الأحد، 26 سبتمبر 2021

كتاب الرثاء في شعر البارودي وشوقي وحافظ - الفصل الثاني - 08 - دائرة المصيبة


الفصل الثاني
(الرثاء في شعر حافظ) 

08- دائرة المصيبة:


     من أسباب تفوق حافظ في الرثاء أنه كان يشعر بفداحة المصاب الذي يجعل الكارثة، تنتقل من الحيز الشخصي الضيق إلى المدى الوطني أو الإسلامي العام وهو ما يجعل دائرة الحزن والمحزونين أكبر، وما يجعل مدى القصيدة أوسع وأرحب.

     ويظهر ذلك أوضح ما يظهر في قصيدته التائية التي قالها في الإمام محمد عبده عام 1905م والتي مطلعها:

سلام على الإســلام بعد محمد     سلام على أيامه النضرات[1]

     وهذه القصيدة تعد من أفضل مراثي حافظ، فالمرثي شخصية مهمة وعلاقته بالشاعر قوية وثيقة، وفيها حزن حاد وتصوير رائع.

     نظر حافظ إلى الكارثة نظرة عامة تجاوزت دائرة مصر ودائرة العروبة لتصل إلى الدائرة الإسلامية الواسعة، ومطلع القصيدة إيذان بذلك، فعلى الإسلام وعلى أيامه النضرات السلام بعد موت الإمام، بل على الدنيا أيضاً والبر والتقوى والحسنات كما في البيت التالي:

على الدين والدنيا على العلم والحجا     على البر والتقوى على الحسنــــات

     لقد صار الإسلام كما يقول حافظ بوفاة الإمام عالم الشرق بغير حماة، ولانت قناته للأعداء:

تبـــاركت هذا الدين دين محــــــمد     أيتـــــرك في الدنيا بغير حمــــــاة
تباركت هذا عالم الشرق قد مضى     ولانت قنـــــاة الدين للغـــــــمزات

     ويمضي حافظ في بيان مكانة الإمام الراحل، وكيف احتمل الأذى في ذات الإله، وكيف بين روائع التنزيل، ووفق بين العلم والعقل، وتصدى لكل من (هانوتو) و (رينان) حين انتقصا من الإسلام، وكيف كان ملاذاً للفقراء كافلاً للأرامل غوثاً للفقراء، وصاحب الفتوى الحكيمة والشورى الصائبة والعظة والهداية. لذلك كانت المصيبة بالإمام كبيرة جداً والحزن عاماً شاملاً:

بكى الشرق فارتجت له الأرض رجة
               وضــــاقت عيون الكون بالعبـــــرات
ففي الهند محزون وفي الصين جازع
               وفي مصر بــــــاك دائم الحســـــرات
وفي الشام مفجوع وفي الفرس نـادب
               وفي تونس ما شئـــــت من زفــــرات
بكى عـــــالم الإســــلام عالم عصـره
               ســــراج الديــــاجي هادم الشـــبـهات

     وحين مات مصطفى كامل عام 1908م نجد إحساس حافظ بالكارثة إحساساً عاماً، فوفاة الزعيم الوطني الشاب مصاب لمصر كلها بل وللإسلام وللدولة العثمانية التي كانت مصر تابعة لها يومذاك. يقول حافظ مخاطباً قبر الفقيد:

أيـــــا قبـــــر لو أنا فقدنـــــاه وحده
               لكان التأسي من جوى الحزن شافيا
ولكن فقـــــدنـــا كل شيء بـفقـــــده
               وهيهات أن يأتي به الدهر ثانيا[2]

     ووفاة الفقيد بشرى للإنجليز الذين كانوا يخافون صوته، ذلك أن كل صوت آخر سيسكت بسكوت الرائد القائد:

هنيــــئاً لهم فليــــــأمنوا كل صائح
               فقد أسكت الصوت الذي كان داويا
ومات الذي أحيــــا الشعور وساقه
               إلى المجد فاستحيا النفوس البواليـا

     وفي قصيدة حافظ التي قالها في حفل الأربعين لتأبين مصطفى كامل، يطلب منه أن يقوم ويتصدى لمزاعم كرومر في حق الإسلام:

قم وامح ما خطت يمين كرومر     جهلاً بدين الواحد القـــهار[3]

     ويذكره أنه كان يغضب لمصر كلها كلما أصابها مكروه كما يغضب التقي لربه وقرآنه، وكما غضب الفاروق للمصطفى صلى الله عليه وسلم:

قد كنت تغضب للكنانة كلما     همـت وهم رجاؤها بعثـــار
غضب التقي لربه وكتـــابه     أو غضبة الفاروق للمختـار

     ويصف كيف حزن الهلال وهو رمز الدولة العثمانية زعيمة المسلمين يومذاك على الفقيد، وكيف طفق يتلفت حائراً باحثاً عمن يسد الثغرة، وحزن الهلال هنا حزن للمسلمين جميعاً:

جزع الهلال عليك يوم تركته     ما بيـــن حــر أسى وحر أوار
متــــلفتــاً متحيـــــراً متخيـراً     رجلاً يناضل عنه يوم فخـــار

     وحين مات علي يوسف صاحب المؤيد عام 1913م، نجد حافظ يرثيه، صحفياً شجاعاً مدافعاً عن الدين والوطن داعياً لوحدة المسلمين، لذلك كان المصاب به مصاباً عاماً. يقول عن قلم الفقيد وبيانه:

قد كان سلـــــوة مصر في مكـــــارهها
               وكان جــــــمرة مصـر ساعة الغضب
في شـقـــــــــه ومراميــــه وريقتــــــه
               ما في الأساطيل من بطش ومن عطب
كم رد عنــــا وعين الغـــــرب طامحة
               من الرزايا وكم جـــلى من الكرب[4]

     ويجعل جريدة المؤيد التي كان يصدرها الفقيد معقلاً للجهاد، ففيها تجتمع أقلام الأحرار المدافعين عن الدين والوطن في وجه الغرب، وفيها نشر الإمام محمد عبده رده على هانوتو الذي انتقص الإسلام.

ألم يكن لبــــني مصــر وقد دهـــــموا
               من ساسة الغرب مثل المعقل الأشـب
كم انبـــرت فيه أقـــــلام وكم رفعـت
               فيه منـــــائـر من نظـــم ومن خطـب
وكان ميـــــدان سبق للألى غضبــوا
               للدين والحــــق من داع ومحتســــب
فكم يــراع حكيـــــم في مشــــــارعه
               قد التقى بيــــــراع الكـــــاتب الأرب
أي الصحائف في القطرين قد وسعت
               رد الإمــــام مزيل الشـــــك والريــب
أيـــــام يحصب هانـــــوتو بفريتـــــه
               وجه الحقيـــــقة والإســـلام في نحب

     ويبين فضل المؤيد على المسلمين جميعاً، لأن الفقيد جعلها منبراً يدافع عن قضاياهم وتتعارف فيه أرواحهم وتجتمع فيه كلمتهم:

لـــولا المؤيــــــد ظل المســـــــلمون عـــلى
               تنــــــاكر بيـــــنهم في ظــــلمة الحجـــــــب
تعـــــارفــوا فيــه أرواحــــاً وضمهــــــــــم
               رغــم التنــــــائي زمـــام غير منقضـــــــب
في مصــــر في تونس في الهند في عـــــدن
               في الروس في الفرس في البحرين في حلب
هـــــذا يحــــــن إلى هــــــذا وقـــد عقـــدت
               مــــودة بيـــــنهـم موصـــــــولة السبـــــــب

     وفي رثائه لعلي أبو الفتوح الذي توفي عام 1913م، نجده يرى في المصاب مصاباً لمصر كلها، فيعزيها به ويرثي لها ويطلب منها الصبر للكوارث التي تتوالى عليها بفقدان الرجال، يقول مخاطباً مصر:

جـــل الأسى فتجــــــملي     وإذا أبيـــــت فـأجــــملي
يـــا مصر قد أودى فتـــا     ك ولا فــــتى إلا عــــلي
قــد مات نابغــــة القضـا     ء وغــــاب بـدر المحفـل
وعدا القضاء على القضا     ء فصــــابه في المقتــــل
ويح الكنــــــانة ما لهــــا     في غمـــــرة لا تنجـــلي
بــــاتــت وكــــارثة تمـر     بهـــا وكارثـــــة تلي[5]

     ووفاة الشيخ سليم البشري عام 1917م، وهو شيخ الأزهر مرتين، وعالم الحديث الشريف الكبير، مصيبة للمسلمين:

أيدري المســــلمون بمن أصيـبوا     وقـــد واروا سـليـــماً في التراب
هـــوى ركن الحديــث فأي قطب     لطــــلاب الحقيـــــقة والصـواب
فمـــا في النـــــاطقين فــــم يوفي     عزاء الدين في هذا المصاب[6]

     ووفاة محمد فريد عام 1919م كارثة على مصر، وعلى الوطنية، ذلك أنه الزعيم الوطني الذي تفانى في خدمة وطنه:

فقدت مصر فريــــداً وهي في     موطن يعــــوزهـا فيه المـــدد
فقـــدت مصر فريـداً وهي في     لهـــوة الميدان والموت رصد
فقــــــدت منه خبيــــــراً حولاً     وهي والأيام في أخذ ورد[7]

     وحين مات سعد زغلول عام 1927م، أنشد حافظ في الحفل الذي أقيم لتأبينه قصيدة من غر قصائده:

إيـه يا ليــــل هل شهــــدت المصابــا
               كيف ينصب في النفوس انصبابا[8]

     لقد صور الكارثة تصويراً بارعاً، وأبرع ما فيه أنها مصاب للأمة كلها، لذلك خرجت تشيع النعش الذي حملته على المدافع لما عجزت عنه الرقاب:

خرجت أمة تشــــيع نعشاً     قد حـوى أمة وبحراً عبابا
حمــــلوه على المدافع لما     أعجز الهام حمله والرقابا

     ويعدد مواقف الفقيد النابعة من نفسه الماضية المقدامة، من شجاعة وصبر ومضاء، وعزيمة تتحدى الصعاب:

كيـــف ننسى مواقفــــاً لك فـينــــا
               كنـــت فيــها المهيب لا الهيـــــابا
كنت في ميعــــة الشباب حســاماً
               زاد صقــــلاً فرنده حين شــــابــا
عظـــم لو حـــواه كسرى أنو شر
               وان يوماً لضـــــاق عنه إهابـــــا
ومضـــــاء يريك حد قضــاء الله
               يفــري متنــــاً ويحـــطم نابـــــــا
لم ينهنه من عزمك السجن والنفـ
               ـي وســـاجـلتها بمصـر الضرابا
ســـائـلوا سيشـــلاً أأوجس خوفاً
               وســــلوا طارقـــاً أرام انسحابــا
عـزمة لا يصــــدها عن مداهــا
               ما يصد السيول تغشى الهضابـا

     ومصاب سعد مصاب للشرق كله الذي جزع عليه، لأنه أراه القدوة في طلب الحق ومدافعة الظلم والذود عن الحمى:

جزع الشرق كـــــله لعظيـــــــــــم
               مـــلأ الشرق كــــله إعجـــــــــابـا
عــــلم الشـــــــام والعــراق ونجداً
               كيف يحمى الحمى إذا الخطب نابا
جمـــــع الحـــــق كـــله في كتـاب
               واستثـــــار الأسـود غابــاً فغــــابا
ومشى يحـــــمل اللواء إلى الحــــ
               ـق ويتـــلو في الناس ذاك الكتـــابا

     لقد كان سعد قائداً لمصر كلها، فجمع حوله الأحزاب، ونظم الشيوخ والنواب، وملك الزمام، وخلف من بعده للكنانة أبطالاً أعزة، يسعون إلى مقصدهم الأسنى في إعزاز مصر وبناء علاها وتشييد مجدها الذي يسعد به بنوها وتسعد به الأجيال القادمة:

قد جمعت الأحزاب حولك صفــــاً     ونظـــمت الشيــــوخ والنـوابــــــا
وملكت الزمـــام واحتطــت للغـيــ     ـــب وأدركت بالأنـــــاة الطلابــــا
ثــم خـلفـــــت بالكنـــــانة أبطـــــا     لاً كهـــــولاً أعـــزة وشـبـــــــابــا
قد مشى جمعهم إلى المقصد الأسـ     سمى يغـــذون للوصـول الركابـــا
يبتــــنون العـــلا يشيــدون مجـــداً     يسعــــدون البنيــــن والأعقـــــابـا

     وفي عام 1920م قتل عدد من الطلبة المصريين الذين ابتعثوا للدراسة في أوربا في حادث قطار، فرثاهم حافظ بقصيدة حزينة، وجعل المصاب بهم مصاباً لمصر كلها لا لذويهم فقط، وقد أعانه على ذلك أن الكارثة كانت جماعية، وأن الطلبة قتلوا غرباء عن وطنهم، يقول حافظ:

قطـــف الموت بواكير النــهى     فجــنى أجــمل طاقات الزهــر
وعــدا الموت على أقــــمارنـا     فتهـــــاووا قمراً بعـــد قـــــمر
في سبيــــل النيـل والعـلم وفي     ذمة الله قضى الإثـنــــــا عشـر
نبــــأ قطــــع أوصــــال المنى     وأصم السمع منا والبصر[9]

     ويتوجع حافظ لمصر وكوارثها المتوالية، ويرى أن كل خطوبها يمكن أن تهون إلا خطبها في أبنائها الذين تعدهم للمستقبل:

ويح مصر كل يوم حادث     وبــــلاء ما لهـــا منه مفر
هــان ما تلقــاه إلا خطبها     في تراث من بنـيها مدخر

     ويشيد حافظ بأعمال محمد عاطف بركات الذي مات عام 1924م، ويعدد أياديه على بلده مصر التي أخلص لها، لذلك كانت المصيبة به كبيرة وكان الفقيد شهيد وطنية وإصلاح، ويأسى لأن النوابغ تقصر أعمارهم، خلافاً للتافهين الذين تمتد أعمارهم وتطول:

يا شهيد الإصلاح غادرت مصراً     وهي تجتــــاز هول دور انتقـــال
لو تريثـــت لاستـــطال بك النيـــ     ـــل على هذه الخطــوب التــوالي
غيــــر أن الردى وإن كثـر النـــا     س حريص على البعيــــد المنـال
كلما قــــــام مصــــلح أعجـــــلته     عن منــــاه غوائــــــل الآجـــــال
يخــطف النــــابـغ النبيـــه ويبـقى     خــــامل الـذكــر في نعيم وخــال
أيعيش الرئبـال في الغاب جيــــلاً     ويمر الغــراب بالأجيــــال[10]

     ويختم قصيدته بهذا البيت الذي يعده فيه مصلحاً تبكي عليه الأعمال الجليلة، وقيمة الرجال تقاس بما قدموا لأوطانهم وذويهم من أعمال:

فعلى المصلحين مثلك تبكي     ثم تبــــكي جلائــل الأعمال

     وهكذا تتسع دائرة الأحزان لدى حافظ إذ يرثي الفقيد، فلا يرى فيه خسارة لأسرته وذويه فحسب، بل للعلم والوطنية والدين والجهاد، وهذا التصوير الشامل للأسى يوسع مساحة الحزن وأعداد المحزونين، ويجعل القصيدة أكثر ذيوعاً وانتشاراً، ويخرج بها من الخصوصية الفردية إلى أفق أوسع وأرحب.

-----------------------
[1] الديوان، ص 458.
[2] الديوان، ص 463.
[3] الديوان، ص 465.
[4] الديوان، ص 486.
[5] الديوان، ص 490.
[6] الديوان، ص 503.
[7] الديوان، ص 511.
[8] الديوان، ص 532.
[9] الديوان، ص 573.
[10] الديوان، ص 576.

كتاب الرثاء في شعر البارودي وشوقي وحافظ - الفصل الثاني - 07 - محور المبالغة


الفصل الثاني
(الرثاء في شعر حافظ)

07- محور المبالغة:


     مع أن حافظ أجاد في الرثاء إجادة لا مراء فيها فقد كانت تقع في بعض شعره مبالغات غريبة غير مقبولة، وربما كان مرد ذلك إلى طبيعته السهلة التي لا تخلو من سطحية أحياناً، وهو ما جعله ينظر إلى الأمور بأكبر من حجمها، وربما كان مرد ذلك أيضاً إلى حزنه الذي لا يكاد يفارقه، ثم إلى كونه شاعراً يلقي شعره بنفسه بطريقة حية مؤثرة، تجعله يود انتزاع الإعجاب من ناحية والدموع من ناحية أخرى.

     في رثائه لعثمان أباظة نجده يبالغ في الحزن ويبالغ في أهمية الفقيد:

أمست تنافس فيك الشهب من شرف
               أرض تواريت فيها يا فتى الجـــــود
لو لم تكن سبقتـــك الأنبيــــــاء لهــا
               قلنـــا بأنك فيــــــها خيــــــر ملحود
وودت الشمس لو كانت مســـــخرة
               لحمل نعشـــك عن هـــــام الأماجيد
والشمس لو أنهـــا من أفقها هبطت
               وآثرت معك سكنى القفـــــر والبيد
وقد تمنى الضحى لو أنهم درجــوا
               هــذا الفقيد بثــــوب منه مقـــــدود
أبكيت حتى العلا والمكرمات وما
               جفت عليك مآقي الخرد الخود[1]

     وفي القصيدة التي قالها في رثاء سليمان أباظة، نجده يبالغ مبالغة كبيرة لا يمكن قبولها، إنه يستهل قصيدته قائلاً:

أيهــذا الثــــرى إلام التمــــادي     بعـد هذا أأنت غرثان صـــادي
أنت تــروى من مدمع كل يـوم     وتغـــذى من هذه الأجســـــــاد
قد جعلت الأنام زادك في الدهـ     ـــر وقد آذن الورى بالنفــــــاد
فــالتمس بعده المجـــــرة ورداً     وتزود من النجــــــوم بزاد[2]

     فهو يلوم الثرى الذي لا يشبع من جثث الموتى، وقد كاد الناس ينفدون وهو لا يزال جائعاً، لذلك يطلب منه أن يلتهم المجرة والنجوم كما التهم الناس.

     وحين عاد ثانية إلى رثاء الفقيد نفسه، وقع مرة أخرى في المبالغة العجيبة غير المنطقية التي لا تستساع في قليل أو كثير:

وذروا على نهـــر المدامع نعشــه     يســـري به للروضـــة الفيحـــــاء
تــــالله لو عـلمت به أعـــــــــواده     مـذ لامستــــه لأورقــــــت للرائي
خلق كضوء البدر أو كالروض أو     كالزهر أو كالخـــمر أو كالمــــاء
ومنــــاقب لولا المهـــــابة والتقى     قلنــــا منـــــاقب صاحب الإسراء
وعزائم كــانت تفــــــل عزائم الـ     أحداث والأيـــــام والأعــــــــداء
شوقتنـــا للتـــرب بعدك واشتهى     فيه الإقــــــامة واحد العذراء[3]

     فحافظ يجعل الدموع نهراً يحمل الفقيد إلى الروضة الشريفة، والأعواد كانت ستورق لو علمت من تحمل، وخلق الفقيد ضوء وروض وزهر وخمر وماء، ومناقبه قريبة من مناقب الرسول ×، وعزيمته تفل الأحداث والأيام والأعداء، ومقامه في التراب جعل الشاعر يشتاق إليه، بل جعل عيسى عليه الصلاة والسلام يود أن يقيم فيه.

     وفي قصيدته التي قالها في رثاء الملكة فكتوريا عام 1901م، نجده يبالغ في وصف الإنجليز وفي الثناء عليهم:

أعزي القوم لو سمعـــوا عزائي     وأعلــن في مليـــكتهم رثـــــائي
وأدعو الإنجـــليز إلى الرضــاء     بحـــكم الله جبــــــــار الســــماء
فـــكـل العــــالمين إلى فـنــــــاء
أشمس الملك أم شـــمس النهــار     هوت أم تــلك مالــــكـة البحـــار
فطرف الغرب بالعبرات جاري     وعيـــن اليـــم تنظـر للبخــــــار
بنظــرة واجـــد قـــــلق الرجـاء
وكنـــت إذا عمدت لأخــذ ثـــار     أســـلت البر بالأسد الضــواري
وسّيـــرت المدائن في البحــــار     وأمطرت العـــدو شواظ نـــــار
وذريت المعاقل في الهــواء[4]

     والقصيدة كلها على هذا النحو العجيب، فالفقيدة شمس الملك وشمس النهار وهي مالكة البحار، والغرب يبكي، واليم محزون خائف، والشاعر لم ير في المعالي علا مثل علا الفقيدة، ولا تاجاً كتاجها، وجنودها يملؤون الأرض، وفي وجهها نور السعود والهناء. والشاعر يعزي في القصيدة العلم الذي ملك الدهور، وجنودها أبطال النزال الظافرين أبداً. إذا غفرت السقطة في رثاء العدو – وهي سقطة فجة لا تغتفر – فما القول في هذه المبالغات العجيبة الغريبة في رثاء من لا تجمعه بالشاعر مودة ولا أخوة ولا نسب ولا دين، ولا أي آصرة من الأواصر التي تجعل شاعراً يحزن لغياب فقيد؟

     وفي قصيدته التي قالها في رثاء البارودي وهو أستاذه وقدوته عام 1905م، تطالعنا مبالغة حافظ المعهودة:

لو حنطــــوك بشـــــــعر أنت قــــائله
               غنيت عن نفحات المســــك والعــــود
لبيــــك يا خيــــر من هز اليراع ومن
               هز الحســـــام ومن لبى ومن نـــودي
أودى المعـــري تقي الشعر مؤمنـــــه
               فكـــاد صرح المعـــــالي بعــده يودي
وأوحش الشـــرق من فضل ومن أدب
               وأقـفـــر الروض من شدو وتغـــــريد
وأصبــــح الشعــــر والأسماع تنبـــذه
               كأنــــه دســـم في جوف ممعـــــــــود
لو أنصفــــوا أودعــوه جوف لؤلـــؤة
               من كنز حكمتــــه لا جوف أخـــــدود
وكفنــــوه بــــــدرج من صحـــــائفـه
               أو واضح من قميص الصبح مقـــدود
وأنزلـــــوه بــــأفـق من مطــــــــالعه
               فــوق الكواكب لا تحـــت الجلاميــــد
ونــاشدوا الشمس أن تنعى محاسنـــه
               للشرق والغرب والأمصار والبيد[5]

     فالشاعر يدعو أن يحنط الفقيد بشعره، ويكفن بأوراقه أو بكفن يقتطع من الصباح، ويودع في جوف لؤلؤة يكون محلها فوق الكواكب لا في التراب، فهو خير من كتب وحارب، ولبى ساعة العسرة، وهو كالمعري تقي الشعر مؤمنه، والشرق أوحش بعد فقده، والروض أقفر لغيابه، والأسماع زهدت في الشعر ونبذته، وإن على الشمس أن تكون الناعي الذي ينعى البارودي للشرق والغرب والأمصار والبيد.

     وفي رثائه للإمام محمد عبده وهو من أجمل شعره وأصدقه وأخلده، وأكثره تعبيراً عن خصائصه النفسية والفنية، نجد مبالغات حافظ الكبيرة، فالناس قد جهلوا قدر الفقيد فدفنوه في الصحراء، وكان ينبغي أن يدفن في أحد المسجدين لتضم خير البقاع خير الرفات:

لقـــد جهــــلوا قدر الإمام فأودعوا     تجـــــاليده في موحــــش بفـــــلاة
ولو ضـــرحوا بالمسجدين لأنزلوا     بخير بقاع الأرض خير رفات[6]

     أما الشهب فإنها تتبادل التعازي فيما بينها:

وشاعت تعازي الشهب باللمح بينها
               عن الـنيــــر الهاوي إلى الـفـــلوات

     وأما النعش فإنه يختال عجباً بالفقيد:

مشى نعشه يختال عجباً بربه     ويخـطر بين اللمس والقبلات

وأما الدموع الجارية فتكاد تحمله:

تكاد الدموع الجارات تقله     وتدفعه الأنفاس مستعرات

     ويحذر الشاعر الناس من إقامة تمثال للفقيد خوفاً من أن يضل الناس فيعبدوه:

فلا تنصبوا للناس تمثال عبـــده     وإن كان ذكرى حكمة وثبـــات
فإني لأخشى أن يضلوا فيومئوا     إلى نور هذا الوجه بالسجــدات

     وفي قصيدته التي رثى بها مصطفى كامل عام 1908م، نجد حشداً من المبالغات، فهو يطلب من القبر أن يكبر ويهلل ويجثو للفقيد:

أيـــا قبر هذا الضيـــف آمال أمة
               فكبر وهلل والق ضيفك جاثيا[7]

     ويدعو النيل إلى أن يجري دماً أحمر ويدعو مصر أن تحفظ عهد الفقيد، وإلا، فليتوقف النيل عن الجريان، وليصب مصر الوهن والانحلال:

فيــا نيـــــل إن لم تجر بعد وفـــاته
               دماً أحـــمراً لا كنت يا نيــل جاريا
ويا مصر إن لم تحفظي ذكر عهده
               إلى الحشــر لا زال انحــلالك باقيا

     وفي قصيدته الأخرى التي قالها في رثاء مصطفى كامل عام 1908م أيضاً، والتي مطلعها:

نثــــروا عليك نوادي الأزهار     وأتيت أنثر بينهم أشعاري[8]

     وهي من جيد شعر حافظ تلقانا المبالغة التي تظل تتكرر في شعر حافظ، فيوم وفاة الفقيد هو يوم الحشر، والمشيعون يخطون على الثرى سطوراً بدموعهم، وزفيرهم كالشرر، والشاعر كاد يموت بين مراجل الزفير، وبحار الدموع، لو لم يلذ بنعش الفقيد.

     وفي قصيدته التي قالها في رثاء سعد زغلول عام 1927م، وهي الأخرى من أجود شعره وأصدقه وأحفله بالأمل والمعاني الوطنية، لا تفارقنا مبالغة حافظ، فهو يطلب من الليل أن يصنع من سواده ثوباً للنجوم والضحى، وأن يلبس الشمس نقاباً أسود:

قــد يا ليــــل من ســـوادك ثـوبــــــاً
               للــــدراري وللضـــحى جـلبـــــــابـا
انســج الحالكــــات منــــك نقــــــاباً
               وأحب شـــمس النهـــار ذاك النقــابا
قل لها غاب كوكب الأرض في الأر
               ض فغيبي عن السماء احتجـــابا[9]

     أما إعلان وفاة سعد فهي اللفظة التي قتلت كل حي على الأرض، وغيرت في الوجود، وإنه لأعجب العجب أن تفعل لفظة واحدة كل هذه الحوادث:

كيف أقصدت كل حي على الأر     ض وأحدثت في الوجود انقلابا

     أما النيل فقد نسي أن يجري لما رأى أحزان الجموع الباكية، في حشد ضخم لم يعرف منذ أيام الفراعنة:

وســـها النيــل عن سراه ذهولاً     حين ألفى الجموع تبكي انتحابا
ظن يا سعـــد أن يرى مهرجاناً     فـرأى مأتمــاً وحشداً عجــــابـا
لم تســق مثــــله فراعين مصر     يوم كـــــانوا لأهلهــا أربابـــــا

     وفي رثائه لعبد الحليم العلايلي عام 1932م، يجعل الدموع بحراً تجري فيه السفن، وينبغي لنا أن نلاحظ أن هذا الرثاء قاله حافظ في آخر عمره:

أسال من الدموع عليك بحـراً     تكاد بلجه تجري السفين[10]

     وفي رثائه للمنفلوطي عام 1924م نجد المبالغة الغريبة المعهودة عن حافظ، وهنا ينبغي لنا أن نلاحظ أيضاً أن هذا الرثاء قاله في أواخر عمره:

جمحت بعدك المعــاني وكانت     سلســـات القيــــاد مبتــــدرات
وأقــــــام البيـــان في كل نـــاد     مأتماً للبـــــدائع الرائعـــــــات
لطمت مجــدليــــن بعدك خديـ     ـها وقامت قيامة العبرات[11]

     فالمعاني نافرة غاضبة، والبيان يقيم مأتماً في كل ناد، و ((مجدولين)) تلطم خديها وكتاب ((العبرات)) قامت قيامته.

     وإذا كانت مبالغة الشاعر تقبل منه أو تغفر له وهو في شبابه، فإنها لا تقبل منه وهو في أوج نضجه الفني واكتمال موهبته وأداته، لذلك كانت مستغربة خاصة في رثائه للمنفلوطي وزغلول وهو من أواخر شعره، بل في رثائه لعبد الحليم العلايلي عام 1932م وهي السنة التي توفي فيها حافظ.

     وعلى كل حال لا يمكن لنا أن نفسر هذه المبالغات في مراثي حافظ بعاطفة كاذبة، يسترها بالمزايدة في البكاء والثناء والإشادة، ذلك أننا نجدها حتى لدى من رثاهم بصدق، وأجاد في رثائهم كسعد زغلول ومصطفى كامل ومحمد عبده، ولكن مردها شخصيته وفطرته وثقافته وإحساسه الدائم بالحزن، فضلاً عن جماهيريته وخطابته، ولاشك أن هذه المبالغة المسرفة تدل على قدر من السذاجة العقلية والعاطفية. وقد لمس الدكتور عبدالحميد سند الجندي هذا الملحظ في شخصية حافظ، وكان موفقاً حين ربط بينه وبين المبالغة في شعره حيث قال: (( وأعتقد أن طبيعة حافظ نفسه قد أذكت من روح هذه المبالغة التي يجري فيها على غبار الأقدمين، لأنه كان رجلاً بسيطاً في خلقه، يسرف في الحب ويسرف في الرضا ويسرف في السخط ويسرف في الحزن ويسرف في الإخلاص، فهو يستدر الدمع المدرار على الفقيد، ويخيل إليه أن هذه الدموع تحمل نعشه، إلى قبره وأن أنفاس الناس تدفعه))[12].

----------------------------
[1] الديوان، ص 445.
[2] الديوان، ص 447.
[3] الديوان، ص 449.
[4] الديوان، ص 450.
[5] الديوان، ص 453.
[6] الديوان، ص 458.
[7] الديوان، ص 463.
[8] الديوان، ص 465.
[9] الديوان، ص 532.
[10] الديوان، ص 557.
[11] الديوان، ص 579.
[12] حافظ إبراهيم شاعر النيل، دار المعارف، القاهرة، ط3، 1981م، ص 105.

كتاب الرثاء في شعر البارودي وشوقي وحافظ - الفصل الثاني - 06 - أبعاد وطنية


الفصل الثاني
(الرثاء في شعر حافظ) 

06- أبعاد وطنية:


     يحمد لحافظ إبراهيم أنه كان يتخذ من رثائه للقادة والزعماء مناسبة يحسن انتهازها، لإيقاد العزائم وبث الأمل ودعوة الناس إلى الوحدة والتجمع لنصرة الوطن وإجلاء المستعمر عنه وبناء مجده.

     يخاطب مصطفى كامل بأن صوته لا يزال يدوي، مهيباً بأبناء مصر أن يتجمعوا وألا يهدموا ما شاد من بناء، ويجيبه بأن الناس على العهد يسمعون صوته ويستجيبون لنصحه ويحفظون بناءه:

شهيــــد العلا لازال صوتك بيننـــا
               يـرن كما قــد كان بالأمس داويــــا
يهيــــب بنــــا هذا بنــــاء أقمتــــه
               فلا تهـــدموا بالله ما كنت بانيــــــا
يصيـــح بنا لا تشعروا الناس أنني
               قضيــــت وأن الحي قد بات خاليـا
ينــــاشدنـا بــالله ألا تفـرقــــــــــوا
               وكونوا رجالاً لا تسروا الأعاديـــا
فـروحي من هذا المقــــام مطــــلة
               تشـــارفكم عني وإن كنت بـاليـــــا
فـلا تحزنــوها بالخــــلاف فــإنني
               أخاف عليكم في الخلاف الدواهيــا
أجـــل أيها الداعي إلى الخير إننـــا
               على العهد مادمنا فنم أنت هانيا[1]

     وفي القصيدة التي قالها على قبر مصطفى كامل لإحياء ذكرى وفاته الأولى عام 1909م، نرى حافظ يحسن الوصول إلى إيقاد العزائم في تصوير درامي مؤثر، يحدثنا فيه عن فؤاده الذي يرى روح الفقيد الجليلة، ومحياه الذي يبتسم، ثم يطلب من أبناء مصر أن يغضوا من أبصارهم إجلالاً له، ويحيوه من قلوبهم إن أعوزهم الكلام، ويذودوا عن مبادئه التي مات دونها:

إني أرى وفــؤادي ليــــس يكذبني
               روحـــاً يحف به الإكبار والعظــم
أرى جـــلالاً أرى نوراً أرى ملكاً
               أرى محيـــــاً يحيينـــــا ويبتســــم
الله أكبــــر هذا الوجــــه أعرفــــه
               هذا فتى النيــــل هذا المفرد العــلم
غضــوا العيــــون وحيـوه تحيــته
               من الـقــــلوب إذا لم تسعــــد الكلم
وأقســــموا أن تذودوا عن مبــادئه
               فنحن في موقف يحلو به القسم[2]

     ثم يجيب الفقيد على لسان أبناء مصر بأنهم وافون لعهده، مستمرون على طريقه في عزيمة وإصرار:

لبيك نحن الألى حركت أنفسهم     لمــــا سكنت ولما غــالك العدم
جئنا نؤدي حسابــاً عن مواقفنـا     ونســـتمد ونستعدي ونحتــــكم

     ويعتز حافظ بمصر التي لا يطوى علمها والتي تطوي الأمم الغازية لها لأن الله عز وجل يحميها ولأنها به تعتصم، ويؤكد للفقيد أن المصريين على ما يعهده حتى يسودوا وتشهد الأمم بذلك ويفرح النيل ويختال الهرم:

ماذا يريدون لا قــرت عيونهم
               إن الكنــــانة لا يطوى لها علم
كم أمة رغبت فيها فما رسخت
               لها على حولها في أرضها قدم
ما كان ربك رب البيت تاركها
               وهي التي بحبــال منه تعتصم
لبيـــك إنا على ما كنت تعهـده
               حتى نسود وحتى تشــهد الأمم
فيعلم النيل أنا خيـر من وردوا
               ويستطيل اختيــــالاً ذلك الهرم

     ويطلب من النشء الجديد أن يسيروا على طريق الفقيد لأن في كل واحد منهم مصطفى جديداً لو عزم وجد:

يا أيها النشء سيروا في طريقته     وثابروا رضي الأعداء أو نقموا
فكــلكم مصطفى لو سـار سيرته     وكلكم كامل لو جـــــازه الســقم

     ويختم القصيدة بهذين البيتين الجميلين يدعو فيهما الفقيد أن ينام هانئاً لأن الناس بعده في يقظة، والشمل ملتئم و ((لواء)) الفقيد خفاق، وشخصه ماثل في قلوب الناس:

نم أنت يكفيك ما عانيت من تعب     فنحن في يقــــظة والشمل ملتئــم
هـــذا لــواؤك خفـــاق يظللـنـــــا     وذاك شخصك في الأكباد مرتسم

     وفي رثائه لمحمد فريد يطلب منه أن يرغب إلى سلفه مصطفى كامل أن ينام في غبطة لأن ما غرسه استوى على سوقه، ويحمل إليه البشرى بذلك ويؤكد له أن مصر لن تحيد عن طريقها الذي أراده لها:

قـل لصب النيـــــل إن لاقيـــــــتـه     في جـــوار الـدائـــــم الفرد الصمد
إن مصــــــراً لاتني عن قصـــدها     رغم ما تـــلقى وإن طــــــال الأمد
جئـــــت عنـها أحـمل البشرى إلى     أول البـــــانين في هــــــــذا البـــلد
فاستــــرح واهنـــــأ ونم في غبطة     قد بذرت الحب والشعب حصد[3]

     وفي قصيدته الرائعة التي قالها في سعد زغلول، يحسن حافظ إيقاد العزائم، ويبشر بمواصلة الجهاد، ويتحدى الإنجليز، يقول عن استمرار الجهاد بعد الفقيد:

ليت سعـــداً أقـــــــام حتى يرانـــا
               كيف نعلي على الأساس القبــــابـا
قد كشـــــفنــا بهديه كل خـــــــاف
               وحسبنـــا لكل شيء حســـــــــابـا
حجــــج المبطلين تمضي سراعـاً
               مثـــلما تطــــلع الكؤوس الحبـــابا
حين قـــــال انتهيت قلنـــــا بدأنــا
               نحمل العبء وحدنا والصعابا[4]

     ويتجه إلى الإنجليز بأبيات قوية وثابة يتحداهم فيها، أن يجدوا من أبناء الوطن رجلاً حراً يتعاون معهم حتى لو حبسوا الشمس ومنعوا الماء والهواء والطعام، ويحذرهم من أن يتوهموا أن وفاة سعد سوف تضعف الوطن، ذلك أن الليوث فيه تتنزى غضباً فداء له إذا أهاب بها ودعاها:

فاحجبوا الشمس واحبسوا الروح عنا
               وامنعــــونـــا طعـــامنـا والشرابـــــا
قــد ملكـتــــم فــم السـبيــــل علـيــــنا
               وفتحـتـــــــــم لكـــل شعــــواء بـابــا
وأتيــــــــــتـم بالحائمـــــات تـــرامى
               تحـــــمل المــوت جـاثمـاً والخرابـــا
وملأتــــم جوانـــب الـنيــــل وعــــداً
               ووعـيـــــــداً ورحــــــمة وعـذابـــــا
هل ظفـــــرتم منــــا بقـــــــــلـب أبي
               أو رأيتــــم منـــــا إلـيـــــكم مثـــــابـا
لا تقــــــولـوا خـــــلا العريــــن ففيـه
               ألف لـيــــث إذا العريــــــن أهابــــــا
فاجمعـــــوا كيـــدكم وروعوا حمـاها
               إن عنـــد العـــرين أســــداً غضـــابـا

     وفي القصيدة التي قالها في رثاء الطلبة المصرين الذين قتلوا في حادث قطار في أوروبا، نجده يختمها بأربعة أبيات يدعو فيها شباب النيل ألا تقعد به الكارثة عن طلب العلا، وأن يكون مقداماً راكباً للمخاطر طالباً للعلم تاركاً للحذر والإحجام:

أي شبـــــاب النيل لا تقعد بكم
               عن خطير المجد أخطار السفر
إن من يعشق أسبــــاب العــلا
               يطرح الإحجــام عنه والحــذر
فاطلبــوا العـــــلم ولو جشمكم
               فــوق ما تحـــمل أطواق البشر
نحـن في عهــــد جهــــاد قـائم
               بين موت وحيــــاة لم تقـر[5]

     وفي رثائه لمحمد عاطف بركات، يدفع عن مصر تهمة العجز والعقم ويدعو إلى فتح الميدان أمام شبابها الذين يمشون في القيود، وإلى تحطيم هذه القيود، ويطالب الشرق أن يجد كما جد الغرب:

لم تـكن مصـــر بالعقـيــــــم ولكن
               قـد رماهــــا أعـداؤهــا بالحيــــال
أفســـحوا للجيــــاد فيــها مجــــالاً
               قد أضر الجياد ضيـــق المجــــال
أصبحت في القيود تمشي الهوينى
               كسفين يعبــــــرن مجرى القنـــال
فاصدعــــوا هذه القيــود وخــــلـو
               ها تباري في السبق ريح الشــمال
عرف الغرب كيف يستثمـر الجــد
               فيــــبني بفضـــــله كـــــل غــــال
ودرى الشرق كيف يستمرئ اللهـ
               ـــو فيفضي بــــه إلى شــر حـــال
فاتركوا اللهو في الحيـــــاة وجدوا
               إن في اسم الرئيس أيمن فــال[6]

     إن توظيف المصيبة من أجل إيقاد العزائم عمل إيجابي محمود لحافظ، نراه فيه مبشراً بالمستقبل، وحاثاً على الجهاد، وداعياً إلى العلم، ومحذراً من القنوط، ومهيباً بجمع الكلمة، وهذه معان نبيلة وكريمة، ومن أحسن ما يعمل لها مصلح أو يدعو إليها زعيم وهي أيضاً تتجاوز دائرة السلبية والأحزان والتهويمات الحائرة لتجعل للشعر دوراً وطنياً بانياً.

     على أن هذا البعد الوطني المحمود في مراثي حافظ، لا يجعلنا نغفل عن سقطتين مستنكرتين جاءتا في مراثيه. الأولى[7] أنه رثى فكتوريا ملكة إنجلترا حين توفيت عام 1901م، وبالغ فيما قاله عنها، وعزى ذويها، وعلمها، وأشاد بقوة دولتها وسعة سلطانها وغلبة جيوشها، والحقيقة أن هذا العمل من حافظ سقطة لا تقبل مهما قيل عن تسامحه الديني وبراءته من التعصب.

     أما الثانية فأخذ في نظمها لما بلغه أن جورج الخامس ملك إنجلترا قد توفي، وقد وقف جامعو ديوانه منها على هذين البيتين فقط:

إن الـذي كــانت الدنيــــــا بقبضتــــــه
               أمسى من الأرض يحويــــه ذراعـــان
وغــــــاب عن ملكه من لم تغـــب أبداً
               عن ملكه الشمس من عز وسلطان[8]

     وهذه سقطة أخرى لحافظ في باب الرثاء لا تغتفر قط، ولا يمكن التماس العذر له فيها بحال. عجباً لأمر حافظ المسلم المصري الوطني الطيب، كيف عميت بصيرته وخانه ذكاؤه فرضي أن يرثي عدو بلاده، الذي يعتدي على دينها، ويحتل أرضها، ويبطش بأحرارها، ويسرق خيراتها؟

     وهاتان السقطتان الشائنتان، تذكرنا بسقطات أخرى لحافظ في غير ميدان الرثاء، وهي سقطات شائنة أيضاً، لا يمكن التماس العذر له فيها قط، ولا يخفف من بشاعتها ما عرفنا عنه من طيبة وصدق ووطنية وحب عميق لدينه وبلاده.

     في عام 1902م يهنئ حافظ ملك بريطانيا إداورد السابع، الذي خلف الملكة فكتوريا بعد وفاتها، فيقول فيه قصيدة من أربعة وعشرين بيتاً، مطلعها:

لمحتُ من مصر ذاك التاج والقمرا
               فقـلت للشعر هذا يوم من شعرا[9]

     وللقارئ الكريم بعض أبيات هذه القصيدة ليحكم بنفسه ومن خلال تعامله معها مباشرة، على موقف حافظ الشائن فيها:

يا دولـــة فــــوق أعلام لها أســـــــد
               تخـــــــشى بوادره الدنيــــا إذا زأرا
يؤول عرشـــك من شــمس إلى قمر
               إن غابت الشمس أولت تاجها القمرا
مـن ذا ينــــاويك والأقــدار جــارية
               بما تشــــائين والـدنيـــا لمن قــــهرا
إذا ابتســـمت لـنــــا فالدهر مبتســـم
               وإن كـشــرت لنــــا عن نابه كشــرا
الـيــــوم يشــــرق إدوار على أمـــم
               كأنهــــا البحــــر بالآذي قد زخـــرا
إدوار دمت ودام المــلك في رغــــد
               ودام جنـــدك في الآفـــــاق منتصرا
هم يذكرونــــك إن عدوا عدولهــــم
               ونحن نذكر إن عـــــدوا لنا (عمرا)

     إن موقف حافظ هذا هو إسفاف بالغ، وذعر شديد، وخطل في الرأي، وهو ما جعله يهنئ تلك الدولة التي تحتل بلاده، ظلماً وعدواناً، ويبلغ الأمر منتهى السوء حين يقارن بين إدوارد السابع هذا، وبين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فيجعلهما مثالين للعدل. إن عمر بن الخطاب من أعظم رجال الإسلام، بل من أعظم رجال الدنيا كلها، عدلاً وإخلاصاً وزهداً وذكاء وابتكاراً، وهو يحتل في وجدان كل مسلم مكانة كبيرة جداً، وحافظ من هؤلاء المحبين له، المعجبين به، وهو من نظم فيه قصيدته المطولة المشهورة، ومع ذلك يسف فيجعل من إدوارد السابع نداً له في العدل !!!.

     وفي عام 1906م تحدث فاجعة دنشواي، وهي فاجعة دلت على وحشية المحتل الإنجليزي، وقسوته، واستهتاره بأدنى مقومات العدالة، وهو ما دفع عدداً من أحرار الإنجليز إلى إدانتها، مثل برناردشو. وقد كان موقف حافظ فيها عجباً من العجب.

     ويحمد لوطنيي مصر يومذاك توظيفهم الحادثة توظيفاً إيجابياً لتعرية الاحتلال الإنجليزي وفضح ممارساته، وإهاجة الشعور الوطني، وقد تولى أكبر الجهد في ذلك مصطفى كامل، وقصيدة حافظ في هذه الفاجعة تحسب عليه ولا تحسب له، فقد كان فيها ضعيفاً خائراً مستجدياً، علماً أنه قالها في أوج قوته حيث كان في العقد الرابع من عمره، وفي الفترة التي كان فيها عاطلاً مشرداً ليس له وظيفة يخاف عليها، يقول حافظ مخاطباً الإنجليز:

أيهــــا القــــــائمون بالأمر فيـنــــــا
                هل نسيـــــتم ولاءنـــــــا والـــودادا
لا تظنـــــوا بنــا العقــــوق ولكــــن
                أرشـدونـــا إذا ضللنـــا الرشــــــادا
جـــاء جهـــــالنا بــأمر وجئتــــــــم
                ضعف ضعفيه قسوة واشتدادا[10]

     وهو حديث غريب مردود لا يليق بحافظ أبداً، يذكر فيه المحتلين بالمودة والولاء، ويطلب منهم الإرشاد الذي يقي من الضلال والعقوق، ويجد سبباً للربط بين أهل دنشواي المنكوبين وبين الطغاة الباطشين الذين يطالبهم بحسن القصاص إن لم يتكرموا بالعفو:

أحسنوا القتل إن ضننتم بعفو     أقصـــاصاً أردتم أم كيــــادا
أحسنوا القتل إن ضننتم بعفو     أنفوســـاً أصبتـــم أم جـمادا

     ويصف أمة النيل بأنها أمة تحتاج من المحتل إلى إكرام، ذلك أنها استكانت إلى اليأس وأشفقت من الصراع، وليس لها إلا الحسرة والكلام:

أكرمونا بأرضنــا حيث كنتم     إنما يكــرم الجــــواد الجوادا
إن عشــرين حجة بعد خمس     علمتنــا السكون مهما تمادى
أمة النيـــل أكبرت أن تعادي     من رماها وأشفقت أن تعادى
ليس فيـــها إلا كــــــلام وإلا     حسرة بعد حســــرة تتهـادى

     والحقيقة أن الشاعر في هذه القصيدة زل زلة لا تليق به بحال، ولو سكت لكان أليق به. وإذا كان حافظ قد أحسن في السخرية من المدعي العمومي إبراهيم الهلباوي لموقفه المخزي في هذه القضية، فلعل السبب أنه لم يهبه كما هاب الإنجليز الذين ظل يخافهم ويخاف عميدهم اللورد كرومر، لذلك نجده يزل زللاً لا يغتفر في القصيدتين الأخريين المتصلتين بحادثة دنشواي، الأولى: هي استقباله اللورد كرومر عند عودته من مصيفه بعد حادثة دنشواي ومطلعها:

قصــــر الدبارة هل أتاك حديثـــــنـا
               فالشرق ريع له وضج المغرب[11]

     ويخاطب هذا القصر الذي كان يمثل سطوة الاحتلال وجرائمه، لأن كرومر كان يقيم فيه، ثم يخاطب كرومر فيقول للقصر، ثم لساكنه كرومر:

أهـــلاً بســــاكنك الكـريم ومرحباً     بعـــد التحيـــة إنني أتعتــــــــــب
علمتنـــا معنى الحيـــــاة فما لنـــا     لا نشـــرئب لهـــا ومالك تغضب
رفقــــاً عميــــد الدولتيــــن بــأمة     ضاق الرجاء بها وضاق المذهب
رفقـــــاً عميـــد الدولتيــــــن بأمة     ليســـت بغيــــر ولائهــا تتعـذب
كن كيف شئت ولا تكل أرواحنــا     للمستشــــار فــإن عدلك أخصب
فاجعـــل شعـــارك رحمة ومودة     إن القــــلوب مع المودة تكســـب

     والثانية: هي التي قالها في وداعه، وفيها يثني على اللورد المسافر ثناء عجيباً غريباً، إن لم يكن هو الملق بعينه فهو الخطل بعينه وأسوأ:

سنــطري أياديك التي قد أفضتـها
                علينا فلســـــنا أمة تجحــــد اليــدا
وكنت رحيم القلب تحمي ضعيفنا
                وتدفع عنا حـــادث الدهر إن عدا
فيــــا أيها الشيخ الجليــــــل تحية
                ويا أيها القصر المنيــــف تجــلدا
لئن غاب هذا الليث عنــــك لعلة
                لقد لبثت آثــــاره فيك شهدا[12]

     غفر الله تعالى لحافظ هذا السقوط الشائن الذي لا يمكن قبوله بحال، وياليته إذا خانته شجاعته اعتصم بالصمت، والصمت هنا وإن كان عيباً أهون بكثير من النفاق والخطل.

     هذا وقد حاول أستاذنا الجليل الدكتور شوقي ضيف أن يلتمس لحافظ عذراً في موقفه من اللورد كرومر، بأن ذلك لم يكن موقفه وحده، بل كان موقف الطبقة الممتازة من المصريين يومذاك التي كانت تداري الإنجليز[13]، واعتذار الأستاذ الجليل مردود لأن خطأ الإنسان لا يمكن الدفاع عنه بوقوع الآخرين فيه، فالخطأ خطأ سواء كان فردياً أم جماعياً.

     وهذا الموقف المخزي لحافظ نراه يتكرر بشكل آخر بعد قرابة عقد من الزمان، ففي عام 1915م تعين إنجلترا السير مكماهون معتمداً لها في مصر، فيحييه حافظ بقصيدة مطلعها:

أي مكمهــــــون قــدمت بالـ     قصد الحميد وبالرعاية[14]

     وفيها يشيد حافظ بالإنجليز، ويجعلهم أنبل الناس، ورواد الإصلاح أنى حلوا:

أنتــــــم أطباء الشعــــو     ب وأنبـل الأقوام غـاية
أنى حللتـــــم في البـــلا     د لكم من الإصلاح آية

     وفي العام نفسه يطلب حافظ من سلطان مصر يومها، السلطان حسين كامل، في قصيدته التي هنأه فيها بالسلطنة، أن يوالي الإنجليز، ويمضي يعدد ما يدعي أنها مآثر لهم:

ووال القــــوم إنهــم كــــــرام     ميـــــامين النقيــــبة أين حـلوا
لهم ملك على التاميز أضحـت     ذراه على المعــــــالي تستـهل
وليس كقومهم في الغرب قوم     من الأخـلاق قد نهلوا وعلــوا
فـإن صـــادقتهم صدقـوك وداً     وليــــس لهم إذا فتشت مثـــل
وإن شــــاورتهم والأمر جـــد     ظفـــرت لهم برأي لا يــــزل
وإن نـــاديتهم لبـــاك منـــــهم     أســـاطيل وأسيــــــاف تســل
فمـاددهم حبـــال الود وانهض     بنا فقيـــادنا للخير سهل[15]

     إن زلاّت حافظ هذه زلات شائنة لا يمكن قبولها بحال، ولكنها لا تلغي حسناته المعروفة المقررة، ومن شأن البحث العلمي النزيه أن يذكر للإنسان جوانبه جميعاً المحمودة والمردودة.

     على أن أهم ما ينبغي أن يقال هنا، هو أن نحترس من الأحكام الأدبية التي يغلب عليها التعميم والإطلاق، ومن خلال هذا الاحتراس المطلوب يمكن لنا أن نرد الحكم الأدبي الشائع عن حافظ، بأنه كان – دائماً – شاعر الوطنية، وضمير الشعب، والشجاع الذي يواجه الإنجليز من ناحية، والقصر من ناحية، دون تردد أو وجل، ولقد رأينا مواقفه من الاحتلال الإنجليزي بصورتيها، أما مواقفه من القصر فهي على خلاف الشائع عنه، لقد تمنى أن تكون له مكانة في القصر مماثلة لمكانة شوقي، التي كان يحسده عليها، وبذل جهوداً في ذلك شعراً ومواقف، لكنه لم يوفق إلى ما يريد، وبلغ في ذلك مبلغاً مسفاً، حين أعلن على رؤوس الأشهاد أنه يريد أن يقبل يد الخديوي عباس. فقال:

إلى ســــدة العبــــاس وجهت مدحتي
               بتهنــــــئة شوقيـــــة النســــج معطار
مليـــــك أبـــــاح العيـــد لثم يميـــــنه
               وياليت ذاك العيد يبسط أعذاري[16]

-------------------------
[1] الديوان، ص 463.
[2] الديوان، ص 474.
[3] الديوان، ص 511.
[4] الديوان، ص 532.
[5] الديوان، ص 573.
[6] الديوان، ص 576.
[7] الديوان، ص 450.
[8] الديوان، ص 562.
[9] الديوان، ص 18.
[10] الديوان، ص 334.
[11] الديوان، ص 336.
[12] الديوان، ص 340.
[13] دراسات في الشعر العربي المعاصر، دار المعارف، القاهرة، ط5، 1974م، ص 16.
[14] الديوان، ص 396.
[15] الديوان، ص 67.
[16] الديوان، ص 11.

كتاب الرثاء في شعر البارودي وشوقي وحافظ - الفصل الثاني - 05 - الحكمة


الفصل الثاني
(الرثاء في شعر حافظ) 

05- الحكمة:


     يلاحظ الدارس أن الحكمة قليلة ونادرة في مراثي حافظ، علماً أن المراثي مكان مناسب لاستدعاء الحكمة، لأنها تتصل بالموت والقبر والآخرة، والخير والشر، وتلاقي الفقير والغني، والظالم والمظلوم، والشقي والسعيد، وما إلى ذلك مما يثير التأمل، والتأمل باب الحكمة الواسع.

     ولعل السبب أن حافظ كان صادقاً مع نفسه في مراثيه، يرسلها على سجيتها، والمعروف أنه كان شخصاً طيباً بسيطاً واضحاً لا يتكلف ولا يتعمق، ولذلك وصفه الدكتور طه حسين بحق بأنه ذو طبيعة ((يسيرة جداً لا غموض فيها ولا عسر ولا التواء، وهذا اليسر هو الذي يحببها إلينا، وهو الذي يجعلها في الوقت نفسه فقيرة قليلة الحظ من الخصب والغنى))[1]. ولذلك كان يبكي من يرثيهم بكاء صادقاً تظهر فيه نفسيته على حقيقتها، يحزن فيرثي ويبكي وتشغله أحزانه الصادقة، وشخصيته السهلة المحدودة عن الحكمة والفلسفة، وعن التعمق، والنظر إلى ما وراء الموت. من أجل ذلك كان الصدق يشيع في مراثيه إلى جانب السهولة واليسر، فيتأثر بها القارئ، ويفهمها في آن واحد، يضاف إلى ذلك أن حافظ كان مؤمناً وفي إيمانه تسليم وتفويض ورضا، يجعله لا يشغل نفسه كثيراً بالبحث عن الموت وما بعده.

     وليس في مراثيه إلا نثار محدود جداً من الحكمة تقع بين الحين والآخر وهي إلى قلتها سهلة قريبة. يقول في شكوى الدنيا وهو يرثي سليمان أباظة:

لم تـــلدنا حواء إلا لنشــــــقى     لـيتـــــها عـــاطل من الأولاد
أســلمتــنا إلى صروف زمان     ثم لم توصنا بحفظ الوداد[2]

     وفي رثائه لمصطفى كامل نعثر على هذا البيت الذي يقدم لنا حكمة قريبة ساذجة كصاحبها القريب الساذج:

يموت المداوي للنفوس ولا يــرى     لما فيه من داء النفوس مداويا[3]

     وفي قصيدته التي قالها في رثاء تولستوي، يشيع نفس فلسفي، خاصة حين يتحدث المعري إلى تولستوي، فنقع على بعض الحكم، كتلك التي يجعل المعري الدنيا فيها حرباً وتناحراً خلافاً لما يريده تولستوي من شيوع السلام فيها:

حيــــاة الورى حـــرب وأنت تريــدها
               ســــلاماً وأسبــــاب الكـفـــاح كثيــــر
أبـت سنـــــة الـعمـــــران إلا تنــاحراً
               وكدحـــاً ولو أن الـبقــــــاء يســــــيـر
تحـــــاول رفـــع الشر والشر واقــــع
               وتطلب محض الخير وهو عسير[4]

     ووجود الخير والشر في الدنيا دليل على عظمة الله تعالى فهو قد جعلها دار ابتلاء، ولذلك جاء النبيون بالهدى، وتطلع إلى الحكم الأمراء، وعشق الأحرار المجد، وساد الكرام، ورجا الفقراء الغنى:

ولولا امتزاج الشر بالخير لم يقم     دليــــل على أن الإلــــــه قديــــر
ولم يبعــــث الله النبيـين للهـــدى     ولم يتطــــــلع للسريـــــر أميـــر
ولم يعشق العلياء حر ولم يســــد     كريم ولم يـــــرج الثراء فقيـــــر

     ووجود الشر نفسه سبب من أسباب وجود الخير، ووجود الخير نفسه سبب من أسباب وجود الشر، ثم إن ذلك يميز همم الناس وصدق توجهاتهم، فضلاً عن أنه سبب لانبلاج النور والدعوة إلى الله:

ولو كان فينا الخير محضاً لما دعا
               إلى الله داع أو تبـــــــــــــلج نـــور
ولا قيـــل هذا فيـــــلسوف موفـــق
               ولا قيـــل هذا عــــــــــالم وخبيـــر
فكم في طريق الشــــر خير ونعمة
               وكم في طريق الطيبـــــات شـرور

     والظلم في الدنيا أصيل عريق، وباق مستمر لا يزول، وحلقة تتبعها أخرى، لذلك إذا هدمت له دور شيدت له دور أعلى:

إذا هدمت للظلم دور تشيدت     له فوق أكتـاف الكواكب دور

     والأذى في الناس سوف يبقى لا يصده قول الأنبياء، والفتن في الحياة ستظل قائمة لا يردها منذر أو محذر:

وما صد عن فعل الأذى قول مرسل
            ومـا راع مفتـــــون الحيــــاة نذيـــر

     وفي رثاء حافظ لسعد زغلول نقع على بيت في الحكمة، يبين فيه الشاعر سطوة القضاء الذي لا يبالي بمن يفتك به:

والمقادير إن رمت لا تبـالي     أرؤوساً تصيب أم أذنابا[5]

     وفي رثائه لابنة البارودي يخاطب الأب المفجوع مبيناً له أن التراب هو ملتقى الناس على اختلاف منازلهم:

هذا التراب – وأنت أعلم  ملتقى     هذا الورى من ســوقة وملوك[6]

     ويخاطب شباب النيل في رثائه للطلبة الذين ذهبوا في حادث قطار في إيطاليا، فيطلب منهم الشجاعة والإقدام، لأن للمعالي ثمنها الباهظ:

إن من يعشـــق أسبـــــاب العلا     يطــرح الإحجـــام عنه والحـذر
فـاطلبـــوا العـــلم ولو جشــمكم     فوق ما تحمل أطواق البشر[7]

     وفي رثائه لمحمد عاطف بركات، يقرر أن كل شيء إلى زوال، وأن كل شيء يرجى، إلا الخلود فإنه لله عز وجل:

كل شيء إلا التحية يرجى     فهي لله والدنا للزوال[8]

     وفي رثائه لأحمد حشمت، يخبرنا أنه قد ضاق بالحياة، ولا غرابة فإن الأحبة جمال الحياة فإذا ذهبوا ذهب:

قد ضقت ذرعاً بالحياة ومن     يفقد أحبته يضق ذرعــا[9]

     وفي القصيدة نفسها نعثر على بيت يتضمن حكمة تنبض بالحرارة والحرقة والأسى، حيث يصور أن الحر ربما عابه من هم أدنى منه بكثير، وكأنه يريد بذلك نفسه:

ولرب حــــر عـــابه نفر     لا يصلحون لنعله شسعا

     ومن هذا الاستعراض يظهر بوضوح أن الحكمة في مراثي حافظ قليلة جداً، وأنها على قلتها ساذجة سهلة قريبة، وهي لا تشغل العقل، ولا تستثير الوجدان، ولا تفتح لدى المرء أبواب التأمل والتدبر، ومرجع ذلك شخصيته بكل أبعادها الفطرية والثقافية، وإيمانه الراضي العميق.

     يقول الأستاذ محمد إسماعيل كاني وهو أحد أقرباء الشاعر في مقدمته للديوان: ((ومن المظاهر الواضحة في طبيعة حافظ أيضاً أنها طبيعة قلقة لا تستقر على حال، كما أنها طبيعة جادة في تناوله الشعر وتخير الأبواب الجادة منه في بساطة نفس، أدت إلى بساطة في الأسلوب وبساطة في العرض وبساطة في التناول بغير عمق ولا تعسير))[10]. وشهادة قريب الشاعر وهو المحب له، المعجب به، المدافع عنه، الذي يبالغ في الثناء عليه، شهادة قوية تدل تمام الدلالة على شخصية حافظ، وأثر هذه الشخصية على شعر صاحبها، وعلى حكمته الساذجة القريبة السطحية. حافظ الشاعر هو حافظ الإنسان، سماحة وبساطة ووضوحاً، وبعداً عن التكلف والتعمق، وهو ما جعل الحكمة عنده نادرة، وهي مع ندرتها قريبة سهلة، تفهم بيسر ولكنها لا تنتزع الإعجاب.

     وحين أخذ الدكتور أحمد هيكل يعدد الآثار السلبية لشعر المناسبات والمحافل – وحافظ واحد من أبرز فرسان هذا الميدان – ذكر منها غياب الأفكار الدقيقة، والتجارب النفسية العميقة، واتضاح شخصية الشاعر ولون نظرته إلى الحياة والكون، يقول:((وقد جرت هذه الظاهرة السيئة كذلك – ظاهرة المناسبات والمحافل – إلى عدة ظواهر سيئة أخرى تفرعت عنها أيضاً، من أبرزها إهمال جوانب فنية كثيرة تأتي وراء الصياغة وأسر الأسلوب وروعة الموسيقى، ومن أهم هذه الجوانب جانب الأفكار الدقيقة والتجارب النفسية العميقة واتضاح شخصية الشاعر وطبيعته، ولون نظرته إلى الحياة والكون، ورسمه للطبيعة والناس وإضافاته الخلاقة إلى كل ما يتحدث عنه))[11]. وقد أصاب هذا العيب مراثي حافظ إصابة كبيرة في جانب حكمته التي هي أهم مظان هذا المطلب العزيز، لذلك كانت قليلة فقيرة ساذجة.

--------------------------
[1] حافظ وشوقي، ص 176.
[2] الديوان، ص 447.
[3] الديوان ص 463.
[4] الديوان ص 478.
[5] الديوان ص 532.
[6] الديوان، ص 560.
[7] الديوان، ص 573.
[8] الديوان، ص 576.
[9] الديوان، ص 580.
[10] مقدمة الديوان، ص 32.
[11] تطور الأدب الحديث في مصر، ص 145.

الأكثر مشاهدة