الأحد، 26 سبتمبر 2021

كتاب الرثاء في شعر البارودي وشوقي وحافظ - الفصل الثالث - 03 - ظاهرة الفخر


الفصل الثالث
(الرثاء في شعر البارودي) 

03- ظاهرة الفخر:

     كان البارودي واحداً من الشعراء الفرسان الذين تفوقوا على من حولهم في الشعر وفي السياسة في آن واحد، وقد نشأ معجباً بأخلاق الفروسية العربية عبر تاريخها القديم، وتمثلها أحسن تمثل وأعمقه، وكان يرى نفسه واحداً من الفرسان الذين يشار إليهم بالبنان، لشجاعته ومكانته وعراقته ومواقفه ولشعره أيضاً. وقد لازم البارودي هذا الإحساس الكبير بالتفوق والأهمية طيلة عمره، حتى في ساعة العسرة والشدة، وكانت تصرفاته تنسجم مع هذا الإحساس انسجاماً تاماً، وظهر هذا في أيام نفيه كما ظهر في أيام عزته ومجده.

     والناظر في مراثي البارودي يجد معالم هذا الإحساس واضحة جلية، بكل ما تستدعيه من عزة نفس وترفع وفخر. نجد ذلك في رثائه لزوجته عديلة يكن الذي يبدأ بقوله:

أيــد المنـــــون قدحـــــت أي زنــــاد
               وأطــرت أيــة شعـــــلة بفــــــــؤادي
أوهنـــت عزمي وهو حمـــلة فيـــلق
               وحطمت عودي وهو رمح طراد[1]

     فهو يصف نفسه بأنه ذو عزم كبير، وقدرة على الاحتمال، ومع ذلك هده موت زوجته، فإذا كان الشاعر محزوناً من جانب فهو يعلي من قدراته التي فتك بها المصاب من جانب آخر ليجعل المصيبة أكثر هولاً، وفي هذا من الفخر وعزة النفس ما فيه.

     ويجد البارودي في نفسه شبهاً بفارس عربي شهير هو الحارث بن عباد، كانت له مواقف بطولية كثيرة، فيود أن يصنع صنيعه لمواجهة الدهر وكفه عن زوجته، لو كان ذلك يجدي:

لو كان هذا الدهر يقبـــــل فدية     بالنفس عنك لكنت أول فـــادي
أو كان يرهب صولة من فاتـك     لفعلت فعل الحارث بن عبـــاد
لكنـــها الأقـــدار ليس بنـــاجع     فيها سوى التسليم والإخـــــلاد

     وفي رثائه لولده علي الذي مات أيام المنفى، يعتصم بالحلم والصبر بدل الجنون على فقده، محمولاً على ذلك بالحياء والإباء، لذلك يبكي عليه قلبه لاعينه:

لولا اتقاء الحياء لاعتضت بالحـ     ــــلم هيـــــاماً يحيـــق بالجـــــلد
لـكن أبــت نفسي الـكـــــريمة أن     أثــــلـم حــد العـــــزاء بالكمــــد
فليبــــك قـلبي عليـــك فالعيـن لا     تبـــلغ بالدمع رتبــــة الخــلد[2]

     وفي رثائه لوالده يأسى البارودي على نفسه لأن موته تركه صغيراً في السابعة من عمره لا يأبه أحد لتهديده ووعيده، وهو شعور مبكر بشخصيته وأهميته:

مضى وخلفـــني في ســـــن ســــــابعة
               لا يرهب الخصم إبراقي وإرعادي[3]

     وإذا كان البارودي قد عاش فرداً بين أقربائه ليتمه المبكر، فإنه في شبابه فرد بين أنداده متفوق عليهم بالمجد والرفعة، وهو قد بلغ بفضل ربه عليه ما يستغني به عن الناس فما يمد يده إلا للعطاء، ولا تسير به قدمه إلا للعون، وهو في ذلك يسير على طريق والده الذي له فضل السبق والريادة في هذه المكارم:

فإن أكن عشت فرداً بين آصـرتي     فها أنـــا اليوم فرد بين أنـــــدادي
بلغت من فضل ربي ما غنيـت به     عن كل قار من الأملاك أو بـادي
فـــما مددت يـــدي إلا لمنـــح يــد     ولا سعــــــت قدمي إلا لإسعــــاد
تبعـــت نهـج أبي فضلاً ومحميــة     حتى برعت وكان الفضل للبـادي

     ويختم البارودي رثاءه لأحمد فارس الشدياق بثلاثة أبيات يعزي في الأول منها ابن الفقيد وفي البيتين الآخرين يقدم له قصيدة الرثاء التي حمله عليها الوفاء ودعاه إليها الود:

فلا تعطيــن الحزن قلبك واستعـــن     عليه بصبر فهو في الحزن أنجـــع
وهــاك على بعــد المزار قريبـــــة     إلى النفس يدعـــوها الوفاء فتتـــبع
رعيت بها حق الوداد على النـــوى     وللحق في حكم البصيرة مقطع[4]

     وفي رثائه لأمه تلقانا هذه الأبيات التي يقترن فيها الحزن بالفخر والإحجام بالإقدام، وحركة النفس بحركة الجسد:

فيـــا خبـــراً شف الفـــــؤاد فأوشكت
               سويـــداؤه أن تستحيـــــل فتســـــجما
إلـيـــك فقـــد ثـلمت عرشــاً ممنـــعـاً
               وفـللــت صمصــاماً وذللت ضيغــما
أشـــاد به الـنــاعي وكنت محاربــــاً
               فـألقيـــت من كفي الحسام المصــمما
وطــارت بقـــلبي لوعة لو أطعتـــها
               لأوشـــك ركن المجــــد أن يتهـــدما
ولكنـــني راجعــــت حلمي لأنثــــني
               عن الحرب محمود اللقاء مكرما[5]

     إن خبر وفاة الوالدة فاجأ البارودي وهو في الحرب فأحزنه حزناً شديداً وأضناه، وثلم عرش مجده، وفل سيفه، وأذله وهو الأسد، فما كان منه إلا أن ألقى السلاح من كفه لأنه كاد يطيع أحزانه التي تدعوه للقعود، ولو فعل ذلك لتهدم ركن مجده، لكن إباءه غلب حزنه فعاد إلى القتال ليؤوب منه آخر المطاف وهو محمود السيرة بما أبدى فيه من الشجاعة. وواضح ما في هذه الأبيات من عزة وإباء، فالحزن الشديد الذي اعتصر قلب الشاعر لم ينسه واجباته القتالية التي تحدوه إليها رغبته في العزة والسيادة والمجد. ويلاحظ أن البارودي اختار في قصيدته هذه – من حيث يدري أو لا يدري – ما اختاره المتنبي من قبل، حين رثى جدته بحراً وقافية، لأن المتنبي وهو شاعر الفخر الأكبر ساكن في أعماقه.

     إن ما نجده في مراثي البارودي من فخر وعزة وإباء، أمر منطقي ينسجم مع البارودي سيرة وإحساساً ومواقف، لقد كان شاعراً، وكان فارساً، وكان رائداً، وكان مقاتلاً، وكانت روحه روح الفارس العربي الذي أشرب خلاصة الفروسية وأخلاقها العالية نبلاً وإقداماً ووفاء وترفعاً.

     هذه الروح إلى جانب عراقة أصوله، إلى ما رزق من ثراء وجاه، إلى طموحه الكبير للمجد، إلى ما تسنمه من عليا المناصب، تجعله جديراً بأن يفخر بنفسه وبشعره وبمواقفه، وفخره هذا فخر صادق ومقبول، صادق لانسجامه مع روحه ونفسه ومواقفه، ومقبول لأنه ينسجم مع مسيرة حياته كلها فلا نشعر إزاءه بالتكلف والافتعال والادعاء. إنه فخر رجل جليل القدر يعرف قدره ويصف نفسه بما هو فيها حقاً.

     ويذكرنا هذا الجانب في مراثي البارودي، بجانب مماثل نجده لدى المتنبي. لقد كان إحساس المتنبي بنفسه إحساساً قوياً حاداً، لذلك لم تكن شخصيته تذوب أمام ممدوحيه، وهو أمر اتسق مع حياته كلها التي انتهت نهايتها المأساوية المعروفة، ولهذا لم يكن فخره بنفسه نشازاً ولا مستنكراً.

     والأمر يتكرر لدى البارودي، فشخصيته حاضرة في مراثيه، وإحساسه الحاد بها بارز تماماً. فكان هذا الشعور الذاتي منه بنفسه ملازماً له في رثاء أقربائه كأمه وأبيه وابنه، وكان ملازماً له في رثاء أصدقائه الآخرين.

     لكأن البارودي كان يستحضر باستمرار صورة الفارس العربي النبيل، وماتوجبه هذه الصورة من التخلي عن صفات هابطة حتى لو جرت نفعاً، والتحلي بأخرى عالية حتى لو سببت أذى، وكأنه كان يستحضر باستمرار أنه واحد من الفرسان الذين ينبغي لهم أن يكونوا على ما تلزمهم به تلك الصورة.

     من أجل ذلك كان للفخر حيز واضح في مراثيه، وكانت لوازم الفروسية واضحة فيها، وكان الثناء على الميت يقترن بالثناء على النفس، وكان أعلام الفرسان العرب حاضرين في حسه.

     ومن هنا لنا أن نفسر أسف الشاعر على أبيه، وعلى نفسه حين رثاه، لأنه مات وهو في سن السابعة حيث لا يأبه به أحد، ولا يخاف الناس وعيده ولا يرجون وعده. ومن هنا لنا أن نفسر اعتزاز الشاعر بنفسه وفخره بها وهو يرثي زوجته، وحياءه وإباءه وهو يرثي ابنه، واستشعاره معنى الوفاء وهو يرثي الشدياق، وخوف الاتهام بما لا يليق وهو يرثي أمه. وحين يفعل البارودي ذلك، لا يقدح صنيعه في صدق عاطفته إزاء من يرثيهم، فعاطفتا الصدق والفخر هنا عاطفتان لا تقفان موقف التضاد والتناقض، بل موقف التكامل والتلاحم، فهو يرثي لأنه وفي، وهو وفي لتشبعه بأخلاق الفرسان وهي أخلاق يحق لصاحبها أن يفخر بها.

-------------
[1] الديوان 1/237.
[2] الديوان 1/248.
[3] الديوان 1/250.
[4] الديوان 1/242.
[5] الديوان 2/394.

كتاب الرثاء في شعر البارودي وشوقي وحافظ - الفصل الثالث - 02 - إحصاء بمراثي البارودي


الفصل الثالث
(الرثاء في شعر البارودي) 

02- إحصاء بمراثي البارودي:


     لو نظرنا إلى مراثي البارودي لوجدناها قليلة من جهتين، الأولى من حيث عدد القصائد، والثانية من حيث عدد الأبيات في القصيدة الواحدة، فالمراثي لا تصل إلى عشرين قصيدة، أطولها رثاؤه لزوجته الذي يقع في سبعة وستين بيتاً، ورثاؤه لوالدته الذي يقع في اثنين وخمسين بيتاً، ثم نجد قصيدتين في رثاء علي الطهطاوي وأحمد فارس الشدياق كل منهما في تسعة وعشرين بيتاً، وما بقي قصائد تقل حتى تصل إلى أن تكون بيتين أو ثلاثة أبيات.

     وفيما يلي جدول عام بالمراثي، اعتمدنا فيه على طبعة دار المعارف للديوان التي تقع في أربعة أجزاء، وفيها ست عشرة قصيدة، وهناك قصيدتان عثرنا عليهما في ((أوراق البارودي)) للدكتور سامي بدراوي:

موضوع القصيدة                                    مكانها في الديوان            التاريخ
1. رثاء ابنته                                            1/81                        1885م
2. رثاء عبدالله فكري                                1/81                        1889م
3. رثاء عبدالله فكري وحسين المرصفي        1/104                      1889م
4. رثاء حبيب مطران                               1/133                      1900م
5. رثاء عديلة يكن                                    1/237                     1883م
6. رثاء ابنه علي                                     1/248                      1890م
7. رثاء والده                                          1/250                      1860م
8. رثاء أجداده                                        2/39
9. رثاء حاضنته                                      2/111
10. رثاء ولده علي                                  2/111                        1890م
11. رثاء ولده علي                                   2/112                       1890م
12. رثاء أحمد فارس الشدياق                     2/242                      1887م
13. رثاء قبائل                                        3/136
14. رثاء والدته                                       3/394                       1882م
15. رثاء إسماعيل سليم                             3/414                       1865م
16. رثاء علي الطهطاوي                          4/99                         1903م
17. رثاء أخته                                         70
18. رثاء صديق                                      108

     هذا وقد صدر ديوان البارودي، في طبعة متقنة عن دار المعارف في القاهرة، في أربعة أجزاء، وذلك على النحو التالي:

* الجزآن الأول والثاني .
     وقد حققهما علي الجارم ومحمد شفيق معروف. وقد صدرا عام 1971م.

* الجزآن الثالث والرابع .
     وقد حققهما محمد شفيق معروف وحده، وقد صدر الجزء الثالث عام 1972م. * أما الجزء الرابع فقد صدر عام 1974م.

كتاب الرثاء في شعر البارودي وشوقي وحافظ - الفصل الثالث - 01 - البارودي وشعره


الفصل الثالث
(الرثاء في شعر البارودي) 

01- البارودي وشعره:


     ولد محمود سامي البارودي عام 1839م، لأسرة شركسية أماً وأباً، هيأت له مجموعة من العوامل الأساسية التي وضعت عليه بصماتها المميزة في سائر مراحل حياته العاصفة، وأول هذه العوامل: خلق الجندية التي أشبعته بمعاني الشجاعة والإقدام والطموح والإباء، وهو ما دفعه إلى أن يكون سياسياً مغامراً وفارساً تمثل خلاصة أخلاق الفرسان النبيلة المتوارثة منذ أيام الجاهلية.

     والعامل الثاني: قدر طيب من الثراء جعله يعيش ناعماً رخي البال، يعينه ما بيده على ما جبل عليه من تعفف وإباء، ويعينه أيضاً على الانكباب على دراسة دواوين الشعر العربي الأولى واستيعابها، ويعينه أيضاً على توثيق صلته بكبار رجال الدولة وشخصيات المجتمع وهو ما زاد من طموحه وثقته بنفسه.

     والعامل الثالث: أن أسرة البارودي كانت تجل الثقافة الإسلامية والعربية، وتحرص على أن ينشأ ابنها على قدر صالح منها، ومن هنا أحضرت له أمه التي كفلته بعد أبيه من يعلمه القرآن الكريم والتاريخ والحساب والشعر والفقه والتفسير، وهو ما كان له خير زاد في تكوين شاعريته وتلوينها، بل وفي توجهه السياسي، فقد أحب الشاعر الإسلام حباً جماً، كما أحب العرب باعتبارهم حملة رسالته الأوائل، وهو حب جعله يخلص أشد الإخلاص لمصر وللمصريين، بل ويقف معهم ضد أبناء عمومته من الشراكسة الذين كانوا يشعرون أنهم أفضل من المصريين بسبب التشابه والتلاقي بينهم وبين المماليك والأسرة العلوية.

     دخل البارودي المدرسة الحربية عام 1850م، ليتخرج منها عام 1854م لكنه ما يلبث أن يعمل في وزارة الخارجية في إستامبول، وكان هذا نعمة عليه، إذ وثق صلته باللغتين التركية والفارسية، فضلاً عن دواوين الشعر العربي الذي كانت كثير من مخطوطاته تقبع في مكتبات إستامبول ليحفظ منها ما يحفظ، وينسخ منها ما ينسخ فتتكون له مكتبة عامرة.

     وشاء القدر الذي أراد أن يجمع له بين الفروسية والشعر، أن يرده ثانية إلى الجندية، وذلك حين ذهب الخديوي إسماعيل إلى إستامبول عام 1863م ليشكر للسلطان العثماني توليته على مصر، حيث انتهز البارودي الفرصة والتحق بحاشية الخديوي، وعاد إلى مصر وهو في ريعان شبابه، تحدوه مطامح كبيرة وطاقة نفسية وبدنية، وموهبة أصيلة، رأت أن مكانها المواتي لغراسها هو مصر.

     ويترقى البارودي في سلم الجندية إلى مقدم فعقيد فعميد، ويذهب في زيارة عسكرية إلى بريطانيا وفرنسا تزيد من خبرته العسكرية، وتطلعه على ما في هذين البلدين من صور ومناظر جميلة.

     وحين قامت في جزيرة كريت عام 1865م ثورة ضد الحكم العثماني، أرسلت مصر حملة تعين إستامبول على قمعها، كان البارودي أحد قادتها اللامعين، وأبلى في الحرب بلاء حسناً، وهو ما جعل فروسيته على محك الامتحان العملي فنجح في هذا الامتحان فكانت فروسيته فروسية حقيقية، وليست مجرد أشعار تنظم وأحاسيس تتوهج.

     ويعود البارودي إلى مصر محفوفاً بالمجد، فيلحقه الخديوي إسماعيل بحاشيته، ثم يجعله كبير الياوران لابنه توفيق، ثم يصطفيه مجدداً سكرتيراً خاصاً به عام 1875م، ويحمله خلال ذلك رسالتين إلى الدولة العثمانية.

     ويبدو أن الشاعر ضاق بعمله في حاشية إسماعيل، ورغب في العودة إلى الجيش فكان له ذلك عام 1877م، حيث تستنجد الدولة العثمانية بمصر في حربها مع روسيا فتنجدها بحملة كان البارودي أحد قادتها فأبلى فيها بلاء كبيراً جعل الأتراك ينعمون عليه برتبة أمير اللواء ووسام شرف رفيع.

     وتتوثق صلة البارودي بجمال الدين الأفغاني الذي نزل مصر عام 1871م، والذي ترك فيها آثاراً خطيرة جداً، يمكن أن يعد بها الأب الروحي لثورة عرابي عام 1882م وهي الثورة التي كانت لها في حياة مصر عامة، وحياة البارودي خاصة، أعمق الآثار، ويظهر هذا بوضوح منذ عودة البارودي من الحرب الروسية العثمانية إلى مصر عام 1878م تسبقه أخبار شجاعته ليرقى إلى رتبة اللواء، وليبدأ دوره في الأحداث يصعد إلى قمته، فيعين مديراً للشرقية، ثم محافظاً للقاهرة، ثم وزيراً للأوقاف والمعارف للمرة الأولى في وزارة محمد شريف التي شكلها عام 1879م وهي السنة التي خلع فيها الخديوي إسماعيل عن عرش مصر ونصب ابنه محمد توفيق مكانه.

     ويتسارع إيقاع الأحداث التي تدفع بالبارودي وعرابي إلى مركز الضوء والتأثير، حيث يتقدم عرابي وصحبه بمذكرة إلى الحكومة في 17/ 1/ 1881م مطالبين فيها بعزل عثمان رفقي وزير الحربية والبحرية وإصدار قوانين تحقق العدل والمساواة بين ضباط الجيش، المصريين والشراكسة، فيقصى عثمان رفقي عن الوزارة التي تؤول إلى البارودي. على أن الخديوي توفيق لم يلبث أن يقصي البارودي، الذي يفيء إلى شيء من العزلة والترقب في ضيعة له في المنصورة.

     وتتطور الأحداث لنرى البارودي وزيراً للحربية والبحرية في وزارة محمد شريف الثانية، ثم تتطور لنرى البارودي رئيساً للوزراء عام 1882م، حيث يعهد بوزارة الحربية والبحرية لعرابي. لكنه لا يلبث أن يستقيل عقب إنذار القنصلين البريطاني والفرنسي في 25/ 5/ 1882م الذي طالبا فيه الحكومة بإقالة الوزارة وإبعاد عرابي، وهو الإنذار الذي رفضته حكومة البارودي وقبله الخديوي وهو ما حمل البارودي على الاستقالة فاستقال، وظل عرابي يصرف شؤون وزارته ويعد البلاد لمقاومة الغزو البريطاني الذي لاحت بوادره.

     وفي اليوم الحادي عشر من شهر يوليو سنة 1882م يبدأ الغزو البريطاني لمصر باحتلال الإسكندرية، ويقاوم عرابي الغزاة ويعينه البارودي إذ يدعوه للقتال في معركة القصاصين، وينتهي الأمر بمأساة عامة وخاصة، عامة تقع فيها مصر في قبضة الاحتلال البريطاني، وخاصة يسجن فيها البارودي وعرابي ورفاقهما، ثم ينفون إلى سيلان، حيث تحملهم الباخرة من السويس في 28/ 12/ 1882م لتصل بهم إلى كولومبو في 10/ 1/ 1883م.

    ويظل البارودي في منفاه سبعة عشر عاماً، يتجرع غصص الأحزان والغربة والندم، وتجتمع هذه المصائب عليه مع مصيبة المرض ومصيبة الكدر الذي أصابه من تلاوم الأصدقاء، فيرحل عام 1890م إلى وسط جزيرة سيلان ويقيم في كندي في منطقة جبلية جميلة، ويتزوج ابنة أحد رفاقه في المحنة يعقوب سامي.

     ويشتد المرض بعينيه فيلح عليه الأطباء أن يقدم التماساً إلى الخديوي عباس حلمي للعفو عنه، فيستجيب له الخديوي الشاب الذي كانت بداية حكمه بداية واعدة جداً، فيعود البارودي إلى وطنه عام 1900م، وترد عليه أملاكه المصادرة، لكنه لم يلبث أن يفقد بصره نهائياً، فيمضي السنوات الأربع التي بقيت له من عمره أعمى حتى يموت في 15/12/1904م بعد أن فرض نفسه على الأحداث في مصر، وبعد أن احتل لنفسه مكانة متميزة في الشعر العربي، جعلت منه أحد أعلامه الكبار، وأحد رواده المجددين الذين غيروا في طريقه وحولوا في مجراه.

     وكما يظهر في الساسة والقادة والدعاة من يكون نقطة تحول، يظهر في الشعر من يكون نقطة تحول، والبارودي واحد من هؤلاء فهو نموذج تكاملت لديه الصفات التي جعلته بحق رائداً ومجدداً ونقطة تحول في الشعر العربي الحديث. اجتمع لديه الطبع الحاد الذكي، والذاكرة القوية اللاقطة، والدرس المتأني، وظروف العيش المواتية من مال وجاه وأسفار، وطريقة في الاتصال بروائع التراث الشعري القديم تجاوز بها المألوف من أنماط الدراسة في عصره، فنجا مما كان خليقاً أن يكبل موهبته لو أنه درس بالطريقة المعتادة، التي تعلي من تقاليد الصنعة في عصور الضعف، وتهبط بالموضوعات إلى درجة التفاهة والهوان، فعاد بذلك إلى عيون الشعر العربي في أزهى عصوره وهو ما جعل طبعه يسير في جادة الاستواء والارتقاء، فتلاقى الطبع القادر برائع الشعر الذي أكمل موهبته وصقلها، بالظرف المواتي ليجعل منه رائداً يشار إليه بالبنان.

     جدد البارودي في موضوعات الشعر، فإذا بنا نجد شعره يعبر عن نفسه، وعن عصره، وعن آمال شعبه وآلامه فثمة شعر ذاتي، وثمة شعر وطني، وثمة حديث عن الشـورى والحكم والعدالة، وثمة حديث عن الأهرام، وهذا كله جديد على موضوعات من سبقه، حيث كان الشاعر يبدد موهبته، في موضوعات تافهة مثل التهنئة بدار تبنى، أو مولود يفد إلى الحياة، أو عودة من سفر أو تعزية بأثير وما إلى ذلك. وتجديد البارودي في موضوعات شعره خلص الشعر العربي من درك الموضوعات التافهة وارتقى به إلى أفق عال ذي طابع قومي عام.

     وكما جدد البارودي موضوعياً جدد فنياً فالعبارة عنده تتصف بالفحولة، وقوة الترابط والأسر فكأنها قطع منحوته نحتاً محكماً يصلك بنماذج الشعر العربي القديم في أروع عصوره، متجاوزاً قرون الضعف والغثاثة.

    ويروعك في شعـره الصدق المؤثر، فهو ـــ لمجموع مكوناته المتميزة المتكاملة ـــ شاعر فارس أبي تمثل أخلاق الفروسية العربية أروع تمثل، وأخلاق الفرسان تحتقر الكذب والنفاق، وتعلي من قيمة الصدق والوفاء والإباء وهو ما يظهر في شعر البارودي بأجلى الصور.

     ويروعك فيه التصوير لخلجات النفس وأشواقها وأحزانها، مثلما يروعك تصويره للمادي من الأشياء والمناظر والأحداث.

     وموسيقاه جميلة مؤدية، يحسن فيها اختيار البحور، ويحسن فيها بناء الموسيقى الداخلية داخل البيت الواحد لتجتمع معاً فتكون اللحن المؤثر الموصل.

     يدل شعره عليه فتكاد تلمس شخصيته من خلال الحدث والعصر والنزعات والمطامح، وهو أمر شديد الأهمية إذ إن عصور الضعف جعلت شخصية الشاعر تكاد تغيب فلا تدري له ملمحاً ولا خاصية.

     لقد كان البارودي بحق رائداً ومجدداً، في موضوعاته التي طرقها، وفي صناعته الفنية المتميزة، وفي موقفه من الحكام، فشذ في هذه المجالات شذوذ المتفوق الذي يرفع راية تخالف من حوله، فما يلبث أن يعجب بها ويفيء إليها عدد يتزايد ولذلك كان أثره هائلاً على من بعده، وكان فضله على عصره أوسع من فضل عصره عليه كما يقول العقاد ([1]). وكما كان عصره عصر بعث، وكان فيه أحد رواد البعث السياسي والوطني، كان شعره شعر بعث وتجديد وإحياء. ولذلك يمكن لنا أن نصفه بأنه رائد متنوع الريادة.

     لقد طوى البارودي القرون وتجاوز عصور الضعف ليتصل بعصور القوة وليحمل من بعده على متابعة هذا الاتصال، وتلك خطوة ضخمة كان هو رائدها وفارسها. حقاً إنه لم يأت من فراغ، وحقاً إن فيمن قبله إرهاصات إيجابية مهدت له، لكنه كان الذروة التي آلت إليها محاولات التخلص من عصور الضعف، وكان النموذج الجديد للشعر الذي كتب له أن يحظى بشرف تمثيله أحسن تمثيل.

     حاكى القدماء فلم تذب شخصيته، وجدد مستفيداً من أجود عناصر الشعر القديم فظل في إطار الشعر العربي الزاهي، ولذلك ما تكاد تقرأ فيه حتى تشعر أنك معه، ومع المتنبي وأبي فراس والشريف الرضي وغيرهم من فحول الشعراء. يقول الأستاذ أحمد حسن الزيات: ((إن كان لامرئ القيس فضل في تمهيد الشعر وتقصيده، ولبشار فضل في ترقيته وتجويده، فللبارودي كل الفضل في إحيائه وتجديده، كان الشعر في عهده صورة مشوهة من آثار القرون الأخيرة المظلمة، نظم مرتبك، وتكلف باد، وصناعة فاشية، ومعنى غير مستقيم، فجلاه في خاطره وصقله على لسانه فجاء منضد اللفظ نقي المستشف ... لذلك تحس وأنت تقرأ قصيدة من نظمه أن أرواح أولئك الفحول تحوم حول روحه، وتحلق فوق أبياته))[2].

     أما الأستاذ العقاد فيقول: ((إن البارودي هو صاحب الفضل الأول في تجديد أسلوب الشعر وإنقاذه من الصناعة والتكلف العقيم ورده إلى صدق الفطرة وسلامة التعبير، وإنه جمع بين إحكام الصنعة وشرف العبارة وصدق الإبانة عن كل سريرة من سرائره))[3].

     أما أستاذنا الدكتور شوقي ضيف فإنه يشيد بمنزلة البارودي ويرفعها مكاناً علياً حيث يقول:((والحق أن لواء البارودي يظل جميع الأجيال التالية له مهما اختلفت مدارسها بين المحافظة والتجديد لسبب بسيط، هو أنه نفض عن الشعر العربي أكفانه العثمانية وبعث فيه روح الحياة، وأعده لكي يتطور أنحاء من التطور تتفاوت قوة وضعفاً حسب منازع الشعراء وملكاتهم وشخصياتهم، ولعلي لا أبعد إذا قلت: إنه لولاه ما استأنفت الأمة العربية حياتها الشعرية الخصبة المعاصرة هذا الاستئناف الحي المثمر، فقد أتاح لها أن تستعيد لشعرنا ازدهاره ازدهاراً لا يقل نضرة ولا جمالاً عن ازدهاره في عصور العروبة الذهبية))[4].

     أما الأستاذ عمر الدسوقي فإنه يقدم للبارودي هذه الشهادة: ((يدين الشعر العربي الحديث للبارودي بأنه النموذج الحي الذي احتذاه الشعراء من بعده وساروا على نهجه في أسلوبه وأغراضه وذلك لأنه أتى بشعر جزل رائق الديباجة عذب النغم، في حقبة ساد فيها شعر الضعف والصنعة وضحالة المعنى وعقم الخيال، ثم إنه مثل عصره أتم تمثيل، وكان صدى لحوادث بيئته فكان قدوة لمن جاء على أثره في التجديد. أضف إلى ذلك أنه علمهم كيف يتجهون إلى الأدب العربي في أزهى عصوره ويغترفون من ذخائره بحيث لا تفنى شخصياتهم))[5].

     وهكذا تتضافر شهادات الدارسين للبارودي، لتجمع على ريادته وتفوقه، وأثره الكبير على الشعر العربي الحديث لا في مصر وحدها، بل في جميع البلاد العربية، بحيث يمكن أن يعد بجدارة نقطة تحول مضيئة في تاريخ الشعر العربي كله.

-------------
[1] شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي، ص 142.
[2] تاريخ الأدب العربي، دار الثقافة، بيروت، ط 26، ص 493.
[3] شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي، ص 265.
[4] البارودي رائد الشعر الحديث، دار المعارف، القاهرة، ط3، 1977م، ص 173.
[5] في الأدب الحديث، دار الفكر العربي، القاهرة، ط 3، 1954م، 1/206.

كتاب الرثاء في شعر البارودي وشوقي وحافظ - الفصل الثاني - 16 - ملحق: مراثٍ من نوع آخر


الفصل الثاني
(الرثاء في شعر حافظ) 

16- ملحق: مراثٍ من نوع آخر:


     ثمة نوع من الشعر لا ينتمي إلى شعر الرثاء الذي يتخذ من رثاء الأفراد موضوعاً له، لكنه يتصل به اتصالاً وثيقاً، فهو لا يبكي أفراداً بأعيانهم، ولكنه يبكي كوارث عامة، كزلزال، أو حريق، أو سقوط دولة، أو خلع حاكم، أو فاجعة وطنية، وما إلى ذلك.

     وفي شعر حافظ مجموعة من القصائد تنتمي إلى هذا اللون من الشعر، يحسن الوقوف عندها لاتصالها الوثيق بالرثاء.

     لحافظ قصيدة جيدة قالها في حريق ميت غمر، وهو حريق هائل شب في ميت غمر عام 1902م ودام أسبوعاً من الزمن وهو ما جعل الكارثة أكبر في الأرواح والأشياء وقد تشكلت لجنة لمساعدة المدينة المنكوبة ونشطت الصحف والناس في ذلك نشاطاً محموداً، وكان لحافظ دوره المشكور في هذه الكارثة حيث نظم قصيدته التي مطلعها:

ســـــائلوا الليل عنهم والنهــــارا     كيف باتت نساؤهم والعذارى[1]

     وهي قصيدة جيدة، فيها صدق العاطفة، وفيها الإهابة المحمودة بالنجدة، وفيها انحياز إلى هموم الفقراء والمنكوبين، وفيها تصوير حي مؤثر، يقول حافظ:

كيف أمسى رضيــعهم فقــد الأم     وكيف اصطلى مع الـقـــوم نارا
كيف طاح العجـــوز تحت جدار     يتــــداعى وأسقـــف تتجــــارى
رب إن القضــــــاء أنحى عليهم     فاكشف الكرب واحجب الأقدارا
ومر النــــــار أن تـكــــف أذاها     ومر الغيـث أن يسيــــل انهمارا

     ويوفق حافظ توفيقاً بعيداً في تصوير النار الجائحة المدمرة:

أشعـــلت فحمة الدياجي فباتت     تمــلأ الأرض والسماء شـرارا
غشيتهم والنحس يجري يمينـاً     ورمتهم والبؤس يجري يسـارا
فأغــــارت وأوجه القوم بيـض     ثم غـــارت وقد كستـــهم قـارا
أكــــلت دورهم فلما استقــــلت     لم تغـــادر صغارهم والكبــارا
أخرجتـــهم من الديـــار عـراة     حـــذر الموت يطلبون الفـرارا
يلبســـون الظـــلام حتى إذا ما     أقبـــل الصبـــح يلبسون النهارا

     ويذكر الأغنياء القادرين بواجبهم إزاء المنكوبين:

أيها الرافلون في حلل الوشـ     ـي يجرون للذيول افتخـــارا
إن فوق العراء قوماً جيــاعاً     يتـــوارون ذلة وانكســـــارا

     ولحافظ قصيدة جميلة عنوانها ((حسرة على فائت)) وفق فيها توفيقاً بعيداً، يبكي فيها أمته ويبكي فيها نفسه في حزن مرير ولوعة بادية:

لم يبـــــق شيء من الدنيا بأيدينا     إلا بقيـــة دمـــع في مآقينـــــــــا
كنـــا قلادة جيد الدهر فانفرطت     وفي يمين العــلا كنا ريـاحينــــا
كانت منـــازلنا في العز شـامخة     لا تشرق الشمس إلا في مغانينـا
وكان أقصى منى نهر المجرة لو     من مائه مزجت أقــــداح ساقينـا
والشـــهب لو أنها كانت مسخرة     لرجم من كان يبدو من أعادينـــا
فلم نزل وصروف الدهر ترمقنـا     شـــزراً وتخدعنا الدنيا وتلهينـــا
حتى غدونــــا ولا جاه ولا نشب     ولا صديق ولا خل يواسينـا[2]

     والقصيدة قطعة دامعة يتداخل فيها الحزنان الخاص والعام، وتغمرها عاطفة صادقة كسيرة والموسيقى بحراً وقافية رائعة، ولعل من دواعي توفيق الشاعر في هذه القطعة أنه قالها عام 1902م أيام بؤسه وشقائه.

     ولحافظ قصيدة دامعة هي ((إلى الإمبراطورة أوجيني)) وفي القصيدة طرافة وغرابة، وأمرها أن الإمبراطورة أوجيني زوجة نابليون الثالث وفدت إلى مصر عام 1869م، للمشاركة في احتفال افتتاح القناة بدعوة من الخديوي إسماعيل الذي أقام حفلاً رائعاً كانت هي إحدى نجومه الوضاء، ثم دالت دولتها بعد وفاة زوجها فهجرت فرنسا، وفي عام 1905م جاءت إلى بورسعيد لتنزل متنكرة في أحد فنادقها، فأحزن أمرها الشاعر، فنظم هذه القصيدة مواسياً إياها، وباكياً مضيفها الخديوي إسماعيل الذي عصف به الزمان:

أيـن يوم القنــــال يــا ربة الـتــــا
               ج ويـــا شمس ذلك المهرجـــــان
أين مجري القنـــال أين مميت الـ
               ــمال أين العـزيـــــز ذو السلطان
أين هارون مصر أين أبو الأشـــ
               ـــبـــال رب القصور رب القيـان
أيـــن ليـــث الجزيــــرة ابن علي
               واهب الألـــف مكـرم الضيفـــان
أين ذا القصر في الجزيرة تجري
               فيــه أرزاقنـــــا وتحبـــو الأماني
فيــه للنحس كوكب مسرع السيــ
               ـــر وللسعــــد كوكب متـــــواني
قد جـــرى النيــــل تحته بخشـوع
               وانـكســــار وهابـــــه الـفتيـــــان
كنت بالأمس جنة الحور يا قصــ
               ـــر فأصبحـــت جنــة الحيــــوان
إن أطافت بـك الخطوب فهــــذي
               سنـــة الكون من قديـــم الزمـــان
رب بـــان نـــــأى ورب بنــــــاء
               أسلمتـــه النــوى إلى غير بــــاني
تلك حـــال الإيوان يا ربة التــــــا
               ج فما حــــال صــاحب الإيـــوان
قـد طواه الردى ولو كــــان حيــاً
               لمشى في ركـــــابك الثـقـــــــلان
إن يكــن غــــاب عن جبينك تـاج
               كان بالغــــرب أشرف التيجــــان
فـلقــــد زانــك المشيـــــب بتــاج
               لا يدانيــه في الجــــــــلال مداني
كنت بالأمس ضيفــــة عنــد ملك
               فانزلي اليــــوم ضيفــــة في خان
واعذرينا على القصور، كلانــــا
               غيــــرته طوارئ الحدثــــان[3]

     والقصيدة جيدة حزينة طريفة، فيها رثاء للمضيف المنكوب، ومواساة للضيفة الزائرة، ونفس فلسفي موات للعزاء.

     ولحافظ قصيدة شهيرة في وصف ((زلزال مسينا)) وهي مدينة إيطالية أصابها زلزال عام 1908م مطلعها:

نبـئــــــاني إن كنتـــما تعــــلمان     ما دهى الكون أيها الفرقدان[4]

     وهي قصيدة طويلة تقع في تسعة وخمسين بيتاً، صور فيها الزلزال الذي عصف بالمدينة الإيطالية وصفاً فيه مبالغات غريبة، لكن فيها لفتات موفقة، وعاطفة حية وتصويراً مؤثراً كقوله:

رب طفل قد ساخ في باطن الأر     ض ينـــــادي أمي أبي أدركاني
وفتـــاة هيفاء تشـوى على الجمـ     ـــر تعــــاني من حره ما تعـاني
وأب ذاهـــل إلى النـــــار يمشي     مستميتــاً تمتـــد منه الـيـــــدان
بــاحثــــاً عن بنـــــــاته وبنيــــه     مسرع الخطو مستطير الجنـان
تــأكل النــار منه لا هو نـــــــاج     من لظـاها ولا اللظى عنه واني

     وفي القصيدة بيتان وفق حافظ فيهما توفيقاً بعيداً، في الأول منهما يجعل المدينة المنكوبة صبية حسناء يقصف الموت عمرها، وفي الثاني منهما يأتي بأربعة أفعال متوالية تصور السرعة البالغة للزلزال الذي دمرها:

ما لمسين عوجلت في صباها     ودعــــاها من الردى داعيـان
خسفت ثم أغرقت ثم بــــادت     قضي الأمر كــــله في ثواني

     ولحافظ قصيدة في السلطان عبدالحميد يوم خلعه، عنوانها ((الانقلاب العثماني)) جديرة بأن يتوقف عندها وعند صاحبها الدارس وقفة متأنية.

     كان السلطان عبد الحميد شخصية غير عادية، حكمت الدولة العثمانية فترة طويلة، في ظروف محلية وعالمية في غاية التعقيد، وكان لها دور إسلامي بارز جداً جعلها عند كثير من المسلمين الأمل المنقذ والخليفة الحامي. وفي عام 1909م عزله الجيش العثماني عن الحكم ليتولى من بعده محمد رشاد، وكان حافظ قد هنأ عبدالحميد عام 1901م بقصيدة وهنأه أيضاً عام 1908م بقصيدة أخرى.

     وفي القصيدتين ثناء كبير على السلطان، وإشادة به، ودعاء له، ومهاجمة لخصومه، لذلك لا غرابة أن نجد في قصيدته التي قالها يوم خلعه، حزناً على السلطان المعزول، ورثاء له، وإشفاقاً عليه، وإقراراً بإنجازاته، ويقيناً أنه خالد وهو في قيوده كما كان خالداً وهو في تاجه. يقول حافظ:

لا رعى الله عهـــدها من جـدود     كيف أمسيت يا ابن عبد المجيـد
أنت عبد الحميد والتــــاج معقـو     د وعبد الحميـــد رهن القيــــود
خـــالد أنت رغم أنف الليــــالي     في كبـــار الرجال أهل الخــلود
لك في الدهـر والكـــمال محـال     صفحـــات ما بين بيض وسـود
حاولوا طمس ما صنعت وودوا     لو يطيـــقون طمس خط الحديد
ذاك عبد الحميد ذخـرك عند الله     بـــاق إن ضاع عند العبيـد[5]

     ويدعو حافظ آسري السلطان إلى الرفق به ومراقبة الله تعالى فيه، ويذكرهم بضعفه وشيخوخته وبمكانته الهائلة التي جعلت المسلمين يدعون له ثلث قرن من الزمان على المنابر، فكان اسمه قريناً لاسم الله تعالى والرسول صلى الله عليه وسلم:

أكرموه وراقبوا الله في الشـيــ     ــــخ ولا ترهقوه بالتهديـــــــد
لا تخــافوا أذاه فــالشيـــخ هاو     ليس فيــه بقيــــة للصعــــــود
ولي الأمر ثــلث قرن ينــادي     باسمه كل مسلم في الوجـــود
كلما قـــامت الصلاة دعا الـدا     عي لعبـــد الحميد بالتــــــأييد
فاسم هذا الأسير قد كان مقرو     نــاً بذكر الرسول والتوحيـــد

     ومع ما في هذه القصيدة من حزن واضح وعاطفة صادقة، يأبى حافظ إلا أن يكدرها بما ينتقص من السلطان الذي يشيد به فيصفه بالظلم، ويصف فرحة الناس بعزله، ويصف مخاوفه ممن حوله، ويتساءل عن صحة ما نسب إليه من البكاء يوم العزل ومن العبث بالدين. ويعود حافظ إلى السلطان المخلوع مرة ثانية في قصيدته ((عيد الدستور العثماني)) لينال منه نيلاً مستغرباً فيقول عنه:

ولم يغن عن عبد الحميــــد دهـــاؤه     ولا عصمت عبد الحميـد تجــــاربه
ولم يحمه حصـــن ولم ترم دونــــه     دنـــانيره والأمر بالأمر حــــــازبه
ولم يخفه عن أعين الحق مخـــــدع     ولا نفق في الأرض جـــم مســاربه
أقـــام عليه مهلــكاً عنــــد مهـــــلك     يمر بـــه روح الصبـــــا فيواثبـــــه
تحــــاماه حتى الوهم خوف اغتيـاله     فلــــو مسه طيــــف لدارت لوالبـــه
وأسرف في حب الحيـاة فحـــــاطها     بسور من الأهوال لم ينــــج راكبــه
ســـلوه أأغنت عنه في يوم خلعـــــه     عجــــــائبه أو أحــــرزته غرائبــــه
وأصبـــح في منفاه والجيـــش دونـه     يغــــالب ذكـــرى ملكه وتغــــــالبـه
ينـــاديه صوت الحق ذق ما أذقتــهم     فكـــل امرئ رهن بمــــا هو كاسبـه
ودع عنك ما أملت إن كنت حــازماً     فــــلم يبــــق للآمال فضل تجـــاذبه
مضى عهد الاستبداد واندك صرحه     وولت أفـــــاعيه وماتت عقاربه[6]

     والحقيقة أن هذا التناقض الحاد في موقف حافظ يؤخذ عليه، وهو زلة ليس له أن يقع فيها، لا تليق بوفائه الذي عرف  عنه، ولعل مردها إلى عدم تعمقه في الأمور، وإلى رغبته في الحصول على رضا الجماهير، وعلى ممالأته لنفوذ القادم الجديد الذي ولي عرش السلطنة.

     وحين قامت الحرب العالمية الأولى شكا حافظ من العلم الذي صار سبباً للدمار والخراب، فصار نكبة على الإنسانية تجعل عهد الجاهلية أرفق منه، وذلك في قصيدة بعنوان ((الحرب العظمى)) يقول فيها:

لاهم إن الغرب أصبح شعـلة     من هولها أم الصواعق تفرق
العلم يذكي نارها وتثـــــيرها     مدنية خرقـــــاء لا تترفـــــق
إن كان عهد العلم هذا شأنــه     فينا فعهد الجاهلية أرفـق[7]

     ولحافظ قطعة جميلة حزينة مؤثرة عنوانها ((أيا صوفيا)) قالها يوم احتل الحلفاء إستامبول عقب الحرب العظمى، هي في حقيقتها بكاء دين مغلوب ودولة زائلة، وأيا صوفيا هي أمارة ذلك وعلامته:

أيـــا صوفيـــا حان التفـــرق فاذكري
               عهـــود كــرام فيـــــك صلوا وسلموا
إذا عدت يوماً للصـــليـب وأهــــــــله
               وحـــلى نواحيــــك المسيـــح ومريـم
ودقــــت نواقـيــــس وقـــــــام مزمـر
               من الــروم في محـــــرابه يتــــــرنـم
فــلا تنــــكري عهـــد المـــــــآذن إنه
               على الله من عهـــد النواقيــــس أكرم
تبــــاركت، بيت القـــدس جذلان آمن
               ولا يأمن البيــــت العتيــــق المحــرم
أيرضيـــك أن تغشى سنــــابك خيلهم
               حـمــــاك وأن يمنى الحطيم وزمــزم
وكـيـــف يــــــذل المسـلمون وبيــنهم
               كتـــــابك يتـــــلى كل يـــوم ويكـــرم
نبيـــــك محـــزون وبيتـــــك مطـرق
               حيــــاء وأنصـــــار الحقيـــــــقة نوم
عصينـــــــا وخالفنـا فعــــاقبت عادلاً
               وحكمت فينا اليوم من ليس يرحم[8]

     والقصيدة تناجي أيا صوفيا وتذكرها بأيامها الإسلامية الغراء، وتدعوها أن تتذكر هذه الأيام إذا عادت كنيسة لأن الإسلام أكرم من النصرانية. والقصيدة تناجي الله جل وعلا أن يلطف بالمسلمين الذين يتهدد الخطر مقدساتهم خلافاً لمقدسات النصرانية الآمنة، وتنتهي بوصف ضعف المسلمين وعجزهم لأنهم خالفوا دينهم فعاقبهم الله بأن سلط عليهم من لا يرحمهم. والقصيدة – على قصرها – مؤثرة باكية، حارة العاطفة، تجيش بالصدق والحزن والمرارة، تبكي ديناً فرط أصحابه فيه، ودولة هوت بعد أمجاد عظيمة.

--------------------
[1] الديوان، ص 250.
[2] الديوان، ص 433.
[3] الديوان، ص 328.
[4] الديوان، ص 215.
[5] الديوان، ص 357.
[6] الديوان، ص 362.
[7] الديوان، ص 400.
[8] الديوان، ص 402.

كتاب الرثاء في شعر البارودي وشوقي وحافظ - الفصل الثاني - 15 - وحدة وتعدد


الفصل الثاني
(الرثاء في شعر حافظ) 

15- وحدة وتعدد:


     يمكن القول: إن مراثي حافظ تبلغ اثنتين وستين مرثية أقلها بيتان، وأطولها مرثيته في سعد زغلول حيث تبلغ تسعين بيتاً، ثم مرثيته في عبدالخالق ثروت حيث تبلغ ثمانية وخمسين بيتاً، والباقي قصائد قصيرة أو متوسطة، ويبلغ مجموع أبيات مراثي حافظ قرابة ألف وخمس مئة بيت، فإذا أضفنا إلى ذلك ما تم تصنيفه تحت عنوان ((مراث من نوع آخر)) وهي مئتان وستة أبيات، وجدنا أنفسنا أمام حوالي ألف وسبع مئة بيت هي المجموع النهائي لأبيات حافظ في مراثيه، وهذا القدر من الشعر أكثر بكثير مما هو لدى البارودي، لكنه أقل بكثير مما هو لدى شوقي، ولكنه على كل حال يعطينا فكرة واضحة عن مراثي حافظ.

     والملاحظ أن أكثر مراثي حافظ تدور حول المرثي، وهو ما يجعلها أقرب إلى أن توصف بالوحدة، نجد ذلك في مراثيه في: عثمان أباظة - سليمان أباظة – البارودي – الإمام محمد عبده في التائية – مصطفى كامل – رياض باشا – علي يوسف – علي أبو الفتوح – سليم البشري – حسين كامل – محمد فريد – عبدالحميد رمزي – عبدالحليم المصري – إسماعيل صبري – سعد زغلول – أمين الرافعي – يعقوب صروف – عبدالخالق ثروت – محمود سليمان – محمد المويلحي – المنفلوطي.

     فإذا تذكرنا أن هناك عدداً من المراثي نظمها حافظ مخطئاً أو مجاملاً، وبعضها أبيات قلائل (بيتان للكواكبي – بيتان لعبدالله أباظة – بيتان لحبيب مطران– بيتان لابنة البارودي – بيتان لجورج الخامس – خمسة أبيات لمحمود الحامولي) كان لنا أن نقول: إن غالب مراثي حافظ الجديرة بالعناية والدرس هي الأقرب للوحدة، وقليل منها هو الذي يفتقر إليها مثل مراثيه في: جرجي زيدان – الإمام محمد عبده في البائية – أحمد حشمت باشا – شهداء العلم.

     وابتداء للدارس أن يقرر أن إلزام الشاعر بالوحدة في شعره أمر فيه تحكم كبير وحيف على طبيعة الشعر، فليس لنا أن نطالب الشاعر بما نطالب به كاتب المقالة العلمية من منهجية دقيقة وضوابط محكمة تمليها طبيعة الكتابة وطبيعة الكاتب، ذلك أن الشعر عمل العقل والقلب معاً. وعاطفة القلب لا يمكن أن تكون بحساب كحساب المهندس مع آلاته أو الكيميائي مع مختبراته، ولذلك فإن الأفضل لنا أن نطالب الشاعر بأمرين أساسيين هما الصدق والجودة، وهما أمران نجدهما ونفتقدهما في هذا النوع من الشعر وفي ذاك. ولذلك نجد في قصائد حافظ التي اتصفت بالوحدة الجيد وغير الجيد، ومثل ذلك يقال عن قصائده الأخرى، ولعل التمثيل يوضح ذلك.

     فقصيدة حافظ في رثاء عبد الحميد رمزي، وهي قصيدة تحظى بالوحدة، تعد من أجود مراثيه، وقد وفق فيها توفيقاً بالغاً من حيث الصدق والتصوير والموسيقى، ومطلع القصيدة:

ولدي قد طال سهــــــدي ونحيبي     جئت أدعوك فهل أنت مجيبي[1]

     في مقابل ذلك لو أخذنا قصيدة حافظ في رثاء الشيخ سليم البشري لوجدناها قصيدة عادية جداً ليس فيها من روعة الفن شيء، علماً أن هذه القصيدة تحظى بالوحدة، وهي التي يقول مطلعها:

أيدري المسلمون بمن أصيـــبوا     وقد واروا سليماً في التراب[2]

     إذا انتقلنا إلى القصائد التي يشيع فيها نوع من التعدد تأباه الوحدة، كان لنا أن نظفر بالجيد كقصيدته البائية في رثاء الإمام محمد عبده في ذكراه، حيث عرج الشاعر على ذكر واقعة غريبة وعلى رثاء حفني ناصف وعلى رثاء نفسه، وهذا كله لم يفقد القصيدة الروعة والجمال والقدرة على التأثير، وكذلك الأمر في رثائه لأحمد حشمت، ففي هذه القصيدة نوع من التعدد لم يؤثر على جودتها حين يبكي الشاعر نفسه ويتحدث عن مكر أعدائه به إذ يرى نفسه بدون نصير بعد موت المرثي الذي كان له سنداً وعوناً.

     في مقابل ذلك نجد قصيدة حافظ في رثاء باحثة البادية، وهي قصيدة طويلة تفتقر إلى الوحدة، قصيدة عادية جداً أو أقل من العادية، يهبط فيها الشاعر أحياناً إلى التقرير النثري الممل. يبقى لنا أن نقرر هنا أن غلبة الوحدة على مراثي حافظ، وغلبة الحجم المتوسط عليها، أمران يدلان على شخصية حافظ الذي يركز مراثيه في موضوعه دون أن يلجأ إلى نقاط هروب جانبية يستر فيها برودة عاطفته أو كذبها كالمبالغة في الحكمة أو الفخار بالشاعرية والأخلاق، ثم هو يفرغ شحنته العاطفية والفنية في مراثيه دون أن يحمل نفسه على الإطناب والتطويل.

--------------

[1] الديوان، ص 514 .
[2] الديوان، ص 503.

كتاب الرثاء في شعر البارودي وشوقي وحافظ - الفصل الثاني - 14 - موسيقى الشعر


الفصل الثاني
(الرثاء في شعر حافظ) 

14- موسيقى الشعر:


     عني حافظ بتوفير عناصر الموسيقى المؤثرة لشعره، ذلك أنه كان شاعر إلقاء من طراز نادر، وكان حريصاً على انتزاع إعجاب الجماهير وتصفيقها، وقد مر بنا من قبل ما روي عن اتخاذه رجلاً من عامة الناس يسمعه شعره بادئ ذي بدء، وما يدل عليه ذلك من رغبة حافظ من ناحية، ومن أثره على شعره من ناحية أخرى. هذا التوجه الذي ملك على حافظ اهتمامه، جعل لشعره مزايا كما جعل له عيوباً، فأما المزايا فأهمها قوة السبك وجودته، ووضوح اللغة وإشراقها، وجمال الموسيقى وفخامتها، وأما العيوب فأهمها السطحية وضعف الخيال.

     يقول الأستاذ أحمد أمين وهو يتحدث عن موسيقى حافظ: ((هذه العاطفة القوية التي شرحنا بحثت لها عن الثوب الذي تلبسه حتى عثرت عليه، فكانت صيغتها قوية وموسيقاها قوية، يفتش عن اللفظ حتى يجد أنسبه لنفسه وأنسبه لمعناه، ويعرض للمترادفات يقلبها حتى يختار خيرها، وينثر كنانته ليتخير أشدها عوداً وأصلبها مكسراً، ويعمد إلى الأساليب يتصفحها ليوائم بين المعنى واللفظ والأسلوب، وكان حافظ يسمي هذه العملية كلها ((التذوق)) ويمدح بعض الشعراء بأنه ((ذواق)) يريد أن له ذوقاً مرهفاً في اختيار اللفظ واختيار الأسلوب، وقد بالغ في ذلك حتى كان جهده في اختيار الألفاظ والأساليب يفوق جهده في ابتكار المعاني، فهو يذهب مذهب من يرى أن المعاني مطروحة في الطريق، وإنما الإجادة في الصياغة، وهو يستعين على ذلك بالموسيقى، موسيقى اللفظ، وموسيقى الأسلوب، وموسيقى الأوزان والقوافي. كان يصنع البيت فيردده على أذنه بإنشاده اللطيف حتى يتبين موقعه من أذنه قبل أن يوقعه على آذان الناس، ويتذوق موسيقاه بنفسه قبل أن يتذوقها الناس))[1].

     إذا تأملنا في كلمة الأستاذ أحمد أمين، وتذكرنا معها ما سبقت الإشارة إليه من قول حافظ عام 1928م لمحرر مجلة الهلال: ((أما أنا فأميت المعنى إذا لم يتفق لي لفظ رائع)) كان لنا أن نتوقع من حافظ موسيقى فخمة جميلة قوية التأثير.

     وإذا نظرنا في مراثي حافظ، وجدنا أنه كان يؤثر البحور ذات التفعيلات الكثيرة لذلك نجد بحور البسيط والخفيف والطويل والكامل هي الأكثر شيوعاً في مراثيه.

     واختيار هذه البحور ليس أمراً عفوياً من حافظ، ذلك أنها – لطولها – تناسب عدة أمور: فهي تتسع للمعاني التي يريدها أكثر من سواها، وهي تعين على التوجع وإطلاق الآهات والأحزان، وهي أيضاً تعينه على الإلقاء.

     أما اتساع هذه البحور للمعاني فيتضح من ملاحظتنا أنها بتفعيلاتها الكثيرة، تهيئ فرصة للشاعر يستطيع فيها أن يحشد قدراً أكبر من المعاني في البيت الواحد.

     يقول في رثائه رياض باشا، والقصيدة من البحر الطويل:

رحــــمت فما جـــــاه ينوه في العـــــلا
               بصــــاحبه إلا وجــــــاهك أوســــــــع
حكمت فما حكمت في قصـــدك الهوى
               طريقك في الإنصاف والعدل مهيع[2]

     ففي هذين البيتين اتسع المجال لحافظ ليشيد بجاه المرثي الذي ينوه به ويتفوق على كل جاه آخر، وليقرر أنه تجنب في أحكامه الهوى، بل اختار الإنصاف طريقاً بيناً واضحاً.

     ولو أخذنا قصيدة حافظ في رثاء مصطفى كامل التي قالها عام 1908م، وهي من البحر الطويل، نجد البحر يسعف الشاعر في التعبير عن معانيه، وكأنها بحاجة إلى تفعيلاته الثمانية، ليعبر من خلالها عما يريد قوله، ومطلع القصيدة نفسه يمكن أن نجد فيه هذا الأمر، وهو:

أيــــا قبر هذا الضيف آمـــــال أمة
               فكبر وهلل والق ضيفك جاثيا [3]

     فالشطر الأول منه فيه مناجاة للقبر، وبيان له أن الفقيد إنما هو آمال أمة، والشطر الثاني منه يستعمل فيه ثلاثة أفعال أمر، كلها تدعو القبر إلى احترامه للميت الذي هو ضيف مهم جداً، على القبر أن يجثو بين يديه. وفي قول حافظ في القصيدة نفسها:

فيا سائلي أين المروءة والوفـــــا
               وأين الحجا والرأي ويحك هاهيا

     نجد البحر يستوعب حديثاً بين الشاعر وشخص يسائله، وفي الحديث وصف للفقيد بأنه ذو المروءة والوفاء والحجا والرأي، تأتي هذه الأوصاف إجابة من الشاعر للسائل.

     وفي قوله أيضاً مخاطباً مصطفى كامل:

أجل أيهـــا الداعي إلى الخير إننا     على العهد ما دمنـا فنم أنت هانيا
بنـــــاؤك محفــوظ وطيفك ماثـل     وصوتك مسموع وإن كنت نائيـا

     نجد البحر يسعف حافظ خير إسعاف، فهو في البيتين يرد على مصطفى كامل، ويصفه بأنه الداعي إلى الخير، ويدعوه إلى النوم الهانئ ويبشره بأن من بعده على عهده، ويؤكد له في جمل متساوقة أن البناء محفوظ، فالزعيم الراحل يقود الناس بطيفه وبصوته مع أنه بعيد عنهم.

     وفي رثائه لتولستوي، يختار حافظ لقصيدته البحر الطويل، فيسعفه البحر في إيراد معانيه، حيث يقول مثلاً مخاطباً المرثي:

إذا زرت رهن المحـبسيـــــن بحفــرة
               بهــــا الزهـــد ثـــــاو والذكاء ستـــير
وأبصرت أنس الزهد في وحشة البلى
               وشـــــاهدت وجه الشيـــخ وهو منيــر
وأيقـنــــــت أن الـديـــــن لله وحـــــده
               وأن قـبــــور الـزاهديــــن قصــــــور
فقــــــف ثم ســـــلم واحتشم إن شيخنا
               مهيـــــب على رغم الفناء وقــور[4]

     ففي هذه الأبيات يقوم تولستوي بزيارة للمعري حيث الزهد والذكاء في قبره، وفي القبر البالي يجد الزائر أنس الزهد الذي عرف به المزور، ويشاهد وجهه المضيء، ويوقن أن الدين لله وحده، وأن قبور الزاهدين كالقصور لما فيها من عطاء الله تعالى لهم، ثم يطلب حافظ من تولستوي في ثلاثة أفعال أمر متوالية، أن يعرف قدر المعري، الذي لا يزال مكللاً بالوقار والهيبة . ولا ريب أن تفعيلات البحر الطويل الثمانية قد أعانت الشاعر وأسعفته على التعبير عن هذه المعاني.

     وفي قصيدة حافظ الأخرى التي قالها في رثاء مصطفى كامل وهي على البحر البسيط نجده يقول متحدثاً عن طيف الزعيم:

أرى جلالاً أرى نوراً أرى ملــكاً     أرى محيــــاً يحيينـــا ويبـتســــم
الله أكـبـــــر هـذا الوجه أعرفـــه     هذا فتى النيـــل هذا المفرد العـلم
غضــوا العيـــــون وحيوه تحيته     من القلوب إذا لم تسعد الكـلم[5]

     وفي هذه الأبيات الثلاثة نجد البحر يستوعب ما يريد حافظ أن يقوله بحق الزعيم خير استيعاب فللزعيم جلال ونور، وهو ملك كريم يبتسم، وهو ما يجعل الشاعر يهتف مكبراً أنه إزاء الزعيم العلم، ويطالب الناس أن يغضوا من أعينهم إجلالاً له، وأن يحيوه بقلوبهم إذا عجزت ألسنتهم.

     والبحر الكامل يعين حافظ في التعبير عن معانيه كما أعانه الطويل والبسيط، نجد ذلك في قوله مثلاً في رثاء عبد الخالق ثروت:

بالأمس مات أجلنــــــا وأعزنـا     جــــاهاً وأبقانا على الأحقـــاب
واليوم قد غـــــال الحمام أسدنا     رأياً فطاح بحكمة وصواب[6]

     ففي هذين البيتين رثى في الأول منهما سعد زغلول وفي الثاني عبدالخالق ثروت، ووصف الأول بالجلال والعزة والخلود، والثاني بالحكمة والرأي السديد الذي طاحت به المنايا، وهو ما جعل مصيبة الوطن كبيرة في خسارة زعيمين في وقت قريب.

     وما قيل عما في البسيط والكامل والطويل من عون على استيعاب المعنى بسبب كثرة التفعيلات يقال عن المتقارب والخفيف، وهذه البحور الخمسة هي أكثر ما استأثر بنصيب حافظ من الرثاء.

     وإذا كانت هذه البحور تعين على أداء المعنى، فإنها تعين أيضاً على التوجع وإطلاق الآهات والأحزان، فرثاء حافظ لجرجي زيدان وهو على البحر الطويل، نجد فيه قوله:

كفــــاني ما لقيت من لوعة الأسى
               وما نــــابني يوم الإمام كفــــــاني
تفــرق أحبـــــابي وأهلي وأخرت
               يــــد الله يومي فانتــــظرت أواني
وما لي صديق إن عثـــرت أقالني
               ومالي قريب إن قضيت بكاني[7]

     فالتفعيلات تعين على التعبير عن المد المترنم الذي يطلق الآهات والحسرات، ففي البيت الأول نجد: كفاني – نابني – كفاني، وهي كلمات تعين بجرسها وامتدادها على التنفيس عن الصدر المحزون كأنها تفرغ ما فيه من هم، وفي الثاني والثالث نجد تفرق الأحباب والأهلين وبقاء الشاعر بعدهم، وهو ما يجعله في كرب الانتظار خاصة أنه لا صديق له يعينه في حياته ولا قريب له يبكيه في وفاته، وذلك في عبارات متسقة مسترسلة كأنها نحيب، تعين على الوفاء بها تفعيلات البحر.

     وللإلقاء هنا وقفة لابد منها، فحافظ كما سبقت الإشارة شاعر يلقي قصائده بنفسه وقد كان لذاكرته القوية يحفظها فلا يلقيها من الورق، وكان صاحب إلقاء مؤثر جداً، لذلك كان يحرص على اختيار هذا البحور في غالب أمره لأنها بطولها وجلالها ووقعها تناسب جلال الحزن ووقار الموقف، كما تعين على الترنم والإنشاد، وهذا كله يؤثر في السامعين أبلغ تأثير.

     يقول في رثائه مصطفى كامل مصوراً حماية الله عز وجل للكنانة، وبقاءها على الدهر، وهلاك من أراد بها كيداً:

ماذا يريــــدون لا قرت عيــونهم     إن الكنــــانة لا يطوى لها عــــلم
كم أمة رغبت فيها فما رسخـــت     لها على حولها في أرضها قـــدم
ما كـــان ربك رب البيت تاركها     وهي التي بحبال منه تعتصم[8]

     إن الشاعر في هذه الأبيات وهي على البحر البسيط اختار ما يعينه على الإلقاء خير اختيار فالبحر يسمح له بالإنشاد الطويل، والترنم المؤثر، الذي يقع من السامع أحسن موقع، فهو يتساءل ويدعو ويقرر ويستدعي التاريخ، ويربط الأمر كله في النهاية بالله العلي القدير الذي يحفظ مصر لاعتصامها بحبله.

     وفي رائيته الرائعة التي قالها في مصطفى كامل، وهي على البحر الكامل، يخاطب حافظ الفقيد قائلاً له:

ما كان أحوجنــــا إليك إذا عــدا     عــــاد وصاح الصائحون بـدار
أين الخطيب وأين خـلاب النهى     طال انتظــار السمع والأبصـار
بــالله ما لك لا تجيب منـــــاديـاً     ماذا أصـابك يا أبا المغوار[9]

     إن هذه الأبيات الثلاثة مناسبة بتفعيلاتها المدوية لموقف حافظ وهو يلقي سائر القصيدة، ويجلجل بها، في موقف لعله فيه بكى وأبكى.

     ومما يتصل بالإلقاء أن حافظ كان يؤثر القوافي المطلقة لأنها تعينه على الإنشاد بما فيها من مد يسمح للصوت بالخروج بكل طاقته خلافاً للقوافي المقيدة التي لا تعينه على ذلك.

     وليس في مراثي حافظ من القوافي المقيدة إلا خمسة، هي قصائده في رثاء إسماعيل صبري (الحذر) وسعيد زغلول (المغيب) وشهداء العلم (صبر) وباحثة البادية (سير) ومحمد فريد (الأسد)، اثنتان منها يغلب عليهما المجاملة وهما قصيدتاه في سعيد زغلول وباحثة البادية، والثلاثة الأخرى كبقية مراثيه الجيدة.

     ولا ريب أن اختيار حافظ للقوافي المطلقة ينسجم أشد الانسجام مع كونه شاعراً يلقي قصائده، ويترنم بها، ويبكي ويبكي.

     وفي مراثي حافظ التي كان يحتشد لها نلحظ جانباً آخر من جوانب العناية بالموسيقى، وهو تجزئة التراكيب إلى جمل متوازنة متساوقة تساعد على أن يتوقف عندها خلال إلقائه فيحسن وقعها لدى السامع، وهذا نوع من الموسيقى الداخلية في إطار البيت الواحد له أثره ووقعه.

     ففي رثائه لمحمد عبده مثلاً يقول حافظ في البيت الثاني الذي يلي المطلع:

على الدين والدنيــــا، على العلم والحجا
               على البر والتقوى، على الحسنات[10]

     ففي البيت أربع وقفات تتساوق وتتناغم، وتعطي الفرصة للشاعر الذي ينشد أن يترنم وللسامع المتلقي أن يتأثر، ومثل ذلك يقال في وصف حافظ لبيت الفقيد العظيم الذي أقفر من صاحبه:

فيا منزلاً في عين شــمس أظلني     وأرغـم حســــــادي وغم عداتي
دعـائمه التقـــوى وآساسه الهدى     وفيه الأيـــــادي موضع اللبنات
عليـــك سلام الله مالك موحشـــاً     عبوس المغاني مقفر العرصات
لقد كنت مقصـود الجـوانب آهلاً     تطـــوف بك الآمال مبتــــهلات
مثــــابة أرزاق ومهبــط حكــمة     ومطلع أنوار وكنــــــز عظـات

     وفي قوله أيضاً في مصطفى كامل:

أجـــل، أيها الداعي إلى الخير إننــــــا
               على العهـــــد ما دمنـا فنم أنت هانيـــا
بنــــــاؤك محفـــوظ، وطيفك ماثـــــل
               وصوتك مسموع، وإن كنت نائيا[11]

     وفي قوله أيضاً مصوراً جزع الهلال على مصطفى كامل:

متــــلفتـاً متحيــــــراً متخيـــــــراً     رجلاً يناضل عنه يوم فخار[12]

     وفي قوله كذلك مصوراً طيف مصطفى كامل:

أرى جـــــلالاً، أرى نوراً، أرى ملكاً
               أرى محيـــــاً، يحيينــــا ويبتســـــــم
الله أكبـــــر، هذا الوجــــه أعرفـــــه
               هذا فتى النيل، هذا المفرد العلم[13]

     وفي رثائه لأحمد حشمت نجد قول حافظ:

يـــا دوحة للبر قد نشــــرت     في كـل صالحة لهـــا فرعا
ومنـــارة للفضـل قد رفعت     فـوق الكنـانة نورها شعــــا
ومثـــابة للرزق أحمدهـــــا     ما رد مسكيناً ولا دعا[14]

     فمن الواضح أن هناك أجزاء متساوية متساوقة تحدث قدراً من الموسيقى الداخلية يحسن وقعه في الأذن، كأنها وحدات تتكرر فيلذ وقعها ((يا دوحة للبر)) و((منارة للفضل)) و((مثابة للرزق))، وهذه الموسيقى الداخلية تضاف إلى بقية عناصر الموسيقى، من بحر وقافية لتحدث أثرها لدى المتلقي.

     وإذا كانت فخامة الموسيقى وقوتها لدى حافظ سبباً من أسباب تعلق الجماهير به وهو يلقي قصائده، فإنها في مقابل ذلك تقلل من قيمة هذا الشعر حين يقوم الإنسان بقراءته لنفسه من الديوان، وقد نبه إلى ذلك الأستاذ أحمد أمين حيث قال في مقدمته للديوان:((ومما يتصل بهذا أن حافظاً كان يؤثر في الجمهور بإلقائه بالقدر الذي يؤثر فيهم بنفس شعره، لقد كان في نبرات صوته وحسن إجادته في الإلقاء يلعب بعواطف السامعين كما يلعب بها بألفاظه ومعانيه، ومن أجل هذا يحسن ألا يقوم شعر حافظ ومقدار أثره في الجمهور بمقدار ما يقيسه قارئ ديوانه، فهو بقراءته يفقد جزءاً كبيراً من تأثيره السحري الذي كان يتركه في سامعه. ومن أجل هذا كان يطيل الوقت في تخير اللفظ الذي يحسن وقعه في السمع، كما يتخير الانسجام فيتغنى بالبيت قبل أن يدخله في عداد شعره، وينصت إلى جرسه ووقعه على سمعه قبل أن يبدأ بإيقاعه على أسماع الناس))[15].

     وما قاله الأستاذ أحمد أمين يتلاقى تماماً مع ما قاله الأستاذ عباس محمود العقاد في وصفه شعر حافظ بأنه ((لا يقرأ وإنما يسمع، ولو كانت في عهده أجهزة تسجيل لسجل شعره بدلاً من طبعه))[16]. وبهذا يمكن القول: إن شعر حافظ لا يلذ كثيراً لمن يقرأ الشعر وحده، ذلك أنه من الطبيعي، سوف يردده بينه وبين نفسه، وبذلك يضيع كثير من مزاياه الموسيقية المعروفة.

---------
[1] مقدمة الديوان، ص 89 – 90.
[2] الديوان، ص 481.
[3] الديوان، ص 463.
[4] الديوان، ص 478.
[5] الديوان، ص 474.
[6] الديوان، ص 544.
[7] الديوان، ص 497.
[8] الديوان، ص 474.
[9] الديوان، ص 465.
[10] الديوان، ص 458.
[11] الديوان، ص 463.
[12] الديوان، ص 465.
[13] الديوان، ص 474.
[14] الديوان، ص 580.
[15] مقدمة الديوان، ص 84.
[16] مقدمة الديوان، ص 48.

الأكثر مشاهدة