الأحد، 26 سبتمبر 2021

كتاب الرثاء في شعر البارودي وشوقي وحافظ - الفصل الأول - 03 - شوقي والموت


 الفصل الأول

(الرثاء في شعر شوقي)

03 - شوقي والموت:

     عاش شوقي حياة مرفهة مترفة في جميع مراحل حياته، ولم تضيق عليه الدنيا إلا في فترة نفيه للأندلس تضييقاً يسيراً وكأنها تداعبه فيه، وكان رجلاً محباً للحياة، راغباً فيها، أوتي من المال والجاه والنفوذ والشهرة ما جعله يزداد كلفاً بها وحرصاً عليها، لذلك كان يخاف الموت كثيراً، وكان يتساءل عن ساعة الموت لأنها ترعبه، وكان يرى أن كل شيء قبلها أو بعدها هين، كما كان كثير التساؤل عما يؤول إليه جسد الميت في قبره.

     يقول الأستاذ كامل الشناوي وهو يتحدث عن جزع شوقي من الموت ((وكان شوقي يحب الحياة ويفزع من الموت، إذا سمع بموت أحد أصدقائه سأل: كيف مات؟ وهل كان يشكو من الكبد؟ هل كان عنده ضغط؟ هل كانت شرايينه متقلصة؟))[1].

     وواضح من رواية الأستاذ الشناوي كيف كان شوقي يحب الحياة بحيث يسأل في استقصاء يحاول من خلاله التأكد أنه غير مصاب بالمرض الذي أودى بالصديق، ليعيش مع الأمل أنه لا تزال أمامه فسحة من الوقت قبل الموت.

     من جانب آخر كان شوقي يكثر من السؤال عما بعد الموت، كأنه يريد أن يطمئن إلى مصيره بعد وفاته التي يهابها والتي يريد تأخيرها ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، يقول الدكتور أحمد محمد الحوفي: ((إذا كان شوقي أكثر شعراء العربية رثاء، فإنه كان أكثرهم مساءلة للموتى عن الموت وعما بعده، فلطالما توقف في مراثيه ليسأل الموتى عن حقيقة الموت والروح سؤال الحفي القلق الحيران المشتاق إلى أن يعلم ما يجهل))[2].

     وفي مراثي شوقي نصوص كثيرة تؤيد ما قاله الشناوي والحوفي، ففي قصيدته التي قالها في رثاء شكسبير يخاطبه قائلاً:

بمن أماتك، قل لي: كيف جمجمــة     غبراء في ظلمات الأرض جوفـاء
كانت ســــماء بيــــــان غير مقلعة     شؤبـــوبها عسل صاف وصهبــاء
فأصبــحت كأصيص غير مفتـقـــد     جفته ريحــــــانة للشعر فيحــــــاء
وكيف بات لســــان لم يدع غرضاً     ولم تفتـــــه من البـــــاغين عوراء
عفـــا فأمسى ذنابى عقــــرب بليت    وسمّها في عــروق الظلم مشـــــاء
وما الذي صنعت أيدي البـلى بيـــد    لهــــا إلى الغيب بالأقـــــــلام إيماء
في كل أنمــــلة منها إذا انبجســـت     بــــرق ورعد وأرواح وأنـــــــواء
أمست من الدود مثل الدود في جدث   قفـــــازها فيه حصباء وبوغــــــاء
وأين تحت الثـــــرى قــلب جوانبه     كأنهن لوادي الحــــق أرجـــاء[3]

     إن الشاعر حريص على الاستفسار من شكسبير عما بعد الموت، يطلب منه أن يقربه له كما قرّب أمر الحياة  ووصفها، ويستحلفه بالله عما أصاب رأس أديب عظيم في التراب وماذا حل بلسانه ويده وأنامله؟ والشاعر يسأل ويستقصي في السؤال، كأنه يريد أن يحصل على طمأنينة، وكأنه مشفق على نفسه من الدود الذي سيعبث برأسه الذي كان سماء بيان ولسانه الذي لم يغادر غرضاً.

     ولذلك كان من أعجب العجب أن نجد الشاعر يتمنى الموت فيقول في رثائه لحافظ:

قد كنت أوثر أن تقول رثــائي     يا منصف الموتى من الأحياء
لكن سبقت وكل طول سـلامة     قـــدر وكل منية بقضـــاء[4]

     وفي رثاء شوقي لرياض باشا نجده يستفسر منه عن الموت في قطعة رائعة:

ســــألتك ما المنية أي كـــأس     وكيف مذاقـــها ومن السقـــاة
ومــاذا يوجس الإنســان منها     إذا غصت بعــــلقمها اللهـــاة
وأي المصرعيـــن أشد موت     على علــــم أم الموت الفوات
وهل تقع النفـــوس على أمان     كما وقعت على الحرم القطاة
وتخـــــلد أم كزعم القوم تبلى     كما تبــــلى العظام أو الرفات
تعـــــالى الله قابضــــها إليــه     ونـــاعشها كما انتعش النبات
وجازيها النعيــــم حمى أمينـاً     وعيشـــــاً لا تــكدره أذاة[5]

     إن الشاعر في هذه الأبيات شديد الخوف من الموت، لذلك يطلب من المرثي أن يحدثه عنه بالتفصيل لأنه الحق وما سواه باطل ولغو، وفي أسئلة دقيقة ذات طبيعة استقصائية، يسأل الشاعر الفقيد عن كأس الموت ومذاقها وسقاتها وماذا يحس الإنسان منها وقت شربها، وأيهما أشد الموت المباغت أم المعروف، وما مصير الروح بعد الموت، أتبلى أم تفنى، وينتهي من هذه الأسئلة بالجزم بالبعث والنشور، وهو ما يدل على أنها ليست أسئلة شك، بل أسئلة رجل مؤمن متخوف من لحظة الموت.

     وفي رثائه لجدته يجعل شوقي من الدنيا دار قتال، يروّع الناس فيها ما يروعون، ثم يصابون بسهم الموت الذي ما منه مهرب:

هي الدنيا قتـــــــال نحن فيه     مقاصد للحســـــــــام وللقناة
وكل النــــــــاس مدفوع إليه     كما دفع الجبـــان إلى الثبات
نروع ما نــــــروع ثم نرمى     بسهم من يد المقدور آت[6]

     وفي رثائه لعبد العزيز جاويش يستحلفه بالموت الذي أصابه أهو شقي به أم سعيد، وكأنه يريد أن يحصل من خلال      طمأنينة المرثي على طمأنينة لنفسه:

نشـــدت بالموت إلا أبنت     أأنت شقي به أم سعيد[7]

     وفي قصيدته في الخديوي إسماعيل التي قالها بمناسبة وصول جثمانه إلى مصر نجده يقرر أن الموت لا مهرب منه:

أنا من لا يرى الفـــــــرار من المو     ت ومن لا يرى من الموت بدا[8]

     وفي قصيدته في كتشنر يصور أن النجم سوف يعثر بالموت إذا هربت النفس إليه، وأن المحترس الحذر سوف يصيبه القدر القاتل:

وإذا الموت إلى النفــــس مشى     وركبت النجــــــم بالموت عثـر
رب ثاو في الظبى ممتـــــــــنع     سله المقدار من جفن الحذر[9]

     وفي رثائه لصديقه عمر لطفي وهو رثاء صادق مؤثر، نجده يخاطب صديقه الفقيد، مبيناً له أن حفرته تعد ليلحق به:

ســـهرنا قبيـــــل الردى ليــلة     وما دار ذكر الردى في السمر
فقمت إلى حفــــرة في التراب     وقمت إلى مثــلها تحتفر[10]

     وفي قصيدته التي قالها في قاسم أمين يتحدث الشاعر عن واجبه في رثاء الرفاق الأخيار الذين سبقوه إلى الموت، ويخبرهم أنه سيظل يبكيهم وأن بينه وبينهم سفراً إليهم فهو يكاد يرى محله بينهم:

يا غائبين وفي الجوانح طيـفهم     أبكيـــكم من غيب حضــــــــار
بيني وبينـــكم وإن طال المدى     سفــــر سأزمعه من الأسفــــار
إني أكــــاد أرى محلي بيـــنكم     هذا قراركم وذاك قراري[11]

     وفي قلق متوجس يناشد الشاعر صديقه أن يعود كما عاد لازار من قبل، ليحدثه عن الموت، ليعلم ما الذي ينتظره فيه، لأن كل إنسان سيطلق الدنيا، كما طلق الفرزدق زوجته النوار، مهما أحبها:

هلا بعثــــت فكنت أفصـــح مخبر     عمـــا وراء المــــــوت من لازار
انفض غبار الموت عنك ونـاجني     فعســـاي أعلم ما يكون غبــــاري
هذا القضاء الجد فارو وهـات عن     حكم المنـــــية أصدق الأخبــــــار
كل وإن شغفتـــــه دنيــــــاه هوى     يوماً مطلقهـــا طـــــــلاق نـــــوار

     وفي رثاء شوقي لمحمد المويلحي يصور ساعة احتضار الفقيد وكيف طالت هذه الساعة ويتساءل عن حالها، وكأنه يرى فيها ساعته هو:

تعب الموت في صبور على النـــز     ع قليـل إلى الحيــــــاة نـزاعـــــــه
صــــارع العيش حقبة ليت شعري     ســــاعة الموت كيف كان صراعه
قهــــر المـوت والحيــــاة وقد تحــ     ـكم في رائض السباع سباعه[12]

     وأما قصيدة شوقي في رثاء إسماعيل صبري وهي من أجود شعره، فإننا نجد فيها تصويراً مفصلاً للقبر، يعكس رعب الشاعر منه:

في منـزل دارت على الصيد العلا     فيـه الرحى ومشت على الأرداف
وأذيل من حســـن الوجوه وعزها     ما كان يعبـــــد من وراء سجــاف
من كل لمـــاح النعيــــــم تقــــلبت     ديبــــاجتـاه على بلى وجفـــــــاف
وترى الجماجم في التراب تماثلت     بعــد العقـــول تماثل الأصــــداف
وترى العيون القاتــــــلات بنظرة     منـــهوبة الأجفان والأسياف[13]

     ويعود شوقي ليسأل صديقه المرثي عن الموت وطعمه، ويستحلفه بما كان بينهما من مودة أن يخبره عن ذلك، في هذا البيت الجميل الذي يعكس قلقاً وتوجساً وحيرة:

قل لي بســــــابقة الوداد أقاتل     هو حين ينزل بالفتى أم شافي

     وفي رثاء شوقي لأمين الرافعي، يتحدث عن يوم وفاته القادم، وكيف يبكى عليه لكنه لا يشعر، وكيف يقول الناس فيه لكن الموت لا يأذن له أن يقول، ويقدم لنا ذلك في صورة جميلة حزينة:

رب يوم ينـــــاح فيه علينــــــــا     لو نحس الـنـــــواح والترتيــــلا
بمــراث كتبــــن بالدمع عنــــــا     أسطراً من جوى وأخرى غليلا
يجـــد القــــائلون فيها المعـــاني     يوم لا يأذن البلى أن نقولا[14]

     وفي رثاء جورجي زيدان نجد الشاعر يسأل المرثي كيف تنفصل الروح عن الجسد، ويزحف البلى إليه، وهل تحن إليه بعد الفرقة حنين الغريب إلى وطنه، وهو ما يدل على مقدار خوفه من الموت وقلقه من ساعته:

وضعت خير روايات الحيــاة فضع     رواية الموت في أســـــلوبها العالي
وصف لنا كيف تجفو الروح هيكلها     ويستبد البــــلى بالهيـــــــكل الخالي
وهل تحن إليــــه بعد فرقتــــــــــــه     كما يحن إلى أوطـــانه الجالي[15]

     وفي رثاء شوقي لأبيه نجده يسأل أباه عن الموت وكأسه المر، وعن ساعة الموت التي يهون كل شيء قبلها وبعدها، وهل شرب فيها الموت جرعة أم جرعتين، وهو ما يدل على خوفه من هذه الساعة ورهبته إياها:

يــــا أبي والموت كــــــــــــأس مرة     لا تــــــذوق النفــــس منها مرتيــــن
كيف كانت ســــــاعة قضيــــــــــتها     كل شيء قبـــــلها أو بعد هيــــــــــن
أشــــربت الموت فيــــــــــها جرعة     أم شربت الموت فيها جرعتين[16]

     وفي رثاء شوقي لعلي بهجت، يطلب منه أن يجيبه، وأن يخبره عن الماضين، حيث إنه قد أعد عدته حتى يلحق بهم، ويطلب منه وصف منـزلهم ومنـزله:

أخي أقبـــــل علي من المنـــــــايا     وهـــات حديثك العذب الشهيــــــا
نشـــــدتك بالمنية وهي حـــــــــق     ألم يك زخـــــرف الدنيا فريـــــــا
عرفت الموت معـــــــنى بعد لفظ     تكــــــلم واكشف المعنى الخبيــــا
فخبــــرني عن المـــاضيــــن إني     شــــددت الرحل أنتظر المضيــــا
وصــــف لي منـــــزلاً حملوا إليه     ومالمحوا الطريق ولا المطيا[17]

     وفي رثاء شوقي لبشارة تقلا يخاطب المرثي ليسأله عما لقي بعد الموت وماذا شهد في القبر وليعود بعد ذلك فيقرر أن الموت ظلمة وثقل، ولحظات تفعل بالإنسان مالا تفعله الرماح:

ليت شعري ماذا لقيت من المو     ت وأخفى لك التراب المهيـــل
إنمــــا الموت ظلمة تملأ العيــ     ـن ووقر على الصـــدور ثقيـل
وثوان أخف منــــها العــــوالي     كل عضو ببعضها مقتول[18]

     وفي رثائه لعلي رفاعة الطهطاوي يتساءل شوقي عن جدوى الفرح بالدنيا مادامت ترد ذلك إلى البكاء في النهاية، وعن التوسع فيها ما دام القبر الضيق هو المنقلب والمآل، ويقرر أن كثيرين ممن كانوا في أحسن حال وأجمل معشر صاروا إلى صحبة الديدان، وأن منعمين مترفين كانوا يستخشنون أرق الملابس باتوا في قبورهم يألفون الديدان والتراب والأكفان:

فيـــــم ابتســـــامك للدنيـــــا وغايتــــــها
               تـــــرد كل محــــب عنــــــك منتحـبـــــا
وما اتســـــاعك منها بعدما حسبـــــــــت
               عليـــــك ضيقـــة الأجــــــداث منقــــلبـا
كم صـــــاحب لبدور الدهر فــــــــارقهم
               لم يحص من حشرات الأرض ما صحبا
ونــــاعم كــــــان يؤذى من غــــــــلالته
               تــــــألف الدود والأكـفـــان والتربا[19]

     هذه النصوص تدل على حب شوقي للحياة، وخوفه من الموت، بدرجة كادت تصبح حالة مرضية فيها مبالغة وتشاؤم ربما أحرجته وأحرجت من حوله، يقول الأستاذ أحمد محفوظ، وهو الذي لازم الشاعر الكبير منذ عودته من المنفى حتى وفاته، مصوراً هذا الجانب المهم فيه: (( كان يستبشر خيراً إذا سمع ثناء على صحته، وكنت أعلم عنه هذا، فكنت إذا عدته مريضاً في داره أو سمعته يشكو وجعاً في مكتبه أسرعت قائلاً: والله إن وجهك ينبئ عن صحة وشباب، فكان يطير فرحاً ويلتفت إلى ولديه ويقول: أما فيكما من يقول لي مثل هذا، ويسر بقية يومه.

     وكان يحب الحياة حباً عظيماً، ويخاف الموت خوفاً شديداً، ويكره أن يتحدث عنه، كما كان يكره غيره أن يتحدث عنه أمامه، فكنا نعلم عنه هذا فنتحاشى ذكره أمامه، فلا ننعى ميتاً ولا نخوض في حديث الموت ولا فلسفته، ولا في أية ناحية من نواحيه كائنة ما كانت، ويستطيع قارئ شعره أن يتبين هذا في حيرته الدائرة في الخوف من الموت في كل مراثيه))([20]). وأردف الأستاذ محفوظ كلامه هذا بذكر بعض الوقائع المؤيدة له.

     والمعرفة العميقة للأستاذ أحمد محفوظ، بشوقي وحبه للحياة وخوفه من الموت، جعلته يندهش جداً مما قاله في رثاء حافظ إبراهيم الذي سبقه إلى الدار الآخرة، فيقول: ((ومات حافظ قبله بثلاثة أشهر فبكاه، وأفزعني أن يقول في مطلع رثائه له:

قد كنت أوثر أن تقول رثــائي     يا منصف الموتى من الأحياء
لكن سبقت وكل طول سـلامة     قــــدر وكل منيــــــة بقضــاء

     ولو كنت تعلم ما أعلمه من حرص شوقي على الحياة وكرهه للموت غاية الكره وبغضه لذكره بغضاً قاتلاً لفزعت معي، ولكنه المرض الذي ألهمه هذه الفلسفة، ولم يكن البيت الأول فلتة بل أكده بعد ذلك، ولم ينس الساعين الذين طالما مشوا بين الشاعرين بالوشاية، وأفسدوا بينهما حتى بعد الموت فقال:

وددت لو أني فـــداك من الـــردى     والكـــــــاذبون المرجفون فــدائي
النــاطقون عن الضغينة والهــوى     والموغرو الموتى على الأحيــــاء
من كل هــــدام ويبني مجـــــــــده     بكرائم الأنقاض والأشلاء))[21]

     ويقول الأستاذ يحيى حقي: ((وهلع شوقي من المرض ينعكس على مراثيه، فهو في أحيان كثيرة يحرص أشد الحرص على أن يذكر لنا كيف كان مرض الفقيد وبأي داء مات، فنحن نعلم منه أن إسماعيل صبري مات بالذبحة الصدرية، وعبده نور مات فجأة، وأن مصطفى كامل لم يبن للناس داؤه هل هو القلب أم السل أم السرطان، يسردها شوقي سرد خبير بالأمراض، وأن عاطف بركات قد امتد مرضه وطال أرقه في الفراش، وأن حسين شيرين مات بعد مرض طويل، وأن إسماعيل أباظه زار شوقي قبل موته وهو مريض محطم. أما استبشاعه للقبر فإنه يظلل كثيراً من مراثيه، فالقبر رقاد على الحصى بعد التقلب في الحرير، ومعانقة للأكفان في جوف الثرى بعد الطراز الفخم في الأعياد، والقبر مملوء بالحشرات، لا بأس أن توحي إليه بحكمة، يقول لعمر لطفي:

لا تشـــــكون الضر من حشـــــــراته     حشرات هذا الناس أقبح منظرا[22]

     ويقول لعلي باشا رفاعة: كم من منعم تألف الدود والأكفان والتربا، وهو مكروب أشد الكرب بالانحلال الذي يصيب جسد الميت، وبدلاً من أن يشيح عنه نراه يطل عليه، ويدقق في وصفه ويرسم له صورة لم أر مثل بشاعتها في الشعر العربي، فهو يقول عن فتحي زغلول وقد هام بالمقابلة بين رأس تتقد ذكاء في حياته، ورأسه وقد تعرضت للبلى بعد موته، إنه كما يعجب لهذا الذكاء يعجب:

لرأســـــه العـــــالي تنـــاثر لبه     ونزا وصار نسيجه لفساد[23]

     هكذا حال شوقي، إن هرب من أن يشهد احتضار من يرثيه فهو لابد سائله في مرثيته عن لحظة الموت، كيف وجدها؟ فشوقي لا يرهب الموت في ذاته بقدر رهبته للحظة طلوع الروح، وهي عنده لحظة عصيبة لا شيء يضمن أن لا تكون مصحوبة بألم شديد، إنه يخاف من الموت عذابه، يقول لسليم تقلا:

إنـــما الموت ظلمة تملأ العـــيـ     ـن ووقـر على الصــــدور ثقيل
وثوان أخف منــــها العـــــوالي     كل عضو ببعضها مقتول[24]

     هذه الثواني هي التي تزلزل شوقي . يقول لرياض باشا:

ســـألتــك ما المنــــــية أي كـــأس     وكـيـــف مذاقها ومن السـقــــــــاة
وماذا يوجس الإنــســــــــــان منها     إذا غصت بعـلقمهـــا اللهـــــــــــاة
وأي المصرعيــــــن أشد مـــــوت     على عـلــــــم أم الموت الفـــــوات
وهل تقــــع النفـــــــوس على أمان     كما وقعت على الحرم القطاة[25]

     ويقول لأبيه:

يـــا أبي والموت كـــــــأس مرة     لا تــذوق النفــــس منها مرتيـن
كيف كانت ســـــاعة قضيــــتها     كل شيء قبلها أو بعد هين[26]

     لذلك كان التجلد للموت في نظر شوقي هو قمة البطولة، والمثل الأعلى عنده هو سقراط يذكره في قصائده مرتين: مرثيته لعمر المختار، ومرثيته لأبيه[27]، تسحره صورة سقراط وهو يشرب السم بيده لا انتحاراً، بل طلباً للموت الذي أريد له بغير إرادته))[28].

     وهكذا ظل شوقي طوال عمره خائفاً من الموت ومن القبر، ومن ساعة الوفاة بالذات، وهو خوف ألح عليه إلحاحاً شديداً، لذلك كان غريباً أن تمنى الموت قبل حافظ، ولعل مرد ذلك إلى ما أصابه من مرض، وما تقلب به من أحوال الدنيا، وهو ما جعل أمر الموت يهون عليه، فيود لو يفوز برثاء حافظ له.

     وللأستاذ أحمد محفوظ وصف جميل ومؤثر لشوقي في أخريات أيامه، سنورده على طوله لأنه وثيقة أمينة دقيقة. نرى فيه وهن الشاعر، وشيخوخته، ومرضه، وفقدانه للمتع التي كان يحبها، وأصفيائه الذين كان يؤثرهم، وشعوره بقرب الأجل، وهو ما غيّر في مشاعره وعاداته ((فاقتصر على الرياضة في الضواحي بعربته، ثم الرجوع إلى المنزل ثم العشاء الخفيف ثم القراءة في كتب التصوف ثم النوم المبكر، وأصبح الشيخ الذي كان ينفر دائماً من اصطحاب أي إنسان في جولاته لا يستغني عن صحبة كاتبه أحمد عبدالوهاب.

     لقد رجع هذا الرجل المتفرد دائماً إلى طفل يجزع من السير وحده ويخاف الناس والاختلاط بهم. بعد ما كان من عهد قريب جداً يتجول في أقصى الأحياء الوطنية وأشدها خطراً على سالكها.

     ولكنه المرض؛ ذلك المرض الذي حمل شاعرنا الكبير على السفر إلى القاهرة في وقدة الصيف، لأن كاتبه غادره لزيارة أبيه المحتضر الذي بلغه نبأ احتضاره وهو مع مولاه في الإسكندرية.

     يا للشيخ العظيم المسكين. شوقي الذي كان لا يزور سرادق الأموات أبداً ولا يعرفها ويخافها ولم يطرقها للمجاملة ولو كانت لأصدق الأصدقاء وأعظم العظماء، يذهب إلى سرادق متواضع في حي وطني ينتظر في ركن فيه ساكناً ساهماً. يتغير قراء القرآن، وتنفض جماعة وتدخل أخرى وهو جالس ساكن ينتظر فراغ السرادق من المعزين وانتهاء ليلة العزاء، ليصحبه كاتبه إلى داره، لأنه لا يستطيع أن يظل بغير أنيس. فماذا كان يجري في خاطر هذا الشيخ المريض وهو قابع مستكين في هذا السرادق الذي تفوح منه رائحة الموت، وهو الذي كان يهرب من حديث الموت ولا يطرقه أبداً إلا في الشعر.

     والمرض أيضاً وثقله وشبحه المقيت الذي يرفع يده في الظلام يشير إلى الموت ليقترب، هو الذي جعل شوقي يقف في حديقته الواسعة التي تكاد تبلغ مساحتها فداناً يتأمل في تلك المساحة ويقيسها. ولكنه يخطئ في التقدير، فيهيب بكاتبه يدعوه ليسأله: هل تستطيع أن تقول لي عن مقدار ما يحتاجه قبر من مساحة؟ فيضطرب الكاتب المسكين ويتلعثم ويقول: لا قدر الله. فيلح المريض الواهن طالباً جواباً، فيضطر الكاتب الذي لا يعرف إلا الطاعة أن يقول: أظنها عشرين متراً، فيقول المريض: وما مقدار مساحة حديقتنا؟ فيقول الكاتب: أظنها ثلاثة آلاف متر، فيقول المريض: قسمها على عشرين . فيقول الكاتب: تساوي مئة وخمسين، فيقول المريض: سبحان الله إن ثلاثة آلاف متر لا تكفينا – لأنه كان يريد أن يضم قطعة أرض فضاء مجاورة إلى حديقته – وعشرين متراً فيها أعظم الكفاية لتضم عظامي بعد موتي !! ما أبعد طمع الإنسان. بهذه النظرية الجديدة ! كان شوقي ينظر إلى الحياة التي بدأت تتسلل من بدنه الموهون.

     وكان يقول: أصبحت لا أخاف الموت وكنت أخافه، فليس لي في هذه الدنيا ما أعمله. لقد فقدت كل أسباب حياتي، فقدت شهية الطعام، وفقدت القدرة على السير وحيداً، وفقدت لذائذ الكيف، فلا سجائر ولا منعشات. وفقدت أسباب الاستمتاع بالجمال التي كانت تعينني عليها العافية، وساء خلقي وأصبحت ثقيلاً على أولادي وعلى الناس.

     قال المازني رحمه الله: إن الله لطيف بعباده . إنه يهون كل شيء حتى الموت؛ يعود عليه الناس يدفعهم في طريقه خطوة خطوة حتى إذا ما نزل بهم لم يعافوه. هكذا كان شوقي. كان يسير إلى الموت ويهيئ نفسه له ويعينه المرض على السير حتى بلغ آخر المطاف))[29].

----------------------
[1] مهرجان أحمد شوقي، المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، القاهرة، 1960م، ص 254.
[2] أضواء على الأدب الحديث، ص 159.
[3] الديوان 2/350.
[4] الديوان 2/359.
[5] الديوان 2/386.
[6] الديوان 2/398.
[7] الديوان 2/408.
[8] الديوان 2/412.
[9] الديوان 2/441.
[10] الديوان 2/447.
[11] الديوان 2/468.
[12] الديوان 2/480.
[13] الديوان 2/486.
[14] الديوان 2/496
[15] الديوان 2/512.
[16] الديوان 2/558.
[17] الديوان 2/594.
[18] الشوقيات المجهولة: الدكتور محمد صبري،دار المسيرة،بيروت،ط2 ، 1979م ،1/245.
[19] الشوقيات المجهولة 1/303.
[20] حياة شوقي، مطبعة مصر، ص 40 – 41 .
[21] المرجع السابق، ص 165 – 166.
[22] الديوان 2/454.
[23] الشوقيات المجهولة 2/151، وصحة الشطر الأول " ولرأسك العالي تناثر لبه".
[24] الشوقيات المجهولة 1/245 والبيتان في رثاء بشارة تقلا وليس سليم تقلا.
[25] الديوان 2/386.
[26] الديوان 2/558.
[27] كلام الأستاذ يحيى حقي يدل على دقة ملاحظته، لكنه يحتاج إلى شيء من التصويب والتكملة، فشوقي لم يذكر سقراط في مرثيته لأبيه، بل ذكره في مرثيته لأمه، وفي مرثيته لعمر المختار، كما أنه ذكره في قصيدته الشهيرة التي مجد فيها العلم والمعلمين، وفي همزتيه الشهيرة في الرسول ×.
[28] طه وادي: شعر شوقي الغنائي والمسرحي، دار المعارف، القاهرة، ط 3، 1984م، ص 284 – 286.
[29] حياة شوقي، ص 189 – 191.

كتاب الرثاء في شعر البارودي وشوقي وحافظ - الفصل الأول - 02 - إحصاء بمراثي شوقي


الفصل الأول

(الرثاء في شعر شوقي)

02 - إحصاء بمراثي شوقي:

     أحصت هذه الدراسة لشوقي مئة وسبع عشرة مرثية أكثرها قصائد طويلة، فإذا نظرنا في طبعة الدكتور أحمد محمد الحوفي لديوان شوقي وجدنا اثنتين وسبعين قصيدة، منها رثاء الإمام محمد عبده في ثلاثة أبيات، ورثاء الخديوي إسماعيل في ستة أبيات، أما بقية القصائد وعددها سبعون قصيدة فأكثرها قصائد طويلة تتجاوز الخمسين والستين بيتاً وبعضها يتجاوز المئة.

     أما ما عثرنا عليه من مراث في ((الشوقيات المجهولة)) فهو ثلاث وعشرون مرثية، نصفها عشرة أبيات فأقل، والنصف الثاني يزيد حتى يتجاوز الخمسين بيتاً.

     وأما ما عثرنا عليه مما سمي ((مراثٍ من نوع آخر)) فإننا نجد فيه اثنتين وعشرين مرثية، أربع منها قليلة الأبيات وهي: الكوليرا، الأمير عبدالمنعم، الموت، شاهد قبر، والباقي قصائد متوسطة أو طويلة.

     ومعنى هذا أننا أمام قدر كبير من شعر الرثاء لدى شوقي يزيد على خمسة آلاف بيت، وهو ما يدل على قدرته الكبيرة على النظم، ومواكبته للأحداث، ومعايشته للعصر، وسعة علاقاته واهتماماته.

أ- طبعة الدكتور أحمد محمد الحوفي:

     اعتمدنا في هذا الإحصاء على طبعة الدكتور أحمد محمد الحوفي لشعر شوقي التي صدرت في جزأين عن دار نهضة مصر بالقاهرة تحت اسم ((ديوان شوقي )) عام 1979م، وهذه الطبعة أكثر ضبطاً وإتقاناً من الطبعة السابقة المعروفة باسم ((الشوقيات)). هذا وقد ضم الجزء الثالث من ((الشوقيات )) الذي أخرجه الأستاذ محمود أبو الوفا وهو الخاص بالرثاء، ستين قصيدة، أما طبعة الحوفي فقد ضمت اثنتين وسبعين قصيدة بزيادة اثنتي عشرة قصيدة، وجد أنها مراث ضلت طريقها فأعادها إلى مكانها، وقد وضع الحوفي مراثي شوقي في الجزء الثاني من الديوان الذي عمل على إخراجه، وموقعها من الصفحة 333 حتى الصفحة 598.

     وفيما يلي بيان بالقصائد التي أضافتها طبعة الحوفي وأرقام صفحاتها:

1- شكسبير                          
350
2- كارنافون                        377
3- محمد علي باشا                404
4- الخديوي إسماعيل             412
5- ذكرى محمد فريد              432
6- كتشنر                           441
7- الخديوي إسماعيل             467
8- علي مبارك والطيب سالم    530
9- شهيد الحق                      538
10- دنشواي                       545
11- نابليون                        564
12- بطرس غالي                 591

     وفيما يلي إحصاء عام بمراثي شوقي كما جاءت في طبعة الحوفي وعددها اثنتان وسبعون قصيدة:

موضوع القصيدة                  مكانها في الديوان     التاريخ
1. سيد درويش                         2/333           1931م
2. عبدالحميد أبو هيف               2/337           1926م
3. عبدالحليم العلايلي                2/341            1932م
4. عمر المختار                       2/344           1931م
5. سليمان أباظة                       2/348           1901م
6. شكسبير                             2/350            1916م
7. مصطفى فهمي                     2/354           1914م
8. حافظ إبراهيم                      2/359            1932م
9. محمد علي                          2/364           1931م
10. محمد عبدالمطلب               2/366           1931م
11. محمد تيمور                      2/369            1921م
12. يعقوب صروف                 2/373            1928م
13. كارنافون                          2/377            1932م
14. حسين شيرين                    2/383            1931م
15. رياض باشا                      2/386            1911م
16. محمد عبده                       2/393            1905م
17. عثمان غالب                     2/395            1920م
18. جدة شوقي                       2/398
19. عبدالحي حلمي                  2/401            1912م
20. محمد علي باشا                2/404            1905م
21. عبدالعزيز جاويش             2/408            1929م
22. الخديوي إسماعيل             2/412
23. عزاء إلى هيكل                2/423             1925م
24. عبدالخالق ثروت              2/427             1928م
25. ذكرى محمد فريد              2/432            1924م
26. محمد فريد                      2/434            1919م
27. محمد ثابت                      2/439            1901م
28. مصرع كتشنر                 2/441            1916م
29. عمر لطفي                      2/447            1911م
30. مصطفى كامل                 2/449            1926م
31. تعزية ورثاء                    2/452
32. عمر لطفي                      2/454            1911م
33. فاطمة إسماعيل                2/458            1920م
34. هيجو                             2/461            1907م
35. تولستوي                        2/463            1911م
36. ذكرى الخديوي إسماعيل    2/467
37. قاسم أمين                       2/468            1908م
38. عبده الحامولي                 2/472            1901م
39. عاطف بركات                 2/475            1924م
40. محمد إبراهيم المويلحي     2/480            1930م
41. مصطفى لطفي المنفلوطي   2/483            1924م
42. إسماعيل صبري              2/486            1924م
43. فوزي الغزي                   2/492            1930م
44. أمين الرافعي                   2/496            1928م
45. كريمة البارودي               2/500
46. فتحي ونوري                  2/503            1914م
47. علي أبو الفتوح                2/508            1914م
48. جرجي زيدان                  2/512            1914م
49. شهداء العلم والغربة          2/516            1920م
50. سلامة حجازي                2/520            1931م
51. سعيد زغلول                   2/523            1922م
52. الملك حسين                   2/526            1930م
53. علي وسالم                     2/530
54. والدة شوقي                    2/532            1918م
55. شهيد الحق                     2/538            1925م
56. بطرس غالي                  2/543            1910م
57. ذكرى دنشواي                2/545            1907م
58. عثمان باشا                    2/547            1900م
59. أدهم باشا                      2/550            1910م
60. حسن أنور                    2/553            1930م
61. نجل إمام اليمن               2/555             1932م
62. رثاء أبيه                      2/558             1897م
63. أم المحسنين                  2/561             1931م
64. نابليون                        2/564             1925م
65. أحمد فؤاد                     2/571             1931م
66. مصطفى كامل              2/574             1908م
67. سعد زغلول                  2/578            1927م
68. عبدالله الطوير               2/586            1915م
69. إسماعيل أباظة              2/588            1927م
70. بطرس غالي                2/591             1910م
71. فردي                          2/592            1913م
72. علي بهجت                  2/594            1924م

ب- الشوقيات المجهولة:

     لشوقي قصائد مجهولة قام بنشرها الدكتور محمد صبري في جزأين باسم ((الشوقيات المجهولة)) وقد وقعنا فيها على عدد من المراثي. هذا جدول عام لها، يعتمد على الطبعة الثانية الصادرة عن دار المسيرة في لبنان عام 1979م.

     وبعض هذه المراثي قطع صغيرة، وبعضها بيت واحد يرد خلال دراسة أو استعراض.

موضوع القصيدة            مكانها في الديوان        التاريخ
1. الأمير حسن باشا              1/23              1888م
2. ترجمة عن هوجو            1/24
3. أسما صيدناوي               1/50               1910م
4. البارودي                      1/50               1905م
5. ذكرى الخديوي إسماعيل  1/69
6. ذكرى الخديوي توفيق     1/92                1892م
7. أحمد النجدلي                1/149              1897م
8. عبدالرحمن رشدي        1/149               1895م
9. مصطفى عاكف            1/149              1897م
10. سليم تقلا                   1/150              1892م
11. علي حيدر يكن            1/150              1897م
12. أمين فكري                1/150              1898م
13. حبيب مطران             1/232              1900م
14. بشارة تقلا                 1/245              1901م
15. علي الطهطاوي          1/303              1903م
16. عبدالمجيد رضوان      2/3                  1904م
17. عبدالسلام المويلحي     2/132              1910م
18. فتحي زغلول             2/151              1914م
19. إسماعيل عاصم          2/170             1920م
20. علي بهجت               2/188             1924م
21. عبداللطيف الصوفاني  2/198              1925م
22. الخلافة                    2/200            1926م
23. أحمد لطفي               2/203            1926م
24. عبده نور                 2/208            1927م
25. أحمد المنشاوي         2/270             1904م

     هذا ويلاحظ أن الدكتور محمد صبري أخطأ في إيراد قصيدتين في الشوقيات المجهولة هما: ذكرى الخديوي إسماعيل، ورثاء علي بهجت.

     أما الأولى فقد وردت في الشوقيات 4/31 ثم في طبعة الحوفي 2/467 .

     وأما الثانية فقد وردت في الشوقيات 3/184 ثم في طبعة الحوفي 2/594.

     ولذلك ينبغي الاحتراس في ذلك لدى ضبط الإحصاء النهائي للمراثي.

ج- مراث من نوع آخر:

موضوع القصيدة           مكانها في الديوان        التاريخ
1. زحلة (رثاء شبابه)            1/121             1927م
2. زلزال طوكيو                  1/144             1926م
3. روما                             1/154             1900م
4. دمشق (رثاء بني أمية)       1/160            1925م
5. أثينا                               1/201            1912م
6. السينية الأندلسية               1/203            1919م
7. النيل (عذراء النيل)           1/238            1914م
8. غليوم وصلاح الدين          1/247            1899م
9. إلغاء الخلافة                   1/328            1924م
10. إلغاء الخلافة                 1/332            1924م
11. عزل السلطان عبدالحميد   1/341            1909م
12. نكبة دمشق                    1/348           1926م
13. بيروت                         1/353           1912م
14. رثاء الخلافة                  1/356           1923م
15. يوسف العظمة                1/364           1928م
16. الأندلس الجديدة              1/385           1912م
17. الكوليرا                        1/469           1902م
18. الأمير عبدالمنعم             1/551            1922م
19. انتحار الطلبة                 2/42             1915م
20. حريق ميت غمر            2/51             1905م
21. الموت                          2/207
22. شاهد قبر                      2/224         1313هـ

الإحصاء النهائي:
1. طبعة الدكتور الحوفي        72
2. الشوقيات المجهولة           23
3. مراث من نوع آخر           22
المجموع:                           117

     وبهذا يظهر لنا أن مراثي شوقي بلغت قدراً كبيراً جداً، وهذا ما دفع الدكتور أحمد محمد الحوفي إلى القول: ((ولا عجب في وفرة مراثي شوقي وفرة لا نظير لها في شعر أحد من شعراء العربية القدامى أو المحدثين، لأن شوقي كان شاعر مصر، وشاعر العروبة، وشاعر الإسلام، يعبر عن أفراح المصريين والعرب والمسلمين وعن أتراحهم، فلم يكن بد من رثائه لعظمائهم وعزائه في سادتهم وقادتهم، ولو لم يفعل شوقي ذلك لاتهم بالجحود والجمود والتبلد ))[1].

-----------------------------------
[1] أضواء على الأدب الحديث، دار المعارف، القاهرة، ط1، 1981م، ص 153.

كتاب الرثاء في شعر البارودي وشوقي وحافظ - الفصل الأول - 01 - شوقي وشعره

الفصل الأول
(الرثاء في شعر شوقي)

01 - شوقي وشعره:

     ولد شوقي وعاش ومات في عهد الأسرة العلوية التي ارتبط بها ارتباطاً وضع بصماته على حياته وشعره معاً، وإن كان ثمة تفريق لابد منه بين فترتين من حياته مع هذه الأسرة، الأولى تنتهي بخلع الخديوي عباس، وفيها بلغ قمة مجده السياسي، وكان أسيراً لها تماماً، والثانية تنتهي بوفاته في عهد الملك فؤاد وفيها بلغ قمة مجده الأدبي من ناحية وتحرر بعض الشيء من أسره القديم وصار ألصق بالشعب من ناحية أخرى.

     وقد ولد في عام 1870م لأسرة تداخلت فيها الدماء، فكان ذلك خيراً وبركة عليه، ففيه دماء عربية ويونانية وكردية وشركسية وتركية.

     وأخذ طريقه للتعليم المدني منذ بدايته، وهو تعليم عصري حديث لا يسير على الطريقة الأزهرية القديمة، حتى إذا أنهى المرحلة الثانوية دخل مدرسة الحقوق ليتعلم الحقوق والترجمة عن الفرنسية معاً. ويتخرج عام 1890م وعمره عشرون عاماً، ليعمل في قسم الترجمة في ديوان الخديوي توفيق الذي لم يلبث أن بعثه على نفقته الخاصة إلى فرنسا ليتم دراسة الحقوق.

     وحين عاد شوقي أواخر عام 1893م من بعثته كان الخديوي توفيق قد مات وحل محله ابنه الخديوي عباس حلمي الثاني الذي لم ترج سوق شوقي لديه أول الأمر، لما وقر في نفسه من أنه شاعر، وهو يحتاج إلى رجل سياسي يكون مشيراً عليه ومعيناً له، فيما يطمح إليه من إنجاح خططه في مقاومة الإنجليز، لكنه لم يلبث بوساطة عدد من مستشاريه ومنهم مصطفى كامل، أن بدأ يثق به، ويكلفه بمهام ينجح فيها، فتعمقت الثقة بينهما، حتى صار صديقه وكاتم سره، ورسوله المفاوض، وممثله في المؤتمرات، وهذه الفترة هي أزهى فترات شوقي السياسية والاجتماعية، وقد امتدت عشرين عاماً من 1894م إلى 1914م، صار فيها شوقي شخصية مرموقة جداً في القصر، له كلمة، وله رأي، وله حضور بارز.

     لكن القدر كان يعد لشوقي أمراً آخر، إذ إن الإنجليز خلعوا الخديوي عباس حلمي الثاني ومنعوه من العودة إلى مصر لما نشبت الحرب العالمية الأولى، وولوا مكانه عمه السلطان حسين كامل، ونفي شوقي إلى الأندلس عام 1915م فظل فيها إلى أواخر عام 1919م، وعاد ليجد نفسه في ظروف متغيرة سياسياً واجتماعياً، فبدل في حياته وغير، وحاول أن يكون أقرب للشعب بعد أن لم يبق له مكان في القصر.

     وإذا كان شوقي قد بلغ قمة مجده السياسي في عهد عباس حلمي الثاني، فإنه بلغ قمة مجده الأدبي في عهد فؤاد، ذلك أنه تفرغ لفنه تفرغاً تاماً، ثلاثة عشر عاماً، بلغ فيها الذروة، وكان المهرجان الذي بويع فيه أميراً للشعراء عام 1927م بمثابة اعتراف مصري وعربي بسبقه وأستاذيته، وصارت داره في الجيزة ملتقى الأدباء والشعراء المصريين ولمن يزور مصر من أهل الأدب والثقافة، حتى انتقل إلى رحمة الله في أكتوبر عام 1932م.

     كانت الظروف مواتية لصقل عبقرية شوقي من جهات كثيرة، فقد اجتمع له الثراء، واجتمعت له الحياة السهلة الهادئة الخالية من المنغصات، ووفق في زواجه من سيدة ثرية كانت عوناً له، وتعلم تعليماً منتظماً ليست فيه فجوة أو انقطاع، وأتقن اللغتين الفرنسية والتركية، وسافر في بعثة زادت من ثقافته ووسعت آفاقه، وارتحل كثيراً بقصد السياحة أو تمثيل حكومته في المؤتمرات وحظي بفترة طويلة من المجد السياسي كان فيها من أقرب الناس إلى خديوي مصر.

     وحتى فترة نفيه لم تكن قاسية كما قد يظن، ذلك أنه قضاها في ضاحية من ضواحي برشلونة اسمها (( فلفديرا)) في غاية الجمال ولم يكن إبانها يشكو من ضنك في العيش أو قلة في المال، وإن كان بطبيعة الحال قد عاش أقل مما كان عليه في مصر، لذلك يمكن القول: إن فترة النفي كانت أشبه بالسياحة والعزلة منها بأي شيء آخر، لقد رافق شوقي في منفاه زوجته وولداه علي وحسين وابنته أمينة وحفيدته منها والمربية التركية وخادمتان والطاهي، وهذا ما وفر له حياة عائلية رائعة في ضاحية جميلة رائعة، لكن الشاعر الكبير لم يحسن استثمار هذه الظروف المواتية جداً في منفاه، لما غلب عليه من الحزن والاكتئاب بسبب خسارته لموقعه المهم جداً من الخديوي المعزول، وعقوق الكثيرين ممن كان يحسن إليهم من خلال هذا الموقع.

     ولما عاد إلى مصر بعد انتهاء الحرب، خسر موقعه السياسي، لكنه كسب ما هو أهم من ذلك، كسب حب الناس، وذاعت شهرته واتسعت، وجاءته الوفود تسعى لتبايعه عام 1927م في يوم خالد من أيام الأدب في مصر، ثم إنه في هذه المرحلة الجديدة تفرغ لنفسه، فارتقى بشعره وقدم للعربية المسرح الشعري للمرة الأولى وهو ما زاد من خلوده وشهرته.

     شخصية شوقي خليط عجيب من محبة الإسلام والإخلاص له، دون الالتزام كثيراً بأوامره، ومن ركوب المعصية دون أذى الناس، ومن حب شديد للدنيا ولذاتها، جعله يخاف الموت كثيراً، وجعله أيضاً لا يتبنى مذهباً سياسياً قد يجر عليه المتاعب، ومن إيثار للسلامة والعافية يصل إلى حد الأثرة المفرطة، ولعل نهاية البارودي المحزنة كانت دائماً نصب عينيه.

     هادئ يصعب الوصول إلى قرارة نفسه، فيه حذر السياسي، ولباقة الدبلوماسي، ومجاملة الحاشية المحيطة بالمسؤول الكبير التي تتحرك بحساب، وتقدر على كتمان عواطفها انسجاماً مع دواعي السياسة أو رغبة المسؤول الكبير.

     أحب شوقي مصر؛ والعرب، والإسلام، والأتراك، وتداخلت في شخصيته هذه الدوائر تداخلاً لا نشاز فيه، بل فيه التكامل، بسبب موقع مصر المتقدم والريادي لدى العرب والمسلمين، وبسبب الأواصر الدينية والسياسية التي كانت تربط مصر بالدولة العثمانية، وتجمعها ضد المحتل الإنجليزي، خاصة في الفترة التي رفع فيها السلطان عبدالحميد شعاره المشهور ((الجامعة الإسلامية)).

     شوقي ثمرة ناضجة لتلاقي الحظ المواتي بالموهبة القادرة، فقد كان رجلاً ذكياً لبقاً كيساً، وكان يمتلك موهبة شعرية حقيقية، صقلتها الدراسة المنتظمة، والاطلاع الدائم، والحياة الثرية، وكثرة السفر والتجوال، وسعة الوقت، واطلاعه على ثقافة لغتين مهمتين، والاختلاط بمستويات عالية، ثقافة وجاهاً ومكانة، وتجدد الخبرة، ودوام التأمل والخلوة إلى النفس، لتكون ثمرة ذلك كله، أن يبرز شوقي شاعراً خالداً عظيماً، كان وسيظل فخراً لمصر وللعروبة وللإسلام، وقد خلف ديواناً كبيراً، واقتحم ميادين جديدة، واندفع بإيجابيات مدرسة الإحياء إلى الأمام، وصار واحداً من أعلامها الكبار.

     وإذا كان البارودي قد أدى دوراً رائداً في شعره موضوعياً وفنياً جعل له فضلاً لا يجاريه فيه أحد من شعراء عصره، وجعل له بصمات باقية على عصره وعلى من تلاه، وإذا كانت هذه الريادة قد ظهرت آثارها على الشعراء بدرجات متفاوتة، فإنها قد ظهرت على حافظ وشوقي ظهوراً بارزاً، يمكن للدارس معه القول: إن هذين الشاعرين تمثلاها خير تمثل أولاً، ووسعا فيها ثانياً.

     التقط شوقي راية الريادة بعد البارودي، فأتم ما صنعه أستاذه من ارتقاء بالصنعة الفنية عن آفات عصور الضعف، وعودة بها إلى ما كانت عليه في أزهى عصور الشعر العربي، فإذا باللغة على جادة الصحة وما هو أعلى من الصحة، وإذا بالتراكيب في غاية الإحكام والاستواء، وإذا بالموسيقى في أحلى ألحانها بحيث تذكرك بالبحتري. أما الخيال عند شوقي فهو تصوير حي جميل ومبدع.

     وأتم شوقي أيضاً ما صنعه أستاذه البارودي من الريادة في الموضوع، فارتقى في ذلك، إذ نأى عن الموضوعات التافهة التي حجل فيها الشعر العربي طويلاً إبان ضعفه، واقتحم ميادين جديدة في الشعر الوطني، والشعر التاريخي، والشعر السياسي، والشعر الديني، واتصل بهموم العرب والمسلمين فضلاً عن هموم مصر، فما يكاد يقع حدث ذو بال إلا وجدنا شوقي يسارع إلى المشاركة فيه حتى صار له أن يقول بحق وجدارة في مهرجان تكريمه عام 1927م:

كان شعري الغناء في فرح الشر     ق وكان العـــزاء في أحزانه[1]

     ولم يكتف شوقي بهذا، بل اقتحم ميداناً جديداً هو ميدان الشعر المسرحي الذي كتب له أن يفوز بشرف ريادته له فهو أول من أدخله إلى الأدب العربي.

     وديوان شوقي غني جداً من حيث كثرة ما نظم، ومن حيث تعدد الموضوعات التي طرقها، ولقد كان شعره في حياته وبعد موته مثار جدل طويل عريض بحيث يمكن القول فيه: إنه مالئ الدنيا وشاغل الناس، كما قيل في أستاذه المتنبي من قبل.

     ولقد تمثل شوقي طريق الشعراء الفحول في عصور العربية الزاهية، وبخاصة المتنبي والبحتري فقد كان هذان الشاعران أستاذيه الأكبرين، يظهر أثر الأول في حكمة شوقي، ويظهر أثر الثاني في موسيقاه، وإذا كان شوقي في صنعته قد ظل في إطار الشعر العربي الموروث وتقاليده المرعية، فإنه ارتقى أعلى درجات هذا الموروث وانتقى لنفسه أفضلها صياغة وموسيقى.

     ويلتقي مع هذا التيار العربي الخالص في شعره تيار آخر، هو تيار ثقافته الفرنسية الواسعة التي اكتسبها أثناء مقامه في باريس، إذ أتقن الفرنسية إتقاناً رفيع المستوى، واطلع على النماذج الشعرية العالية في الأدب الفرنسي عند هيجو، ولامرتين، ودي موسييه، وغيرهم، واختلف إلى المسارح التي كانت تقدم المسرحيات الذائعة، وقد ظهر أثر ذلك في بعض شعره الغنائي، كما ظهر أثره حين أخذ ينظم مسرحياته الشعرية المشهورة، وبهذا كانت المؤثرات في ثقافته وشخصيته أكثر مما هي لدى حافظ، وهو ما جعل حظه في التجديد أكبر من حظ صاحبه وأظهر .

     يستمد شوقي خلوده من سعة الموضوعات التي نظم فيها، والتي أعطته أبعاداً عربية وإسلامية واسعة، ومن ثقافته المتنوعة، ومن لغته المستوية المحكمة، ومن خياله المحلق، ومن موسيقاه الآسرة.

     هوجم شوقي في حياته كثيراً جداً ولا يزال يهاجم، لكن رحيله عن دنيا الناس، وتلاشي الخصومات والمنافسات، جعل النقاد يتناولونه بموضوعية أكبر، فإذا به يحتل مكانته العليا ميتاً كما احتلها حياً، وإذا بالعقاد والمازني وطه حسين يثنون عليه ويقرون له بالتفرد والامتياز، بعد أن قالوا فيه أقسى النقد وهو حي. لقد مضى شوقي الإنسان كما يمضي كل الناس وبقي شوقي الشاعر((ظاهرة)) متفردة في وجدان مصر، بل وجدان العرب حيث كانوا وهي ظاهرة لها من الأصالة والقوة ما يمنحها الخلود، بحيث لا يمكن أن تتجاوزها الأيام فيما تتجاوز.

---------------------
[1] ديوان شوقي، طبعة د. أحمد محمد الحوفي، دار نهضة مصر، القاهرة، 1979م، 1/585.

كتاب الرثاء في شعر البارودي وشوقي وحافظ - المقدمة

مقدمة

     الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين .. وبعد:

     تعد مدرسة الإحياء في الشعر العربي الحديث من أهم مدارس الشعر العربي، فقد استمرت حوالي قرن من الزمان أو أكثر قليلاً، حيث ظهرت مع بداية القرن التاسع عشر (1805م) واستمرت حتى الحرب العالمية الأولى (1914م) تقريباً.

     وقد دخل تحت لواء هذه المدرسة شعراء كثيرون مثل إسماعيل الخشاب، والشيخ حسن العطار، ورفاعة الطهطاوي، وصالح مجدي، وصفوت الساعاتي، ومحمد عثمان جلال، وعبدالله فكري، وعلي الليثي، وعلي الغاياتي، وعبدالله نديم، وإسماعيل صبري، وولي الدين يكن، وعائشة التيمورية، وحفني ناصف، وملك حفني ناصف، ومحمد عبدالمطلب، ومحمود سامي البارودي، وحافظ إبراهيم، وأحمد شوقي، وأحمد محرم.

     ولكن معظم الدارسين الذين أرخوا للشعر الحديث أمثال عباس محمود العقاد، والدكتور طه حسين، والدكتور شوقي ضيف، والدكتور طه وادي، والدكتور أحمد هيكل، والأستاذ عمر الدسوقي، يرون أن أعلام هذه المدرسة هم البارودي وحافظ وشوقي، بحيث يمكن القول: إن هؤلاء الثلاثة الكبار، أهم شعراء الإحياء، وقد نقلوا الشعر نقلة كبيرة مؤثرة لا على مستوى الشعر في مصر، بل على مستوى الشعر العربي كله.

     أما محمود سامي البارودي (1839 – 1904م) فإنه يعد الرائد الحقيقي لحركة البعث والإحياء في الشعر العربي الحديث، فقد تكاملت لديه مجموعة من الصفات جعلته بحق رائداً ومجدداً ونقطة تحول إيجابي في الشعر العربي، كان لديه الطبع المرهف، والذاكرة اللاقطة، وظروف الحياة المواتية، والطموح الكبير في السياسة وفي الأدب، والاتصال بروائع الأدب العربي بطريقة تجاوز فيها عصور الضعف، فضلاً عن الموهبة القادرة، والاعتزاز بالنفس الذي يأبى لها شخصية النديم أو التابع، التقى ذلك كله ليجعله يتفرد تفرد المتفوق الذي يرفع راية يتوالى التفاف الشعراء حولها، فيصبح بالتالي شاعراً متميزاً له فضله على عصره، وله ريادته المعترف بها في إنقاذ الشعر العربي من التكلف والتخلف والصناعة العقيمة، والعودة به إلى صدق الفطرة، ونقاء العبارة، وسلامة الأسلوب، فضلاً عن الارتفاع بمضامينه والتجديد فيها.

     وأما حافظ إبراهيم (1872 – 1932م) فيعد من أهم أعلام مدرسة الإحياء، ومن أهم تلاميذ البارودي، كانت له ملكة قوية، وذاكرة جيدة، ونفس قوية الانفعال، وقد أعانته كثرة محفوظاته ورهافة طبعه على أن يكون شاعراً مقتدراً، مضى إلى الأمام يضيف حلقة أخرى من التجديد في إطار مدرسة الإحياء، وكان ظريفاً، محبوباً، طيباً، حلو المعشر، نقي السريرة، مجبولاً على الطيبة والوفاء، وكان شعره كشخصيته، وضوحاً وسهولة وقرباً من النفس وتأثيراً فيها، ولعله كان مؤهلاً – بجملة ظروفه ومكوناته – ليتفوق في شعر الرثاء خاصة كما يتبين لقارئ ديوانه.

     وأما أحمد شوقي (1870 – 1932م) فهو أهم أعلام مدرسة الإحياء وأكثرهم شهرة، وقد دار في حياته وبعد موته جدل طويل حول قيمة شعره، ومدح كثيراً وبولغ في مدحه، وذم كثيراً وبولغ في ذمه، لكنه يبقى بعد سقوط هذه المبالغات شاعراً ضخماً، قوي الشاعرية، غزير الإنتاج، بل هو شاعر العصر وشاهده ومؤرخه، وهو المجدد بقوة لمسيرة الشعر، وكأنما كان بجملة ظروفه المواتية، ومواهبه القادرة، والتفرغ لصناعته، وحبه لشعره، وإعجابه به، مؤهلاً ليكون أمير شعراء عصره، احتل عن جدارة مكانة عالية لم يستطع أحد أن يزحزحه عنها أو ينافسه فيها.

     ومع أهمية هؤلاء الشعراء الثلاثة الكبار، ومع وفرة شعر الرثاء وخصوبته في دواوينهم بحيث يمكن أن تشكل ديواناً كاملاً يحوي مئتي قصيدة تقريباً، إلا أن هذا الباب من أبواب الشعر عندهم لم يلق عناية كبيرة من الدارسين تليق بأهميته وكثرته.

     فالأستاذ عباس محمود العقاد وهو من أشهر نقاد تلك المرحلة نجد لديه في كتابه ((الديوان في الأدب والنقد)) (1921م) وقفات تغلب عليها القسوة والحيف في نقده لبعض مراثي شوقي مثل نونيته في مصطفى كامل وداليته في محمد فريد، ولما صار أكثر اعتدالاً في نقده لشوقي في كتابه (( شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي)) (1937م) لم يستوف الحديث في الرثاء عنده، واكتفى ببعض الأحكام العامة على طريقته المركزة الموجزة، والدكتور طه حسين في كتابه ((حافظ وشوقي)) (1933م) لم يول الأمر عناية كبيرة، وبالمناسبة يمكن أن يعد عنوان الكتاب عنواناً خادعاً، فكثير من مواده ليست عن الشاعرين المشهورين، ثم إن النظر فيما كتب عنهما يدل على أن الدكتور طه حسين كتبه على عجل في مقالات صحفية ثم جمعه في كتاب، وما يخص الرثاء هو صفحات قليلة كتبها عن حافظ فيها لمحات جيدة وأحكام عامة.

     وكتاب الدكتور شوقي ضيف ((شوقي شاعر العصر الحديث)) (1953م)، كتاب منهجي جاد أحاط بشوقي وشعره ومكانته إحاطة جيدة، لكن نصيب الرثاء فيه قليل جداً، وإنما هو لمحات عابرة سريعة ترد في ثنايا الدراسة، ومثل ذلك يقال تماماً عن كتابه الجيد ((البارودي رائد الشعر الحديث)) (1964م).

     أما كتاب الدكتور طه وادي (( شعر شوقي الغنائي والمسرحي )) (1981م) فهو كتاب متعدد المحاور وهو ما يفيد كثيراً من يدرس شوقي فقد جمع بين الدراسة والوثائق المهمة والاختيارات المتنوعة لبعض ما كتب عنه، وأهمها فيما يتصل بهذه الدراسة مقال قيم للأستاذ يحيى حقي عن مراثي شوقي.

     وقد حظي حافظ بفصل جيد عن مراثيه، في الكتاب الذي ألفه عنه الدكتور عبدالحميد سند الجندي ((حافظ إبراهيم شاعر النيل)) (1959م) وهو فصل يقع في قرابة عشرين صفحة، لكنه يبقى فصلاً في كتاب لا يكفي لاستقصاء مراثي حافظ ودراستها.

     وكتاب الأستاذ عمر الدسوقي ((في الأدب الحديث)) (1951م) فإنه مع شموله وسعته لم يعن بالرثاء لدى الشعراء الثلاثة عناية ذات بال، وما جاء فيه عنه كان عابراً وسريعاً.

     وكذلك الأمر في كتب الأستاذ عباس حسن ((المتنبي وشوقي)) (1964م)، و ((الدين والأخلاق في شعر شوقي)) (1948م) للأستاذ علي النجدي ناصف، و((وطنية شوقي)) للدكتور أحمد محمد الحوفي (1960م) و((محمود سامي البارودي)) للدكتور علي الحديدي (1967م).

     ومعنى ذلك أننا أمام كتابات كثيرة بعضها لعدد من كبار النقاد والدارسين لكننا لا نجد فيها دراسة شاملة لشعر الرثاء لدى الشعراء الثلاثة مع كثرته وأهميته.

     ومما هو جدير بالذكر أن مجموع المراثي وما يلحق بها، وهو ما فصلته هذه الدراسة يبلغ قرابة مئتي مرثية وهو قدر كبير من المراثي، يجدر أن يحظى بدراسة مستقلة، وهذا ما حملني على أن أحاول النهوض به في هذه الدراسة العلمية التي أرجو أن أكون فيها قد استقصيت مراثي الشعراء الثلاثة وقدمت صورة واضحة شاملة عنها.

     حين بدأت العمل في البحث، رأيت أن أبدأ بالنصوص الشعرية، فحاولت جهد الطاقة أن أجعل النصوص هي المكوّن الأساسي لوجهة نظري، فقرأتها في دواوين الشعراء عدة مرات، وأخذت أسجل ما يبدو لي من ظواهر مختلفة، ثم طفقت أحاول ترتيب هذه الظواهر وتصنيفها، ولذلك يمكن القول: إن هذه الدراسة اعتمدت أولاً على ما قاله الشعراء وحاولت أن تستنطق نصوصهم، وثانياً على ما قاله الدارسون وحاولت أن تناقش آراءهم. ولذا فهي دراسة (( نصية)) بالدرجة الأولى، وأرجو أن يكون ذلك ميزة لها.

     وبسبب ذلك كثر إيراد النصوص فيها، بل إن بعض النصوص كان يرد عدة مرات، وعذري في ذلك أني كنت أتناوله من زاوية جديدة، تختلف عما سبق وعما لحق. فمرة أتناول هذا النص أو ذلك من زاوية اللغة، ومرة من زاوية الموسيقى، ومرة من زاوية العاطفة، وهكذا.

     وبعد التعمق في قراءة النصوص بدا لي أن الأمر واسع، وبدا لي أيضاً أن المقارنة سوف تتركز في حافظ وشوقي، ويقل فيها نصيب البارودي، أولاً لقلة مراثيه، وثانياً لوفاته قبل صاحبيه بنحو ثلث قرن من الزمان.

     أما قلة مراثيه فهي أمر يستوقف النظر، إذ إن مجموع مراثيه هي في حدود ثلاث مئة بيت من الشعر، وأما وفاته قبل صاحبيه فقد ضيقت مجال المقارنة لاختلاف الظروف.

     بعد التأمل في دراسة النصوص، والنظر في الدراسات السابقة، بدا لي أن المنهج الأفضل هو أن يقع البحث في مقدمة وأربعة فصول وخاتمة.

     أما المقدمة فهي توضح أهمية الموضوع والدراسات السابقة عنه.
     وأما الفصل الأول فهو عن الرثاء في شعر شوقي.
     وأما الفصل الثاني فهو عن الرثاء في شعر حافظ.
     وأما الفصل الثالث فهو عن الرثاء في شعر البارودي.
     وأما الفصل الرابع فهو موازنة بين الشعراء الثلاثة.
     وأما الخاتمة فهي تلخيص لنتائج البحث.

     ولابد من الإشارة إلى أن السياق التاريخي كان يستدعي أن نبدأ بالبارودي فحافظ فشوقي حسب تسلسل وفياتهم، ولكن التفاوت الكبير بين كمية الرثاء لدى الشعراء الثلاثة أملى هذا الترتيب، ذلك أن مراثي شوقي كثيرة جداً، ومراثي حافظ وسط بين صاحبيه، أما مراثي البارودي فهي قليلة جداً.

     وبعد .. فإني آمل أن تكون هذه الدراسة لمراثي الشعراء الثلاثة دراسة شاملة وموضوعية، عنيت بهذا الجانب من شعرهم، وهو جانب يكون الشاعر فيه أصدق ما يكون، أو هكذا ينبغي أن يكون.

* * *

     ثم إن هذه الدراسة هي بحث تقدمت به إلى قسم اللغة العربية في كلية الآداب، في جامعة القاهرة، للحصول على درجة الماجستير، وقد تمت المناقشة يوم الخميس 20/12/1410هـ - 12/7/1990م، وأكرمتني اللجنة المناقشة بمنحي درجة الماجستير بتقدير ((امتياز)).

     هذا وإن من واجبي أن أتوجه بالشكر الجزيل لسعادة الأستاذ الدكتور طه وادي، المشرف على هذا البحث، والمتابع له منذ كان فكرة حتى تحول إلى رسالة كاملة، فقد أعطاني الكثير من وقته وجهده، وصبر صبراً جميلاً مشكوراً في ذلك، في محبة حقيقية للعلم، ومودة حانية كريمة، وخلق حسن نبيل.

     وكما شكرت الأستاذ الدكتور طه وادي على فضله، أجد من واجبي أن أشكر الأستاذين العالمين الجليلين اللذين تفضلا بالموافقة على مناقشة هذه الرسالة وإجازتها، الأستاذ الدكتور شوقي ضيف شيخ مؤرخي الأدب العربي وعميد دارسيه، وأبرز حماة الفصحى وحراس الأصالة، والأستاذ الدكتور أحمد هيكل العالم الوزير الأديب الشاعر، الذي نهل الكثيرون من علمه وأدبه، وشهدوا له بالفضل والخلق الرفيع. لقد أثنيا علي بما أرجو أن أستحق، ونبهاني إلى جملة أمور، نظرت فيها واستفدت من توجيهاتهما السديدة فيها.

* * *

     وأخيراً : فقد صرفتني الصوارف عن طباعة هذه الرسالة عشرين عاماً، لكنني حين عدت إليها الآن فقرأتها وجدت نفسي مقتنعاً بها تماماً، فأبقيتها كما هي، باستثناء ما انتفعت به من توجيهات اللجنة المناقشة، وتصويبات هنا وهناك، وإضافات قليلة، لا تغير في جوهرها شيئاً.

     والحمد لله عز وجل على كريم فضله وإحسانه، ومنه العون والتوفيق والسداد.

حيدرالغدير - الرياض
1431هـ - 2010م

* * *

الأكثر مشاهدة