الأحد، 23 يناير 2022

عبد الله بن رواحة.. القائد الشاعر في مؤتة

عبد الله بن رواحة.. القائد الشاعر في مؤتة

لكنني أســـأل الرحـمن مغفـــرة      وضربة ذات فرع تقـذف الزبَـدا
أو طعنة بيديْ حران مجهـــــزة     بحربة تنفذ الأحشــــــــاء والكبدا
حتى يقـــال إذا مروا على جدثي     أرشده الله من غازٍ وقد رشدا[1]

     هو عبد الله بن رواحة صاحب هذه الأبيات، يضرع فيها إلى الله عز وجل أن يمن عليه بالشهادة في سبيله، فيكون من الفائزين، ويحظى بمقعد صدق عند مليك مقتدر.

     كان ذلك يوم مؤتة؛ إذ أمّر الرسول صلى الله عليه وسلم على المسلمين زيد بن حارثة، فإن أصيب فجعفر بن أبي طالب، فإن أصيب فعبد الله بن رواحة. وحين أزف رحيل الجيش المجاهد، ودّع الناس أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسلموا عليهم، فلما وُدِّع ابن رواحة بكى، فقال له الناس: ما يبكيك؟ فقال: أما والله ما بي حب الدنيا ولا صبابة بكم، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ آية من كتاب الله عز وجل يذكر فيها النار: ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا﴾؛ فلستُ أدري بالصَّدَر بعد الورود، فقال المسلمون: صحبكم الله، ودفع عنكم، وردكم إلينا صالحين، فقال ابن رواحة: الأبيات الثلاثة السابقة.
* * *

     وانطلق الجيش المؤمن إلى مؤتة، وهناك وجد جيشَ الروم فوق ما كان يتصور، إن عدده مئتا ألف مقاتل، مئة ألف من العرب، ومئة ألف أخرى من الروم، أما جيش الإسلام فقد كان عدده ثلاثة آلاف مجاهد فحسب!.

     ونظر المسلمون إلى عددهم القليل، فأدركهم شيء من الوجوم والتساؤل، وقال بعضهم: فلنبعث إلى رسول الله، نخبره بعدد عدونا، فإما أن يمدنا بالرجال وإما أن يأمرنا بالزحف فنطيع.

     وبينما الناس على ذلك، جاءهم ابن رواحة فقال: والله ما كنا نقاتل الناس بكثرة عدد، ولا بكثرة سلاح، ولا بكثرة خيول، إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، انطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين، إما ظهور عليهم، فذلك ما وعدنا الله ووعد نبينا، وإما الشهادة فنلحق بالإخوان، نرافقهم في الجنان. وإذ سمع الناس من ابن رواحة هذا النداء المتوهج المتحمس الذي يدل على عظم يقينه، وقوة ثقته بربه ودينه؛ تحمسوا وأجمعوا على القتال.

     كانت الشهادة أمنية عبد الله بن رواحة التي تستأثر بآماله وتطلعاته، كان يرجو ألا يعود من غزوته هذه إلى المدينة المنورة، لقد فضل على هذه العودة ضربة من سيف، أو طعنة من رمح، أو رمية بسهم ينتقل بها إلى عالم الشهداء السعداء.

     حين خرج إلى مؤتة، كان يركب خلفه على ناقته، زيد بن أرقم الذي كان يتيماً في حِجره، وذات مرة استمع زيد إلى عبد الله ينشد هذه الأبيات يخاطب بها ناقته:

إذا أديتِــــني وحمـلتِ رحلي    مسيرة أربع بعد الحِساء[2]
فشـــأنك أنعـــم، وخـلاكِ ذم     ولا أرجــعْ إلى أهلي ورائي
وجاء المسلمون وغـادروني     بأرض الشام مشتهي الثـواء
وردكِ كل ذي نســب قريبٍ     إلى الرحمن منقـطع الإخــاء
هنـــالك لا أبالي طَلْعَ بعـــلٍ     ولا نخلٍ أســـافلها رواء[3]

     وبكى زيد، إذ عزّ عليه أن يصاب الرجل الذي أحسن إليه، فضربه عبد الله على رأسه ضربة خفيفة وقال له: وما عليك يا لُكَعْ أن يرزقني الله الشهادة، وترجع بين شعبتي الرحل!؟ لقد كان البطل القائد يؤمل أن يحقق الله تعالى له رجاءه، فيبقى في الشام شهيداً ثاوياً مقيماً، بينما يعود زيد وحده على الرحل، وقد كان.
* * *

     ومضت المعركة تعنف وتشتد، فأصيب القائد الأول زيد بن حارثة، وأصيب القائد الثاني جعفر بن أبي طالب، وجاء دور القائد الثالث عبد الله بن رواحة، وحمل بطلنا الراية بعد استشهاد صاحبيه، حتى إذا هَمّ بالانطلاق تردد بعض التردد.

     يا للعجب! إن طالب الشهادة يحجمُ ويتردد، وإن الذي شجع الناس على الإقدام يداخله شيء من الخوف، لكن الأمر لم يطل فقد هزم البطل نفسه، ومضى لا يلوي على شيء وهو يقول لها:

أقســــمتُ يا نفس لتنــــزلنَّهْ     إذ أجلب الناس وشدوا الرنةْ
ما لي أراكِ تكرهيـــن الجنةْ     وطالما قد كنتِ.. مطمئنــــةْ
***

يــا نفس إلا تقتـــــلي تموتي     هذا حمام الموت قد صــليتِ
وما تمنيــــتِ فقد أعطيــــتِ     إن تفعـــــلي فعـــلهما هدِيتِ
أو تبتــــلي فطالما عوفيـــتِ     وإن تأخرتِ فقد شقيــتِ[4]

     وهكذا أقدم البطل، ومضى يقاتل في شدة واستماتة، وكان في غاية الجهد حين جاءه ابن عم له بعظم عليه شيء من لحم ليتقوى به، فأخذه وانتهش منه نهشة، ثم سمع المعركة يعلو ضجيجها، وتشتد، فإذا به يعاتب نفسه، فالوقت ليس وقت طعام، بل وقت جهاد ضارٍ عنيف، فألقى العظم من يده، ومضى يقاتل حتى استشهد.

     رحمك الله يا ابن رواحة! وأجزل لك الثواب، لقد رجوتَ أن تكون غازياً راشداً، وقد كنت، وقد رجوت أن تظل في الشام فظلَلْت. لطالما نظمت القصائد الغُرَّ الجياد، لكن أعظم قصيدة نظمتها كانت في مؤتة، ما كُتِبت بالمداد، ولا سُجِّلت على الورق، بل كُتِبت بدمك الزكي الطهور، وسُجِّلت على أرض مؤتة بالسيوف والرماح.

     إن هذه القصيدة العظيمة ذات شقّين، الأول انتصارك على نفسك حين ترددَتْ وجاشَتْ، والثاني استشهادك النبيل في سبيل الله عز وجل.
*****

----------
[1] شعر عبد الله بن رواحة.
[2] الحساء: جمع حسي، وهو الماء القليل، وقيل: مكان جنوب المدينة المنورة على بعد خمسة عشر كيلاً، وهو جزء من عقيق المدينة ذو زراعة ونُزُل.
[3] شعر عبد الله بن رواحة.
[4] شعر عبد الله بن رواحة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة