عجوزان يوم أُحُد.. ظِمْءُ حمار
وقعت الصيحة في المدينة المنورة أن قريشاً أقبلت بجيش ضخم، وألقت رحالها عند جبل أحد، وقد عزمت أن تجتث الإسلام من جذوره، وتبطش بالمسلمين بطشةً هائلة، وتثأر لقتلاها الذين طوَّحت بهم سيوف المؤمنين في بدرٍ قبل عامٍ من الزمن.
وقعت تلك الصيحة في المدينة المنورة، فطفِق المسلمون يتنادون للخروج.. وأخذوا يحمّسون أنفسَهم، ويوصون بعضهم بالثبات والصبر والاحتساب. ونودي: يا معشر المؤمنين اجتمِعوا!.. ويا معشر المهاجرين انفِروا!.. ويا أيها الأنصار هيّا إلى الجهاد!.. ويا خيلَ الله اركبي!..
وكشف التجمُّعُ السريع للمسلمين حول الرسول صلى الله عليه وسلم عن عظَمةِ نفوسهم، وصدقِ إيمانهم، وعميق يقينِهم، وتفانيهم في الذود عن دينِ الله أن يعدوَ عليه الظالمون الحاقدون.
وفي المسجد النبوي الشريف كان تجَمُّعٌ جادٌّ مؤمن، وفيه أيضاً كان حوارٌ جادٌّ مؤمن، وفيه كذلك كانت مشورة جادةٌّ مؤمِنة.. وكان إيمان، وكان إيثار، وكان صدقٌ وجهاد، وكان حرصٌ على الخروج إلى العدو، حيث يُعسكِر عند جبل أحد، حتى لا يظن أحدٌ أن المسلمين جَبُنوا إذ فضّلوا قتال العدو داخل مدينتهم لا خارجها.
وخرج الجيش المسلم يقوده رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد.. وفيه أمانيَّ صادقة حارة تتوزعُ أفرادَه بين نصرٍ مؤزَّرٍ كريم، وشهادة طيبةٍ أثيرة.. ومضت كتائب المهاجرين والأنصار إلى الجبل الأشمّ الذي يحنو على المدينة المنورة كأنه يحرسُها ويحميها، الجبل الذي نحِبُّه ويحبُّنا، الجبل الذي شهِدَ عند سفوحه المباركةِ أصدق صورِ البطولةِ والتفاني، والصبرِ والثبات، والبطولةِ والإيمان.
كان التفوق الضخمُ لصالحِ المشركين، فقد كانوا أكثرَ عدداً وعُدَّة.. كانوا ثلاثة آلاف، أما المسلمون فقد خرجوا في ألفٍ فقط، ما لبثَ أن انسحبَ زعيمُ النفاق عبد الله بن أُبَيٍّ بالثلث منهم.. وبقي الثلثان يواصلان المسيرَ صوبَ الجبل الأشم الذي تَحفُلُ ذاكرة التاريخ عنه بكل طيّبٍ عظيم مُعجِب مما جرى عند قدميه المبسوطتين شمالَ المدينة المنورة.
واتخَذ رسول الله صلى الله عليه وسلم كلَّ ما ينبغي عليه أن يفعلَه قائداً مسؤولاً وفوَّض الأمرَ كلَّه لله.. ومضى رابطَ الجأش، ثَبْتَ الجَنان، وأوصى صحابته الكرام بالطاعة والصبر والثبات، فهم منصورون بإذن الله ما استمسكوا بوصاياه الكريمة.
وكان من عِدادِ الأسباب التي قام باتخاذِها صلى الله عليه وسلم أنْ دفعَ النساء والصبيان والعجَزة إلى آطامِ المدينة المنورة الحصينة، تحسُّباً لِما قد يحدث، وأخذاً بالحيطة والحذر.
ونشبت المعركة عند جبلِ أحد.. وانتقل فيها الكسبُ من جانب إلى جانب.. وكان نصرٌ مبين، أعقبه خِلافٌ وعصيان، ثم هزيمةٌ كادت تكون ساحقة لولا أن ثبتَ صلى الله عليه وسلم مع قِلةٍ مؤمنةٍ صامدةٍ ثباتَ الجبالِ الراسيات.
* * *
وفي المدينة المنورة حيث بقي النسوة والأطفال والعجَزة، في آطامِها العالية كانت نفوس القوم تدعو وتُكثِرُ من الدعاء.. وترتقب نتيجةَ المعركةِ بقلقٍ وخشيةٍ وتوجّس.
وفي أُطمٍ من تلك الآطام كان عجوزان مسلمان طاعنان في السِّن هما اليمانُ بن جابر، وثابتُ بن وُقْش، كانا شيخين كبيرين، قد تطاولَ بهما العمر، وتراخت بهما الأيام، وآدَ جسميهما كَرُّ الجديدين، وامتدادُ الزمن.. فهما مُتعَبانِ دون تعب، مُرهقانِ دون إرهاق، مكدودانِ ناحلانِ واهنان لو أنَّ الريحَ هبَّت على أحدهما عنيفةً شديدة لكاد يسقط، ولو أنَّ أحَداً توكَّأ عليه لكاد ينهدم. ومثلُ تلك الحالة جديرةٌ بالعُذرِ، حَقِيقةٌ ألا يُعتَبَ على صاحبها وألّا يُلام.
لكن الشيخين المسلمين، على الرغم من هذا كلِّه.. كانا في حالة أخرى بعيدة عن اللوم والعتب من الآخرين، إنها لومٌ وعتبٌ داخِليّان، يا للعجب!.. وكيف ذلك!؟
لا تعجبْ، لا تعجبْ!.. ذلك أن الشيخين المسلمين كانا يلومان نفسيهما، وكانا يَعْتَبان عليها ويشتدّان في العتاب. كيف يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم ومَن معه يخوضون لظى حربٍ ضَروسٍ طاحنة وهما آمنان في هذا المعقلِ الأشِبِ الشامخ؟ أذاك من الإنصاف؟ أذاك من العدل؟ أذاك من الوفاء؟ أهُوَ عملٌ يليق بالمؤمن أن يفعلَه؟ مثلُ تلك الخواطر الشريفة السامية كانت تنداحُ في خَلَدَي الشيخين المسلمين الطاعِنَيْنِ في السن، وتحرِّكُ همومَهما، وتثير أشجانهما.
ولم يطل الأمر كثيراً، فقد انتصرت دواعي الخروجِ على كل ما سواها من دواعي القعود، أحقاً كانت أم باطلاً؟
قال أحد الشيخين لصاحبه في لهجةٍ عاتبة، مشفقةٍ حانية، يمتزجُ فيها الرجاءُ والأمل باللومِ والتبكيت: "لا أبا لَك.. ما ننتظر؟ فوالله ما بقيَ لواحدٍ مِنّا من عمرهِ إلا ظِمْءُ حمار، إنما نحن هامةٌ اليوم أو غداً، ألَا نأخذ أسيافنا، ثم نلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم؟
سؤالٌ شهمٌ نبيل ذلك الذي توجَّهَ به أحدُ العجوزَينِ لصاحبِه، سؤالُ من يهربُ من دواعي القعودِ والإخلاد، ويلتمسُ دواعي الخروج والمبادرة.
نحن عجوزان طاعنان بلونا الحياة بحُلوِها ومُرِّها.. وحلبنا الدهرَ أشطُرَهُ.. وها قد أوفى الركبُ على غايته أو كاد.. وإنما نحن خارجان من هذه الحياة، إن لم يكنِ اليوم ففي الغد. ما الذي بَقِيَ لنا من هذه الحياة!؟ لعله لا شيء سوى ظِمْءِ حمارٍ فحسب، وظِمْءُ الحمار قصيرٌ قصير، فهو أقل الدوابِّ صبراً عن الماء.
حديث الشيخ الطاعن لأخيه الطاعن غايةٌ في العجبِ والروعةِ والدهشة، ولا يكادُ يفهمه ويُحيطُ به، ويستوعِبُ أبعادَه العميقةَ المؤمنةَ إلا من عرفَ المستوى العجيبَ الذي دفعَ إليهِ محمدٌ صلى الله عليه وسلم أصحابه الكرام. وكأن الطاعن الآخَر السامع وجَد في حديث أخيه ما يحلو له، ويطيب فإذا به يفرح، وإذا به يبتهج، وإذا به يَسعَد.. ولم يَمْضِ سوى قليلٍ حتى شهدَ الأُطُمُ المنيعُ الأَشِب، العجوزين الطاعنين وهما يلحقان برسول الله صلى الله عليه وسلم في أحد.
ودخل الرجلان العجوزان في حومةِ المعركة، جسماهما واهنان عاجزان، لكن رُوحَيهِما فَتِيَّتان ناضرتان، بالإيمان غنيَّتانِ مليئتان، بالقرآن مُطَيَّبتان معطَّرتان..، فأما ثابت فقتلَه المشركون، وأما اليمان فاختلفت عليه أسيافُ المسلمين وهم لا يعرفونه فَقُتِل، وحذيفةُ يقول: أبي..! أبي..! فقالوا له: واللهِ ما عرفناه، فقال حذيفة: يغفرُ الله لكم وهو أرحم الراحمين.. فأرادَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يَدِيَهُ لكنَّ حذيفة تصدّقَ به على المسلمين.
وآبَ الشيخان الطاعنان إلى حيث المَقِيلُ الأخير هانئين سعيدين، وضيئين طاهرين، فقد فازا بالشهادة، وسارعا إلى الموت، ولم ينتظرا قدومَه المرتقبَ حيث لا مفرَّ ولا مهرب.
يا سفوح أُحُد!.. يا سفوحَ الجبل الذي يحبُّنا ونحبه!.. أما طيَّب ثراك العزيز الأثير دمُ الشهيدين العجوزين ثابتِ بن وَقْش، واليمانِ بن جابر!؟
أما نبَتَ الأقحوانُ والشيح، والعوسجُ والعرار، يحملُ بعضاً من ريّاهما!؟
أمَا تهمسُ رمالُكَ وحصاكَ بالبطولةِ التي بَدَتْ منهما!؟
أما تحكي للصَّبا في الأسحارِ قصة الموقفِ العظيمِ الذي صاغاه بِدَميهما!؟..
أمَّا أنا فأشهدُ أنْ قد شممتُ ذلك الطِّيب، ونشقتُ ذلك العبير، وعبقتُ تلك الريّا، ووعيتُ ذلك الهمس، وسمعتُ تلك الحكايا، وعدتُ من بعد ذلك كلِّه والخزيُ يجلِّلُني، والدمعةُ تُبادرني، وسؤالٌ حائرٌ يتردَّدُ على شفتيّ: تُرى أيُّ عذرٍ لي ولأمثالي نحنُ الأصحّاءَ القاعدين!؟
*****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق