الأحد، 23 يناير 2022

عبد الله بن رواحة.. القائد الشاعر في مؤتة

عبد الله بن رواحة.. القائد الشاعر في مؤتة

لكنني أســـأل الرحـمن مغفـــرة      وضربة ذات فرع تقـذف الزبَـدا
أو طعنة بيديْ حران مجهـــــزة     بحربة تنفذ الأحشــــــــاء والكبدا
حتى يقـــال إذا مروا على جدثي     أرشده الله من غازٍ وقد رشدا[1]

     هو عبد الله بن رواحة صاحب هذه الأبيات، يضرع فيها إلى الله عز وجل أن يمن عليه بالشهادة في سبيله، فيكون من الفائزين، ويحظى بمقعد صدق عند مليك مقتدر.

     كان ذلك يوم مؤتة؛ إذ أمّر الرسول صلى الله عليه وسلم على المسلمين زيد بن حارثة، فإن أصيب فجعفر بن أبي طالب، فإن أصيب فعبد الله بن رواحة. وحين أزف رحيل الجيش المجاهد، ودّع الناس أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسلموا عليهم، فلما وُدِّع ابن رواحة بكى، فقال له الناس: ما يبكيك؟ فقال: أما والله ما بي حب الدنيا ولا صبابة بكم، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ آية من كتاب الله عز وجل يذكر فيها النار: ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا﴾؛ فلستُ أدري بالصَّدَر بعد الورود، فقال المسلمون: صحبكم الله، ودفع عنكم، وردكم إلينا صالحين، فقال ابن رواحة: الأبيات الثلاثة السابقة.
* * *

     وانطلق الجيش المؤمن إلى مؤتة، وهناك وجد جيشَ الروم فوق ما كان يتصور، إن عدده مئتا ألف مقاتل، مئة ألف من العرب، ومئة ألف أخرى من الروم، أما جيش الإسلام فقد كان عدده ثلاثة آلاف مجاهد فحسب!.

     ونظر المسلمون إلى عددهم القليل، فأدركهم شيء من الوجوم والتساؤل، وقال بعضهم: فلنبعث إلى رسول الله، نخبره بعدد عدونا، فإما أن يمدنا بالرجال وإما أن يأمرنا بالزحف فنطيع.

     وبينما الناس على ذلك، جاءهم ابن رواحة فقال: والله ما كنا نقاتل الناس بكثرة عدد، ولا بكثرة سلاح، ولا بكثرة خيول، إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، انطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين، إما ظهور عليهم، فذلك ما وعدنا الله ووعد نبينا، وإما الشهادة فنلحق بالإخوان، نرافقهم في الجنان. وإذ سمع الناس من ابن رواحة هذا النداء المتوهج المتحمس الذي يدل على عظم يقينه، وقوة ثقته بربه ودينه؛ تحمسوا وأجمعوا على القتال.

     كانت الشهادة أمنية عبد الله بن رواحة التي تستأثر بآماله وتطلعاته، كان يرجو ألا يعود من غزوته هذه إلى المدينة المنورة، لقد فضل على هذه العودة ضربة من سيف، أو طعنة من رمح، أو رمية بسهم ينتقل بها إلى عالم الشهداء السعداء.

     حين خرج إلى مؤتة، كان يركب خلفه على ناقته، زيد بن أرقم الذي كان يتيماً في حِجره، وذات مرة استمع زيد إلى عبد الله ينشد هذه الأبيات يخاطب بها ناقته:

إذا أديتِــــني وحمـلتِ رحلي    مسيرة أربع بعد الحِساء[2]
فشـــأنك أنعـــم، وخـلاكِ ذم     ولا أرجــعْ إلى أهلي ورائي
وجاء المسلمون وغـادروني     بأرض الشام مشتهي الثـواء
وردكِ كل ذي نســب قريبٍ     إلى الرحمن منقـطع الإخــاء
هنـــالك لا أبالي طَلْعَ بعـــلٍ     ولا نخلٍ أســـافلها رواء[3]

     وبكى زيد، إذ عزّ عليه أن يصاب الرجل الذي أحسن إليه، فضربه عبد الله على رأسه ضربة خفيفة وقال له: وما عليك يا لُكَعْ أن يرزقني الله الشهادة، وترجع بين شعبتي الرحل!؟ لقد كان البطل القائد يؤمل أن يحقق الله تعالى له رجاءه، فيبقى في الشام شهيداً ثاوياً مقيماً، بينما يعود زيد وحده على الرحل، وقد كان.
* * *

     ومضت المعركة تعنف وتشتد، فأصيب القائد الأول زيد بن حارثة، وأصيب القائد الثاني جعفر بن أبي طالب، وجاء دور القائد الثالث عبد الله بن رواحة، وحمل بطلنا الراية بعد استشهاد صاحبيه، حتى إذا هَمّ بالانطلاق تردد بعض التردد.

     يا للعجب! إن طالب الشهادة يحجمُ ويتردد، وإن الذي شجع الناس على الإقدام يداخله شيء من الخوف، لكن الأمر لم يطل فقد هزم البطل نفسه، ومضى لا يلوي على شيء وهو يقول لها:

أقســــمتُ يا نفس لتنــــزلنَّهْ     إذ أجلب الناس وشدوا الرنةْ
ما لي أراكِ تكرهيـــن الجنةْ     وطالما قد كنتِ.. مطمئنــــةْ
***

يــا نفس إلا تقتـــــلي تموتي     هذا حمام الموت قد صــليتِ
وما تمنيــــتِ فقد أعطيــــتِ     إن تفعـــــلي فعـــلهما هدِيتِ
أو تبتــــلي فطالما عوفيـــتِ     وإن تأخرتِ فقد شقيــتِ[4]

     وهكذا أقدم البطل، ومضى يقاتل في شدة واستماتة، وكان في غاية الجهد حين جاءه ابن عم له بعظم عليه شيء من لحم ليتقوى به، فأخذه وانتهش منه نهشة، ثم سمع المعركة يعلو ضجيجها، وتشتد، فإذا به يعاتب نفسه، فالوقت ليس وقت طعام، بل وقت جهاد ضارٍ عنيف، فألقى العظم من يده، ومضى يقاتل حتى استشهد.

     رحمك الله يا ابن رواحة! وأجزل لك الثواب، لقد رجوتَ أن تكون غازياً راشداً، وقد كنت، وقد رجوت أن تظل في الشام فظلَلْت. لطالما نظمت القصائد الغُرَّ الجياد، لكن أعظم قصيدة نظمتها كانت في مؤتة، ما كُتِبت بالمداد، ولا سُجِّلت على الورق، بل كُتِبت بدمك الزكي الطهور، وسُجِّلت على أرض مؤتة بالسيوف والرماح.

     إن هذه القصيدة العظيمة ذات شقّين، الأول انتصارك على نفسك حين ترددَتْ وجاشَتْ، والثاني استشهادك النبيل في سبيل الله عز وجل.
*****

----------
[1] شعر عبد الله بن رواحة.
[2] الحساء: جمع حسي، وهو الماء القليل، وقيل: مكان جنوب المدينة المنورة على بعد خمسة عشر كيلاً، وهو جزء من عقيق المدينة ذو زراعة ونُزُل.
[3] شعر عبد الله بن رواحة.
[4] شعر عبد الله بن رواحة.

جعفر الطيار.. القائد الطائر في مؤتة

جعفر الطيار.. القائد الطائر في مؤتة

     هو جعفر بن أبي طالب، الصحابي الجليل، والمؤمن العظيم، والقائد المجاهد، ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم، والقائد الثاني لمعركة مؤتة، والشهيد الذي توفي في أرض الشام وهو على رأس جيش صغير عدده ثلاثة آلاف من المسلمين يحارب به جيشاً للروم عدده مئتا ألف.

     لقد ندر في تاريخ الحروب أن تكون النسبة العددية بين الجيشين، مثل تلك النسبة التي كانت بين المسلمين والروم في يوم مؤتة، ذلك أن التفوق الرومي أكثر من كبير، وأكثر من ماحق. ولك أن تتصور جسامة ذلك حين تقارن بين مئتي ألف وبين ثلاثة آلاف. لكن جيش الإسلام الذي رباه وأعده محمد صلى الله عليه وسلم كان يمتلك سلاحاً عجيباً غير مرئي، لكنه يفعل الأفاعيل الغريبة المدهشة، بينما كان جيش الروم يفتقده، هذا السلاح العجيب غير المرئي هو سلاح الإيمان الذي يبث في النفوس طاقة جبارة هائلة، ومدداً نفسياً ضخماً، فيستحيل معه المتردد إلى مُقْدِم، والمُقْدِم إلى شجاع، والشجاع إلى بطل، والبطل إلى فارس مغوار يقتحم المهالك، ويلقي بنفسه في كل معترك، يبتغي القتل مظانه، لا يبالي أوَقع على الموت أم وقع الموت عليه؟

     هذا الإيمان العجيب الفعال الذي يطهر النفوس من أدران الطين، ويسمو بها إلى آفاق الرسالة الكريمة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم، فينفي منها الشوائب والأرجاس، فإذا بها تتحرر من جواذب الطمع والجشع، ومطارق الخوف والهلع، وإذا بها حميّة تتقد، وهمة تمضي، وجهاد نبيل لا يلين.

     ذلكم هو السلاح الذي افتقده جيش الروم، وامتلكه جيش المسلمين وكان لجعفر بن أبي طالب منه أرقى نصيب.
* * *

     والتقى الجيشان في يوم مخيف، جيش الروم يدافع عن عالم مهترئ عفن، نخر فيه الفساد، ومشى فيه السوس، يقوم على الظلم والجبروت، وبنى كيانه على علاقات فاسدة، يستعبد فيه الإنسان، ويظلم فيه العدل، وينحي فيها الخير، ويقدم فيه الشر.

     وجيش الإسلام يجاهد من أجل بناء عالم جديد، نظيفٍ وضاء، طاهرٍ أمين. الناس فيه يتساوون أمام خالقهم جل جلاله وأمام الشرع الذي أنزله، عالم يستهدف رفعة الإنسان، وكرامة الفرد، وخير الجموع، عالم يحرر الناس من الخرافة والوثنية والشرك، يقيم العدل وينحي الشر، ويقدم الخير، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. كان الصراع بين الجيشين صراعاً بين حضارتين، حضارة بائدة فاسدة، وحضارة جديدة رائعة، تريد أن تقدم للناس أروع فجر عرفته البشرية في عمرها الطويل.
* * *

مشهد تمثيلي..

الشخصيات: منادٍ ينادي، مجاهد، عبد الله.

(صوت المعركة يشتد ويعلو – سلاح – خيل – ضجيج).

- صوت المنادي "بأعلى صوته": يا معشر المسلمين! لا يهولنكم ما ترون من أعداد كثيرة، فوالله ما نقاتل الناس بعدد ولا عدة، بل بهذا الدين الذي أكرمنا الله به.

(صوت المعركة يطغى ويعلو)

- صوت المنادي مجدداً "بأعلى صوته": يا معشر المسلمين! اليوم يوم البيع بيعوا أنفسكم لله عز وجل، والثمن جنة عرضها السماوات والأرض.

(صوت المعركة يطغى ويعلو)

- صوت المنادي مجدداً "بأعلى صوته": أقدموا يا أهل الإسلام، أقدموا يا حملة القرآن.

(صوت المعركة يعلو من جديد)

- مجاهد "في صوت متحمس": يا عبد الله، إنها لمعركة حامية.

- عبد الله "في صوت متحمس": صدقت يا مجاهد.. لقد أبلى المسلمون في هذه المعركة أعظم البلاء.

- مجاهد "متحمساً": وكيف لا؟ وهم يطلبون الجنة؟ "صمت"

- صوت المنادي: لقد استشهد قائدنا زيد بن حارثة، وها هو قائدنا الثاني جعفر بن أبي طالب يحمل الراية من بعد "صوت المعركة"

- مجاهد: يا عبد الله، انظر إلى جعفر، إنه يحمل الراية، ويمضي كالسهم مجاهداً في سبيل الله.

- عبد الله: صدقت يا مجاهد.. انظر إليه كالليث.. بارك الله فيكم أهل بيت النبوة "متحمساً في صوت سريع" الله أكبر! هاهو ينزل عن فرسه كأنه يشعر أنها تعيقه عن جهاده.

- مجاهد "متحمساً في صوت سريع": انظر إلى ذلك الرومي يحاول الاستيلاء عليها.

- عبد الله: لقد عقر جعفر فرسه.

- مجاهد: ولكن.. انظر إلى هذه الكوكبة من فرسان العدو تحيط بجعفر، إنه يستأسد لكنهم تكاثروا عليه.

- عبد الله: ويح جعفر!.. لقد ضربت يمينه.

- مجاهد "متحمساً": لكن الراية لم تقع، لقد أمسكها بشماله.

- عبد الله "متحمساً حزيناً": ولكن هاهم يضربون شماله.

- مجاهد: بارك الله في جعفر! إنه يحتضنها بعضديه خوفاً عليها من أن تقع. إنه يهوي شهيداً مبروراً، هاهي الراية تكاد تسقط..

- عبد الله: الله أكبر، لكن هاهو عبد الله بن رواحة يعدو إليها ويحميها ويتولى قيادة المسلمين.

* * *

     كان جعفر من ذلك النوع النادر من الناس، إيماناً وبطولة، وجهاداً وتضحية وإخلاص نفس وصفاء وجدان. لقد مضى في صفوف العدو وهو يرتجز:

يا حبـذا الجنــــة واقتـرابها     طيــــبة وبـــــارداً شـرابها
والروم رومٌ قد دنـا عذابهـا     كافــــرة بعيــــدة أنســـابها
عليّ إذ لاقيتها ضرابها[1]

     وحين أصيبت يده اليمنى، سارع يحمل اللواء بيده اليسرى، فلما أصيبت سارع يحتضنه بعضديه، إنه حريص على ألا يقع، إنه قائد مسؤول وعليه أن يحتمل المسؤولية مهما تكن باهظة التكاليف. رحمك الله أيها البطل المجاهد!.

     إنها ميتة نادرة تلك التي كتبت لك. وإنه لمصير عظيم ذلك الذي أفضيت إليه، لقد فزت ووصلت وتركت أكثر الناس يلهثون وراء بطون لا تشبع حتى تجوع، ومطامع لا تأتي حتى تتجدد.

     لقد كنت جواداً في حياتك بالمال تمنحه المساكين حتى قال فيك أبو هريرة: "كان خير الناس للمساكين جعفر"، ثم كان ختام حياتك أروع الكرم والجود والإيثار.

     لقد التَمَسَكَ عبد الله بن عمر يوم مؤتة مع بعض المسلمين، فوجدوا فيك بضعاً وتسعين ما بين طعنة ورمية.

     ولِمَ العجب وقد كنت تعدو إلى اختيار عظيم كوفئت عليه، إذ صار لك في الجنة جناحان رائعان بدلاً من ذراعيك الكريمتين.
*****
----------------
[1] شعر جعفر بن أبي طالب.

عبّاد بن بِشر.. الحارس في غزوة ذات الرقاع

عبّاد بن بِشر.. الحارس في غزوة ذات الرقاع

     حلَّ الليل، وغطَّى بردائه الأسود الفضفاض على وجه الأرض، فكانت هدأةٌ، وكان سكونٌ، وكان صمتٌ مطبقٌ عجيبٌ عميقٌ.

     هدأت الكائنات، وداعب الكرى عيون قوم متعبين مجهدين، هم بحاجة إلى الراحة بعد عناءٍ شاق متصل. كان هؤلاء القوم جمعاً من المسلمين يقودهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة مشهورة له، وهي: ذات الرقاع؛ خرج فيها يطلب قوماً من بني محارب وبني ثعلبة يؤلّبون الجموع من غطفان لمحاربته.

     وكان النزول في شعب منفرد لينام فيه المسلمون ليلتهم تلك، وينالوا حظاً من الراحة بعد مشاقَّ ومتاعب، قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه الكرام: "مَنْ يَكْلَؤُنا الليلة؟" فقام الصحابيان الكريمان عبّاد بن بِشر وعمار بن ياسر، وقالا: "نحن يا رسول الله".

     وهدأ الجيش وأخذ كلٌّ موضعه، ومضى الحارسان الكريمان ليقفا في فم الشِّعب حمايةً للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين أن يؤخذوا على حين غرة، واتفق عباد وعمار على اقتسام الليل، فقام عباد يحرس أوله ونام عمار ليقوم من بعد فيحرس آخره.

     الليل هادئ صامت، والهواء عذب عليل، وعباد في فم الشعب هانئ بما انتدب إليه نفسه من حراسة وسهر، فإن عيناً باتت تحرس في سبيل الله لن تمسها النار، وشعَر عباد بفضل الله عليه أن هداه للإيمان، وهيأ له سبيل الجهاد، فأحسّ بعظيم نعمة الله تعالى عليه، وأخذ يُمضي ليله في تفكر وتأمل، وذكر وتسبيح، ثم بدا له من بعد ذلك أن يقوم مصلياً في جوف هذا الليل حيث لا يراه أحد، وحيث النفس أصفى، والبال أهدأ، والنية أصدق.

     وطفق الرجل يصلي وهو سعيد مسرور، خاشع منيب، وأخذ يقرأ من كتاب الله تعالى سورة الكهف.

ألا طوبى لعــــــبّاد بن بشــــــــــرِ     وعــــمّار كـفـــــــــايـة كــــل أمـرِ
سـنقضي الليل نحرسكم ويجـــري     قضـــــاء الله إن طرقــــوا بِشَـــــرِّ
كعهــــدك إذ جـــرى سماً نقـيعـــاً

وأجـــرى الأمر عبّادٌ ســــــــــويَّا     فقـــام ونام صاحبه ملـــــــــــــــيَّا
وكان بأن ينــــاصفـــــــه حــــريَّا     محــافظة على المثــــلى وبقيــــــا
قريـــع شـدائدٍ وافى قريعـــــــــــا

لربك صلِّ يا عبّــاد فـــــــــــــردا     وزد آلاءَهُ شكـــــــراً وحــمــــــدا
ومحـكم ذكره فاجعــــــــــله وِرْدا     فــــــإنّ له على الأكبـاد بـــــــردا
وإن أذكى الجوانحَ والضلوعا[1]

     وكان ثمة رجل من المشركين يتابع جيش المسلمين بصمت وحذر وإصرار، ذلك أن امرأته أسرها المسلمون، فأقسم ألّا يرجع حتى يصيب النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، أو يهريق دماً في أصحابه.

     وحين أبصر عباداً وهو واقف بفم الشعب يصلي فرح وهنّأ نفسه أن قد أدركَتْ ثأرها وبرَّتْ بقسمها. أخذ يقترب بهدوء، ويختار الجهة التي سوف يطلق فيها السهم ليطفئ نار حقده المتقدة في صدره على هؤلاء الذين أسروا زوجته.

     وحين اطمأن لجودة المكان الذي اختاره، وحين شعر أن الكل نائمون، وأن عباداً مشغول بصلاته، أطلق سهمه الأول بعد أن صوّب أدق ما يكون التصويب!.. وكم كانت فرحته كبيرة حين رأى السهم يصيب هدفه فيتدفق الدم من عباد بن بشر ويسيل على جسده وثيابه!. أدرك الرجل ثأره وهمَّ أن ينصرف لولا أن رأى عجباً من العجب. لقد رأى عباداً ينزع السهم، ويمضي في صلاته بهدوء وخشوع يرتل بحنان آيات من سورة الكهف.

     عجب الرجل أشد العجب، وأدركه من موقف عباد وثباته وحرصه على صلاته شعور بالإعجاب والإكبار. وكاد هذا الشعور يستولي عليه لولا أن عاد فتذكر زوجته الأسيرة، فاشتعل مرجل حقده من جديد، ووضع في قوسه سهماً آخر أطلقه بحزم وعزم ودقة، فكان أن أصاب جسد عباد، وفرح الرجل مجدداً حين رأى سهمه يصيب عدوه، وحين رأى الدماء تزداد تدفقاً وتغزراً. لكن العجب ما لبث أن عاد إليه من جديد.. لقد رأى عباداً ينزع الثاني ويمضي في صلاته يردد من سورة الكهف آيات بينات.

     وتملكه العجب بصبر هذا الحارس وبطولته وثباته، وثارت فيه معاني الإكبار لهذا الرجل وإن كان خصماً له. ولولا أن صورة زوجته الأسيرة أخذت تطالعه من جديد فتوقد في صدره الحقد لانصرف عنه في الحال، لكن الصورة الشاخصة والحقد المتأجج جعلا الرجل يطلق من كنانته سهماً بعد سهم، فيصيب عباداً الذي ينزع هذه السهام سهماً بعد سهم ويمضي في صلاته. أيُّ رجل هذا عباد بن بشر الذي يلوح سواده وهو قائم يصلي فتنثال عليه السهام واحداً بعد الآخر!..

ولاح ســــــواده فرمــــــــــــاه رامٍ     أتى إثــر الحليـــــلة في الظـــــــلامِ
فديتــك يا ابن بِشر من همــــــــــامٍ     أما تنفك عن نزع السهـــــــــــــــامِ
تحـــامي عن صلاتك ما تحـــــامي     وجســمك واهـــن الأعضــــاء دامِ
أما لك يا ابن بِشــــر في الســـــلام     وقد جرت الدمــاء على الرغـــــامِ
ألا أيقظ أخـــــــــــاك من المنـــــام     كفـــــاك فقد بلغت مدى التمـــــــامِ
وما تدع القنـوت ولا الخشوعا[2]

     وحين غلب الدم عبّاداً أيقظ أخاه عماراً الذي دهش لما رأى من حال أخيه، وطفق يسأله في لهجة لا تخلو من العتب:  أي أخي ما منعك أن توقظني له في أول سهم رمى به!؟

     قال عباد: لقد كنت أقرأ في سورة الكهف، فكرهت أن أقطعها، ولولا أني خشيت أن أضيع ثغراً أمرني به رسول الله صلى الله عليه وسلم ما انصرفتُ ولو أتى على نفسي.

     يا لروعتك يا عباد! ويا لإجابتك المضيئة المتوهجة التي تكشف أي رجل كنت! وأي إيمان كان يعمر فؤادك النبيل!..

رأى عمار خطبـــك حين هبَّــــا     فلم يرَ مثــله مـن قبل خطــــــبـا
يقول ونفســــــــه تنهدُّ كربــــــا     أيدعوني الحفـــاظ وأنت تـــأبى
لقد كلفت أمراً منــــك صعـــــبا     ولو أيقظتني لشفيت قلبــــــــــــا
جرحتَ سواده جَرحاً وجيعا[3]

     أما الرامي الذي ألحَّ بالسهام على عباد فما إن رأى عماراً وقد هبّ حتى زلزل قلبه، ومضى مسرعاً بالهرب، وهو لا يكاد يصدق نفسه أنه نجا بعد الدرس العجيب الذي تلقاه من عباد بن بشر، ذلك الدرس الذي يكشف له عظمة هؤلاء التلاميذ النجباء الذين تخرجوا من مدرسة النبوة الطهور.

وأبصر شخصه الرامي المُــلِحُّ     فزلزل قلبه للرعــــــب نضـح
وأمسك منه تهتــــــــــان وسحُّ     وما إن راعه سيف ورمــــــح
ولكن مسه خبـــــــــل فريعـــا
تولى يخبط الظلماء ذعـــــــرا     ويحسب درعه كفناً وقبـــــــرا
ألا أدبر جـــــــــــزاك الله شرا     ظفرت بصـــابر وأبيت صبرا
فآثرت الهزيمة والرجوعا[4]

     لقد هرب الرجل الملحّ بالسهام، وقام عمار بواجبه نحو عباد الذي ما كان ليقطع صلاته ولو قضت عليه السهام؛ لولا أنه خشي أن يضيع ثغراً أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بحراسته.

     أي رجل هذا هو عباد بن بشر!؟ أي بطولة في فؤاده!؟ أجبلٌ هو من الجبال الراسيات لا يضيره وقع السهام!؟ أم أنه بشر يعرف الألم ويكابده، لكن الإيمان رفعه إلى ذرى شامخات!؟

     موقف عاطر نبيل يا عباد شاء الله عز وجل أن يكتب لك فيه الحياة والنجاة من القتل لتصوغ من بعد مواقف أخرى عاطرة نبيلة. آخرها موقفك الشامخ السامق المنيف الذي كان ختامه أروع ختام وأكرمه وأشرفه. هو موقفك في اليمامة في حياة الصِّدِّيق رضي الله عنه حتى مضيت تحارب المرتدين، وتهدم عالمهم الزائف الكاذب، وتمضي إلى ربك شهيدَ صدقٍ عند مليكٍ مقتدر.
*****
----------------
[1] شعر أحمد محرم، ديوان مجد الإسلام.
[2] شعر أحمد محرم، ديوان مجد الإسلام.
[3] شعر أحمد محرم، ديوان مجد الإسلام.
[4] شعر أحمد محرم، ديوان مجد الإسلام.

أشهليان يوم حمراء الأسد بعد أحد

أشهليان يوم حمراء الأسد بعد أحد

     هما رَجلان أنصاريان من بني عبد الأشهل، شهدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة أحد، وعادا بعدها جريحين إلى المدينة المنورة. خرج الرجلان للجهاد في سبيل الله، والذبِّ دون دِينه أن تطغى عليه العُصبة المشركة التي جاءت بجيوشها، وعسكرت عند جبل أحد يحدوها حقدٌ دفين لِما أصابها يومَ بدر إذ تركت سادتها تفتكُ بهم سيوفُ المسلمين، ومضت تولّي الأدبار لا تلوي على شيء.

     جاءت العُصبة المشركة وهي تَأمَلُ أن تُنزِلَ بالمسلمين ضربة قاضية، وترجو أن تَقتُلَ الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم. وتعاهَدَ أربعة من فرسانها على قتلِه عليه الصلاة والسلام. واستنفر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم جُندَ الإسلام الصادقين من المهاجرين والأنصار، فخفّوا سِراعاً كراماً، سادةً نُجُباً، فرساناً غَطاريفَ، لا يبالون أوَقعوا على الموت أم وقعَ الموتُ عليهم.

     وعند جبل أحد نظّم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم جيشَه الشجاعَ المؤمن.. ووزع المسؤوليات، ورتّب الخطط، وطلب من الجميع الصدق والصبر، وطاعة الأوامر بدِقة..

     ونشبت المعركة ضارية شديدة، وكان النصرُ حليفَ المسلمين بادئ ذي بدء إذ التزموا أوامر الرسول القائد صلى الله عليه وسلم.. لكن بعضهم لم يلبث أن خالفَ تلك الأوامر فانقلب ميزان المعركة فإذا المسلمون مغلوبون.

     شهدَ الرجلان الأنصاريان هذا كلّه.. ونظرا انتقال النصرِ من الجانب المسلم إلى الجانب الكافر.. وأبصرا الهزيمة الساحقة تكاد تحُلُّ بالمسلمين، لولا أن ثبتَ الرسولُ الكريم صلى الله عليه وسلم ثبات الجبال الرواسي.. وثبتت معه قِلّةٌ من المسلمين.. فاعتدل الميزانُ بعضَ الشيء، وعادَ الجيش المسلم يتجمعُ ويتلاقى، ونجا بذلك من هزيمة شنعاء كان من المحتمل أن تَحُلَّ به.

     شهدَ الرجلان الأنصاريان هذا كلَّه.. وشهدا الجراح تشتدُّ عليهما وعلى الجيش المسلم، وعلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم نفسِه، وشهدا عودة المسلمين إلى المدينة المنورة آخرَ النهار، وقد استبدَّ بهم الجَهْدُ والإعياء.

     عاد الأنصاريان الأشهليّان إلى المدينة المنورة جريحين مرهَقيْن مكدودين.. بعد إعياءِ يومٍ طويل، وجراحاتٍ أثقلت خطاهما، وآذت مشيهما، وجعلتهما يبحثان أول وصولهما عن الراحةِ والعلاج.. وهكذا كان!.. فما وصل الرجلان دارَهما حتى استلقيا على الأرض.. واجتمع حولَهما الأهلُ والمحِبّون، يسهرون عليهما، ويُعْنَوْنَ بهما، ويقدمون لهما كل ما إليه يحتاجان.. ومضت سويعات الليل الساكنِ الساجي على المدينة المنورة، والمسلمون بجراحاتهم مشغولون، ومنهم الرجلان الأنصاريان الأشهليّان.
* * *

     لكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتأمل في نتائج معركة أحد.. فقد سقطت هيبة المسلمين العسكرية التي ارتفعت يومَ بدر، وتنفَّس المنافقون والمشركون واليهود الصُّعَداء، وأخذوا يتربّصون الشرّ بالمسلمين، والقبائلُ العربية المجاورة طمعت بالمسلمين، وقريشٌ قد تُعاوِدُ الهجومَ مجدداً على المدينة المنورة لاستئصال الإسلامِ نهائياً ما دامت الفرصةُ قد سنحت لها، والمسلمون أنفسُهم قد ضعفت روحُهم المعنوية بسبب الهزيمة. إذن لا بد من عمل حاسمٍ لتداركِ الموقف وإنقاذه.. وكان هذا العمل الحاسم غزوةً دعا إليها الرسول صلى الله عليه وسلم في اليوم الثاني لأحُد.. وهي غزوة حمراءِ الأسد التي غسلت جميع الآثار السلبية للذي جرى يومَ أحد.

     أذَّنَ مؤذِّنُ رسول الله صلى الله عليه وسلم للخروج في غزوةِ حمراء الأسد، وسمعَ المسلمون النداء، فسارعوا يستجيبون.. انطلقوا على الرغم مما بهم من مشقةٍ وعناء، وتعبٍ ونصَب، وجراح وكلومٍ لم تَجِفَّ دماؤها بعد، مما حلَّ بهم يومَ أمس في معركة أحُد.

     وسمع الرجلان الأنصاريان الأشهليّان النداء.. وكُلٌّ منهما مُرهَقٌ مُتعَب، مكدودٌ جريح. تُرى أيَظَلّانِ في الفِراش رَهْنَ العلاج أم يخرُجان؟ كيف تفوتهما غزوةٌ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إنهما جريحان.. لكنهما ليسا الجريحين الوحيدين، فالجرحى سواهما كثير، بل إنه صلى الله عليه وسلم جريح.. لكنّه على رأس الخارجين للجهاد. إذن فهما خارجان على الرغم من التعبِ والنصَب، والجهدِ والإعياء والكلومِ والجراح. هما خارجان للجهاد.

     لكن كيف يرحلان وما مِن دابةٍ عند أحدهما؟ تُرى أيكونُ ذلك عُذراً للقعود أم ماذا؟ لا.. إن الرجلين الجريحين عزَما على الخروج مشياً على الأقدامِ على الرغمِ من كل شيء. وهكذا كان.. خرجا ماشِيَيْنِ في طلبِ العدوِّ وهما جريحانِ ثقيلان.

     قال أحد الرجلين لأخيه –فقد كانا أخوين–: أتَفوتُنا غزوةٌ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ واللهِ ما لنا من دابةٍ نركبُها، وما مِنّا إلا جريحٌ ثقيل؟

     تساؤلٌ رائع عظيم يقولهُ الأخُ لأخيه: أتَفوتُنا غزوةٌ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لا.. إنهما أكرمُ وأعقلُ وأكْيَسُ وأحرصُ على الأجرِ والثواب من أن يظلّا رَهْنَ العلاجِ، فيخسرا بذلك غزاة مع الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.

     حديثٌ عَجَبٌ أمْرُكما أيها الأخوانِ الأنصاريانِ الكريمان!.. لكنَّ العجَبَ لم ينقضِ بعد.. ولكن لِمَ لَمْ ينقضِ بعد.. أثمة جديد؟؟ أجلْ؛ جديدٌ وأيُّ جديد!.. كان أحدُ الأخوين أيْسَرَ جُرحاً من الآخر.. فكانا يمشيان، فإذا اشتد الإعياءُ بصاحبهِ حملَه بعضَ الوقت ومشى به، فإذا استراحَ تركه يمشي.. وظلّا هكذا حتى انتهيا إلى ما انتهى إليه المسلمون.

     وهكذا وصل عبد الله بن سهل، ورافع بن سهل، وهما الأخَوان الأنصاريان الأشهليان إلى حيث عسكر المسلمون.. وهما جريحان مُثقلان، فما فاتَتهما غزوة حمراءِ الأسد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

     أيها الصحابيان الكريمان، سلامٌ عليكما في الأحياء، وسلامٌ عليكما في الأموات، وسلامٌ عليكما يوم تُبْعَثان.. سلامٌ عليكما وعلى الدِّين الذي أنجبَكما، والنبي الذي ربّاكما مؤمنينِ مجاهدينِ صادقينِ.
*****

عجوزان يوم أُحُد.. ظِمْءُ حمار

عجوزان يوم أُحُد.. ظِمْءُ حمار

     وقعت الصيحة في المدينة المنورة أن قريشاً أقبلت بجيش ضخم، وألقت رحالها عند جبل أحد، وقد عزمت أن تجتث الإسلام من جذوره، وتبطش بالمسلمين بطشةً هائلة، وتثأر لقتلاها الذين طوَّحت بهم سيوف المؤمنين في بدرٍ قبل عامٍ من الزمن.

     وقعت تلك الصيحة في المدينة المنورة، فطفِق المسلمون يتنادون للخروج.. وأخذوا يحمّسون أنفسَهم، ويوصون بعضهم بالثبات والصبر والاحتساب. ونودي: يا معشر المؤمنين اجتمِعوا!.. ويا معشر المهاجرين انفِروا!.. ويا أيها الأنصار هيّا إلى الجهاد!.. ويا خيلَ الله اركبي!..

     وكشف التجمُّعُ السريع للمسلمين حول الرسول صلى الله عليه وسلم عن عظَمةِ نفوسهم، وصدقِ إيمانهم، وعميق يقينِهم، وتفانيهم في الذود عن دينِ الله أن يعدوَ عليه الظالمون الحاقدون.

     وفي المسجد النبوي الشريف كان تجَمُّعٌ جادٌّ مؤمن، وفيه أيضاً كان حوارٌ جادٌّ مؤمن، وفيه كذلك كانت مشورة جادةٌّ مؤمِنة.. وكان إيمان، وكان إيثار، وكان صدقٌ وجهاد، وكان حرصٌ على الخروج إلى العدو، حيث يُعسكِر عند جبل أحد، حتى لا يظن أحدٌ أن المسلمين جَبُنوا إذ فضّلوا قتال العدو داخل مدينتهم لا خارجها.

     وخرج الجيش المسلم يقوده رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد.. وفيه أمانيَّ صادقة حارة تتوزعُ أفرادَه بين نصرٍ مؤزَّرٍ كريم، وشهادة طيبةٍ أثيرة.. ومضت كتائب المهاجرين والأنصار إلى الجبل الأشمّ الذي يحنو على المدينة المنورة كأنه يحرسُها ويحميها، الجبل الذي نحِبُّه ويحبُّنا، الجبل الذي شهِدَ عند سفوحه المباركةِ أصدق صورِ البطولةِ والتفاني، والصبرِ والثبات، والبطولةِ والإيمان.

     كان التفوق الضخمُ لصالحِ المشركين، فقد كانوا أكثرَ عدداً وعُدَّة.. كانوا ثلاثة آلاف، أما المسلمون فقد خرجوا في ألفٍ فقط، ما لبثَ أن انسحبَ زعيمُ النفاق عبد الله بن أُبَيٍّ بالثلث منهم.. وبقي الثلثان يواصلان المسيرَ صوبَ الجبل الأشم الذي تَحفُلُ ذاكرة التاريخ عنه بكل طيّبٍ عظيم مُعجِب مما جرى عند قدميه المبسوطتين شمالَ المدينة المنورة.

     واتخَذ رسول الله صلى الله عليه وسلم كلَّ ما ينبغي عليه أن يفعلَه قائداً مسؤولاً وفوَّض الأمرَ كلَّه لله.. ومضى رابطَ الجأش، ثَبْتَ الجَنان، وأوصى صحابته الكرام بالطاعة والصبر والثبات، فهم منصورون بإذن الله ما استمسكوا بوصاياه الكريمة.

     وكان من عِدادِ الأسباب التي قام باتخاذِها صلى الله عليه وسلم أنْ دفعَ النساء والصبيان والعجَزة إلى آطامِ المدينة المنورة الحصينة، تحسُّباً لِما قد يحدث، وأخذاً بالحيطة والحذر.

     ونشبت المعركة عند جبلِ أحد.. وانتقل فيها الكسبُ من جانب إلى جانب.. وكان نصرٌ مبين، أعقبه خِلافٌ وعصيان، ثم هزيمةٌ كادت تكون ساحقة لولا أن ثبتَ صلى الله عليه وسلم مع قِلةٍ مؤمنةٍ صامدةٍ ثباتَ الجبالِ الراسيات.
* * *

     وفي المدينة المنورة حيث بقي النسوة والأطفال والعجَزة، في آطامِها العالية كانت نفوس القوم تدعو وتُكثِرُ من الدعاء.. وترتقب نتيجةَ المعركةِ بقلقٍ وخشيةٍ وتوجّس.

     وفي أُطمٍ من تلك الآطام كان عجوزان مسلمان طاعنان في السِّن هما اليمانُ بن جابر، وثابتُ بن وُقْش، كانا شيخين كبيرين، قد تطاولَ بهما العمر، وتراخت بهما الأيام، وآدَ جسميهما كَرُّ الجديدين، وامتدادُ الزمن.. فهما مُتعَبانِ دون تعب، مُرهقانِ دون إرهاق، مكدودانِ ناحلانِ واهنان لو أنَّ الريحَ هبَّت على أحدهما عنيفةً شديدة لكاد يسقط، ولو أنَّ أحَداً توكَّأ عليه لكاد ينهدم. ومثلُ تلك الحالة جديرةٌ بالعُذرِ، حَقِيقةٌ ألا يُعتَبَ على صاحبها وألّا يُلام.

     لكن الشيخين المسلمين، على الرغم من هذا كلِّه.. كانا في حالة أخرى بعيدة عن اللوم والعتب من الآخرين، إنها لومٌ وعتبٌ داخِليّان، يا للعجب!.. وكيف ذلك!؟

     لا تعجبْ، لا تعجبْ!.. ذلك أن الشيخين المسلمين كانا يلومان نفسيهما، وكانا يَعْتَبان عليها ويشتدّان في العتاب. كيف يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم ومَن معه يخوضون لظى حربٍ ضَروسٍ طاحنة وهما آمنان في هذا المعقلِ الأشِبِ الشامخ؟ أذاك من الإنصاف؟ أذاك من العدل؟ أذاك من الوفاء؟ أهُوَ عملٌ يليق بالمؤمن أن يفعلَه؟ مثلُ تلك الخواطر الشريفة السامية كانت تنداحُ في خَلَدَي الشيخين المسلمين الطاعِنَيْنِ في السن، وتحرِّكُ همومَهما، وتثير أشجانهما.

     ولم يطل الأمر كثيراً، فقد انتصرت دواعي الخروجِ على كل ما سواها من دواعي القعود، أحقاً كانت أم باطلاً؟

     قال أحد الشيخين لصاحبه في لهجةٍ عاتبة، مشفقةٍ حانية، يمتزجُ فيها الرجاءُ والأمل باللومِ والتبكيت: "لا أبا لَك.. ما ننتظر؟ فوالله ما بقيَ لواحدٍ مِنّا من عمرهِ إلا ظِمْءُ حمار، إنما نحن هامةٌ اليوم أو غداً، ألَا نأخذ أسيافنا، ثم نلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم؟

     سؤالٌ شهمٌ نبيل ذلك الذي توجَّهَ به أحدُ العجوزَينِ لصاحبِه، سؤالُ من يهربُ من دواعي القعودِ والإخلاد، ويلتمسُ دواعي الخروج والمبادرة.

     نحن عجوزان طاعنان بلونا الحياة بحُلوِها ومُرِّها.. وحلبنا الدهرَ أشطُرَهُ.. وها قد أوفى الركبُ على غايته أو كاد.. وإنما نحن خارجان من هذه الحياة، إن لم يكنِ اليوم ففي الغد. ما الذي بَقِيَ لنا من هذه الحياة!؟ لعله لا شيء سوى ظِمْءِ حمارٍ فحسب، وظِمْءُ الحمار قصيرٌ قصير، فهو أقل الدوابِّ صبراً عن الماء.

     حديث الشيخ الطاعن لأخيه الطاعن غايةٌ في العجبِ والروعةِ والدهشة، ولا يكادُ يفهمه ويُحيطُ به، ويستوعِبُ أبعادَه العميقةَ المؤمنةَ إلا من عرفَ المستوى العجيبَ الذي دفعَ إليهِ محمدٌ صلى الله عليه وسلم أصحابه الكرام. وكأن الطاعن الآخَر السامع وجَد في حديث أخيه ما يحلو له، ويطيب فإذا به يفرح، وإذا به يبتهج، وإذا به يَسعَد.. ولم يَمْضِ سوى قليلٍ حتى شهدَ الأُطُمُ المنيعُ الأَشِب، العجوزين الطاعنين وهما يلحقان برسول الله صلى الله عليه وسلم في أحد.

     ودخل الرجلان العجوزان في حومةِ المعركة، جسماهما واهنان عاجزان، لكن رُوحَيهِما فَتِيَّتان ناضرتان، بالإيمان غنيَّتانِ مليئتان، بالقرآن مُطَيَّبتان معطَّرتان..، فأما ثابت فقتلَه المشركون، وأما اليمان فاختلفت عليه أسيافُ المسلمين وهم لا يعرفونه فَقُتِل، وحذيفةُ يقول: أبي..! أبي..! فقالوا له: واللهِ ما عرفناه، فقال حذيفة: يغفرُ الله لكم وهو أرحم الراحمين.. فأرادَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يَدِيَهُ لكنَّ حذيفة تصدّقَ به على المسلمين.

     وآبَ الشيخان الطاعنان إلى حيث المَقِيلُ الأخير هانئين سعيدين، وضيئين طاهرين، فقد فازا بالشهادة، وسارعا إلى الموت، ولم ينتظرا قدومَه المرتقبَ حيث لا مفرَّ ولا مهرب.

     يا سفوح أُحُد!.. يا سفوحَ الجبل الذي يحبُّنا ونحبه!.. أما طيَّب ثراك العزيز الأثير دمُ الشهيدين العجوزين ثابتِ بن وَقْش، واليمانِ بن جابر!؟

     أما نبَتَ الأقحوانُ والشيح، والعوسجُ والعرار، يحملُ بعضاً من ريّاهما!؟

     أمَا تهمسُ رمالُكَ وحصاكَ بالبطولةِ التي بَدَتْ منهما!؟

     أما تحكي للصَّبا في الأسحارِ قصة الموقفِ العظيمِ الذي صاغاه بِدَميهما!؟..

     أمَّا أنا فأشهدُ أنْ قد شممتُ ذلك الطِّيب، ونشقتُ ذلك العبير، وعبقتُ تلك الريّا، ووعيتُ ذلك الهمس، وسمعتُ تلك الحكايا، وعدتُ من بعد ذلك كلِّه والخزيُ يجلِّلُني، والدمعةُ تُبادرني، وسؤالٌ حائرٌ يتردَّدُ على شفتيّ: تُرى أيُّ عذرٍ لي ولأمثالي نحنُ الأصحّاءَ القاعدين!؟
*****

حذيفة بن اليمان ووالده يوم أحد

حذيفة بن اليمان ووالده يوم أحد

     هو حذيفة بن اليمان الصحابي الكريم العظيم الذي كانت له طبيعةٌ خاصة فريدة بلغت فيه حداً كبيراً جعله يُعْرَفُ بها من بين بقيةِ الصحابة الكرام، فهو وإن اشتركَ معهم في عمقِ الإيمان، وبُغْضِ النفاق؛ فقد انفردَ عنهم في قدرتهِ الكبيرة على رؤيته مهما تكن مكامِنُه بعيدة.

     ولهذا فإنه وَهَبَ الإسلامَ نفسَه كلَّها، ومضى في طريقه لا يعرف التردد، بل يزداد على الأيام مضاءً وعزيمة، ونقاءً وأمانة، وصدقاً في بيع نفسه لله عز وجل، يقوِّي من ذلك لديه إيمانهُ الراسخُ من جهة، واحتقارهُ الشديدُ للنفاقِ والمنافقين من جهة أخرى.

     لقد اعتنقَ حذيفةُ ديناً قوياً، طاهراً، نظيفاً، شجاعاً، يحب الجهرَ والوضوح، والإبانةَ والصراحة، ويحتقر الجبنَ والكذب، والخِسَّةَ والنفاق، والأساليبَ الملتويةَ الحقيرة مما يحلو لبعض الناس أن يَعُدُّوه من الذكاءِ والدهاءِ وبُعْدِ النظر؛ ذلك هو الدينُ الذي اعتنقَه حذيفة.

     أما المعلمُ الذي تلقّى ذلك على يديه الطاهرتين فهو محمدُ بنُ عبد الله صلى الله عليه وسلم، وهو النقيُّ الواضح، الصادقُ الأمينُ الشجاعُ الصريحُ الذي يحبُ الأقوياء في الحق، الشجعانَ في الخير، ويكرهُ المرائينَ والمنافقين، والكاذبينَ والمخادعين.

     ولمّا كان حذيفةُ تلميذاً نجيباً سبّاقاً؛ فقد نمت موهبتُه الكبرى وتألّقت.. ولمَ لا ودينُه الإسلام، ورسولُه محمدٌ صلى الله عليه وسلم، وإخوانُه هم الصحابةُ الكرام!؟ لَكأنَّ حذيفةَ كان مُخْتَصَّاً بقراءةِ الوجوه، واستبطانِ السرائر، ومعرفةِ الدخائل المُسْتَسِرَّةِ المخبوءة.. ومن غيرِ ريبٍ كان له من ذلك حظٌّ كبير وافر جعل أمير المؤمنين عمرَ بنَ الخطاب رضي الله عنه وهو المُلْهَمُ الذكيُّ الفطنُ يستدلُّ برأيه في اختيار الرجال.

     ورجلٌ من هذا الطرازِ الكريم النادر لا ينبغي له إلا أن يكونَ بإيمانه وثيقاً عميقاً، ولا ينبغي له إلا أن يكونَ في ولائهِ كذلك.. وحقاً لقد كان حذيفةُ كذلك. يكشفُ عن هذا موقفهُ الضخمُ يومَ أحد، لقد شهدَ أباه يُصْرَعُ في ذلك اليوم المشهود، يُصْرَعُ بأيدٍ مسلمة قتلته عن خطأ وهي تحسَبُه واحداً من المشركين.

     كان حذيفةُ يجاهد بصدقٍ ومضاء حين حانت منه التفاتةٌ فإذا به يرى أباه والسيوف تَنُوشُهُ من هنا وهناك فصرخَ: أبي أبي!!.. لكنَّ قدرَ اللهِ غالب، لقد جاءت الصرخة متأخرةً بعدَ أنْ حُمَّ القضاء[1].

     وحين عَرَفَ المسلمون ما صنعوا بأبي حذيفةَ تولّاهم حزن، وأخذَهم وجوم، وسارعوا يعتذرون إليه عن خطأٍ غيرِ مقصود، لكنه نظر إليهم في حزنٍ وإشفاق، وجثةُ والدهِ الشهيدِ أمامَ ناظريه، وقال: "يغفرُ اللهُ لكم وهو أرحمُ الراحمين"، ثم مضى بسيفهِ في المعركةِ المتقدة يجاهد بصدقٍ ويقين.

     موقفٌ نبيل -لا ريب- ذلك الذي كان من حذيفة، أن يسارعَ إلى العفوِ عن إخوتهِ الذين قتلوا أباه، ويدعو لهم بالمغفرة، لكنه ليس بعجيب.. ولِمَ العجب؟ ألم يكن من تلاميذِ مدرسةِ النُّبُوَّةِ المطهَّرة؟

     على أن هذا الموقفَ النبيل أَتْبَعَهُ حذيفةُ بموقفٍ آخرَ نبيل، وذلك حين طفق يشتدُّ صوب المعركة المشبوبة تاركاً جثة والدهِ الشهيد دونَ أن يتوقفَ عندها، ولِمَ الوقوف!؟ لقد أفضى الوالدُ إلى بارئهِ.. وليس في الوقت متسعٌ لدفنهِ فالمعركة ضارية حامية.. وهي أَولى ما يتّجِهُ إليه الجَهْدُ الآن.. ولا ينبغي أن يتأخرَ ذو بلاء.. ولا ينبغي أن يقعدَ ذو غَناء. إنه لن يترتبَ أيُّ تقصيرٍ على تأخيرِ دفنِ الوالدِ الشهيد، أما التأخرُ عن المبادرةِ إلى المعركة فإن تقصيراً كبيراً سوف يترتبُ عليه.. لذا فليسَ لحذيفةَ سوى البِدارِ إلى القتالِ الضاري العنيف.. وهكذا كان.

     مضى البطلُ في المعركة ليصوغَ موقفاً آخرَ من مواقفِ النبلِ والبذل، والعزيمةِ والمضاء، يُضِيفُه إلى موقفهِ الأول حين نظرَ إلى مَنْ قتل أباه من المسلمين، وقال: "يغفرُ اللهُ لكم وهو أرحمُ الراحمين".

     وانجابت سُحبُ المعركة، وهدأَ النَّقْعُ الثائر، وانصرفَ موكبُ الحاقدين عن أُحد، وبلغَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ما كان من أمرِ أبي حذيفة، وكيف قُتِل؟ فأمر بأن تُؤَدَّى الدِيةُ عنه لكنَّ حذيفة أبى ذلك، وجعل دمَ أبيه الشهيد صدقةً على المسلمين.

     يا لها من صدقةٍ غاليةٍ كبيرة! ما أروعَها إذ يجود بها حذيفة! وما أروعَ حذيفةَ وهو يتقدمُ بها في صدقٍ وطُهرٍ وحنان! وفي إخباتٍ كريم طلباً لرضوان اللهِ تعالى ومثوبتهِ.

     هؤلاء المسلمون عجبٌ من العجب، وأُقْسِمُ لولا أن أخبارَهم وردت في أوثقِ الكتب وأصّحِ المصادر لبادرَ المرءُ إلى الشكِّ فيها واتهامِها.. لكن التمحيصَ التاريخيَّ الأمين يؤكدُ صحتَها وصدقَها، ويُوَثِّقُها ويجعلُها في مرتبةِ الحقائقِ الراسخة.

     هؤلاء المسلمون عجبٌ من العجب، حقائقُ بطولاتِهم تفوقُ الأساطير، وشوامخُ مواقفهِم أكبرُ من الخيال، لكنَّها بعدَ ذلك كلِّه، الصدقُ كلُّه، النبلُ كلُّه، والعظمةُ والإيثار، والتفوقُ والطموح، والاستعلاءُ والشموخ.

     وحذيفةُ رضي الله عنه واحدٌ من هؤلاء، وها أنت ترى له في يومِ أحد ثلاثةَ مواقف عاطرةً ناضرةً متألقة، فهو يدعو لإخوانهِ الذين قتلوا أباه بالمغفرة، وهو يدَعُ جثةَ الوالدِ الشهيد مسرعاً إلى المعركة لِيُبْلِيَ أحسنَ البلاء، ثم هو يتصدقُ بدمِ أبيهِ على المسلمين حينَ يأمرُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم له بالدية.

     سلامٌ عليك يا حذيفة! وألف تحيةٍ لكل موقفٍ من مواقفِكَ يومَ أحد، وإنَّ لك سواها لمواقفَ أخرى جديرةً بأن يكتبَ عنها المؤلفون، ويستلهمَ تألُّقَها الشعراء، وتُصاغَ حولَها دُرَرُ البيانِ المؤمنِ الوضيء.

     أيتها الأمة المسلمة!..

     إن لكِ في مثلِ هاتيكَ المواقف عظةً وعبرة، وإن لك فيها لدرساً أيَّ درس، وإنها لَنِعْمَتِ الأُسْوَةُ والقدوةُ.

     إنكِ اليومَ وأنتِ تقاتلين أعداءَ الله عز وجل وهم كثيرون أقوياء، وهم عليك مجتمعون، وهم على اختلافهِم يُوَحِّدُ مَكْرَهم بُغْضُهم لهذا الدين، وحقدُهم على هذا الإسلام، وكراهيتُهم لهذا القرآن، يخشون انتفاضةً منك شجاعةً كبيرة تُلْقيهم في مؤخَّرةِ الركب البشري، وتجعلُ قيادةَ الحضارة بأيدي المؤمنين الكرام الذين يريدون إنقاذَ البشرية اليوم من جاهليتِها الرعناء، جاهليةِ القرنِ العشرين، العاتيةِ الباغيةِ الفاجرة..

     إنك اليوم والأمرُ هكذا والصراعُ ضارٍ عنيف جديرةٌ أن تعودي إلى مثلِ حذيفة، وإلى مثلِ مواقفِ حذيفة، وإنك إنْ فعلتِ يا أمتي الغالية، ستنفضين عنك غبارَ الكسلِ والعار، وتستعذبين حلاوةَ الإيمان، وتطمحين إلى صياغةِ رجالٍ كأولئك الرجال، ومواقف كهاتيكَ المواقف.

     وإنك لفاعلةٌ ذلك بإذن الله، فأنتِ أمةٌ نجيبةٌ وَلُود، وها هو التاريخ يشهدُ أنكِ على مدارِ الزمن أنجبتِ الشجعانَ والقادة، والفرسانَ والأبطال، والكماةَ والغطاريف، وإنك أقوى ما تكونين حينَ تَعْنُفُ التحديات، ويشتدُّ الخصوم، ويَبْطَرُ الأعداء، ويحسبُ الناسُ أنَّ أمةَ الإسلام قد بادت أو كادت تَبِيدْ.

     إنك إذ ذاك تخرجين من بينِ الجراح، ومن جثثِ القتلى، ومن الحُطامِ والرُكام، وتسارعين إلى بطولاتٍ حَسِبَها الناسُ قد مضى زمانُها، يحدوك الإيمان، ويقود خطاكِ القرآن، ويشدُّ عزيمتَكِ دَوِيُّ الأذان.
*****
--------------------
[1] أخرج البخاري في المغازي باب: ﴿إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا﴾ رقم: (4065)، وفي المناقب الأنصار باب ذكر حذيفة بن اليمان رقم: (3724): من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "لما كان يوم أحد هزم المسلمون، فصرخ إبليس لعنة الله عليه: أي عباد الله، أخراكم، فرجعت أولاهم فاجتلدت هي وأخراهم، فبصر حذيفة فإذا هو بأبيه اليمان فقال: أي عباد الله أبي أبي. قال: قالت: فوالله ما احتجزوا حتى قتلوه، فقال حذيفة: يغفر الله لكم، قال عروة: فوالله ما زالت في حذيفة بقية خير حتى لحق بالله".

عمرو بن الجموح بعرجته في أُحُد

عمرو بن الجموح بعرجته في أُحُد

     كان عمرو بن الجموح واحداً من زعماء يثرب، وسيداً من سادات بني سلمة، وكان رجلاً كريم النفس، حسن المعشر، جواداً طيباً. وحين أشرق نور الدعوة الجديدة، واستضاءت به يثرب صارت المدينة المنورة مهد الدولة الإسلامية الأولى، ودار الهجرة الشريفة المباركة، ومأرز الإيمان إلى يوم الدين.

     وتأخر إسلام عمرو بن الجموح، ذلك أن إلفه لدينه القديم كان له في فؤاده نصيب وافر، وكان ولده معاذ بن عمرو قد سبقه إلى الإسلام، وكان مع صديقه معاذ بن جبل يدعوان إلى الله تعالى في المدينة المنورة في نشاط وحماسة.

     كان لعمرو بن الجموح صنم في منزله اسمه "مَناف"، وكان المُعاذان معاذ بن عمرو، ومعاذ بن جبل يمضيان ليلاً إلى هذا الصنم فيطرحانه في حفرة فيها بعض القاذورات، فإذا أصبح عمرو بن الجموح طفق يبحث عن صنمه مناف حتى إذا وجده غسله وطيّبه، ووضعه في داره حَفِيّاً به حريصاً عليه.

     ويعود المعاذان إلى السخرية بمناف في الليلة الأخرى، فيعود عمرو بن الجموح إلى البحث عنه وغسله وتطييبه.. وتتكرر العملية حتى يسأم عمرو، وعندها يجيء بسيفه فيضعه في عنق الصنم مناف وكأنه يقول له: إنْ كان فيك خيرٌ فدافع عن نفسك. وفي الصباح وجد عمرو صنمه منافاً في الحفرة القذرة مشدوداً بحبل إلى كلب ميّت.

     وتحركت فطرة عمرو بن الجموح، وعلِم ما عليه دينه القديم من سفاهة وتفاهة، وأخذت المقارنة بين الدعوة الجديدة وبين دين الجاهلية تتضح فإذا بعالم الإسلام بهيج رائع، مشرقٌ خصيب، نقيٌ طاهر، وضيءٌ طليق، وإذا بعالم الجاهلية ثقيلٌ قاتم، مظلمٌ كئيب، جديبٌ مقفِر، ضيقٌ مسدود، وإذا بعمرو بن الجموح يدخل في دين الله عز وجل، ويلتحق بموكب المؤمنين الصادقين.
* * *

     أسلم عمرو بن الجموح، وأخلص نفسه لله عز وجل، وكشفت الأيام صدق إيمانه، فضلاً عن جوده وكرمه، فضلاً عن شجاعته وحرصه على الشهادة.

     وكأن الرجل آلى على نفسه أن يمحو سواد لياليه في الجاهلية ببياض أيامه في الإسلام، وكأنه حرص على أن ينتقل بكل ما يقدر عليه من قوةٍ وشدة، وبأسٍ وصلابة، وجودٍ وسخاء إلى دنيا الإسلام يعمل على تشييدها وتعضيدها وحمايتها، ليُسهِم إسهاماً جاداً في القضاء على دنيا الخرافة والظلم والباطل، دنيا الجاهلية.

     وكان له من السخاء حظٌ طيبٌ موفور، ظهرت فيه أصالة نفسه، وصفاء معدنه، وكرم سريرته فإذا به يجود لا يخشى غوائل الفقر، ولا يرهب عوادي الحاجة، ثم جاءت الأيام التي دعا فيها الإسلام أبناءه إلى جود آخر هو الجود بالنفس، فقد بدأ عهد الجهاد..

     ومضى القوم الكرام الذين هزموا الشح في نفوسهم، والذين خاضوا في أعماقهم معارك عنيفة جعلتهم يمتلكون جميع أسباب المبادرة إلى الخيرات، والمسارعة إلى الفضائل.. مضوا يجودون بالنفوس من بعد أن جادوا بالمال.

     ومِن هؤلاء الذين نجحوا في الاختبارَين معاً، اختبار الجود بالمال، واختبار الجود بالنفس كان عمرو بن الجموح.
* * *

     جاءت معركة بدر، وجاء موسم الجود بالنفس رخيصة في سبيل خالقها، فإذا بعمرو بن الجموح يحرص على الخروج للجهاد.

     ولكن كانت ثمة مشكلة!.. إن عمرو بن الجموع كان أعرج، وكان عرجه شديداً، مما يجعله غير صالح للقتال، وإنَّ له أربعة أولاد، كلهم مسلمون، وكلهم مجاهدون، أصروا على إعفاء والدهم من الخروج، وله من خروجهم هم عذر أي عذر! فضلاً عن عرجه الشديد. وهكذا كان، فقد بقي عمرو في المدينة المنورة وخرج المسلمون إلى بدر.

     ودار العام على بدر، وجاءت غزوة أحد، وخاف عمرو أن يحبسه أولاده عن الجهاد، وخشي منهم مثل الذي فعلوه يوم بدر. ومضى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: "إن بَنِيَّ يريدون أن يحبسوني عن الخروج معك إلى الجهاد، ووالله إني لأرجو أن أخطر بعرجتي هذه في الجنة".

     لقد استحال عمرو إلى أمنية واحدة.. أن يُسمح له بالجهاد، وأن يُرزَق الشهادة. وكان فرحه عظيماً حين أذِنَ له الرسول صلى الله عليه وسلم بالخروج، فانطلق في سعادة وحبور، ودعا في صوتٍ ضارعٍ خاشع: "اللَّهمَّ ارزقني الشهادة ولا تردني إلى أهلي!". ونشبت المعركة، والتقت كتائب الإيمان مع كتائب الجاهلية، واشتد القتال، وانطلق عمرو بن الجموح وأولاده الأربعة يصدُقون الله ما عاهدوه عليه.

     مضى بسيفه المؤمن يضرب في أعناق المشركين، وفي قلبه حنين لا يهدأ قط، ذلك أنه في انتظار الضربة التي سوف تنقله إلى عالم الشهداء السعداء.

     إن اللهفة تستبد به، وتمتلكه وتجعله يمضي في نشاط لا يفتر، ذلك أنه حريص على أن يطأ برجله العرجاء في جنة الخلد التي لا تبلى.

     وأخيراً جاءه ما يؤمل، وأصاب ما كان يحرص عليه فإذا به شهيدٌ سعيد. ومضى إلى ربه أميناً مبروراً، وبعد ست وأربعين سنة على دفنه نزل سيل شديد من الماء غطى أرض القبور بسبب عين من الماء أجراها معاوية، فسارع المسلمون ينقلون رفات الشهداء الكرام. فوجدوهم كما وصفوهم: لينة أجسادهم، تتثنّى أطرافهم. وكانت جثة عمرو، لم تأكل الأرض منها شيئاً، كأن صاحبها في حلم هانئ بهيج.

     رحمك الله يا عمرو!.. وأجزل لك الثواب، موقفك يوم أحد في حرصك على الشهادة، درس يهيب بنا نحن -القاعدين الأصحّاء- أن ننجو من هذا الهمود الكئيب، والتواكل السقيم، وأن نسمو إلى آفاق المسؤولية الكبيرة التي أحسن حملها الأجداد العظام، وأضعناها نحن التعساء المتواكلين.
*****

عبد الله بن جحش يوم أحد

عبد الله بن جحش يوم أحد

     خرجت قريش في السنة الثالثة للهجرة الشريفة، زاحفةً نحو المدينة المنورة في جيش لجب لهَّام، يسوقها حقدٌ ضارٍ عنيف، ويحث خطاها شوق عارمٌ جيَّاشٌ للثأر من المسلمين، وَالانتقامِ لما حلّ بها يومَ بدر، قبل عام منصرم حين كانت أول معركةٍ بين الإسلام والجاهلية، وكانَ أولَ نصرٍ عزيز مؤزر سقط فيه من المشركين سبعون قتيلاً، وأسِر سبعون آخرون.

     كانت قريش تريد الثأر إذن، وكانت صورُ قادتها وهم يَسقطون صرعى على أرض بدر كعتبة بن ربيعة، وأبي جهل بن هشام؛ ماثلة أمامها لا تزول ولا تريم، بل تؤجج نيران الحقد الأهوج المجنون.

     وعسكرت عند جبل أحد، ذلك الجبل الحبيب الذي شهد أروع صور التضحية والصدق والفداء، وقد أجمع قادةُ رحلتها المشؤومة أن يستأصلوا الإسلام نهائياً، قتلاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإبادة للمسلمين كاملة، حتى ينتهيَ أمرُ هذا الدين الجديد الذي أرَّق ليلهم، وأتعبَ خُطاهم، وأضنى أجسادهم، وألقى الهواجس في مضاجعهم، وجعل أمورهم تنتهي إلى ما يكرهون.
***

     وخرج الجيش المسلم يقوده رسول الله صلى الله عليه وسلم صوب معسكر المسلمين في أحد، يسوقه الحنين إلى الجهاد، ويحث خطاه الشوق العارم للموت في سبيل الله طلباً لجنة الخلد الدائم، والنعيم الذي لا يزول. ووقف في صفه عبد الله بن جحش رضي الله عنه، وفي صدره رغبة في الجهاد جياشة، وعزم على الاستبسال والقتال، حار صادق نبيل.

     كان عبد الله من أعظم أبطال غزوة أحد، ثباتاً وصدقاً، ومضاءً وتضحية، ولم يكن يدور في خلده سوى رجاءٍ كبير، رجاءٌ عملاق، أن يرويَ بدمه الطهور ثرى الجبل الكريم، ويثويَ عند سفحه المبارك شهيد صدق وتضحية ومضاء.

     ولم يتوقف رجاؤه عند هذا الحد فحسب، بل كان يعظمُ ويمتد، إنه يرغبُ أن يُمَثَّلَ به بعد استشهاده، يجدع أنفه، وتقطع أذنه، ويعبث بوجهه النبيل أيدي الحاقدين الكافرين، ليزداد أجره وثوابه، وتعلو درجته ومكانته عند الله عز وجل.

     دعا عبد الله بن جحش قبل المعركة فقال: "اللَّهمَّ ارزقني غداً رجلاً شديداً في بأسه، فيقتلني ثم يأخذني فيجدع أنفي وأذني، فإذا لقيتك قلتَ: يا عبد الله!.. فيم جُدِعَ أنفك وأذنك؟ فأقول: فيك وفي رسولك، فتقول: صدقت".

     وحين التقى الجيشان عند سفح أحد قاتل عبد الله قتال المستأسد الضاري، وصال وجال، ورمى بنفسه أنف الجلّى غير وجِلٍ ولا هيّاب. وتحقق رجاء البطل المقدام، فقد استشهد على يد أبي الحكم بن الأخنس، ومثَّل به المشركون، فكان شهيداً وفياً لإيمانه العظيم، وكان صورةً من أنبل صور الصدق والوفاء.
***

     هنيئاً لك أيها البطل الكميُّ السريُّ، هنيئاً لك ما نلت، فقد فزت بما رجوت، وكسبْتَ ما أمَّلْت، لك تهنئة مضيئة ناضرة، ولك بشرى وضيئةٌ طاهرة.

فأبشر أيها البطل الكريم أبشر!..

أبشـــرْ فذلك ما ســـألتَ قضــاهُ     ربٌّ هداكَ فكنــــتَ عندَ هُـــداهُ
آثرتَـــهُ ورضيتَ بين عبـــــادِه     من صالحِ الأعمالِ ما يرضـــاهُ
قتــــلوكَ فيه، تردُّهم عن دينِــه     صرعى، وتمنعُ أن يُبــاحَ حِماهُ
وبَغَوا عليك فعذبوا الجسد الذي     ما للـكـــــرامةِ والنعيــــمِ سواهُ
هي دعوةٌ لك ما بسطتَ بهـا يداً     حتى تقبَّــــلَ واستجـابَ اللهُ[1]

     لقد شهدتَ الجهادَ أروعَ ما يشهدُه الأبطال، وأبليتَ في الشدة أكرمَ ما يُبلي الرجال، وإنك لشهيد كريم، وإن الجنة منزل الشهداء، وأكرِمْ بالجنة! وأكرِمْ بالشهداء! فنعم الدار هي! ونعم السكان هم!..

ولقد رأيتَ حِمى الجهادِ فصِفْ لنا     ماذا جــــزاكَ اللهُ من رضـــــوانِه
ماذا أعـــدَّ لكــــلِّ بَــــرٍّ مُتَّــــــــقٍ     ذاكَ الحمى القدسيَّ كيـــــف تراهُ؟
وحبــــاكَ في الفردوسِ من نُعماهُ؟     غَوَتِ النفوسُ فما أطاعَ هواهُ؟[2]
***

     هي مَنزلة جُلّى تلك التي أصبتَ يا عبد الله، وهو شرفٌ عزيزٌ باذخ، شرف الشهادة في سبيل الله تعالى، ولقد دفعتَ المهر غالياً.. وهو دمك الطهور، لكنك أنت الفائز، وهل بعد رضوانه تعالى وجنته فوز؟

أرأيتَ عبد اللهِ كيـــــف بلغتَــهُ     دمُكَ المُطهَّرُ لو أتِيـــــحَ لهالكٍ
شرفاً مدى الجوزاءِ دونَ مداهُ؟     أعيــــا الأُساةَ شِفــــاؤهُ لَشفــاهُ

     أيها البطل المقدام الشهيد! أيها المؤمنُ الصادقُ العظيم! أيها الثاوي في ثرى الجبلِ الأشم الذي يُحبُّنا ونُحِبُّه!.. لقد كانت أمنيتك أروع الأماني، وكان أمَلُكَ أطهرَ الآمال، وكانت رغبتك أنبل الرغائب.

     لقد سموتَ على الدنيا ومتاعها، وطفقتَ مِرقالاً وثّاباً إذ المعركة عنيفة ضارية، ومضيتَ جوّالاً صوّالاً، إذ الرؤوس تقع، والسيوف تحصُد، والدماء تنثال، مسرعاً صوب غايتك الجليلة الكبيرة حتى جاءتك السعادة في أبهى صورها، فإذا بك تفوز، وإذا بِرجائك واقعٌ يتحقق، وإذا بأملك يعانقُ مصيرك العظيم على ثرى أحُد، لتكون من بعدُ أغرودة تضحيةٍ في فم الزمان، وأنشودة صدقٍ في ضمير الحياة.

--------------
[1] شعر أحمد محرم، ديوان مجد الإسلام.
[2] شعر أحمد محرم، ديوان مجد الإسلام.

مصعب بن عمير.. المهاجر الداعية شهيد أحد

مصعب بن عمير.. المهاجر الداعية شهيد أحد

     هو مصعب بن عمير، الشاب الغني المنعم الذي قلب الإسلامُ حياتَه قلباً عنيفاً شاقاً، فإذا به تضحيةٌ ونُبل، وإيثارٌ وبطولة، وصدقٌ ووفاء. كان هذا الشاب المكي من أشهر فتيان مكة المكرمة، إن لم يكن أشهرهم جميعاً، ذلك أنه قد ولِد في مهاد الغنى والنعيم، ونشأ في أحضان الدلال، وشبَّ في ظلال خمائله، فكان له من ذلك كله نصيب وافر، يضاف إلى وسامة خَلْق عليها، وإشراق نفس، وصفاء سريرة؛ لذا كان شاباً لمّاعاً في المجتمع المكي، ينتشر أريجه العطِر النقي حيثما يكون.

     وأصبحت مكة المكرمة ذات يوم على حديث النبأ الجديد يذيعه محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، نبأ الدين الجديد الذي بُعِث به. فعَجِبت واستغربت، وأصبحت ذات يومٍ على نبأ مصعب بن عمير وقد انخلع من دين قومه، وتبع الدين الجديد فازداد بها العجب والدهشة. ذلك أن الفتى القرشي الذي ما كان في مكة كلها من هو أنعم عند أبويه منه، ترك كل ما كان فيه من ترف ونعيم، حباً لله ورسوله، لقد ودع حياته الماضية، واختار درباً جديداً يلتقي فيه بالمشقة والجوع، والنصَب والحرمان.

     لقد صار الفتى الأنيق، العطِر النضر، لا يُرى إلا مرتدياً الملابس الخشنة الجافية، يجوع ويعرى، ويكدّ ويتعب، لكنه بإيمانه سعيدٌ هانئ، متفوقٌ متألق، يملأ العيون إعجاباً وجلالةً ومهابة.
* * *

     ودارت الأيام دورتها فهاجر الفتى القرشي إلى الحبشة مرتين مع من هاجر من المسلمين، وحين عاد من هجرته الثانية إلى مكة المكرمة، ظل فيها نموذجاً للإيثار والنبل، والسمو والعظَمة، حتى إذا جاء الأنصار يبايعون رسول الله صلى الله عليه وسلم عند العقبة، كان مبعوث نبيه الكريم الأمين إلى يثرب يبشر فيها بدين الله عز وجل، ويهيئ الجو فيها للهجرة المرتقبة..

     وكان مصعب نعم المبعوث الموفق! فقد نهض بالمطلوب منه أحسن النهوض، وأدّاه أجمل الأداء، فإذا بيثرب تتهيأ لتصير المدينة المنورة، دار الهجرة ومأرز الإيمان، ومثابة الجهاد، ومنطلق الدعوة إلى الله عز وجل، والقاعدة الأمينة الوفية لدينه الكريم، وتظل الأيام في سيرها الحثيث المتوالي، ويُصاب المشركون بهزيمة نكراء يوم بدر، ويدور العام على بدر، فإذا بهم في غزوة أحد وقد أعدوا أنفسهم لثأرٍ ضارٍ عنيف. وفي يوم أحد، كان لمصعب حديثٌ أي حديث.
* * *

     أعد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد جيشه الصغير المؤمن، ووزع المسؤوليات على أصحابه الكرام، وكان لمصعب شرف اللواء لواء المعركة يحمله ويحميه، وقامت المعركة ضارية شديدة، وهبّت رياح النصر على المسلمين، لكن الرماة خالفوا أوامر النبي القائد عليه الصلاة والسلام، فانعكس الأمر، ودفع المسلمون بسبب هذه المخالفة فادح الثمن، فقد مضت سيوف المشركين تفتك بالعصبة المؤمنة، وكانت قبل قليل تولي الأدبار، وأدرك الفتى القرشي النبيل مصعب بن عمير الخطر العنيف، فمضى يرفع اللواء الذي دفعه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

     إن مسؤوليته الآن تتركز في حفظ هذا اللواء شامخاً مرفوعاً مهما تكن التضحية من أجل ذلك، وهكذا فعل مصعب. يدٌ تحمل اللواء في عنف وشدة وإصرار، ويدٌ أخرى تحمل السيف تضرب به في قوة وبسالة ومضاء. ووصل زحف المشركين إلى مصعب، فما أخافه ولا هاله، وأقبل أحد فرسان المشركين عليه، فضربه على يده اليمنى فقطعها، ومصعب يقول: "وما محمدٌ إلا رسول قد خلت من قبله الرسل"..، وأشفق البطل على اللواء أن يقع فحمله بيده اليسرى، فضربها الفارس المشرك فقطعها.. فسارع البطل يحنو على اللواء ويجمعه بعضديه إلى صدره وهو يقول: "وما محمدٌ إلا رسول قد خلت من قبله الرسل".. ومرة ثالثة حمل الفارس المشرك على مصعب بالرمح فأنفذه فسقط مصعب وسقط اللواء.

     وانتهت المعركة الضارية وطفق الرسول صلى الله عليه وسلم يتفقد جرحاها وقتلاها ووجد فيمن وجد مصعباً، ولما أرادوا دفنه لم يجدوا إلا نَمِرة؛ إذا وُضعت على رأسه تعرت رجلاه، وإذا وُضعت على رجله ظهر رأسه، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: "اجعلوها مما يلي رأسه، واجعلوا على رجليه من نبات الإذخِر"، وألقى على مصعب نظرة وداعٍ حزينة، وقال له: "لقد رأيتك بمكة وما بها أرق حُلّةً ولا أحسنُ لِمَّة منك، ثم ها أنت!".

     رحمك الله يا مصعب! وأجزل لك الثواب، وأكرم مثواك مع الأبرار الأطهار. لقد مضيت إلى خالقك الكريم، وإليك هذه الأبيات عسى أن تليق بك:

كما يورق الغصن عند الربيــع     وتهـــدي النسائم ريح الصبــــا
كـــما يزهر الغاب في طهـــره     مضيت إلى الموت ثبت الخطى
وينتفـــض الطير عند المطــــرْ     لـقــــلبٍ كليمٍ قبيـــل السّحَــــــرْ
ويخضرُّ غض الشباب النضــرْ     وأشرقتَ كالصبـــح لـمَّـــا سفرْ
*****

أبو حذيفة بن عتبة يوم بدر

أبو حذيفة بن عتبة يوم بدر

     هو أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، الصحابي المجاهد الشهيد، الذي جمع الله تعالى له بين الشرف والفضل، فكان منهما نموذجٌ مشرِّفٌ نادر هو أبو حذيفة هذا.

     أسلم الرجل مبكراً، ومبكراً جداً.. أسلم قبل أن يدخل النبي صلى الله عليه وسلم دار الأرقم ليدعوَ فيها، ومن عجائب الهداية أنه أسلم على الرغم من أسرته المشركة التي أسرفت في عداوتها للدعوة الجديدة، كان أبوه عتبة وعمه شيبة من سادة قريش.. لكنهما عاشا مشركين محاربين للإسلام، ومسرفين في العداوة والكيد والأذى، وماتا مشركين بسيوف المؤمنين في معركة بدر.

     إنها قدرة على الارتفاع والسمو تلك التي امتلكها أبو حذيفة، فإذا به يتجاوز الأفق الواطئ الدنيء الذي تعيش فيه أسرته، ويستشرف آفاقاً أخرى أجلَّ وأعظم، وأنبل وأكرم، وأجمل وأروع، هي آفاق الإسلام العظيم الذي جاء يُخرِج الناس من الظلمات إلى النور.

     هذه المقدرة التي امتلكها أبو حذيفة هيأت له الفرصة للإسلام المبكر على الرغم من جميع الصعاب والمعوّقات، فاكتسب موقفاً كريماً لا يَبلى على كرِّ الدهر، هو موقف السابق المُسارع إلى الإيمان.

     وحين هاجر المسلمون إلى الحبشة مرتين نائِينَ بأنفسهم عن الأذى، كان أبو حذيفة واحداً من المهاجرين في المرتين، وهو موقف آخر له، ينظر إليه المرء في إعجاب، ذلك أن بوسع رجل مثله أن يظل في مكة المكرمة بمنأى العذاب والتنكيل، يحميه من ذلك نسبٌ في قريش أثيلٌ عريق، وسيادة لوالده عتبة يعترف بها الجميع، لكنه مع ذلك هاجر مرتين، ذلك أنه دخل في المجموعة المسلمة الأولى واحداً من مجاهديها الصامدين يحملُ مثل الذي تحمل، ويَجْهَدُ مثل الذي تجهد دون حرصٍ على راحة، أو حذر أو مشقة.

     والعجيب أن أبا حذيفة الذي هاجر مرتين إلى الحبشة على الرغم من والده عتبة، هاجرت معه زوجته سهلة بنت سهيل بن عمرو.. على الرغم من والدها، الذي كان هو الآخر من سادة قريش، وممّن يعادون دعوة الإسلام ويحاربونها.

     لقد اهتدى الزوجان، من حيث ضلّ الأبوان، وأقبلا على الدين الجديد صادقين مهاجرين صابرين من حيث وقف والدهما يحاربانه ويكيدان له.. حتى خُتِمَ لأحدهما بالقتل يوم بدر، وللآخر بالهداية يوم فتح مكة المكرمة.. وإن الهداية والضلال حقاً سِرّان من أسرار الله تعالى يضعهما حيث يشاء.

     وجاءت هجرة ثالثة لأبي حذيفة في هجرته إلى المدينة المنورة، حيث مضى لا يلوي على شيء ليشارك في بناء الدولة الجديدة التي تحمل مشعل النور والحق والخير، وتصوغ فجر الحضارةِ الجديدةِ؛ أكرمِ وأعظمِ وأشرفِ حضارةٍ عرفها الإنسان، حضارةِ الإسلام.

     وفي المدينة المنورة آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أبي حذيفة وبين عبّاد بن بِشر الذي سارع يُقاسِمُه داره ومتاعه.

     وكان المتآخيان الكريمان، الأنصاري والمهاجري، غاية في الشرف والشهامة والأريحية، وقمة في الصدق والإخلاص والصفاء.. ولقد كانت في حياتهما مَشابِهُ كثيرة رائعة نبيلة، وكان ختامها أن تواثقا على الاستشهاد معاً، وشاء الله عز وجل أن يتحقق ذلك بالفعل فإذا بالبطلين المؤمنين يمضيان شهيدين مبرورين في يوم واحد، هو يوم اليمامة كأنهما كانا على ميعاد.. مضيا شهيدين أثخنتهما الجراح، وفَشَتْ فيهما الكُلوم، وتعاورتهما السيوف، واندقّت فيهما الرماح، وهما ثابتان ثبات الجبال الشم، هانئان سعيدان، باسمان مطمئنان، واثقان مستبشران، يرنُوان إلى جنة الخلد حيث أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر، تَرِدُ مياه الجنة، وتأوي إلى قناديل معلقةٍ في سقف العرش.

     ومنذ استقر أبو حذيفة في المدينة المنورة، حتى لقيَ وجه ربه عز وجل يوم اليمامة، كان جندياً مؤمناً صادق الإيمان، ينهض بتبِعاتِ المؤمن المجاهد في سبيل الله أحسن نهوض وأصدقه وأكرمه.. ويتحمل مسؤوليته كاملة في بناء المجتمع الإسلامي الأول، وصياغة الجيل الربّاني الفريد.

     ودار الزمن مسرعاً يحث خطاه، وجاءت معركة بدر، ووقف أبو حذيفة في الصف المسلم، بينما وقف في الجهة الأخرى حيث الصف الكافر أبو عتبة، وعمه شيبة، وأخوه الوليد.

     وكان هؤلاء أول من وقف بين الصفين يطلب المبارزة.. وتصدى لهم ثلاثة من عشيرة الرسول صلى الله عليه وسلم هم عمه حمزة بن عبد المطلب، وابنا عمه علي بن أبي طالب، وعبيدة بن الحارث.. ولم يَطُلِ الأمر.. إذ سُرعان ما مزقت السيوف المؤمنة صدور الكافرين الصادّين عن الحق المحاربين للهدى المحالفين للشيطان.

     موقفٌ صعب جداً، أن يرى أبو حذيفة دماء أبيه وأخيه وعمه تجري معاً في وقتٍ واحد، موقف شاق وثقيل، لأن أبا حذيفة كان يعرف في أبيه حِلْماً وفضلاً، فكان يرجو له أن يهتدي للإسلام، فلما رأى مصرعه على الكفر تألّم ووقف واجماً حزيناً.

     ولَحَظَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الفَطِن النبيل الحكيم، وقدَّر ما دار في نفسه من عواطف فقال له: "يا أبا حذيفة لعلك دخلكَ من أبيك شيء؟"

     فقال أبو حذيفة: "لا والله يا رسول الله، ما شككت في أبي ولا في مصرعه، ولكني كنتُ أعرف من أبي رأياً وحلماً وفضلاً، فكنتُ أرجو أن يهديه ذلك إلى الإسلام، فلما رأيتُ ما أصابه، وذكرت ما مات عليه من الكفر بعد الذي كنتُ أرجو له أحزنني ذلك". عندها ترفَّق به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال له خيراً، ودعا له بخير.

     على أن أبا حذيفة أوقعَهُ الشيطان في زلّةٍ لا تليق به مؤمناً عظيماً، وتلميذاً نجيباً من تلاميذ المدرسة النبوية المطهرة.

     ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم بدر: "من لقي منكم العباس بن عبد المطلب فلا يَقتُلهُ فإنما خرج مُستَكْرَهاً"، وسمع بذلك أبو حذيفة فإذا به يقول: "أنقتلُ آباءنا وإخواننا وعشيرتنا ولا نقتلُ العباس؟ والله لئن لقيتُه لأُلْجِمَنَّهُ السيف".

     وبلغت كلمته هذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لعمر بن الخطاب: "أيُضْرَبُ وجهُ عمِّ رسول الله بالسيف؟".

     وأحسّ عمر العملاق العظيم بفداحةِ كلمة أبي حذيفة فقال للرسول صلى الله عليه وسلم: "يا رسول الله دعني فَلْأَضْرِبْ عنقه بالسيف فوالله لقد نافق"...

     لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبى على عمرَ ذلك، وأدرك أنما هي هفوة عابرة غير متعمدة.

     وفاءَ أبو حذيفة إلى رشده بعد زلّته تلك، واستبدّ به القلق على هفوته هاتيك، واعتذر عنها، وظلّ طيلة حياته وهو يقول: واللهِ ما أنا بآمنٍ من تلك الكلمة التي قلتُها يومئذٍ، ولا أزال منها خائفاً إلا أن تُكَفِّرها عني الشهادة.

     لقد كانت في حياة أبي حذيفة مواقف كثيرة مشرِّفة، لكن موقفه في أعقاب زلّته تلك موقفٌ خاصٌّ متميز ليس له في حياته كلها مثيل.

     إن الرجلَ قد شعر بفداحة ما قال، وخطورة ما أزَلّهُ الشيطان إليه، وامتلكه ندم حاد عنيف، جعله يشعر أنه على حافة الهاوية، وأنه قد ينتهي إلى الخسران ما لم يَحْظَ بالشهادة عسى أن تكفِّرَ عنه هفوته تلك.

     ومن يُمعِن النظر في عبادة أبي حذيفة، يكتشف معدنه النبيل، ونفسه الحساسة، وتقواه الصادقة، ومدى ما كان يشعر به من ندم وحسرة وأسف.. "واللهِ ما أنا بآمنٍ من تلك الكلمة التي قلتُها يومئذٍ ولا أزال منها خائفاً إلا أن تُكَفِّرها عني الشهادة"؛ كلمة نبيلة غاية في النُّبْلِ، جليلة غاية في الجلال، جميلة في معناها، سامية في مقصدها، ثقيلة في تكاليفها، ناضرة طاهرة عاطرة. لذا طفِقَ البطلُ يجاهد ويجاهد، مؤمِّلاً أن يُرزَق الشهادة في سبيل الله.. حتى يهدأ ويستريح.

     وأخيراً تحقق له ما أراد، فثوى في أرض اليمامة بعد قرابة عشر سنوات من تلك الزلة، شهيداً صادقاً وفياً، وثوى معه أخوه الأنصاري عَبّاد بن بِشر، وعلى وجه كلٍّ منهما ابتسامة طاهرة متوضّئة.
*****

الأكثر مشاهدة