السبت، 21 مايو 2022

كتاب عمر أبو ريشة عاشق المجد - مبالغات وادعاءات

مبالغات وادعاءات

     إذا كان عمر أبو ريشة شاعر الإباء والكبرياء، وإذا كان ذلك شرفاً له وفضيلة، فإن من يتتبع أخباره يجد أن هذه الخاصية المحمودة، تقابلها نقيصة مذمومة وهي أن هذا الشاعر الشهير الجهير كان مولعاً بالمبالغات والادعاءات والأحكام الجزافية، وكان يحرص على حشد الغرائب والطرائف والروايات التي لا يمكن قبولها ويظهر ذلك بوضوح من المقابلات الكثيرة التي أجريت معه والتي تجعل قارئها حين يتمعن فيها ويستوعبها أسير دوامة من الدهشة والاستغراب والاستنكار والتناقض والتشويش.

     وربما كان مرد ذلك إلى أنه كان يود أن يكون ذا مجد عريض في كل شيء لا في الشعر وحده، خاصة بعد أن شاخ وأصبحت شهرته التي تنامت أوسع من شاعريته التي تناقصت فخاف أن تنسحب عنه الأضواء، وربما كان مرده إلى خياله الواسع الذي يجعله يتعامل مع بعض رؤاه وأحلامه كما لو كانت حقائق، وربما كان مرده شعوره الحاد بالتميز والتفرد ورغبته في أن يكون طريفاً ومثيراً ومدهشاً، وربما كان مرده ذلك كله وأشياء أخرى، والنفس الإنسانية عالم عجيب ربما جمع بين المتناقضات ولله في خلقه شؤون.

     رحم الله عمر لقد كان في شعره أصدق منه في أخباره، وكان له من مجده الشعري الذي ناله عن جدارة واستحقاق ما يغنيه عن ذلك كله، وهو مجد يشهد له به عدد من أعلام الأدباء والشعراء والنقاد والدارسين، مثل: شوقي ضيف، وشكري عياد، وعبد القادر القط، وجميل علوش، وحسن ظاظا، وزكي قنصل، وحسن عبد الله القرشي، وعبد القدوس أبو صالح، وحلمي محمد القاعود، وأحمد الجندي، وسامي الدهان، وسامي الكيالي، وعمر الدقاق. وقبل هؤلاء وغيرهم يشهد له به شعره الذائع الرائع.

     كان عمر أبو ريشة مدركاً لمكانته عارفاً بإعجاب الناس به، لكنه غفر الله له كان يبالغ في هذه المكانة، وكان يتسع بمداها في الشعر والأدب والثقافة والسياسة والثراء والنفود العائلي والعلاقات والصداقات كثيراً. ولذلك يجب ألا يأخذ الدارس كل ما يجيء في مقابلاته وتصريحاته مأخذ التسليم والثقة، فقد كان فيها حقائق ووقائع، وكان فيها ادعاءات ومبالغات، وكان يتحدث أحياناً عن بعض أموره كما يتمناها ويتخيلها ويريدها أن تكون، وما أصدق ما قاله عنه في هذا المجال الأستاذ حسني فريز.. وهو أحد زملاء دراسته في الجامعة الأمريكية: إنه يقص القصص عن الناس كما يريدها لا كما وقعت!

     في حواره مع نازك باسيلا نجده يروي لها الحكاية التالية:

     أذكر من أيامي في إنجلترا حادثةً كان لها الأثر البعيد فيما تعاقب من حقب عمري. كنا أربعة رفاق، وأربع رفيقات، في نزهة نتسلق الجبال في أحد الأرياف البيعدة. فجأة ــ عبر رؤيا مرت بسرعة البرق ــ لاح لي في الوادي، وراء التل المنتصب أمامنا، جسر روماني قديم وإلى جانبه خان كبير... زالت الرؤيا وأنا ما زلت أشعر بنشوة روحية عميقة... فقمت أعدو مسرعاً باتجاه المكان.

     لحق بي الرفاق، وهم غافلون بالطبع عما حدا بي إلى الاندفاع، على هذا النحو، في المسلك الوعر. لكني ظللت أعدو بمنتهى الحماسة، وهم يلهثون ورائي، حتى بلغت أعلى التل ولم تكن قدماي قد وطئتاه من قبل. وسرني أنني أدركــت ما ركضت من أجله. كالمجنون ركضـت، لقد تأكد لي، ملء عيني، أن في الوادي جسراً رومانياً هو الجسر نفسه الذي أبصرته في الرؤيا العابرة. عندئد أخبرت الرفاق بما جرى، وقد أيقنت، بما لا يقبل الشك، أن التل والوادي ليسا بغريبين علي إطلاقاً.

     كان لتلك الحادثة أثرها العميق في نفسي... ظلت بصماتها مطبوعة في أعماقي أحملها حيثما اتجهت... يوماً بعد يوم كان معناها يزداد وضوحاً في فكري، خاصة بعدما تيسر لي أن أعايش الهنود في تعاليمهم الروحية. فالروح قوة خارقة أنى لها أن تتحطم، أو أن يدركها الفناء. صورتها الخارجية وحدها تتغير وتتبدل. والكون قائم على انسجام يتواصل بين النقيضين: بين الروح والجسد.

     أما الأستاذ ياسين رفاعية فينقل عنه الحكاية التالية، وبين الحكايتين تماثل كبير مع ما بينهما من اختلاف المكان وامتداد الزمان.

     روى لنا ذات يوم ما يشبه حالة تقمص أو رؤيا. إذ دُعي مع مجموعة من سفراء العالم ومن بينهم سفراء عرب إلى زيارة أحد المعابد الهندية يقع على قمة هضبة لا يصل المرء إليها إلا على قدميه، وكان برفقته السفير المصري وقتذاك. وما أن اقترب عمر من سفح تلك القمة حتى قال لمرافقه: أظن أنني رأيت هذا المعبد قبلاً، فسأله السفير إن كان قد زاره قبل ذلك. أجابه عمــر:... هذه أول مرة أصعد فيها هذه القمة... لكنني أحس أنني أعرف كل زاية من زوايا هذا المعبد وكل قطعة فيه. فاستغرب السفير المصري هذا الكلام وقال لعمر: حدثني إذن عنه قبل أن نصعد إليه. وبدأ عمر يروي للسفير المصري ما يراه من خلال قلبه واصفاً أركان المعبد كأنه يتنقل فيه من حجرة إلى حجرة. وما أن وصل الجمع إلى المعبد حتى اكتشف المصري وعمر نفسه أن كل ما قاله في أسفل الهضبة كان صحيحاً مئة في المئة. وكما كانت دهشة عمر كبيرة أكبر من دهشة السفير المصري ــ الذي يبدو أنه لم يصدق أن عمر لم يزر المعبد من قبل ــ لأن الوصف كان مطابقاً للحقيقة... لكن الدهشـة التي عقدت لسان عمر جعلته يتساءل بينه وبــين نفسه: كيف استطاع أن يرى مــا لم يره!؟

     ويروي الدكتور جميل علوش عنه أنه ذكر في تقديمه لقصيدته «كوبا كبانا» أنه دخل غابة في البرازيل لم تطأها قدم إنسان، فوقعت عينه على حفرة، فدخل الحفرة، فشاهد قصوراً سحرية مضاءة بالثريات الرائعة، وأفاض في وصف هذه القصور، ومن وحي هذه المشاهد السحرية نظم قصيدته المذكورة مع أن التقديم الذي أثبته للقصيدة في الديوان يختلف في قليل أو كثير عن ذلك، فهل يقبل عقل أن يكون عمر هو الوحيد الذي دخل تلك الغابات، وشهد تلك القصور!؟ بل أين هي تلك الغابات والقصور!؟.

     ومن المعروف أن عمر عمل سفيراً لبلده في الولايات المتحدة الأمريكية أيام رئاسة الرئيس الأمريكي جون كيندي لها، وقد قابل بطبيعة الحال الرئيس الأمريكي، وأخذت لهما الصور التذكارية، لكن هذه المقابلة التقليدية المعتادة يرويها الشاعر كما يريد، وكما يحب ويتمنى، ولما كانت الروايات تتعدد فلا مانع أن تختلف وقائعها وتفاصيلها.

     ففي روايته للأستاذ عصام الحلبي يقول عن الرئيس الأمريكي: إنه كان محباً للأدب والأدباء، وكثيراً ما كانا يجلسان في حدائق البيت الأبيض بين الساعة الرابعة والخامسة بعد الظهر، ويتحدثان في شتى مواضيع الأدب والفلسفة، حتى إن الشاعر عرف البطريرك المعوشي إلى الرئيس كيندي الذي أعجب به أشد الإعجاب، وقال عنه: لم أتعرف إلى رجل دين مثل هذا الرجل من قبل.

     وفي روايته لنازك باسيلا نجده يقول: قابلت الرئيس الراحل جون كيندي الذي ترك في نفسي أعمق الأثر، ما إن دخلت مكتبه حتى طلب من سكرتيره الخروج ليتسنى لنا الحديث بحرية وصراحة كاملتين، وخلافاً لأصول البروتوكول المتبعة في كل الدول، استغرقت تلك المقابلة التي قدمت فيها أوراق اعتمادي أربعين دقيقة فطلعت الصحف الأمريكية في اليوم التالي تتصدر صفحاتها الأولى عناوين ضخمة تقول: السفير السوري يجعل الرئيس كنيدي يرقص الروك أندرول.

     أما رواية الأستاذ عبد الله يوركي حلاق وهو محب لعمر ومعجب بـه وهو أيضاً من مدينته حلب، ولابد أنه استقاها منه فتقول: كان البروتوكول يقضي بأن يجري الاحتفال خلال ربع ساعة، وكان من مقتضيات هذا البروتوكول أن يقرأ الرئيس سؤالاً في ورقة مكتوبة، ويرد عليه السفير بورقة مكتوبة، ولما وصل الرئيس في سؤاله إلى موضوع دقيق وحساس طرح عمر أبو ريشة الورقة التي تحمل الأجوبة، وقال للرئيس آية من الإنجيل تنطوي على هذا المعنى: في المذبح لا يذكر إلا اسم الله، فذهل كيندي وهو كما عرف عنه كاثوليكي المذهب يمارس طقوس مذهبه بدقة، وألقى الورقة التي تحمل الأسئلة، وقال لعمر: بلغني أنك شاعر فهل يمكنك أن تقرأ لي بعض شعرك؟ وبدأ الشاعر يتدفق كالسيل وهو يلقي بعض قصائده باللغة الإنجليزية، فطرب كيندي وسأل المزيد، ومضت المدة البروتوكولية ففتح المرافق العسكري الباب ليصحب السفير في أثناء خروجه من غرفة الرئيس، فقال له كيندي: دعنا في خلوتنا، فنظر إليه المرافق وكان برتبة لواء وهو يهمس بكلمة «البروتوكول» فعاد كيندي يقول: قلت لك: دعنا، واستطاب الجلوس للاستماع إلى شعر عمر، وكان الجنرال يفتح الباب بين فترة وأخرى مما حدا كيندي إلى أن يقول: ألغوا جميع المواعيد، لن أستقبل أحداً حتى إشعار آخر، وهكذا أمضى الرئيس كيندي ثلاث ساعات وهو يصغي إلــى العبقرية الفذة التي جعلته يصم أذنيه عن صوت البروتوكــول، والتقطت كبريات الصحف الأمريكية لعمر أبو ريشة صوراً نشرت في الصفحات الأولى، وتحتها هذا النص: السفير العربي الذي جعل الرئيس كيندي يرقص الروك أندرول على رجل واحدة.

     ومن الواضح أن هذه القصص والروايات لا أصل لها، أو أن لها أصلاً معقولاً، عمل خيال عمر على الإضافة إليه كما يشاء، وقصة الجسر الروماني الذي إلى جانبه خان كبير في الريف البريطاني، وقصة المعبد الهندي الذي وصفه للسفير المصري في هضبة عالية في الهند، توحيان إلى السامع بأن لدى عمر قدرة روحية غير عادية تجعله يرى ما لا يراه الآخرون، ولعل هذا هو ما كان يرمي إليه.

     وقصة الحفرة التي دخلها في غابة في البرازيل لم تطأها قدم إنسان كما يقول عمر، قصة متداعية ترد نفسها بنفسها، وربما كانت نوعاً من الوهم الذي لا يلبث صاحبه أن يصدقه.

     أما قصة عمر مع الرئيس الأمريكي فلها أصل بطبيعة الحال ذلك أن السفير يقدم أوراق اعتماده إلى الرئيس، ويجلس معه قليلاً، وربما دار حوار يدخل في باب من أبواب السياسة أو المجاملة، لكن عمر أضاف إلى هذا الأصل ما شاء من خيالات في الوقت والتفاصيل والنتائج، رغبة منه في إعلاء قيمته سياسياً وشاعراً ومحاوراً.

     وتحمل المبالغة عمر على الادعاء بأن عمله الوطني كاد يودي بحياته مرتين، فيخبرنا أن الفرنسيين حكموا عليه بالإعدام لكنه نجا من ذلك بفضل وساطة سعيد حيدر الذي استعمل شعبية عمر الواسعة وحب الجماهير له ورقة رابحة في هذه الوساطة. وإذا كان عمر يرد سبب نجاته من الإعدام إلى وساطة سعيد حيدر في هذه المرة، فإنه يردها في المرة الأخرى إلى شعره حيث يخبرنا أن الفرنسيين سجنوه، وأن الحارس قال له: نحن نبحث عن مكان مناسب نعلق فيه مشنقتك، ليتك بأكثر من روح واحدة كي نشنقك أكثر من مرة واحدة!. وحين يعيد الحارس إلى عمر حريته فيما بعد يقول له: يطيب لي أن أطلعك على سر يخفى إلا على عدد من المقربين، لا أبالغ إذا قلت لك: إن شعرك أنقذك من الإعدام، رئيسي ممن يهوون الشعر إلى حد الهوس، وقد قرأ بعض قصائدك مترجمة إلى الفرنسية، وخلص إلى أن شاباً في مثل مواهبك لابد له من العــودة إلى الصواب عاجلاً أم آجلاً، ثم فتح الجندي حقيبته وقدم لــه نسخة من ديـــوان بودلير «أزاهير الشر» هدية من رئيسه.

     وإذا أمكـن قبول الرواية الأولى فإن الثانية ترد نفسها بنفسها، فحكم الإعدام ينقله الحـارس، والعفـو ينقله الحارس نفسه، والأمــر يدور بين الشاعر والحارس وحدهما، وسبب العفو أن قصائد مترجمة إلـى الفرنسيـة وقعت في يد مهووس بحـب الشعر فعفا عـن عمـر!!.

     وعلى ما يرويه لنا عمر نعرف أنه لم يكن الوحيد من أسرته الذي حكم عليه بالإعدام، ذلك أنه من أسرة عريقة في الوطنية والسياسة وتحدي الظلم والاستعمار، لذلك حكم بالإعدام على جده لأبيه، وعلى جده لأمه، وعلى أبيه شافع أيضاً كما حكم عليه هو أيضاً، ويلاحظ الدكتور جميل علوش أن هذه الأحكام كلها ألغيت أو استبدلت أو خففت بقدرة قادر، وهي ملاحظة ذكية تجمع بين السخرية والتشكيك.

     وكما كان عمر يبالغ في كل ما يتصل به، كان يبالغ فيما يتصل بنسبه أماً وأباً وعمومة وخؤولة وعشيرة، وكان مولعاً بالحديث عن عراقة نسبه، وقد أشار إلى ذلك في مطلع إحدى قصائده فقال مفتخراً بنسبه:

عاتبتَه ونسيـــتَ طيب نجاره     وأبيتَ أن تصغي إلى أعذاره

        وأحاديث عمر في هذا الجانب تترك انطباعاً لدى الإنسان بأن التمرد على العثمانيين من قبل، وعلى الفرنسيين والحكم الوطني من بعد؛ إرث أصيل في هذا النسب امتد عدة قرون، وأن هذا التمرد مرده إلى ما في هذا النسب من عزة ووطنية وبطولة، لذلك فعمر في تمرده وعزته ووطنيته وبطولته إنما هو امتداد طبيعي لمن سبقه، وهو فرع من دوحة غير عادية يصون فضائلها، ويرعى حرمتها، ويكمل مسيرتها.

     وطالما تحدث عمر وأفاض، عن العشيرة، وعن الأب والأم والإخوة، وعن جديه لأمه وأبيــه، وعن صوفية هذا، وفروسية ذاك، بحيث يفهم الإنسان أنه النتاج الكريم لهذا المزيج المتفوق من الفرسان والزهاد والعلماء والأعيان. والكلام في هذا الأمر واسع متشعب حسبك منه وصفه لوالدته بأنها مكتبة ثمينة تمشي على قدمين، وأحكام الإعدام الكثيرة التي لم ينفذ واحد منها، والأراضي الشاسعة التي تمتلكها أسرته، وأنه عاش عمره منفياً مشرداً عن سورية.

     وبالفعل كانت لعمر أبو ريشة مكانة مقررة، لكنه كان يبالغ في ذلك كثيراً، وكانت تملكه رغبة حادة للتهويل والتزيد في كل ما يتصل به، ولذلك قرر الدكتور جميل علوش أن حديث الشاعر عن أجداده ومآثرهم صار سبباً للتندر والسخرية.

     وهنا نعود إلى صديقه وزميله حسني فريز من جديد لننقل عنه قوله: إن عمر شديد النهم إلى تضخيم شخصيته عن أي طريق.

     وحكاية عمر مع اللغات غير العربية تستحق وقفة فيها أناة، فهو يقرر مرة أنه حرص على معرفتها لأنها تمكنه من سبر نفسيات الشعوب الأخرى، ويقرر مرة أخرى أنه تعلمها لأنه يرفض قراءة الشعر مترجماً ويصر على قراءته بلغته الأصلية، ويقرر مرة ثالثة بأنه اطلع على أعمال الشعراء والأدباء الأمريكيين والأوربيين وبلغاتهــم الأصلية، فجمع الأدب والشعر وأوروبا وأمريكا فــي جعبته دفعة واحدة، وسنرى أن هذه الجعبة سوف تتسع لمزيد من اللغات والآداب والثقافــات.

     ومن الطريف اللافت للنظر أن عدد اللغات التي استوعبتها جعبته كان يختلف من رواية إلى أخرى.

     يقول عمر في واحدة من المقابلات التي أجريت معه أواخر عمره: تعرفت على أناس كثيرين وأدباء كثيرين، وكل بلد أكون فيه أتعلم لغته، لأنني كنت مرة أقرأ «فاوست» باللغة الإنجليزية، وفاجأتني الدراسة عنه لدرجة أني تساءلت: ليس من المعقول أن يكون كاتب كبير كـ«غوته» سخيفاً كما بدا من الترجمة التي بدت لي فضيحة، فقررت أن أتعلم اللغة الألمانية لأقرأ غوته وغيره من الأدباء والمفكرين باللغة الأم، ووجدت فرقاً كبيراً بين الترجمة والكتب الأصليـــة.

     وقال في المقابلة نفسها: تعلمت الإسبانية لأقرأ فيدير كو جارسيا لوركا، وألبرتو لا أورفيرا، ولا فودي لاغـــو، وذكر أنه كان في الثلاثينيات من عمره حين تعلم هاتين اللغتين.

     وفي مقابلة أخرى نجده يقول: أنا مولع باللغات لأنها تمكنني من سبر أغوار نفسيات الشعوب الأخرى، لذا أتقن ثماني لغات هي: الإنجليزية والفرنسية والإسبانية والتركية والألمانية والإيطالية والعربية والروسية، أحاضر بأربع منها، وأكتب الشعر باثنتين، لي دواوين شعرية باللغة الإنجليزية، وكتاب نثري من جزأين تحت عنوان «السفير الجوال».

     ويضيف أحياناً إلى اللغات الثماني كلاً من البرتغالية والأوردية والهندية، بل إنه يذكر أنه خلال مقامه في الهند تعلم معظم لهجات شبه القارة الهندية.

     إن ما يقوله عمر من أنه تعلم هذه اللغات الكثيرة حتى يستطيع أن يسبر نفوس الشعوب التي تتكلمها، ويقــرأ الشعر بلغاتـه الأصلية لأن الترجمة ربما شوهت النص، أمر لا يمكن قبولــه، ذلك أن الإنسان ربما يسهل عليه تعلم لغة ما ولكن يصعب عليه أن يتقنها، وأصعب من الإتقان أن يحيط بأسرار اللغة ويتذوقها بحيث يستطيع معرفة الخصائص النفسية للشعوب من خلال لغاتها ومعرفة المزايا الفنية للشعراء من خلال لغاتهم. ثم من أين يأتي عمر بالوقت والجهد اللازمين لإتقان هذه اللغات الكثيرة!؟ وكيف تأتى له أن يتعلم معظم لهجات شبه القارة الهندية وهي كثيرة جداً!؟ ولو قمنا بعملية حسابية يسيرة نجمع فيها عدد اللغات التي يدعي أنه أتقنها واللهجات التي يزعم أنه تعلمها لوجدنا أنفسنا أمام عدد هائل من اللغات واللهجات لا يمكن للعقل إلا أن يحكم إزاءه بالاستحالة.

     ولعل اللغة الوحيدة التي أتقنها عمر هي اللغة الإنجليزية لأنه تعلمها في طفولته في عكا، ثم في الجامعة الأمريكية في بيروت، ثم خلال مقامه في مانشستر، تليها بدرجة أقل اللغة الفرنسية، أما باقي اللغات واللهجات فحظه منها يسير أو ضئيل، وربما كان يعرف شيئاً من لغة الحديث أو بعض المفردات الشائعة لا أكثر ولا أقل، مثله مثل بعض المطوفين.

     والمطوفون أناس من أهل مكة المكرمة، عملهم هو تلقي الحجاج وإسكانهم وتيسير أمر حجهم وتسفيرهم وما إلى ذلك، ومع الزمن يتعلم هؤلاء المطوفون شيئاً يسيراً جداً من لغات هؤلاء الحجاج يتعلق بحدود التعامل معهم، فترى المطوف من هؤلاء يتكلم مع حاج إندونيسي أو هندي أو إيراني أو تركي، كل بلغته، بحيث يحصل التفاهم المطلوب، ترى هل لأحد منهم أن يزعم أنه عرف أو سبر أو أتقن هذه اللغات!؟ الجواب بالطبع: لا، إنما هي كلمات وجمل قليلة، ولعلها عامية من كل لغة يتفاهم بها مع الحاج في أمور ضيقة محدودة لا صلة لها بالثقافة قط.

     ويروي لنا عمر فيما يرويه أنه كان يحاضر هنا وهناك، وليته ترك نصوص هذه المحاضرات لتطمئن قلوبنا من ناحية، ولنستفيد منها من ناحية. ولكنه كان يتحدث كما يود، وربما كان لموضوع حديثه أصل صغير أو كبير، وربما لم يكن له شيء.

     يروي لنا عمر أنه دعي مرة ليتحدث في تكريم الشاعر روبرت واسنرز، وهو من أبرز الشعراء الأمريكيين فيقول: ألقيت محاضرة مهمة كان لها صدى واسع في شيكاجو، واستشهدت بمقاطع من شعره، وقارنت بمقاطع من شعري، وقد أدهشني أن بعض الجمهور وخلال تكريم الشاعر الكبير كان يصفر كثيراً، فبدا لي ذلك نوعاً من الوقاحة في حفلة تكريم، ثم عرفت أنهم جماعة من المناوئين للعرب والمؤيدين للصهيونية، وهدفهم تشويه الحفل والإساءة إلي، وقد كلفتني هذه العملية معاش ثلاثة أشهر، ولم يمنعني هذا ولا غيره عن متابعة اطلاعي واهتمامي بشعراء أوروبا وأمريكا وأدبائهما، وكان يسعدني دائماً ما أسمعه من هؤلاء حين نلتقي ويقولون: هذا شاعر من الشرق يأتي وفي جعبته الشعرية كل سحر الشرق.

     كما يروي أنه ألقى ثماني محاضرات عن شواعر العرب في الجاهلية في الجامعة الأمريكية في بيروت، وذكر واحدة منهن هي عشرقة المحاربية وقال عنها: أتحدى شواعر الغرب أمامها، هي من العصر الجاهلي، صار عمرها ثمانين عاماً عندما شاهدت صبايا الحي فقالت:

لقد ركب[1] العشاق في حلبة الهوى     وجزتـــهم سبقاً وكنت علــى مهـــلي
فمـــا لبس العشاق من حلل الهــــوى     وما خـلعــــوا إلا الثيــاب التي أبـلـي
ولا شربوا كـأسـاً من الحـب حلــــوة     ولا مـــرة إلا وشـــــــربهـم فضــلي

     ائت لي بمدام دي ستايل أو سواها لتقول ما قالته عشرقة المحاربية هذه.

     وعلى ذكر عشرقة المحاربية هذه وسواها من شواعر العرب يروي لنا عمر أن عنده معلومات عن ثلاث وستين شاعرة عربية استقاها من المخطوطات العربية التي رآها في الهند، وأن هؤلاء الشواعر لم يسمع بهن أحد من العرب، لأنهم يسمعون عن الخنساء وغيرها ممن كانت لهن صلات مع الخلفاء والملوك.

     كما يروي أنه ألقى محاضرة عن المعاول الهدامة التي تحطم في قيمنا الجمالية حتى تتركنا في ضياع، ثم يتساءل: ما الغاية من هذا الشعر السخيف التافه الحقير؟ ويجيب: هي أن يتركوا الفرد العربي في حالة ضياع، وكله تخطيط صهيوني.

     بل إنه يروي لنا أنه كان يلقي المحاضرات في مختلف بقاع العالم وبلغات تلك البقاع حول الحضارة العربية والشعر العربي وظاهرة الشعر الحديث!

     ولما كان مجد عمر الشعري أكبر ما حصل عليه في حياته، كان حظ هذا الشعر وما يتصل به بشكل أو بآخــر من المبالغة أكبر من حظوظ سواه، من حيث المكانة، ومن حيث الإنتاج، ومن حيث سعة الاطلاع، ومن حيث رأيه في الآخرين، ومن حيث الجوائز التي حصل عليها، وما إلى ذلك.

     كان عمر يرى أنه شاعر العرب الأول قديماً وحديثاً، تحدث عنه الأستاذ نجدة فتحي صفوة، وكان محباً له، فقال: وكان رضي الطبع، ولكنه كان مدركاً تماماً مكانته في العالم الأدبي يتحدث عنها إذا جدت مناسبة كأمر مفروغ منه وحقيقة معروفة للجميع، ولا يتحرج عن أن يروي لك أن فلاناً وصفه خلال حديث معه بأنه شاعر العرب الأكبر أو خاطبه بهذا اللقب، وكان يروي ذلك دون أن يبدو عليه أي مظهر من مظاهر الحرج أو الكبرياء لأنه كان مؤمناً بــه.

     كما تحدث عنه الأستاذ أكرم زعيتر، وهو صديق قديم له، حديثاً يؤيد في مؤداه الرواية السابقة، مع إضافة نجده فيها ينتقص كلاً من البحتري والمتنبي، فقال: في بيروت، أيام كانت سماء في ديار العرب، زرنا معاً الأديبة النابغة سلمى الحفار الكزبري، وحدث أن أقبل علينا الأستاذ ناظم القدسي، رئيس الجمهورية السابق، وهو أديب ذواقة، فكان لقاؤنا مناسبة أدبية موفقة. وفي أثناء الحديث أعرب عن إعجابه بالبحتري، ولوحظ أن عمر قد استخف بسيرته وأنكر عليه عبقريته، فسأله الرئيس القدسي: وما تقول في المتنبي؟ وهو في اجتهادنا أشعر شعراء العربية. فبدا من عمر ما يشبه الاستخفاف بأبي الطيب، فسأله القدسي: ومن هو الشاعر إذن؟ فأجابه عمر: أنا هو! وعددنا هذا الجواب طرفة مرتجلة تنم على اعتداد عمر اعتداداً بالغاً بنفسه وشعره. ورحنا نستنشد عمر بعض شعره مترنحين، وقد شام دهشتنا أن يكون في الدنيا شاعر عربي ينتقص المتنبي، على أن عمر قال: ألا يكفي المتنبي شدوه في إحدى قصائده:

نحن أدرى وقد سألنا بنجد     أطويل طريقنا أم يطول!؟
وكثير من السؤال اشتـياق     وكثـــير مـــــن رده تعليل

     ومبالغة عمر في مكانته الشعرية تحمله على الادعاء بأن عنده من الشعر الغنائي والملحمي والمسرحي، الشيء الكثير، وربما تحدث عن ذلك إذا سئل عن موعد نشره بطريقة توحي بأن الظروف لا تسمح بهذا النشر، وأن أحفاده أو أحفاد أحفاده سيتولون أمرها ذات يوم.

     وأول ما ينبغي التنبيه عليه في ذلك ملحمته الموعودة عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم التي بدأ يعد بها منذ عام 1941م، أي قبل وفاته بنصف قرن، وطالما تحدث عنها، وعن آلاف الأبيات التي أنجزها منها، والآلاف الأخرى التي سينجزها قبل طبعها. وفي حفل الأستاذ محمد عبد المقصود خوجه الذي أقامه لتكريمه قبل وفاته بسنوات قلائل في جدة، سئل عن هذه الملحمة وعما إذا كان هناك أمل في طباعتها!؟ فقرر أنها جاهزة للطبع، ثم عقب على ذلك بأن هناك ملاحم أخرى أشار إليها، سيتركها لأولاده ليطبعوها في المستقبل!

     وكان عمر على علاقة طيبة بالملك عبد الله بن الحسين، وقد زاره في عمان مرات عديدة، وذات مرة أخبره أنه نظم ملحمة في الثورة العربية الكبرى، فسر الملك عبد الله كثيراً لأنه كان شاعراً من ناحية، ولأن الملحمة تتحدث عن الثورة التي قام بها أبوه الشريف حسين وأولاده ضد العثمانيين في الحرب العالمية الأولى من ناحية، وأخذ يطالب عمر بإحضارها، وكان عمر يكرر الوعد ويكرر الاعتذار، حتى بدت على الملك علامات الضيق والكراهية، فاعتذر عمر بأبيات ارتجلها أنقذته من المأزق الذي أوقع نفسه فيه:

سيد العرب ما جفاني خيـــــال     أنــــت أطلعتني علـــى أبكاره
خانني الحظ مرتــــين فلـم أحـ     ـمل إلى سيدي ظــلال فخـاره
إن عقداً نظمته مــن سجايـــــا     ك ترف العليـــــاء في تذكاره
لك منه ما تنتقي ولجيـــــد النـ     ـنجم ما تستحــق من أحجــاره

     وفي واحد من ادعاءاته يقول عمر: أعطيت مرسوماً لم يتمتع به في الشرق أحد، أعطيت أكبر شهادة عالمية في الشعر، لم تعط إلا لكبار رجال الفكر وأعطيت لي، لجنة مؤسسة من زمان، عالمية، لا دخل لها في السياسة، لا تفكر إلا في القيم الفكرية، الهيئة المستديرة للجامعات العالمية مقرها فـــي أمريكا، ولها فـــروع عـــدة، وهي مكونـــة من كبار العلمــاء في العالـــم، وهذه الجائزة لا تعطى إلا للأدباء المبدعين الذين يبتكرون أشياء جديدة، ولم تعط في الشرق إلا لي، هذه الجائزة غيرت لي فكرين وجعلتني أعود إلى الكتابة. وبعد أن ينتشي الشاعر بهذا الادعاء، ويتوهم أننا انتشينا مثله انتشاء يحملنا على تصديقه، يخبرنا أن هذا التقدير المتميز حمله على العمل في جمع أشعاره التي كان قد قرر ألا ينشرها أبداً، لأن أحفاد أحفاده قد يهتمون بها في المستقبل، وأنه اجتمع لديه منها خمسة مجلدات تقريباً وباللغتين الإنجليزية والعربية.

     وتخبرنا أحاديث عمر أن الأكاديمية العالمية أصدرت دراسة عن شعره الذي تضمنه ديوانه «السفير الجوال» وهو باللغة الإنجيلزية، وأن لهذه الأكاديمية ودراساتها قيمة خاصة تكمن في أن القائمين عليها انفصلوا عن منظمي جائزة نوبل بعد أن أصبحت تتدخل في منح جوائزها الأهواء السياسية، وصارت تعطى للأميين حسب رأيهم، وأنهم أنشؤوا جائزة عالمية كبرى خصصوها للأدب والفكر فقط، وأن هذه الجائزة منحت له.

     وإذا كان هناك فرق واضح بين الروايتين السابقتين عن الجائزة العالمية الممنوحة له؛ فإن هناك فرقاً آخر مع رواية أخرى له تقول: إن المستشرقين التفتوا إلى شعره وكتبوا عنه وأعطوه تلك الجائزة الكبرى التي لم تعط لأي عربي من قبل، وأنها أعطيت فقط لطاغور سنة 1905م، وله سنة 1985م.

     كما تخبرنا هذه الأحاديث أنه منح سبع عشرة درجة دكتوراه، وأن هناك عدداً مماثلاً من الرسائل العلمية كتب عنه باللغات الأجنبية.

     وأغرب من هذا وأبعد ما رواه الدكتور جميل علوش عنه من أنه قال ذات مرة: إنه عضو في جمعية أدبية ليس فيها سواه، فلما سئل عن ذلك قال: كان يشاركني في هذه العضوية طاغور شاعر الهند، وقد توفي فبقيت وحدي. ويعقب الدكتور علوش على ذلك قائلاً: ولو كان عمر جاداً لذكر اسم هذه الجمعية ومكانها وتاريخ تأسيسها وأهدافها، ولكنه لم يذكر شيئاً من هذا القبيـــل.

     أما في المسرحيات فطالما أعلن عمر عن مسرحية له بعنوان «سمير أميس» وقال: إنه بدأ بها عام 1943م، وانتهى منها عام 1958م، وأكد أنها تتكون من ألف وأربع مئة بيت صب فيها كل قدراته الفنية، وأنه نظمها ست مرات ومزقها خمس مرات قبل أن تستقر على السادسة، وبذلك جاءت أسلوباً جديداً في العرض، وتفكيراً جديداً، وأجواء جديدة في دنيا المسرحيات،. وهنا يفرض السؤال نفسه: لماذا لم ينشر الشاعر هذه المسرحية مع اعتزازه بها وإنجازها قبل اثنتين وثلاثين سنة من وفاته؟ ويبدو أن الفصل الذي نشره الشاعر من هذه المسرحية عام 1944م في مجلة الحديث الحلبية هو ما أنجزه منها بالفعل. وإذا كان لهذه المسرحية أصل يزيد عليه خيال الشاعر ما يشاء فإن ثمة أسمـاء لمسرحيات أعلن عنها وعاود الإعلان ولم ينشر منها شيء، وهــي «تاج محل» و«علي» و«الحسين».

     وكان عمر يبالغ في مكانته الشعرية مبالغة كبيرة بحيث يبدو شاعراً متفرداً لا يشبه الناس ولا يشبهه الناس قط، أما تفرده فهو حقيقة مقررة شهد بها كما مر بنا من قبل أعلام النقاد والشعراء المعاصرين فضلاً عن شعره، أما المبالغة فإنها تحمله على أن يقرر أن له مذهباً خاصاً في الشعر مختلفاً عن مذاهـب شعراء الشرق والغرب، وأنه يختلف عن كافة شعراء العالــم، وأن شعره يختلف عن كافة المدارس والمذاهب القديمة والحديثة. وحين تحدث عن الأخطل الصغير -وكان صديقاً له- نفى أن يكون من مذهبه الشعري، وقال بشيء من التواضع: إن لكل شاعر مذهبه الخاص، لكنه لم يلبث أن فاجأنا بعد ذلك بهذه الدعوى العريضة يقولها لمن يحاوره: أنا أعطيك فكرة لم يقلها أحد قبلي، وكل شعري هكذا.

     وهذا الشعور الحاد بالرغبة في التفرد تحمل عمر على دعوى عريضة أخرى يقول فيها: وكانت فلسفتي في الشعر الذي ولد معي مبكراً ونما وشب، انعكاساً لعشقي للغة العربية التي أتعامل معها بأسلوب يختلف عن أساليب كل شعراء عصري، وربما شعراء العصور الأخرى.

     ومبالغة عمر في مكانته الشعرية تؤدي به إلى انتقاص الآخرين أيضاً، وتقوده إلى أحكام جزافية جائرة، فيقول لك مثلاً: إن للبحتري بيتاً واحداً فقط هو:

يغتلي فيهـــم ارتيابي حتى     تتقراهــم يــــــــداي بلمس

وإن لشوقي بيتاً واحداً فقط هو:

انحسار الشفاه عــــــن سن جذلا     ن وراء الكرى إلى سن نـــــادم

     ويحمله هذا الانتقاص على أن يقلل من قيمة كبار شعراء العربية، فيتهم البحتري بأنه شاعر متسول، ويصف أبا تمام بأنه شاعر تركيبات، ويقرر أن المتنبي له أبيات، أما شوقي فيصفه بأنه قد مات، ولا يتردد في انتقاص بدوي الجبل ونزار قباني. ومثل هذا الموقف من عمر إزاء شعراء أعلام لا يمكن قبوله بحال لا نقدياً ولا فنياً ولا أخلاقياً في قليل أو كثير، وهو أمر ترده أيسر المسلمات الأدبية التي يحيط بها شداة الأدب فضلاً عن علمائه وأعلامه، واللافت للنظر أن عمر مجد في شعره عدداً من الشعراء الذين انتقدهم كالمتنبي وشوقي، وآخرين ممن لم ينتقدهم كحافظ إبراهيم والصافي النجفي والأخطل الصغير.

     ويبدو أن غيظ عمر من أعلام الشعراء حمله على أن يخبرنا أن عنده معلومات عن حوالي مئة وخمسين أو مئة وستين شاعراً عربياً لم يسمع بهم أحد، لأن الناس يسمعون بالمتنبي والبحتري وأبي تمام الذين عرفوا لأنهم تقربوا من الأمراء والوزراء فكتب عنهم وفرض شعرهم خلافاً لأولئك المجهولين الذين أبوا أن يمسحوا جباههم على أعتاب الملوك والأمراء، ثم تتسع أبعاد المبالغة عند عمر فتجعله يقول: الشيء الذي عندي عن التراث العربي قوي جداً وغير موجود عند أحد.

     ليت عمر وضع ما لديه من معلومات عن هؤلاء الشعراء المجهولين والشواعر المجهولات اللواتي تحدث عنهن أيضاً، بين يدي الباحثين لتتحقق الثقة بقوله من ناحية، وليكسب الأدب العربي ثروة جديدة مجهولة من ناحية أخرى، خاصة أن العدد الإجمالي لهم ولهن يزيد على مئتين وثلاثة عشر شاعراً وشاعرة.

     ولعل دافع عمر ــ من حيث يدري أو لا يدري ــ إلى مثل هذا القول هو الرغبة في أن يؤكد تفوقه على أعـلام الشعراء بحجـة اطلاعه على مواد شعرية ثمينة لم يتح لهم أن يطلعوا عليها.

     ولقد كانت صلة عمر باللغة العربية موضع جدل بين النقاد والدارسين، بين منتقد لها ومشيد بها، وليس هذا مجال مناقشة هذا الموضوع، حيث الحديث هنا عن الغرائب والعجائب والادعاءات. لقد عرف عمر بالتمرد على المقررات الدراسية في اللغة العربية نحواً وبلاغة منذ صغره، لكنه حين يتحدث عن حبه للعربية يورد لنا أخباراً غريبة هو بطلها وهو الشاهد فيها، ومنها حكايته مع الشيخ عبد الغفار أيام دراسته في بريطانيا التي يقول فيها: إنني ما درست الأدب واللغة العربية، ولم أتعلم عظمتها وقيمتها إلا في الخارج مع الأسف، وتستغرب كيف؟ كان هناك من كتب مقالاً وأنا كنت تلميذاً بعد، ورددت عليه، فأتاني من إمام جامع ووكنج في لندن الشيخ عبد الغفار مندوب يطلب التعرف علي، فذهبت إليه، وعندما دخل الإمام وأنا جالس في الصالون ــ وكان هناك اثنان آخران ــ لاحظت أنه فوجىء بي، إذ ربما تصور أن يرى أمامه رجلاً كبيراً في السن، ثم إذا بــه أمام شاب في مقتبل العمر، سألني عن المقال، ورأيي في الكتابة، وفي اللغة العربية، وكنت أرد على أسئلته بأسلوبي الخاص، وبما أملكه من اللغة، وبأفكاري المقتنع بها، وطال الحديث وتشعب، وبدا لي يتحدث عن اللغة العربية بدهشة ومحبة وكان أسلوبه رائعاً، واستبنت من الحديث أن الشيخ عبد الغفار قد أعجبه ما أقول، وفهمت أنه يحضني على الاستزادة من العلم والمعرفة، والتعمق في اللغة العربية، والنهل من معينها الثر، والإبحار في مداها اللانهائي. وفعلاً كان ذلك ما فعلت، وجعلت همي أن أتعلم وأتعلم وأستزيد من هذا البحر وأنا في الخارج حيث اكتشفت عظمة اللغة العربية.

     ومنها أنه يشيد بكتاب للمستشرق نيكلسون يسميه «اللغة العربية أم اللغات»، ويقرر أنه أجدر المستشرقين بالتحدث عن اللغة العربية، وأنه يذهب في كتابه هذا إلى أقوال تدعونا إلى الاعتزاز من جهة، وتضعنا أمام مسؤوليات جسام في التعامل مع لغتنا الأم من جهة أخرى. ومنها أنه يشيد بكتاب يصفه بأنه «دراسة نادرة» قد تكون الأولى من نوعها تتحدث عن تأثير لغة الضاد على سائر اللغات الأجنبية، من تأليف أبي الغوش.

     ومنها أنه اطلع على مخطوطات عربية كثيرة في أثناء سفارته في الهند، وكشف فيها عن ثلاث وستين شاعرة، ومئة وخمسين أو مئة وستين شاعراً، لم يسمع بهم أحد لأنهم لم يتقربوا إلى الأمراء والوزراء، وأن هذه المخطوطات تعد بعشرات الألوف. ويروي عمر أنه تحدث مع الزعيم الهندي نهرو بذلك فأمر بحفظ هذه المخطوطات. واطلاع عمر على هذه المخطوطات واصطفاؤه هذا العدد الكبير من كبار الشعراء والشواعر منها يؤدي بلغته العربية ــ لو حدث فعلاً ــ إلى زيادة سيطرته على أدواته اللغوية.

     إن ما رواه عمر عن هذه المصادر اللغوية التي لم يعرفها سواه، من شأنه أن يحمل سامعه على الاعتقاد بأن لديه معرفة لغوية خاصة حصل عليها من مصادر لم يصل إليها الآخرون، مما جعله متفرداً بينهم ومتفوقاً عليهم، وهو ما يريد أن يلقيه في روع سامعه. أما الشيخ عبد الغفار والسيد أبو الغوش وكتاب نيكلسون والشعر المبثوث في المخطوطات الكثيرة في الهند فحقيقة أمرها عند عمر، وعند عمر وحده.

     ويسترسل عمر كما يحلو له وهو يتحدث عن ثقافته الواسعة في الميادين المختلفة لا في الشعر وحده، وهو حين يتحدث عن ذلك يلقي أحكاماً جزافية، ويقع في التعميمات غير المسؤولة، ويضعنا أمام مبالغات لا يمكن قبولها. يروي لنا أنه عرف فلاسفة غربيين كباراً لكنه لم يلبث أن وجدهم سطحيين أمام فلاسفة الهند. يقول: عاصرت نقاداً أجانب كثراً وأغلبهم التقيتهم في الهند التي أعتبرها نقطة الضعف الجمالية عندي، فكم رأيت وزرت بلاداً وعرفت أماكن، لكن الهند تبقى الأجمل والأعظم، وكم عرفت فلاسفة غربيين كباراً، وعندما اطلعت على الثقافة والفكر في الهند وجدت هؤلاء سطحيين أمام العمالقة من فلاسفة الهند، واكتشفت أنهم أخذوا أو سرقوا من الفلسفة الهندية، ووضعوا مدارسهم التي اعتبرت أساس الثقافة العالمية مثل ويدي، وديكارت، وغيرهما.

     ولنأخذ مثلاً نهرو، فقد فرضت السياسة عليه فرضاً لأنه فيلسوف عملاق، وكريشنا أيضاً من عباقرة زماننا وفلاسفتهم، أما طاغور فيعتبر ثانوياً بالنسبة لهؤلاء وغيرهم من عمالقة الفكر الفلسفي العالمي، وقد توسعت كثيراً في دراسة الفكر والفلسفة في الهند، وأنا أحافظ على زيارتها فــي كل عام لأن ما يربطني بها عميق جداً، وإعجابي بطبيعتها كبير وخاصة جبال الهملايــا.

     هكذا استبان لنا عمر أبو ريشة.

     إنه لا يجد حرجاً في أن يقول لنا: إنه كثيراً ما كان يجلس في حدائق البيت الأبيض بين الساعة الرابعة والخامسة بعد الظهر مع الرئيس الأمريكي كيندي وهما يتحدثان في شتى موضوعات الأدب والفلسفة! كما لا يجد حرجاً في أن يقرر أنه اطلع على أعمال الشعراء والأدباء وبلغاتهم الأصلية! ولما كانت اللغة مفتاح الثقافة فإن عمر يقرر بدون حرج أو تحفظ أنه كان يتعلم لغة كل بلد يحل فيه خاصة أن لغة الناس تساعده على سبر أغوار نفسياتهم! ولما كان عمر محباً لأمته وحضارتها وشعرها فإنه كان يلقي المحاضرات عن ذلك كله في مختلف بقاع العالم! وبلغات تلك البقاع! كما أن حبه للتراث العربي يجعله يقرر أن عنده عن هذا التراث ما لا يوجد عند أحد آخر! ولما كان عمر علماً في الشعر والثقافة والفلسفة فإنه منح سبع عشرة درجة دكتوراه فخرية! وكتب عنه باللغات الأجنبية عدد مماثل من الرسائل العلمية! كما أنه الشرقي الوحيد الذي منح أكبر جائزة عالمية في الشعر!.

     إن هذه المبالغات والادعاءات والأحكام غير المسؤولة من شأنها أن تضفي على صاحبها هالة ثقافية كبيرة تتجاوز الحقيقة بكثير، خاصة إذا عرفنا أن عمر تنقل كثيراً خلال عمله في السلك الدبلوماسي، وأن فترة تفرغه للدراسة النظامية كانت قصيرة لا تفي ببعض ما يقول، فضلاً عن أعماله واهتماماته وعلاقاته التي كانت تستنزف كثيراً من الوقت والجهد.

     أما دراسة عمر في بريطانيا التي استمرت ثلاث سنوات ما بين عامي «1929ــ1932م» فهي بمنزلة المجهول المعلوم المتناقض لكثرة ما نجد حولها من المعلومات المتضاربة، يرويها عمر أو يرويها عنه من كتبوا عنه كالدكتور سامي الدهان وسامي الكيالي وأحمد الجندي وعبد الله يوركي حلاق.

     فمرة نسمع أن والده أرسله إلى مانشستر ليدرس صناعة النسيج، ونسمع أخرى أنه أرسله لدراسة الهندسة، كما نسمع أن أباه اختار له النسيج والصباغة في رواية، والكيمياء العضوية في رواية أخرى. أما عمر فيخبرنا أنه حصل على الدكتوراه في الكيمياء العضوية، كما يخبرنا أنه درس طريقة صنع آنية المطبخ الصغيرة مثل الصحون والطناجر الملونة التي لا تتعرض للصدأ.

     والتناقض في هذا الكلام يرده من أساسه، خاصة إذا انتبهنا إلى عنصر الزمن، حيث أقام عمر ثلاث سنوات، وهذا الوقت القصير لا يكفي للحصول على درجة البكالوريوس وحدها؛ فكيف بالدكتوراه!؟ وهــب أن الوقت اتسع لذلــك، فهل يمكن أن يتسع لهذه التخصصات المختلفة؟

     ويروي لنا عمر أبو ريشة أن مقامه في إنجلترا أتاح له الفرصة الثمينة لقراءة عدد من الشعراء الكبار الذين شغف بهم، وأن أحب الشعراء إليه اثنان هما: بو وبودلير اللذان أنفق الساعات الطوال في مطالعة آثارهما. كما أنه يروي لنا أن مقامه في بريطانيا أتاح له التعمق في دراسة الشعر الإنجليزي بصورة خاصة، والشعر العالمي بصورة عامة!.

     ترى هل كانت هذه السنوات الثلاث من البركة بحيث تمنح عمر القدرة على معرفة هؤلاء الشعراء، فضلاً عن درجة الدكتوراه ومقدماتها من بكالوريوس وماجستير، فضلاً عن التخصصات الكثيرة المزعومة؟

     ولعل الصحيح أن عمر أقام في بريطانيا هذه السنوات حراً طليقاً لم يعكف على دراسة جادة منتظمة، ولا تخصص بعينه، وأنه اطلع على الشعراء الذين ذكرهم بدرجات متفاوتة، بعضها عابر سريع، وبعضها عميق ذو أناة، ولابد أنه استفاد من صور هؤلاء وأخيلتهم، لذلك لم يحصل على شهادة، بل حصل على خبرة حيوية وشعرية.

     وثمة رواية للأستاذ عبد الله يوركي حلاق تزكي ذلك تمام التزكية، مفادها أن الزعيم حسني الزعيم الذي حكم سورية فترة قصيرة إثر انقلاب عسكري قام به عام 1949م، والأستاذين الصقال والكوراني، كانوا على إعجاب كبير بعمر الذي كان يومها مديراً لدار الكتب الوطنية في حلب، وكانت الحكومة في حاجة إلى سفراء ووزراء مفوضين فاقترح الأستاذ فتح الله الصقال أن يعين سفيراً في البرازيل، فاعترض حسن جبارة بدعوى أن تعيينه مخالف للقانون لأنه لا يحمل شهادة جامعية تخوله هذا الحق، فرد عليه الأستاذ الصقال بأن عمر أكبر من الشهادات.

     لقد كان عمر شاعراً كبيراً جهيراً متفرداً، وكان له في ذلك ما يغنيه عن الشهادات والتخصصات المزعومة، ولقد سبق بمكانته الشعرية كثيراً ممن حملوا أعلى الدرجات العلمية، ولعل مجده أخلد من أمجاد أكثرهم. ولقد كان له في أمثال الرافعي، والعقاد، وحافظ، أسوة حسنة حيث بلغوا ذروة عالية في تاريخ الأدب العربي دون أن يحصلوا على شهادات علمية، ولم يحملهم ذلك على أية مزاعم، كما أنه لم ينتقص من مكانتهم شيئاً.

     وبعد:

     فإن عمر -غفر الله له- قد أتعب نفسه وأتعب قراءه ومحبيه فيما كان يرويه من قصص وطرائف وغرائب ومبالغات وادعاءات مررنا على بعضها في هذا الفصل، على أن ذلك ليس من شأنه أن ينتقص من مكانته الشعرية المقررة التي نالها عن جدارة، واحتل بها مكاناً مميزاً، بل إنه ليس من شأنه أن يهدم حقيقته النفسية، وهي أنه رجل إباء وكبرياء، وصاحب مواقف جريئة.

     وقد يبدو هذا الأمر مردوداً؛ إذ كيف يسمح صاحب الإباء والكبرياء والجرأة لنفسه بما يقدح في ذلك بل بما يناقضه!؟ والسؤال منطقي، ولعل الجواب الصحيح عليه أن النفس الإنسانية ربما جمعت بين المتناقضات، ولا يخلو أحدنا من تجارب شخصية وجد فيها لدى بعض كرام الإخوة والأصدقاء الموصوفين بفضائل عالية، نقائص مذمومة لا تتفق مع سمتهم العام النبيل في قليل أو كثير. وإذا صح هذا الأمر في الناس عامة، فهو في الشعراء أصح. ولله في خلقه شؤون!.

     وإذا صح أن المتنبي ادعى النبوة فإن هذا الادعاء الشنيع لم يسقط شعره قط، فقد ظل من أعظم شعراء العربية إن لم يكن أعظمهم على الإطلاق؛ وإن غضب عمر أبو ريشة وسخط، الذي سوف يبقى هو الآخر شاعراً عظيماً له خصوصيته وتفرده، لا يسقط شعره بسبب مبالغاته وادعاءاته، مثله مثل المتنبي الذي مجده في شعره، وسخر منه في مقابلاته.
❊❊❊

------------------------
[1] لعل الصواب (ركض) لا (ركب)، فالسياق يستدعي ذلك.

كتاب عمر أبو ريشة عاشق المجد - مواقف جريئة

مواقــف جريئـــة

كان أجرأ الشعراء في جيله.

     معرفة الدارس لنفسية الشاعر تعينه على فهم مواقفه، لأن هذه النفسية ستترك آثارها على هذه المواقف فيما يحمد وفيما يعاب، فالشاعر الجبان ستظهر آثار جبنه، والشاعر الشجاع ستظهر آثار شجاعته، وكل إناء بالذي فيه ينضح.

     وحين نطبق هذه القاعدة على عمر سنجد الكثير من مواقفه الجريئة النابعة من نفسية جريئة، فقد كان كما تبين لنا لدى الحديث عن إبائه وكبريائه شاعراً عزيز النفس ميالاً إلى التمرد مولعاً بالحرية، لا يرضى لا لنفسه ولا لأمته الذل والقيود والهوان، ويظل يستشرف لهما آفاق المجد والحرية والحياة الكريمة العزيزة ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.

     وقد أدت جرأته ــ فيما أدت إليه ــ إلى بروزه شاعراً وطنياً جهير الصوت ينأى بنفسه أن يعيش حبيس اهتماماته وتطلعاته الخاصة فحسب، فغنى للوطن، بكى لأحزانه، وطرب لأفراحه، ورثى شهداءه، ومجد أبطاله، ونظم في تاريخه المجيد روائع شعره، وأشاد بالبطولة والرجولة والفروسية والمروءة والكرم والنجدة، وبكل ما أثر عن أمته من هذه الصفات النبيلة، أشاد بها لإعجابه بها، وهو من بعض جوانبه يمثل شخصية الفارس، وأشاد بها أيضاً لأنه يريد من شباب أمته اليوم أن يتحلوا بهذه الصفات التي تمثل أكرم ما في الإنسان من معان.

     لذلك كان عمر شاعر منابر من الدرجة الأولى لجرأته واهتماماته العامة وشعــره الرائع وإلقائه المتفرد، يروي الأستاذ عبدالله يوركي حلاق، وهو من حلب مدينة الشاعر وأحد تلاميذه ومحبيه شيئاً عن ذلك فيقول: وراح عمر ينشد خرائده البكر، في الحفلات القومية، فيهز المنابر، ويخلب الألباب، ويقيم الحفل ويقعـده، وكان يؤثر تأثيراً سحرياً عجيباً في سامعيه وعشاق أدبه، فبنبرة من صوته الجهـوري، أو بنظرة من وراء نظارتيه، كان يدفع الأيدي إلى التصفيق، والحناجر إلى الهتاف. وكثيراً ما دفع مستمعيه إلى التظاهر ضد الانتداب والمنتدبـين. كان يقول الحق، ويدافع عن الحق، دون أن يخشى لومة لائم، أو يخاف سطوة ظالم. فالشجاعة النفسية فيه تحدوه إلى الصراحة، وتجعله ينتقد المفسدين، ويثور كالبركان على المستبدين الغاصبين.

     هذه الشجاعة التي تحدث عنها الأستاذ عبدالله يوركي حلاق جعلت من عمر شاعراً جريئاً وسياسياً مقاتلاً، وجعلت له في كل ميدان قنبلةً، وفي كل معركة غنيمةً وانتصاراً، على ما قاله صديقه الأستاذ أحمد الجندي.

     وفيما يلي نمرُّ على طائفة من مواقف عمر في هذا المجال.
❊ ❊ ❊

     يأتي عام 1938م فتقام في حلب حفلة لتأبين المجاهد الوطني الشهير إبراهيم هنانو، ويقوم أبو ريشة فيتخذ من هذه المناسبة فرصة لانتقاد ما لا يروق له من أحوال الوطن، ويهاجم المسؤولين، وهم على سدة الحكم. بل وهم يشاركون في الحفل، ويسمعون من الشاعر هجومه عليهم. يقول الأستاذ عبد الله يوركي حلاق عن هذه الواقعة: وفي عام 1938م أقيمت للزعيم السوري إبراهيم هنانو حفلة تأبينية حضرها سعد الله الجابري رفيق هنانو في الجهاد والنضال، وكان يومئذ وزيراً للداخلية ونائباً لرئيس الوزراء. فوقف عمر، وطفق يصب جام غضبه على أساليب الحكم بجرأة نادرة. وفي نهاية الحفلة تقدم سعد الله الجابري -رحمه الله- من الشاعر الثائر عمر، وقبله قبلة الرضا والإعجاب، وقال له: إن شعرك يقوم اعوجاجنا شئنا أم أبينا.

     وإذا كان عمر أبو ريشة جريئاً في هجومه؛ فإن الجابري كان نبيلاً في موقفه منه، لم يعنفه ولم يعاقبه، بل قدره أحسن تقدير وشكره وأثنى عليه، ويبدو أن عمر أبو ريشة قد أدرك في الجابري هذا الخلق الرفيع، فرثاه بقصيدة بديعة يوم توفي عام 1947م؛ مطلعها:

هيكل الخلد لا عــدتك الغـوادي     أنت إرث الأمجــــــاد للأمجـاد

     وقدم لها بقول يفيض وفاء وثناء على المرثي، وهو: ألقاها الشاعر في حفلة تأبين السياسي النبيل الزعيم سعدالله الجابري، وكان الشاعر على الرغم من احترامه له يتصدى له وينتقده.
❊ ❊ ❊

     ويروي عمر أبو ريشة أنه ذهب إلى الأردن في أواخر الثلاثينات أو أوائل الأربعينات بدعوة من الملك عبدالله ملك الأردن حملها إليه الدكتور عبد الرحمن الشهبندر. وفي قصر رغدان في عمان قابل الملك الذي كان متجهماً، والذي بادر الشاعر بقوله:

     ما الذي دفع بك إلى القول:

وسلوا المليك أحـركته نخــوة     أو غضبة قرشية الإعصار!؟
ما ضره لو قام في وجه العدا     متهادياً بالجحفـــل الجـــــرار

     فأجاب عمر أبو ريشة: هذه القصيدة لم تنشر، وقد ألقيتها في دمشق، وهاجمت فيها كل الزعماء العرب، والملوك العرب، ورؤساء الحكومات العرب، ولكن الدكتور أبو غنيمة أخذ مني بعض الأبيات التي هاجمت فيها الأردن، وأرسلها إلى عمان لأنه على خلاف مع الحكم الأردني.

     ويروي عمر أبو ريشة أنه قال للملك عبدالله: إن الذي حمل إليك هذه الأبيات ليس وفياً لجلالتك، ولو كان وفياً لحمل لك كل ما قلت، فظن أني أحاول تعديل الموقف، فسألني: وماذا قلت؟ قلت:

عقد الصبية حول ناصع عنقها     لأجـل من تـــاج بغـــير قــرار
أيخـاف فقد إمــارة يجتازها الـ     ـهــرم الكسـيـح بليلــة ونهـــار
لا تفرحن فلست أول نعجـــــة     رقصـت على سِكِّيـنة الجـــزار

     ولما سمع هذا القول انتفض، وكان شاعراً كبيراً، وصاح بي: ما دفعك إلى هذا القول أيها العتل الزنيم!؟ ثم أخذ يتحدث عن بني هاشم، وما حل بهم من خطوب حتى سالت مني الدموع.

     وانتهى الأمر بمصالحة ومسامحة وعناق، وقال الملك للشاعر: إنها صفحة وطويت يا عمر، ونريد أن نسمع منك شيئاً غداً في الاجتماع الكبير.

     وفي الاجتماع ألقى عمر أبو ريشة قصيدته الشهيرة «خالد»، فلما أنشد هذه الأبيات:

كم على الترب من جراح جياع في قلوب بدرية الخفقان
إن شعبــــاً قــد قـدتــــه لم يكن أكرم منا ولا أشد تفــاني
إنما جرت القطيـــــع إلى الهلك؛ رعاة ذبيحة الوجـــدان

     تأزم الموقف، وطرب الجمهور، وبكى الملك، فأراد عمر أبو ريشة تعديل الموقف فقال:

أتــرى يغســـل الكآبة عبد الله عن قلبهــا العليـــل الواني
إنهـــا سمرت عليك لحـاظاً مثقــــلات بطيبـــات الأماني

     وازداد الجمهور انفعالاً، ونهض الملك عبد الله ليقول عن عمر أبو ريشة: أبكيته بالأمس سراً، وأبكاني اليوم علناً.

     وبعد مدة يسأل الملك عمر أبو ريشة عن القصيدة التي وعده بها، فينشده بحضور فارس الخوري:

ما جفاني بيـاني الــــــــــثر لمـــا     أنت أطلعــــــتني علــى أبكـــاره
خانني الحـــظ مرتـين فلـــــم أحـ     ـمل إلــى سيــدي ظلال فخـــاره
إن عقداً أصــوغـــه من سجـــايا     ك تـرف العليــاء في تذكــــــاره
لك منــــــه ما تنتقي ولجيــد الـنـ     ـنجـم ما تستحق مـــــن أحجـاره
يا لذكرى طافت بنا حـــــــرم الـ     ــمجد وشقت ما طال من أستاره
وأعـادت لنــا خيـــــــــــــال نبي     سروات الملوك من سمــــــــاره

     وغضب الملك عبدالله، وطلب من الشاعر أن يتوقف، ثم التفت إلى فارس الخوري قائلاً: أتدري ماذا يعني بقوله هذا؟ إنه لا يقصد هذا التاج أو هذا الملك؛ إنه يقصد أنه يحمل إلي القصيدة التي وعد بأن يسمعني إياها وينشرها، ويقول بأنني أوصيت على القصيدة، وهـذا هو الشرف الوحيد الذي أراد أن يخلعه علي. هذا الملك وهذا الصولجان لا شيء عنده!.. أهذا مــدح!؟ إنه يمدح نفسه، لكنه كان معجباً بالقصيدة، ثم ارتجل:

شاعر جــــاد بالمتين من الشعــــ     ــر هو الشهد كيف لــي بامتيـاره
دم أبا ريشة مليـــــك المعـــــانـي     أنت حســان هاشم في جـــــواره

     ثم غلبته دموعه فبكى؛ إذ تذكر أمجاد الإسلام الأولى، وكان -رحمه الله- شاعراً وذواقــة.
❊ ❊ ❊

     أما قصيدة عمر أبو ريشة «بعد النكبة» التي مطلعها:

أمتي هــــــل لك بـــــين الأمـــــم     منبر للسيــــــــــــف أو للقلـــــــم

     فلعلها أشهر شعره على الإطلاق، ولعل أشهر ما فيها بيتاه الذائعان اللذان سارا مسير الأمثال الشاردة:

رب وامعتصمـــاه انطلقــــــــــت     ملء أفواه البنـــــــات الـــــــــيتم
لامست أسماعهم لكنهــــــــــــــــا     لم تلامس نخـــوة المعتصــــــــم

     ولعل موقفه فيها أكثر مواقف شعره جرأة وشجاعة، ولعل هذه القصيدة من أكبر عوامل شهرته وأهمها.

     تعود القصيدة إلى عام 1948م، وأنظار العرب كلهم تتطلع صوب فلسطين، وتنادي بالجهاد والتحرير والثأر. وينظر عمر أبو ريشة إلى حكام سورية يومذاك فيتهمهم بالتقصير والتخلي عن شرف المسؤولية، ويهاجمهم هجوماً نارياً شديداً، ويكون حظ رئيس الوزراء جميل مردم من الهجوم حظاً كبيراً؛ إذ صب عليه الشاعر جام غضبه، ويتناقل الناس بيتاً قاله أبو ريشة في حق مردم لم يرد في القصيدة كما جاءت في الديوان، واستبعد بعض عارفي شخصية الشاعر أن يصدر عنه لأنهم كانوا يصفونه بالأدب والذوق مع جرأته المعهودة، وهذا البيت هو قوله في رواية:

إن أرحام البغــــــــايا لم تلــــــد     مجرماً في شكل هذا المجــــرم

     أو قوله في رواية ثانية:

إن أرحام البغــــــــايا لم تلــــــد     مجـرمًا مثـــل جمــــيل المـردم

     على أن عمر أبو ريشة يبالغ في أثر هذه القصيدة، ويرى أنها مهدت للانقلاب العسكري الأول الذي قام به حسني الزعيم في سورية عام 1949م، كما يرى أنها أدت إلى إخراجه من سورية ربع قرن من الزمن، يقول عمر أبو ريشة عن هذه القصيدة في إحدى المقابلات الصحفية معه: هذه القصيدة ألقيتها في حلب بوجود أعضاء المجلس النيابي والحكومة السورية في حدائق "اللونابارك"، وكان الجمع يتجاوز عشرة آلاف نسمة. وكانت الغاية من هذه الزيارة أن يصبح رئيس الوزراء آنذاك رئيساً للجمهورية في العام 1948م.

     بعد انتهائي من إلقاء القصيدة أوقفت الحفلة، وبعد أيام قليلة وقـــع الانقلاب على الحكومة، ثم أخرجت من سورية وزيراً مفوضاً إلى البرازيل على أساس أن أبقى هناك ثلاثة أشهر فقط، لكن فترة سفارتي خارج سورية امتدت ٦٢ سنة من دون أن أعـــود إلى الإدارة المركزية، وهذا شيء نادر وليس له مثيل. وقد تنقلت سفيراً من بلد إلى آخر خلال هذه الفترة. وفي القصيدة أبيات مرتجلة هاجمت فيها الشخصيات السياسية وعلى رأسها رئيس الوزراء، ولقد تجاوزت في القصيدة حدوداً لم أكن أحب أن أتجاوزها.

     ويروي الأستاذ عبدالله يوركي حلاق أن عمر أبو ريشة ألقى القصيدة في جمع حاشد فيه فئة من كبار رجال العهد، ويؤكد أن فيها ما لا يسمح الأدب بنشره، وأنها كادت تكلفه حياته، وأنها كانت إنذاراً بقرب تغيير حكومي وسياسي جذري في سورية.

     أما القصيدة كما جاءت في الديوان فهي:

أمتي هــــــل لك بـــين الأمــم     منبر للسيـــــــف أو للقـــــــــلم
أتلقـاك وطــــــــرفي مطـــرق     خجلاً مــــن أمسـك المنصــرم
ويكاد الدمع يهمي عابثـــــــــاً     ببقـايا كبريــــــــــــــاء الألـــــم
أين دنيـــــاك التي أوحـت إلى     وتــــري كـــل يتيــــــم النغـــم
كم تخطيت على أصـــدائـــــه     ملعــــب العـــز ومغنى الشـمم
وتهــــــاديت كأني ساحــــــب     مئزري فـــوق جبــــاه الأنجـم
أمتي كـم غصـــــة داميـــــــة     خنقت نجـــوى عــلاك في فمي
أي جـــرح في إبـائي راعــف     فـــاته الآســــــــي فـــلم يلتئــم
ألإسرائيـــــل تعـــــــــلو راية     في حمى المهد وظـــل الحــرم
كيف أغضيت على الــذل ولم     تنفضي عنــــــــــك غبار التهم
أوما كنت إذا البغي اعـــــتدى     موجــة من لهـــب أو مـــن دم
فيم أقدمت وأحجــــــمت ولــم     يشتف الثـــــــأر ولـــم تنتقمـي
اسمعي نوح الحزانى واطربي     وانظري دمع اليتامى وابسـمي
ودعي القـــــــادة في أهوائهــا     تتفانى فـــــي خسيس المغنــــم
رب «وامعتصماه» انطلقـــت     ملء أفـــــــواه البنـــــات اليتم
لامست أسمـــــاعهــــم لكنهــا     لم تلامـــس نخـــــوة المعتصم
أمتي كــــــــم صنم مجــــــدته     لم يكن يحمـــــــل طهر الصنم
لا يــلام الـــــذئب في عـدوانه     إن يـك الـراعي عــدو الغـــنـم
فاحبسي الشكوى فـــلولاك لما     كان في الحـكم عبيــد الـدرهـم
أيهــا الجنــــدي يا كبش الفــدا     يا شـــعــاع الأمل المبتســــــم
ما عرفت الـبخـــل بالروح إذا     طلبتها غصص المجـد الظمي
بورك الجــرح الذي تحمـــــله     شرفـاً تحــــت ظــــــلال العلم

     وإذا كانت القصيدة نموذجاً لجرأة الشاعر النادرة؛ فإنها أيضاً نمـوذج من أرفع نماذج شعره الوطني، فهي قصيدة وطنية تفيض غيرة وحمية وإخلاصاً للوطن.

     هذا؛ ولابد من الإشارة هنا إلى أنه يحمد لعمر أبو ريشة أنه حذف من القصيدة الأبيات القاسية التي ارتجلها في الحفل، والتي هاجم فيهــا جميل مردم، كما يحمد له أنه ــ كما يروي الأستاذ أكرم زعيتر في ذكرياته عن عمر أبو ريشة التي نشرها بعد وفاته ــ ندم على حملته على جميل مردم، وأشاد بوطنيته وكفايته، وقارن بينه وبين الذين خلفوه، وأكد أنه جدير بالتكريم والاحترام، وقرر أنه تجنى عليه وظلمه في قصيدته.

     وحين أجرت مجلة الحوادث اللبنانية مقابلة مع الدكتور عبد السلام العجيلي وهو طبيب أديب من الرقــة، ومن أصدقاء عمر أبو ريشة سألته عن هذه القصيدة فقــال: حملت أكثر مما ينبغي أن تحمل، وأنا سألني أحد أصدقاء عمر: هل صحيح أنه قال هذا البيت المشهور:

إن أرحــــام البغايــا لم تلد     مجرماً مثل جمـيل المردم

     فقلت له: أنا لم أحضر، لكني أعرف أن عمر من سمو الأخلاق بحيث يمكنني أن أقول: إن هذا البيت مقحم على قصيدته، عمر يعارض بقسوة في شعره لكن عمر لا يمكن أن يقول هذا الكلام، إن معرفتي به وبأخلاقه السامية تجعلني أقول: إن هذه القصيدة قد تعرضت لتدخلات خارجية.

     وفي كلام الدكتور العجيلي دقة وإنصاف، ومنه ومن أشياء أخرى مماثلة يمكن القول: إن صاحب القصيدة حملها أكثر من الحقيقة فيما أدت إليه من أحداث خاصة على مستواه الشخصي، وعامة على مستوى الوطن السوري، وإن هناك من زاد عليها ما زاد لسبب أو لآخر.

     وعلى كل حال تبقى القصيدة علامة غير عادية في حياة صاحبها، وفي الشعر الوطني الحديث، وقد كتب عنها من كتب، وعارضها من عارض حتى إن الأستاذ مصطفى عكرمة، وهو كاتب وشاعر يقرر أن الذي لديه مما يتصل بها أكثر من مئتي صفحة.
❊ ❊ ❊

     وفي عام 1969م يقام في بيروت مهرجان كبير لتأبين الشاعر اللبناني الأخطل الصغير، ويشارك أبو ريشة فيه بقصيدته الشهيرة «بنات الشاعر».

     كان العالم العربي يومها لا يزال يعاني من هزيمة 1967م، وكانت النقمة على الحكام الذين تسببوا بها عارمة جداً، أولاً لفداحـــة الهزيمة، وثانياً لأنهم ظلوا حيث هم مع كل جناياتهــم. ولم يفت عمر أبو ريشة أن يهاجمهم وهو يرثي الأخطل الصغير، يحمله على ذلك غضبه وجرأته ووطنيته، وفداحة الخطب، والمناسبة الحاشدة التي تهيىء له أن يجهر بما يود أن يقول. ويقف عمر أبو ريشة منشداً ليقول عن صانعي الهزيمة في سخرية مريرة موجعة:

إن خوطبوا كذبوا أو طولبوا غضبــــوا     أو حوربوا هربوا أو صوحبـوا غدروا
خافوا على العار أن يمحى فـكـــان لهم     على الربــاط لــدعم العـــــار مؤتمـــر
على أرائكــهـم سبحــــان خـــــالـقهـــم     عـاشوا وما شعروا ماتــوا وما قــبروا

     كان المهرجان عرساً من أعراس الشعر العربي شارك فيه كمال ناصر، ومحمد الفيتوري، وعبدالمنعم الرفاعي، وعزيز أباظة، ولميعة عمارة، وصقر القاسمي، وحسن عبدالله القرشي، وكان في الوقت نفسه عرساً شخصياً لعمر أبو ريشة فقد كان في الستين من عمره في قمة نضجه واكتماله فوقف على المنبر يطل على الناس بوسامته وأناقته وإلقائه البديع وبجرأته التي حولت المناسبة إلى عرس قومي يرفض الهزيمة، ويلعن صانعيها الطغاة.

     لقد اتسمت قصيدته «بجرأة بالغة» على حد تعبير صديقه الأستاذ الشاعر حسن عبدالله القرشي في حديثه عن ذكرياته مع عمر بعد وفاته، لذلك لا غرابة أن وجدنا الأستاذ شارل الحلو رئيس جمهورية لبنان آنـذاك وهو صديق للشاعر ومحب له ــ وكان راعياً للمهرجان ــ يقف وتقف القاعة معه تصفق لعمر تصفيقاً حاراً أكـثر من عشر دقـائق، وكأنها تجـد في إبائه إباء ها، وفي غضبه غضبها، وفي رفضه للهزيمة وصانعيها رفضها، وهكذا تلاقت الأعراس الثلاثة في مناسبة واحدة، عرس الشعر والشعراء، وعرس الشاعر الهادر، وعرس القومية الجريحة. وقد كان للقصيدة دوي كبير فقد تناقلتها الصحف والمجلات والمجالس والأيدي والشفاه، ووقعت على أنصار جمال عبدالناصر خاصة وقعاً موجعاً، فقد علموا وعلم الجميع أن الشاعر كان يقصده بهجومه قبل أي حاكم آخر لأنه رآه المسؤول الأكبر عن الكارثة. رحم الله عمر، كان أجرأ شعـراء جيــله.
***

كتاب عمر أبو ريشة عاشق المجد - إباء وكبرياء

إبــاء وكـبريــاء

كان قامة شامخة شكلاً ومضمونـاً.

     حرص الأستاذ عباس محمود العقاد -رحمه الله- كثيراً على أن يعثر على ما سماه «مفتاح الشخصية» التي كان يدرسها، لأنه كان يرى في هذا المفتاح الصفة المتفردة لها من ناحية، والمفسرة لبقية خصائصها من ناحية أخرى.

     ومهما واجه هذا المصطلح من اعتراضات يظل مصطلحاً جديراً بالاحترام، ويمكن للدارس أن يطبقه على عدد من الشخصيات، فينتفع به انتفاعاً كبيراً في تحليل دوافعها وفهم سلوكها.

     وإذا أردنا أن نطبق هذا المصطلح على الشاعر الكبير «عمر أبو ريشة» صح لنا أن نصفه بأنه «شاعر الإباء والكبرياء»، فالإباء هو الصفة المتفردة فيه والبارزة بشكل حاد لتكون أوضح من سواها ومفسرة له.

     كان أبو ريشة شديد الإباء، وكان الإباء مفتاح شخصيته العاشقة للبطولة، المتطلعة للشموخ، المعجبة بالرجولة والفروسية، النزاعة للمعالي والأمجاد، المتمردة على الذل والهوان والقيود.

     وقد تولد فيه هذا الإباء المحمود من اعتزازه بأسرته التي ينتمي إليها، وهي أسرة ذات مكانة دينية واجتماعية، ومن أمته التي كان شديد الغيرة عليها كثير الفخار بها، ومن موهبته الشعرية التي كان يعرف قدرها حق المعرفة، ومن ولعه الشديد بالحرية، وقبل ذلك كله وبعده من إسلامه الذي كان يعتز به أيما اعتزاز، والذي مجده أيما تمجيــد.

     من أجل ذلك عاش أبو ريشة وهو شاعر الإباء، حياة تليق في الغالب بهذا الإباء، لم ينافق أحداً، ولم ينحن لطاغية، ولم يمدح أحداً، بل على العكس فقد هاجم بعض الحكام وهم في صولجانهم، وهاجم الاستعمار وهو في عسفه، وكانت له مواقف في غاية الجرأة صارت حديث الناس.
❊❊❊

     كان عمر أبو ريشة قامة مرتفعة شكلاً ومضموناً، كانت قامته الجسدية طويلة طولاً بائنـاً، وكانت قامته المعنوية كذلك طويلة طولاً بائناً، لقد رد للشعر قيمته، ورد للشاعر احترامه، ترفع به عن مكانة النديم، فضلاً عن مكانة البوق والتابع والأجيـر، واستشرف به ــ مشكوراً محموداً ــ آفاق الريادة التي تجعل حيزاً مهماً منه يبدو بقوة وكأنه رسالة إصلاح ديني ووطني.

     انظر إليه في تطلعه الحار إلى المجد:

آليت ألا أنـثني عـــــــن مدى     يجــــأر فيه كـــبري الأوحــد
ما أرخص المجــد إذا زارني     ولم يكن لي معــــــه موعــد!

     واسمع منه هذه الأبيات التي تكاد تنتمي إلى عالم المتنبي وشعره المعتز المتمرد الشامخ:

معاذ خلال الكبر ما كنــــت حاقــداً     ولا غاضباً إن عاب مسراي عائب
فكم جبل يغفـــو على النجـم خــــده     وأذيـــــاله للسائمــــــات ملاعـــب
نظرت إلى الدنيـا فلم ألف عندهــــا     كبيراً أداري أو صغــــيراً أعاتــب
وما هان لي في موقف العز موقف     ولا لان لي في جانب الحق جانــب
فيا غربة الأحرار ما أطول السرى     وملء غيابــــات الدروب غـياهب!

     ولعمر أبو ريشة قصيدة مشهورة اسمها «نسر» كان حفياً بها، كثير الإنشاد لها، وهي تحكي قصة نسر اضطر لمغادرة وكره في قنة الجبل ليعيش مع بغاث الطير في السفح تعابثه وتدافعه، وتنازعه حتى لقمة عيشه، فنقم على هذا المصير الذي آل إليه، وفضل أن يموت في وكره عزيزاً جائعاً، فاستجمع بقايا قوته الغاربة وطار إلى الأعالي حيث سقط جثة هامدة في وكره المهجور.

     وبعد أن يروي لنا أبو ريشة هذه القصة كاملة، يسأل النسر في البيت الأخير قائلاً له:

أيها النسر هــل أعود كما عـــــدْ     تَ أم السفح قد أمات شعـوري!؟

     إنه رأى في النسر صورة نفسـه، وتمنى أن تكون له روحـه العزيزة المتطلعة، حتى تنأى به عن كل هوان أو ذل أو نقيصة، ولقد حرص دائماً أن يظل نسراً، وقد كانت حياته ومواقفه في جملتها محاولة للتشبث بمكانة النسر، وهي محاولة أصاب فيها حظاً طيباً من النجاح.

     وإباء الشاعر يجعله يتعالى على الجراح، ويهزأ بالصعاب، ويظل مبتسماً وإن كثرت الخطوب:

رب ضاقت ملاعبي في الدروب المقيدة
أنا عمر مخضب وأمـــان مشــــــــــردة
ونشيــد خنــقت فـي كبريــــائي تنهــــده
رب مازلت ضارباً من زماني تمــــرده
صغر اليـأس لن يرى بين جفني مقصده
بســـماتي سخيـــة وجــراحي مضـــمدة
❊❊❊

     وتجمعه الأقدار ذات مرة بإسبانية حسناء تكون رفيقته في طائرة مسافرة إلى تشيلي، فيتجاذب معها أطراف الحديث، ويُسَر بذكائها وثقافتها فيسألها عن قومها، فتمضي تعتز بأجدادها العرب ومروءتهم، وحضارتهم المشرقة في الأندلس، ثم تسأله بتحد وثقة أن يخبرها عن قومه إذا كانوا أكرم من قومها!؟، فلا يجد إلا الصمت الذي يصوره البيت الأخير من القصيدة أحسن تصوير:

أطـــرق القلــب وغامــت أعيني     برؤاها وتجــــــاهلت الســـــؤالا

     لقد حمله إباؤه على الصمت إذ لم يجد ما يقوله، وحاضر قومه المظلم يناقض ماضيهم المشرق الذي اعتزت به الحسناء. والقصة حقيقية على ما سمعه الأستاذ الشاعر زكي قنصل من عمر أبو ريشة نفسه، في سياق حديثه عن ذكرياته معه التي مر بنا طرف منها من قبل.
❊❊❊

     وحين تستقل سورية عن فرنسا ينظم واحدة من أشهر قصائده، وهي «عرس المجد» يختمها بهذه الأبيات التي تدل على إبائه وعنفوانه من ناحية، وتدل على معرفته لقيمة شعره في دفع حركة الجهاد الوطني ضد العدو من ناحية أخرى:

يا عروس المجـــد حسبي عــزة     أن أرى المجـــد انثنى يعتز بــي
أنا لولاه لمـــــــا طـــــوفت فــي     كل قفـــــــــر مــترام مجـــــدب
رب لحــــن ثار عــــن قيثـارتي     هـــز أعطاف الجهــــاد الأشيب
لبـــــلادي ولــــــــرواد السنــــا     كــل مـــــا ألهمــــــتني من أدب

     وحين يخرج من السجن يلقي قصيدته الوطنية «هذه أمتي»، فنرى فيها معرفته لقدر نفسه واعتزازه بمكانته، فالخلود يصغي إليه إذ يلقي شعره، والحياء يمنع دمعة عينه من أن تسيل لما يرى في أمته وبلاده من أرزاء:

يا بلادي ناجاك من وقف الخلــ     ـد، وأصغى إلى صـدى تحنـانهْ
كاد أن يرخص المدامع في الأر    زاء، لولا الحيـــــاء من إيمــانه

     وتعظم نفس الشاعر في عينه، فتحمله على المبالغة التي تجعل الملوك من ندمائه لو أنه رضي بالشكوى، وكيف له أن يشكو وبينه وبين المجد عهد أن يمر على الأرض وإباؤه يمنع شكواه ويحبسها خلف لسانه؟ ومهما اشتدت الصعاب فلن تقدر على العبث أو النيل منه، وإذا مات وهو ظمآن فإن شعره سيظل للأجيال نوراً ونبراساً:

شاعـــــر لو شكا الحيـــاة لكانـت     ســـروات الملــــوك من ندمــانه
أقســـم المجـد أن يمـــر على الأر    ض، ونجوى الإباء خلف لســـانه
فالعبي يا عواصف الدهـر ما شئـ     ـت، فــلن تجرحيه فـــي وجـدانه
رب شاد علـى الظمـا أســلم الـرو     ح، وروى الأجيــــال نبع بيــانه

     وفي قصيدته الطويلة «خالد» يطالعنا إحساسه بمهمته الريادية التي تجعله يأبى كل الإباء أن يسكت حيث ينبغي أن يقول:

يا مـسجى في قبــة الخـــلد يا خـا     لد هـــــــل مـــن تلفــــت لبيـانـي
لا رعاني الصبا إذا عصف البغـ     ـي، وألــفى فمي ضـريـح لسـاني
أقسـم المجـــــــد أن أقطــــع أوتا     ري عليــه بأكــــرم الألحـــــــان

     وحين تقام حفلة في ذكرى الزعيم إبراهيم هنانو، ينظم قصيدة باسم «قيود» يختمها بهذين البيتين اللذين يشهدان بعزته وإبائه وريادته:

أنا عند عهـــدك لا تلــين شكيمتي     كلا ولا يعــــزى إلــي عـــــــثار
لا عشت في زهـو الشبـاب منعماً     إن نال من زهـــو الشبــاب العار

     ومن أبياته الرائعة هذا البيت الذي يفيض بكل معاني النبل والإباء والفروسية:

تقضي البطولة أن نمد جسومنــــا     جسراً فقـــل لرفاقنــــا أن يعـبروا

     وفي قصيدته «عنفوان» يتحدى الصعاب والخطوب، إذ يرى نفسه صخرة صماء تظل راسية ثابتة مهما واجهت من مخاطر:

لم ترتشـــف دمعي شفـاه الهوان
ولم ينــاد المجــــد هذا جبــــــان
فاعصف فإني صخـرة يا زمـان
❊❊❊

     وإذا عثر عمر أبو ريشة لسبب أو لآخر فإنه يظل دائماً قادراً على النهوض وتجاوز المحنة، فلا يستطيع الخور أن يشمت به، وإذا أضر به الحرمان ابتلع مرارته في صمت يستر ما وراءه من غصة:

فكم عــــثرنا ولـم تعـــــثر إبـــاءتنــــا     وكم نهضنــــــــا ولم يشمت بنا خــور
وكم لدى صلف الحرمان من غصص     نمنــا عليهــــــا ولم تكشف لنـــا ستــر

     وحنجرته تغص بالشكوى لأنه يكتمها مع جراحه التي تنز، وإباؤه يحمله على اقتحام المخاطر تحدياً للموت وإغضاباً له:

لأنت تعلم كم نــــزت جوانحنا     إذا حناجـرنــا غصت بشكوانا
تلك الغياهب لم نهتك ستائرها     إلا لنترك فيها الموت غضبانا

     وهو ومن معه من أبطال الجهاد يواجهون الموت، ويتحدونه ليكونوا شعلة المواجهة الدامية:

مشوا للموت فارتجفـــت يــداه     حياء من إبــــاءتهــم وحقـــــدا
فكانوا الصرخة الأولى وكنـــا     على أصدائها الحمــراء وقــدا
❊❊❊

     وربما حمل الشاعرَ إباؤه على الإخلال بأعراف لابد من مراعاتها كقوله فيما رواه يخاطب الأمير عبدالله بن الحسين:

إن عقداً أصوغــــه من سجا     ياك ترف العلياء في تذكاره
لك منـه ما تنتقي ولجيــد النَّـ     ـجم؛ ما تستحق من أحجاره

     فقد تحول إلى مادح لنفسه في موقف لا يسمح بذلك، وهو أمر لم يكن ليفوت الأميرن فقد كان شاعراً وراوية وذواقة، فقال لمن حوله مستنكراً: إن عمر أبو ريشة إنما يمدح نفسه.

     بل ربما حمل الشاعرَ إباؤه على اعتزاز فيه شطط ومبالغة، كهذا الذي نراه في هذه القطعة البديعة التي يفضل فيها أن يكون سيداً في الجحيم على أن يكون عبداً في موئل الحق، والتي كان كثيراً ما يقول: إنها تمثله أحسن تمثيل:

سفر عمري هذا فما من جديـد أتمنى عليــه محــــــو القـــديم
هكذا شئت أن أمر بدنيـــــــاي ولا من يرى ضمــــاد كلومي
أنا ذاك العملاق ما عبث الحـــزن بدمعي ولا الأسى بهمومي
اهـدئي إهدئي فإنيَ راض عن مصيري في الغيهب المحموم
لن تريني في موئل الحــــق عبـداً في نعيم بل سيداً في جحيم

     وإباؤه يحمله على شطط آخـر في هذه الأبيات التي تفيض اعتزازاً وفخاراً وتوقد عزيمة:

ورأوني ألمُّ شعـــث جنــاحيَّ وقد جرَّحا صدور السحـاب
فمضوا يسألون هل لان عودي وخبت عزتي وذل شبابي
خسئ العيــش لن أقـــابل وجه الله إلا وفي يميني كتـــابي
❊❊❊

     ولما رثى عمر أبو ريشة صديقه الأخطل الصغير، أشاد بصبره على الآلام وكتمانه لها أمام زائريه ليموت واقفاً كما تموت الشجر:

وأنت تكتم عنهـــم ما تكابـــــــده     تموت وهي علـى أقدامهـا الشجر

     إن هذه الميتة العزيزة أسقطت نفسية عمر أبو ريشة على الأخطل، فهو الجدير بأن يموت عزيزاً كالشجر، ولعله نال ذلك فمات ــ رحمه الله ــ عالي القامة، شامــخ الهامة، موفور الكرامة، وكأنه يغني وهو يحتضر، مثله مثل طير الإوز الذي زعموا أنه لا يغني إلا ساعة موته، والذي قال فيه قطعة جميلة ختامها:

لا تســـأليني ما ترجــــوه أغنيتي     بعض الطيور تغني وهي تحتضر

     لعل الشاعر الأبي كان شجرة تموت واقفة، وطير إوز يموت مغنياً، ولا غرابة فهو الذي قال عن نفسه في قصيدته «كبرياء»:

لنا كبرنا كم طال في التيه دربنــا     وكم نفضت أقدامنـــــا من غباره
وقوفاً يرانا الموت نخفي جراحنا     وليس يرانا ركعاً فـي انتظــــاره
❊❊❊

     وكان عمر أبو ريشة محباً للملك فيصل بن عبدالعزيز كثير الثناء عليه والإشادة به، وكان الملك فيصل يدني الشاعر ويقربه ويعلي من مكانته، لذلك كان عمر أبو ريشة أنشط ما يكون وأزهى ما يكون في فترة اتصاله به كما قالت زوجته منيرة محمد مراد، وكان يزداد نشاطاً وزهواً إبان مواسم الحج حيث يقام الاحتفال السنوي المعتاد لتكريم وفود الحج، وتلقى الكلمات، وتنشد القصائد، فإذا جاء عمر أبو ريشة كان سيد الموقف بسبب شعره الرائع، وبسبب إلقائه البــديع المتفــرد.

     ومع ذلك كله، ومع الفارق الكبير بين موقع الملك وموقع الشاعر، كان عمر أبو ريشة يخاطب المليك الذي أحبه بطريقة تذكر المرء بخطاب المتنبي لسيف الدولة، وهي طريقة يعرف فيها المتنبي مكانة سيف الدولة ومكانته هو، وكذلك كان عمر أبو ريشة. انظر إليه وهو يقول لفيصــل:

يا فيصلاً للحـــــــق يــــــــا     علـــم الكــــرامة والإبــــاء
أنا من عرفت مـــن الرجــا     ل المؤمنـين الأوفيــــــــــاء
أو ما حمــــــــــلـت إلي من     دنيـــاك نعمــاء الســـــمــاء
وسكبت في روحي من الـــ     إيمان ما أبـــلى شقــــــــائي
وتركتني وحــــــــــدي ورا     ء خطــــــاك مرفوع اللواء
يا فيصــــلاً للحـــــــق بــيـ     ـن، يديـــك سفر من ولائي
هـو للوفــــــــاء جمعتــــــه     ونشرتـــــــه لا للرجــــــاء
❊❊❊

     لقد ظل أبو ريشة والإباء، صنوين مقترنين طيلة حياته العريضة، لم يفترقا لا في أيام الشباب ولا في أيام الشيخوخة إلا نادراً نرى مصداق ذلك في نموذجين من شعره يمثل كل منهما مرحلة من حياته.

     الأول: نجده في أبياته التي قالها في المتنبي عام 1935م، أي عندما كان في حدود الخامسة والعشرين من عمره، ووصف فيها نفسه من خلال وصفه للمتنبي:

غمر العرب سحره الفاتن الـبـكـ     ــر، وناداهـــــــم بخــير نـــــداء
فيه من غضبة الإباء على الضيـ     م؛ وفيـــــه من بسمــــة العـليــاء
يحبس الدمعــــــة التي سكبــتهـا     في سخــــاء محـــاجــر البؤسـاء
صقـلتــــــه أنامــــل المتـنـــــبي     فــإذا الشعــــــر مستـفــز الأداء
بدوي ليـــن الحضـارة في بــــرْ     دَيْـه؛ نـــاجى خشـونة البيـــــداء
حضنتـــه العلياء طفلاً وكهــــلاً     وغـذتـــه بأكـــرم الأثـــــــــــداء
فتهـادى يختــــال في ظلـمة الأرْ     ض؛ وعينـاه في ذرى الجـوزاء
عــــزة تدفع الجبـان إلى الـثــــأ     ر؛ فيمضي للغـــــارة الشعـــواء
وطموح مجنـــح يــتـــرك النسْـ     ــر، كـسيحــاً في زحمة الأنـواء
عرفـت روحــه السـراب ولكـن     خادعت روحه بـروق الرجـــاء
يطــأ الشــوك في دروب أمانيــ     ــه، ضحوكاً من غائــل الأرزاء
إنمــا ضــــلَّلت خطــاه الليـــالي     والليـــالي عــــداوة العظمـــــاء

     إن هذه الأبيات هي صورة عمر بريشة عمر نفسه، فقد نظر إلى المرآة كما ينظر الفنانون إلى أنفسهم، ورسم نفسيته وروحه كما يقول الدكتور سامي الدهان. وإذن فإن ما في الأبيات من إباء وطموح وخشونة واختيال وعزة وصبر على المكاره إنما هي صورة المتنبي وصورة عمر في آن واحد.

     أما الثاني: فنجده في أبياته التي قالها في أواخر عمره، والتي نجده فيها مع السن والتشرد والغربة والإحباط لايزال أبياً ومقاتلاً وعنيداً وصاحب فخار عريض وعزة لا تنتهي:

جئــت الحياة فما رأتني زاهداً في خوض غمرتها ولا متـرددا
إني فرضت على الليـــالي ملعبي وأبيت أن أمشي عليه مقيـدا
يــا غربتي كم ليلة قطعـــتها نضو الهموم على يديك مســـهدا
أطمعتني في كل حلم مترف وضربت لي في كل أفق موعــدا
فوقفت أقتبل الرياح وما درت من كان منا العاصف المتـمردا
ومضيـــت أنتعل الغمـــام وربما أشفقت خدَّ النجم أن يتجعــدا
وأطلت في التيــه المشت تنقلي وحملت ما أبلاه فيَّ وجـــــددا
ورجعت أستسقي السراب لسروة نسيت لياليها حكايات الندى
فكـــأنما المجد الذي خلـــــدته لم يكـفهـا فأردت مجداً أخــــلدا
ما أكرم الوتـــر الذي أمسكته! لأجر أنفـــــاسي عليه تنهــــدا

     وللأبيات قيمة فنية عالية، وقيمة معنوية أعلى، وهي دليل على ارتقاء صنعة صاحبها مع الزمن، ودليل على احتفاظه بإبائه وعنفوانه، هذا الاحتفاظ الذي ظل هاجساً ملحاً من هواجس الشاعر والذي يمكن أن تجد آثاره في مراحل حياته جميعاً، قبل النموذجين المذكورين، وما بينهما، وما بعدهما.
❊❊❊

     وكما شهد شعر عمر أبو ريشة بإبائه وكبريائه، يشهد له دارسوه وعارفوه وتلامذته وأصدقاؤه بذلك، والشهادات هنا كثيرة جداً نختار بعضها.

     يقول الأستاذ عبدالله يوركي حلاق، وهو أديب من حلب مدينة الشاعر، وتلميذ له، وصديق له أيضاً: أحببت عمر أبا ريشة حباً صادقاً، وأمضيت بصحبته أطيب أيام الشباب تحت سماء حلب، التي نشـأ فيها، وأحبها كما أحبته، وألقى من على منابرها أشهر قصائده الوطنية والاجتماعية والغزلية، فما رأيت أعف منه نفساً، ولا أصدق منه عاطفة، ولا أرق منه قلباً، ولا غرو؛ فالشعر مرآة روح الشاعر، وصوت فؤاده، وهمس وجدانه، وشعر عمر حافل بكل ما يمتاز به من نبوغ وجرأة ومروءة وشمم وإباء. إنه شاعر مثالي شجاع، لم يخف قوياً، ولم يتملق ثرياً، ولم يمجد غير البطولات والمروءات. ولو أراد لمشى إليه النضار، ولتدفقت تحت قدميه ينابيع الـغنى، ولكنه خلق عزيزاً أبياً، فيه من الإنسانية أكرم هباتها، وأمتن مقوماتها، وهاهو يصف الشاعر، وكأنما يصف نفسه:

غمزته عرائس العيش إغرا     ءً؛ فلم تستبح حمى عنفـوانه
شاعر لو شكا الحيــاة لكانت     سـروات الملـوك من ندمانه

     أما الأستاذ محمد مصطفى درويش فيقرر أن كبرياء عمر أبو ريشة غدت مضرب المثل في زمن التصاغر وإراقة ماء الوجوه، وأن عمر أبو ريشة في شعره ومواقفه رد الاعتبار لكلمة شاعر في دنيا العرب.

     أما الأستاذ ياسين رفاعية فيقول عنه: كنا نشعر ونحن نلتف حوله أننا أمام أمير وفارس من نبلاء القرون الوسطى.

     وأما الأستاذ نجدة فتحي صفوة فيقرر أن عمر أبو ريشة كانت شخصيته تجسيداً حقيقياً لشعره، وأنه من الشخصيات النادرة التي تطابقت لديها الصورة مع الحقيقة، وأنه كان شامخاً في أبياته مثل شموخه في أدبه وثقافته، وأنه كان متواضعاً دون تكلف معتزاً بنفسه في غير تعال.

     ولقد كان عمر في العقد الأخير من عمره محزوناً ضيق الصدر، قل شعره، وضعفت صحته، ومات الكثيرون من أترابه، وأخذت الأضواء تنصرف عنه، لكنه مع ذلك ظل أبياً يكتم ما يجد حتى عن أقرب الناس إليه كزوجته مثلاً.

     يروي الأستاذ أكرم زعيتر وهو من أصدقاء الشاعر القدامى هذه الحكاية ذات الدلالة البالغة، على إباء عمر وحساسيته المفرطة في بعض الأحيان. فيقول: وذات يوم اعتمرت دار الشاعر فلم أجده، ولكن عقيلته السيدة «المنيرة» بالغت في الترحيب بي. وآثرنا انتظاره في مكتبه الذي كان متحفاً يزدان بالأوسمة التقديرية من رؤساء الدول التي كان سفيراً فيها، وبالرسائل بخط كبار الساسة، وأعاظم الأدباء، وأعربت عن افتخاري بما شاهدت وتنويهي بعبقرية شاعرنا الأكبر، ولكن السيدة «المنيرة» همست في أذني: ولكن عمر يا أخي أكرم «مهموم» هذه الأيام، ولا تغرنك هذه الابتسامة التي لا تفارق محياه، ولست أرى مسوغاً لهمومه، فحاله جيدة، ومنزلته رفيعة، وقد زوج ابنته وولديه، إنه لا يبثني شكواه، وأنا لا أسـأله لأنه شديد الحساسية ويكتم آلامه، ويتضاءل إنتاجه. وقد يتعصى عليه القول، وقد شرع بنظم قصيدة منذ شهر ونصف الشهر ولما يكملها.

     وجاء عمر فأضفى على المجلس من بشاشته ما أضفى. والتمع في خاطري أن نقيم أمسية شعرية في المركز الثقافي الإسلامي أشبه ما تكون بالمهرجان التكريمي، لعمر فحبذت السيدة المنيرة الأمر حرصاً على «معنويات» زوجها.

     وكان لنا ما نريد، فقد احتشد المركز بالأدباء، وكان حسبنا أن نعلن أن الأمسية الشعرية لعمر أبي ريشة حتى يؤمها الجم العديد من أهل الأدب والفكر والعلم والسياسة.

     وقدمت للأمسية مرحباً بالحضور، منوهاً بعبقرية الشاعر، وتعمدت أن أفصل القول في عبقرية الشاعر، وأن أتحدث عن شعره، ثم نددت بمحنة الشعر وما أطلق عليه زوراً بالشعر الحديث المطلسم الذي تشنؤه القرآنية وتلعنه العربية، وقد عصم الله منه فارس البيان شاعرنا الأكبر شاعر العربية عمر أبو ريشة، ورددت قول شوقي:

والشعر صنفـــان فباق على قـــائله أو ذاهب يـوم قيـــل
ما فيه عصري ولا دارس الدهر عمر للقريض الأصيل

     وها هـــو ذا عمـــر:

بشاشته لذة في العــــــيون     ونغمتــه لــــذة فــي الأذن

     ووقف أبو ريشة يرد التحية بأبلغ منها، ويقول: وعاد صديق العمر ليقدمني إليكم كما فعل في الماضي بوحي من نبله وكرمه، ولكنني أعود لأؤكد أنني عند قولي بعد أن تخليت وتخلت عني جميع المناصب التي كنت أشغلها:

راض بمطافي مجــروح الــ     ــقدمـين أســـير بكل إبـــــاء
لا تسمــع لي شكوى ضجــر     لا يبــصر لي وجه استحياء
أقســى أعبـــــــائك يا دنيـــا     عبء الإفــلات من الإعيـاء

     وأنا على هذا الحال كما ترون من التمرد والضياع يصر صديق العمر علي ويقذف بي إلى هذا المنبر لأتكلم!

أتكلم؟ ماذا أتكلم!؟

أقلامي جـــف عليهــــا الـــدم     ولهاتي سالــــت في المــــــأتم
وبقايا أحــــــلامي انتشــــرت     وعلــــى أجفـــــــاني تتحطــم

أتكلم ماذا أتكلم؟

هل أحمل في صدري أسراراً     أخشــــى أن تفشى أو تـكـتـــم
إني لا أحمل غـــــــير العـــار     في الــدرب الموحش والمبهم
إني رجـــــــــل صحبـته الآلا      مُ؛ فكيـــــــف عليهـــــا يتـألم

     وحكاية الأستاذ أكرم زعيتر بالغة الدلالة على إباء الشاعر بحيث لا يبث شكواه حتى لزوجته، وبحيث يختار حين يقف للإنشاد شيئاً من شعره الذي يحمل أعظم معاني العزة والترفع واحتمال المكاره دون شكوى أو ضجر، وأنى له ذلك وهو الذي صحبته الآلام، فيكف يتألم عليها؟

     ونجد عمر أبو ريشة ــ محمولاً بإبائه وكبريائه وبإحساسه أنه شاعر ذو رسالة لا بد أن يؤديها ــ يأسى أسى شديداً لأن الظروف لم تعد تسمح له بالقيام بمهمته الريادية الوطنية، فيقول محزوناً مقهوراً: كنا في الماضي البعيد نجرؤ على البــوح حاملين الكلمة الحق إلى جانب الحديد والنار وفي مواجهتهماز أما اليوم فلا أجــد مكاناً للكلمة بعد أن احتل الحديد والنار مساحة الوطن ومساحة الزمن.

     بل إنه ليحزن حزناً أشد لأنه لم يعد يملك مجالاً للقتال، ولم يعد هناك من يحاربه مع أنه خنجر مرهف، فكأنه مقاتل معطل، فيقول: أنا خنجر ليس لي مجال للمشاغبة، ولا مجال للقتال، ولا مجال للنقد، ولا يوجد من يحاربني.
❊❊❊

     وبعــد: فلا يستطيع أحد أن يدعي أن عمر أبو ريشة ظل دائماً حيث يدعوه إباؤه وكبرياؤه، فقد كان بشراً فيه ضعف البشر، وفيه عجز البشر، ولذلك كانت له هفوات لا تليق بـــه، لكن الإنصاف يقتضينا أن نقول: إنـه عاش معظم حيــــاته ــ شعــراً ومواقـف ــ حيث يدعوه إباؤه وكبرياؤه، وإن صورة الفارس العربي النبيل استولت عليه، وحاول أن يكون نموذجاً من نماذجها، وأدرك من هذه المحاولة حظاً بعيداً من النجاح، وحسبه أنه لم يمدح أحداً قط، وحسبه أن احتل بمواقفه الوطنية حيزاً مذكوراً في سجل الشعر العربي، وحسبه أنه كان قامة شامخة مادة ومعنى.
❊❊❊

كتاب عمر أبو ريشة عاشق المجد - في رحاب فيصل

في رحاب فيصل

كان في رحـاب فيصـــل أمرح
وأنشط وأزهى منه في أي بلد


     تستحق صلة عمر بالملك فيصل وقفة فيها شيء من الأناة، فهي صلة فيها شيء من التميز والخصوصية، يزيد من قيمتها أن كلاً من طرفيها كانت له مكانته وحضوره.

     بدأت الصلة في الستينيات حين كان عمر سفيراً لبلده في واشنطن، فالتقى بالملك فيصل، الذي كان ولياً للعهد في بلاده ووزيراً للخارجية فيها، يوم جاء واشنطن رئيساً لوفد بلاده لدى الأمم المتحدة، وأتيح لهما هناك أن يتلاقيا ويتحدثا ويتناولا هموم الأمة، وتطورت الصلة فبلغت حد الإعجاب والتقدير المتبادلين.

     وبعد سنوات أحيل عمر إلى التقاعد فاستقر في بيروت، فعلم بذلك فيصل الذي كان قد صار ملكاً على بلاده فاستدعاه وأكرمه، وفي هذه «الفترة الفيصلية» من حياة الشاعر إذا جاز التعبير التي دامت خمس سنوات «1970- 1975م» تألق وأبدع، وازدادت شهرته واتسعت، وظفر الشعر منه بقصائد غالية، ولقي من أنواع التقدير المادي والأدبي الكثير، ففاض به السرور، وأحس بمزيد من النشاط والمرح، لذلك قالت زوجته منيرة محمد مراد عنه: إنه كان في جدة وفي رحاب فيصل أمرح وأنشط وأزهى منه في أي بلد.

     وقد أحبَّ عمر المملكة العربية السعودية وملوكها وأمراءها، وكثيراً ما كان يشيد بهم وبخاصة في وفائهم لأصدقائهم، وكان كثير الثناء على الملك عبدالعزيز موحد المملكة ومؤسسها.

     تولى الملك فيصل الحكم في فترة شاقة من حياة الأمة، فبذل جهوداً كبيرة داخل بلاده عادت عليها بأفضل النتائج، ثم اتسع باهتمامه فاتجه صوب العالمين العربي والإسلامي، فبذل فيهما جهوداً كبيرة لإطفاء الفتن ورأب الصدع وتأكيد أواصر الأخوة والمحبة، والعمل على نشر الإسلام والدفاع عنه، والوقوف بقوة في وجه التيارات الفكرية والسياسية الضالة التي نكبت البلاد والعباد، ورفع شعار «التضامن الإسلامي» وعمل من أجله، ووقف ضد المطامع الصهيونية التي استشرت بعد انتصارها على العرب عام 1967م، وشجع الدول الإسلامية على قطع علاقاتها مع إسرائيل فكانت الاستجابة رائعة، وعمل بصمت وإصرار حتى استطاع العرب أن يشنوا على إسرائيل حرب رمضان 1973م ويهزموها، وبذلك تحول إلى بطل ديني قومي معاً فأحبه العرب والمسلمون، إذ مثل لهم أملهم في إعزاز دينهم وجمع كلمتهم وتحرير أرضهم واستعادة مكانتهم، وصار شخصية عالمية يقصدها قادة العالم من مسلمين وغير مسلمين، وغدت الرياض عاصمة ملكه مدينة لا تكف عن استقبال هؤلاء القادة وتوديعهم.

     وقد أصر كثيراً على أن تعود القدس بالذات إلى أهلها، وطالما صرح بأنه يريد أن يؤدي في مسجدها الأقصى ركعتين قبل موته، ولذلك بكاه العرب والمسلمون في كل مكان حين استشهد عام 1395هـ 1975م أيما بكاء، وأشاد به حتى غير العرب وغير المسلمين.

     فإذا أحبه الناس هذا الحب فلابد أن يكون حب عمر له أكبر لخصوصية الصلة بينهما، ولإعجاب الشاعر الفطري بالبطولة التي رآها في الملك الشهيد. لذلك لا غرابة أن نجده يقول عنه عقب استشهاده: لم أعرف في حياتي ــ وللإنصاف والتاريخ ــ رجلاً شهماً متسامحاً حتى مع أعدائه كهذا الرجل الكبير. وأن يقول عنه في مناسبة أخرى: لقد رأيت في الملك فيصل الأول ملك العراق وفي الملك فيصل بن عبدالعزيز كتاباً مليئاً بأناشيد الحماسة، وثورة تؤجج البطولة في القلوب.

     والصلة بين الملك والشاعر تذكر الإنسان بالصلة التي كانت بين المتنبي وسيف والدولة؛ إذ إن كلاً منهما كان عارفاً لقدر الآخر ومكانته، وعمر الذي خلا ديوانه من المدح لإبائه وكبريائه وعزة نفسه ورفضه التكسب بشعره لا يمكن أن تعد قصائده في فيصل قصائد مدح وتكسب، بل قصائد إعجاب وحب.

     وخصوصية العلاقة بينهما كانت تسمح بجلسات سهر وسمر ينشد الشاعر الملك بعض شعره أو يستنشده إياه. وفي واحـدة من هذه الجلسات أنشده قصيدة عنوانها «الطاغية» وهي:

رائــع في كل ما يـبــــدع رائـــــعْ     ما له في كل ما يهـــوى منــــازعْ
يــقـــف الـتـــــاريـخ من آلائــــــه     مطرقـاً ما بين مفتــــون وخـــاشع
عبقــــــري أخـرسـت أصـــــواتـه     كل صوت من فــم الإيمان طــالع
فـــارس ما أســـــرج المهــــر إذا      لم يجد في النجم ميـدانـــاً لطــامع
شـــــاعر ما حــــن للحــــرف إذا     لم يصغه نعـش أشتــــات شــرائع
سيـــــــد في أمــــــة خامــــــــــلة     قبَّـــلـت من ذيـــــله وهي تبــــايع
إن بــدا نـشــــــوان هبــت حولــه     وزراء الحــكم للرقص تســــارع
أو بـدا غضبـــان مالــت وارتمت     جثث الأطفال في شتى الشــوارع

     يقول عمر: لما أسمعته إياها أطرق صامتاً، ثم رفع رأسه وقال بهدوء: لا تذكر اسمه ربما يهديه الله فتندم. وهذا الطاغية كان من ألد أعدائه، وما أراد الفيصل أن أذكر اسمه حتى لا أهينه، وبعد أن طلب مني حذف ما يشير إلى شخصية هذا الرجل اجتمعت إليه في مساء اليوم التالي وأسمعته هذه القطعـة التي أزلت منها فعلاً ما يشير إلى اسمه وشخصه، وكان كما ذكـرت العدو اللدود للفيصل. ومن الواضح أن الطاغية الذي كان يقصده الشاعر هو الرئيس المصري جمال عبدالناصر الذي دخل مع الملك فيصل في عداء طويل شرس لم يتوقف إلا بعد هزيمة عام 1967م. وإذا دلت القصيدة على كراهية الشاعر للطغاة والظلمة؛ فإن نصيحة الملك للشاعر تدل على عفته ونظره البعيد.

     وكان عمر أبو ريشة يكره الرئيس جمال عبد الناصر كراهية شديدة، ويطلق لسانه فيه كثيراً، وقد هم عبد الناصر بإعفائه من عمله الدبلوماسي إبان رئاسته لمصر وسورية أيام وحدتهما «1958- 1961م»، لكن بعض مستشاريه نصحوه ألا يفعل، لأن ذلك قد يدفع عمر أبو ريشة إلى هجائه بقصيدة يتناقلها الناس ويحشره بها مع من ذمهم الشعر العربي كما فعل المتنبي مع كافور، فأحجم. وهذا الخبر لم أقرأه مكتوباً، ولكن سمعته مشافهة من أناس لهم احترامهم ووزنهم، فالعهدة فيه عليهم.

     وخصوصية العلاقة بين الشاعر والملك تحمله على أن يقول له:

يا فيصلاً للحق بين يديك سفر من ولائي
هو للوفاء جمعته ونشــــرته لا للرجـــاء

     فيبرىء نفسه من المطامع، ويجعل دافعه لما يقول الوفاء والإعجاب.

     ويلقي عمر بين يدي الملك فيصل عام 1972م في الحفلة التي أقامها لضيوف الرحمن القادمين للحج قصيدته الرائعة «من ناداني»، وهي قصيدة طويلة يختمها بسبعة أبيات يوجهها إلى الملك:

يا ابن عبد العـزيز وانتفـض العز وأصغى وقال: من نـــــاداني
قلت ذاك الجريح في القـدس في سيناء في الضفتين في الجولان
قلت ذاك السجيـــن يقبع في السجن، فراراً من خسة السجـــــان
قلت ذاك الأبي يشـــهـق بالصمت، وترمى أقـــلامه بامتـــــهان
يــا ابن عبد العزيـــز تلك صحـــابي لك منها تحيـــة الرحـــمن
عرفــت فيـــك طلعة من مروءاتٍ، كبـــار وأمنيــــات حســـان
كن لهـــا بســمة العــــزاء فقــــد طال عليها تجـــهم الأحـــزان

     ويتضح من الأبيات إعجاب الشاعر بالملك، فهو العز متمثلاً في إنسان ينتفض مستجيباً حين يناديه أحد. كما يتضح أن المنادين الذين يؤملون في نجدة الملك لهم كثيرون بين جريح بيد اليهود، وسجين بيد الطغيانن وصاحب بيان حر يضطهده باغ متسلط، وهؤلاء جميعاً يحبون الملك الذي عرفوا فيه المروءة والنجدة، فهو جدير بأن يكون لهم بسمة العزاء والنصرة. وهذا كله يدل على مكانة الملك في قلب الشاعر بحيث يراه جديراً بأن يتحمل هموم هؤلاء وأمثالهم.

     وفي مناسبة مماثلة تالية يلقي الشاعر بين يدي الملك فيصل قصيدته «أنا في مكة»، وكما فعل في القصيدة السابقة يختمها بأبيات يتجه بها إليه قائلاً:

يا ابن عبـد العــزيز يا لنــــــداء في مداه ناديـت كل الرجــــــال
طال حلــــم الحـــليم طــال علــى كيـــد العوادي تمـرد الأنــذال
عشت فـي صمتك المدل علـى الحرف؛ غريباً عن كل قيل وقال
لست تسطيع كـتم ما تغــرق الأحــــداث فيه من عــزك الهطـال
شـئت أم لم تشــــأ فأنـت مـــع التـاريخ في موعد يتــيـم المثـــال
الفجاءات في مجالك في الســاح وفي راحتيـك ســر المجــــــال
أنت رنحـت بالعبــاءة عطفيـــــه وعصـــبت رأســـــــه بعقــال
وتركت الأقوام ما بين شـــاك من صدود أو طامع فـي وصــال
لم تهـــادن ولم تـزل تتحــــــدى كل بــاغ أو غـــادر ختـــــــال
قـل لمن شاء راحـة في ضـفــاف النيل من بعد وثبة استبســـال
ليس عاراً إن في النضال عثرنا إنما العار في اجتناب النضـال
ربع حطيـن موحش يا صلاح الدين إلا من ذكريــــات غـــوال
سر بنا صـوبه وصل بنا في القـدس واضرب حرامه بالحــلال

     والأبيات ملأى بالصفات التي يطلبها شاعر محب للبطولة والنبل، غيور على دينه وأمته، متطلع إلى من يدفع عنهما ظلم العدو الغاصب، في ملك يحبه ويرجوه منه أن يحقق تلك الآمال الغالية الكبيرة.

     ففيصل رجل يجمع كل الرجال؛ لذلك يناديهم الشاعر كلهم إذ يناديه، وهو رجل حليم ذو أناة، يؤثر الصمت ويترفع عن اللغو، لكن هذا كله لا يمكن أن يخفي عزه الكبير الذي يعلن عن نفسه وإن أبى صاحبه، لذلك تنتدبه مواهبه كما ينتدبه أمل الناس فيه إلى موعد نادر مع التاريخ لابد أن يؤديه شاء أم لم يشأ؛ يحقق فيه لأمته ما تريد في واحدة من فجاءاته الظافرة.

     وينظر الشاعر إلى الملك فيصل في عباءته الفضفاضة وعقاله المقصب، فيرى صورة آسرة توحي بالقدرة التي تدني، والهيبة التي تقصي، فيطمع من يطمع، ويحذر من يحذر، وصاحبها الصامت يواجه الصعاب، ويصر على تحقيق أمل الأمة في إنقاذ القدس من غاصبيها، وفي أن يصنع لها نصراً كريماً يذكر بنصر صلاح الدين في حطين، لذلك يطالبه الشاعر أن يصلي في القدس بمن معه من المؤمنين،. والشاعر يوفق كل التوفيق في البيت الأخير من هذا المقطع، وهو البيت الأخير من القصيدة أيضاً، إذ يضرب على الوتر الحساس في قلب الملك الذي أعلن مراراً أن أمله قبل موته أن يصلي ركعتين في القدس المحررة.

     وشاء الله عز وجـل أن يختم للملك فيصل بالشهادة، فلما جاء الحج وأقيم الاحتفال السنوي المعتاد وقف عمر لينشد بين يدي الملك خالد قصيدة رائعة في رثائه سماها «أمرك يــا رب»، وهي الجملة الوحيدة التي يروى أنه قالها لحظة إطلاق النار عليه.

     ولعل من المناسب أن نورد ما قاله الشاعر في بعض مقابلاته عن هذه القصيدة، ففيها ما يعين على فهم المناسبة، وما كان بين الراثي والمرثي: من الشخصيات العربية المهمة التي عرفتها عن كثب وصادقتها العاهل السعودي الراحل فيصل بن عبدالعزيز رحمه الله، فقد كان أعز صديق لدي. عرفته طويلاً من خلال الاجتماعات الكثيرة التي تمت بيننا أيام كنت رئيساً للوفد السوري في الأمم المتحدة وكان هو رئيساً للوزارة. وأيام كان أيضاً مندوباً لبلاده في الأمم المتحدة. كنا نسهر كل ليلة ونتجاذب أطراف الحديث، وعندما أصبح ملكاً استدعاني إلى السعودية لأقول كلمتي في مكة في مناسبة الحج. كانت العلاقة ودية، وليست علاقة سفير بملك، لم تكن علاقة رسمية بل هي علاقة رجل برجل.

     ولما اغتيل ذلك الاغتيال الفاجع، ترك فــي نفسي أثراً بليغاً من الألم، فكتبت ما كتبت عنــه، والشيء الذي لم أستغربه، ولم يستغربه العالم بأسره، أنه لما أطلق الرصاص عليه لم يقل كما هو مألوف أن يقال في مثل هذا الموقف: من أنت؟ يا الله. أمسكوه... أو غير ذلك. بل قال: «أمرك يارب»، واستشهد. هذه الكلمة تدل على عمق إيمانه بمبدع الكون الأعظم، وعلى مدى صدق ذلك الإيمان.

     لقد كتبت قصيدتي «أمرك يارب» على لسانه، وهذا أمر أعتدُّ به، لأنه فتح جديد في عالم الأدب: الميت يتكلم!. ألقيت تلك القصيدة في مكة المكرمة بحضور الملك الراحل خالد بن عبد العزيز رحمه الله، وذلك في الحفلة السنوية التي تقام في مناسبة عيد الأضحى المبارك. والعادة في مثل هـــذه الحفلة أن يلقي شاعر واحد شعره، وكان ذلك الشاعر أنا يومذاك. وقد ألقيت لثلاث سنوات متتالية شعراً عن الإسلام، وعن السيد الأعظم محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم.

     ألقيت هذه القصيدة في مكة، وافتتحتها مخاطباً الملك خالد: دعيت الآن لألقي كلمتي، ولكن الكلمة التي ألقيها ليست لي، إنها لأخيك، لحبيبك الراحل المقــيم، إنها لفيصل، لقد سمعها العالم بأسره في قوله: «أمرك يارب» في تلك اللحظة التي انتقل بها من عرض الوجود إلى جوهر الخلود. إنها كلمة قوة الإيمان، وإيمان القوة. ما أقل حروفها!.. وما أكثر معانيها وأبعد آفاقهــــا!. إن الإنســـان كما تعـلـــــم، عندما يفاجــأ بحادث رهيـــب، يجفل، يرتعد، يمتقع لونــــه، يصيح. كل ذلك بدافع من طبيعة إنسانيته المتمسكة بالحياة. أما أن يفاجأ بأفجع ما يفاجأ به، ويقول بكل هدوء واطمئنان: «أمرك يا رب»، فهذا حادث وحيد من نوعه في تاريخ الإنسانية. ماذا جال في خاطر الفيصل في تلك الثواني التي عاشها؟ ماذا رأى؟ ماذا شعر حتى قال: أمرك يارب؟ إني الآن أنقل تلك المعاناة بالشعر، لا بالنثر، بالشعر الذي كان رحمه الله كثيراً ما ينصحني بأن أخفف من حدته. وكيف أقوى على ذلك وأنا لا أملك شيئاً من حلمه ورقته، وصبره وحكمته.

     لم أمدح في حياتي أحداً، أما إذا كان رجلاً كبيراً ومات... عندئذ للوفاء وليس للرجاء كنت أقول كلمتي فيه، أما وهو حي، فأبداً لا.. لم يقرأ أحد لي، ولن يقرأ أبداً، قصيدة مديح في شخص حي. هذا الشعر هو الشعر الحـق، والقصيدة هذه شعر أتحــدى به الأدب العالمي.

     من حديث الشاعر ندرك أن بينه وبين الملك فيصل صلة خاصة، وهي صلة تؤيدها شواهد كثيرة، وندرك أن الشاعر لم يمدح أحداً وهو ما يشهد به ديوانه، وهي نقطة مضيئة يحق له أن يعتز بها كثيراً.

     أما رثاؤه للملك فيصل فهو رثاء دافعه الحب والإعجاب والإكبار، وقد تشكل هذا الدافع عبر سنوات طويلة شهد فيها الشاعر من مواقف الملك ما حمله على ذلك. يضاف إلى ذلك أن الملك مات ميتة «تراجيدية» مثيرة كما يموت الفارس فوق صهوة حصانه في ساحة الوغى. مات واقفاً كشجرة السنديان، مدافعاً عن أنبل قضايا دينه وأمته وبلاده، وزاد من عظمة هذه الميتة كرامة الشهادة، وأنه هتف بجملة واحدة فقط هي «أمرك يارب» لحظة الاستشهاد على الرغم من هول الموقف ورهبته. وهذا كله حمل الشاعر ــ وهو العاشق للبطولة والفروسية ــ على مزيد من حبه للملك الراحل.

     تقع القصيدة في اثنين وخمسين بيتاً تدور كلها على لسان الملك الراحل، في استبطان عميـــق ــ وفق فيه الشاعر ــ لنفسيته وحيـــاته وإيمانه وتسليمه وآماله التي حققها، وأمله الذي لم يحققه، وهو الصلاة في القدس المحررة.

     تبدأ القصيدة بالاستسلام التام لأمر الله عزوجل:

يا رب أمـــرك هــــذا لا أطيـــق له     رداً فأمـــــــــــرك يا ربـي تـولاني

     ويلي هذا الاستسلام تساؤل عما جرى، فهو أمر جلل، ترى أهو الموت الذي طالما كان قريباً منه!؟.. وهو يخوض غمرات الجهاد تحت راية أبيه أيام توحيده للمملكة لكنه كان ينأى عنه كأنما كان يخشاه:

من أين أي دوي عاصــــــف عشـيـت     عيناي من وقعــــه واهــتـز بنيـانــــي
كم فضت الحرب في سمـعي نظائــره     وعفـــــرت بغبــــار البــيد أردانـــــي
وكم مشى الموت في دربي وأوسع لي     مجـال خطوي أكان الموت يخشانـــي

     ومن كوى الغيب الذي يطل عليه الشهيد يرى طيوف شهداء عظام ترحب به وتتلقاه بالبشر وكأنها تربط على قلبه وتطمئنه إلى ما هو قادم عليه:

أرى طيوفاً أراها حــولي انتشــرت     أرى التفــــاتتها بالبـــــشر تلقــــاني
هذا عـليٌّ أبو الأبطال ذا عمــــر الـ     ـفـــــاروق ذلك عثمـــان بن عفـــان
هل طالعوني عزاء لي وهل شعروا     أن شأنهم عند أعراس الردى شـأني

     وكما تطالعه طيوف هؤلاء الشهداء يطالعه طيف أبيه يشير إليه على عجلن ويرمقه بشوق وحنان وكأنه يدعوه إلى اللحاق به:

وذاك طـــيـف أبي عبد العزيز وفي     عينيه ومضـــان من شــوق وتحنان
أشـار لي ومضى عجــــلان أحسبـه     رأى على القرب مني نعش جثماني

     ويا طيبها ميتة رائعة يحف صاحبها البشر والرضوان، وطيوف شهداء عظام، وطيف أب بطل، ميتة تتحول إلى عرس بهيج!

     ويتساءل الراحل عما أصابه وهو في بلد آمن بين أهله وإخوانه، عم فيه الخير والفضل، فلا قتال ولا أشواك ولا أحقاد، بل حب وسلام وبذل للمعروف وسعي في قضاء حوائج الناس؟ إن يكن هو القضاء المحتوم الذي ينقل الناس جميعاً إلى الدار الآخرة فمرحباً به، وإن تبق حسرة في هذه الدنيا فلأن أمنية نبيلة هي الصلاة في القدس المحررة لم تتحقق:

لي بعد يا رب من دنـيـــــاي أمنيــــــة     تقتـــات بالوعــــد منـهـا كل أشجــاني
جرعــت ما بي لنعمى يوم موعـدهـــا     ويــوم موعدهـــا استـــأنى وجافـــاني
أردت أختــم فيها العمـــــر مقـتحــــماً     أحقــاد حطين في مضمارها الـثـــاني
وأن أصــلي وكف القدس تحــــمل لي     رضاك في المسجد الأقصى وترعاني
ما كـــان أكرمهـا في العمــــر أمنيــة!     ما كنـت أحســـــبها تمضي وتنســاني

     وينظر الراحل إلى ساسة الأمة فيرى أحلامهم تافهة، وعزائمهم خائرة، قادتها إلى الهوان والذل، مع أنهم ينتمون إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذي لم يهادن الظلمة والطغاة.

     على أن ثقته بأصالة أمته يرد إليه اليقين بأن عهد القدس لن يضيع، وأنها سوف تسترجعها محررة من الصهاينة الغاصبين، وأنه يكاد يلمح الأبطال الذين سيكون لهم شرف التحرير، ومن بينهم خالد بن الوليد:

يا رب ما ضـاع عهد القدس إن له     قومي الأبــاة أعـــادي كل عـدوان
أمــــانة لك لن يرمـــــوا بحرمتها     ولن يجــروا عليهــا ذيــل نسيــان
أكاد ألمحهـــم في ظــل مسجـدهـا     وخـــالد مـــن سنــا محـــرابه دان

     ويعود الراحل لمناجاة ربه مناجاة تفيض بالإيمان والتقوى، والتسليم التام له تسليماً راضياً مليئاً بالسكينة والطاعة، ويضع بين يديه الكريمتين ما قام به من جهود لإعلاء كلمته وإعزاز دينه. وينهي القصيدة بهذين البيتين الرائعين يصور فيهما سفينة عمره، وهي تطوي شراعها، وتنتهي رحلتها:

يا رب ما حل بي جرحي يسيل على     شراعها رعشــة الإعيــــاء تغشانـي
يا رب حسبي وأنت الآن مغــــرقهـا     إن قيــــل أغرقــــت فيها خير ربـان

     لقد حققت القصيدة الوحدة الموضوعية، كما حققت الوحدة العضوية. فجاءت نسيجاً محكماً في دقة وانسجام وتناغم، واستبطن فيها الشاعر أعماق المرثي وتاريخه، وجهاده في توحيد المملكة، وجهاده في الدعوة للإسلام، وحرقته على الأمة، ويقينه بأصالتها وقدرتها على الثأر، وأمنيته الكبرى في الصلاة في القدس المحـــــررة، وإيمانه العميق بالله عز وجل ورضاه بمايصنع لــــه ويختار، وأجرى ذلك كله على لسانه وأنطقه به، فكانت قصيدته قصيدة رثاء متفــرد، مما يجعلنـــا لا نستغرب دعـــواه فيها إذ يقول عنهـــا: والقصيدة هـــذه شعر أتحدى بــــه الأدب العالمي.
❊❊❊

الأكثر مشاهدة