الاثنين، 24 يناير 2022

إيثار ثلاثة أصدقاء

إيثار ثلاثة أصدقاء

     المال نعمة من الله عز وجل، يضعها بين أيدي العباد ليبلوهم: أهم شاكرون أم جاحدون!؟ ولينظر أي شيء بها يعملون!؟

     ولعل أعظم مكرمات المال أن يستغني به المرء عن سؤال الناس، ويصون وجهه من الذهاب إلى حيث لئيمٌ يتشفى، أو بخيلٌ يضن. ولعل من أعظمها أيضاً أن يمد يد العون لمحتاج، ويبادر بالغوث إلى كريم أضنت عليه الأيام، طلباً لمرضاة صاحب المال وواهبه، الله عز وجل.

     كان الرجل يفكر في أمره ويعود إلى التفكير، وكان ينظر في واقع حاله ويعود إلى النظر، وكان يتأمل فيما آل إليه وضعه ويعود إلى التأمل، وكان يعود من ذلك كله محزوناً مكلوم الفؤاد.

     إن ضيقاً شديداً قد ألحّ على صاحبنا جعله لا يدري كيف يقوم بأود ذويه وفيهم صغار لا يقدرون على شيء، وليس بوسعهم أن يحتملوا مثل هذه الضائقة!؟

     وطفق الرجل يبحث عن رزق طيّب حلال يسد به أفواهاً جائعة، ويكسو أجساداً بليت ثيابها، ويدخل البهجة والسرور على صبية صغار فارقتهم بسمة الطفولة بما فيها من براءة محببة، وعذوبة طليقة، منذ أمد ليس بالقصير.

     لكنه كان يعود من ذلك كله خاوي الوفاض، يجرّ نفسه إلى البيت جراً، ولا يدري كيف سيواجه العيون الزائغة التي أضرّ بها الجوع المتواصل!؟ فإذا بها أسئلة محرجة لا يقدر الوالد على مواجهتها فضلاً عن الرد عليها، وإذا بها سهام مصيبة تقع من قلب الوالد المحزون في مقتل.

     ومرت الأيام والحال على هذه الشاكلة، وتعاقبَ الجديدان والضائقة تشتد وتحكم قبضتها إحكاماً يشق الفكاك منه، والوالد مرهق محزون، والأم والهة شجية، والصغار ناحلون واهنون.
* * *

     وسرت في الناس بهجة حبيبة ذات يوم، وبدت على الوجوه طلاقة وبشاشة، وارتسمت على الأسارير هناءة ووضاءة، ومشى في النفس رَوْح كريم محبّب، لقد اقترب العيد.

     والعيد أيام بهيجة مونقة يغسل الناس فيها أجسادهم، ويلبسون الزاهي الجديد، ويغسلون أنفسهم وسرائرهم؛ إذ يُلقون وراءهم متاعبهم التي لا تنتهي، ويستلّون سخائمهم، ويتناسون أحقادهم، ويُقبلون على الحياة، وعلى التعامل بعضهم مع بعض بصدور مفتوحة، وسرائر نقيّة، وفيهم آمال عراض وضاء.

     وحزّ ذلك كله في قلب الأم فهتفت بزوجها محزونة متألمة: أمّا نحن فنصبر على البؤس والشدّة، وأما صبياننا هؤلاء فقد قطعوا قلبي رحمة لهم، لأنهم يرون صبيان الجيران وقد تزينوا في عيدهم، وأصلحوا ثيابهم، وهم على هذه الحال من الثياب الرثة، فلو احتلت بشيء تصرفه في كسوتهم!. وكانت الأم على حق فيما قالت، وكانت حجتها ناصعة مقنعة، فطفق الرجل يتذكر صاحباً له يستدين منه.

     وتذكر صاحبه عبد الله، وهو نعم الصاحب الوفي، وبينهما مودة قديمة وحقوق وعهود، فسارع يكتب إليه يسأله التوسعة، ويستعجله في المبادرة.
* * *

     وكانت فرحة الرجل كبيرة، وكانت فرحة زوجه أكبر حين جاء مَنْ يحمل إليه من صديقه عبد الله كيساً فيه ألف درهم.

     ألف درهم!! إنه مال طيب، سيدخل البهجة والسرور على هؤلاء الصغار الذين ثقلت عليهم الوطأة، واشتدت عليهم الأمور، بل إنه سيُدخِلها على الأبوين، ولم لا!؟ وهما – وإن كانا كبيرين قادرين على الاحتمال – يحبان أن يستقبلا العيد باسمَيْنِ سعيدَيْن. وجلس الرجل وزوجه يرتبان أمورهما، ويوزعان المال على الحوائج المختلفة، ويهيئان ما يحتاجه للعيد القادم، وما يحتاجه الصبية الصغار.
* * *

     وطُرِق البابُ، وقام صاحبنا مسرعاً يستقبل الزائر فإذا به صديق عزيز هو عبد الرحمن.. وتحادث الصديقان بعض الشيء، وما طال الأمر، ذلك أن عبد الرحمن جاء يشكو ضيق حاله، ويستدين شيئاً من المال.. ونهض صاحبنا فوضع الكيس بحاله بين يدي صديقه الذي سارع إلى الخروج شاكراً أنْ وفقه الله تعالى إلى مثل هذا الرجل الوفي الذي يلجأ إليه في الملمات.
* * *

     وحين رأت الزوجة ما صنع زوجها ضاقت ذرعاً، وهمت بالبكاء لولا أن تداركها الصبر فتذرعت به، وفوّضت أمرها إلى الله تعالى، وجلست محتسبة ساكنة، وخجل الرجل من زوجته، وخجل من النظر إلى أولاده الصغار، وأدركته رقة وحنان، وإشفاق وحياء، فلم يُطِق الجلوس في الدار، فمضى إلى المسجد فنام فيه ليلته تلك.
* * *

     وحين عاد إلى داره في الصباح فوجئ بطرق على الباب، وفوجئ بصديقه عبد الله وعبد الرحمن ومعهما كيس المال نفسه، وفيه الدراهم الألف لم تنقص شيئاً قط. وتكاشف الأصدقاء الثلاثة، وتصارحوا فكان أمرهم عجباً من العجب!.

     أرسل صاحبنا إلى عبد الله يستدين منه، ولم يكن لدى هذا سوى ألف درهم، فقام بإرسالها إليه دون ريث أو تمهل. وحين فرغ من ذلك فكر أن يستدين من عبد الرحمن ما يقوم بأمره فكتب إليه في ذلك.

     أما عبد الرحمن فلم يكن لديه شيء قط إذ جاءه طلب صديقه عبد الله، فمضى إلى صاحبنا يقترض منه فقدّم له الألف نفسها، فأخذها وذهب بها إلى عبد الله فوضعها بين يديه. وكانت دهشة عبد الله كبيرة حين رأى ماله يعود إليه بكامله.

     إن كيس المال قد طاف على الأصدقاء الثلاثة، وكلٌّ يؤثِرُ به صاحبه، عندها تواسى الثلاثة المال أثلاثاً، ومرّ عليهم عيد هانئ سعيد. ونمي النبأ إلى الخليفة المأمون، فأعجبه هذا الإيثار، فأمر لكل واحد منهم بألفي دينار، وأمر للمرأة الصابرة المحتسبة بألف دينار.
*****

جمع جائع يتظاهر بالأكل

جمع جائع يتظاهر بالأكل

     تحدث الرجل فقال:

     اجتمعنا ذات ليلة من ليالي الشتاء، تلك التي تمتد وتتطاول حتى كأن نُجومَها قد شدَّت إلى يذْبل[1] كما قال امرؤ القيس، فهي لا تريم عن مكانها. وكان البرد ضارياً شديداً قد استبد بالأجسام استبداد الحاقدين وقد سطوا بالأشراف، وكانت الرياح العاتية تهُب في الخارج كأنها الأعاصير، في صوت مخيف مزلزل كأنه عُواء الشياطين.

     وغدا الدفء مطلباً عزيزاً، وأمنية نادرة، وتحركت الأمعاء الفارغة تصرُخ طالبةً حقها من الطعام، وما أشد استبداد الجوع وقد اجتمع مع استبداد البرد! فكانا حليفين خطيرين مخيفين.

     ما عادت الأجسام لتقوى على الجوع فقد أضرَّ بها، وما عادت تقوى على حدّته أو عنفه، فقد بلغ الجَهد بها فوق الطاقة، وتجاوز قدرتَها على الصبر والجلَد والاحتمال.

     كنا في حال من الجوع خشينا معها أن يباح لنا أي شيء، إذ بدت لنا صورةُ الموت مخيفةً مرعبة؛ إنْ لم يكن طعام فشِبَع، فراحة فدفء، فنوم عميق لذيذ يغسل عنا مشقة ما كابدناه من رهق ونصَب.

     وأحصينا ما عندنا فوجدناه قليلاً، إنما هو بضعة أرغفة قليلة لا تنفع في شيء، وعَددُنا، كاثر وجمعنا جائع، وفكرنا كيف نتدبر الأمر لنخرج من هذا العناء الذي نحن فيه.

     وكان حميداً ما ارتآه بعضنا إذ اقترح أن نجمع هذه الأرغفة الباقية في مائدة واحدة فهو أطيب وأبرك، وليكن الطعام بعد ذلك، فإن في الجمع زهداً وعفة، وإن فيهم إباءً وقناعة، وإنهم عن الجشع بعيدون، وإن كل واحد منهم حريٌّ به أن يتمثل بقول طَرَفة:

وإن مُدَّتِ الأيدي إلى الزادِ لم أَكُنْ      بِأَعْجَلِهِمْ إذ أَجْشَـــعُ القَومِ أعجــلُ

     وهكذا كان!.. جمع القوم طعامهم طلباً للبركة والخير[2]، وهمّوا بأن يبدؤوا فيه لولا أن تقدم أحدهم باقتراح حميد آخر.

     قلت لمحدثي: وما هو ذلك الاقتراح الآخر الحميد؟ بارك الله فيك!..

     قال محدثي: كان الاقتراح الآخر أن نطفئ السراج، فإن ذلك أدعى لذهاب الخجل من قوم كرام أَضَرَّ بهم الجوع، لكنَّ إباءَهم أقوى من الجوع الذي يقاسون، وإيثارَهم فوقَ الضُّرِّ الذي منه يشكون.

     ونظر الجمع المتحلق حول المائدة البائسة إلى بعضه، وجاشت في أفئدة ذويه خواطرُ وضيئةٌ ناضرة، تسمو وتعلو، لتكون مكارمَ للأخلاق تُحتَذَى وتُقَلَّد.

     وأُطفِئ السراج، وساد الظلام، وعمَّ الجمعَ صمتٌ نبيل، وطَفِقَ القومُ يأكلون، أو هكذا كان الظنُّ وِفْقَ ما اتفقوا عليه.
* * *

     ولو قُدِّرَ لإنسانٍ أن يتغلغل في أخلاد الجمع المتحلق حول المائدة، وأن يسبِرَ أعماق القوم لرأى عجباً من العجب. لقد كان الواحد منهم كلّما هَمَّ أن يأكل يتذكر قلة الزاد، ويتذكر الطَّوى المرهق الذي أتعب إخوانه، ويتذكر كذلك أن بوسعه أن يأكل ما يشاء، فالمائدة... مُعدّة، والسراج مطفَأ، مما يتيح له أن يشبع كما يطيبُ له، لكنْ هل من مكارم الأخلاق أن يستأثر دون صحبه بالطعام!؟ أمِنَ المروءة أن يحاول الإسراع في الطعام أم أن يحاول الإبطاء فيه!؟

     وكان حوار داخلي عنيف حار، لكنه في الوقت نفسه ساكن صامت، وكانت مغالبة بين الفكرة السامية، فكرة الإيثار، وبين الصراخ الحاد في المعدة والأمعاء.

     الواحد يمد يده ليتناول ما يستعين به في شدته تلك، لكنه ما يلبث أن يجذبها بسرعة ويردَّها من جديد حيث كانت، ذلك أن داخله مثلَ هذا الحديث:

     كيف أمد يدي إلى التقاط هذا الطعام وقد اشتدت إليه حاجة أخي!؟ أليس في مِكنتي أن أحيا بلا طعام مدة أطول!؟ هبني سارعتُ إلى الأكل، أليست معدةً تُملأ ساعة من نهار لتجوع من جديد!؟ الأكلة -إذن على لذتها ورغبتي فيها- فانية، وهي فانية أسرعَ ما يكون الفناء، لكن الإيثار لو أني سلكته أبقى وأطيب، وأحسن وأكرم، ثم هو خالد باقٍ عند الله عز وجل، سوف يصلني ثوابه كاملاً غير منقوص، فهو وديعة كريمة عند الله جل جلاله.

     فليكن الإيثار إذن احتساباً وقربة للخالق المنعم، وليكن الصبر، ولتكن العفة والشجاعة والاحتمال.

     لكنْ، لو أني كففت يدي بصورة تسترعي النظر، فإن إخواني سوف ينتبهون، وعندها سوف يفتضح أمري، ولا بد عندئذٍ من أن أعود إلى الطعام، فإنهم سوف يصرون على ذلك.

     إن خير ما أفعله أن أمد يدي إلى المائدة، وأتظاهر أني أخذت شيئاً منها، وأحرك شفتي، وأفتح فمي وأغلقه، وأُحْدِثَ صوتاً يشبه صوت الآكِل، وإذا لزم الأمر فسوف أتجشأ أيضاً، لأبدوَ كما لو أسرفت في الطعام.

     عندها سوف يحسب إخواني أنني أكلتُ، بل أسرفتُ في الأكل، وعندها أكون قد آثرتُ دون أن يعلم أحدٌ منهم بذلك، فيكون عملي أبعدَ عن الرياء، وأقرب إلى الصدق والإخلاص، وعندها سوف أكسب الأمرين في حال واحد، آثرت إخواني بالزاد، ونجوت من شوائب الرياء وكلمات الثناء والإطراء.
* * *

     قلت لمحدثي: وبعدُ.. كيف انتهى أمر القوم!؟

     قال: كنتَ تسمع أصوات الأيدي وهي تمتد إلى المائدة ثم تعود، وكنتَ تسمع أصواتَ الأَكَلَةِ النهمين، وربما حسبتَ أن سباقاً يجري بينهم إذ ذاك.

     قلت له: وبعد.. كيف كان الختام!؟

     قال: أضيءَ السراج، وسطعَ النور في الغرفة، ونظرَ القوم إلى الطعام، ثم نظروا إلى بعضهم، ثم ساد المكانَ صمتٌ جليل نبيل، هو أبلغ من أي حديث أياً كان.

     قلت: ولمَ رعاك الله!؟

     قال: لقد كان الطعام على حاله، لم ينقص شيئاً قط، وذلك أن كل واحدٍ من القوم آثر صَحْبَهُ بالزاد وإن كان يتظاهر في أثناء إطفاء السراج بأنه يأكل.

     قلت: أما والله إن أمرهم لعجب! وإنهم حقاً لرجال! وإن موقفهم ذلك جليل نبيل، طاهر وضّاء!.

     قال: صدقت، إنهم قوم سما بهم الإيمانُ سمواً عجيباً، وحلّق بهم وتألق، إنه الإيمان يا صاحبي... إن تغلغل في أعماق النفوس، كان رجالٌ كرامٌ عظامٌ، وكانت مواقفُ كريمةٌ عظيمة.
*****
--------------
[1] يذبل: أعلى قمم الجبال في نجد؛ يبلغ ارتفاعه 1524م فوق مستوى سطح البحر، يسمى الآن "جبل صبحا"، ويقع على بعد 125كم جنوب غرب مدينة القويعية. ورد ذكره في شعر امرئ القيس فقال: فيالك من ليلٍ كأن نجومَه ** بكل مغار الفتل شدت بيَذْبُلِ.
[2] وهذا كما جاء في وصف الأشعريين، فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الأشْعَرِيِّينَ إذا أرْمَلُوا في الغَزْوِ، أوْ قَلَّ طَعامُ عِيالِهِمْ بالمَدِينَةِ، جَمَعُوا ما كانَ عِنْدَهُمْ في ثَوْبٍ واحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بيْنَهُمْ في إناءٍ واحِدٍ، بالسَّوِيَّةِ، فَهُمْ مِنِّي وأنا منهمْ". (متفق عليه).

ألب أرسلان وحنوط الموت

أَلْبْ أَرِسْلان وحنوط الموت

     في مطلع النصف الثاني من القرن الخامس الهجري، كان شاب في العقد الرابع من عمره، صارم طموح، قوي النفس والعزيمة، متّقد الآمال، جيّاش المُنى، يحكم دولة واسعة عظيمة، تمتد من سهول تركستان إلى ضفاف دجلة، ذلكم هو السلطان العظيم أَلْبْ أَرِسْلان[1] السلجوقي.

     وقد استقرت أركان دولته، وثبتت دعائمها، ساعد السلطان على ذلك وزيره المشهور، وعضده القوي، وعينه الساهرة، الوزير الشهيد نظام الملك.

     كان أَلْبْ أَرِسْلان سلطاناً شجاعاً مجاهداً، خاض بنفسه المعارك الطاحنة، ومضى يصارع الدولة البيزنطية التي كانت يومذاك من أقوى خصوم الإسلام في العالم.

     وكانت له غزوات كُللت بالنجاح، وزادت من بأس المسلمين قوة وشهرة، وكان أعظم هذه الغزوات، تلك المعركة التاريخية المشهورة ملاذكرد.

     ففي عام (463هـ)، الموافق لـ(1071م) كان على عرش الحكم في قسطنطينية إمبراطور شجاع اسمه رومانوس، كان يتحرق إلى لقاء السلاجقة والانتصار عليهم. لذا سارع إلى حشد كل ما يستطيع من القوى في جيش ضخم لهام من الروم والصقالبة وبعض طوائف الإفرنج، بلغ عدده في رواية (100,000) مقاتل، وفي رواية أخرى (200,000) مقاتل.

     وإذ سمع أَلْبْ أَرِسْلان بهذا الجيش اللجب سار من فوره بجيش يبلغ عده في رواية أربعين ألف فارس، وفي رواية أخرى خمسة عشر ألف فارس فقط لملاقاة الجيش الروماني الزاحف.

     وفكّر السلطان المسلم إذ رأى التفوق الهائل لجيش العدو بأن يعقد هدنة مع رومانوس، فقد بدا له ذلك خيراً من الدخول في معركة عنيفة حاسمة، وفعلاً نفّذ ذلك، فقد بعث إلى رومانوس يطلب عقد الهدنة، فرأى الإمبراطور الروماني في ذلك دليل إحجام وضعف، فرفض عرض السلطان المسلم، وردّ عليه رداً خشناً جافياً.

     وهنا، يبدأ الموقف العظيم، وتبلغ الأمور ذروتها، فإذا بها عجب وبطولة، وصدق وجهاد، وتضحية نادرة مشرّفة.
* * *

     كانت الخواطر المختلفة تنثال على فؤاد السلطان المجاهد، تحمل إليه صفوفاً شتى من الخواطر والأحاسيس، لكن الآية الكريمة ﴿كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [سورة البقرة249]، كانت تُلِح عليه باستمرار، وتأخذ من اهتماماته مساحة شاسعة واسعة. ولم لا؟ أما انتصر المسلمون وهم قلة على خصوم هم أكثر عدداً وأقوى عدة؛ في بدر، والأحزاب، وحنين، والقادسية، واليرموك؟ وفي معارك أخرى كثيرة؟

     أما أغنت شجاعة القلة المؤمنة، وحسن ثقتها باللّه عز وجل عن العدد الكبير، والعتاد العظيم؟

     أليس ثمة فرق واسع بين طلاب الدنيا متاعاً وغنائم ولذائذ، وبين طلاب الأخرى زهداً وفداءً وتضحية؟

     تلك وأمثالها كانت الخواطر والتساؤلات في فؤاد السلطان المجاهد العظيم... ومن خلال يقينه الصادق بصدق دلالتها، وصحة إشاراتها عزم السلطان على خوض المعركة الفاصلة.

     واختار الاشتباك مع الروم في يوم الجمعة، وصلى بجنده وبكى خشوعاً وتأثراً، وبكى الناس معه، ثم امتطى فرسه، وقد لبس البياض، وتحنط استعداداً للموت، وأعلن لجنوده أنه إن استشهد فإن ساحة الحرب هي مثواه الأخير.

     ودارت المعركة عنيفة ضارية، واستبسل فيها الجانبان، وثبتا في الميدان، وأبدى المسلمون منتهى البراعة والجَلَد والثبات، فما حلَّ المساء حتى أحدثوا ثغرة في جيش الروم، كانت بداية هزيمة شنيعة لهم، ونصراً للمسلمين مؤزراً عظيماً، ووقع الإمبراطور الروماني نفسه في يد السلطان المجاهد أسيراً.
* * *

     أيها البطل العظيم؛ إليك هذه الأبيات المبهورة قبل صاحبها بك، واعذرني على التقصير:

بكــــاؤك النبــــل لا خوف ولا خـــورُ
               ولا ارتيــــاع ولا عجز ولا ضجـــــرُ
بكــــاؤك المجــــد والأيـــــام شــاهدة
               والشـــعـر والنثـــر والسُّمَّار والسَّـــمر
وما حنـــوطك إلا مهـــــر غـاليـــــــة
               هي الشــــهادة ترجــــوها وتنتــــــظر
وجنــــة الله أغــــلى مُنْـــــية طُلِبــــت
               ودربهــــا الموت والأشــــلاء والخطر
وأنت خـــاطبها والعــــرس ملحـــــمة
               السيـــف صــــانعها والقوس والوتــــر
والخيـــل تصـــهل والفرســــان دامية
               والموت يحصد من ضلُّوا ومن بطروا
وأنت في الله غــــازٍ جــــلَّ مطلبــــــه
               بالحـــق معتـــصم بالطهر مؤتــــــزر
المــــال أنفس ما يسخو الرجـــــال به
               وفخرهم أـنهم جـــــادوا بما ادخـــروا
أما سخـــــاؤك فهو الموت محتسبــــاً
               وأنت تـقســــم هذا عندي الظفــــــــــر
*****
---------
[1] أَلْبْ أَرِسْلان: معناه بالتركية: المحارب الأسد، واسمه محمد.

عفو الرشيد.. لا تعاودوني فيه

عفو الرشيد.. لا تعاودوني فيه

     أن تعفوَ عن إنسانٍ أساءَ إليك، وكادَ لك، وعدا عليك، أمرٌ ليس بالسهل قط مهما حسبتَ أن القدرة تذهبُ بالحفيظة، والسطوة تطرد الغضب، إنه أمر في غاية الصعوبة، أن ترى عدوك اللدودَ المعاند وقد وقف بين يديك ضعيفاً أعزل لا يقوى على شيء، بينما أنت تقدر على البطش به ومعاقبته كيف تشاء، ثم تعفو من بعد ذلك كلِّه، وتترك المذنب الآثم، الأسير الأعزل دون عقاب.

     إنه أمرٌ نادر، تفعله قلة من الناس نادرة، وإنما يفعلُه مَن يفعلُه مِن الناس بعد إذ يكون قد خاض في داخل نفسه معركة عنيفة ضارية تغلَّبَ فيها على دواعي البطش، وأسباب الانتقام، وتجاوزَ آفاق اللذة التي يعتصرها ساعة الانتقام مما يَصُبُّه على العدو، إلى آفاق لذة أخرى أشرف وأسمى يعتصرها ساعة العفو، هي لذة العفو نفسه، وضبط النفس، ومُغالبة الهوى، والانتصار على الرغبة العاتية المُلِحَّة التي تدعو إلى المبادرة للبطش والفتك.. واللذة الثانية هذه، أفقٌ سامٍ مُشرِق، لا يصله من يصله إلا في أعقاب مجاهدة عنيفة ضارية يخوضها عبر معركة نفسية داخل الذات، طويلة مُتعِبَة معقّدة.

     ولعل التاريخ لم يعرف بطولاتٍ في الرجولة والعفو عَبر أحقابه الطويلة الممتدة، كما عرف ذلك في أبطال الإسلام، الذين كان لهم كلُّ موقفٍ مُعجِبٍ رائع، كرماً وأريحية، وبطولة وسماحة، وانتصاراً شامخاً داخل الذات، واستعلاءً نبيلاً على المتاعبِ والأهواء.

     خرجَ أحدهم على الرشيد، وللخروج متاعب ومشاكل، ومطامِحُ ومَقاتِل، وسَخائِمُ ومَصارِع، وساعات أملٍ عريضٍ واسعٍ تبدو الدنيا معه زاهيةً بهيجة، باسمةً واسعة، وساعاتُ يأسٍ قاتلٍ مدمّرٍ تبدو الدنيا معه أضيق من ثقب الإبرة، وكأن الرجل المتمرد العاتي نظر إلى الرشيد وما غمره الله عز وجل به من نِعَمٍ عظيمة تجلُّ عن الوصف، فركبه الغرور والطمع، وحملاه على الخروج والعصيان.

     وجَدَّ الرشيد في البحث عن الخارج، وبثَّ العيون والأرصاد، وطفق يفكر في الحيلة تِلوَ الحيلة، والمكيدة تِلوَ المكيدة للظفر به، قبل أن يستفحِل أمره، ويغدُوَ صعباً مُتعِباً.

     وظفِرت جنود الرشيد بالرجل الخارج وجيء به أسيراً أعزل فوقف بين يديه.. وصمت الرجلان، وجالت في خَلَدَيْهِما الخواطر المختلفة المتناقضة، وبدا الصمتُ كأنه دهرٌ طويل.. سارع الرشيد يقطعه ويقول للخارجي في ثقة وقوة وتهديد: ما تريد أن أصنع بك!؟.

     وسكت الرشيد، وسكت الحضور.. فإذا بصوت الأسير يعلو دون هَلَعٍ أو جزعٍ أو اضطراب، مجيباً على سؤال الخليفة في شجاعة لا نظير لها: اصنع بي ما تريد أن يصنع الله بك إذا وَقَفْتَ بين يديه، وهو أقدَرُ عليك منك عليَّ.

     إجابة شُجاعةٌ من ناحية، ذكيةٌ من ناحية أخرى، جعلَتِ الرشيد في موقف صعب أمام نفسه، وأمام الحاضرين.

     إجابة جعلَتِ الرشيد يُطرِقُ ملياً وهو يفكر في هذا المأزق الحرِج الذي وضعه فيه هذا الرجل المتمرّد، الذكي الماكر.. وتذكَّرَ الخليفة يومَ القيامة، وصعوباته وأهواله، ترى ماذا يريد أن يصنع الله تعالى به في ذلك اليوم العصيب؟ أيحاسبه حساباً دقيقاً عن كل شيء؟ ويؤاخذه بكل صغيرةٍ وكبيرة؟ إنه عندها قد ينتهي به الأمر إلى عذاب أليم يسوقه إليه زبانية الجحيم الشِّداد الغِلاظ.

     ماذا يريدُ الخليفة أن يصنع به خالقهُ يومَ الدين!؟ أيفضحُه على رؤوس الناس جميعاً، ويكشف معايبه وأخطاءه، ويُظهِرُ ذنوبه وآثامه، وينشرُ صفحة سيئاته للعَيان يقرؤها الناس!؟ إنه لو حدث ذلك لكانت فضيحة له أيُّ فضيحة! وخسارة أيّ خسارة!.

     كيف يحب الخليفة أن يُفعَلَ به في يوم القيامة!؟ أيتعلق به أصحاب الحقوق والمظالم، ويُطالِبه كلٌّ منهم بحقه أمام من لا تخفى عليه خافية في الأرض والسماء في ذلك اليوم الذي لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم!؟

     أم أن الخليفة يريد أن يعفو الله عنه يوم القيامة، ويستره، ويغفر له، ويتجاوز عن هفواته، ويُدخِله في رحمته وفضله وجوده!؟ لا ريب أن ذلك هو ما يريد الرشيد ويأملُ أن يُصنَعَ به في يوم القيامة الصعب العصيب، وإن ذلك لو تمّ له لكان في عِداد السعداء الناجين، الذين فازوا أعظم فوز وأكرمه وأبقاه على الإطلاق.

     مثل هاتيك الخواطر كانت تجوب عقل الرشيد وقلبه، وتُثِيرُ فيه روح التسامح والعفو.. وتجعله أقربَ إلى أن يأمرَ بإطلاق سراح الرجل الواقف أمامه ينتظر ماذا يحكم الخليفة في أمره؟

     إن الرجل قد ألزمَ الرشيدَ حُجّةً قويةً يصعُبُ دفعها، أثارت فيه كل هاتيك الخواطر.. كانت قولة الرجل الأسير تجوب عقل الرشيد وقلبه ويتردد صداها في أرجائهما: "اصنع بي ما تريد أن يصنع الله بك إذا وَقَفْتَ بين يديه وهو أقدَرُ عليك منك عليَّ".

     ظلّت هذه القَولَةُ تأخذ مجراها حارةً دافقةً في خَلَدِ الرشيد، وظلّت الخواطر المختلفة تنقدحُ في فؤاده، وظلّ الحاضرون ينتظرون ما يأمر به، وظل المتمرّد الأسير يرقبُ ما الذي سوف يُفعَلُ به امتثالاً لما يأمر به الخليفة. ومرّت الدقائق طويلةً متراخية.. وقطعَ الصمتَ الثقيلَ آخِرَ الأمر صوتُ الرشيدِ وهو يأمرُ بإطلاقِ الأسير.

     ومضى الرجل في هدوءٍ وتؤدةٍ وأناة، والحاضرون صامتون قد تَملَّكَهُم إعجابٌ كبير إلا نفراً منهم.

     ورانَ على المكان صمتٌ قَطَعَتهُ خطوات الرجُلِ المنصرف، ثم قطعه صوت واحد من بين الحضور يقول للرشيد: يا أميرَ المؤمنين تُقتَلُ رجالُكَ، وتَفنى أموالُكَ، وتظفَرُ بهذا الذي خرج عليك ثم تطلِقه بكلمةٍ واحدة! إن هذا يا أمير المؤمنينَ يُجَرِّئُ عليك أهل الفساد.

     وكانت كلمة فيها جوانب من الصحة غيرُ قليلة، وفكّر الرشيد في الأمر فتذكّر أن هذا الرجل الخارج المتمرّد قد كلّفهُ الكثيرَ من العناءِ والرجال، والأموالِ والعتاد.. فكيف يتركهُ بسببِ كلمةٍ بليغةٍ ذكيةٍ يقولُها!؟

     إن الحزمَ من أسباب بقاء السلطان، وانتشار العدلِ والأمان.. فكيف يعفو عن هذا الخارجِ المتمرّد!؟ ونَشبَ صراع حادٌّ في داخله أيأمرُ بإعادة الرجل أم يتركهُ يمضي؟ وإذا أمرَ بإعادته أمَا يظنُّ ظانٌّ أن الرشيدَ ألعوبة بين يدي رجاله، وأنه لا رأيَ له حازماً نافذاً يُبْرِمُهُ ويُنْفِذُه!؟ وانتهى الصراع الناشبُ حين هتفَ الرشيدُ بالحاضرين: رُدُّوهُ عليَّ!.

     وأعِيدَ الرجلُ ثانيةً أمام الرشيد، وهو هو.. حزماً وقوة، وصبراً وعزيمة، ورباطةَ جأش وثباتَ جنان. وأدركَ حالاً أنه قد سُعِيَ به لدى الخليفة، وكان صادقاً فيما قدَّر. ووقف أمامَ الرشيد يقول هذه الكلمات الوِضاءَ اللاتي تزهو كاللآلئ في الظلمةِ الداكنة: يا أمير المؤمنين، لا تُطِعْ فِيَّ مُشيراً يمنعكَ عفواً تدَّخِرُ به عند الله يداً، فإنه لو أطاع فيك مشيراً ما استخلفكَ طرفةَ عين، وأحسِنْ كما أحسنَ الله إليك!.

     وأحسَّ الرشيد بهذه الكلمات تَنْفُذُ في أعماقِه، وتَبَيَّنَ –وهو الذكيُّ الأريبُ اللبيب– مدى ما فيها من صحّةٍ وصدق، ونقاءٍ وجلاء، وبيانٍ ووضوح، وبلاغةٍ وروعة، وعُمقٍ وجمال، فسارع يأمرُ بإطلاقِ سراح الرجل.. والتفت إلى الواقفين حوله يطلبُ منهم الكفَّ عن الحديثِ في أمرهِ وهو يقول: لا تُعاودوني فيه!.
*****

عبد الله بن المبارك بين المحراب والحراب

عبد الله بن المبارك بين المحراب والحراب

     كان طرازاً فريداً ممتازاً بين الناس، فقد اجتمعت له فضائل نادرة، يعظُم الإنسان إن أصاب بعضها، فكيف إذا امتلكها جميعاً!؟ علمٌ واسعٌ غزير، وزهدٌ شامخٌ عجيب، وورعٌ وتقوى، فضلاً عن جهادٍ بالنفس في سبيل الله.

     كان من أرباب السيف، كما كان من أرباب القلم، كان إماماً في ساحة الجهاد، كما كان إماماً في محراب المسجد، قال عنه ابن كثير: كان كثير الغزو والحج، ولقّبه الذهبي بفخر المجاهدين، وكان يحج سنة ويغزو مرابطاً في سبيل الله سنة أخرى، وقد أدركته الوفاة وهو منصرف في بعض الثغور الإسلامية.

     دهر طويل أنفقه في عمل جليل هو تعليم الناس وإرشادهم، وذلك في دروس الحديث والفقه، والتفسير والعلوم الأخرى. لكنه لم يكتفِ بذلك، فقد أنفق دهراً طويلاً آخر في عمل جليل آخر هو الجهاد في سبيل الله، وبذلك جمع بين اللسان المؤمن وبين السيف المؤمن فكان إماماً في الحالين.

     وحتى حين يكون مرابطاً مجاهداً كان لا ينسى أن يعلِّم الناس العلم والحديث، فكان إذا وصل إلى الثغر اجتمع المجاهدون حوله يتعلمون منه العلم، ويكتبون عنه الحديث، كما يتعلمون منه الشجاعة.

     كان حبه للجهاد قد ملَكَ عليه نفسه، فكان يحث الناس عليه، ويبيّن لهم أن العبادة تحت ظلال السيوف المجاهدة في سبيل الله، خير منها حيث الأمن والاطمئنان، وأبياته التي أرسلها إلى صديقه الفضيل بن عياض مشهورة، يقول فيها:

يا عــابد الحرمين لو أبصـرتنا     لعــلمت أنك بالعبـــــادة تلعـب
من كان يخضب جيده بدموعه     فنحورنـــا بدمائنـــا تتخضــب
أو كان يتعب خيـــله في باطل     فخيــولنا يوم الصبيـحة تتعــب
ريح العبير لكم ونحن عبيرنـا     رهج السنابك والغبــار الأطيب
ولقد أتـانــــا من مقــــال نبينــا     قول صحيح صـادق لا يكـذب
لا جمع بين غبار خيـل اللّه في     أنف امرئ ودخان نـــار تلهب
هذا كتــــاب اللّه ينطـق بيننــــا     ليس الشهيـــد بميــت لا يكذب

     ولما قرأ الفضيل هذه الأبيات بكى وذرفت عيناه الدموع، وقال: صدق أبو عبد الرحمن ونصح.

     أتدري من هو هذا الرجل العظيم؟ إنه الإمام الجليل عبد الله بن المبارك رحمه الله رحمة واسعة.

     خرج مرة مجاهداً في ديار الروم، فبرز رومي شجاع قتل ستة من المسلمين وهو يبارزهم حتى لم يخرج إليه أحد، فلما رأى عبد الله بن المبارك ذلك برز إليه فقتله وقتل ستة من الكافرين سواه، ثم عاد إلى مكانه الذي كان فيه هادئاً كأنه لم يفعل شيئاً.

     ومن أعظم مواقفه التي تكشف نفسيته الصادقة المؤمنة الكبيرة، أنه كان إذا حضر القتال أبلى فيه أحسن البلاء، فإذا جاء وقت اقتسام المغانم غاب عن أخذ نصيب منها.

     أيها الإمام المحدث المجاهد، إن النفوس معادن، منها النفيس ومنها الخسيس، وأنت معدن نفيس أصيل، ونفس حرة نبيلة، وكرم وإباء، وصدق وصفاء، وبطولة وفداء.

     إن موقفك هذا يذكر بالأنصار الكرام، كتيبة الإسلام الأولى المؤمنة المتفانية في نصرة هذا الدين، أولئك النبلاء الأوفياء الذين كانوا يكثرون عند الفزع، ويقلون عند الطمع، فأنت تحذو حذوهم، تغشى الوغى وتقف عند المغنم.

     لقد آثرت الجهاد على القعود، والمشقة على الراحة، والنصب على الدعة، والجوع على الشبع والظمأ على الري، والإيثار على الأثرة، ولنعم ما اخترت أيها العالم المحدث المجاهد!.

     أما صدرك الذي تخضّب بالدم، فإنه شارة عز، ووسام بطولة، وإنه شاهد صدق يكشف عن نفسك التي هانت عليك في سبيل الله.

     إن طاب لبعضهم لون من ألوان العبير، فإن عبيراً آخر قد طاب لك، فهو عندك أزكى وأروع وأمتع، ذلك أنه غبار المعارك إذ تشتد فترخص الأبطال نفوسها طلباً لجنة عرضها السماوات والأرض.

     وإن طاب لآخرين أن تظل خيلهم في لهو وتسلية، فأنت والأبطال المجاهدون، تتعب خيولكم من الكر والفر في ساحة الجهاد.

     تحدثوا عن كرمك فكان أعجوبة في البذل والسخاء، وتحدثوا عن زهدك فكان قمة في الرفعة والشموخ والأصالة، لقد زهدت وأنت غني وافر المال تسير القوافل في تجارتك الواسعة، فكان زهدك زهد القادرين لا زهد العاجزين، وزهد الأغنياء لا زهد الفقراء. وإليك هذه الأبيات لعلها تليق بك:

سموتَ على الطين حتى عظمتَ     فـأدركتَ مجــــداً عظيم البنــــاءْ
وجــاهدتَ حتى حميـتَ الثغــور     وأَرْقَلْتَ[1] ترجو كريم الثـــواءْ
وأنت المجــــــاهد إن أَقْبَــــــلَتْ     جيــــوش البغــاة تسد الفضــــاءْ
وكـل الفضـــــائل قــد نـلتــــــها     فــأنت الصفـــــاء وأنت السنــاءْ
فجـــودٌ كما يسـتطــــاب النــدى     وبــذلٌ كما يسـتطــــاب العطـاءْ
وزهــدٌ أبيٌّ نبيــــــلٌ شـــــمـوخٌ     وطهــــرٌ يضـــوع نـديُّ الرواءْ
*****
----------------
[1] أَرْقَلْتَ: أسرعت.

تركة صلاح الدين الأيوبي

تركة صلاح الدين الأيوبي

     ما الذي خلَّفه صلاح الدين بعدَ موته؟ ماذا ترك لأولاده من دارٍ ومالٍ وأثاث وأرض؟ أكثيرٌ ما خلَّفه أم قليل؟

     أسئلةٌ اعتاد الناس أن يبحثوا عن إجابتِها، بعد موتٍ يباغتهم فيختار واحداً منهم ليودّعَ الدنيا. قد يسارعُ الناس إلى هذه الأسئلةِ وقد يتأخرون، قد يحرصون على معرفة الإجابة وقد لا يحرصون، قد يلحّون في الأمر وقد لا يلحّون، لكنَّ يوماً قادماً بعد هدوء الأحزان، لا بد أن يحمل مثل هذه التساؤلات.

     وحين مات يوسفُ بعد عُمْر أمضاه في الجهاد، حقق فيه انتصارات عظيمة، وجاس فيه خلال ديار الأعداء، وتدفقت بين يديه كنوز من الأموال والنفائس، ونوادر التحف، وعجيب المغانم، تساءل الناس عما خلّف من مال؛ فكان الجواب: لقد ترك ديناراً واحداً وسبعة وأربعين درهماً.

- يا حامل هذا النبأ أجادٌّ أنت أم هازل؟

- بل هو جادٌّ تمام الجد، ليس في حديثه موضع للهزل أو السخرية. ذلك المال فقط هو ما تركه يوسف بعد موته.

- يا حامل هذا النبأ أما خلّف يوسف شيئاً آخر سوى هذا الدينار والدراهم السبعة والأربعين؟ أما خلّف داراً أو عقاراً أو أرضاً؟

- لا، إن يوسف لم يخلّف شيئاً آخر قط، ما خلّف أرضاً، ولا داراً ولا عقاراً، خلّف ديناراً واحداً وسبعة وأربعين درهماً فحسب.

- أعرفت من يوسف هذا؟

     إنه يوسف بن أيوب، صلاح الدين الأيوبي، المجاهد المسلم العظيم، والفاتح الموفق المنصور، وقاهر الصليبيين.

     صلاح الدين هذا، ما خلّف شيئاً سوى ذلك، حتى لقد أُخرِجَت جنازته بالدَّيْن كما يقول القاضي بهاء الدين بن شدّاد.

     حسب القاضي تركة هذا الرجل العملاق الذي جاءته مغانم وأموال لا يمكن للناس إحصاؤها. ذلك أنه بسط سلطانه على رقعة واسعة من العالم الإسلامي، شاسعة وغنية، كما أنه انتصر في حروب كثيرة جاءه فيها سيل دفّاق من المغانم الوفيرة.

     سلطانه امتد؛ فإذا به يشمل الشام كلها إلا ما كان منها بيد الصليبيين، وقسماً كبيراً من العراق، ومصر كلها، فضلاً عن الحجاز واليمن، وأجزاء أخرى في أفريقية، سلطان واسع شاسع يغطي أراضي كان جزء يسير منها تقوم عليه دول وحكومات، وترتفع عليه أعلام ورايات، ويحكمه رجال ينتحلون شتى الألقاب والشارات.

     جزء يسير مما اشتمل عليه نفوذ صلاح الدين، لو ملكه أحدهم لتوهّم نفسه صاحب سلطان وصولجان، ولأعد منه الجيوش الوفيرة ذوات العدد، ولأكّد لنفسه وللآخرين أنه موفّق أبعد التوفيق، مسدَّدٌ أعظم التسديد، أسعفته المُنى، وسارعت إليه الآمال، فهو شاكر للزمان أياديه البيضاء، فرح مسرور بما آل إليه أمره، ينتظر مقدم الشعراء ليصوغوا فيه أعظم القصائد.

     هذا الجزء الصغير الذي كان قميناً بهذا كله؛ كان لا يعدو أن يكون ولاية ربما صغرت ونأت في مملكة صلاح الدين الممتدة العظيمة، ومع هذا حين مات هذا العملاق المسلم المجاهد، خلّف ديناراً واحداً وسبعة وأربعين درهماً، وأُخرِجت جنازته بالدَّيْن كما يقول القاضي بهاء الدين بن شداد.

     ذلكم أمر سلطانه الممتد، أما المال الذي جاء إلى يديه العفيفتين، وأما المغانم التي تدفقت من حروبه الموفقة المنصورة كالسيل العرم الزاخر، فشيء يفوق التصوّر، ذلك أنه وضع يده على مصر الفاطمية، وكانت في الغِنى أمراً بالغ الدهشة، ثم وضع يده على بلاد أخرى مر بك ذكرها، هي في الخصب والعراقة والغنى تاريخ حي عظيم، وفي فتحه للقدس عام 583هـ، وفي معركة حطين من قبل ذلك وضع يده على أموال هائلة طائلة، من المغانم التي اكتسبها، ومن الفداء الذي دفعه الأسرى. ومع هذا كله، ما ترك حين مات لا داراً ولا عقاراً، ترك ديناراً واحداً وسبعة وأربعين درهماً فحسب، وأُخرِجت جنازته بالدَّيْن كما يقول القاضي بهاء الدين بن شداد.

     أيها السلطان المجاهد، ما تركته -والله- أبقى وأخلد، وأعظم وأروع، وأسمى وأنبل، من كل ما تركه غيرك من الذين شُغلوا بجمع الأموال وتكديسها، وامتلاك الأراضي وتشييدها، أيّاً كانت فعلتهم، من حلال أو حرام، من شح أو جود.

     ستظل سيرتك أعجوبة الإيمانِ حين يتّقد، والنفسِ إذ تصفو، والإخلاصِ إذ يمتلك كرام الرجال فيرتفع بهم إلى مصاف الأبطال. وأستأذنك في إهدائك هذه الأبيات:

يـا إمامــــاً رفــــــــــع الله به     دولة الحق ومجد المســـلمينْ
أنت عنـــــوان لروحٍ طــاهرٍ     أيّـــد الله به درب اليقيـــــــنْ
رفرفـــت رايــــــاته خفـــاقةً     ومضت أخباره في العـالمينْ
تنشر الهدي وتُعــــلي صوتَه     واحة التائه، مأوى الحـائرينْ
كــل إرثٍ في البرايــــا زائلٌ     غير تقوى الله والحق المبيـنْ
والذي خـلّفتَـــه لمَّـــا يــــزلْ     عبرة الأبرار تسـمو كل حينْ
*****

الأحد، 23 يناير 2022

إسلام جرجة يوم اليرموك

إسلام جرجة يوم اليرموك

     استبد القلق بالإمبراطور البيزنطي هرقل، إذ رأى جيوشه تتراجع مهزومة مذهولة أمام كتائب المسلمين. استبدّ به القلق، وكثرت عليه الهواجس، فهو محزون كئيب لا يستقر به مقام، ولا يصفو له حال.

     من الناحية المادية، جيشه أكثر من جيش المسلمين أضعافاً مضاعفة، ومن الناحية العددية أكثر سلاحاً وأوفر طعاماً، وأقطع سيوفاً، وأغنى زاداً من المسلمين أضعافاً مضاعفة.

     ثم إنَّ جيشه خبير بالشام ومسالكها، ومدنها ودروبها، وعشائرها وزعمائها من هؤلاء الطارئين الذين كانوا تائهين في جزيرتهم، ضعفاء متفرقين، فإذا بهم من بعد هذه الرسالة التي ظهرت فيهم أمة أخرى عجيبة. ومع هذا كله تهزم جيوشه وتتراجع، بينما تنتصر جيوش المسلمين وتتقدم، وهذا كان سبب ما استبد به من حزنٍ مُضنٍ عنيف.

     وأخيراً قرر إخراج جيش هائل، يحشد له إمكانيات الدولة جميعاً، يقذف به في وجه هذه الأمة الغازية الطموحة على أمل إيقاف زحفها على الأقل، إن لم يكن النصر الغالب، وهكذا كان.

     وفي اليرموك التقى الجيشان، الجيش الرومي الذي أرسله هرقل بقيادة "ماهان" والجيش المسلم الذي أرسله عمر بن الخطاب، وله عدة قواد، غير أنهم اتفقوا جميعاً على تأمير خالد بن الوليد في ذلك اليوم العظيم.
* * *

     كان من قواد ماهان رجل اسمه "جُرْجَة"، وكان قد سمع الكثير عن خالد وعبقريته العسكرية الرائعة، ففكر في أمره كثيراً، ثم أجمع على أمر غريب، لقد دعا خالداً للبروز إليه في إحدى فترات الراحة بين القتال، فبرز إليه خالد، وكان من أمر جرجة بعد ذلك ما هو حافل بالإثارة والإعجاب.
***

مشهد تمثيلي (1)
الشخصيات: جرجة – رجل مسلم – صوت

- جرجة "بأعلى صوته": يا خالد، ابرز إليَّ، فأنا جرجة عَوْنُ ماهان وساعده الأيمن في قتالكم.

- رجل مسلم: كما تريد أيها الرومي! عمّا قليل يبرز إليك أميرنا خالد بن الوليد.

- جرجة: إني منطلق إليكم "صوت انطلاق جواده، ووقع الحوافر".

- الرجل المسلم: وهاهو خالد ينطلق إليكم "صوت انطلاق جواده، ووقع الحوافر".

(صمت قصير)

- جرجة "في صوت حازم": يا خالد، اصدقني، ولا تكذبني، فإنَّ الحُرَّ لا يكذب، هل أنزل الله على نبيكم سيفاً من السماء، فأعطاك إياه، فلا تسلّه على أحد إلّا هزمته؟

- الصوت "في هدوء": وبكل ثقة هدوء يقول خالد: لا.

- جرجة: فيمَ سُمِّيتَ سيف الله إذن!؟

- الصوت: ويرد خالد بهدوئه وثقته على سؤال جرجة فيقول له: إنَّ الله بعث فينا رسوله، فمِنّا مَنْ صدّق، وِمنّا من كذّب؟ وكنتُ فيمن كذَّب، حتى أخذ الله قلوباً للإسلام وهدانا برسوله فبايعناه، فدعا لي الرسول بالنصر، وقال لي: "أنتَ سيف من سيوف الله"، فهكذا سُمِّيتُ سيفَ الله.

(صمتٌ قصير)..

- جرجة: وإلامَ تدعون؟

- الصوت: ويرد خالد فيقول: إلى توحيد الله وإلى الإسلام..

(صمت)..

- جرجة: هل لِمنْ يدخل في الإسلام اليوم مثل ما لكم من المثوبة والأجر؟

- الصوت: ويرد خالد فيقول له: نعم وأفضل..

(صمت).. (ويندهش جرجة)

- جرجة: كيف وقد سبقتموه؟

- الصوت: فيقول له خالد: لقد عشنا مع رسول الله ورأينا آياته ومعجزاته، وحق لمن رأى ما رأينا وسمع ما سمعنا أن يسلم في يسر، أما أنتم فإن أجركم أجزل وأكبر، إذا صدقتم الله سرائركم ونواياكم.

(الصوت يتابع حديثه بصوتٍ عالٍ فخور).

     جرجة "يصيح وقد دفع جواده إلى ناحية خالد ووقف إلى جواره": علمني الإسلام يا خالد.

     وأسلم الرجل وصلى لله ركعتين لم يُصلِّ سواهما.
***

مشهد تمثيلي (2)

الشخصيات: جرجة – رجل مسلم

صوت المعركة عنيفاً شديداً، وقع حوافر الجياد، صهيلها، السيوف وصليلها، صراخ الفرسان.

- جرجة "بأعلى صوته": يا معشر المسلمين، الثباتَ الثباتَ تُنْصَروا، أنا جرجة الرومي، إليَّ إليَّ نُلقِ أنفسنا في قلب المعركة.

- الرجل المسلم "بأعلى صوته": يا معشر المسلمين، لَنِعم ما انتدبكم إليه أخوكم جرجة.. "صمت".. يا جرجة أنا معك، هيا بنا.

"صوت انطلاق الجوادين"

- جرجة "بأعلى صوته": بالأمس قاتلتُ مع الروم، واليوم مع المسلمين، والله لأصدُقنَّ الله الجهاد. (حفيف سهم) وَيْ!.. أُصِبتُ والله، فُزتُ والله، (يهدأ صوته): أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله.
*****

إسلام الهُرْمُزان

إسلام الهُرْمُزان

     اتسعت الفتوح الإسلامية في أيام عمرَ بنِ الخطاب رضي الله عنه، وامتدت امتداداً واسعاً، ومضى المسلمون كالسيل الأَتِيِّ يقتحمُ كلَّ ما في طريقه، ويمضي مسرعاً صوبِ غايتهِ دون إبطاء.

     كانت الجيوش المسلمة تعودُ بالظفر والغَلَبةِ والتمكين، وكان عمرُ، رضي الله عن عمر، يدبر أمورَها وأمورَ المسلمين من مقره في المدينة المنورة.

     وذات يوم وقع فارسي كبير أسيراً بين أيدي المسلمين الذين حملوه إلى المدينة المنورة ليحكم فيه الخليفة عمرُ بما يشاء. ذلك الأسير هو الهُرْمُزان وهو أحد قادة الفرس الكبار، وأحدُ الذين أبلَوا في حرب المسلمين وقاتلوهم بعناد وإصرار.

     جيء بالهُرْمُزان أسيراً، وهو قائد وحاكم، وأمير ومقاتل، وهو فارسي مُغْرِق في الفارسية، له في قومه مكانة وأهمية وخطر، لكن عمر رضي الله عنه شديد في الحق لا يعرف بجانبه ما يقيم له الناس وزناً وأهمية من عادات وتقاليد. لقد كان كالسيف المصلت لا يبالي إذا ما نزل ما الذي يقطعه أو يَفْصِمه ما دام الحق يقضي عليه بذلك.

     دعا الهُرْمُزان إلى الإسلام فأبى الهُرْمُزان ذلك، وظل متمسكاً بخرافات دين المجوسية، فاشتد ذلك على عمر، أيرفضُ هذا الأسير دين الإسلام وهو نور وشفاء، وهداية للبشرية التائهة الحائرة الضاربة في أعماق الشقاء، شقاء الجاهلية؟ أينأى عن الحق وقد دُعِيَ إليه؟ أليس له عقل رشيد يقارن به بين دين الإسلام وبين المجوسية؟ أيرفض الهُرْمُزان دين الإسلام تسوقه قحة وكبرياء؟ هل غرّته منزلته الكبيرة في قومه فأدخلت على نفسه الصلف والغرور والنأي عن الحق البيّن الصريح؟ يا ويح الهُرْمُزان لماذا لا يسلم.. لماذا!؟

     وعاد عمر رضي الله عنه يطلب من الأسير الفارسي الكبير أن يدخل في الإسلام، وعاد الهُرْمُزان يأبى ذلك في عناد وإصرار.

     وتذكر عمر قوة هذا الأسير وجبروته وحروبه الطويلة ضد المسلمين، وانتقاضه عليهم الكرّةَ تِلْوَ الكرّة، تذكر ذلك ورآه بين يديه أسيراً لا حول له ولا طول قد وقع بين أيدي المسلمين دون شرط له عليهم سوى أن يُساق إلى عمر ليرى رأيه فيه.

     إنه أسيرٌ لم يؤتَ أماناً، وليس له عقد ولا شرط، وهو يصر على كفره وباطله، إذن فالقتل هو ما يستحقه هذا العدو القويُّ الماكر، الصادُّ عن دين الله، الثابت على جهالة المجوسية وسخافتها وتفاهتها. وأمر الخليفة العظيم، العادل الحازم أن يُقتل الهُرْمُزان.

     أصاخ الهُرْمُزان إلى حكم عمر في دهشة وخوف، لكنه كان رجلاً عركته الأيام، وتقلبت به الدنيا، فهو ثابت القلب، رابط الجأش، رزين قوي، لذا لم يقابل حكم عمر بضعف أو خَوَر، فما ذاك من طبيعته، إنه رجل مجرِّب وله عقل ذكي أريب، وفؤاد فطِن لبيب، وبديهة وقّادة جيّاشة، ترى هل يسعفه ذلك في هذا الموقف الصعب العصيب؟ أيُسلِمُ يا ترى لينجو من القتل؟ لكنه إنْ أسلم فإن لقائل أن يقول: أسلم خوفاً من القتل، ولم يسلم عن رغبة في الإسلام صادقة.

     وطَفِقَ الهُرْمُزان يُعْمِلُ عقله، ويحرك ما سكن من ذكائهِ وفطنَتهِ، وهو موقِفٌ يَشُقُّ فيه التفكيرُ الهادئُ المنظَّم، فالحكمُ بالموتِ قد صدر، والسيفُ على رأسه يكادُ يَهْوي به ولم يبقَ سوى لَحَظات.

     وهتف الهُرْمُزان بأمير المؤمنين عمر يطلبُ منه شَربةَ ماء قائلاً: إذن ذلك خير من قتلي على الظمأ!.

     ووقعت هذه الكلماتُ من عمرَ في أحسنِ مَوْقِع، فهو رضي الله عنه، على شِدَّته وحَزْمِه رقيقُ القلب، رحيمٌ شفوق، ومن يدري فربما يعيدُ الأسيرُ النظرَ في مَوْقِفِه فَيُسْلِم، لذا سارعَ يأمرُ للهُرْمُزان بشَرْبَة ماء كما كان قد طلب.

     أمسك الأسيرُ الإناءَ بين يديه، ونظرَ إليه وأطالَ النظر، وفي نفسِه ضِرامٌ مُتَّقِد، وفي نفس الخليفةِ ترقّبٌ وانتظار، والجمعُ من حَوْليهِما ساكنٌ صامتٌ ينتظر نهايةَ المَشْهَد.

     ورد الأسيرُ إناءَ الماء عن فمهِ ولم يشربْ منه قطرةً واحدةً، وسأل الخليفة: أنا آمنٌ حتى أشرب!؟ قال الخليفة العظيم: نعم، عندها ألقى الهُرْمُزان الإناءَ من يديه، فسال الماء على الأرض، وقال لعمر -وهو ينظرُ إليه في ثقة وهدوء، وَتُؤَدَة وعزة نفس-: "الوفاءُ نورٌ أبْلَج". وسكت عمر، وسكت الهُرْمُزان، وسكتَ الجمعُ من حولِهما، وساد المكانَ صمتٌ مشوبٌ بكثيرٍ من التوجُّسِ والترقُّبِ والانتظار.

     ما الذي يريدهُ هذا الأسيرُ الفارسي!؟ أهي حيلةٌ يريدُ أن ينجُوَ بها من القتل!؟ ولكن هل في مُكْنَتِه ذلك!؟ لقد نال الأمانَ حتى يشربَ؛ فهل يمكنُ له أن يَظل بلا شُربٍ مدةً طويلة!؟ إن هذا الفارسي ذكيٌّ داهيةٌ، ولكن ما عسى أن ينفَعَهُ ذكاؤهُ سوى أن يؤجِّلَ القتلَ عدةَ أيامٍ حتى يستبدَّ به العطشُ فإن شرِبَ فقد زال عنه الأمان.

     وعرف الأسير أنه ليس مقتولاً الآن، وأن ما سلكه قد هيّأ له سبيل النجاة إلى حين، ورُفِع السيفُ عن رأسه، فأبرقت عيناه بالفرح والسرور. إنه يستطيع الآن أن يختار، وهو إن فعل ذلك فليس لأحد أن يتهمه بأنه فعل ما فعل رغبة في النجاة من القتل، فهاهو قد نجا منه إلى حين بلباقته وذكائه، وحسن تصرفه في الموقف الصعب الذي كاد يطيح برأسه.

     لقد كان الموت واقفاً على رأسه، فلم تكن له إرادة، بل كان الإكراه والخوف والرهبة، أما الآن وقد صار إنساناً له رأي لا يشوب فِعْلَهُ شائبة، ففي مُكنتِه أن يحقق الأمل الذي يرجوه، وأن ينال خيرين معاً في وقت واحد: أن ينجو من القتل، وأن يُسلِمَ دون أن يكون في إسلامه مجال لِمُؤَوِّلٍ أو مُتَقَوِّل.

     كان الهُرْمُزان قد عزم في سره على الإسلام، لكنه أراد أن يتخذ إليه هذا الأسلوب الذكي الحكيم، وهكذا كان. فقد قطعَ الصمتَ الذي ران على الجمع صوتُ الأسير الفارسي وهو يردد: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله".

     وبُهِتَ الحاضرون وفرحوا، وسادَ الجوَّ نوعٌ من الإعجاب والصمت والدهشة والانتظار. لقد عصمَ الأسيرُ دمَهُ الآن ونجا من القتل، بل إنه الآن أخٌ لهؤلاء في الإسلام له ما لهم، وعليه ما عليهم.

     وطفقَ الأسير الذكي الأريب ينظر في وجوه القوم مِن حوله يحاول أن يستقرئ من ملامحها وأساريرها ما الذي يجول في أفئدة أصحابها من مشاعر وخواطر، وظلَّ يتمعَّن في ذلك بهدوء وثقة، وصمتٍ واعتداد حتى سمع قول عمرَ يخاطبه: "ويحك! أسلمتَ خيرَ إسلامٍ فما أَخَّرك؟" قال الأسير الذكي: "خشيتُ يا أمير المؤمنين أن يقالَ: إن إسلامي كان جزعاً من الموت".
*****

أبو موسى الأشعري والبصري

أبو موسى الأشعري والبصري

     كان رجل من أهل البصرة، ذو شدة وقوة، وعزة وإباء، ونكاية في العدو بالغة ماضية، يعمل مع أبي موسى الأشعري والي البصرة من قبل الخليفة العظيم عمر بن الخطاب.

     ولأمرٍ ما حدث خلاف بين صاحبنا وبين أبي موسى.. ولأمر ما جلده أبو موسى عشرين سوطاً، وحلق له شعره، إمعاناً في العقوبة والتأديب.

     لكنّ صاحبنا لم يكن من النوع الهيّاب الوجل، لقد كان يعرف قدر نفسه، ويعرف عدل الإسلام وسماحته، حيث ضمِن لكل فرد حريته في حدود الشريعة السمحة. إنه دين الإباء لا الخنوع، والعدل لا الجور، والسماحة لا العدوان.

     لقد امتلكه الغيظ، واستبدّ به الألم.. فقد رأى أن أبا موسى قد جاوز قدره، وظَلَم.. وأنزل به عقاباً لا يستحقه.

     إذن فليذهب إلى المدينة المنورة، وليعرض ظُلامته على عمر بن الخطاب نفسه، ولينظر بماذا يحكم.. فهو عادلٌ أمين، لا يحابي في الله أحداً قط كائناً مَنْ كان.
* * *

     وجمع الرجل شَعْره وهو حزين النفس، منقبض الصدر، مكلوم الإباء، جريح الكرامة، ومضى يحث خطاه إلى المدينة المنورة ليطرح شكواه بين يدي الخليفة نفسه.

     لقد حفظ الإسلام لكلٍ كرامته وعزته، وربّى فيه الإباء والترفع، وصان له شخصيته أن تُهان، وحاط له حقه أن يذل، فلا بد له إذن من طلب حقه، ولو كان خصمه والي البصرة أو غيره، فالحق أكبر من الجميع.

     والتقى صاحبنا بالخليفة العظيم، وإلى جواره يجلس المجاهد الشهم جرير بن عبد الله البجلي الذي حدثنا فقال: كنتُ أقرب الناس حينذاك من عمر، فأدخل الرجل يده، فاستخرج شَعْره في غيظ، ثم ضرب به صدر عمر بن الخطاب!..

     ولا بدَّ أن جلساء الخليفة ذهلوا لهذه الجرأة الغريبة، لكن الخليفة العظيم لم يتغير قط. ما ثار في وجه الرجل.. ذلك أنه توقع أن يكون قد فعل ما فعل تحت وطأة ظلم قاساه، أو جور حدث له، فهو موتور متألم.. وهو كذلك معذور.

     قال الرجل: "أما والله لولا..."، وسكت ولم يتم كلامه.. فقال عمر في حِلم وأناة: "صدق؛ لولا النار..". لقد أدرك عمر أن في الرجل عزة وإباء ورجولة.. كانت حَرِيّةً أن تدفعه إلى البطش بأبي موسى، لولا خوف من الله عز وجل، جعله يحسب حساب النار وأهوالها.

     قال الرجل: "يا أمير المؤمنين إني كنت ذا صوت ونكاية في العدو.." ثم مضى يقص الأمر حتى قال: ضربني أبو موسى الأشعري عشرين سوطاً وحلق رأسي، وهو يرى ألا يُقْتَصَّ منه.

     وأعجب الخليفة العظيم بهذا الرجل الأبيّ الذي لو كثر أمثاله في الناس لما تجرَّأ أحدٌ على الطغيان!.. ذلك أن وجود الجبناء الأذلاء هو الذي يصنع بطش الطغاة، وظلم المتجبرين. فالطغاة لا يولدون طغاة، إنما يصنعهم ضعف النعاج.

     قال عمر معجباً بالرجل، معتذراً عنه: "لأن يكون الناس كلهم على صرامة هذا، أحب إليَّ من جميع ما أفاء الله عليّ". ثم كتب إلى أبي موسى الأشعري يقول له: "فإنْ كنتَ فعلت ذلك في ملأ من الناس فعزمت عليك لما قعدت له في ملأ من الناس حتى يقتص منك، وإن كنت فعلت ذلك في خلاء من الناس فاقعد له في خلاء من الناس حتى يقتص منك".
* * *

     ومضى الرجل يحث الخطى إلى البصرة، ودفع كتاب الخليفة إلى الوالي وانتظر. وأسقط في يد أبي موسى، وعلم أن الحق أكبر منه وأعظم.. وفكّرَ وفكرّ، ثم أذعن للحكم العادل، وكان يوماً مشهوداً!..

     اجتمع الناس ليشهدوا منظراً عجباً.. وسُرَّ كثيرون بالعدل يأخذ مجراه، وفرحوا بشريعة الله تعلو على الجميع، لكن كثيرين آخرين ودّوا لو أن الرجل يعفو ويصفح، لذا أحاطوا به يطلبون منه التنازل والسماح، ويذكِّرونه بأبي موسى ومكانته الكبيرة بين المسلمين فضلاً وعلماً وتقوى.

     وألحّ الناس على الرجل يطلبون منه العفو والسماح، لكنه أجابهم في شد وحزم وصرامة، لا والله، لا أدعه لأحد من الناس.

     وأخذ العدل مجراه، وعلت شريعة الله فوق الجميع. وقعد أبو موسى الأشعري بين يدي الرجل ليقتص منه، وصمت الناس، وهدأت منهم الأنفاس، واشرأبت منهم الأعناق، وساد المكان جو من الرهبة والترقب والانتظار.

     ووقف الرجل مستعلياً بالحق، ووجد أنه لا أحد قط يمنعه من ضرب أبي موسى عشرين سوطاً، وحَلْق رأسه أمام الناس.. وأحس بكرامته يحفظها له الدين، ويُعليها له الإسلام.. فرفع رأسه إلى السماء وقال: اللَّهمَّ قد عفوت عنه!.

     وسكت الرجل، وسكت أبو موسى، وسكت الناس.. إعجاباً بهذا الرجل الأبيّ الذي ما سكت على الظلم.. لكنه كان سريعاً إلى السماح وقد ملك أسباب القصاص.
*****

عُمَيْر بن سعد.. والي حمص

عُمَيْر بن سعد.. والي حمص

     كان الخليفة الراشد عمر بن الخطاب شديد الحرص، عظيم الدقة، في اختيار ولاته، ذلك أنه يعلم جيداً خطورة الأمر وجلاله؛ كما كان يعلم أنه مسؤول أمام الله عز وجل عن هذا الاختيار.

     وقد أثرت عنه عبارة يمكن أن يُنظر إليها على أنها القانون الذي وضعه لاختيار الولاة. كان يقول: "أريد رجلاً إذا كان في القوم وليس أميراً عليهم؛ بدا وكأنه أميرهم، وإذا كان فيهم وهو عليهم أمير؛ بدا وكأنه واحد منهم. أريد والياً لا يميّز نفسه على الناس في ملبس، ولا في مطعم، ولا في مسكن، يقيم فيهم الصلاة، ويقسم بينهم بالحق، ويحكم فيهم بالعدل، ولا يغلق بابه دون حوائجهم".

     لا شك أنها شروط تكشف مدى دقة الفاروق، ومدى حرصه على رعيته، ومدى إحساسه بخطورة المسؤولية الملقاة على عاتقه إذ يختار من يختار لمناصب الولاة.

     وعلى هديٍ من هذه الشروط الدقيقة، والضوابط الصارمة، تم اختياره لعمير بن سعد ليكون والياً على حمص. وحاول عمير أن ينجو من هذه المسؤولية، فأبى الفاروق وأصرّ على إلزامه إياها فقبل عمير ومضى إلى عمله.

     وبعد عام كامل وجد الفاروق أنه لم يصل إليه من عمير شيء لا خراج، ولا كتاب، فاستقدمه على عجل فجاء، ولكن كيف جاء؟
* * *

     وصل عمير إلى المدينة المنورة قادماً من حمص، متعباً مرهقاً مكدوداً أشعث أغبر، عليه وعثاء السفر، ويبدو عليه الإجهاد والعناء. كل زاده الذي جاء يحمله جراب فيه شيء من الطعام، وقربة فيها شيء من الماء، وعصا يتوكأ عليها، ويجاهد بها عدواً إن عرض.

     وألقى الوالي سلامه على الخليفة، ونظر الخليفة إلى الوالي فحزن لما رآه عليه من آثار الإعياء. فسأله بعد رد السلام،

- فقال له: ما شأنك يا عمير؟

- قال عمير: شأني ما ترى، ألستَ تراني صحيح البدن، ظاهر الدم، معي الدنيا أجرها بقرنها؟

- قال الخليفة: وما معك؟

- قال الوالي: معي جرابي أحمل فيه زادي، وقصعتي آكل فيها، وإداوتي أحمل فيها وضوئي وشرابي، وعصاي أتوكأ عليها، وأجاهد بها عدواً إن عرض، فوالله ما الدنيا إلا تبع لمتاعي.

     أسمعت ما الذي يقوله الوالي العظيم؟ أرأيت مدى زهده وترفعه وإبائه؟ أعلِمتَ أي نفس نبيلة كان يمتلكها هذا المؤمن العظيم؟
* * *

- ويعود الخليفة فيسأل الوالي: أجئت ماشياً؟

- فيقول الوالي: نعم،

- فيقول الخليفة: أولم تجد من يعطيك دابة تركبها؟

- فيقول الوالي: إنهم لم يفعلوا، وإني لم أسألهم.

- فيقول الخليفة: فماذا عملتَ فيما عهِدنا إليك به؟

- فيقول الوالي: أتيت البلد الذي بعثتني إليه، فجمعتُ صلحاء أهله وولّيتهم جباية فيئهم وأموالهم. حتى إذا جمعوها وضعتُها في مواضعها، ولو بقي لك منها شيء لأتيتك به.

- قال الخليفة: فما جئتنا بشيء؟

- قال الوالي: لا.

- قال الخليفة: جددوا لعمير عهداً.

- قال الوالي: تلك أيام قد خلت، لا عملت لك، ولا لأحد بعدك.
* * *

     إنه لا شيء من المبالغة قط في هذا الحديث، إنما هو واقع تاريخي حدث فعلاً في دنيا الناس.

     أي عملاق كان عمير بن سعد!؟ أي نفس شامخة تلك التي كانت بين جنبيه!؟ لقد رأى الدنيا كلها قد اختصرت في متاعه الزهيد، وكذلك النفوس التي تصفو، وتعلو، وتسمو، فتنظر إلى زخرف الحياة، لا كما ننظر نحن، بل كما ينظر رجل راشد إلى صبية صغار يتنازعون على شيء من النوى.

     ثم هو يرتحل من حمص إلى المدينة المنورة ماشياً على قدميه، ذلك أنه ما وجد من يعطيه دابة يركبها، ولا سمحت له نفسه العملاقة أن يطلب ذلك من أحد، فكان أن طوى الطريق على رجليه منتصراً على مشاقه وصعابه، ذلك أنه كان قد انتصر من قبل ذلك على نفسه، فصار يحملها على ما يريد، رافضاً أن تحمله هي على ما تريد. وكذلك النفوس الأبيّات تعمل، وإنه لعمل شاق ثقيل، مُضنٍ عنيف.

     وحين يفرح الفاروق العظيم بسبب ما رأى من واليه الذي نجح في الاختبار الصعب، يحاول تجديد عهده بالولاية على حمص، لكن عمير بن سعد، يأبى ذلك أشد الإباء، ويرفضه أصعب الرفض، ذلك أنه يعلم جيداً أن المسؤولية تكليفٌ لا تشريف، وجهدٌ لا راحة، وعناءٌ لا قعود، ثم هي حسابٌ بين يدي الله تعالى عسيرٌ عسير.

     رحم الله الخليفة العملاق، ورحم واليه العملاق، هما وأمثالهما الرجال.. أما أكثر الناس فهم أشباه رجال!.
*****

الأكثر مشاهدة