسالها إليه دون ريث أو تمهل. وحين فرغ من ذلك فكر أن يستدين من عبد الرحمن ما يقوم بأمره فكتب إليه في ذلك.

     أما عبد الرحمن فلم يكن لديه شيء قط إذ جاءه طلب صديقه عبد الله، فمضى إلى صاحبنا يقترض منه فقدّم له الألف نفسها، فأخذها وذهب بها إلى عبد الله فوضعها بين يديه. وكانت دهشة عبد الله كبيرة حين رأى ماله يعود إليه بكامله.

     إن كيس المال قد طاف على الأصدقاء الثلاثة، وكلٌّ يؤثِرُ به صاحبه، عندها تواسى الثلاثة المال أثلاثاً، ومرّ عليهم عيد هانئ سعيد. ونمي النبأ إلى الخليفة المأمون، فأعجبه هذا الإيثار، فأمر لكل واحد منهم بألفي دينار، وأمر للمرأة الصابرة المحتسبة بألف دينار.
*****

جمع جائع يتظاهر بالأكل

جمع جائع يتظاهر بالأكل

     تحدث الرجل فقال:

     اجتمعنا ذات ليلة من ليالي الشتاء، تلك التي تمتد وتتطاول حتى كأن نُجومَها قد شدَّت إلى يذْبل[1] كما قال امرؤ القيس، فهي لا تريم عن مكانها. وكان البرد ضارياً شديداً قد استبد بالأجسام استبداد الحاقدين وقد سطوا بالأشراف، وكانت الرياح العاتية تهُب في الخارج كأنها الأعاصير، في صوت مخيف مزلزل كأنه عُواء الشياطين.

     وغدا الدفء مطلباً عزيزاً، وأمنية نادرة، وتحركت الأمعاء الفارغة تصرُخ طالبةً حقها من الطعام، وما أشد استبداد الجوع وقد اجتمع مع استبداد البرد! فكانا حليفين خطيرين مخيفين.

     ما عادت الأجسام لتقوى على الجوع فقد أضرَّ بها، وما عادت تقوى على حدّته أو عنفه، فقد بلغ الجَهد بها فوق الطاقة، وتجاوز قدرتَها على الصبر والجلَد والاحتمال.

     كنا في حال من الجوع خشينا معها أن يباح لنا أي شيء، إذ بدت لنا صورةُ الموت مخيفةً مرعبة؛ إنْ لم يكن طعام فشِبَع، فراحة فدفء، فنوم عميق لذيذ يغسل عنا مشقة ما كابدناه من رهق ونصَب.

     وأحصينا ما عندنا فوجدناه قليلاً، إنما هو بضعة أرغفة قليلة لا تنفع في شيء، وعَددُنا، كاثر وجمعنا جائع، وفكرنا كيف نتدبر الأمر لنخرج من هذا العناء الذي نحن فيه.

     وكان حميداً ما ارتآه بعضنا إذ اقترح أن نجمع هذه الأرغفة الباقية في مائدة واحدة فهو أطيب وأبرك، وليكن الطعام بعد ذلك، فإن في الجمع زهداً وعفة، وإن فيهم إباءً وقناعة، وإنهم عن الجشع بعيدون، وإن كل واحد منهم حريٌّ به أن يتمثل بقول طَرَفة:

وإن مُدَّتِ الأيدي إلى الزادِ لم أَكُنْ      بِأَعْجَلِهِمْ إذ أَجْشَـــعُ القَومِ أعجــلُ

     وهكذا كان!.. جمع القوم طعامهم طلباً للبركة والخير[2]، وهمّوا بأن يبدؤوا فيه لولا أن تقدم أحدهم باقتراح حميد آخر.

     قلت لمحدثي: وما هو ذلك الاقتراح الآخر الحميد؟ بارك الله فيك!..

     قال محدثي: كان الاقتراح الآخر أن نطفئ السراج، فإن ذلك أدعى لذهاب الخجل من قوم كرام أَضَرَّ بهم الجوع، لكنَّ إباءَهم أقوى من الجوع الذي يقاسون، وإيثارَهم فوقَ الضُّرِّ الذي منه يشكون.

     ونظر الجمع المتحلق حول المائدة البائسة إلى بعضه، وجاشت في أفئدة ذويه خواطرُ وضيئةٌ ناضرة، تسمو وتعلو، لتكون مكارمَ للأخلاق تُحتَذَى وتُقَلَّد.

     وأُطفِئ السراج، وساد الظلام، وعمَّ الجمعَ صمتٌ نبيل، وطَفِقَ القومُ يأكلون، أو هكذا كان الظنُّ وِفْقَ ما اتفقوا عليه.
* * *

     ولو قُدِّرَ لإنسانٍ أن يتغلغل في أخلاد الجمع المتحلق حول المائدة، وأن يسبِرَ أعماق القوم لرأى عجباً من العجب. لقد كان الواحد منهم كلّما هَمَّ أن يأكل يتذكر قلة الزاد، ويتذكر الطَّوى المرهق الذي أتعب إخوانه، ويتذكر كذلك أن بوسعه أن يأكل ما يشاء، فالمائدة... مُعدّة، والسراج مطفَأ، مما يتيح له أن يشبع كما يطيبُ له، لكنْ هل من مكارم الأخلاق أن يستأثر دون صحبه بالطعام!؟ أمِنَ المروءة أن يحاول الإسراع في الطعام أم أن يحاول الإبطاء فيه!؟

     وكان حوار داخلي عنيف حار، لكنه في الوقت نفسه ساكن صامت، وكانت مغالبة بين الفكرة السامية، فكرة الإيثار، وبين الصراخ الحاد في المعدة والأمعاء.

     الواحد يمد يده ليتناول ما يستعين به في شدته تلك، لكنه ما يلبث أن يجذبها بسرعة ويردَّها من جديد حيث كانت، ذلك أن داخله مثلَ هذا الحديث:

     كيف أمد يدي إلى التقاط هذا الطعام وقد اشتدت إليه حاجة أخي!؟ أليس في مِكنتي أن أحيا بلا طعام مدة أطول!؟ هبني سارعتُ إلى الأكل، أليست معدةً تُملأ ساعة من نهار لتجوع من جديد!؟ الأكلة -إذن على لذتها ورغبتي فيها- فانية، وهي فانية أسرعَ ما يكون الفناء، لكن الإيثار لو أني سلكته أبقى وأطيب، وأحسن وأكرم، ثم هو خالد باقٍ عند الله عز وجل، سوف يصلني ثوابه كاملاً غير منقوص، فهو وديعة كريمة عند الله جل جلاله.

     فليكن الإيثار إذن احتساباً وقربة للخالق المنعم، وليكن الصبر، ولتكن العفة والشجاعة والاحتمال.

     لكنْ، لو أني كففت يدي بصورة تسترعي النظر، فإن إخواني سوف ينتبهون، وعندها سوف يفتضح أمري، ولا بد عندئذٍ من أن أعود إلى الطعام، فإنهم سوف يصرون على ذلك.

     إن خير ما أفعله أن أمد يدي إلى المائدة، وأتظاهر أني أخذت شيئاً منها، وأحرك شفتي، وأفتح فمي وأغلقه، وأُحْدِثَ صوتاً يشبه صوت الآكِل، وإذا لزم الأمر فسوف أتجشأ أيضاً، لأبدوَ كما لو أسرفت في الطعام.

     عندها سوف يحسب إخواني أنني أكلتُ، بل أسرفتُ في الأكل، وعندها أكون قد آثرتُ دون أن يعلم أحدٌ منهم بذلك، فيكون عملي أبعدَ عن الرياء، وأقرب إلى الصدق والإخلاص، وعندها سوف أكسب الأمرين في حال واحد، آثرت إخواني بالزاد، ونجوت من شوائب الرياء وكلمات الثناء والإطراء.
* * *

     قلت لمحدثي: وبعدُ.. كيف انتهى أمر القوم!؟

     قال: كنتَ تسمع أصوات الأيدي وهي تمتد إلى المائدة ثم تعود، وكنتَ تسمع أصواتَ الأَكَلَةِ النهمين، وربما حسبتَ أن سباقاً يجري بينهم إذ ذاك.

     قلت له: وبعد.. كيف كان الختام!؟

     قال: أضيءَ السراج، وسطعَ النور في الغرفة، ونظرَ القوم إلى الطعام، ثم نظروا إلى بعضهم، ثم ساد المكانَ صمتٌ جليل نبيل، هو أبلغ من أي حديث أياً كان.

     قلت: ولمَ رعاك الله!؟

     قال: لقد كان الطعام على حاله، لم ينقص شيئاً قط، وذلك أن كل واحدٍ من القوم آثر صَحْبَهُ بالزاد وإن كان يتظاهر في أثناء إطفاء السراج بأنه يأكل.

     قلت: أما والله إن أمرهم لعجب! وإنهم حقاً لرجال! وإن موقفهم ذلك جليل نبيل، طاهر وضّاء!.

     قال: صدقت، إنهم قوم سما بهم الإيمانُ سمواً عجيباً، وحلّق بهم وتألق، إنه الإيمان يا صاحبي... إن تغلغل في أعماق النفوس، كان رجالٌ كرامٌ عظامٌ، وكانت مواقفُ كريمةٌ عظيمة.
*****
--------------
[1] يذبل: أعلى قمم الجبال في نجد؛ يبلغ ارتفاعه 1524م فوق مستوى سطح البحر، يسمى الآن "جبل صبحا"، ويقع على بعد 125كم جنوب غرب مدينة القويعية. ورد ذكره في شعر امرئ القيس فقال: فيالك من ليلٍ كأن نجومَه ** بكل مغار الفتل شدت بيَذْبُلِ.
[2] وهذا كما جاء في وصف الأشعريين، فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الأشْعَرِيِّينَ إذا أرْمَلُوا في الغَزْوِ، أوْ قَلَّ طَعامُ عِيالِهِمْ بالمَدِينَةِ، جَمَعُوا ما كانَ عِنْدَهُمْ في ثَوْبٍ واحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بيْنَهُمْ في إناءٍ واحِدٍ، بالسَّوِيَّةِ، فَهُمْ مِنِّي وأنا منهمْ". (متفق عليه).

ألب أرسلان وحنوط الموت

أَلْبْ أَرِسْلان وحنوط الموت

     في مطلع النصف الثاني من القرن الخامس الهجري، كان شاب في العقد الرابع من عمره، صارم طموح، قوي النفس والعزيمة، متّقد الآمال، جيّاش المُنى، يحكم دولة واسعة عظيمة، تمتد من سهول تركستان إلى ضفاف دجلة، ذلكم هو السلطان العظيم أَلْبْ أَرِسْلان[1] السلجوقي.

     وقد استقرت أركان دولته، وثبتت دعائمها، ساعد السلطان على ذلك وزيره المشهور، وعضده القوي، وعينه الساهرة، الوزير الشهيد نظام الملك.

     كان أَلْبْ أَرِسْلان سلطاناً شجاعاً مجاهداً، خاض بنفسه المعارك الطاحنة، ومضى يصارع الدولة البيزنطية التي كانت يومذاك من أقوى خصوم الإسلام في العالم.

     وكانت له غزوات كُللت بالنجاح، وزادت من بأس المسلمين قوة وشهرة، وكان أعظم هذه الغزوات، تلك المعركة التاريخية المشهورة ملاذكرد.

     ففي عام (463هـ)، الموافق لـ(1071م) كان على عرش الحكم في قسطنطينية إمبراطور شجاع اسمه رومانوس، كان يتحرق إلى لقاء السلاجقة والانتصار عليهم. لذا سارع إلى حشد كل ما يستطيع من القوى في جيش ضخم لهام من الروم والصقالبة وبعض طوائف الإفرنج، بلغ عدده في رواية (100,000) مقاتل، وفي رواية أخرى (200,000) مقاتل.

     وإذ سمع أَلْبْ أَرِسْلان بهذا الجيش اللجب سار من فوره بجيش يبلغ عده في رواية أربعين ألف فارس، وفي رواية أخرى خمسة عشر ألف فارس فقط لملاقاة الجيش الروماني الزاحف.

     وفكّر السلطان المسلم إذ رأى التفوق الهائل لجيش العدو بأن يعقد هدنة مع رومانوس، فقد بدا له ذلك خيراً من الدخول في معركة عنيفة حاسمة، وفعلاً نفّذ ذلك، فقد بعث إلى رومانوس يطلب عقد الهدنة، فرأى الإمبراطور الروماني في ذلك دليل إحجام وضعف، فرفض عرض السلطان المسلم، وردّ عليه رداً خشناً جافياً.

     وهنا، يبدأ الموقف العظيم، وتبلغ الأمور ذروتها، فإذا بها عجب وبطولة، وصدق وجهاد، وتضحية نادرة مشرّفة.
* * *

     كانت الخواطر المختلفة تنثال على فؤاد السلطان المجاهد، تحمل إليه صفوفاً شتى من الخواطر والأحاسيس، لكن الآية الكريمة ﴿كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [سورة البقرة249]، كانت تُلِح عليه باستمرار، وتأخذ من اهتماماته مساحة شاسعة واسعة. ولم لا؟ أما انتصر المسلمون وهم قلة على خصوم هم أكثر عدداً وأقوى عدة؛ في بدر، والأحزاب، وحنين، والقادسية، واليرموك؟ وفي معارك أخرى كثيرة؟

     أما أغنت شجاعة القلة المؤمنة، وحسن ثقتها باللّه عز وجل عن العدد الكبير، والعتاد العظيم؟

     أليس ثمة فرق واسع بين طلاب الدنيا متاعاً وغنائم ولذائذ، وبين طلاب الأخرى زهداً وفداءً وتضحية؟

     تلك وأمثالها كانت الخواطر والتساؤلات في فؤاد السلطان المجاهد العظيم... ومن خلال يقينه الصادق بصدق دلالتها، وصحة إشاراتها عزم السلطان على خوض المعركة الفاصلة.

     واختار الاشتباك مع الروم في يوم الجمعة، وصلى بجنده وبكى خشوعاً وتأثراً، وبكى الناس معه، ثم امتطى فرسه، وقد لبس البياض، وتحنط استعداداً للموت، وأعلن لجنوده أنه إن استشهد فإن ساحة الحرب هي مثواه الأخير.

     ودارت المعركة عنيفة ضارية، واستبسل فيها الجانبان، وثبتا في الميدان، وأبدى المسلمون منتهى البراعة والجَلَد والثبات، فما حلَّ المساء حتى أحدثوا ثغرة في جيش الروم، كانت بداية هزيمة شنيعة لهم، ونصراً للمسلمين مؤزراً عظيماً، ووقع الإمبراطور الروماني نفسه في يد السلطان المجاهد أسيراً.
* * *

     أيها البطل العظيم؛ إليك هذه الأبيات المبهورة قبل صاحبها بك، واعذرني على التقصير:

بكــــاؤك النبــــل لا خوف ولا خـــورُ
               ولا ارتيــــاع ولا عجز ولا ضجـــــرُ
بكــــاؤك المجــــد والأيـــــام شــاهدة
               والشـــعـر والنثـــر والسُّمَّار والسَّـــمر
وما حنـــوطك إلا مهـــــر غـاليـــــــة
               هي الشــــهادة ترجــــوها وتنتــــــظر
وجنــــة الله أغــــلى مُنْـــــية طُلِبــــت
               ودربهــــا الموت والأشــــلاء والخطر
وأنت خـــاطبها والعــــرس ملحـــــمة
               السيـــف صــــانعها والقوس والوتــــر
والخيـــل تصـــهل والفرســــان دامية
               والموت يحصد من ضلُّوا ومن بطروا
وأنت في الله غــــازٍ جــــلَّ مطلبــــــه
               بالحـــق معتـــصم بالطهر مؤتــــــزر
المــــال أنفس ما يسخو الرجـــــال به
               وفخرهم أـنهم جـــــادوا بما ادخـــروا
أما سخـــــاؤك فهو الموت محتسبــــاً
               وأنت تـقســــم هذا عندي الظفــــــــــر
*****
---------
[1] أَلْبْ أَرِسْلان: معناه بالتركية: المحارب الأسد، واسمه محمد.

عفو الرشيد.. لا تعاودوني فيه

عفو الرشيد.. لا تعاودوني فيه

     أن تعفوَ عن إنسانٍ أساءَ إليك، وكادَ لك، وعدا عليك، أمرٌ ليس بالسهل قط مهما حسبتَ أن القدرة تذهبُ بالحفيظة، والسطوة تطرد الغضب، إنه أمر في غاية الصعوبة، أن ترى عدوك اللدودَ المعاند وقد وقف بين يديك ضعيفاً أعزل لا يقوى على شيء، بينما أنت تقدر على البطش به ومعاقبته كيف تشاء، ثم تعفو من بعد ذلك كلِّه، وتترك المذنب الآثم، الأسير الأعزل دون عقاب.

     إنه أمرٌ نادر، تفعله قلة من الناس نادرة، وإنما يفعلُه مَن يفعلُه مِن الناس بعد إذ يكون قد خاض في داخل نفسه معركة عنيفة ضارية تغلَّبَ فيها على دواعي البطش، وأسباب الانتقام، وتجاوزَ آفاق اللذة التي يعتصرها ساعة الانتقام مما يَصُبُّه على العدو، إلى آفاق لذة أخرى أشرف وأسمى يعتصرها ساعة العفو، هي لذة العفو نفسه، وضبط النفس، ومُغالبة الهوى، والانتصار على الرغبة العاتية المُلِحَّة التي تدعو إلى المبادرة للبطش والفتك.. واللذة الثانية هذه، أفقٌ سامٍ مُشرِق، لا يصله من يصله إلا في أعقاب مجاهدة عنيفة ضارية يخوضها عبر معركة نفسية داخل الذات، طويلة مُتعِبَة معقّدة.

     ولعل التاريخ لم يعرف بطولاتٍ في الرجولة والعفو عَبر أحقابه الطويلة الممتدة، كما عرف ذلك في أبطال الإسلام، الذين كان لهم كلُّ موقفٍ مُعجِبٍ رائع، كرماً وأريحية، وبطولة وسماحة، وانتصاراً شامخاً داخل الذات، واستعلاءً نبيلاً على المتاعبِ والأهواء.

     خرجَ أحدهم على الرشيد، وللخروج متاعب ومشاكل، ومطامِحُ ومَقاتِل، وسَخائِمُ ومَصارِع، وساعات أملٍ عريضٍ واسعٍ تبدو الدنيا معه زاهيةً بهيجة، باسمةً واسعة، وساعاتُ يأسٍ قاتلٍ مدمّرٍ تبدو الدنيا معه أضيق من ثقب الإبرة، وكأن الرجل المتمرد العاتي نظر إلى الرشيد وما غمره الله عز وجل به من نِعَمٍ عظيمة تجلُّ عن الوصف، فركبه الغرور والطمع، وحملاه على الخروج والعصيان.

     وجَدَّ الرشيد في البحث عن الخارج، وبثَّ العيون والأرصاد، وطفق يفكر في الحيلة تِلوَ الحيلة، والمكيدة تِلوَ المكيدة للظفر به، قبل أن يستفحِل أمره، ويغدُوَ صعباً مُتعِباً.

     وظفِرت جنود الرشيد بالرجل الخارج وجيء به أسيراً أعزل فوقف بين يديه.. وصمت الرجلان، وجالت في خَلَدَيْهِما الخواطر المختلفة المتناقضة، وبدا الصمتُ كأنه دهرٌ طويل.. سارع الرشيد يقطعه ويقول للخارجي في ثقة وقوة وتهديد: ما تريد أن أصنع بك!؟.

     وسكت الرشيد، وسكت الحضور.. فإذا بصوت الأسير يعلو دون هَلَعٍ أو جزعٍ أو اضطراب، مجيباً على سؤال الخليفة في شجاعة لا نظير لها: اصنع بي ما تريد أن يصنع الله بك إذا وَقَفْتَ بين يديه، وهو أقدَرُ عليك منك عليَّ.

     إجابة شُجاعةٌ من ناحية، ذكيةٌ من ناحية أخرى، جعلَتِ الرشيد في موقف صعب أمام نفسه، وأمام الحاضرين.

     إجابة جعلَتِ الرشيد يُطرِقُ ملياً وهو يفكر في هذا المأزق الحرِج الذي وضعه فيه هذا الرجل المتمرّد، الذكي الماكر.. وتذكَّرَ الخليفة يومَ القيامة، وصعوباته وأهواله، ترى ماذا يريد أن يصنع الله تعالى به في ذلك اليوم العصيب؟ أيحاسبه حساباً دقيقاً عن كل شيء؟ ويؤاخذه بكل صغيرةٍ وكبيرة؟ إنه عندها قد ينتهي به الأمر إلى عذاب أليم يسوقه إليه زبانية الجحيم الشِّداد الغِلاظ.

     ماذا يريدُ الخليفة أن يصنع به خالقهُ يومَ الدين!؟ أيفضحُه على رؤوس الناس جميعاً، ويكشف معايبه وأخطاءه، ويُظهِرُ ذنوبه وآثامه، وينشرُ صفحة سيئاته للعَيان يقرؤها الناس!؟ إنه لو حدث ذلك لكانت فضيحة له أيُّ فضيحة! وخسارة أيّ خسارة!.

     كيف يحب الخليفة أن يُفعَلَ به في يوم القيامة!؟ أيتعلق به أصحاب الحقوق والمظالم، ويُطالِبه كلٌّ منهم بحقه أمام من لا تخفى عليه خافية في الأرض والسماء في ذلك اليوم الذي لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم!؟

     أم أن الخليفة يريد أن يعفو الله عنه يوم القيامة، ويستره، ويغفر له، ويتجاوز عن هفواته، ويُدخِله في رحمته وفضله وجوده!؟ لا ريب أن ذلك هو ما يريد الرشيد ويأملُ أن يُصنَعَ به في يوم القيامة الصعب العصيب، وإن ذلك لو تمّ له لكان في عِداد السعداء الناجين، الذين فازوا أعظم فوز وأكرمه وأبقاه على الإطلاق.

     مثل هاتيك الخواطر كانت تجوب عقل الرشيد وقلبه، وتُثِيرُ فيه روح التسامح والعفو.. وتجعله أقربَ إلى أن يأمرَ بإطلاق سراح الرجل الواقف أمامه ينتظر ماذا يحكم الخليفة في أمره؟

     إن الرجل قد ألزمَ الرشيدَ حُجّةً قويةً يصعُبُ دفعها، أثارت فيه كل هاتيك الخواطر.. كانت قولة الرجل الأسير تجوب عقل الرشيد وقلبه ويتردد صداها في أرجائهما: "اصنع بي ما تريد أن يصنع الله بك إذا وَقَفْتَ بين يديه وهو أقدَرُ عليك منك عليَّ".

     ظلّت هذه القَولَةُ تأخذ مجراها حارةً دافقةً في خَلَدِ الرشيد، وظلّت الخواطر المختلفة تنقدحُ في فؤاده، وظلّ الحاضرون ينتظرون ما يأمر به، وظل المتمرّد الأسير يرقبُ ما الذي سوف يُفعَلُ به امتثالاً لما يأمر به الخليفة. ومرّت الدقائق طويلةً متراخية.. وقطعَ الصمتَ الثقيلَ آخِرَ الأمر صوتُ الرشيدِ وهو يأمرُ بإطلاقِ الأسير.

     ومضى الرجل في هدوءٍ وتؤدةٍ وأناة، والحاضرون صامتون قد تَملَّكَهُم إعجابٌ كبير إلا نفراً منهم.

     ورانَ على المكان صمتٌ قَطَعَتهُ خطوات الرجُلِ المنصرف، ثم قطعه صوت واحد من بين الحضور يقول للرشيد: يا أميرَ المؤمنين تُقتَلُ رجالُكَ، وتَفنى أموالُكَ، وتظفَرُ بهذا الذي خرج عليك ثم تطلِقه بكلمةٍ واحدة! إن هذا يا أمير المؤمنينَ يُجَرِّئُ عليك أهل الفساد.

     وكانت كلمة فيها جوانب من الصحة غيرُ قليلة، وفكّر الرشيد في الأمر فتذكّر أن هذا الرجل الخارج المتمرّد قد كلّفهُ الكثيرَ من العناءِ والرجال، والأموالِ والعتاد.. فكيف يتركهُ بسببِ كلمةٍ بليغةٍ ذكيةٍ يقولُها!؟

     إن الحزمَ من أسباب بقاء السلطان، وانتشار العدلِ والأمان.. فكيف يعفو عن هذا الخارجِ المتمرّد!؟ ونَشبَ صراع حادٌّ في داخله أيأمرُ بإعادة الرجل أم يتركهُ يمضي؟ وإذا أمرَ بإعادته أمَا يظنُّ ظانٌّ أن الرشيدَ ألعوبة بين يدي رجاله، وأنه لا رأيَ له حازماً نافذاً يُبْرِمُهُ ويُنْفِذُه!؟ وانتهى الصراع الناشبُ حين هتفَ الرشيدُ بالحاضرين: رُدُّوهُ عليَّ!.

     وأعِيدَ الرجلُ ثانيةً أمام الرشيد، وهو هو.. حزماً وقوة، وصبراً وعزيمة، ورباطةَ جأش وثباتَ جنان. وأدركَ حالاً أنه قد سُعِيَ به لدى الخليفة، وكان صادقاً فيما قدَّر. ووقف أمامَ الرشيد يقول هذه الكلمات الوِضاءَ اللاتي تزهو كاللآلئ في الظلمةِ الداكنة: يا أمير المؤمنين، لا تُطِعْ فِيَّ مُشيراً يمنعكَ عفواً تدَّخِرُ به عند الله يداً، فإنه لو أطاع فيك مشيراً ما استخلفكَ طرفةَ عين، وأحسِنْ كما أحسنَ الله إليك!.

     وأحسَّ الرشيد بهذه الكلمات تَنْفُذُ في أعماقِه، وتَبَيَّنَ –وهو الذكيُّ الأريبُ اللبيب– مدى ما فيها من صحّةٍ وصدق، ونقاءٍ وجلاء، وبيانٍ ووضوح، وبلاغةٍ وروعة، وعُمقٍ وجمال، فسارع يأمرُ بإطلاقِ سراح الرجل.. والتفت إلى الواقفين حوله يطلبُ منهم الكفَّ عن الحديثِ في أمرهِ وهو يقول: لا تُعاودوني فيه!.
*****

الأكثر مشاهدة