الخميس، 3 يونيو 2021

القدس في شعر د.حيدر الغدير - أ.صدقي البيك

القدس في شعر د.حيدر الغدير

أ. صدقي البيك
الرياض- الأحد
13/11/1430هـ - 
1/11/2009م

     للأمكنة والبلاد مكانة مرموقة لدى الشعراء، فهي تحدد لنا في شعرهم ارتباطهم بهذه المواقع، ارتباطًا قلبيًا وعقليًا وروحيًا ونفسيًا، هذا إذا كانت هذه المواقع ذات خصوصية في وجدانهم؛ وقد ينفرد كل شاعر بمواقع ومنازل لا يشاركه فيها غيره، يكون قد درج فيها، أو ارتبط فيها بروابط عاطفية مع آخرين.

     وأما إذا كانت هذه المواقع ذات ارتباط عام يشترك فيه مع آخرين، من شعبه أو أمته أو الإنسانية كلها فسيكون لها في شعره وجود ومكانة تتسع وتسمو وتتعمق مع عمق وسعة وسمو هذه الروابط التي تشده إليها. وأهم هذه الروابط الرابطة الدينية التي تضفي على بعض الأمكنة هالة من القداسة تنص عليها الكتب الدينية المعتمدة، وإذا كانت هذه الكتب مما أوحاه رب البشر إلى من اختارهم من عباده، فإن هذه الروابط تكون أقوى وأمتن، وإذا ضُمّت إلى هذه الروابط روابط التاريخ والأمجاد ازدادت رسوخًا وتجذرًا.

     وهذا هو شأن مدينة القدس، فقد حباها الله منزلة لا تطاولها فيها مدينة أو أرض أخرى، غير مكة المكرمة، فهي الأرض المباركة، والمبارك فيها، والأرض المقدسة، والمبارك حول مسجدها و...، وهذه القداسة والمباركة تمتد مع امتداد الإسلام، دين الله الذي اختاره لأنبيائه ورضيه لعباده.

     وإذا كانت هذه الرابطة الروحية تمتّن علاقات المسلمين بالقدس التي فيها أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين، فمن الأولى أن تكون مهوى أفئدة الشعراء المسلمين، وأن تهفو إليها نفوسهم، وتلهج يذكرها ألسنتهم فتتردد في أشعارهم، ويزيدها تغلغلًا في طيات وجدانهم أنها، هي وما ترمز إليه، كانت وتكون وستكون ميدانًا لصراعات وحروب طويلة ومعارك حاسمة مع أعداء أقوياء وكثيرين، من فتحها على يدي الخليفة الثاني أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وتحطيم القوى الصليبية في حطين، وكسر المد التتري المغولي في عين جالوت... إلى معارك علامات الساعة المرتقبة.

     إن القدس والأقصى وقبة الصخرة وبيت المقدس وفلسطين، وما تضمه من مدن ومواقع، وما تمتلكه من تاريخ مجيد وبطولات رائعة وانتصارات حددت مسارات التاريخ، كلها رموز تترادف في دلالتها العامة، وإن كان لكل منها دلالة خاصة.

     وإذا تخطينا ما حفلت به دواوين شعرائنا القدامى من حديث عن هذه المدينة وما حولها، فلن نجد نهاية للحديث عنها في دواوين شعرائنا المعاصرين، فما أكثرهم، وما أوسع تناولهم لها ولقداستها ولمعاركها الماثلة في حاضرنا وفي وجداننا، ولكننا نجتزئ من هذا الاهتمام بها ما قدمه لنا شاعرنا الدكتور حيدر الغدير.

     فقد اختار شاعرنا عنوان ديوانه الثاني (غدًا نأتيك يا أقصى) ليعبر به عن مدى تعلّقه بهذا المسجد المبارك والمدينة المقدسة وأرض المحشر والمنشر، وقد كان هذا هو عنوان قصيدته الأولى في هذا الديوان.

     فهو يحز في نفسه ما أصاب القدس من احتلال العدو الصهيوني لها، وإهاناته التي ألحقها بمسجدها ففجرت انتفاضتها الثانية، وتطاولُ الزمن على تقاعس العرب والمسلمين عن تحريرها يوقد فيه حمية الإيمان، فيجأر بمعاهدة الأقصى على عدم نسيانه، وعلى تحريره:

لعهدك أيها الأقصى ... وعهــدك جمرة فينا
وحـلـم في مآقينـــــا ... ينــــــادينا فلا ننسى
وكل خليـــة فينـــــا ... هي الأخرى تنادينا
إلى الأقصى إلى الأقصى

     وهو في تلبية هذا النداء، وفي الوفاء بهذا العهد لن يكتفي بالكلام، بل سيكون حربًا على العدو تقضي على علوّه وجبروته:

سنـــــأتي في غد نارًا
وبركــــانًا وإعصـارًا
لنصنـــع مرة أخــرى
وقد لاحت لنا البشرى
بعــون الله حطينا

     ويجمع بين رمز حطين التي كانت مفتاح تحرير القدس من الصليبين ورمز خيبر التي قضي فيها على الوجود اليهودي الكياني في الجزيرة العربية:

ونغضب غضبة كبرى
ونصنع خيبرًا أخرى
ونحمي الأرض والدينا

     وإذا كانت حطين تحطيمًا للقوى الصليبية قديمًا فستكون حطيننا الحديثة وخيبرنا الجديدة تحطيمًا للكيان اليهودي الصهيوني في فلسطين:

نتبّر كل ما شدتم
وما قلتم وما خنتم
ونمحوكم ونجعلكم حديثًا مر كالهمس
وآلًا لاح بالأمس
طوته أشعة الشمس

     فهو متفائل بالنصر، ولم توئسه الهزائم التي ارتكبها المتخاذلون، فلا يطيل البكاء على ما فات ولا الندب على المصاب، ويحدد عوامل النصر التي نحملها قيمًا ومبادئ:

غدًا نأتيك يا أقصى
كتاب الله في يدنا ينادينا لموعدنا
وموعدنا صباح ظافر ضاحكْ
وموعدهم مساء خاسر حالك
وإن الصبح آتينا وآتيكم
ليرديكم ويبقينا
فنمضي نعمر الدنيا
ونمضي نحرس الدينا

     ولن تمنع هؤلاء الصهاينة حصونهم التي يختبئون وراءها، ولا دباباتهم التي يحبسون فيها أنفسهم، ولا جُدرهم الواقية التي يحيطون بها مستوطناتهم:

سنأتيكم مع الفجر
لنجعل صرحكم بددا، ولا نبقي به أحدا
ولن يحميْكمُ سور، ولا شجر ولا حجر، ولا نفق ولا حصن
ولا إنس ولا جن، ولا حقل من الغرقدْ
ظننتم فيه مخبأكم ومثواكم وملجأكم
فإن صباحكم أنكدْ
وإن مساءكم أربدْ
فموتوا حيثما كنتم، وموتوا في حمى الغرقدْ

     فوعود الله للمؤمنين بالنصر ووعيده لبني إسرائيل بالهزيمة وإساءة الوجوه والتتبير... في طريقها إلى التحقق:

لنا عهد سننجزه، ووعد سوف نحرزه
بأن النصر آتينا

     وهو واثق تمامًا بأن النصر قادم يتمثل بالمآذن التي تصدح بالشهادتين، وبكل المعالم والمدن الفلسطينية:

سنلقى نصرنا طلقا
يعانق حسنه الحقا
ويقفو رعده البرقا
على أهداب مئذنةٍ
وفي أوراق سوسنة
وفي أحلام رابية، وفي ماء وساقيةٍ
وفي يافا وفي عكا وفي صفد وفي الرملةْ
وفي النارنج والليمون والتفاح والفل
سقاها الطل في الليلِ
وفي الخيل التي تعدو
وفي الطير التي تشدو

     فكل هذه المعالم والمرابع تحتفل بالنصر الذي تتلاقى فيه رايات الفتوحات والانتصارات السابقة واللاحقة:

فنلقى الفاتح الأولْ
أبا حفص بهيبتهِ
ونلقى الفاتح الثاني
صلاحًا في وضاءتهِ
ونلقى الفاتح الثالثْ
فنعرفه بطلعته، وقامته التي شمختْ، وسطوته ورحمتهِ

     هذا الفاتح الثالث الذي ما زلنا ننتظره ونرقبه؛ لنسجد حينئذ شكرًا لله الذي يهب كتائبنا وزحوفنا نصره المؤزّر.

     وإذا كانت قصيدته هذه قد استوعبت كل ما في القدس وحاضرها، ومصابها، والآمال المعقودة على تحريرها وتطهيرها من دنس المحتلين، فإن قصائده الأخرى التي نظمها في مناسبات عربية وإسلامية، احتلت فيها القدس والأقصى وفلسطين أماكنها، فهي شغله الشاغل ومحركه الدائم وحافزه إلى التفاؤل الواثق الذي يظهر في كل قصائده.

     فهو في قصيدته (لن نخذلك) التي خاطب فيها شعب البوسنة والهرسك في أيام ثورته للتحرر من سيطرة الصرب واحتلالهم لبلاده، لا ينسى أن يبعث له بتحيات المسلمين والمجاهدين ومشاركتهم لهم بالآلام والآمال:

يا أيها الشعب الذي احتمل الخطوب وما استكان
حيّتك مكة والمدينة والمنابر والأذان
والمسجد الأقصى وفرسان لهم في المجد شان
قالوا وقد صدقوا، فزانوا قولهم والفعل زان
المجد للأبطال والخذلان توأمه الجبان

     وفي قصيدته (أمـل) يتحدث عن أحلامه السابقة، التي صارت واقعًا حيًا، وعن آماله وأمانيه التي يتفاءل ويستبشر بتحققها قريبًا:

أحلامـنا بالأمس واقـع يومنــا ... وغـدًا أماني يومنـــا تتــــحقّق
أملي الذي ملأ الجوانـح بهجة ... ومشى بما أرجو وأزهو يغدق

     وأمله هذا أن تثأر فيالق المجاهدين وقادتهم ذوو الهمم القعساء، فتقضي على الصهاينة حديثًا كما قضي على وجودهم السياسي في عهد الرسالة، فيقول:

إني سمعت الثـأر يدعــــــو أمتي
               فإذا صداه، وقد تهــــــادى الفيلق
يمضي به ويقوده ذو هـــــــــمـّة
               للنصر فيه أو الممــــــات تشوّق
يطوي اليهود كما طوتهم خيـــبر
               وطوى قريظةَ يوم خانوا الخندق

     وكل ذلك كائن في ميعاد قريب ومكان موعود محدّد، يتمثلّ فيه استكبار إسرائيل، ونشرها الفساد والظلم والطغيان والعلوّ على من حولها، ولا بد أن تكون الراية حينئذ ترفع كلمة التوحيد وتدعو إلى الأخذ بتعاليمه:

والموعد "الأقصى" وراية أحمد
               ستجوز آفـــــاق السماء وتَخفــق

     وهذا القائد ذو الهمة يحقّق الله على يديه النصر المبين، وتعنو وجوه الصهاينة لأمره وتخضع لحكمه فيهم، وهو متواضع بعيد عن التكبر، وبذلك ترتفع على مآذن الأقصى نداءات (الله أكبر) معلنة دخول المسلمين للمسجد كما دخلوه أول مرة:

ولسوف يعـــلو فوق منبره ضـحى
               للنــــــاس فيه تشـــوّف وتعلُّــــــق
والمسلمــــون بكل أرض سُـــــجّد
               والله يحفـــــظ أمرهم ويوفّـــــــــق
والفـــاتـح المنصــور بيـن جنـوده
               بالنصر زاه، بالوقــــــــار مـطوّق
عنتِ اليهـــــود لأمـــره، وجبينـه
               لله عـان مستــــكين مطــــــــــرق
وعلا على الأقصى الأذان مظفرًا
               فــإذا العيــون بدمعها تغـــرورق

     وتتراءى له القدس في كل ميدان، وفي كل مشهد يدل على القوة والفروسية، فها هو يرى في قصيدته (صباح مؤمن) فارسًا على صهوة جواده، فيشغله هذا المشهد من مشاهد القوة والفروسية، فيرى في هذا الفارسِ أحدَ قادة المسلمين الفاتحين، فينسى آلامه وأحزانه التي تلفه وتلف القدس والديار المحيطة بها، ويجري معه حوارًا عن هويته والآمال المعلقة عليه، فيقول:

أطرقت في أسف حزينًا مَوهنـــــــا
               والليــل يمضي مثل حــــالي مُوهَنا
والقدس أحزان تطــــــــول ثقــــيلة
               تغشى الديار وأهـــــلها والأعينـــــا
ولمحت في الظلماء صهوة فــارس
               يعدو فيسبق نفســــــــه حتى دنــــا
من أنت؟" قلت: أخالد أم طـــارق؟
               أم سعـــد أم عمرٌو؟ أجبني، إنــــنا
نهفو لمثلك، نحن حولك أمـــــــــة
               طالت مواجعها وطال بها الـــــعنا
والقدس ترقب مثل سيفك ظـــافرًا
               والناس، والتاريخ يرقب والدنـــــا
ماذا؟ ومن؟ ومتى؟ وأين الملتقى؟
               فأجــاب: حيث المسـلمون، وههنا

     وشاعرنا يرى أن القدس يحررها بالسيف شهم مثل هذا الفارس، يتحدى الخطوب فيثخنها جراحًا، ويجعلها مثل خيبر، ويستأصل جذور الفساد فيها والاغتصاب والعدوان:

القـدس للشهم الـذي يــــــأتي لها
               وبها كما يأتي من الليـل السنــــا
القدس للشهم الذي يـأتي لــــــها
               بطلًا يفـدّيـها بأنفس ما اقتـــــنى
قصدتْه غاشيــة الخطوب فردها
               مكلومة ترجو رضاه، وما انثنى
يزداد عزمًا كلما عصـف الأذى
               فإذا تـحــــداه تحـــــدى الممكنـا
والمستحيل وجاز صعب عقـابه
               وشعـــــــابه متبســــماً متكفنـــا
للقدس يوم مثل خـيبـر ظافـــــر
               يـأتي به شـهم شـجاع ما انحنى
إلا لمن برأ الوجـــود وصاغـه
               إن رام صمم فاستقــــــام فأتقنا
وعنا لوجـــه الله جـــل جلالــه
               أما الدعيّ فللأعـــــادي قد عنا
يا قدس، موعدنا صباح مؤمن
               يأتي به الأنجاد نضرًا مؤمنـــا

     وهو دائمًا يرى أن هذا الفتح والتحرير لن يتما إلا بالقوة التي تقضي على الاحتلال، وتعمل لإعلاء كلمة الله، وبالإيمان الذي يصنع العجائب في نفوس حملته فيكونون جديرين بنصر الله تعالى لهم، بعد أن يكونوا قد نصروا دينه، وأعلوا كلمته، فهم قد أتوا بهذا الصباح المؤمن:

صنعوه من نصــــر تـزيّن بالتّـقى
               وتزيّـنــــــــــــوا للقـــائه وتزيّنــا
هم مؤمنون ومحسنون، فهل ترى
               نصـــــرًا لهم إلا نبيلًا محســــنًا؟

     وهو هكذا دائمًا متفائل، لا تقنطه قوة عدو، ولا يوهنه ضعف حاكم مسلم، ولا تخاذل من يثبّط الهمم، فالمسلمون إلى خير، وإلى نصر، وإلى عودة إلى المجد، فيقول في قصيدته (وسل الزمان):

ما زلت رغم غــــوائل الظلمـــات
               والبغي، أُقســـم إن صبــــحي آتي
آت، وإن جار العداة وأســـــرفـت
               أنيابهم في الأهــــــــل والحرمات
المسلمون هم الخـــلود وسـل بهم
               مر الزمـــــان قـــــــديمه والآتـي
المسلمــــــــــــون كتيبـــة أبديـّــة
               ميمـونـة الغدوات والروحــــــات
وثـّابـة بعـد العثـــــــــار عنيــــدة
               مـحمية مـن هلكة وشتـــــــــــات
هم يضعفون عن المعالي مـــــرة
               أو يهزمون لدى الوغى مــــرات
يـتجــــــددون ويـولــــدون أعـزة
               بين الصعاب وفي لظى الغمرات

     ومن يقينه بتفاؤله يقسم الأيمان على طلوع فجر أمته:

فظللت أقسم إن صبحي قــادم
               وجذاه زيت الحق في المشكاة

     وفي قصيدته (إلى الثالث الميمون) التي تناهز مئة بيت يضع مقدمة نثرية يتحدث فيها عن "الذي سينقذ القدس من الاحتلال اليهودي"، ويكرر فيها اسم القدس ورموزها فلسطين والأقصى... ثلاث عشرة مرة، ويستعرض ما قدمه الفاتح الأول عمر، وما صنعه الفاتح الثاني صلاح الدين، ويبحث عن ثالثهما:

وثالثهم لم أبصر اليوم وجهــــــــه
               ولكنــــــــــه بـدر السمـاء إذا تمّــا
من الثـالث الميمون؟ اَلله وحـــــده
               سيأتي به نعمى ويأتي به رغمــــا
أناديه: أقدم، إن حولك أمــــــــــة
               رأتك الأب المقدام والخال والعمّا
فيــا أمّتي تيهي، ويا مجـــد كن له
               سوارًا، ويا أعراس كوني له يوما

     ولا يقتصر تناول شاعرنا لقضية القدس على ما ورد في ديوانه هذا، فهو في قصائد ديوانه الأول (من يطفئ الشمس؟) أيضًا لا يغفل الحديث عن فلسطين، على رغم غلبة الإخوانيات والروحانيات على قصائد هذا الديوان، فهو في قصيدته) أين المفر؟) يتحدث عن انسحاب الصهاينة من غزة عام 2005 م، تحت ضربات المقاومة، وتخريبهم بيوتهم بأيديهم قبل أن تصل إليها أيدي المؤمنين، وبكاء شارون والصهاينة على انسحابهم، فبقول:

يا من بكى دمعة خرساء حمراء
               غدًا ستبكي دمًا صبحًا وإمســاء
فأنت من جــاء للأقصى فدنَّـسه
               وأوسع النـاسَ تنكيـــــلاً وإيـذاء

     وهو يبدي تفاؤله واستبشاره بالتحرير القادم عاجلًا بدءًا من غزة، التي تحررت، وقد جاءت الأحداث في بداية عام 2009 تؤكد أن قوة الجيش الصهيوني تحطمت على صخرة صمود المقاومة والشعب في غزة، فيقول:

في غزة بدأ التحرير رحلتـــــــه
               مواكبـًا لا ترى فيهن إبطـــــــاء
حتى يحرر كل الأرض منطـلقًا
               كالرعد محتدمًا، والبرق وضّاء
فأين تهرب منه؟ إنـــــــــه قــدر
               والله مـرسـله للبغي إفنــــــــــاء
فاحمل لقومك نعشًا، إنهم خُشُب
               ظلّـت مسنّـدة عجفاء جـوفـــــاء

     وكذلك يتحدث طويلًا عن القدس في قصيدته (صلاح الدين) وهي من شعره الذي لم ينشر بعد، وهل يمكن أن يجري الحديث عن صلاح الدين وبطولته من غير أن يتطرّق إلى تاريخ فلسطين والاحتلال الصليبي للقدس الذي استمر تسعين عامًا، ولبعض أجزاء من فلسطين مئتي عام؟ وهل يمكن أن يمر الحديث عن صلاح الدين من غير أن يُربط بتحريره للقدس من أيدي الصليبين الأملُ في تحريرها حديثًا من أيدي الصهاينة بنفس الطريقة (القتال)، وبنفس الروح والعقيدة (الإسلام)، وبنفس الإعداد والاستعداد؟!

     وبعد أن يستعرض مجريات الأحداث في فترة الاحتلال الصليبي، ثم وصول الاستعمار البريطاني على يدي الجنرال أللنبي إلى القدس، يقول:

ومضت فترة وزدنا انتكاسًــا
               فإذا باليهود ملء الســـــــــاح
أخذوا القدس غدرة لا اقتدارًا
               في سعـــار من حقدهم لفّــاح

     ويلتفت إلى صلاح الدين يخاطبه:

سوف نقفـو خطاك مهما بذلنـــا
               واعتـدى ظالـم وخـــــذّل لاحي
لنـعيد الأقصى العزيز عزيـــزًا
               وهو ضاح ونصرنا فيه ضاحي
عـوّدتنـا رحابــــــــــه أن فيهــا
               مصـرع المستبــد والسـفـــــاح

     ويعود إلى أمله وحلمه وتفاؤله:

في غد ينطـوي اليهود، ونبقى
               إن حكم الأقــدار مـُبق وماحي

     وأخيرًا، إذا كان بعض أصحاب القرار وبعض حملة الأقلام يرون أن تحرير القدس بعيد أو لا يتم إلا بالتفاوض أو التنازل، فإن شاعرنا الدكتور حيدر الغدير لا يرى غير القتل للمحتلين الصهاينة حلًا لتحرير القدس، فيقول من قصيدة وجهها لشارون:

أيها الراكضون في القدس تيهًا
               أنتـــم الـواهمون والأغـبيــــاء
أيها المعتــدون، ما دام ظلــــم
               يولــــد الظلـم وهـو داء عيــاء
فاحـذروا إننا طلائـع زحــــف
               جنـده الأروعـون والأتقـيــــاء
وارحـلوا قبل موتكم أو فموتوا
               حيـث شئتـم فسيفـنـــــا المحّاء

       ***
-----------------
* نشر في موقع الألوكة الإلكتروني.
* ونشر كذلك في موقع رابطة الأدب الإسلامي العالمية، المجلة الإلكترونية، العدد الرابع، بتاريخ 5/2/2011م.

الأربعاء، 2 يونيو 2021

قراءة في ديوان غداً نأتيك يا أقصى - د. أمين الستيتي

قراءة في ديوان غداً نأتيك يا أقصى

لحيــــدر الغديــــر

د. أمين الستيتي – الرياض
نشرت في مجلة الدعوة، العدد 2129
29 محرم 1429هـ - 7 فبراير 2008م


     يلوح على بساط تتقاذفه ظلمة الأمواج، ملتحفاً بظلمة ليل تائه، وتختلس من بين عتماته شمس خجول، نظرة تعبر عن أمل تكسرت أعطافه بين دياجير الظلام، هكذا بدت لوحة الغلاف، متوجة بعنوان اختاره الشاعر حيدر الغدير ليعبر عن المعاني التي عاشت في صدره، وفار بها فؤاده. وبعدها ولجنا إلى الإهداء، وفيه حلقة متينة من العواطف في سلسلة المشاعر التي أورقت في شغاف القلوب، وقد وجهها الشاعر إلى أبطال المسلمين الذين يزرعون النصر، ويحصدونه في يوم الأمل الذي يراه شاعرنا حقيقة تزحم وجه الشمس في رابعة النهار.

     ثم وضع جدول المحتويات في الصفحة الخامسة، وزرع فيها ثماني وأربعين قصيدة، وأولها أم الديوان: (غداً نأتيك يا أقصى)، وقد بناها على (مفاعلتن) مكررة مرتين أو ثلاثاً، أو أربعاً، وقد ساعده هذا الوزن الحُدائي النغمات على صنع ألحان متماوجة كهضاب نجد، بل كما خبَّت الصحراء بالإبل، تغذ السير إلى ساح الوغى، وقد اعتلاها الغاضبون لربهم، حين تجبر الطاغون وبغوا، فيقول:

عهدك أيها الأقصى، وعهدك جمرة فينا، وحلم في مآقينا
ينادينا، فلا ننسى، وكل خلية فينا هي الأخرى .. تنادينا
إلى الأقصى، إلى الأقصى

     هكذا بدت موجة عالية من صخب العواطف، تحمل إعصاراً من زفرات الأمة، لتصبح نصر حطين مرة أخرى، وتكرر فتح خيبر، وكأن الشاعر يربط بين النصرين، ذلك أن العدوين في المعركتين عبر التاريخ قد وحدوا خبائثهم، ومكرهم ضد الإسلام والمسلمين.

     وتتدافع الألفاظ القرآنية على شفتي الشاعر لتشغل حيزاً من اللوحة الشعرية التي رسمها الشاعر ببساطة العربي البدوي، لتمثل غضبة الأمة على أعداء الله، في قوله:

وقد تبت أياديكم
وقد بادت صياصيكم
نتبر كل ما شدتم

     معتمداً على ما أخبر به الرسول صل الله عليه وسلم بقوله:

لنا عهد سننجزه، ووعد سوف نحرزه، بأن النصر آتينا،
كذلك قال سيدنا، وهادينا، محمدنا..

     ولا ينسى شاعرنا حيدر الغدير أن شرط النصر هو التمسك بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، كما فعل أجدادنا الأولون، وبثقة المؤمن، الذي يرى ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم رأي العين، فهو في يافا، وفي عكا، وفي صفد، والرملة، يزرع ويسقي ويسوس الخيل، ويذكر هيبة ابن الخطاب رضي الله عنه، وهو الفاتح الأول، وصلاح الدين، بوجهه الوضاء، وبينهما قائد جموع المسلمين الزاحفة، الذي سيرفع علم الجهاد ثانية، ويخوض معركة الإسلام، والتي سيكرمنا الله فيها بالنصر المؤزر.

     ويكاد الشاعر يرسم صورة هذا البطل المسلم القائد، بل يكاد يسميه، ويناديه حين يقول:

ونلقى الفاتح الأول، أبا حفص بهيبته،
ونلقى الفاتح الثاني صلاحاً في وضاءته،
ونلقى الفاتح الثالث فنعرفه بطلعته،
وقامته التي شمخت، وسطوته ورحمته،
ونسجد كلنا شكراً، لواهب زحفنا النصرا،
سيبقى مجد أمتنا هو الأعلى هو الأنضر،
وتبقى شمسها الأحلى، ويبقى حقلها الأخضر،
لأن الله حافظها، ولله الدنا تعنو، ويبقى أمره الأكبر

     لقد انسابت كلمات الشاعر سلسة، لا تكلف فيها، يظنها القارئ نثراً، لولا وزنها الذي غلفها بألحان شعرية، في قوافيها المتلاحقة، مع موجات ملتهبة من العواطف في حروف منسابة، يسيرة المعنى، واضحة الصورة، بينة الدلالة، تذكرنا بأبي العتاهية، الذي لم يكن يتميز شعره عن النثر بغير الوزن والقافية. ومع أن الشاعر بهذه القصيدة وأبياتها يعلن مواكبته لعصره، والتحاقه، أو موافقته المجددين، غير أنه لم يبارح الشعر العمودي، ولا المعاني المألوفة عند العربي، محتفظاً بذاتيته، ووضوح صورته، وقرب معانيه، وخطابية التعبير المباشر، وبعده عن الإيغال في المعاني، أو الغوص في أعماق الصور، واللوحات الشعرية المتكاملة الناطقة في الشعر المعاصر، والتي اتخذت عنوان العصرية، والتطور في هذا الزمن.

     حتى في إحالاته وجدناه قريباً، واضحاً جلياً، ولو كان لقارئ الديوان أن يرسم صورة صاحبه لظهرت أمامنا صورة رجل واضح المعالم، يتحرك تحت الضوء، ويعيش الحياة اليسيرة، السهلة، بكل ما تعني هذه الكلمات.

     وإذا كانت أحزان الأقصى حاضرة أمام الناظرين اليوم، فإن أحزان الأندلس لم تغب عن قلوب المسلمين، بل كأنها لن تغيب حتى يغسل الآتون بنصر الله سبحانه هزائم الغابرين، الذين فرطوا بأسباب النصر التي بينتها شريعته الخالدة، ففرط بهم النصر.

     لقد رسم شاعرنا حيدر الغدير صورة غرناطة الأندلس، وأحداث هزيمة (أبي عبدالله الصغير) وما حل به، في القصيدة الثانية من ديوانه، وجعل عنوانها (حسرة العربيّ)، وهو اسم المكان الذي وقف فيه ذلك الصغير يودع مدينة ملكه، واختار شاعرنا لهذه القصيدة ألحان بحر الطويل: (فعولن مفاعلين)، تلك الألحان المتزنة، واسعة المدى، وعزف عليها كل الأحزان، والدموع والآلام الماضية والحاضرة، والتي عاشت في قلبه وقلوب الأمة عبر الزمن، وبشر بما يبشر به الرسول صل الله عليه وسلم إذا أخذ المسلمون بأسباب النصر.

     ورأيناه ينطلق من بكاء أبي عبد الله الصغير، ليصف الدماء التي صبغت تلك المدينة، وأجراس الكنائس التي طغت وكتمت أصوات المؤذنين، والأستار التي هتكت، والخيول التي خلت صهواتها.. ونواح المحصنات اللواتي لم يأسفن على الذين قتلوا مستسلمين، ولا على الفارين، بل ذكرنهم بما كان ينبغي، من الإقدام، والقتال، للفوز بإحدى الحسنيين، لأن ذلك طريق الخلود التي سلكها المنتصرون. وقد شكلت كلمات أم عبد الله الصغير عمود القصيدة، ومحور الفكر الإسلامي، فصاغها الشاعر مطراً يغلي بقوله:

ألا فابك مثل الغيــــد ملكا أضعتــــــــه
               وما صنته عن عـفـــة وتكــــــــــــــرم
ألا كنت مثل الليــــث في حومة الوغى
               يصـــول إذا يرمي، ويحــــدو إذا رُمِي
وخضت إلى الفردوس بحراً من اللظى
               وكنت الأبي الحر والـفــــــارس الكمي
ولو مت مقـدامــــــاً لعشت مخلـــــــــداً
               وصرت نشـــــيداً كالأغاريد في الــــفم
وخلدت بين المسلميـــــــــــن كحمـــزة
               وكفنــــت في برد من المجــــــــد والدم

     وقد أحسن الشاعر حين انسل من مرارة الواقع الممتد من (حسرة العربي) أرضاً وزماناً، حتى أيامنا هذه، نحو مجد غابر صنعه السابقون بقلوب ملأها الإيمان، وفاضت بها آمال النصر. فعاشت تتهادى بين إيمانها وآمالها، وأحلامها، وعقدت عزائمها لتجسد ذلك انتصارات بلغت أقاصي الشرق والغرب، وجلجلت سيوفهم، وخفقت راياتهم، وعلت بهم منارات صدحوا من فوقها بأصوات الأذان، ونشروا دين الله، وطهروا الأرض من دنس الكافرين وظلمهم، يتساءل شاعرنا عن كل ذلك فيقول:

أين الأذان يزف النـــــور مؤتزراً
               بالطيب ينهل مثل الهاطل الهضب
والمسلمون سرايـا بالهدى انطلقت
               يحفها مهرجان الفتح والغلــــــــب
تطهر الأرض من كفر ومن دنـس
               وتنقذ الناس من بغي ومن حـــرب

     لم يلبث الشاعر أن مزج حلمه بأحلام موسى بن نصير، وشكل جيوش الفتح القادمة، وجعل في نفسه رفيقاً لطارق في جند الفتح، وكأنه يراهم رأي العين: فيقول:

إني لأبصرهم زحفاً له زجــــــــــل
               إلى الديــــار التي عزت على أربي
غداً يحقــق حلمي سيـــد نجـــــــــد
               يمضي إليه (على جسر من التعب)
أنا وطارق جنـــد في كتائبـــــــــــه
               فأسرجوا خيلكم يا أمة العــــــــرب

     لم يغادر شاعرنا ألفاظه السلسة، ومعانيه القريبة، وصوره اليسيرة المنال، المألوفة عبر الزمن، وكان تأثره بالألفاظ القرآنية والنبوية المشرفة جلياً، وفي كل أنحاء القصيدة، وظهرت صورته وهو يمزج بين حمراء قرطبة، وأقصى فلسطين، وكأنه يؤاخي بين حسرات المسجدين!! وقد التحف الشاعر أشواقاً حارة، معبراً عن أشجان أمة الإسلام قاطبة.

     أما اللون الثالث في هذا الديوان فكان الشعر الإخواني، وشعر المناسبات، وذاتية الشاعر، الذي ضم كثيراً من قصائده، ولا عجب فالشاعر متفرغ للقراءة والكتابة، وممارسة العلاقات الاجتماعية، والندوات الثقافية، ومن هذه القصائد ذات العنوان الإسلامي: (نم في البقيع) التي رثى فيها الشاعر الكبير عمر بهاء الدين الأميري.

     ولم يخرج شاعرنا في هذه القصيدة عن نهجه، وظل متمسكاً بعمود الشعر، ومعاني الأولين من الشعراء، فذكر محامد الفقيد الكثيرة، وأشاد بمواقفه، وجهاده بالكلمة والنفس والمال، والآمال، التي تجلت في أن يمكن الله سبحانه للمسلمين، ثم زف إليه أنباء انتصارات المسلمين في بعض البلاد، وتمنى لو كان حياً ليتغنى بها، لكنه واسى نفسه بالملائكة الذين سيزفون له أنباء تلك الانتصارات، فقال:

نصر كما تهوى فأين يتيمـــــة
               من حر شعـرك للأسود تصفق
أترى الملائكة الكرام سعت به
               نبأ إليك وبسمــــــــــة تترقرق

     ولا ينسى أن يبارك له نومه في البقيع، إلى جوار جده، ويبشره بأن مسلسل الانتصارات الذي بدأت شموسه تسطع بجلاء، لابد أن يصل القدس، وتشرق فيها شموسه.

     لقد كان الشاعر ملتزماً بدينه، منافحاً عنه، في كل إبداعه الشعري، وعلى كل صوره، مشيداً بالمتمسكين بشرع الله، كتاباً وسنة، واقفاً معهم في كل خنادقهم، وهو بذلك يؤكد نفسه في مسيرة الأدب الإسلامي، وتسخير الشعر والإبداع لخدمة هذا الدين الحنيف.

***

الحكمة الشعرية في ديوان من يطفئ الشمس؟ - أ.شمس الدين درمش

الحكمة الشعرية في ديوان من يطفئ الشمس؟

للشاعر د.حيدر الغدير

أ. شمس الدين درمش
نشرت في موقع الألوكة
الرياض - الأربعاء - 29/ 4/ 1428هـ - 16/ 5/ 2007م


     الغدير ما يغادره السيل من الماء فتنمو حوله الحياة.. تجتمع إليه الطيور، وتنبت فيه وحوله الأشجار والزهور.

     وهذا الديوان كذلك الغدير من الماء في شفافيَّته وروحه الباعثة للحياة، وقد نبت فيه من كل لون، ولكن اللون الأخضر هو الغالب فيه؛ لأنه موجود مع كلِّ لون مما نبت فيه وحوله، واللون الأخضرُ في هذا الديوان هو الحكمة.

     فالحكمة الشعرية هي العنصرُ المبثوث في كلِّ الديوان كما ينبثُّ اللون الأخضر في البستان. ولا عجب! فالديوان جاء بعد أن تجاوز الشاعر المراحلَ المتقلبة في حياته، واليوم هو في طريقه إلى السبعين، عركته تجارب الحياة، فخَبَرَها وخَبَرَته، وكشف أسرارها وكشفته حتى ظهر لنا من أمرهما العجب!

     وإذا كانت قصائد الرثاء العديدةُ في الديوان بدوائرها المختلفة المكانَ الطبيعي لشعر الحكمة من حديث عن الموت والحياة، والدنيا والآخرة، والفناء والخلود - فإن قصائد عديدة فيه كانت وقفات حقيقية للتأمُّل في الحياة وما فيها، عبَّر الشاعر من خلالها عن رؤيته الثاقبة لما وراء الظواهر الخادعة كالسراب الذي يحسبه الظمآنُ ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفَّاه حسابه، إن الله سريع الحساب.

     فما المحطَّاتُ التي وقف الشاعر فيها للتأمُّل في الحياة بحكمة حتى لينطبق على شعره قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن من الشعر لحكمة"؟

الموت.. الصديق:

     جرت العادة أن يجزعَ الإنسان من الموت، ويهربَ منه، ويدعوَ لعدوِّه به، ولصديقه بضده، وليس الشاعر بِدْعاً في هذا، ولكن معايشة الشاعر لهذه القضية الكبرى في الحياة، وإمعانَ التأمل كشف له سراً جعله يسلك مذهباً جديداً فيه، فلنسمع القصة:

أخافَني الموتُ دَهراً ثمَّ صـــــافاني
               وقالَ لي: لستُ بالعادِي ولا الجاني

     ويعرض علينا الشاعر دفاعَ الموت عن نفسه فيما يظنه الناس، وبراءته من التهم الموجَّهة إليه، فيقول على لسانه:

لا أنقصُ المرءَ يوماً قطُّ من أجَلٍ
               ولا أَجـــــورُ على إنسٍ ولا جانِ
أنــــــــــا الوَفيُّ لأمرِ اللهِ أُنفِـــذُهُ
               كما يَشاءُ وإنَّ العَــــــدلَ مِيزاني
ولستُ أَظلمُ إنســــــانـاً لمَســكَنَةٍ
               ولا أُداري ذَوي مالٍ وسُـلطـــانِ
بل أَحرِسُ العُمرَ للإنسانِ يَقطَعُه
               والحَبــلُ أُرخِيهِ للقاصي وللدَّاني
حتَّى إذا جـــــاءَ أمرُ اللهِ قُمتُ بهِ
               أَذاكَ ظُلمي لَهُ أم ذاكَ إِحساني؟!

     وأمام بيان الدفاع في إثبات البراءة من الجناية يقدِّم لنا الشاعر الموتَ بريئاً مما وُجِّه إليه من التهم فهو عادل مطيع لأمر الله، حافظ للإنسان أن يَنتقص من أجَله، ولذلك ينتزع منا الإجابةَ على تساؤله لنعترفَ بأن ذلك منه إحسان للإنسان، وليس ظلماً!

     ويذهب الشاعر أبعدَ من ذلك، فيضع الموت في دعواه تحت المراقبة السلوكية حتى يتيقَّن صدقَ دعواه، واستقامة مسلكه، فيقول:

سمعتُ ما قالَ واستَرسَلتُ أَرقُبُــــه
               فكانَ حقّاً أخـــــــا صِدقٍ وإيمـــانِ
وكان أَرحَـــمَ مِن بــــــاغٍ وطاغِيةٍ
               يَستأصِلُ الناسَ وهو الباسمُ الهاني
فمــاتَ خَوفيَ منهُ وهو بــــــادَلَني
               حُبّـــاً بُحِبٍّ وناجاني وآخــــــــاني
رأيتُ منهُ وَفـــــاءً رغمَ سَطـــوَتِهِ
               لم أَلقَــهُ في كَثـــــيرٍ بينَ إخــواني
وَضَعــــتُ في كَفِّهِ كَفِّي فعــاهَدَني
               على الإخاءِ ولا تَعجَب وأَرضاني

     إذن، اجتاز الموتُ اختبار البراءة المسلكية، وبدأ عهدٌ جديدٌ في العلاقة بينه وبين الشاعر، حلَّت فيه الطمأنينة محلَّ الخوف، والثقة محلَّ الشك، مما أثار استغرابَ الآخَرين الذين يجهلون ما أدركه الشاعرُ الحكيم، فقال:

رأى صَداقَتَنا قــــــالٍ، فســــاءلَنا:
               هل أنتُما - هكذا يَبدو - صَديقانِ؟!
فقـلتُ: بل نحنُ في أَعلى مَكارِمِها
               ونحــــــــنُ في ذُروَةٍ منها نَديـمانِ

     وتبدأ صفحةٌ جديدةٌ مع الموت:

أتانيَ الموتُ في رِفـــقٍ وفي حَدَب
               يَقتادُني عن شَقــــاءِ العالَمِ الفـــاني
فَزالَ عنِّي غِطائي وانجَلى بَصَري
               يَرنـــو وبي لَهفَةٌ للعـــــالَمِ الثــاني
وطارَ بي أَمَلٌ جَــــذلانُ يَغــمُرُني
               أنَّ الـكَـــــريمَ تَوَلَّاني وأَدنــــــاني

     قد علمنا من قبلُ صداقةَ الشاعر الفرزدق للذئب، وها هنا نرى صداقة شاعر للموت!

الإنسان والمال:

     المال محبوبُ الإنسان، قال تعالى: {وتَأكُلونَ التُّراثَ أكلاً لَمًّا. وتُحبُّونَ المالَ حُبّاً جَمّاً}، وفتنته قد تهلكه في الحياة! والشاعر يُدرك هذه الحقائق، ويُدرك الطريقة المثلى في التعامل مع هذا العدو المحبوب!! فالغنى في إنفاق المال، وليس في كَنزه، والعز في بذله، وليس في البخل به.

     ولا شك في أن معانيه مستقاةٌ من توجيهات القرآن الكريم، والحديث الشريف فيما ذهب إليه من أن الذين يكنزون الذهبَ والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله لهم عذاب أليم، وأن مالَ الإنسان ما تصدَّق فأبقى، وأن ما يكنزه هو لوارثه يبدِّده من بعده ويحاسب هو عليه!

     ويقدِّم لنا الشاعر الغدير هذه المعاني بحكمته الشعرية، فيقول:

كلُّ مالٍ جَمعتَه في اصطِبارٍ ... مرَّةً وافِـــراً وأُخرى قَلِيــلا
سوفَ يَغــدو لِوارثِيكَ قريباً ... كي يُبيـــدوهُ بُكرةً وأَصِيـلا
فَهُــــمُ النـــاعِمونَ فيهِ ومنهُ ... وعَليكَ الحِســابُ مُرّاً ثَقِيلا

     ويُدرك الشاعر أن المالَ صعب المراس قويُّ الشكيمة، لا يَستسلم ولا يَلين لمالكه بسهولة، لذلك يتوجَّه إليه بالخِطاب، ويُعطيه درساً لا يَترك له فيه من مَطمع، فيقول:

أنتَ عَبدي إذا بَذَلتُكَ دَوماً ... فإذا ما بَخِـلتُ كنتُ الذَّليلا

     ويختم الشاعر قصيدته ببيت مفرد يتضمَّن خُلاصة حِكمته في المال فيقول:

يُدركُ المرءُ حينَ يَسخو المعالي
               ويَنــــالُ البَخيلُ مَرعًى وَبِيـــــلا

     ومع اليقين أن هذه الرؤيةَ الحكيمة في المال أصيلةٌ لدى الشاعر؛ لأن غديرَه من سيل نهر الشريعة الغرَّاء، نجده يلتقي بنصوص معلومةٍ لدى شُعراء الحكمة في تراثنا الشعريِّ قبل الإسلام وبعده مثل زهير بن أبي سلمى في قوله:

ومَن يَكُ ذا فَضلٍ فيبخَلْ بفَضلِهِ
               على قَومِه يُســـتَغنَ عنه ويُذمَمِ

     وحاتِم الطائي في قصائده العديدة التي يحاور فيها زوجتَه ماوية التي كانت تحاولُ ثَنيه عن البذل، فيقول لها:

أماوِيَّ إنَّ المـــــالَ غــــادٍ ورائِحُ
               ويَبقى من المالِ الأحاديثُ والذِّكرُ

     والمتنبي في قوله - وهو ماثلٌ لدى الشاعر دائماً-:

لولا المشقَّةُ سادَ الناسُ كلُّهُمُ ... الجــودُ يُفقِرُ والإقـــدامُ قَتَّالُ

الإنسان والجبن:

     الجبن صفة ذميمة، بخلاف الخوف الذي وصف الله سبحانه به ملائكته المقرَّبين {يخافونَ رَبَّهُم مِن فَوقِهِم}، ووصف به عبادَه المؤمنين {يَدعُونَ رَبَّهُم خَوفاً وطَمَعاً}، لذلك يعالج الشاعر صفة الجبن لدى الإنسان معالجةً حكيمة، ويعبِّر عن مفهومه له، وفلسفته فيه.

     فالجبن في نظر الشاعر يفعلُ بالإنسان ما تفعله العواملُ الطبيعية في الصخر الصلد من الحتِّ حتى يتأَكَّل ويضعف ثم ينهار، فيقول:

رأيتُ الجبنَ قبلَ الموتِ مَوتا
               يَحُتُّ المرءَ -إذ يَرضاهُ- حَتّا
ويَتـــرُكُه رِماماً باليـــــــاتٍ
               تَعيثُ بها الرِّيـاحُ وهُنَّ شَتَّى
تُبعثِــــرُها ولا بــــاكٍ عليها
               ومَن يَبكي منَ الأَقــذاءِ بَحتا
تَجنَّبهُ الوَرى سُخطاً وهُزءاً
               وبَتَّ حِبالَهُ الأصحـــابُ بَتّا
ويُبصِــــرهُ فيَمقُته أَخـــــوهُ
               فـــــإن لامُوهُ فيهِ ازدادَ مَقتا

     صورة كئيبة كريهة للجبان يرسمها الشاعر منبوذا يجرُّ أسماله الممزَّقة وكأنه صار كالسامِريِّ الذي يقول: {لا مَساس}!!

     ولكن ما معنى قوله: (رأيتُ الجبنَ قبلَ الموتِ مَوتا)؟! وهل يُذم الجبن قبل الموت، ويُمدح بعده؟ أوهل بعد الموت جبنٌ حتى يكون له ظَرف قبله؟ أعتقد أن الشاعر لا يقصد القبليَّةَ مقابل البعدية، وإنما أراد بما قبل الموت الحياة، فهو يريد أن يقول: رأيت الجبن في الحياة موتاً، ولكنه استخدم بدل كلمة (الحياة) المتوهِّجة بالمعاني الإيجابية المشرقة كلمة (قبل الموت)، وهي تعبير مُنطفئ، فجعل التضادَّ بطباق السلب بدل الإيجاب.

     وأمر آخر يستوقفنا، إذ جعل (الجبن) في الحياة (موتا)، ولا شكَّ في أنه يذمُّ الجبن، ولازمه أنه يذمُّ الموت، بل الموت المشبَّه به أشد ذمّاً، مع أننا علمنا أن الشاعرَ في قصيدته (صداقة) أضفى على الموت كلَّ الصفات الحسنة واتخذه صديقاً نديماً، فهل يجد (القالي) مَطعناً ليقول للشاعر: أنت مخطئ في أحد الأمرين؛ اتخاذ الموت صديقاً، أو تشبيه الجبن بالموت!! وإذا صحَّ الأمران عند الشاعر يكون الجبن صديقاً له غيرَ مذموم!! ولعل الشاعر يُخرجنا من هذه الإشكالية الفلسفية.

     ونعود إلى القصيدة لنرى أن الشاعر يتحدَّث عن دواعي الجبن في حياة الإنسان، فيقول:

وفي الدنيـــا نقــائضُ واعِظاتٌ
               تَبيـــنُ وتَختَـــفي أنَّى نَظَرتــــا
أَلِفنــــاها لكَثــــرتِها فصــارَت
               نديـــمَ حيـــاتِنا جَهراً وصَمتــا
فنَســــكُنُها وتَســـــكُنُنا كأنَّـــــا
               بها الأضيافُ مُصطافاً ومَشتى
تَـــأَمَّلها ستَـــلقاها صَديقـــــــاً
               وجِيـــــراناً لنــا، وأنا، وأنتـــا

     فالأشياء التي يُشير إليها الشاعر مجملاً غير مفصِّل، هي الأمور التي تثير القلق عند الإنسان، فينفخ فيه الوهم، فيتولَّد الجبن في داخله، فإذا هو يذل ويخضع، ولو تأمَّل تلك الأمورَ لوجدها قريبة منه صديقة له، فهم الجيرانُ وأنا وأنت!!

     ونجد هنا إلحاحَ الصداقة على الشاعر مرة أخرى، وهي حالة قلقٍ لديه؛ إذ يجد في الأشياء المجهولة أصدقاء لم يجد مثلها فيمن ظنَّ صداقتهم من الناس!

     ويفتح لنا الشاعر الغدير صفحةً من نقائض الحياة الواعظات.. يفتحُ صفحة من المجهول فيقول:

فتَحتَ الأرضِ ميتٌ وهو حَيٌّ
               بما أَهدى وما أَســــدى وأَفتى
ومَرُّ الدهرِ لا يَمحــــــو جَداهُ
               سَيبقى صَرحُـــهُ نَضراً وثَبتا
وفوقَ الأرضِ أحيـــاءٌ ولكِن
               غَدَوا من إِلفِــهِم للجُبنِ مَوتى

     ويستقي حكمته هنا من الشمسِ الشاهدِ الذي لا يغيب عن الأحياء والأموات فيقول :

تقولُ الشمسُ إنْ طَلَعَت عَلَيهِم
               رأيتُ بَقـــــاءهُم زَيفـــــاً وأَلتا
وإن كـرامةَ الأمواتِ دَفــــــنٌ
               يَضمُّ رُفـــــاتَهُم، فعَسى ولَيتا!

     والشاعر يوظِّف الجملة المتداولة بين الناس (كرامة الميت دفنه) في الاستهزاء بأحياء (الجبن) الأموات، ومنهم الذين تخاذلوا في معركة نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم أمام (الجبن) الدانمركي، فقال فيهم في قصيدته "أبا الزهراء":

وأَخزى اللهُ أَقواماً دَعـــــــاهُم
               إلى الغضَبِ الوَفاءُ فــما أبانُوا
لقد صَمَتوا وإن الصَّــمتَ لُؤمٌ
               لدى الجُلَّى، وأَلهَتـــــــهُم قِيانُ
عَليهِم مِن مَخــــازِيهم غَواشٍ
               ومِلْءُ قُــــلـــــوبِهِم ذامٌ ورانُ
فهُم مَوتى وإن ذَهَبوا وراحُوا
               وهُم جِيَـــــفٌ عَليها الطَّيلَسانُ

     ويُشير إليهم بصريح العبارة بعد أبيات فيقول:

ويَقتَحِمُ الشجاع ذُرا الرَّزايا
               ويَغرقُ في مَخاوِفِه الجبـانُ

الإنسان والزمن:

     زمن الإنسان هو عمره الذي يعيشه، فيملؤه بالخير أو بغيره. وقد استوقف الزمنُ الشاعر الحكيم - أو هو توقَّف عنده - كثيراً يحادثه فيسجِّل مواعظه وعبره.

     وكان ما يسمى رأس السنة محطَّة وقوفه أكثر من مرة، إذا كان يصح أن يُقال ليوم في السنة رأس السنة!! فلكل إنسان رأس سنته، وعدد أيام رأس السنة بعدد الناس على الأرض، ومع ذلك فإن ما اصطلح عليه الناس فرض نفسه، وفرضته حاجة الناس إلى الحساب بدءاً وانتهاء!

     وقد لحظ الشاعر ليلةَ رأس السنة اجتماعَ الناس في ساعة يرقصون ويلهون، والزمن يسرقهم ولا يدرون! فقال يخاطب العام الجديدفي قصيدته "أقبلت تسترق الخطا":

أَقبَلتَ تَستَــرِقُ الخُطا يا عامُ
               والناسُ حَولَكَ ساهٍرونَ قِيامُ
قد أَسكَرَتهُم خَمرَةٌ مِن غَفـلَةٍ
               أَمشــاجُها الأَوهامُ والأَحلامُ
يُســراهُمُ عامٌ تَفلَّتَ وانْطَوى
               ويَميــنُهم يَهفو إليها عـــــامُ

     ويمضي الشاعر واصفاً غفلةَ الناس عن حقيقة الزمن الذي يحتفلون برحيله واستقباله، فيقول:

والعُمرُ يَمضي والرَّدى دونَ المُنى
               وتقَـــــلُّبُ الأيـــــــــامِ والأسقـــــامُ
والأَرشَـــــدونَ ولَيتَني مِن بيـــنهِم
               يَقِفــــونَ حيثُ الحقُّ لا الأَوهــــامُ
نَظَروا إلى الدُّنيــــا فما زاغُوا بِها
               أو أَسكَرَتهُم صَبــــــوَةٌ ومُـــــــدامُ

     وتتكرر التجربة نفسُها مع الزمن في عام آخر، ولكنه هذه المرة ينتبه إلى الأوراق التي تعدُّ أيام العام، فإذا الورقة الأخيرة منها تُنذر برحيل عام وبداية آخر، فيقول الشاعر تحت عنوان (نحن لا نفنى):

مَرحبــاً ياعـــــامُ إنَّا ها هُنــــا
               تَســـــكُنُ الآلامُ فِينـــا والمُنى
كـلُّها تُومي لـنـــــــا إيمــــاءةً
               ربَّما كانت عَلَينـــــا أو لَنـــــا
يَومُنا كالأَمسِ حُــــزنٌ وأَسىً
               لَيتَ شِعري كيفَ نَلقى غَدَنا؟!

     والشاعر الغدير هنا مسكون بهم الأمة الإسلامية، وإن كان هذا الهمُّ لا يكاد يغادره، إذ يسيطر على هذه القصيدة ضمير الجماعة منذ العنوان، في إصرار دالٍّ على الثبات وعدم اليأس، برغم دواعيه الكثيرة التي جعلت الشاعر يتساءل بألم مَشوب بالحيرة والتوجُّس من الغد المجهول (ليت شعري كيف نلقى غدنا؟!)، والبيت يَستدعي إلى الذاكرة مثيلَه من الشاعر الحكيم زهير بن أبي سلمى:

وأَعلَمُ عِــــلمَ اليومِ والأَمسِ قَبلَهُ
               ولكِنَّني عَن عِلم ما في غَدٍ عَمي

     كما أجد في وقفات الشاعر مع الزمن وتأمُّلاته فيه ومحاوراته معه نفَساً من الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله، إذ له العديد من المقالات في كتبه مع الزمن، والشاعر الغدير من عشاق السياحة والسباحة في أدب الطنطاوي، وقصيدته (شاهد القرن) في الديوان في رثاء الطنطاوي تقوِّي هذا الرأي عندي.

,يبدو الشاعر في حواره للعام الجديد مُستعطفاً غارقاً في حَيرته من الغد المجهول، نازفاً بالأسى والألم من حال الأمَّة، فيقول:

بَيدَ أنَّا أيُّها العـــامُ الذي ... جــاءنا يَعدو بِما حَيَّرَنا
لم يَزَل فِينا رجاءٌ واعِدٌ ... أنْ تُواتِينا وقَد أَفرَحتَنا!

     ويخيَّل إليَّ الشاعر مادّاً يديه إلى العام الجديد بلونه الرمادي البائس كسابقاته يخاطبه، والعام يرنو إليه صامتاً، فيمضي دون أن يجيب، ويفهم الشاعر دلالة السكوت، والصمت حكمة وقليل فاعله! فيقاوم اليأس الذي يحاول اختراقه، فيقول:

أيُّها العامُ الذي نَرنو لـــــه ... مِثـــــلَما جـــاءَ إلينا ورَنـا
قُـــل لِمَن ظَنَّ بأنَّــــــا أُمَّةٌ ... أَوشَكَت تَغرَقُ في لُجِّ الفَنا
نحنُ لا نَفــنى فإنَّــــــا أُمَّةٌ ... لم تـزَل جَذوَتُها مِلءَ الدُّنا

الإنسان والحياة:

     وقد يقف الشاعر مع الزمن في غير ما مناسبة، فيلحظ سرعة تصرُّمه وتقلُّبه بين الأفراح والآلام، فيقول في قصيدة (إذن تفوز):

أَبصَــرتُ في العُمر أَفراحِي كآلامِي
               مُهـراً سريعَ الخُطا يَعـــــــدو بأيَّامِي
هَذي تُخـــــادِعُني والحُسن فِتنـــــتُها
               وتِلكَ تشتَــــدُّ في جَرْحِي وإِسقــــامِي
وَجَـدتُّ نَفسي مَضى عُمري إزاءَهُما
               كأنــــه بعــــضُ يومٍ لاهثٍ ظـــــــامِ

     ونلحظ هنا الهم الذاتيَّ المسيطر على الشاعر، وتعابيره المبنية على ضمير المتكلم المفرد، فالشاعر في صراع مرير مع الزمن، فهو لايكاد يلتقط أنفاسه لاهثاً ظامياً، وإن نسب ذلك إلى العمر، لأن عمر الإنسان هو ذاته، إذ لا إنسان بلا عمر!!

     ويُتابع الشاعر عرض مأساته مع الزمن فيقول:

إذا صَحَـوتُ منَ الأَوهامِ تَأسِرُني
               عادَت لِتَجعَلَني في سِجنِها الدَّامِي
فَهِيَ الأَعادِي وإنْ أَبدَت بَشاشَتَها
               وسَهمُهــا سَهمُ بـادي الكُرهِ غَشَّامِ

     وفي البحث عن مخرج نجاةٍ من الهلاك المحدق من سهام الأوهام الأعداء يسأل الشاعر الشمسَ والبدر:

وكيفَ أَنجو؟! سألتُ الشمسَ طالعةً
               والبدرَ يَحبو الدُّنــا من نُورِهِ الهامِي

     والشمس والبدر شاهدا الليل والنهار، فبماذا نصَحا الشاعرَ، وما الحِكَم التي زوَّداه بها:

قالا: اتَّخِذ مِن يَقينٍ ســــابِغٍ وَزَراً
               واطْوِ المَخاوِفَ في صَبرٍ وإِقـدامِ
وفَوِّضِ الأَمرَ للرَّحمنِ في ثقــــةٍ
               ولُذْ بهِ، فهوَ نِعْمَ العَونُ والحـامِي
إذَن تَفــــوزَ وتَغــــدو كلُّ داهِيـةٍ
               أَشجَتكَ حِيناً سَراباً بيـنَ آكــــــامِ
ويُصبــــحُ العُمرُ أَمنــاً لا يُكَدِّرُهُ
               سَطوُ المَخاوِفِ مِن ناسٍ وأَوهامِ

     والفوز هو الغاية التي يسعى إليها الشاعر، وهي غايةٌ مشروعة {فمَن زُحزِحَ عن النارِ وأُدخِلَ الجنَّةَ فقد فاز}، لذلك نجده يكرِّر عبارة (إذن تفوز) في قصيدة أُخرى بعنوان (زُلفى)، مبشراً نفسه إذا التزمت الخطَّة الحكيمة في منهجها في الحياة، يقول الشاعر وقد اتخذ مشيبه صديقاً نصوحاً حين جاء إليه بالنذير:

وأَبصَرتُ المَشيبَ فقال هَمـساً
               وجَهـــــراً: إنَّ في بُرديَّ حَتـفا
أنــا بُشراكَ إن أَحسَنتَ صُنعـاً
               وإلا فالنذيــــرُ يَمورُ عَصــــفا
فقُلتُ: أُريدُ نُصحَكَ يا صَديقِي
               فمَحِّضْنِيهِ مثـــــلَ النُّورِ شَفّــا
فقــــال: تَوَخَّ نَهــجَ الحَقِّ أَنَّى
               مَضَيـــتَ وكُن بهِ شَهماً وعَفّا

     ويأخذ الشاعر الأمر بجدٍّ بالغ، ويحشد تفكيره كلَّه، فيقول:

حَشَــدتُّ خَواطِري وهَتَفتُ فِيهِ
               رَضِيتُ، فَطابَ بي قَلباً وطَرْفا
وقــالَ: إذن تفوزَ! فقُلتُ: بَهْراً
               سَتَـــــلقاني الفَتى إنْ قالَ أَوفى

     وهذا منه كقول طَرَفَة:

إذا القَومُ قالوا مَن فَتىً خِلتُ أَنَّني
               عُنيــــتُ فلم أَكسَل ولم أَتبَـــــــلَّدِ

     فالمقصود صفاتُ الفتوَّة عند العرب من الوفاء والمروءة والنجدة والترفُّع عن الدنايا، وليس المرحلةَ العمرية التي تجاوزها الشاعر إلى الشيخوخة إذ يقول:

وللسَّبعينَ أَدنو مِن ذُراها
               مَواجِعُها تَبـدَّى أو تَخَفَّى

     والسبعون يذكِّرنا بقصيدة (سبعون) للشاعر عبد العزيز الرفاعي رحمه الله تعالى، وهو صديقٌ حميم لشاعرنا الحكيم، ومن القلائل الذين صَفَت لهم صداقته من الناس، وقد أصفاه بقصيدة في العدد (54) الخاصِّ بالرفاعي من مجلة الأدب الإسلامي أشار فيها إلى هذه القصيدة فقال:

سبعونَ قد وَفَدَ الشِّتــاءُ يَزورُني
               والنارُ قد خَمَدَت وجَفَّ المورقُ
حَنَّت إلى عَبقِ التُّرابِ جَوانِحي
               لا غَرْوَ يَشتـــاقُ الرفيقُ الأَرفَقُ

     والسبعون الذي يتحدث عنه الشاعر الغدير يقف بنا في محطَّته الأخيرة من قصائد الحكمة، وهي (إذا متُّ) جعلها نصائحَ موجهة إلى ابنه إذ أحسَّ بدنو أجله -متَّعه الله بالصحة والعافية- على غِرار قصيدتي مالك بن الرَّيب وأبي فراس الحَمْداني في رثاء نفسَيهما، ولا شك أن التجربة الشعرية تبلغ قمَّتها صدقاً وحرارة في مثل هذا، لذلك جاء المقطع الأول من القصيدة في تصوير خطوات الدَّفن الرهيبة، ثم ينتقل الشاعر إلى توجيه نصائحه إلى ابنه الذي هو امتدادٌ له، فكأنه بذلك يريد منه أن ينالَ ما ناله، و يتدارك ما فاته من الخير، ونجد قضية الفوز والنجاة حاضرةً أيضاً، يقول الشاعر:

وعِشْ صادِقاً شَـهماً يُنقِّي فُـــــــــؤادَهُ
               ومَسعــاهُ أنَّى كانَ في الســـرِّ والعَـلَنْ
وداعِيـــــــةً للهِ يَرجـــــــــــــــو ثَوابَهُ
               ويَشكُرُ في النُّعمى ويَصبِرُ في المِحَنْ
إذن تبـــــلغَ الفَـــــوزَ العَظيمَ وتَرتَقي
               وأَفـــــرَحُ في قَبــــري لما نِلتَه إذَنْ!!

      والشطر الأخير يؤكد صدقَ الإحساس عندي بشعور الامتداد والتواصل لدى الشاعر.

     وبعد.. فهذه جولةٌ في الحياة مع الشاعر الحكيم د.حيدر الغدير في ديوانه (من يطفئ الشمس؟) الذي شبهته بالغدير في مائه وأشجاره وأزهاره، وإن شعر الحكمة فيه هو اللون الأخضر في البستان بانتشاره في كل جزء من الديوان، وإنه الوقار الذي يناسب الشاعر في هذه المرحلة العمرية وهو على أبواب السبعين!!


وقد قدَّم لنا الشاعر حِكَماً كثيرة في أسلوب حيٍّ من حركية الحياة، فجعلها حواراً، وسرداً أقرب ما يكون إلى القصة، مُحلِّقاً بصور شعرية من الخيال المجنَّح، والأداء المهموس المتَّسم برقَّة الكلمات وتناسق العبارات. ومع هذا لم يخل الديوان من بعض الحكم والنصائح التي جاءت مُباشرة على طريقة شعراء الحكمة قديماً، ولكنَّ ذلك لم يعب التجربة؛ لأن المقام تطلَّب ذلك كما في قصيدته التي يَرثي نفسه ويوصي ابنه بعنوان (إذا متُّ)، فلو لجأ الشاعر إلى الخيال والرمز في هذا الموقف لكان ذلك مأخَذاً على تجربته؛ لأن الموقف لا يتحمَّل مثل ذلك.
****

فيض الضمير - من يطفئ الشمس؟ - د.محمد أبو بكر حميد

فيض الضمير - من يطفئ الشمس؟

د. محمد أبو بكر حميد
نشرت بجريدة الجزيرة - الخميس
13/ 6/ 1428هـ - 28/ 6/ 2007م


     الشعر فيض من القلب، ودفقات شعور في لحظات صدق، ومعانٍ سامية تُقَدَّمُ على أطباق من موسيقى تطرب لها النفس وترتاح، وليس كلاماً مرصوصاً أو خطباً ومواعظ ليس فيها من الشعور والموسيقى شيء إلا أوزان الخليل.

     والشاعر الصديق د.حيدر الغدير من الشعراء الذين تطرب لشعرهم النفس وتتعلم في آنٍ واحد لأنه صاحب رسالة في الحياة يقدمها من خلال صور من الفن الرفيع، وهو بهذا الالتزام للفن والفكر يقدم نفسه نموذجاً للشاعر الإسلامي الحق الذي يوظف فنه أجمل توظيف لخدمة فكره، ولا ينسى وهو يؤدي رسالته الفكرية أنه فنان في المقام الأول، وهذا مطلب قديم في الأدب تحدث عنه أرسطو في القرن الرابع قبل الميلاد حين اشترط اقتران الإمتاع بالتعليم في الرسالة الحقيقية للفن الهادف.

     وإعجابي بشعر حيدر الغدير قديم منذ بدأت أسمعه يلقي شعره في المجالس والندوات والصالونات، وكنت أتألم لأنه لم يهتم بجمع هذا الشعر في ديوان طوال كل تلك السنين، لهذا كانت فرحتي كبيرة عندما رأيته يصدر ديوانه الأول الذي تأخر كثيراً بعنوان (مَنْ يطفئ الشمس؟!)

     ويضم مجموعة مختارة من قصائد السنوات الأخيرة التي يحتفي فيها بالأشخاص والأفكار احتفاءً فنياً لا تجد فيه تكلف النظم أو تعسف الفكر، فنجده يغرد بحب ووفاء لشخصيات مميزة في حياتنا أمثال عبدالعزيز الرفاعي، ومحمود محمد شاكر، وعبدالعزيز بن باز، وعماد الدين خليل، وأبي الحسن الندوي، وعلي الطنطاوي. وتغلب على الديوان روح الإنسان المسلم الغيور على أمته في حثها على النهوض بالوقوف على عظمة تاريخها حين يقول:

تاريخنـــا شَاهِدٌ أَنَّا ذوو صيــدٍ
               وأننا حين يربو الخطب نستعر
وأننا الغضب القـدسي متقــــداً
               عند التحدي وإذ يستعلن الخطر

     وتوقفت طويلاً مستمتعاً ومتعلماً من الروح المتطهرة في بعض القصائد التي تجمع الخشوع والجلال في مثل قوله عن ليلة القدر:

ظفرت بها وغشـاني أمان ... وقر بها ضميري والجنان
وحيتــني عوارفها اللواتي ... بســمن كأنهن الأقحـــوان

     ونجد هذه الروح المتطهرة في قصائد مثل (وأسلمت للرحمن)، و(حَبْلُ الله) التي يقول فيها:

إذا أقصيــــتني فبمن أكـون
               ومن أرجو سواك وأستعين
حيـاتي قد مضت كراً وفراً
               وأخطاء تجــــل وقد تهـون

     وفي قصيدة (بقية مُنْيَة) التي نظمها في رحاب المسجد النبوي الشريف بالمدينة المنورة يحتشد عاطفياً وروحياً ليعبر عنه حبه العظيم:

هو حب مطهـــــر لم يلوث
               بأذاة ولم يقارف حــــــراما
وهو حب أدمنته في مشيبي
               فاستباني وحين كنت غلاما

     ويدعوه هذا الحب إلى تمني الموت فيها والفوز بالدفن في البقيع:

بقية مُنْـــيَة تجول بصدري
               أن يكون البقيع فيها مقــاما
حيــنما أنطوي فيغدو ثراه
               شارة للرضا ويغدو وساما

     وفي قصيدة (يا خالقي ما أكرمك) يقف الشاعر خاشعاً متذللاً بين يدي الله يطلب عفوه ورضاه:

يـــا رب لي أمل مديد في عطائك أنشــــدك
               مـــا أعظـــمك! ما أستـــرك! ما أجـــودك!
ما ضاق عفوك بالقوي، ومَنْ تمادى أو فتك
               ممن أســـرَّ ذنــــوبه بين الأنـــــام أو هتــك

     ويختم الديوان بقصيدة هي من أروع ما قرأت في سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم.

     والديوان حديقة شعرية متعددة الشجر لا تنتقل فيه من قصيدة فُضلى إلا لأفضل؛ وشعر الشاعر د.حيدر الغدير يحتاج -روحياً وفنياً- إلى وقفة أطول تليق بما فيه من سامي الفكر والفن.

***

الأكثر مشاهدة