عمرو بن الجموح بعرجته في أُحُد
كان عمرو بن الجموح واحداً من زعماء يثرب، وسيداً من سادات بني سلمة، وكان رجلاً كريم النفس، حسن المعشر، جواداً طيباً. وحين أشرق نور الدعوة الجديدة، واستضاءت به يثرب صارت المدينة المنورة مهد الدولة الإسلامية الأولى، ودار الهجرة الشريفة المباركة، ومأرز الإيمان إلى يوم الدين.
وتأخر إسلام عمرو بن الجموح، ذلك أن إلفه لدينه القديم كان له في فؤاده نصيب وافر، وكان ولده معاذ بن عمرو قد سبقه إلى الإسلام، وكان مع صديقه معاذ بن جبل يدعوان إلى الله تعالى في المدينة المنورة في نشاط وحماسة.
كان لعمرو بن الجموح صنم في منزله اسمه "مَناف"، وكان المُعاذان معاذ بن عمرو، ومعاذ بن جبل يمضيان ليلاً إلى هذا الصنم فيطرحانه في حفرة فيها بعض القاذورات، فإذا أصبح عمرو بن الجموح طفق يبحث عن صنمه مناف حتى إذا وجده غسله وطيّبه، ووضعه في داره حَفِيّاً به حريصاً عليه.
ويعود المعاذان إلى السخرية بمناف في الليلة الأخرى، فيعود عمرو بن الجموح إلى البحث عنه وغسله وتطييبه.. وتتكرر العملية حتى يسأم عمرو، وعندها يجيء بسيفه فيضعه في عنق الصنم مناف وكأنه يقول له: إنْ كان فيك خيرٌ فدافع عن نفسك. وفي الصباح وجد عمرو صنمه منافاً في الحفرة القذرة مشدوداً بحبل إلى كلب ميّت.
وتحركت فطرة عمرو بن الجموح، وعلِم ما عليه دينه القديم من سفاهة وتفاهة، وأخذت المقارنة بين الدعوة الجديدة وبين دين الجاهلية تتضح فإذا بعالم الإسلام بهيج رائع، مشرقٌ خصيب، نقيٌ طاهر، وضيءٌ طليق، وإذا بعالم الجاهلية ثقيلٌ قاتم، مظلمٌ كئيب، جديبٌ مقفِر، ضيقٌ مسدود، وإذا بعمرو بن الجموح يدخل في دين الله عز وجل، ويلتحق بموكب المؤمنين الصادقين.
* * *
أسلم عمرو بن الجموح، وأخلص نفسه لله عز وجل، وكشفت الأيام صدق إيمانه، فضلاً عن جوده وكرمه، فضلاً عن شجاعته وحرصه على الشهادة.
وكأن الرجل آلى على نفسه أن يمحو سواد لياليه في الجاهلية ببياض أيامه في الإسلام، وكأنه حرص على أن ينتقل بكل ما يقدر عليه من قوةٍ وشدة، وبأسٍ وصلابة، وجودٍ وسخاء إلى دنيا الإسلام يعمل على تشييدها وتعضيدها وحمايتها، ليُسهِم إسهاماً جاداً في القضاء على دنيا الخرافة والظلم والباطل، دنيا الجاهلية.
وكان له من السخاء حظٌ طيبٌ موفور، ظهرت فيه أصالة نفسه، وصفاء معدنه، وكرم سريرته فإذا به يجود لا يخشى غوائل الفقر، ولا يرهب عوادي الحاجة، ثم جاءت الأيام التي دعا فيها الإسلام أبناءه إلى جود آخر هو الجود بالنفس، فقد بدأ عهد الجهاد..
ومضى القوم الكرام الذين هزموا الشح في نفوسهم، والذين خاضوا في أعماقهم معارك عنيفة جعلتهم يمتلكون جميع أسباب المبادرة إلى الخيرات، والمسارعة إلى الفضائل.. مضوا يجودون بالنفوس من بعد أن جادوا بالمال.
ومِن هؤلاء الذين نجحوا في الاختبارَين معاً، اختبار الجود بالمال، واختبار الجود بالنفس كان عمرو بن الجموح.
* * *
جاءت معركة بدر، وجاء موسم الجود بالنفس رخيصة في سبيل خالقها، فإذا بعمرو بن الجموح يحرص على الخروج للجهاد.
ولكن كانت ثمة مشكلة!.. إن عمرو بن الجموع كان أعرج، وكان عرجه شديداً، مما يجعله غير صالح للقتال، وإنَّ له أربعة أولاد، كلهم مسلمون، وكلهم مجاهدون، أصروا على إعفاء والدهم من الخروج، وله من خروجهم هم عذر أي عذر! فضلاً عن عرجه الشديد. وهكذا كان، فقد بقي عمرو في المدينة المنورة وخرج المسلمون إلى بدر.
ودار العام على بدر، وجاءت غزوة أحد، وخاف عمرو أن يحبسه أولاده عن الجهاد، وخشي منهم مثل الذي فعلوه يوم بدر. ومضى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: "إن بَنِيَّ يريدون أن يحبسوني عن الخروج معك إلى الجهاد، ووالله إني لأرجو أن أخطر بعرجتي هذه في الجنة".
لقد استحال عمرو إلى أمنية واحدة.. أن يُسمح له بالجهاد، وأن يُرزَق الشهادة. وكان فرحه عظيماً حين أذِنَ له الرسول صلى الله عليه وسلم بالخروج، فانطلق في سعادة وحبور، ودعا في صوتٍ ضارعٍ خاشع: "اللَّهمَّ ارزقني الشهادة ولا تردني إلى أهلي!". ونشبت المعركة، والتقت كتائب الإيمان مع كتائب الجاهلية، واشتد القتال، وانطلق عمرو بن الجموح وأولاده الأربعة يصدُقون الله ما عاهدوه عليه.
مضى بسيفه المؤمن يضرب في أعناق المشركين، وفي قلبه حنين لا يهدأ قط، ذلك أنه في انتظار الضربة التي سوف تنقله إلى عالم الشهداء السعداء.
إن اللهفة تستبد به، وتمتلكه وتجعله يمضي في نشاط لا يفتر، ذلك أنه حريص على أن يطأ برجله العرجاء في جنة الخلد التي لا تبلى.
وأخيراً جاءه ما يؤمل، وأصاب ما كان يحرص عليه فإذا به شهيدٌ سعيد. ومضى إلى ربه أميناً مبروراً، وبعد ست وأربعين سنة على دفنه نزل سيل شديد من الماء غطى أرض القبور بسبب عين من الماء أجراها معاوية، فسارع المسلمون ينقلون رفات الشهداء الكرام. فوجدوهم كما وصفوهم: لينة أجسادهم، تتثنّى أطرافهم. وكانت جثة عمرو، لم تأكل الأرض منها شيئاً، كأن صاحبها في حلم هانئ بهيج.
رحمك الله يا عمرو!.. وأجزل لك الثواب، موقفك يوم أحد في حرصك على الشهادة، درس يهيب بنا نحن -القاعدين الأصحّاء- أن ننجو من هذا الهمود الكئيب، والتواكل السقيم، وأن نسمو إلى آفاق المسؤولية الكبيرة التي أحسن حملها الأجداد العظام، وأضعناها نحن التعساء المتواكلين.
*****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق