يــا أهل أندلس حثــــوا مطيــــكم فما المقــــام بها إلا من الغـلـــــط
الثــوب ينســل من أطرافه وأرى ثوب الجزيرة منسولاً من الوسط
ونحــن بين عدو لا يفــــــــارقنــا كيف الحياة مع الحيّـات في سفط
هذا، وتروى هذه الأبيات منسوبة إلى المؤرخ الأندلسي ابن حيان مع اختلاف يسير.
* * *
ويبدو لي أني لو توسعت في الحديث عن ذكرياتي في إسبانيا، وتداعياتها وامتداداتها وما كتبته عنها وفيها، وما بقي في ذاكرتي مما قرأته عنها لطال الحديث وطال، وربما تحول إلى كتاب كامل.
ولا غرابة، ففي مسجد قرطبة اعتراني شعور عميق بالحزن، المقترن بالإعجاب والإكبار فوجدت نفسي أتلو، وأبكي، ثم وجدت فمي يصدح بالأذان وأنا قرب المحراب البديع، الذي لا يزال كما تركه المسلمون بالأمس، ثم أتخطى السلسلة التي تحجزه عن الزوار وأصلي ركعتين فيه، وقد دونت ذلك في مقال طريف سميته "المسجد المحزون" ويومها غلبني الوجد، فقلت: سوف أؤذن في منارة المسجد كما أذنت في محرابه، فصعدت المنارة التي صارت ملأى بالنواقيس، فأذنت لإبهاج المنارة وإغاظة النواقيس.
وفي أطراف قرطبة زرت ضاحية الزهراء التي بناها الصقر القرشي، والتي كانت يومها من أعاجيب البناء والهندسة في الدنيا كلها، وتجولت في أطلالها، وخيّل إلي وأنا بين هذه الأطلال أني أسمع ابن زيدون يقول لولادة:
إني ذكــرتك بالزهــــراء مشتـــاقـا
والأفق طلق ووجه الأرض قد راقا
ولما كان الشجا يبعث الشجا كما يقول الشاعر العربي القديم، فقد وجدت نفسي في الزهراء أسترجع ما بقي في ذاكرتي من قصيدة شوقي الرائعة، التي قالها في دمشق إبان زيارته لها، ومطلعها:
قم ناج جلق وانشد رسم من بانوا
مشت على الرسم أحداث وأزمان
ووجدت ذاكرتي وأحزاني تتوقف بإلحاح، أمام بيته الرائع الحزين فيها، وهو قوله الذي يشير فيه إلى أن مجد بني أمية في دمشق ذكّره بمجدهم الآخر في الأندلس:
بـالأمس قمت على الزهراء أندبهم واليوم دمعي على الفيحاء هتـــــان
أما إشبيلية فقد استرجعت فيها كل ما قرأته عن فارسها المعتمد بن عباد، وتذكرت أشعاره، وبطره، وترفه، وشجاعته يوم قاتل مع يوسف بن تاشفين في معركة "الزلاقة" في بسالة نادرة، ثم أسره ونفيه إلى أغمات في المغرب، وحين وقفت على نهر "الوادي الكبير" الذي يخترق إشبيلية، تذكرت كيف أسعفت بديهة فتاة كانت تغسل الملابس في النهر، بنصف بيت من الشعر، انتقلت فيه نقلة عجيبة، صارت به زوجة للمعتمد وملكة على إشبيلية، ذلك أن المعتمد كان مع صديقه وشاعره ابن عمار، على الشاطئ، فهبت الريح عكس مجرى النهر، فارتجل المعتمد هذا الشطر: "صنع الريح من الماء زرد" وطلب من صديقه أن يأتي بالشطر الثاني فلم يوفق، فقالت الفتاة: "أي درع لقتال لو جمد" فنالت بنصف البيت هذا ما نالت، وشاركت المعتمد أمجاده أولاً، ونهايته الحزينة ثانياً، ودفنت معه ومع ابنته في أغمات بالمغرب، ولا تزال قبورهم معروفة يزورها الناسُ من كل مكان، وحين زرتها مررت بغرفة ملحقة بالمدفن، فيها سجل طويل مليء بما يدونه الزوار، وهو كثير جداً، منوع جداً، يدل على حب العرب للتاريخ، وحزنهم على النهاية الحزينة للمعتمد وزوجته الرميكية.
وقد تذكرت - فيما تذكرت - أن ملوك الطوائف حين استشعروا الخطر المحدق بهم، عقب سقوط طليطلة في يد ألفونسو السادس عام 478هـ - 1085م، اتفقوا على استدعاء البطل المرابطي الشجاع الزاهد يوسف بن تاشفين من المغرب لنجدتهم، ولكنّ أحدهم تخوف من ابن تاشفين لأنه قد يعزلهم بسبب اختلافهم وتفريطهم، ويضم إماراتهم إلى دولته المرابطية، فقال له المعتمد "لأن أكون راعي جمال عند ابن تاشفين خير من أن أكون راعي خنازير عند ألفونسو" وهي كلمة بديعة ملأى بالرجولة والإيمان والنبل، وإيثار العام على الخاص، والآجل على العاجل.
وفي إشبيلية التي لم يبق من مسجدها الشهير شيء، إلا المنارة الموحدية التي تسمى في إسبانيا اليوم >الخيرالدا< وهي شاهقة جداً وفي حالة ممتازة جداً، تذكرت ما رواه التاريخ أن المؤذن ربما كان يصعد إليها على حصان، فقد جعل المهندس الذي بناها طريق الصعود يعتمد على الميل الخفيف لا على الدرج المعتاد في المآذن، وقد صعدت المنارة، ورأيت من فوقها مدينة إشبيلية باتساعها وجمالها وحدائقها، ووجدت أن عليّ أن أسمع المنارة الأذان فأذنت.
وفي مدينة "سالم" الواقعة على الطريق الذي يربط بين مدريد وسرقسطة، وقفت أمام قوس حجري، في منطقة متهدمة مهجورة، يغلب عليها الخراب، يروى أنها كانت المدفن الذي حظي بجسد المنصور بن أبي عامر، وهو من أهم الشخصيات الأندلسية الفاعلة الجبارة، والمثيرة للجدل بين قادح ومادح، وهو كما يقول عنه الدكتور حسين مؤنس: "ثاني اثنين دانت لهما هذه الجزيرة من أول التاريخ حتى مطلع العصر الحديث أولهما عبد الرحمن الناصر".
وإذا كان المرء يغلب عليه الجلال والوقار والحزن في مسجد قرطبة، فإنه في حمراء غرناطة يغلب عليه الأنس والفرح والطلاقة، خاصة في حدائقها الرائعة الأنيقة التي تعرف باسم "جنة العريف"، ومن أطرف ذكرياتي فيها أن الصلاة أدركتني خلال تجوالي فيها، فانتحيت ركناً بعيداً فصليت، ورآني أطفال كانوا في رحلة طلابية مدرسية، فأخذوا ينظرون إلي ويعجبون ويضحكون. وكأنهم يتساءلون: "ماذا يفعل هذا الكهل العربي الأسمر" وقد سجلت ذلك في مقال طريف سميته "صلاة في الحمراء" وهناك صلاة أخرى لا يزال أثرها فيّ حياً حتى الآن، ذلك أني رأيت مجموعة من الشبان المغاربة، يتجولون في حدائق جنة العريف، بملابسهم المغربية الجميلة المميزة، أدركتهم الصلاة، فأذّن أحدهم، ثم أدوا الصلاة جماعة في مشهد بديع مؤثر، كتبت عنه قصيدة مطولة سميتها "أشواق أندلسية"، وفي جبال "البشرات" تذكرت الثورة التي قام بها المسلمون في شعابها، بعد أن اضطهدهم الإسبان وتنكروا لعهود الصلح ومواثيق التسليم، وفي جبل طارق تذكرت القائد العبقري طارق بن زياد الذي يحمل الجبل اسمه، وتذكرت خطبته الشهيرة التي نحفظها جميعاً، وخيّل إلي أن هذا الجبل يربض على مدخل إسبانيا الجنوبي وكأنه أسد يحرسها، وفي متحف مدريد الحربي رأيت وثيقة التسليم التي وقعها أبو عبد الله الصغير، وسيفاً هنا، وعباءة هناك، ويماثل ذلك أو يقاربه ما غمر نفسي من أفراح وأحزان في سرقسطة، وطليطلة، وبلنسية، ومرسية، وشاطبة، وطريف، وبنبلونة، وسنتياغو، وسهيل، وجيان.
* * *
هل يستحق المسلمون الأندلسيون اللوم؟ نعم إنهم يستحقون لأنهم وقعوا، أو وقع كثير منهم في الترف، والترف حمض أكَّال يأكل الرجولة والجدية والفضائل، ولأنهم وقعوا في الخلاف، والخلاف بوابة واسعة للشرور بل والفناء.
لكن هذا اللوم ينبغي ألا يحملنا على نسيان عدة حقائق مهمة جداً:
الأولى: أن المسلمين في الأندلس قاتلوا طويلاً، وضحوا كثيراً، وجدوا وصابروا، ويكفيهم شرفاً أن الأندلس التي فتحوها في سنتين فقط لم يستطع الإسبان أن يخرجوهم منها إلا في ثمانية قرون، وهي مفارقة مهمة ينبغي للدارس المنصف أن يشهد بها ويشيد بدلالتها المشرفة.
الثانية: أنّ أوربا كلها - بدرجات متفاوتة - وقفت خلف الإسبان في حروبهم ضد المسلمين، بالمال والعتاد والمقاتلين، ذلك أنها رأت في الأندلس المسلمة جسماً غريباً نشازاً مختلفاً عن بقية ديارها المسيحية، لابد أن يزال، وقد كان. لقد كانت حرب الإسبان ومن ورائهم أوربا ضد المسلمين حرباً صليبية بكل معنى الكلمة، بدأت قبل الحرب الصليبية التي غزت مشرقنا العربي واستمرت بعدها، بل كانت أشرس وأفتك.
الثالثة: أن المسلمين عمروا إسبانيا، ونقلوها نقلة واسعة إلى الأحسن في كل شيء وأنهم جعلوا من عاصمتهم "قرطبة" أيام المجد الأموي أعظم مدينة في أوربا على الإطلاق في السياسة، والعسكرية، والهندسة، والإدارة، والغنى، والعلم، ويشهد التاريخ أن اثنين من بابوات روما درسا في قرطبة، وأن أحد ملوك بريطانيا أرسل عدداً من بناته الأميرات ليتعلمن فيها، وإذن فإن المسلمين الأندلسيين لهم وعليهم، ولعل الذي لهم أكبر بكثير من الذي عليهم. وفي إسبانيا اليوم نفر من العلماء والأدباء المنصفين يشيدون بحضارة المسلمين في الأندلس وينصفونها غاية الإنصاف، ويعدون طرد المسلمين المورسكيين ظلماً كبيراً وجناية فادحة، ويعدون محاكم التفتيش وصمة عار، ووحشية بالغة.
الرابعة: أن غرناطة التي كانت آخر معاقل الأندلس سقوطاً، سقطت والدولة العثمانية في أوج قوتها، وكانت أوربا تخاف منها خوفاً شديداً، ولابد أن مسلمي غرناطة استنجدوا بها، وكانت الدولة العثمانية مؤهلة جداً للنجدة المأمولة، لأنها في ذروة القوة، ولأن خلفاء بني عثمان يومذاك كانوا يجمعون بين الشجاعة وبين الولاء التام للإسلام، إن هذا الأمر لغز غير مفهوم من ألغاز التاريخ ليت أحد الدارسين يجلّيه.
الخامسة: بذل المسلمون الأندلسيون الذين ظلوا في إسبانيا، بعد سقوط آخر معاقلهم بيد الإسبان وهي غرناطة جهوداً كبيرة للاحتفاظ بهويتهم الدينية، واللغوية، والاجتماعية، والثقافية، وقد توهموا في البداية أن معاهدة التسليم التي وقعها عنهم أبو عبد الله الصغير، وعن الإسبان الملكان الكاثوليكيان فرديناند وإيزابيلا، سوف تمكنهم من الاحتفاظ بهذه الهوية، وكانت جديرة أن تحقق لهم ذلك لو طبقت لأنها في الجملة معاهدة جيدة ومنصفة، لكن الملكين الظافرين، ومن ورائهما أحبار أشداء متحمسون، نقضوا هذه المعاهدة جملة وتفصيلاً، وفعلوا بالمسلمين الأهوال، وهو ما دفعهم إلى مزيد من التمسك بهويتهم، بل دفعهم إلى الثورة في جبال البشرات، ولكن دون جدوى، فقد هزموا هزيمة منكرة، فلم يجدوا بداً من الاستسلام، لكن الحكومة الإسبانية لم تأمن حتى لمن تنصر منهم حقيقة أو خوفاً، فلجأت إلى طردهم من إسبانيا طرداً جماعياً نهائياً، ولم تبق منهم إلا أعداد قليلة جداً في أمكنة متفرقة ذابت مع الزمن.
ومن أطرف ما فعله المسلمون في تلك الفترة العصيبة أنهم ألفوا كتباً باللغة العربية، لكنها تكتب بالحروف اللاتينية، سموها "الألخميادو" أي "الأعجمية" في محاولة لإخفاء ما يكتبون عن عيون القساوسة ورقابة الأمن، وفي هذه الكتب أحكام شرعية، وآداب أخلاقية، ووصايا ونصائح، يراد منها تذكير الناس عامة والناشئة خاصة بدينهم ليتمسكوا به سراً ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
* * *
لقد كان هذا التطواف الذي استطعت أن أسرد بعضه، مزاجاً جميلاً متناغماً من الفرح والحزن، والأدب والتاريخ، والحقيقة والخيال، والأحلام والآمال، ينتظمه إطار أخاذ سميته ذات مرة "العشق الأندلسي".
وكان يواكب هذا العشق الذي يسكنني، فرح غامر يذكيه فيزداد، سببه أن لي معرفة بنخبة من العرب الذين هاجروا إلى إسبانيا واستوطنوها فكانوا لي المضيف والصديق والدليل، ولا أزال أتذكر أحدهم وهو يقول لي: لقد أمللتنا بكثرة أسئلتك عن المواقع ورغبتك أن نأخذك إليها، وأتذكر ثانياً وهو يقول لي: سوف أسرق منك هذين الكتابين اللذين تحملهما دائماً حتى تكف عن السؤال والتجوال، وأتذكر ثالثاً وهو يقول لي: إنك الآن قد رأيت مما يشغل أمثالنا أكثر بكثير مما رأيناه نحن المهاجرين المستوطنين.
وثمة فرح آخر كان يغمرني، وهو فرح أنقى وأصفى وأبقى، إنه فرحي بالتعرف إلى البدايات الأولى لانتشار الإسلام مجدداً في إسبانيا، حيث كنت ألقى عدداً من المهتدين الجدد في مسجد أو بيت أو رحلة أو مخيم، ذلك أن إسبانيا أصدرت قانون حرية الأديان، وبموجبه صار من حق الإسباني وللمرة الأولى منذ سقوط غرناطة أن يعتنق غير الكاثوليكية. وفرحة المسلم حين يلقى مهتدياً جديداً ويحاوره ويعاونه فرحة ذات أفق روحي ونفسي وفكري بديع.
* * *
ولأولادي الذين كانوا صغاراً يومذاك، والذين رافقوني في معظم هذا التطواف الجميل، ذكريات حلوة لما فيها من طفولة وبراءة وعفوية، كانت لكل منهم مهمة حين نمتطي السيارة، أحدهم يتأكد أن عددنا كامل، والثاني يتأكد أن الأبواب مقفلة، والثالث يتأكد أن معنا زادنا ومتاعنا، والرابع يذكرنا بأن نبدأ رحلتنا بدعاء السفر طلباً لحفظ الله ورعايته.
وكانت أمامة لأنها الأكبر بينهم - ترى لنفسها موقعاً قيادياً، وكانت تجادلني كثيراً حتى ترضى عن مكان المبيت، نظافة وجمالاً ومستوى، وكنت أداريها أكثر من سواها، وقد أخبرتني فيما بعد، أنها أرادت أن تسخر من زميلة لها في المدرسة، كانت تدعي أنها زارت قصر الحمراء، وأعجبت ببهو السباع خاصة، فصارت تحدثها عن جمال هذه السباع, ودقة صناعتها، وقدرة النحَّات الذي وضع فوق كل سبعٍ تمثالاً لخروف، وفوق كل خروف تمثالاً لدجاجة، وفوق كل دجاجة تمثالاً لطائرٍ، والزميلة المسكينة تؤكد أنها رأت ذلك كله وأعجبت به، وحين انكشفت الحيلة، شكتها الزميلة إلى مديرة المدرسة التي أنهت الموضوع بهدوء وهي تكتم ضحكتها.
أما معاذ فقد خطر له أن نسترد إسبانيا لأنها بهرته جداً، لكثرة ما تجول فيها، وكثرة ما حدثته عنها، فلما سألته عن كيفية الاسترداد كان جوابه جاهزاً، وهو: الغربيون ومنهم الإسبان مقلّون في الإنجاب، خلافاً لنا نحن المسلمين الذين نحب الإكثار منه، ليقيننا أن الأبناء قوة، وأن الله تعالى هو الرازق، وأن الأبناء الصالحين مما ينفع الإنسان في حياته وبعد موته، لذلك نهاجر إلى إسبانيا بالتدريج، ونتزوج مبكرين، وننجب الكثيرين، ومع الزمان نزداد شيئاً فشيئاً حتى نصبح الأكثرية، وتعود إسبانيا لنا.
أما أحمد فقد أعجبته منطقة جبلية جميلة في شمال إسبانيا توقفنا فيها بعض الوقت، فلما دعوته لركوب السيارة مع إخوته حتى نكمل التطواف أبى، حاولت إقناعه فازداد عناداً، فأجبرته على الركوب وهو يبكي، وقد ظللت دهراً طويلاً أداعبه وأقول له: لو ظللت هناك لصرت إسبانياً، وربما انضممت إلى عصابات الباسك المتمردة على الدولة لأنها تريد الانفصال عنها.
أما محمد فكان يحرص على أن يأخذ معه من الرياض، طاقية فيها ثقوب، مما يلبسه الناس على رؤوسهم، حتى إذا تجول في حدائق الحمراء في غرناطة، وقف عند بركة >البرطل< الملأى بالسمك الملون، وأدخل الطاقية في الماء تحت بعض الأسماك ثم رفعها بسرعة ليتسرب الماء، وتبقى الأسماك، ولكنه لم يظفر من ذلك بشيء.
* * *
النفس تعشق الحسن في النساء وغيرهن، وقد طاب لي أيها القراء الكرام أن أقدم لكم حديثاً عن حسناوات إسبانيات لا أزال أتذكرهن وأشتاق إليهن وأتمنى لو جددت الصلة بهن، وهؤلاء الحسناوات هن - مع الأسف - من الذكريات لا من النساء، فلا تظنوا بي سوءاً، ولا تخبروا بذلك أم معاذ حتى لا تظن أني جهلت بعد أن شبت، وربما كان الحسن في الذكريات، من صور ومعان وأمان ومواقع وعبر وتجارب وخبرات ومعلومات وحوارات وما إلى ذلك، أبقى في النفس وأكثر لذة وإمتاعاً من سواه، خاصة لمثلي ممن يحب الإسلام حباً ملك عليه شغافه، ويحب الأندلس وشعرها وموشحاتها، والطبيعة والترحال، وقراءة التاريخ، حباً عميقاً، وأرجو من القارئ الكريم أن يلتمس لي العذر، وينظر إلى هذه الذكريات الحسناوات على أنها مزيج متسق من الدين والشوق، والأدب والشعر، والتطواف والتاريخ، واستبطان الماضي، واستشراف المستقبل، وليس للنساء الحسان منها نصيب قط.
* * *