السبت، 21 مايو 2022

كتاب عمر أبو ريشة عاشق المجد - في رحاب فيصل

في رحاب فيصل

كان في رحـاب فيصـــل أمرح
وأنشط وأزهى منه في أي بلد


     تستحق صلة عمر بالملك فيصل وقفة فيها شيء من الأناة، فهي صلة فيها شيء من التميز والخصوصية، يزيد من قيمتها أن كلاً من طرفيها كانت له مكانته وحضوره.

     بدأت الصلة في الستينيات حين كان عمر سفيراً لبلده في واشنطن، فالتقى بالملك فيصل، الذي كان ولياً للعهد في بلاده ووزيراً للخارجية فيها، يوم جاء واشنطن رئيساً لوفد بلاده لدى الأمم المتحدة، وأتيح لهما هناك أن يتلاقيا ويتحدثا ويتناولا هموم الأمة، وتطورت الصلة فبلغت حد الإعجاب والتقدير المتبادلين.

     وبعد سنوات أحيل عمر إلى التقاعد فاستقر في بيروت، فعلم بذلك فيصل الذي كان قد صار ملكاً على بلاده فاستدعاه وأكرمه، وفي هذه «الفترة الفيصلية» من حياة الشاعر إذا جاز التعبير التي دامت خمس سنوات «1970- 1975م» تألق وأبدع، وازدادت شهرته واتسعت، وظفر الشعر منه بقصائد غالية، ولقي من أنواع التقدير المادي والأدبي الكثير، ففاض به السرور، وأحس بمزيد من النشاط والمرح، لذلك قالت زوجته منيرة محمد مراد عنه: إنه كان في جدة وفي رحاب فيصل أمرح وأنشط وأزهى منه في أي بلد.

     وقد أحبَّ عمر المملكة العربية السعودية وملوكها وأمراءها، وكثيراً ما كان يشيد بهم وبخاصة في وفائهم لأصدقائهم، وكان كثير الثناء على الملك عبدالعزيز موحد المملكة ومؤسسها.

     تولى الملك فيصل الحكم في فترة شاقة من حياة الأمة، فبذل جهوداً كبيرة داخل بلاده عادت عليها بأفضل النتائج، ثم اتسع باهتمامه فاتجه صوب العالمين العربي والإسلامي، فبذل فيهما جهوداً كبيرة لإطفاء الفتن ورأب الصدع وتأكيد أواصر الأخوة والمحبة، والعمل على نشر الإسلام والدفاع عنه، والوقوف بقوة في وجه التيارات الفكرية والسياسية الضالة التي نكبت البلاد والعباد، ورفع شعار «التضامن الإسلامي» وعمل من أجله، ووقف ضد المطامع الصهيونية التي استشرت بعد انتصارها على العرب عام 1967م، وشجع الدول الإسلامية على قطع علاقاتها مع إسرائيل فكانت الاستجابة رائعة، وعمل بصمت وإصرار حتى استطاع العرب أن يشنوا على إسرائيل حرب رمضان 1973م ويهزموها، وبذلك تحول إلى بطل ديني قومي معاً فأحبه العرب والمسلمون، إذ مثل لهم أملهم في إعزاز دينهم وجمع كلمتهم وتحرير أرضهم واستعادة مكانتهم، وصار شخصية عالمية يقصدها قادة العالم من مسلمين وغير مسلمين، وغدت الرياض عاصمة ملكه مدينة لا تكف عن استقبال هؤلاء القادة وتوديعهم.

     وقد أصر كثيراً على أن تعود القدس بالذات إلى أهلها، وطالما صرح بأنه يريد أن يؤدي في مسجدها الأقصى ركعتين قبل موته، ولذلك بكاه العرب والمسلمون في كل مكان حين استشهد عام 1395هـ 1975م أيما بكاء، وأشاد به حتى غير العرب وغير المسلمين.

     فإذا أحبه الناس هذا الحب فلابد أن يكون حب عمر له أكبر لخصوصية الصلة بينهما، ولإعجاب الشاعر الفطري بالبطولة التي رآها في الملك الشهيد. لذلك لا غرابة أن نجده يقول عنه عقب استشهاده: لم أعرف في حياتي ــ وللإنصاف والتاريخ ــ رجلاً شهماً متسامحاً حتى مع أعدائه كهذا الرجل الكبير. وأن يقول عنه في مناسبة أخرى: لقد رأيت في الملك فيصل الأول ملك العراق وفي الملك فيصل بن عبدالعزيز كتاباً مليئاً بأناشيد الحماسة، وثورة تؤجج البطولة في القلوب.

     والصلة بين الملك والشاعر تذكر الإنسان بالصلة التي كانت بين المتنبي وسيف والدولة؛ إذ إن كلاً منهما كان عارفاً لقدر الآخر ومكانته، وعمر الذي خلا ديوانه من المدح لإبائه وكبريائه وعزة نفسه ورفضه التكسب بشعره لا يمكن أن تعد قصائده في فيصل قصائد مدح وتكسب، بل قصائد إعجاب وحب.

     وخصوصية العلاقة بينهما كانت تسمح بجلسات سهر وسمر ينشد الشاعر الملك بعض شعره أو يستنشده إياه. وفي واحـدة من هذه الجلسات أنشده قصيدة عنوانها «الطاغية» وهي:

رائــع في كل ما يـبــــدع رائـــــعْ     ما له في كل ما يهـــوى منــــازعْ
يــقـــف الـتـــــاريـخ من آلائــــــه     مطرقـاً ما بين مفتــــون وخـــاشع
عبقــــــري أخـرسـت أصـــــواتـه     كل صوت من فــم الإيمان طــالع
فـــارس ما أســـــرج المهــــر إذا      لم يجد في النجم ميـدانـــاً لطــامع
شـــــاعر ما حــــن للحــــرف إذا     لم يصغه نعـش أشتــــات شــرائع
سيـــــــد في أمــــــة خامــــــــــلة     قبَّـــلـت من ذيـــــله وهي تبــــايع
إن بــدا نـشــــــوان هبــت حولــه     وزراء الحــكم للرقص تســــارع
أو بـدا غضبـــان مالــت وارتمت     جثث الأطفال في شتى الشــوارع

     يقول عمر: لما أسمعته إياها أطرق صامتاً، ثم رفع رأسه وقال بهدوء: لا تذكر اسمه ربما يهديه الله فتندم. وهذا الطاغية كان من ألد أعدائه، وما أراد الفيصل أن أذكر اسمه حتى لا أهينه، وبعد أن طلب مني حذف ما يشير إلى شخصية هذا الرجل اجتمعت إليه في مساء اليوم التالي وأسمعته هذه القطعـة التي أزلت منها فعلاً ما يشير إلى اسمه وشخصه، وكان كما ذكـرت العدو اللدود للفيصل. ومن الواضح أن الطاغية الذي كان يقصده الشاعر هو الرئيس المصري جمال عبدالناصر الذي دخل مع الملك فيصل في عداء طويل شرس لم يتوقف إلا بعد هزيمة عام 1967م. وإذا دلت القصيدة على كراهية الشاعر للطغاة والظلمة؛ فإن نصيحة الملك للشاعر تدل على عفته ونظره البعيد.

     وكان عمر أبو ريشة يكره الرئيس جمال عبد الناصر كراهية شديدة، ويطلق لسانه فيه كثيراً، وقد هم عبد الناصر بإعفائه من عمله الدبلوماسي إبان رئاسته لمصر وسورية أيام وحدتهما «1958- 1961م»، لكن بعض مستشاريه نصحوه ألا يفعل، لأن ذلك قد يدفع عمر أبو ريشة إلى هجائه بقصيدة يتناقلها الناس ويحشره بها مع من ذمهم الشعر العربي كما فعل المتنبي مع كافور، فأحجم. وهذا الخبر لم أقرأه مكتوباً، ولكن سمعته مشافهة من أناس لهم احترامهم ووزنهم، فالعهدة فيه عليهم.

     وخصوصية العلاقة بين الشاعر والملك تحمله على أن يقول له:

يا فيصلاً للحق بين يديك سفر من ولائي
هو للوفاء جمعته ونشــــرته لا للرجـــاء

     فيبرىء نفسه من المطامع، ويجعل دافعه لما يقول الوفاء والإعجاب.

     ويلقي عمر بين يدي الملك فيصل عام 1972م في الحفلة التي أقامها لضيوف الرحمن القادمين للحج قصيدته الرائعة «من ناداني»، وهي قصيدة طويلة يختمها بسبعة أبيات يوجهها إلى الملك:

يا ابن عبد العـزيز وانتفـض العز وأصغى وقال: من نـــــاداني
قلت ذاك الجريح في القـدس في سيناء في الضفتين في الجولان
قلت ذاك السجيـــن يقبع في السجن، فراراً من خسة السجـــــان
قلت ذاك الأبي يشـــهـق بالصمت، وترمى أقـــلامه بامتـــــهان
يــا ابن عبد العزيـــز تلك صحـــابي لك منها تحيـــة الرحـــمن
عرفــت فيـــك طلعة من مروءاتٍ، كبـــار وأمنيــــات حســـان
كن لهـــا بســمة العــــزاء فقــــد طال عليها تجـــهم الأحـــزان

     ويتضح من الأبيات إعجاب الشاعر بالملك، فهو العز متمثلاً في إنسان ينتفض مستجيباً حين يناديه أحد. كما يتضح أن المنادين الذين يؤملون في نجدة الملك لهم كثيرون بين جريح بيد اليهود، وسجين بيد الطغيانن وصاحب بيان حر يضطهده باغ متسلط، وهؤلاء جميعاً يحبون الملك الذي عرفوا فيه المروءة والنجدة، فهو جدير بأن يكون لهم بسمة العزاء والنصرة. وهذا كله يدل على مكانة الملك في قلب الشاعر بحيث يراه جديراً بأن يتحمل هموم هؤلاء وأمثالهم.

     وفي مناسبة مماثلة تالية يلقي الشاعر بين يدي الملك فيصل قصيدته «أنا في مكة»، وكما فعل في القصيدة السابقة يختمها بأبيات يتجه بها إليه قائلاً:

يا ابن عبـد العــزيز يا لنــــــداء في مداه ناديـت كل الرجــــــال
طال حلــــم الحـــليم طــال علــى كيـــد العوادي تمـرد الأنــذال
عشت فـي صمتك المدل علـى الحرف؛ غريباً عن كل قيل وقال
لست تسطيع كـتم ما تغــرق الأحــــداث فيه من عــزك الهطـال
شـئت أم لم تشــــأ فأنـت مـــع التـاريخ في موعد يتــيـم المثـــال
الفجاءات في مجالك في الســاح وفي راحتيـك ســر المجــــــال
أنت رنحـت بالعبــاءة عطفيـــــه وعصـــبت رأســـــــه بعقــال
وتركت الأقوام ما بين شـــاك من صدود أو طامع فـي وصــال
لم تهـــادن ولم تـزل تتحــــــدى كل بــاغ أو غـــادر ختـــــــال
قـل لمن شاء راحـة في ضـفــاف النيل من بعد وثبة استبســـال
ليس عاراً إن في النضال عثرنا إنما العار في اجتناب النضـال
ربع حطيـن موحش يا صلاح الدين إلا من ذكريــــات غـــوال
سر بنا صـوبه وصل بنا في القـدس واضرب حرامه بالحــلال

     والأبيات ملأى بالصفات التي يطلبها شاعر محب للبطولة والنبل، غيور على دينه وأمته، متطلع إلى من يدفع عنهما ظلم العدو الغاصب، في ملك يحبه ويرجوه منه أن يحقق تلك الآمال الغالية الكبيرة.

     ففيصل رجل يجمع كل الرجال؛ لذلك يناديهم الشاعر كلهم إذ يناديه، وهو رجل حليم ذو أناة، يؤثر الصمت ويترفع عن اللغو، لكن هذا كله لا يمكن أن يخفي عزه الكبير الذي يعلن عن نفسه وإن أبى صاحبه، لذلك تنتدبه مواهبه كما ينتدبه أمل الناس فيه إلى موعد نادر مع التاريخ لابد أن يؤديه شاء أم لم يشأ؛ يحقق فيه لأمته ما تريد في واحدة من فجاءاته الظافرة.

     وينظر الشاعر إلى الملك فيصل في عباءته الفضفاضة وعقاله المقصب، فيرى صورة آسرة توحي بالقدرة التي تدني، والهيبة التي تقصي، فيطمع من يطمع، ويحذر من يحذر، وصاحبها الصامت يواجه الصعاب، ويصر على تحقيق أمل الأمة في إنقاذ القدس من غاصبيها، وفي أن يصنع لها نصراً كريماً يذكر بنصر صلاح الدين في حطين، لذلك يطالبه الشاعر أن يصلي في القدس بمن معه من المؤمنين،. والشاعر يوفق كل التوفيق في البيت الأخير من هذا المقطع، وهو البيت الأخير من القصيدة أيضاً، إذ يضرب على الوتر الحساس في قلب الملك الذي أعلن مراراً أن أمله قبل موته أن يصلي ركعتين في القدس المحررة.

     وشاء الله عز وجـل أن يختم للملك فيصل بالشهادة، فلما جاء الحج وأقيم الاحتفال السنوي المعتاد وقف عمر لينشد بين يدي الملك خالد قصيدة رائعة في رثائه سماها «أمرك يــا رب»، وهي الجملة الوحيدة التي يروى أنه قالها لحظة إطلاق النار عليه.

     ولعل من المناسب أن نورد ما قاله الشاعر في بعض مقابلاته عن هذه القصيدة، ففيها ما يعين على فهم المناسبة، وما كان بين الراثي والمرثي: من الشخصيات العربية المهمة التي عرفتها عن كثب وصادقتها العاهل السعودي الراحل فيصل بن عبدالعزيز رحمه الله، فقد كان أعز صديق لدي. عرفته طويلاً من خلال الاجتماعات الكثيرة التي تمت بيننا أيام كنت رئيساً للوفد السوري في الأمم المتحدة وكان هو رئيساً للوزارة. وأيام كان أيضاً مندوباً لبلاده في الأمم المتحدة. كنا نسهر كل ليلة ونتجاذب أطراف الحديث، وعندما أصبح ملكاً استدعاني إلى السعودية لأقول كلمتي في مكة في مناسبة الحج. كانت العلاقة ودية، وليست علاقة سفير بملك، لم تكن علاقة رسمية بل هي علاقة رجل برجل.

     ولما اغتيل ذلك الاغتيال الفاجع، ترك فــي نفسي أثراً بليغاً من الألم، فكتبت ما كتبت عنــه، والشيء الذي لم أستغربه، ولم يستغربه العالم بأسره، أنه لما أطلق الرصاص عليه لم يقل كما هو مألوف أن يقال في مثل هذا الموقف: من أنت؟ يا الله. أمسكوه... أو غير ذلك. بل قال: «أمرك يارب»، واستشهد. هذه الكلمة تدل على عمق إيمانه بمبدع الكون الأعظم، وعلى مدى صدق ذلك الإيمان.

     لقد كتبت قصيدتي «أمرك يارب» على لسانه، وهذا أمر أعتدُّ به، لأنه فتح جديد في عالم الأدب: الميت يتكلم!. ألقيت تلك القصيدة في مكة المكرمة بحضور الملك الراحل خالد بن عبد العزيز رحمه الله، وذلك في الحفلة السنوية التي تقام في مناسبة عيد الأضحى المبارك. والعادة في مثل هـــذه الحفلة أن يلقي شاعر واحد شعره، وكان ذلك الشاعر أنا يومذاك. وقد ألقيت لثلاث سنوات متتالية شعراً عن الإسلام، وعن السيد الأعظم محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم.

     ألقيت هذه القصيدة في مكة، وافتتحتها مخاطباً الملك خالد: دعيت الآن لألقي كلمتي، ولكن الكلمة التي ألقيها ليست لي، إنها لأخيك، لحبيبك الراحل المقــيم، إنها لفيصل، لقد سمعها العالم بأسره في قوله: «أمرك يارب» في تلك اللحظة التي انتقل بها من عرض الوجود إلى جوهر الخلود. إنها كلمة قوة الإيمان، وإيمان القوة. ما أقل حروفها!.. وما أكثر معانيها وأبعد آفاقهــــا!. إن الإنســـان كما تعـلـــــم، عندما يفاجــأ بحادث رهيـــب، يجفل، يرتعد، يمتقع لونــــه، يصيح. كل ذلك بدافع من طبيعة إنسانيته المتمسكة بالحياة. أما أن يفاجأ بأفجع ما يفاجأ به، ويقول بكل هدوء واطمئنان: «أمرك يا رب»، فهذا حادث وحيد من نوعه في تاريخ الإنسانية. ماذا جال في خاطر الفيصل في تلك الثواني التي عاشها؟ ماذا رأى؟ ماذا شعر حتى قال: أمرك يارب؟ إني الآن أنقل تلك المعاناة بالشعر، لا بالنثر، بالشعر الذي كان رحمه الله كثيراً ما ينصحني بأن أخفف من حدته. وكيف أقوى على ذلك وأنا لا أملك شيئاً من حلمه ورقته، وصبره وحكمته.

     لم أمدح في حياتي أحداً، أما إذا كان رجلاً كبيراً ومات... عندئذ للوفاء وليس للرجاء كنت أقول كلمتي فيه، أما وهو حي، فأبداً لا.. لم يقرأ أحد لي، ولن يقرأ أبداً، قصيدة مديح في شخص حي. هذا الشعر هو الشعر الحـق، والقصيدة هذه شعر أتحــدى به الأدب العالمي.

     من حديث الشاعر ندرك أن بينه وبين الملك فيصل صلة خاصة، وهي صلة تؤيدها شواهد كثيرة، وندرك أن الشاعر لم يمدح أحداً وهو ما يشهد به ديوانه، وهي نقطة مضيئة يحق له أن يعتز بها كثيراً.

     أما رثاؤه للملك فيصل فهو رثاء دافعه الحب والإعجاب والإكبار، وقد تشكل هذا الدافع عبر سنوات طويلة شهد فيها الشاعر من مواقف الملك ما حمله على ذلك. يضاف إلى ذلك أن الملك مات ميتة «تراجيدية» مثيرة كما يموت الفارس فوق صهوة حصانه في ساحة الوغى. مات واقفاً كشجرة السنديان، مدافعاً عن أنبل قضايا دينه وأمته وبلاده، وزاد من عظمة هذه الميتة كرامة الشهادة، وأنه هتف بجملة واحدة فقط هي «أمرك يارب» لحظة الاستشهاد على الرغم من هول الموقف ورهبته. وهذا كله حمل الشاعر ــ وهو العاشق للبطولة والفروسية ــ على مزيد من حبه للملك الراحل.

     تقع القصيدة في اثنين وخمسين بيتاً تدور كلها على لسان الملك الراحل، في استبطان عميـــق ــ وفق فيه الشاعر ــ لنفسيته وحيـــاته وإيمانه وتسليمه وآماله التي حققها، وأمله الذي لم يحققه، وهو الصلاة في القدس المحررة.

     تبدأ القصيدة بالاستسلام التام لأمر الله عزوجل:

يا رب أمـــرك هــــذا لا أطيـــق له     رداً فأمـــــــــــرك يا ربـي تـولاني

     ويلي هذا الاستسلام تساؤل عما جرى، فهو أمر جلل، ترى أهو الموت الذي طالما كان قريباً منه!؟.. وهو يخوض غمرات الجهاد تحت راية أبيه أيام توحيده للمملكة لكنه كان ينأى عنه كأنما كان يخشاه:

من أين أي دوي عاصــــــف عشـيـت     عيناي من وقعــــه واهــتـز بنيـانــــي
كم فضت الحرب في سمـعي نظائــره     وعفـــــرت بغبــــار البــيد أردانـــــي
وكم مشى الموت في دربي وأوسع لي     مجـال خطوي أكان الموت يخشانـــي

     ومن كوى الغيب الذي يطل عليه الشهيد يرى طيوف شهداء عظام ترحب به وتتلقاه بالبشر وكأنها تربط على قلبه وتطمئنه إلى ما هو قادم عليه:

أرى طيوفاً أراها حــولي انتشــرت     أرى التفــــاتتها بالبـــــشر تلقــــاني
هذا عـليٌّ أبو الأبطال ذا عمــــر الـ     ـفـــــاروق ذلك عثمـــان بن عفـــان
هل طالعوني عزاء لي وهل شعروا     أن شأنهم عند أعراس الردى شـأني

     وكما تطالعه طيوف هؤلاء الشهداء يطالعه طيف أبيه يشير إليه على عجلن ويرمقه بشوق وحنان وكأنه يدعوه إلى اللحاق به:

وذاك طـــيـف أبي عبد العزيز وفي     عينيه ومضـــان من شــوق وتحنان
أشـار لي ومضى عجــــلان أحسبـه     رأى على القرب مني نعش جثماني

     ويا طيبها ميتة رائعة يحف صاحبها البشر والرضوان، وطيوف شهداء عظام، وطيف أب بطل، ميتة تتحول إلى عرس بهيج!

     ويتساءل الراحل عما أصابه وهو في بلد آمن بين أهله وإخوانه، عم فيه الخير والفضل، فلا قتال ولا أشواك ولا أحقاد، بل حب وسلام وبذل للمعروف وسعي في قضاء حوائج الناس؟ إن يكن هو القضاء المحتوم الذي ينقل الناس جميعاً إلى الدار الآخرة فمرحباً به، وإن تبق حسرة في هذه الدنيا فلأن أمنية نبيلة هي الصلاة في القدس المحررة لم تتحقق:

لي بعد يا رب من دنـيـــــاي أمنيــــــة     تقتـــات بالوعــــد منـهـا كل أشجــاني
جرعــت ما بي لنعمى يوم موعـدهـــا     ويــوم موعدهـــا استـــأنى وجافـــاني
أردت أختــم فيها العمـــــر مقـتحــــماً     أحقــاد حطين في مضمارها الـثـــاني
وأن أصــلي وكف القدس تحــــمل لي     رضاك في المسجد الأقصى وترعاني
ما كـــان أكرمهـا في العمــــر أمنيــة!     ما كنـت أحســـــبها تمضي وتنســاني

     وينظر الراحل إلى ساسة الأمة فيرى أحلامهم تافهة، وعزائمهم خائرة، قادتها إلى الهوان والذل، مع أنهم ينتمون إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذي لم يهادن الظلمة والطغاة.

     على أن ثقته بأصالة أمته يرد إليه اليقين بأن عهد القدس لن يضيع، وأنها سوف تسترجعها محررة من الصهاينة الغاصبين، وأنه يكاد يلمح الأبطال الذين سيكون لهم شرف التحرير، ومن بينهم خالد بن الوليد:

يا رب ما ضـاع عهد القدس إن له     قومي الأبــاة أعـــادي كل عـدوان
أمــــانة لك لن يرمـــــوا بحرمتها     ولن يجــروا عليهــا ذيــل نسيــان
أكاد ألمحهـــم في ظــل مسجـدهـا     وخـــالد مـــن سنــا محـــرابه دان

     ويعود الراحل لمناجاة ربه مناجاة تفيض بالإيمان والتقوى، والتسليم التام له تسليماً راضياً مليئاً بالسكينة والطاعة، ويضع بين يديه الكريمتين ما قام به من جهود لإعلاء كلمته وإعزاز دينه. وينهي القصيدة بهذين البيتين الرائعين يصور فيهما سفينة عمره، وهي تطوي شراعها، وتنتهي رحلتها:

يا رب ما حل بي جرحي يسيل على     شراعها رعشــة الإعيــــاء تغشانـي
يا رب حسبي وأنت الآن مغــــرقهـا     إن قيــــل أغرقــــت فيها خير ربـان

     لقد حققت القصيدة الوحدة الموضوعية، كما حققت الوحدة العضوية. فجاءت نسيجاً محكماً في دقة وانسجام وتناغم، واستبطن فيها الشاعر أعماق المرثي وتاريخه، وجهاده في توحيد المملكة، وجهاده في الدعوة للإسلام، وحرقته على الأمة، ويقينه بأصالتها وقدرتها على الثأر، وأمنيته الكبرى في الصلاة في القدس المحـــــررة، وإيمانه العميق بالله عز وجل ورضاه بمايصنع لــــه ويختار، وأجرى ذلك كله على لسانه وأنطقه به، فكانت قصيدته قصيدة رثاء متفــرد، مما يجعلنـــا لا نستغرب دعـــواه فيها إذ يقول عنهـــا: والقصيدة هـــذه شعر أتحدى بــــه الأدب العالمي.
❊❊❊

كتاب عمر أبو ريشة عاشق المجد - مسيرة الحياة

مسيرة الحياة

عاش حياة عريضة زماناً ومكاناً وتنوعاً وامتداداً ودوياً.

     كان الأستاذ شافع أبو ريشة موظفاً محترماً أيام الدولة العثمانية، ولد في قرية «القرعون» من أعمال البقاع في لبنان، وتنتمي أسرته إلى قبيلة «الموالي» التي ترجع إلى قبيلة «طي»، وكان له حظ طيب من التعليم والثقافة والعناية بالشعر، وقد استفاد من علم والده مصطفى الذي كان قاضياً في البقاع، ومن دراسته للحقوق في إستانبول، وقد وصل في وظيفته إلى درجة «قائم مقام» وهي درجة لها قيمتها آنذاك.

     وحمله العمل الوظيفي ذات يوم إلى «عكا» في فلسطين، وهناك اتصلت أموره بوجهاء المدينة، ومنهم شيخ الطريقة اليشرطية الشاذلية، فتزوج من شقيقته خيرة الله اليشرطي التي ولدت له ابنه عمر الذي روى أكثر من مرة أنه رأى النور عام 1911م في عكا. وحين توفي عمر نعاه في عمان شيخ الطريقة وكبير اليشرطيين لأنه ابن عمته.

     ولما قامت الحرب العالمية الأولى عاد شافع بأسرته إلى سورية، فأقام في منبج التي عـين «قائم مقام» لها، وفيها سجل ابنه عمر على أنه من مواليد عام 1908م، ومن هنا جاء الاضطراب في تاريخ ولادة الشاعر ومكانها. على أن الأسرة لم تلبث أن انتقلت إلى حلب، فنشأ فيها الشاعر، فهو بذلك لبناني فلسطيني سوري.

     وفي عكا بدأ يذهب إلى المدرسة طفلاً صغيراً، وكانت هناك مربية شهيرة في تلك الأيام اسمها «هيلانة حوا» تتردد على دار أبيه تعلمه مبادئ اللغة الإنجليزية. وفي عكا أيضاً كان يحضر حلقات المتصوفة وهو طفل صغير، ويستمع أناشيدهم ويحفظها ويشارك في أدائها. وقد أدت هذه النشأة إلى تمكنه من اللغة الإنجليزية من ناحية، وتعميق حبه للإسلام من ناحيــة ثانية، وثراء ملكته الموسيقية من ناحية ثالثة، وقد ظهر ذلك جلياً في شعره فيما بعد.

     وفي حلب أقام الشاعر عشر سنوات يتعلم في المدرسة الرشيدية كما يتعلم أمثاله من الصبيان، لكنه تميز عنهم بأن له جواً خاصاً في البيت يحب الشعر ويتذوقه وينشده، فقد كان أبوه شافع شاعراً مقلاً ينظم الشعر في اللغتين العربية والتركية، وكانت أمه تحب الشعر وترويه وتطرب له، ثم انتقلت جذوة الشعر من الأبوين إلى الأبناء فكان لأخته زينب حظ منه إذ كانت تنظمه على قلة، وكان لأخيه الدكتور ظافر -وهو طبيب أسنان- حظ أكبر من حظ أخته، فنظم الشعر وشارك في الأدب، وترجم عن اللغة الفرنسية، أما عمر فقد كان نجم الأسرة في الشعر وصاحب القدح المعلى فيه.

     بين عامي «1929 - 1924م» أقام عمر في بيروت طالباً في الجامعة الأمريكية حيث أتم المرحلة الثانوية من دراسته وانتقل إلى المرحلة الجامعية، وهناك درس العلوم الحديثة واللغة والأدب، وكان من أساتذته آنذاك: أنيس المقدسي وجبرائيل جبـور وجبرائيل شاهين وفريد المدور وجرجس المقدسي. وفي هذه المرحلة تفتح وعيه الوطني والسياسي، وأخذت موهبته الأدبية تظهر فبدأ يخطب وينظم، ومن طرائفه في تلك الفترة أنه نظم قصيدة ادعى أنها للنابغة الذبياني وهو يعتذر إلى النعمان، وعلى ما يروي عمر كان التقليد دقيقاً بحيث إن أستاذه جرجس المقدسي صدق مزاعمه، وقد يكون لهذه الرواية حظ من الصحة ذلك أن الدكتور سامي الدهان صديق الشاعر روى أن عمر في فترة مقامه التالية في حلب وكان يومها شاباً له حضور كان يلتقي معه ومع ثلة من أصدقاء الشباب فينشدهم قصيدة على أنها لأحد الشعراء القدامى، ويطلب منهم معرفة صاحبها فيبحث عنها هؤلاء حتى إذا لم يجدوا شيئاً ضحك في وجوههم سعيداً ساخراً، وأخبرهم أنها من نظمه، فرواية الدهان تقوي رواية عمر وتدعمها.

     ومن طرائف تلك الفترة التي يرويها عمر أن الأستاذ أنيس المقدسي طلب منهم الكتابة في العبارة الشهيرة التي قيلت عن البحتري: «أراد البحتري أن يشعر فغنى»، فراح عمر يكيل الهجاء للبحتري، ويؤكد أن كل من يتقاضى عن شعره مالاً ليس بشاعر، بل هو متسول وشحاذ،. فقــال الأستاذ معلقاً علـــى ما كتبه تلميذه: ولد لنا اليوم فيلسوف، ثم قال له: لا أقرك على ما تقــول، وحده أسلوبك الشيق جعلني أعطيك علامة جيدة، لكن التلميذ يجيب أستاذه بأنه مصر على رأيه، ولهذه الواقعة دلالتها البالغة، فهي تعبر عن ثقة عمر بنفسه منذ صباه، كما أنها تعبر عن نظرته للشعر نظرة سامية ترفعه عن النفاق والتكسب، لهذا لا غرابة أن وجدنا ديوانه يخلو من المدح. وما ذاك إلا لإحساسه بأهمية الشعر من ناحية، وبأهميته الشخصية كشاعر عفيف مترفع له رسالة وطموح وهدف من ناحية أخرى.

     في عام 1929م حرص شافع على أن يرسل ابنه عمر إلى مانشستر في إنجلترا لدراسة صناعة النسيج وكيمياء الصباغة، وقد استمر في هذه الدراسة حتى عام 1932م كان خلالها يتردد على مدينة حلب في الإجازات الصيفية.

     وفي عام 1929م وضع مسرحيته الأولى «ذي قار» التي قدمتها في السنة نفسها الفرقة القومية الحلبية على مسرح المدرسة الشرقية في حلب مما جعل دائرة شهرته تتسع وتذيع فأقبل عليه الناس. ومما يجدر ذكره أن عمر طبع هذه المسرحية طبعة يتيمة في عام 1931م مما جعلها في غاية الندرة.

     وفي مانشستر أحب عمر فتاة إنجليزية اسمها «نورا» توجت ملكة لجمال القطن في مدينتها، وكانت ابنة صناعي شهير يعمل في الأقطان، وفاتح أسرتها في الزواج منها فوافقوا، وكان ذلك في عام 1931م، ولما كان حريصاً على استئذان أسرته عاد إلى حلب في الإجازة الصيفية يطلب موافقتها، فلما استجابوا له فرح كثيراً، وعاد إلى مانشستر يحمل لمحبوبته النبــأ السار فوجدها قد ماتت، فحزن حزناً شديداً جداً حتى إنه فكر في الانتحار كما روى فيما بعد. وقد ظفر منه الشعر بقصيدة طويلة سماها «خاتمة الحب» قالها في رثاء محبوبته، وقد نشرتها مجلة الجهاد الحلبية في 9/ 1/ 1932م، والغريب أن عمر لم ينشر القصيدة في ديوانه وأسقطها فيما أسقط من شعره مع مكانتها في قلبه، ومع عنايته بالمرأة كثيراً، ومع جودتها بالنسبة لشاعر شاب. وقد مر عمر إثر وفاة نورا بفترة لم تطل من الزهد والتدين، وله خلالها مقال مشكور نشره في إنجلترا يدافع فيه عن الإسلام.

     وفي 16/ 5/ 1932م عاد عمر إلى حلب محزوناً مهموماً لقضاء الإجازة الصيفية لكنه هجر الدراسة في مانشستر، واستقر في حلب ليبدأ فيها مرحلة جديدة من حياته استمرت سبعة عشر عاماً «1932 - 1949م»، وهي فترة زاهية بدأ فيها اسمه يذيع ويشيع شاعراً مقتدراً يتصف بالشجاعة والجرأة، ويهاجم الاستعمار الفرنسي الجاثم على سوريا، ويهاجم عملاءه وصنائعه من السوريين، ويحث الأمة على استعادة أمجادها، ويشارك في المناسبات العامة من رثاء شهيد أو إحياء ذكرى أو الاحتفال بانتصار أو البكاء لكارثة أو التنديد بعدو، مما جعله شاعراً وطنياً جهير الصوت يتلقف الناس شعره ويحفظونه، وطالما وقف في المظاهرات الوطنية الصاخبة ينشد قصائده فيأسر سامعيه بجرأته المعهودة وإلقائه المتميز، وفي هذا الطور من حياتـــه أخــذت شهرته تتجــاوز سوريا فشارك في مناسبات عامة في فلسطين والعــــراق.

     ويأتي عام 1933م فتندفع شهرته إلى الأمام إذ مثلت مسرحيته «ذي قار «في مدينة حمص فحقق له ذلك شهرة مفاجئة.

     ويتحدث الأستاذ أحمد الجندي، وهو كاتب وأديب وصديق للشاعر، كيف أدى تمثيل المسرحية في حمص إلـــى تحقيق هذه الشهرة المفاجئة للشاعر التي تجاوز بها حدود مدينة حلــب، فيقول: وكنا ذات يوم في حمص، وأظن هذا قد كان في صيف عام 1933م، وقد أقبل على المدينة نفر من شباب حلب يريدون أن يمثلوا رواية شعرية، وتساءل الأدباء في حمص، وكانت مدينة الأدباء الشباب في ذلك العهد، فعرفوا أن اسم الرواية «رايات ذي قار»، وأن اسم الشاعر الجديد «عمر أبو ريشة»، وذهبنا مع الذاهبين فاتخذنا مقعداً قريباً من المسرح، وجلس الأدباء متجاورين يلتفتون يمنة ويسرة، وينتظرون الشعر لا التمثيل، ورفع الستار وأخذ الممثلون يروحون ويجيئون، ويلقون حوارهم كلاماً موزوناً مقفى، وأخذ الأدباء ينصتون حتى إذا سمعوا بيتاً جيداً أو شطراً موفقاً أو لفظة موسيقية أو صورة شعرية أخاذة تلاقت نظراتهم وشفعوا ذلك بابتسامات الرضى، الذي كان يصل إلى حد الإعجاب أحياناً، وانتهت الرواية وخرج الناس، والتقى الأدباء على باب المسرح وراحوا يبحثون عن الشاعر إلى أن عثروا عليه في الزحام، فإذا بــه شاب بائن الطول، أبيض البشرة، علق في أعلى أنفه نظارة ذهبية أنيقة، وقد بدا عليه شحوب ظاهـــر تدرك منــه أن صاحب هذه الهيئة رجل فن وشعر، وكان ذلك أول الـعهـد بعمــر.

     ولا تلبث شهرة عمر أن تنطلق في مدى أوسع يتجاوز سورية، وذلك حين يشارك في رثاء الملك فيصل بن الحسين ملك العراق بقصيدة يقول له فيها:

أنت فــــي هيكل الحيـــــاة كتـــاب      تتغنــــــى بآيــــــــه الأحـــــــرار
وتناغي الأم الرؤوم بــــه الطفــــــ     ــل، فيزهــو فـــي وجنتيـه افـترار
كل سطــــر في دفتــيــــه نــــــداء      صــارخ مــا لــه الزمــانَ قـــرار

     وكانت هذه المشاركة أول مشاركاته الأدبية على الصعيد القومي، وقد تلتها مشاركات أخرى أخذت تحقق له المزيد من الشهرة.

     وفي عام 1935م شارك في المهرجان الذي أقيم في الجامعة السورية بدمشق بمناسبة الذكرى الألفية للمتنبي، وقد ألقى في المهرجان قصيدته «شاعر وشاعر» التي مطلعهـا:

شاخص الطرف في رحاب الفضاء     فوق طـود عــــالـــي المناكـب نــاء

     وفي القصيدة جرأة ووطنية وتمجيد للبطولة وتصوير حي بديع، وفيها ثقة الشاعر بنفسه وتمجيده لها من خلال تمجيده للمتنبي، والقصيدة تنطق بقدرة الشاعر حيث قالها وهو لايزال شاباً في منتصف العقد الثالث من عمره.

     وفي العام نفسه يشارك عمر الناس حزنهم على الزعيم الوطني إبراهيم هنانو فيقف على قبره ليقول فيه قصيدة حماسية منها:

هنانو أي صاعقـــــــة أقضــت     على صرح من العليــــــا مشيد
هنانو أي سيـــــــف أغمدتـــــه      يد الأقدار في غمد اللحــــــود

     وفي عام 1936م يذهب وفد سوري إلى فرنسا يفاوض الفرنسيين، وتنتهي المفاوضات بمعاهدة لم يرض عنها الوطنيون ومنهم عمر، فنظم فيها قصيدة سماها «العروس»، ويقصد بالعروس المعاهدة المرفوضة، أما التسمية فكانت من باب السخرية والتنبيه إلى البشاعة الكامنة في معاهدة يريد أنصارها تقديمها للوطن كما لو كانت هدية تهدى، وعروساً تزف، ومن أبياته في هذه القصيدة:

جلوهـــا عروسـاً وكدوا لهـــا الـ     ـحناجــر بالنغمــــة الســــاحــرة
وبرقعهـــــا مــــــن خفـي الطـلا     ســم يأخـذ بالقلـب والبــــاصــرة
صريع الهـــوى إن خلـف الــــــ     ـبـــراقع تلـك المطلقـة الفاجــــرة

     وفي عام 1937م تقام حفلة بمناسبة ذكرى المجاهد الوطني إبراهيم هنانو، فيشارك فيها عمر بقصيدة وطنية ذائعـة مطلعها:

وطـن عليــه من الزمــان وقـــار      النـــور ملء شعابــه والنـــــــار

     وهي قصيدة حماسية مجلجلة يمتزج فيها الدين والوطنية والتاريخ والفخر العام بأمته ووطنه والفخر الخاص بشخصه وشعره، وقد ختمها بهذين البيتين:

أنا عند عهــدك لا تلــين شكيمتي      كـلا ولا يعـــزى إلي عثــــــــار
لا عشت في زهو الشـباب منعماً      إن نال من زهو الشبـــاب العـار

     والبيتان يدلان على نفسيته المعتزة الأبية التي تدرك مكانتها في الوطنية والشعر على السواء، وترى أن لها رسالة لا بد أن تؤديها أياً كانت الصعاب، وسنرى أن هذه النفسية ظلت تصاحب الشاعر طيلة عمره.

     وفي العام نفسه تقام حفلة تذكارية في كل من حماة ودمشق لتمجيد الشهيد البطل سعيد العاص، وهو مجاهد من حماة تطوع للقتال في فلسطين، فاستشهد فيها، فقال فيه عمر قصيدته التي مطلعها:

نام في غيهـب الزمان الماحي     جبل المجـد والندى والسمــاح

وهي قصيدة وطنية مجلجلة، فيها الدين والحماسة والبطولة والتصوير الحي المؤثر.

     وفي العام التالي 1938م يسافر عمر إلى بغداد للمشاركة في مهرجان شعري أقيم لتأبين السياسي العراقي الشهير ياسين الهاشمي، وهنا أقتطف بعض ما قاله الأستاذ نجدة فتحي صفوة عن المهرجان وعن عمر: رأيت عمر أبو ريشة حينما قدم إلى بغداد مع الوفد السوري للمشاركة في الاحتفال بتأبين ياسين الهاشمي في 18/ 2/ 1938م، وكنت في ذلك الوقت طالباً في الدراسة المتوسطة فاصطحبني والدي إلى الحفلة، وكان من خطبائها رئيس الوزراء جميل المدفعي ونوري السعيد والأمير عادل أرسلان والشيخ سليمان الظاهر والأستاذ أكرم زعيتر وجبران تويني وأسعد داغر والعلامة محمد بهجة الأثري والدكتور زكي مبارك والعميد طه الهاشمي شقيق ياسين ورئيس الوزراء فيما بعد. ولا أزال أذكر الآن بعد أكثر من خمسين عاماً شاباً نحيفاً جداً، فارع الطول، على رأسه طربوش، كان يتلوى وهو يلقي قصيدته، أشبه بغصن يداعبه النسيم، وقد فتنت بإلقائه الساحر الذي كان أشبه بقطعة موسيقية، وأعجبت إعجاباً شديداً بقصيدته على قدر فهمي لها، ومن أسف أن القصيدة التي ألقاها أبو ريشة في تلك المناسبة لم تنشر في ديوانه.

     وفي رواية الأستاذ نجدة عدد من الأمور التي تعين على فهم عمر وشعره، فيها ثقته بنفسه التي حملته على المشاركة في مهرجان حافل بالساسة والأدباء والمشاهير وهو شاب دون الثلاثين، وفيها إلقاؤه الشهير المتميز، وفيها سعة انتمائه لأمته ومشاركته في همومها، وفيها استغناؤه عن جملة من شعره، وهذا كله سيتكرر في المستقبل.

     وفي العام نفسه 1938م يطلع علينا عمر بمطولته «خالد» التي قالها في الفاتح العظيم خالد بن الوليد، ومطلعها:

لا تنامـــي يا راويـــات الزمــان فهو لولاك موجـة من دخــان

     وهي قصيدة يمتزج فيها التاريخ والدين والوطنية والبطولة والحزن والأمل، وفيها تصوير بديع، وسمات ملحمية لا تخفى.

     ويشاء الله أن تهب على حياة عمر نسمة من حب وسكينة، وذلك بزواجه من زوجته الأولى منيرة محمد مراد في 9/ 9/ 1939م، وهي عربية، أرجنتينية المولد ترجع أصولها إلى سهل البقاع في لبنان لتلتقي بأصوله هناك، وقد تعلمت العربية بعد زواجها من عمر، ومنها رزق بولديه «شافع» و«وريف» وبابنته «رفيف».

     وفي العام نفسه يشارك الشاعر في تأبين الملك غازي بن فيصل الذي قتل في حادث مريب في بغداد عام 1939م، وكان فتى جريئاً مقداماً مثل أماني العراقيين خاصة والعرب عامة في مقاومة المستعمر، وحقــق شهرة كبيرة حـــين قمع حركة انفصالية قام بها بعض الآشوريين بتشجيع الإنجلـــيز، فحزن عليه الناس عراقيــين وعرباً حزناً شديداً، وفيه قال عمر قصيدته التي مطلعها:

شهقـة في الدجى وراء البــوادي     روعت خاطر الضحى المتهادي

     وفيها يقول الشاعر للمرثي:

ليس يطوي التـــاريخ صفحة مجد    أنـت سطـــــرتهــا بأسنى مـــــداد
يوم هزت آشور فـي وجهك الطلـ     ــــق رمـاحـــــاً رعافة الأحقــــاد

     ويأتي عام 1940م ليشهد مصرع الدكتور عبد الرحمن الشهبندر، وهو سياسي سوري قتل غيلة داخل عيادته في دمشق، فشارك عمر في حفل تأبينه بقصيدته:

هل على الرمل بعد طول السفار     أثـر من قــــــوافل الأدهــــــــار

     وفي العام نفسه ينظم عمر قصيدته «كأس» التي يروي لنا فيها حكاية الشاعر «ديك الجن» الحمصي الذي قتل جاريته الحسناء، ثم ندم على قتلها، وصنع من بقايا جثتها المحروقة كأس خمره، وقد وظف الشاعر الواقعة توظيفاً نفسياً خاصاً، وتقع القصيدة في سبعة مشاهد، كل مشهد لوحة تامة، ويلاحظ أن الشاعر أجرى في هذه القصيدة كثيراً من التعديل.

     وفي العام نفسه يرشح الشاعر نفسه للانتخابات العامة في حلب لكنه لا يلبث أن يضطر للانسحاب، فقد تناقل الناس فتوى تمنع انتخابه لأنه أشار إلى صلب المسيح عليه السلام، وكأنه حقيقة مقررة، وذلك في قوله:

كصرير المسمار في كـف عيسى     ليس ينسى صـــداه مر الليـــالــي

     وفي العام نفسه يبدأ الشاعر حياته العملية، إذ يدخل سلك الوظيفة مديراً لدار الكتب الوطنية في حلب، ويظل في منصبه هذا تسع سنوات «1940 - 1949م» تنتهي بانتقاله إلى السلك الدبلوماسي. وقد عني الشاعر بالدار، واستقدم لها كثيراً من الكتب العربية والأجنبية، وكانت المظاهرات الوطنية في حلب تحرص على المرور بها، ليقف مديرها الشاعر على شرفتها يلهب الناس بأهازيجه الوطنية، وبذلك صارت الدار مثابة ثقافية ووطنية وسيــاسية على السواء.

     وفي عام 1941م يطلع علينا الشاعر بمطولته الشهيرة «محمد» التي كان يؤكد دائماً أنها مقدمة لملحمة طويلة عن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، ومطلعها:

أي نجــوى مخضلـة النعماء     رددتها حنـــاجــر الصحراء

     وهي من أشهر شعره وأسْيَره، وقد عدل فيها وبدل غير مرة، وفيها سمات ملحمية ظاهرة. ولها ولأختها «خالد» عناية خاصة في هذا البحث.

     وفي عام 1943م يموت أبوه شافع أبو ريشة، فيرثيه بأبيات دامعة يكتبها على قبره:

نــــاداك تحنــاني فمـــا أسمعــــك     فاذهب فــداك الشـوق قلبي معــك
سرنـــا معـــــــاً حينـــاً وخلفتنــي     وحدي على الدرب الـذي ضيعـك
أرنــو إلى الدنيـــــــــا وآفـاقهـــــا     فمـا أراهــــا جـــاوزت مضجعك
حسبيَ منهــا موعــد فــي المســـا     أفهـم فيـه ســـر مـا استودعـــــك

     ويقام المهرجان الألفي لأبي العلاء المعري في عام 1944م في سورية، فيشارك فيه عمر بمطولته:

ملعب الدهـــر لو ملكنا هدانـــــا     لبلغنـــا مـــن الحيــــــاة منــــانا

     وهي قصيدة تشي بما اكتسبه الشاعر من تقدم في صنعته الفنية، مثلها مثل قصيدته «هذه أمتي» التي ألقاها عقب خروجه من السجن في السنة التالية 1945م، ومطلعها:

ما صحا بعد من خمار زمانه     فليرفــه بالشــدو عن أشجانـه

     وفي مطالع الأربعينات يشتد عود الشاعر ويعظم دوره الوطني، ويزداد حب الناس له، ويزداد نفور الفرنسيين وأذنابهم منه، وتكون له مواقف محمودة يشوبها الكثير من المغالاة والمبالغة والادعاء حين يرويها عمر بعد أربعين سنة، فيقول: لطالما استحال على الفرنسيين اعتقالي لصعوبة العثور علي...، فما أن ألقي خطاباً أو تصدر لي قصيدة في إحدى الصحف، تتسم بالعنف وتدعو إلى محاربة فرسان الانتداب حتى أتوارى عن الأنظار...، كنت ألجأ إلى حمى عشيرة «الموالي» عشيرتي، حيث يوفرون لي الأمن، فأطمئن إلى نجاتي من براثن الفرنسيين...، لكن القدر عاد وحالفهم قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية، فعثروا علي في مدينة «حماة»، واقتادوني مخفوراً إلى بلدة «عنجر» في البقاع اللبناني. في عنجر وضعوني داخل غرفة ضيقة لا تتسع لسجن فأر.

     بعد مضي ثلاثة أيام على وجودي في تلك الغرفة دون محاكمة، سألت عن سبب اقتيادي إلى عنجر فقال لي الحارس: نحن نبحث عن مكان مناسب نعلق فيه مشنقتك...، ليتك بأكثر من روح واحدة كي نشنقك أكثر من مرة واحدة.

     في صبيحة اليوم الرابع، قدم حارس جديد أخرجني من الغرفة، واصطحبني إلى بيروت حتى بلغنا ساحة الشهداء، قال لي الجندي الفرنسي وعلى شفتيه ابتسامة مطمئنة: قبل أن أعيد إليك حريتك، يطيب لي أن أطلعك على سر يخفى إلا على عدد من المقربين... لا أبالغ إذا أكدت لك أن شعرك أنقذك من الإعدام... رئيسي ممن يهوون الشعر إلى حد الهوس، وقد قرأ بعض قصائدك مترجمة إلى الفرنسية، وخلص إلى أن شاباً في مثل مواهبك لا بد له من العودة إلى الصواب عاجلاً أم آجلاً، ثم فتح الجندي حقيبته وقدم لي نسخة من ديوان «بودلير» الشهير «أزاهير الشر» هدية من رئيسه.

     لم أصدق يومئذ أنهم أعادوا إلي حريتي بمثل هذه البساطة! رأيتني كمن يفيق من حلم، من كابوس مزعج... وألقيت نظرة إلى ملابسي فوجدتها قذرة تعلوها طبقات كثيفة من الغبــار... أخجلني ما كنت فيه من مهانة بعد مضي أسبوع كامل دون حلاقة... وزاد في الطين بلة أن جيوبي خالية خاوية... فتذكرت الصديق الذي سبق لوالدتي أن أوكلته بشؤوني أيام دراستي في الجامعة الأمريكية ببيروت... أسرعت أستلف منه ما أعانني على شراء ثياب جديدة، والمبيت تـلك الليلة في «الفندق العربي»، وقد أسفت أشد الأسف لاحتراقه في بداية أحداث السنين التي أدمت لبنان.

     ومرة ثانية حكم علي الفرنسيون بالإعدام. وشاء تعالى أن أفلت من قبضتهم كذلك، ليس بفضل شعري كما في المرة السابقة، بل بفضل سعيد حيدر.

     في مطلع الأربعينات، وجيوش الحلفاء على أشدها في سورية ولبنان ولا أنسى أنني كنت عريساً جديداً في تلك الأيام، أقيمت حفلة لإحياء ذكرى «الشهبندر». ولكن سرعان ما ثبت لنا أن الحفلة، في مراميها الخفية، إنما أريدت لتكريس الانتداب، أو الدعاية للفرنسيين، بحجة تكريم الوطنيين. وكان أن اعتليت المنبر ولم أتردد في مهاجمة رئيس الوزراء حسن الحكيم على مسامع رئيس الجمهورية الشيخ تاج الدين الحسني الذي كان يرعى الاحتفال المشبوه... وختمت قصيدتي بأبيات أقول فيهـا:

أتـلقــــاك والزبـانيـــــة الحمـــــ      ـر، حـوالي رعــــــف الأنيـاب
حمدوا خسة المقـــــــادير لمــــا      داعبتني بمخــــلب وبنــــــــاب
ورأوني ألم شعث جنـــــــــاحي     وقد جرحـا صــــدور السحـاب
فمضوا يسألون هل لان عـودي     وخبـــت عزتي وذل شبــــــابي
خسئ العيـــش لن أقـابل وجــــ     ــــه الله إلا وفي يميـني كتـــابي

     بعد انتهاء الحفلة مباشرة، وما أن تفرق الحضور حتى حاصر الجنــود السنغاليون الفندق الصغير حيث كنت أنزل في محلة «المرجة» بدمشق... غير أن حسن الحكيم قدم مسرعاً إلى المكان، كي يحول وجوده دون دخول الجنود الفندق لاعتقالي... وقد أكبرت فيه ذلك الصنيع، إذ خف الرجل لمساعدتي رغم ما اتسم به الهجوم عليه من عنف... كم مرة سمعته يقـول لي بصــبـر ومـــودة أبويين: «الله يصلحك».

     بعد حسن الحكيم جاء سعيد حيدر، فتحدث إلي، ثم سعى إلى الفرنسيين علهم يعودون عن حكمهم بإعدامي... غير أن هؤلاء تمسكوا بموقفهم، وعينوا نهار الجمعة من ذلك الأسبوع موعداً لتنفيذ حكم الإعدام شنقاً... فلم ير سعيد حيدر عند ذلك بداً من الذهاب إلى الإنجليز بقصد الإفادة من المنافسة الشديدة القائمة بين الحلفاء لوضع يدهم على بلدان الشرق الأوسط، تلك التي درج الفرنسيون على دعوتها «بلدان المشرق». قال سعيد حيدر للإنجليز ما فحواه: لقد تسنى لكم أن تروا بأم العين ما يتمتع به هذا الشاب من شعبية واسعة، وتأكدتم من محبة الجماهير إياه، ومع ذلك يصر الفرنسيون على إعدامه دون وجه حق... فإذا تدخلتم، وحلتم دون تنفيذهم الحكم الجائر الذي أصدروه، فسنعلن على الملأ أنكم أنقذتموه من براثن السلطات الفرنسية.

     حيلة سعيد حيدر أنقذتني من ثاني حكم بالإعدام يصدره علي الفرنسيون... غير أنهم أصروا على نفيي إلى بلدة «المية ومية» في جنوب لبنان، وقد أصدروا قراراً يقضي بإبعادي عن الساحة السياسية... وبلغ بهم «الكرم» حد منحي مبلغ مئة وخمسة وعشرين قرشاً في اليـــوم.

     وتظفر سورية باستقلالها عن فرنسا، فيفرح الشعب وتقام الاحتفالات، وفي إحدى هذه الاحتفالات التذكارية في حلب يلقي الشاعر عام 1947م قصيدته «عرس المجد»:

ياعروس المجــد تيهي واسحبي في مغانينــــا ذيــــول الشهب

     وهي من أشهر وطنيات عمر وأسْيَرها، نشرتها الصحف، وحفظها التلاميذ، وتناقلها الناس، وقدمتها الإذاعة أغنية بصوت إحدى المطربات الشهيرات، ودخلت تاريخ الشعر الوطني في سوريا من أوسع أبوابه، واحتلت فيه مكانة متميزة، وزادت من شهرته.

     وفي العام نفسه 1947م يموت السياسي الشهير سعدالله الجابري، وكان سياسياً بارزاً له زعامة وفيه نبل، وكان عمر يحترمه ومع ذلك يتصدى له بالنقد، وكان سعد الله يتقبل نقده بصدر رحــب.

     ولما كان ذوو الفقيد يتذاكرون فيمن يدعونه للمشاركة في حفل التأبين اقترح فاخر الجابري وهو شقيق الفقيد أن يدعى عمر أبو ريشة، فذهل بعض القوم لأنهم يعرفون رأي الشاعر في الفقيد ورعيله، ومع ذلك أصر فاخر الجابري قائلاً: إن هذا أدعى إلى ضرورة تكليف أبي ريشة لنرى ما يقول. وأقيم الحفل وشارك فيه أبو ريشة، وأنصف الفقيد أيما إنصاف، في قصيدته «بلادي» التي مطلعها:

هيكل الخلد لا عـدتك الغــوادي     أنت إرث الأمجـــاد للأمجــــاد

     وهي قصيدة طويلة تقع في صميم الشعر الوطني، وفيها ملامح بينة من صنعة عمر التي بدأت تتميز وتظهر.

     في العام التالي 1948م يتم اختيار عمر عضواً مراسلاً في المجمع العلمي العربي بدمشق اعترافاً بمكانته في عالم الأدب وشهرته المتزايدة، وفي العام نفسه يطلع علينا الشاعر بقصيدتين وطنيتين، الأولى «حماة الضيم» ومطلعها:

عاتبته ونسيت طــيب نجــــاره     وأبيت أن تصغي إلى أعـــذاره

     وفيها يتحدث عن هموم الأمة، وعن نكبة فلسطين بشكل خاص، وينهي القصيدة ببث الأمل الذي سيحققه حماة الضيم مع مطلع الفجر المأمول.

     أما القصيدة الثانية فهي «بعد النكبة» والنكبة المقصودة هي نكبة فلسطين الأولى، ومطلعها:

أمتي هـــــل لك بــــين الأمـم     منـــبر للسيــــف أو للقـــــــلم

     وهي قصيدة ذائعة مدوية، ربما كانت أشهر شعره الوطني على الإطلاق، وقد ألقاها في حفل كبير في حلب حضره ساسة سورية وقادتها فهاجمهم هجوماً عنيفاً، وكان نصيب رئيس الوزراء جميل مردم من هذا الهجوم وافراً، وقد اتصلت بهذه القصيدة مبالغات من الناس ومن الشاعر، وسيأتي الحديث عنها في مكانه، ومن هذه القصيدة بيتان ذهبا مثلاً يتداوله الناس:

رب وامعتصمـــاه انطلـقت     ملء أفــــواه البنـــات اليتـم
لامست أسمــــــاعهم لكنهـا     لم تلامـــس نخوة المعتصم

     وجاء عام 1949م بكارثة على سورية، إذ وقع فيها أول انقلاب عسكري قاده الزعيم حسني الزعيم، وقد قال عمر في الساسة الذين أطاح بهم الانقلاب قصيدة رائية هاجمهم فيها وشمت بهم، وقد كره له الناس عامة ومحبوه خاصة هذا الموقف وعدوه منه سقطة لا تليق به؛ تعرض بسببها لكثير من النقد القاسي، وقد عينه قائد الانقلاب في السلك الدبلوماسي السوري في إسبانيا لكنه أبى ففصل من وظيفته، لكن ذلك لم يطل إذ سقط حكم الزعيم حسني الزعيم بعد شهور قلائل، فعاد الشاعر إلى عمله بدار الكتب الوطنية في حلب، وفي أواخر عام 1949م عين ملحقاً ثقافياً لسورية في الأمانة العامة لجامعة الدول العربية في القاهرة، وقد ظل في هذا المنصب فترة قصيرة من الزمن.

     في 12/ 1/ 1950م بدأت رحلة الدبلوماسية والغربة في حياة عمر التي دامت عشرين عاماً بدأها سفيراً لبلده في البرازيل التي ظل فيها حتى عام 1953م حيث نقل إلى الأرجنتين والشيلي، فبقي فيهما حتى عام 1954م، حيث نقل سفيراً لسورية أولاً، ثم للجمهورية العربية المتحدة التي ضمت سورية ومصر معاً في دولة واحدة إلى الهند، فظل فيها حتى عام 1959م، ومن الهند نقل سفيراً للجمهورية العربية المتحدة في النمسا حتى عام 1961م، حيث نقل منها سفيراً لسوريا التي كانت قد انفصلت عن مصر لدى الولايات المتحدة الأمريكية، وظل هناك حتى عام 1964م حيث أعيد مجدداً سفيراً لسوريا في الهند، فظل فيها حتى عام 1970م، وهي السنة التي أحيل فيها إلى التقاعد.

     وفي الأرجنتين توثقت الصلة بين عمر وبين الشاعر المهجري زكي قنصل، وبعد وفاة عمر كتب الأستاذ زكي قنصل إلى صديقه الأستـــاذ عبد العزيز الرفـاعي رسـالة شخصـيــة عنـوانها «ذكريات عن عمر». وفي هذه الرسالة ما يستحق أن يقتبس وإن طال لأنه يلقي الضوء على حياة عمر وشعره وثقافته وشخصيته وصداقاته وذوقه وأثره في الجالية المهاجرة، وأسلوب عمله الدبلوماسي أيضاً.

     يقول الأستاذ زكي قنصل: ما أصعب الحديث عن الأصدقاء، وبخاصة إذا كانوا قد انتقلوا إلى دار البقـاء!. إن الذكريات يزحم بعضها بعضاً، فلا يعلم المرء من أيها يبدأ. الحديث الآن عن عمر أبو ريشة، وهل أستطيع أن أخـوض فيه دون أن أودع غصــة وأستقبل غصة!؟.

     كان عمر من أصدقائي الأثيرين، تعرفت إليه سفيراً لسوريا في الأرجنتين، وسرعان ما امتد بيننا حبل المودة والتقدير. كنت أزوره في دار السفارة لماماً، فإذا ما رآني قادماً أتعثر بخطاي مخافة أن أقطع عليه عمله، هب من كرسيه وهرع لاستقبالي زاعماً أنه لم يكن مشغولاً، وإنما كان «يخربش» شيئاً ما لإزجـاء الوقـت.

     وأجلس بادئ ذي بدء وقد بدا علي الارتباك، فيتناول مجلة أو كتاباً ويقول لي: هل قرأت هذه القصيدة أو هذا الكتاب؟ فأتشاغل بتقليب الصفحات، ثم أقول له: أسمعني شيئاً من جديدك.

     وفي ذات يوم قال لي صديق تاجر من أبناء الجالية: حبذا لو عرفتني إلى عمر، فاصطحبته إلى دار السفار،ة وجلسنا كعادتنا نتحدث في الشعر والأدب. وكان الصديق التاجر يصغي إلينا دون أن ينبس بكلمة، ولما احتوانا الشارع قال لي: هذا السفير لكـــم «يعني الأدباء» وليس لنا.

     وبعد أيام دعا عمر إلى اجتماع في دار السفارة للبحث في شأن وطني يهم الجالية، فذهب صديقي التاجر فيمن ذهب للمشاركة في الموضوع، ولما انصرفنا قال لي: أسحب كلامي؛ هذا السفير للجالية كلها ولكل المواضيع.

     كان عمر أبو ريشة شاعراً من الطراز الرفيع، يتمتع بثقافة واسعة لا تقتصر على العربية، بل كان ملماً بالكثير من ثقافات العالم وآدابها، ومن هنا كان هذا الطابع الفريد في شعره الذي يكاد يكون وقفاً عليه دون سائر الشعراء.

     عندما وصل عمر إلى الأرجنتين زحفت الجالية رجالاً ونساءً لاستقباله، وعجت دار السفارة وما حولها بالوافدين للسلام عليه حتى اضطرت شرطة المرور إلى قطع الشوارع المؤدية إلى السفارة حتى لا تسمح إلا بمرور المشاة. وكان ذلك اليوم عيداً قومياً للجالية العربية لم يتخلف عن المشاركة فيه أحد، سواء كان سورياً أو غير سوري، واضطر عمر إلى الخروج إلى شرفة الدار للرد على هتافات الجماهير، وبصوته الموسيقي البديع وطلعته المهيبة ألقى مقاطع من قصيدته الرائعة:

وطن عليه من الزمـــان وقـــار     النــور ملء شعــابــــــه والنـار

     وألحت الجماهير في سماع المزيد من شعره فرفع يده علامة الشكر وهتف:

ياعروس المجد تيهي واسحبي     في مغـانينــــا ذيـــول الشهــب

     ثم أردفها بميميته المشهورة:

أمتي هـــل لك بـــــين الأمــــم     منــــبر للسيـــــــــف أو للقـــلم

     في اليوم التالي لوصوله انعقدت بيننا عرى المودة والصداقة، فقد حييته ساعة الاستقبال بقصيدة عنوانها «الشام في عينيك» قلت فيها:

أكـرمت فيـك الخـلق والأدبـا     إن كان غيـــري يـكرم اللقبـا
قــالوا السفــارة قـلت أكرهها     إلا لـكـل فضيـــــــلة سـببــــا
فتــــح الكـريم لـنــــا سحـائبه     هـلا اقتسمنا بيـننــا السحبــــا
الشـــاعر الصــــداح حصتنا     وخذوا السفير الحاذق الأربـا
تـأبى عـلـــــى مثلـي كرامته     أن يستحيل لحــــاكم ذنبــــــا
أدنى مرامي المجــــد مرتبة     لا تقتضـي كــــداً ولا تعبـــــا

     وكان عمر يصفق لكثير من أبياتها، ولما فرغت من إلقائها ضمني إلى صدره وقال: أحسنت والله:

تأبى على مثلي كرامتــــــــه     أن يستحيل لحــــــاكم ذنبـــــا
أدنى مرامي المجـــد مرتبــة     لا تقتضي كــــداً ولا تعبـــــا

     وفي اليوم التالي اتصل بي هاتفياً، وقال لي: أريـــد القصيدة كاملـــة، وأريدك للحديث و«الدردشة» كلما سنحت لك فرصة.

     ومن ذلك الحين أصبح عندي الصديق الأحب، لا أزور العاصمة وكان مقامي على مسافة منها؛ إلا زرته في عرينه، وجلست إليه ساعات وساعات.

     لست أقصد في هذه الذكريات دراسة عمر أبو ريشة، فهذه مهمة فوق طاقتي يقتضي لها نقاد ذوو باع طويل في علم النقد والأدب يتفرغون له ويتدارسونه من مختلف نواحيه، فقد كان عمر شاعراً متعدد المناحي طرق جميع أبواب الشعر، وأبدع فيها جميعاً.

     الغرض من هذا الفصل إذن هو استعادة بعض ذكرياتي معه، وسردها بدون ترتيب. وفي هـــذه المناسبة لا بــد من ذكر الحفلــــة الملوكيـــة التي أقامهــــا للرئيس اللبناني كميل شمعون عام 1954م.

     في ذلك الحين زار شمعون الأرجنتين، فأقامت له الجالية السورية اللبنانية حفلات تكريم رائعة لأن المغتربين جميعاً اعتبروه رمزاً للأمة العربية بدون تفريق بين قطر وقطر.

     وأقام له عمر حفلة في دار السفارة السورية دعا إليها الجالية فضلاً عن عدد من رجال السلطة وحملة الأقلام وعِلْية القوم. فلما دخل الرئيس اللبناني هاله ما رأى من مظاهر الأناقة والفخامة، وكرم النفس واليد، فوقف كالمشدوه وصاح بأعلى صوته: هذا أروع استقبال لقيته في حياتي!. كان لابد من وجود عمر ليكون لي مثل هذه الحفاوة.

     وفي أثناء الحفلة رأيت شمعون يتحدث إلى مدير الجريدة التي كانت تنطق بلسان الرئيس الأرجنتيني الجنرال بيرون، ولاح لي أن التفاهم بينهما غير وارد، فالرئيس اللبناني يجهل الإسبانية، والصحافي لا يعرف من اللغات إلا هي. واستنجد بي شمعون فجلست بينهما مترجماً. قلت: ماذا يريد صاحب الفخامة؟ قال: قل له: إني بعد هذا التكريم الذي لم أشهد مثلـــه سأطلب الجنسية السورية. قلت: يا سيدي لا حاجة إلى الطلــب، فقد منحناك إياها بلا أجر ولا شكور، فضحك وقال: ترجم ترجم، فترجمــت.

     فسأل الصحافـــي: كيف وصلتم إلــى الرئاسة؟ فقال الرئيس ممازحاً: مشياً على الأقــدام. وكان عمر على مقربة منا فقال: لا تصدق. لقد سعى إليها عدواً فوصل قبل غيره لأنه من عدائي العرب كسليك بن السلكة وشيبوب،. فتضاحكنا جميعاً، واضطررت إلى تخصيص نصف ساعة لأشـرح للصحافي حكايــة العدائين. وفي تقديري أنه لم يفهمها وإن كان يهز رأسه علامة الفهــم.

     كان عمر يتلذذ بإلقاء شعره، وكان يغضب في ذات نفسه لأقل هفوة يرتكبها أحد رواته. وكان يكظم غيظه، وعندما يخلو بي يقول: والله يا زكي وددت لو لم يكن فلان من المعجبين بي، لقد صدق المثل القائل: الصديق المخسر شر من العدو.

     كان عمر دودة مطالعة، وقد حاول أن يتعلم الإسبانية، ولكن إقامته في الأرجنتين كانت من القصر بحيث لم يتسع له الوقت ليحيط بها إحاطة واسعة كاملة... بالإضافة إلى ذلك كان عليه أن يتتبع حركة الأدب في الوطن العربي.

     كان عمر قوي الحافظة، شديد الإلمام بأشعار القدامى والمحدثين، وكان يروي معظم قصائده لا يعثر بكلمة ولا يتلجلج ببيت، فكأنه يقـــرأ من كتاب مفتـــوح. قال لي: إنه نظم قصيدته «أندلسية» في الطائرة التي أقلته إلى البرازيــل، وليس فيها حرف أو صورة خارج حدود الواقــع. قلت: هل تذكرها ؟ قال: اسمع.

     ولاحظ إعجابي، وداخله أني قد أظن أنه لا يحفظ غيرها، فشـرع يلقي القصيدة تلو القصيدة حتى دنا وقت الغداء، فقال: هيا بنا إلى المائدة، ثم نتابع الجلسة بعد الطعام.

     ولما أتينا على اللقمة الأخيرة قال لي: لقد جاء دورك فهات ما عندك، فقلت: من سيئاتي يا عمر أني لا أحفظ شعري، فأجاب ممازحاً: هذه من حسناتك، فضحكنا وأصر أن أقرأ شيئاً من شعري فأسمعته بعض الأبيات المتفرقة، ثم قلت له متغابياً: إني أحفظ قصيدة من رائع الشعر لا أعرف من هو صاحبها. فقال: هاتها. فقرأت سينيته «طلل»، وتعمدت أن أغير بعض كلماتها فصححها لي، وأضاف: إذا قرأت من شعري علــــى هـــذا النحو فأرجوك ثم أرجوك ألا تعود إلى مثلها.

     كان عمر شديد الإيمان بوحدة الوطن العربي، سريع الانفعال بما يقع فيه أو يطرأ عليه من أحداث، وقد بدا ذلك جلياً في آثاره الشعرية، ونستطيع أن نقول بغير مغالاة: إن شعره يكاد يكون تاريخاً لحركة التحرير العربية منذ أوائل القرن، وبخاصة لأحداث القطر السوري. ولايزال الكثيرون حتى الآن يرددون شعره في مقارعة الانتداب الفرنسي في سوريا، وفي الدعوة إلى خلع نير الاستعمار واستعادة المجد العربي الداثر.

     وبعد انتقاله من الأرجنتين ظل حبل المودة والمراسلة موصولاً بيننا فترة من الزمن إلى أن تلاقينا ثانية عام 1984م في مجلس الأديبة المعروفة السيدة مهاة فرح الخوري صاحبة مكتبة العائلة بدمشق، وكان لقاء سعيداً تعاونا فيه على نبش الماضي واستعادة ذكرياته. وقد ضم المجلس رهطاً محترماً من أهل الأدب والثقافة في سوريا التفوا حول عمر يستنشدونه شيئاً من شعره في طليعتهم الكاتبة الذائعة الصيت كوليت خوري، والسيدة صاحبة المكتبة، وكان ذلك آخر عهدي بشاعر الجمال والبطولة عمر أبو ريشة».

     وإذا كان للفترة الأرجنتينية في حياة عمر آثارها التي روى طرفاً منها الأستاذ زكي قنصل،؛ فإن للفترة الهندية آثارها أيضاً خاصة أن الهند استأثرت بالمدى الأطول من حياة عمر الدبلوماسية. فقد بلغ مجموع إقامته فيها أحد عشر عاماً، وأهم هذه الآثار قصيدته المطــــولة «كاجوراو» التي يصف فيها معبداً وثنياً في الهند. ويروى أن الزعيم الهندي نهرو قال للشاعر في حفل استقباله: وصلتنا عنك معلومات كثيرة تفيد بأنك صاحب رسالة قبل أن تكون سفيراً، تأكد بأن الهند لن تبخل عليك بشيء مما تأمل. كما يروى أنه قال له في حفل توديعه: إننا اليوم لا نودع سفيراً، فكثيرون هم السفراء الذين يأتون ويذهبون، لكننا نودع اليوم في هذا الرجل القيم العظيمة للإنسان.

     وحين ذهب الأستاذ عبدالله الخاني سفيراً لسوريا في الهند بعد عمر لمس محبة الناس له وسؤالهم عنه، فكتب إليه في إحدى رسائله: إن كل زاوية في الهند تحمل وردة تقول: عمر أبو ريشة مر من هنا وأسمعني قصيدة.

     ومن طرائف الفترة الهندية ما يرويه الأستاذ الشاعر عبدالله بلخير وهو صـــديق قديم لعــمر، حين ذهب إلى الهند مع الملك سعود بن عبدالعزيز، فالتقى الصديقان الشاعران في حفلات حكومية، وفي حفلة أقامها عمر للملك الزائر، ويصف الأستاذ بلخير ذلك وصفاً شائقاً يستحق أن يروى لما فيه من متعة وطرافة، ولأنه يكشف جوانب من شخصية عمر الدبلوماسي الأنيق المثقف الكريم، القادر على بناء العلاقات والصلات، وهذه الحفلة تذكرنا بأختها التي وصفها الأستاذ زكي قنصل من قبل.

     يقول الأستاذ عبد الله بلخير: تلك كانت بعض ذكرياتنا مع عمر أبي ريشة في بيروت، على أن لي ذكريات أخرى معه يوم عين سفيراً لسورية في عاصمة الهند «دلهي الجديدة»، وقدر لي أن أكون في معية الملك سعود بعد استقلال الهند يوم زارها زيارة رسمية، فكنت ألتقي الأستاذ عمر في كل الحفلات التي يقيمها رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء جواهر لال نهرو والوزراء والحكام.

     ورأيت عمر في كل تلك الحفلات الحكومية الرائعة في طلعته الأخاذة وقامته الممدودة، ورفعة مكانته بين رجال الدولة الهندية وسفراء الدول ووزرائها، رأيت رئيس الجمهورية الهندية يحف بعمر وبعقيلته، ويفسح لهما المجال بجواره في الحفلات المختلطة، ورأيت السيد جواهر لال نهرو وزوجته وابنته أنديرا يفعلون مع عمر مثل ما كان يفعل رئيس الجمهورية.

     كان عمر يجول في تلك الحفلات يتكلم مع السيدات والسادة كل منهم بلغته، يتكلم بالعربية والإنجليزية والفرنسية وبعض لغات الهند بما فيها لغة الأوردو وباللغة الفارسية أيضاً، وينتقل من جماعة إلى جماعة يستحوذ على إعجاب من عرفهم أو تعرف بهم، كعادته في أحاديثه يفيض بمعارفه وثقافته العميقة وشغفه بالأدب والشعر فيكون قطب رحى المتحلقين حوله.

     وفي تلك الأيام أقام أبو ريشة كسفير لسورية في الهند بين عامي «1954 - 1958م» حفلة تكريم لجلالة الملك سعود، يوم زار الهند بعد استقلالها. ضرب لذلك الحفل سرادقاً فخماً في حديقة السفارة السورية بدلهي الجديدة، وكان السرادق مترامي الأطراف مبطناً بالحرير الهندي والجوخ الصيني يتعالى على صفوف من الأعمدة العالية، ثم تتوزع فيه المقاعد في الأركان والحلقات، وقد أدهشت جميع المدعوين، وأقيم في الحفلة خوان شرقي وغربي فيه من المآكل ما بهر المدعوين إلى الحفلـة.

     وكان عمر أبو ريشة الداعي والسفير يجول ويستقبل الوافدين والمدعوين، ويقدمهم إلى الملك سعود، ويقف بجانبه يترجم له أقوال الضيوف حتى إذا انتظم عقد الجميع حول المائدة الطويلة التي أشرفت عليها زوجته أم وريف، وقف هو يلقي كلمة ترحيب رائعة، ثم تكلم إلى الحاضرين بالإنجليزية، فذكر أمجاد العرب وعلاقاتهم بأقطار العالم بما فيها بلاد الهند، واستمرت الحفلة ساعات متوالية يضطرب فيها الوزراء والحكام بأزيائهم الرسمية، والسيدات بقبعاتهن الفواحة بالعطر لتضفي على الحفل رونقاً عابقاً، وظهر لي في ذلك المساء وفي غيره من أمسيات الحفلات الأخرى التي استمرت أسبوعين وأنا لا تغيب عيناي عن عمر، مدى صداقته لكبار القوم وحبه للناس وحب الناس له، رأيت نهرو يضمه إلى صدره، ثم يتقدم به إلى أصدقائه في مرح ومزاح ومساواة متكافئة، ورأيت عمر يتجلى على الجميع بدماثة أخلاقه وعلو مكانته بينهم، فترمقه العيون، ويتساءل عنه من لم يعرفه، وكنا نجلس ونختلس جلسات طارئة نتبادل فيها أطراف الحديث والذكريات السابقة.

     وفي عام 1955م يشارك عمر في الحفل الذي أقيم في الملعب البلدي في دمشق لتأبين العقيد عدنان المالكي الذي ذهب ضحية اغتيال سياسي، والغريب أنه لم ينس أن يمجد نفسه ويهزأ من حاسديه مع نبو ذلك عن طبيعة المناسبة:

شاعر في مراده تعــب الصـبر     وما انفـــك ممعنــاً في مــراده
وقفت في دروبــه الأعبـــد الــ     أقزام وافــتن لؤمهـم في انتقاده
ربما يطمعون في أن يمــــروا     بين شــــقي يراعـــه ومــــداده

     ثم يشارك في العام الثاني 1956م في المؤتمر الأول للأدباء العرب الذي انعقد في بيت مري في لبنان أيام رئاسة كميل شمعون، وينشد فيه قصيدة تنال إعجاب الحضور.

     وفي عام 1961م يشارك أيام عمله سفيراً في النمسا في المهرجان الذي بويع فيــه الأخطل الصغير «بشارة الخوري» في بيروت أمــيراً للشعـر بقصيدة من غـــرر شعــره اسمهـا «حكاية سمار» ومطلعها:

هل في لقائك للخيــال الزائـــر    إغضاء ســالٍ أم تلفــت ذاكــر

     وفي عام 1962م ينقل الشاعر من النمسا إلى الولايات المتحدة الأمريكية ليظل فيها سفيراً حتى عام 1964م، حيث ينقل منها إلى الهند التي يبقى فيها حتى عام 1970م، وهو العام الذي أحيل فيه إلى التقاعد.

     وفي عام 1962م ينظم في ابن أخته علي الشهابي مرثية رائعة اسمها «لوعة»، وللقصيدة تميز خاص جداً بين مراثي الشاعر، بل بين مراثي الشعر العربي كله، وسيأتي الحديث عنها مفصلاً في مكانه.

     وفي عام 1969م يشارك في المهرجان الذي أقيم في لبنان لتأبين صديقه الأخطل الصغير بقصيدة من غرر شعره هي «بنات الشاعر» ومطلعها:

نديك السمح لــم يخنق لــه وتر     ولم يغب عن حواشي ليله سمر

     وقد أثارت هذه القصيدة ضجة كبيرة، وتداولها الناس وتناقلتها المجالس، ونشرتها جريدة الحياة في صفحتها الأولى، وسبب ذلك أنه هاجم القادة الذين كانوا مسؤولين عن هزيمة 1967م، وكان جرحها لايزال غضاً طرياً، وكانت الأمة في حالة غيظ ونقمة وإحباط، فعبر عن مشاعرها، وأشهر ما في هذه القصيدة ثلاثة أبيات قالها في الذين صنعوا الهزيمة، فطارت بين الناس أي مطار:

إن خوطبوا كذبــوا أو طـولبـوا غضبوا     أو حوربوا هـربوا أو صوحبوا غـدروا
خافوا على العـــار أن يمحى فكان لهـم     على الرباط لـــدعم العـــار مؤتمـــــــر
على أرائكهــــم سبحـــــــان خالقهـــــم     عاشـــوا وما شعـروا ماتــوا وما قبروا

     وقد رأى أنصار جمال عبد الناصر أن الشاعر كان يعني زعيمهم قبل أي زعيم آخر، فكانت نقمتهم عليه مضاعفة.

     وكان عمر في هذا المهرجان ألمع نجومه، وقد بلغ من تجاوب الحاضرين معه وإعجابهم به أن وقفت القاعة برمتها وعلى رأسها الأستاذ شارل الحلو رئيس جمهورية لبنان يومذاك تصفق للشاعر أكثر من عشر دقائق. لذلك كان يوم هذا المهرجان من أهم أيام عمر الشعرية وأسعدها، وكان ينظر للحاضرين نظرة سعادة وشكر، وهو يطل عليهم من المنصة بقامته الشامخة وأناقته المعهودة.

     وحين أحيل عمر إلى التقاعد عام 1970م بدأت المرحلة الأخيرة من حياته التي دامت عشرين عاماً، وفي هذه المرحلة اتخذ من بيروت سكناً له، وكان محباً للبنان وعاشقاً له، وله فيه صداقات وعلاقات واسعة، وكان يسافر منه ليعود إليه، وقد تخللت هذه المرحلة رحلات كثيرة تطول أو تقصر إلى المملكة العربية السعودية وســورية.

     وقد توثقت صلته في هذه الفــــترة بالأســــرة السعــودية عامة وبالملك فيصل بن عبدالعزيز خاصة، لذلك شارك في عدد من الاحتفالات التي جرت العادة على إقامتها في موسم الحج من كل عام، وهي احتفالات لها أهمية خاصة إذ يحضرها قادة المملكة وكبار ضيوفها من ساسة وعلماء ودعاة وأدباء وشعراء وإعلاميين ووجهاء وأعيان وممثلي بعثات الحج؛ فتصبح مهرجانات دينية أدبية سياسية إعلامية، يتبارى فيها المتكلمون، وكان لعمر حين يشارك فيها بشعره حضوره المتميز.

     وفي واحد من هذه الاحتفالات أقيم عام 1972م وقف عمر لينشد واحدة من أغلى درره بين يدي الملك فيصل، وهي قصيدته «من ناداني» ومطلعها:

رد لي ما استرد مني زمـانــي      فأراني ما الحــــلم كان أراني

     وفي احتفال آخر يقـف عمر بين يدي فيصل لينشده درته الأخرى «أنا في مكة» ومطلعهـــا:

لم تــزالي على ممــــر الليــالي     موئل الحــق يا عروس الرمـال

     فلما استشهد الملك فيصل وقف عمر بين يدي الملك خالد لينشده في احتفال موسم الحج عام 1395هـ - 1975م، قصيدته في رثاء أخيه الشهيد «أمرك يا رب»، وهي قصيدة مطولة حاول أن يستبطن فيها ما دار في خلد الشهيد، وهو ينتقل من دار الفناء إلى دار البقاء. والحقيقة أن صلة عمر بفيصل تشبه من بعض الوجوه صلة المتنبي بسيف الدولة.

     وتجرى للشاعر عملية في القلب في أمريكا عام 1891م، فيناول زوجته منيرة محمد مراد ظرفاً مختوماً فيه وصيته، وكانت الوصية هي:

رفيقـــتي لا تخـــبري إخــــوتي     كيف الردى كيـف علي اعتــدى
إن يســــألوا عني وقد راعهــــم     أن أبصــروا هيكـــلي الموصـدا
لا تجفـــلي لا تطـــــرقي خشعة     لا تسمــــحي للحــــزن أن يولدا
قــولي لهـم: ســافر، قـولي لهم:     إن لــــه في كوكـــــب موعـــدا

     ومن أواخر قصائد الشاعر وأجملها قصيدة مطولة عنوانها «عودة المغترب»، وهي قصيدة تجمع بين الذاتي والموضوعي، يصور فيها وحشته وغربته حين عاد إلى سورية، ورأى ما حل بها من تغير، ورأى ما حل بنفسه هو الآخر من تغير، ورأى ما حل بالعرب من عجز وهوان، فكانت غربته مضاعفة، غربة شخصية وغربة عامة، وفي القصيدة جرأة ووطنية ودين، وفيها حزن مرير يمتزج بما عهد فيه من عزة وإباء وكبرياء، ومطلع القصيدة:

ألفيت منزلها ببابـــــــي موصـدا     ما كان أقربـــــه إلـــــي وأبعـــدا

     بعدها يلاحظ أن شعر عمر أخذ يقل كثيراً، وتستبد به الأحزان الخاصة والعامة، وتطول إقامته في بيروت، وتمرض زوجته منيرة محمد مراد فيشعر بالحاجة إلى سكن عائلي جديد يتحقق له بتعرفه إلى السيدة سعاد مكربل في عام ٨٧٩١م، وهي لبنانية بيروتية، وقد تزوجها عام ٠٨٩١م، وطلب منها أن يظل زواجهما سراً مراعاة لظروفه الأسرية، فترضى بذلك سعيدة مسرورة، بل تترك المسيحية وتعتنق الإسلام من أجله كما روت في بعض المقابلات الصحفية التي أجريت معها، وفي زوجته سعاد يقول عمر:

إنهـــــا بــدعــــــــة المــــــنى    والصبـا السمـــــح والـــــودادْ
صــــاغهــــــــا الله مثــــــلمـا     شـاء وحيـــــــاً إلـــــى العبـادْ
إنهـــــــا فجــــــــر نعمـــــتي     إنهـــــا أنــــــــــت يا سعــــادْ

     وفي مطالع عام 1990م تتردى صحة الشاعر، فيدخل المستشفى التخصصي في الرياض، ويلبث فيه عدة شهور تزداد فيها حالته سوءاً حتى إذا كان يوم السبت 22/ 12/ 1410هـ - 14/ 7/ 1990م؛ انتقــل إلــى رحمة الله عز وجل، ثم حملته طائرة خاصة إلى حلب حيث دفن فيها.

     مات بعد أن حاز على أوسمة كثيرة مختلفة من سورية والبرازيل والأرجنتين وإيطاليا والنمسا والولايات المتحدة الأمريكية، وكان آخر ما حازه وسام الاستحقاق اللبناني من الدرجة الأولى الذي منحه إياه الرئيس اللبناني إلياس الهراوي عام 1990م.
❊❊❊

كتاب عمر أبو ريشة عاشق المجد - صورة كلية

صــورة كليــة

إدراك الصورة الكلية عون على فهم جزئياتها.

     عمر أبو ريشة شاعر عربي شهير من سورية، ولد في منبج على رواية، وفي عكا على رواية أخرى، ترجع أصوله إلى قرية القرعون في لبنان، عاش ثمانين عاماً أو أقل بسنة واحدة، أو أكثر ببضع سنوات، فلدينا ثلاث روايات عن ميلاده هي: «1908 - 1910 - 1911م». أما وفاته فقد كانت في الرياض في «21/ 22/ 1410هـ = 7/ 14/ 1990م».

     تلقى تعليمه المبكر في عكا، والابتدائي في حلب، ومنها ذهب إلى الجامعة الأمريكية في بيروت حيث أتم تعليمه الثانوي، ودخل الجامعة فترة قصيرة، ومنها ذهب إلى بريطانيا فدرس في مانشستر مدة ثلاثة أعوام، عاد بعدها إلى حلب حيث مارس فيها أول عمل وظيفي له، ومنها خرج سفيراً لبلده لمدة عشرين عاماً انتهت بتقاعده عن العمل الوظيفي، فاتخذ من بيروت وجدة داراً ومقاماً حتى انتقل إلى رحمة الله في الرياض، ونقل إلى حلب فدفن فيها.

     طويل بائن الطول، رشيق أنيق وسيم، يحسن الحديث، ويحسن الاستمــاع، أنيس المحضر، عف اللسان، كريم الطبع، يجيد عرض أفكاره بشكل منطقي مرتب، ولابد أن للدبلوماسية أثرها في ذلك، وقد لا يجادل دونها كثيراً لكنه يتمسك بها بأدب وإصرار، وقدرته على الحديث الطلي تذكرنا بقدرته على الإلقاء، والفارق بينهما هو الفارق بين طبيعة الشعر والمحافل وبين طبيعة النثر والمجالس. يطرب للدعابة ويلقيها على ندرة، مهذب يحترم جلساءه، ويشعرهم بوده وبالقرب منه، يصح فيه ما قاله الأستاذ ياسين رفاعية: كنا نشعر ونحن نلتف حوله أننا أمام أمير وفارس من نبلاء القرون الوسطى.

     يمكن أن يقال: إن مفتاح شخصيته هو الإباء والكبرياء، لذلك عاش عزيز النفس، نزاعاً إلى التمردن مولعاً بالحرية، غيوراً على الدين والأمة. ويحمد له أنه رد للشعر كرامته، فقد أبى أن يكـون الشاعر النديم فضلاً عن الشاعر المرتزق، لذلك خلا ديوانه من المدح، ولذلك كان شعـــره ــ في غالب أحيانه ــ تجسيداً لرجولتـــه، وتعبيراً عـن همومه الخاصة وهموم أمته العامة.

     عرف بالجرأة التي جعلته يتخذ مواقف شجاعة، الأمر الذي جعل مواقفه وجعل شعره فيها حديث الناس يتخطفونه ويحفظونه وينشدونه.

     جمع إلى اعتزازه بنفسه اعتزازه بأسرته وعشيرته، واعتزازه بدينه وأمته، واعتزازه بموهبته الشعرية أيضاً. على أن هذا الاعتزاز كان يتجاوز مداه فيصل إلى مبالغات لا تقبل كأن يروي لك أن فلاناً وصفه بأنه شاعر العرب الأكبر، ويورد لك ذلك كأنه حقيقة مقررة، وكأن يقول: للبحتري بيت واحد جيد، وللمتنبي أبيات فقط، وأنه منح سبع عشرة دكتوراه فخرية، وأن عدداً مماثلاً من رسائل الدكتوراه كتب عنه باللغات الأجنبية، وأنه يختلف عن كافة شعراء العالم، وعن كافة المذاهب والمدارس الحديثة والقديمة، وأنه يتعامل مع العربية بأسلوب يختلف عن أساليب كل شعراء عصره، وربما شعراء العصور الأخرى، وأنه أتقن اللغات: الإنجليزية والفرنسية والتركية والألمانية والإيطالية والروسية والبرتغالية والإسبانية والهندية والأوردية، وأنه يحاضر بأربع منها، ويكتب الشعر باثنتين.

     عاش حياة عريضة خصبة في الأدب والسياسة والترحال، وفرض نفسه شاعراً متفرداً لا على مستوى سورية وحدها، بل على مستوى الوطن العربي كله. له ذاتيته وحضوره وتفرده، ومرد ذلك إلى موهبته أولاً، وثقافته ثانياً، وأسفاره ثالثاً، وظروفه المواتية رابعاً، وجرأته خامساً، وتجويده لشعره سادساً، إذ كان كثير النظر فيه حذفاً وتبديلاً وإضافة، ولذلك يمكن أن يصنف في مدرسة «عبيد الشعر»، وشعره يعد بالقياس إلى عمره المديد قليلاً، وهي نقطـة تحسب له لا عليـه.

     ولابد من الإشارة إلى أن هناك من الدارسين والشعراء المعاصرين من يرى أن الشعر صنعة وجهد ومران وتثقيف، لا إلهام أو وحي أو عبقرية، نرى ذلك عند الدكتور طه حسين في كتابه «حافظ وشوقي»، والدكتور يوسف خليف في مقدمة ديوانه «نداء القمم»، والدكتور إبراهيم أنيس في كتابه «موسيقى الشعر»، والدكتور محمد مندور في كتابيه «في الميزان الجديد» و«النقد المنهجي عند العرب»، والدكتور شوقي ضيف في كتابه «الفن ومذاهبه في الشعر العربي»، والشاعر صلاح عبد الصبور في كتابه «قراءة جديدة لشعرنا القديم». وقبل هؤلاء قرر الجاحظ في كتابه «الحيوان» أن الشعر صناعة وضرب من النسج وجنس من التصوير.

     إن هذا الرأي جدير بالاحترام، ولابد من تقييده بأمرين، الأول: أن يكون الشاعر صاحب موهبة حقيقية بادئ ذي بدء، والثاني: ألا يشتط في الصنعة بحيث يقع في التكلف والافتعال اللذين يوصدان أمام شعره منافذ التلقي والقبول لدى الناس.

     ووفق هذا الرأي المقيد، يمكن أن يعد عمر أبو ريشة، شاعراً صانعاً مقتدراً، ينتمي إلى مدرسة «عبيــد الشعر» لأنه صاحب موهبـة حقيقية أولاً، ولأنه لم يقع في التكلف والافتعال ثانيـــاً. لقد جمع شعره بين الطبع الحي والصنعة المعتدلة في اتساق وانسجام بديعين.

     ولا بد من الإشارة إلى أن هذا الشاعر المتفرد الذي بذل جهداً غير عادي في الإتقان، والذي تعددت محاور شعره، وتنوعت المؤثرات والمدارس الفنية والسياسية والثقافية التي كونـت شخصيته، يعسر تصنيفه شاعراً ينطوي تحت هذه المدرسة أو تلـك، فلقد استوعب التراث العربي، والمدارس الأدبية الحديثة، كما استوعب الكثير من مدارس الأدب الغربي، لكنه ظل في النهاية شاعراً متفرداً متميزاً له عالمه، وله خصائصه، وله شخصيته المستقلة، كأنه النحلة تشتار رحيق زهور كثيرة متنوعة، لكنها في النهاية تجود بعطائها الخاص الممتع، وتضع عليه بصماتها فتعرف به ويعرف بها. وما أصدق ما قاله في حق نفسه: لقد بنيت كوخي على نحو عربي خالص، ولست نزاعاً إلى مذهب دون مذهب، وما يبدو في شعري من أطياف الغرب نوع من التمثل والتأثر من غير قصد!.

     وبطبيعة الحال يمكن أن تجد شيئاً من سمات هذه المدرسة الأدبية أو تلك في شعر عمر أبو ريشة، لكن ذلك لا يجعله ينحصر في أسوار واحدة منها؛ ذلك أن له من التفرد والخصوصية ما يجعل خصائصه الفنية تلتقي مع أكثر من مدرسة دون أن تحيط به واحدة منها إحاطة تامة.

     إن بوسعك أن تجد في شعره شيئاً من الواقعية في تعبيره الشجاع عن قضايا أمته وهمومها، وشيئاً من الرومانسية في عواطفه المتدفقة وشعوره الحي وذاتيته الظاهرة لا يبلغ حد الميوعة والنرجسية، وشيئاً من الكلاسيكية في أوزانه ولغته وأسلوبه وموضوعاته، وشيئاً من الرمزية يطل على قلة واستحياء لأنه كان شاعر محافل، جهيراً يملأ السمع والبصر مما يتنافى والرمز الذي تطاوعه الذاتية الحادة والخصوصية المفرطة، لكنه يبقى بعد ذلك متفرداً عصياً على التصنيف، تضاف إلى ذلك صعوبة أخرى تجعل التصنيف أمراً صعباً بالنسبة له وبالنسبة لغيره، وهي أن المدارس الفنية التي ينسب النقاد الشعراء إليها فضفاضة بسبب طبيعة الفن الذي يظل للأذواق الشخصية والأمزجة الخاصة أثرها الكبير عليه خلافاً للمدارس الدينية والسياسية والاقتصادية.

     وما أصدق ما قرره في هذا المجــال الدكتور الطاهر أحمد مكي من أن: التصنيف على أساس المذاهب والحركات الأدبية لا يخلو من صعوبات ومشكلات مردها إلى أن التسميات فضفاضة، لا تعني شيئاً واضحاً محدداً، كالكلاسيكية والرومانسية والواقعيــة، أو تجيء بالغة الضيق لا تنطبق إلا على عدد محدود من الشعـراء، كالتصويرية والدادية والوجودية، واتجاهات أخرى لا تكاد تذكر، إلى جانب أن إبداع الشاعر من الممكن أن ينطوي تحت أكثر من مذهب لتطوره أو لتقلب مزاجه!.

     إلقاؤه فريد متميز، بشهادة كل من سمعه، وهو في عصره أشبه بحافظ إبراهيم في عصره، لقد كان كل منهما الأستاذ الأول لإلقاء الشعر في جيله.

     جدد في شعره من خلال الموضوعات، والحرص على طرافة الفكرة، ومن خلال الوحدة العضوية التي برز فيها وتألق، والصورة الشعرية التي كان فيها صياداً بعيد المنال، والموسيقى التي التزم فيها في الجملة بالتقاليد المأثورة لأوزان الشعر العربي مع المرونة التي تتيح له التحرك من خلال ثوابتها، وقد كانت تلك أهم أمجاد الشاعر الفنيـــة.

     وإذا كان الشاعر يشترك مع الآخرين في هذه الأمجاد فإنه يكاد ينفرد عنهم بمجد خاصن هو الحـرص على الختام المفاجئ الباهر الذي كان يسميه «بيت المفاجأة».

     عادى الأشكال الحديثة من الشعر، وعدها جزءاً من مؤامرة عالمية ضد ثوابت الأمة، ودعا إلى حربها بلا هوادة.

     هو شاعر غنائي قبل كل شيء، أما شعره المسرحي فقد بدأ بداية واهنةن ثم تحسن بعض الشيء، ثم توقف إلا من تجارب غير مكتملة، ووعود لا تتجاوز الأحلام.

     نظم في الإسلاميات، وفي المرأة، وفي الرثاء، وفي الوصف، وفي التاريخ، وله شعر قصصي، وشعر فيه سمات ملحمية. أما شعره الوطني فله فيه حضور كبير كان من أهم أسباب شهرته، وكان من شعراء المحافل البارزين.

     كانت له صداقات واسعة مع أدباء ونقاد وشعراء وصحفيين وأعيان ورجال أعمال وسفراء وساسة ووزراء ورؤساء وملوك، واتسعت هذه الصداقات لتشمل العربي وغير العربي والمسلم وغير المسلم، وقد أعانته على اكتسابها أسفاره ومناصبه وشاعريته وجرأته ودبلوماسيته فضلاً عن أدبه الجم وذوقه الرفيع وكياسته.

     مسلم محب للإسلام غيور عليه مدافع عنه، يعترف بتقصيره وضعفه البشري ويسأل الله المغفرة، وثقافته الدينية أقل بكثير من حبه لدينه وغيرته عليه، لذلك كان فيها قصور كثير يظهر مثلاً حين يتحدث عن الحلول والتقمص والتناسخ، وما في الهند من طاقات روحية عظمى والتسامي الروحي والتطهر اللذين يخرج بهما من يتأمل المشاهد الجنسية الفاضحة في معابدها، يتحدث عن ذلك دون استنكار، بل هو إلى التصديق أقرب.

     ثقافته العامة جيدة، وثقافته العربية متوسطة، أما صلته بالشعر العربي القديم ففيها أكثر من رأي، لكن هناك رأياً يكاد يكون متفقاً عليه، وهو أنه كان وثيق الصلة بعيون الشعر العربي يتمثلها ويتملاها ويغوص على أسرارها، وربما التفت إلى فرائد نادرة تغيب عن المختصــــين.

     محب للحياة مقبل عليها يسخو على نفسه ويحب المتع ويحرص عليها، حـــاول أن ينتحر أكثر من مرة، أو فكر في الانتحار، لكنه كان دائماً يعود أكثر إقبــالاً على الحيـــاة وشغفـاً بها.

     وفيٌّ لأصدقائه يطيب له أن يسمر مع الصفوة منهم طويلاً وهم يتحدثون في الأدب والفن والسياسة والذكريات.

     مضى عُمَرُ الإنسان كما يمضي كل الناس، وبقي عُمَرُ الشاعر، بقي شاعراً متفرداً يشهد له بهذا التفرد الكثيرون، فالشاعـــر المهجـري زكي قنصل وهــو صديق قديم له يقـول عنــه: ومن هنا كان هذا الطابع الفريد في شعره الذي يكاد يكون وقفاً عليه دون الشعراء. والشاعر حسن عبدالله القرشي وهو الآخر صديق قديم له يصفه بأنه كان فرداً في هندسة القصيدة، وكأنه يرسم لوحة مستكملة عناصر الفن.

     والشاعر بلند الحيدري وهو أيضاً صديق قديم له يصفه بأنه ذو خصوصية متمـيزة.

     أما الدكتور شكري عياد فيقرر أنه أحد أعلام الشعر العربي المعاصر وإضافة متفـردة لتاريخه، ويؤكد هذا التفـرد كل من الدكتور جميل علوش، والدكتور سامي الدهان، والدكتور عمر الدقاق، والدكتور حلمي محمد القاعود، والدكتور حسن ظاظا، والشاعر سليمان العيسى، والأستاذ أحمد الجندي، والأستاذ سامي الكيالي، وغيرهم.

     أما شيخ مؤرخي الأدب العربي في العصر الحديث الدكتور شوقي ضيف فأشاد به أيما إشادة في الفصل الممتع الذي عقده عنه في كتابه «دراسات في الشعر العربي المعاصر».

     والحقيقـــة أن تفرد شاعر ما أمر عسير وشاق، وهو في عصرنا الحاضر أكثر عسراً ومشقة، ذلك أن العصر الحاضر بتعقده وتواصله وتسارعه وتدفق معلوماته يكاد يلغي الخصوصية والتفرد من حياة الناس، ويجعلهم أنماطاً متشابهة تصدر عن ثقافة عصرها العامة المشتركة أكثر مما تصدر عن تجاربها الذاتية الخاصة.

     وقد عبر عن ذلك الدكتور شكري عياد تعبيراً بديعاً حين قال: كان أبو تمام والمتنبي وأبو العلاء ذوي ثقافة أدبية وفلسفية عميقة، وكان دانتي حسن الإلمام بفلسفة توما الأكويني ولاهوت العصور الوسطى، وكان بلزاك مواكباً للتقدم العلمي الذي أحرزه عصره... ولكن التجربة المباشرة تجربة الشاعر أو الكاتب في الحياة ظلت هي المصدر الأهم للشعر والأدب خلال تلك العصور كلها... أما الآن فقد انعكس الوضع... والمجتمع الحديث قلما يتيح لأبنائه تجارب حيوية خصبة. إن شؤون حياتنا اليومية مرتبة سلفاً بألوف من الفنيين الذين يشبهون جن سيدنا سليمان ينظمون لنا مأكلنا وملبسنا وتسليتنا.

     وإذن فإن تفرد عمر أبو ريشة الذي شهد له به فيمن شهد الدكتور شكري عياد نفسه، في هذاالعصر الذي يضغط على الناس، ويكاد يجعلهم نسخاً مكررة من خلال «جن سليمان» هو تفوق غير عادي يتجاوز ظرفاً غير عادي، استحق به عمر أبو ريشة مكانة غير عادية.

     وشعر عمـر أبو ريشة يدل إلى حد بعيد على حياته وعلى عصره وعلى صنعته على السواء، وإن من أمارات الشاعر العظيم أن يحقق شعره هذه الدلالة فيكون صورة «نوعية» تترجم عن ذاتها لا صورة «نمطية» تكرر الآخرين.

     يقرر الأستاذ العقاد في مقدمة كتابه «ابن الرومي حياته من شعره» أن ديوان الشاعر صورة نفسه الخاصة، وأن هـــذه هي الطبيعة الفنية التي تجعل شعر الشاعر ترجمة حياته الباطنـة، كما يقرر في كتابه «ساعات بين الكتب» أنك إذا لم تعرف حياة الشاعر من ديوانه فما هو بشاعر ولو كانت له عشرات الدواوين.

     ووفق هذا المعيار الفني الدقيق والصائب معاً الذي وضعه الناقد الكبير يمكن أن يوصف عمر أبو ريشة بأنه شاعر كبير له تفرده، وله خصوصيته، وأن شعره يترجم عصره وحياته وصنعته على السواء.
❊❊❊

كتاب عمر أبو ريشة عاشق المجد - ديوان الشاعر

ديـوان الشــاعر

     ليس لعمر أبو ريشة ديوان يجمع كل شعره، وتتبع ما صدر فعلاً عنه ينتهي إلى ما يلي:

١ - كان أول ما أصدره هو مسرحيته «ذي قار» عن المكتبة الحلبية في حلب عام 1931م.
٢ - صدر أول ديوان له بعنــــوان «شعر» عن مطبعة العصر الجديد في حلب عام 1936م.
٣ - ثم صدر له ديوان «من شعر عمر أبو ريشة» عن دار مجلة الأديب في بيروت عام 1947م.
٤ - ثم صدر له ديوان «مختارات» عن المكتب التجاري في بيروت عام 1959م.
٥ - ثم صدر له الجزء الأول من «ديوان عمر أبو ريشة» عن دار العودة في بيروت عام 1971م، وفي آخر الديوان أعلن الشاعر عن ثلاثة أعمال له على أنها تحت الطبع، وهي الجزء الثاني من الديوان، ومسرحية «سمير أميس»، ومسرحية «تاج محل».
٦ - ثم صدر له ديوان «غنيت في مأتمي» عن دار العودة عام 1974م.
٧ - ثم صدر له ديوان «من وحي المرأة» عن دار طلاس بدمشق عام 1984م.
٨ - كما نشرت له دار الأصبهاني للطباعة في جدة مجموعة شعرية بعنوان «أمرك يا رب فيصل» بدون تاريخ.
❊ ❊ ❊

     ويلاحظ أن الشاعر كان يكرر في الإصدار اللاحق ماجاء فى الإصدار السابق مع حذف وإضافة وتعديل.

     كما يلاحظ أن كثيراً من وعوده لم تر النور مع تكرر الإعلان وتطاول العهد، ومع الإعلان أن بعضها «تحت الطبع» ومع مرور عدة عقود على ذلك، وهو أمر يحمل على الظن المقارب لليقين أنه لم ينجزها، أو أن ما أنجزه منها لم يرض عنه فطواه.

     يبقى الحديث عن ملحمته عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم التي تحدث عنها كثيراً، وقال: إنه نظم منها عـــدة آلاف من أبيات الشعر، وإنها سوف تتجاوز عشرة آلاف بيت، وسماها «النبي»، ونشر مقدمتها تحت عنوان «محمــد» عام 1941م، ووضع إزاء هذا العنوان جملة نثرية هي «مقدمة ملحمة النبي»، وتقع هذه المقدمة في واحد وتسعين بيتاً أكملها حتى صارت مئة بيت، وقد ألقاها مراراً حتى صارت من أشهر شعره.

     هذه الملحمة لم تر النور مع أنه قد مر على الوعد بها نصف قرن منذ أن نشرت المقدمة عام 1941م حتى وفاة الشاعر عام 1990 م، مما يحمل على الظن أن الشاعر كان ينوي أن ينظم الملحمة لكنه انصرف عنها لسبب مجهول، أو أن ما نظمه منها لم يرقه فكتمه.

     ومما يؤكد أن بعض ما وعد به الشاعر من أعمال، كان مجرد محاولات لم تكتمل أو مشروعات انصرف عنها ما أعلنه في ختام الديوان الأول الذي صدر عام 1936م؛ من أنه يؤلف فـي «الملاحم»، وأنه نظم منها ستة آلاف بيت، وأنه قد ينهي نظمها سنة 1943م. وقد ذكر الدكتور سامي الدهان ذلك عام 1968م ظاناً أن الشاعر ربما كان ينوي مفاجأة الناس بإنجاز وعده، فقال: فلعله يجمعه سراً ليفاجئ به عشاق الشعر الصحيح. ولقد كان الدكتور الدهان صبوراً، إذ انتظر الشاعر ربع قرن، فإذا أضفنا إلى انتظاره هذا ما سبقه وما تلاه من زمن دون أن نظفر بالإصدار الموعود مع مرور أكثر من نصف قرن عليه؛ تبين لنا أن الشاعر انصرف عما وعد به، أو أن ما أنجزه منه لم يرض عنه، أو أنه نوع من الادعاء والمباهاة.

     يزكي هذا الاحتمال ما قاله الأستاذ أحمد الجندي، وهو أديب وشاعر من ناحية، وأحد أصدقاء عمر أبو ريشة، لفترة طويلة من ناحية أخرى: وهو قد وعد منذ أكثر من ثلاثين سنة بأنه عامل على نظم ملحمة تتضمن التاريخ الإسلامي كله، وعنده قصيدة أو قصيدتان تتعلق بالتاريخ العربي يقول دائماً: إنهما من أصل هذه الملحمة، ولكن الملحمة لم تظهر حتى الآن، والمعتقد عندي وعند من يعرفون حقيقة الأمر أنه لم يكتب منها شيئاً، وأنها لم تزل مشروعاً أو فكرة. كما يزكيه ما أكده الدكتور عمر الدقاق وهو أكاديمي سوري من بلد الشاعر أحبه وعاصره، واتصل به وكتب عنه، وذلك حين قال: غير أن هذا البلبل الصداح أخذ يتراخى عن التغريد يوماً بعد يوم حتى إن أعمالاً أدبية جليلـة بدأ بها ولم ينجزها مثل مسرحية الطوفان، ومسرحية سمير أميس، وملحمة كبرى تنطـوي علــى أمجــاد العرب، ولـم يظهر منهـا سـوى قصيدة محمد.

     كما يزكيه أيضاً ما ذكره الدكتور عبد السلام العجيلي، وهو أديب سوري اتصل بالشاعر وأحبه؛ من أنه كان يغالي أحياناً فيما يزعمه عن مسرحيات شعرية له، وأنه كان يتصور ما يفكر به واقعاً قبــل أن يقع، وأنه كان يريد أن تكون له ملاحم وقصائد طويلة، لذلك تجده يقــول: سوف أنظم ملحمة عظيمة، أو إنني نظمت ملحمة عظيمة. والواقع أنــه ينظـم أحياناً أبياتاً منها على أمل أن يكملها فيما بعد، ولكنه لا يفعـل، ولذلك أيضاً كان يقــول: إن لديه أعمالاً مسرحية مختلفة، ولكن المؤسف أن هذه الأعمال ظلت في طي الغيب ولم تظهر يوماً.

     وإذا كان من المؤكد أن ثمة أعمالاً للشاعر لم تنشر، وأن هناك وعوداً لم تنجز؛ فإن الذي نشر حتى الآن كافٍ تماماً لتكوين فكرة تامة عنه من حيث الموضوع، ومن حيث الصنعة الفنية. والمأمول أن تعمل أسرة الشاعر على إخراج تراثه كاملاً للناس وفاء له، وتيسيراً للأدباء والدارسين.
❊❊❊❊

الأكثر مشاهدة