السبت، 21 مايو 2022

كتاب عمر أبو ريشة عاشق المجد - تبديل وتعديل

تبديل وتعديل

     كان عمر أبو ريشة يعيد النظر في شعره كثيراً، وربما أسقط قصائد كاملة من شعره فيما نشر من دواوين، وربما عدل تعديلاً كبيراً أو صغيراً في بعض شعره حين يعيد نشره في طبعة تالية. ومرد ذلك أنه كان كثير التجويد في شعره ذلك أنه كان يتأنى فيه ويتعنى، ويبذل جهداً غير عادي لأنه كان شاعر صنعة أكثر منه شاعر طبع. وإذا حاولنا أن نستقصي مفهومه للشعر من خلال المقابلات التي أجريت معه وهي كثيرة سنجده يرفض فكرة الوحي فيه الذي يصفه بأنه: هالة يضفيها بعض الشعراء على أنفسهم، حتى يوهموا به الناس، ونجده يقرر أنه ينظم الشعر دون إيمان بهذا الوحي.

     وكان يرفض تصنيف النقاد للشعراء إلى مدارس، وعنده أنه ليست هناك مدرسة كلاسيكية أو رومنطيقية أو رمزية أو سريالية إلى آخر ما هنالك من مسميات، هناك شعر وشعر فحسب.

     والقصيدة عنده: خلجة أو خطرة أو عاطفة تنتهي عن طريق التداعي إلى التبلور في فكرة لها لونها وجرسها وخيالها. وهذه العناصر الثلاثة اللون والنغم والخيال؛ أشبه بأجنحة ثلاثة تنهض بالفكرة إلى المدى الذي يريده لها، وإذا فقد جناح واحد منها في قصيدة ما، لم تستطع النهوض، وكانت قطعة من النثر أو هي بالنثر أشبه.

     وكان عمر أبو ريشة يكرر كثيراً أنه شاعر قصيدة لا شاعر بيت، وأن القصيدة عنده وحدة لا تتجزأ، وأنه كان يحرص على أن يختمها ببيت كان يسميه بيت المفاجأة أو بيت الاستثارة. وكان يسوق هذا المعنى باعتزاز يقرر معه أنه يختلف بشعره عن كافة المدارس والمذاهب القديمة والحديثة، فالقصيدة في الأدب العربي مفككة يستطيع القارئ أن يعيد ترتيب أبياتها فيحذف منها ويضيف إليها، والشاعر العربي يضع كل المشاعر والتفسيرات والأحاسيس في قصيدته بحيث لا يترك للقارئ مجالاً لتفاعله مع القصيدة، أما هو فيهتم بأن يدع للقارئ مجالاً للتفاعل مع شعره، ويهتم بالفكرة فيأتي بها دائماً في آخر القصيدة بحيث تفاجئ القارئ، ويؤكد أن ذروة القصيدة عنده هي آخر بيت فيها، ويؤكد أيضاً ــ وفي تأكيده هذا شطط كبير ــ أن له مذهباً خاصاً في الشعر يختلف عن شعراء الشرق والغرب.

     وحين قام الأستاذ سيمون عواد بإجراء حوار معه لاحظ أنه يعنى ببيت المفاجأة، فأراد أن يعرف أذلك صدفة أم أمر مقصود؟ فسأله: لاحظنا من كل ما أوردت من قصائد أن البيت الأخير هو بيت مفاجأة يخلق فكرة لم نتوقعها؛ فهل كان ذلك صدفة أم عن سابق تخطيط؟ فأجاب عمر أبو ريشة: «هذا أسلوبي في الكتابة، القصيدة عندي وحدة متكاملة تحمل فكرة جديدة تعودت أن أختمها ببيت الاستثارة أو كما تقول بيت المفاجأة»[1]، وكان هذان المعنيان «وحدة القصيدة» و«بيت المفاجأة» يتكرران كثيراً في المقابلات التي تجرى معه.

     عمر أبو ريشة إذن شاعر يرفض فكرة الوحي والإلهام، ويرفض تصنيف الشعراء إلى مدارس، ويرى أن الشعر نظم ومعاناة، ويحدد ثلاثة عناصر للشعر يحرص على أن يوفرها فيما ينظم، ويصر على أن شعره وحدة لا تتجزأ، ويحرص على ما سماه بيت المفاجأة، ويهتم بالفكرة التي يريد توصيلها للمتلقي، ويوافق سيمون عواد في أنه يفعل ما يفعل عن سابق وعي وتخطيط. ومعنى ذلك أنه كان ينظر إلى الشعر على أنه صنعة تحتاج الصبر والمعاناة، بل تحتاج إلى المعاودة تعديلاً وتبديلاً وتهذيباً وحذفاً وإضافة، مثله في ذلك مثل ذي الرمة الذي يلاحظ كل من ينظر في ديوانه أنه «ليس من طراز أولئك الشعراء الذين كان القدماء يقولون عنهم: إنهم يغرفون من بحر. ولكنه من طراز أولئك الذين كانوا ينحتون من صخر، أو بعبارة أخرى من مدرسة الصنعة التي كانت تنظر إلى الشعر على أنه صناعة لا بد من أن يوفر لها صاحبها كل جهده، ويتعاهدها بالتنقيح والتهذيب والتقويم والتثقيف»[2]. والنظر في شعر عمر أبو ريشة ما بين طبعة للديوان وأخرى يسعفنا في تقديم الشواهد على أنه كان كثير التبديل والتعديل والمعاودة.

     في قصيدته الشهيرة «جان دارك» صور عمر أبو ريشة البطلة الفرنسية بين رغباتها الجنسية المكبوتة وبين تقواها الدينية السامية، فكان ختام القصيدة في المرة الأولى:

فبـدت تصلــــي للصليـــ     ـب؛ صلاة فائزة طروبة
فإذا به ما زال يـــــــــــر     مقها بنظـــرات رهيبـــة

     وهذا الختام يقدم لنا البطلة الفرنسية وبقايا رغباتها الجنسية لا تزال فيها، مما يجعل الصليب يؤنبها في نظرات رهيبة لأنه كان يريد منها أن تميت فيها كل أهوائها من أجل ما آمنت به ودفعت حياتها ثمناً له.

     لكن هذا الختام يصبح في المرة الثانية:

فبدت تصلي للصليــــــــ     ـب؛ صلاة فائزة طروبة
فــــإذا به يحنـــو عليـــــ     ــها بابتسامتـــه الحبيبــة

     والختام المعدل في النشرة الثانية أفضل في حق البطلة الفرنسية التي جمعت إلى الوطنية والبطولة التدين الذي يصل إلى القداسة، وهو تدين يجعلها تبرأ من شوائب الرغبات الجنسية فتلاقي من الصليب الحنان والابتسام لا التأنيب والزجر، لذلك كان عمر أبو ريشة موفقاً في هذا التعديل.

     وفي أوبريت «عذاب» يجري عمر أبو ريشة تغييراً في بعض كلمات البيت الذي تخاطب فيه سعاد زوجها:

تقبلني؟ إن صدر الفراش     تمزق من أمسنـا الممتــع

     ليصبح:

تقبلني؟ إن خــد الوساد     تململ في ليلنــا الممتع

     والتغيير يشي بذوق عمر أبو ريشة ودقة تأمله للكلمات، فخد الوساد أقرب إلى طبيعة الصورة من صدر الفراش، والتململ أرفق من التمزق، وأدل على الموقف، والليل يوحي بالمتعة، أما الأمس فيوحي بالانقضاء.

     وربما يشعر عمر أبو ريشة بأن بيتاً واحداً يغني عن اثنين، فيقوم بدمجهما في بيت، نجد ذلك في قصيدة «خداع» حيث يمر بنا البيتان التاليان:

وتهت ببرد الشبـــاب القشيـب     وفتنة نظراتــــك الساحـــــرة
فلم تسمعي زفرتي في الهـوى     ولم تمسحي دمعـتي الحائــرة

     وهذان البيتان يندمجان معاً في بيت واحد:

وتهت علي فلم تسمـــــــــعي     صدى زفرة في الدجى ثائرة

     وربما نظر إلى كلمة عنده فوجدها حشواً فحذفها، وهو ما نجده في قوله في القصيدة السابقة:

سمعت بأذني صوت الضمير     يردد يا وغــد لا تعتـــــــــــد

     إن السماع يكون بالأذن بداهة، لذلك لا داعي لذكرها، وهو ما فعله الشاعر فجعل البيت هكذا:

سمعت نداء الضمير الجريح     يتمتم يا وغــــــــــــد لا تعتد

     وأحياناً يحذف بيتاً لم يرق له، ففي قصيدته «يا عيد» نجد هذا البيت في طبعة، ثم لا نجده في طبعة تالية:

فأطمعت كل باغ فــي كرامتهـا     لا يلطم الليث إلا وهـو مصفود

     ومثل ذلك يقال عن هذا البيت الذي نجده في قصيدة «الصليب الأحمر» يظهر في طبعة، ويختفي في أخرى:

في كل صــوب أرعن متنمر     يسعى إليه أرعن متنمــــــــر

     وكذلك قوله في قصيدة «عاصفة»:

ارفــعي الرأس عن مواطئ نعـلي
               وانحري الخوف فوق مذبح يأسك

     وهو بيت يصور فيه توسل المرأة بطريقة فيها استجداء وذل وهوان، والحذف هنا مشكور، إذ إن في البيت قسوة هائلة لا تتفق مع طبيعة الشاعر الدبلوماسي الرقيق الذي طالما أكد أنه أحب المرأة كثيراً، واختلف معها كثيراً، ولكنه لم يسئ لها في كل الأحوال، وأنه لم يهن جمالها قط حتى عند اختلافه معها.

     وفي قصيدة «هذه أمتي»، وهي قصيدة وطنية هاجم فيها الشاعر فرنسا يوم كانت تستعمر سورية وغيرها من البلدان العربية، نجد له خمسة أبيات يحذفها فيما بعد:

رحــــــم الله هتلراً يـــا فرنســـــــا
               كنت أشهى إمائــــــــــه وحســانـه
أو لم تهتـــكي على قدميـــــــــــــه
               ما هفت كل غــــــــادة لصيانـــــه
كم تـلويت في لياليــــه سكــــــرى
               بين حمى شفاهــــــه ودنانــــــــــه
فدعي الزهــــــــــو إنمـــا الزهــو
               للجـــانيــه من حد سيفه وسنـــانـه
واغضضي الطرف أنت أم لشعب
               ليس ديغولُــــــــــه سوى بِيتانِــــهْ

     ديغول وبيتان من قادة فرنسا العسكريين يوم اجتاحها الألمان في الحرب العالمية الثانية، والأول رمز لمقاومة المحتل، والثاني رمز للاستسلام، والشاعر يسوي بين الاثنين ازدراء لفرنسا كلها.

     والأبيات سخرية مرة بفرنسا، وشماتة بهزيمتها المنكرة على يد هتلر، ولعل الشاعر حذفها حين وجد بلده وسواه من بلدان العرب قد حصل على الاستقلال من فرنسا، وظن أن عهداً جديداً من التعاون بين أعداء الأمس قد جاء مما يستدعي طي صفحة الأحقاد. وليته لم يفعل!.. فمثل هذه الأبيات ذات قيمة فنية جميلة، وذات قيمة سياسية تاريخية، ثم هي لا تقدم ولا تؤخر فيما كان يؤمله الشاعر من علاقات جديدة.

     وقد حذف الشاعر فيما حذف تسعة أبيات من أوبريت «عذاب»، وثمانية أبيات من قصيدة «خداع»، وخمسة أبيات من قصيدة «جان دارك».

     كما أنه زاد في أوبريت «عذاب» خمسة عشر بيتاً، وزاد في «كاجوراو» أحد عشر بيتاً، وزاد في قصيدة «محمد» ستة أبيات، وزاد أربعة أبيات في قصيـدة «شاعر وشاعر».

     وهكذا كان عمر أبو ريشة يغير في شعره حذفاً وإضافة وتبديلاً، لدواع فنية أو سياسية أو ذوقية، يحدوه في ذلك أنه شاعر ذو أناة ومعاودة، ينظر إلى العمل الفني على أنه جهد متكرر لا بد من تحسينه ولو بعد حين ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.

     وممن شهد لعمر أبو ريشة بذلك، وأشاد به، الدكتور عبد القدوس أبو صالح، فقد قرر أن شاعريته تطورت تطوراً سريعاً مذهلاً، وأعاد ذلك التطور إلى حرص الشاعر على التنقيح والتبديل والحذف الذي ربما يمتد إلى إلغاء مقاطع كاملة[3].

-----------------
[1] المجلة العربية، الرياض، جمادى الثانية 1398هـ= مايو 1078م.
[2] يوسف خليف، ذو الرمة شاعر الحب والصحراء، القاهرة، مكتبة غريب، ص274.
[3] مجلة أهلاً وسهلاً، جدة، ديسمبر 2000م.

كتاب عمر أبو ريشة عاشق المجد - الرمز الشعري

الرمز الشعري

     هيأت مجموعة الظروف المواتية لعمر أبو ريشة أن يجيد اللغة الإنجليزية وأن يقرأ فيها كثيراً منذ أن كان طالباً في الجامعة الأمريكية في بيروت، حيث تلقى هذه اللغة عناية خاصة، ومنذ سافر إلى مانشستر لمتابعة دراسته، ثم جاء عمله بعد ذلك سفيراً في العالم لمدة عشرين عاماً، كانت اللغة الإنجليزية إحدى وسائله المهمة في الثقافة والاطلاع والاتصال، خاصة حين كان سفيراً في الولايات المتحدة الأمريكية والهند، ولا ريب أن هذه اللغة قد وصلته بمذاهب فنية غربية شتى، منها المذهب الرمزي الذي يجد الدارس له بعض البصمات في شعره على قلة واستحياء.

     لقد اطلع على شعر «بودلير» و«إدغار ألان بو» وأعجب بهما[1]، وهما شاعران رمزيان، وحين عاد من بريطانيا إلى سورية عام 1932م ليستقر فيها سبعة عشر عاماً قبل أن يبدأ رحلة اغترابه الطويلـــة مع العمل الدبلوماسي بدأت شهرته تذيع، وبدأ يشارك في المهرجانات والمحافل، وبدأ يتصل بالرمزية التي كانت بعض الأصوات المتحمسة تدعو لها مثل بشر فارس وأحمد زكي أبو شادي في مصر، وسعيد عقل وأديب مظهر وصلاح لبكي في لبنان، فكان طبيعياً أن نجد لهذا المذهب صداه في شعره.
❊❊❊

     والدارس لشعر عمر أبو ريشة يجد الصحراء رمزاً غنياً عنده، فهي في حسه وفي شعره مهد لمجموعة المكارم الرائعة التي يعتز بها المسلم والعربي، فهي مهد الدين العظيم الذي تنزل في جزيرة العرب، وهي صحراء في معظمها، وهي مهد الفتوح التي خرجت من هذه الجزيرة تنشر رايات الدين الجديد، وهي مهد الإباء والكرم والشجاعة والعزة التي اتصف بها العربي.

     لذلك احتلت الصحراء مساحة طيبة في شعره، لأنها رمز للدين والبطولة والكرم والمروءة والفتوح، ورمز للأصالة التي تأبى التبعية، ورمز للتراث الذي يأبى الذوبان، ورمز للأمل والفجر والمجد والتجديد، ورمز وطني يمثل النزوع إلى الحرية والتمرد على الطغاة والمستعمرين، ولأنها أيضاً منبت أسرته. لقد قال عمر أبو ريشة وكان صادقاً فيما قال: «إن الصحراء ارتبطت بذهني ارتباطاً وثيقاً، فوالدي من العرب الأقحاح، وقد رأيت هذه الأرض الجرداء خيراً من كل أرض في الدنيا»[2]. وإذن فإن محبة الشاعر للصحراء محبة متعددة المحاور يتداخل فيها الدين والأصالة والبطولة والحرية والأرومة واللغة والتقاليد.

     في ديوان عمر أبو ريشة الأول الصادر في حلب عام 1936م باسم «شعر» نجد له قصيدة حذفها من دواوينه التالية يقول فيها:

أوقفي الركب يا رمـــــال البيـــــــــد
               إنه تاه فـــــي مـــــــــداك البعيـــــــد
ظمئت نوقه وجف فـــــــــــــم الحــا
               دي وغصـــــــت لهاتــــــــه بالنشيـد
والأشـــدَّاء يلهثـــــون كخيـــــــل الـ
               ـغــــزو، عادت مــن يومها المشهود
عصفت في جفونهم ريحــــــــــك الـ
               ـهوجاء والشمس عربدت في الخدود
والصبايا من الهـــــــــوادج ينظـــــرْ
               ن؛ إلى الأفــــــق نظـــــرة المــفؤود
ليس يبصرن منك غـــــــير هضـاب
               في هضــــــاب مبعــثرات الحــــدود

     ونحن في هذه الأبيات نجد أنفسنا في جو الصحراء من ظمأ ونوق وحاد وقافلة ورمال وخيل، والشاعر يخاطب هذه الصحراء ويناجيها في نداء محزون يشي بقوة صلته بها لأنها رمز لمفاخر كثيرة.

     وحين ينظر عمر أبو ريشة إلى بلاده فيرى ما فيها من خير عميم صارت به كالجنة، يتبادر إلى ذهنه أن نعيمها قد سبب لأهليها الترف الذي تضيع معه الرجولة والبطولة، لذلك يدعو الله عز وجل أن يردها قفراء مجدبة ورمالاً محرقة، لعلها بذلك تنجب البطولة والأبطال كما هو العهد بها من قديم، فيرفع إلى ربه تعالى «صلاة» حارة يقول فيها:

رب طوقـــــت مغانيــــــ     ـنا؛ جمــــــــــالاً وجـلالا
ونثرت الخـــــــــير فيهنْ     نَ، يمينـــــــــاً وشمـــــالا
وتجليـــــــت عليهــــــــنْ     نَ، صليبــــاً وهــــــــلالا
رب هــــــــذي جنـة الدنـ     ـيـــــا، عبيراً وظــــــلالا
كيف نمشي فـي رباها الـ     ـخضر تيهاً واختيـــــــالا
وجراح الـــــــذل نخفــيــ     ـهـــا، عن العــز احتيـالا
ردهـــــا قفراء إن شئـــــ     ــت، وموِّجها رمــــــــالا
نحن نهواهــــا على الجـدْ     ب، إذا أعطــــــت رجالا

     ويلمس عمر أبو ريشة الأسى الذي يصيب مروءة العربي وخيله وسيفه وخيمته، حين يعبث بدوي مترف، منفقاً على عشيقته مبلغاً كبيراً من المال، مخالفاً دواعي الدين والوطنية والاستقامة، فيقول في قصيدته «هكذا»:

فإذا النخـــــــوة والكبر على     ترف الأيام جــــرح موجــع
هانت الخيل على فرسانهـــا     وانطوت تلك السيوف القطع
والخيام الشم مالـــت وهوت     وعوت فيها الرياح الأربـــع

     والأبيات تصور غضبة مجموعة من العناصر على صنيع المترف الفاجر، وهذه العناصر كلها مرتبطة بالصحراء، فكأن الصحراء لأنها رمز لفضائل كثيرة غضبت غضباً كبيراً إذ وجدت من أحد أبنائها ما يسوؤها. وفي قصيدته الطريفة «في طائرة» يلتقي بإسبانية حسناء من أصول عربية، تعتز بأجدادها العرب، وبالصحراء الزاخرة بالمروءات التي أنجبتهم، فيقول على لسانها:

بوركت صحراؤهم كم زخرت     بالمروءات رياحــــــاً ورمـالا

     بل إن لعمر أبو ريشة قصيدة وطنية دينية جيدة اسمها «يا رمل»، يهاجم فيها المستعمرين الظلمة ونكثهم للمواثيق، ويربط بين الدعوة الإسلامية وبين رمال الصحراء التي ظهرت فيها، ويشيد بهذه الدعوة ويمجد أبطالها وفتوحها وحضارتها، ثم يصور ما أصاب الأمة من ضعف جعل الأعداء يتحكمون بها ويتنكرون لعهودهم معها، وينتهي بإشاعة الأمل في أن الرمل سيعيد إلى الأمة مجداً جديداً كما فعل من قبل. والطريف أن القصيدة تبدأ بمناجاة الرمل:

يا رمل ما تعب الحادي وما سئـما
               ولا شكا في غوايات السراب ظما

     وتنتهي بمناجاته أيضاً:

يا رمل رجع حـــداء في مسامعنـا
               هل حمل الركب بشــراه وما علما
قيثارة الوحي لم تجــرح لها وتـراً
               أيدي الليالي ولــم تحبس لها نغمـا
أمن سنا أحمد حـــر ستطلعـــــــه
               وتطلع المجد في برديه مضطرما
فيرجع الأرض ريا بعـد ما يبست
               ويمتطي الدهر غضاً بعدما هرما

     وقصيدة «محمد» مطولة ذات نفس ملحمي يبدؤها الشاعر بالنجوى التي ترددها الصحراء، وهي تترقب الفجر الجديد، فجر البعثة المحمدية الشريفة:

أي نجوى مخضلــــــة النعمــــــــاء
               رددتها حناجـــــــر الصحـــــــــراء

     وينهيها بمناداة الصحراء ومناجاتها، باعتبارها صانعة المجد الذي لا ينبت إلا في رمالها، لأنها معطاء ولود تقوم بين الحين والآخر عن مفاجآت جديدة في بعث الأمة ونهضتها وتجددها:

يا عروس الصحراء ما نبت المجـ
               ـد، على غــير راحـــة الصحــراء
كـلما أغرقت ليـــــاليـــها في الصـ
               صمت، قامت عـــــن نبـأة زهـراء
وروتها على الوجـــــــود كتابـــــاً
               ذا مضـاء أو صــارماً ذا مضــــاء
فأعيدي مجد العــروبـــــة واسقــي
               من سنــاه محاجـــــر الغــــــــبراء
قد تــرف الحيــــاة بعـــــد ذبــــول
               ويليـن الزمــــــان بعـــــد جفـــــاء

     فالصحراء هنا رمز للتجدد، والقدرة على البعث، ورمز للخصوبة والنماء، والقدرة على استئناف الحياة، وهذا الرمز مرتبط بما صنعته من قبل من أمجاد ومكرمات، لذلك يطالبها الشاعر أن تصنع اليوم ما صنعته بالأمس.

     وحين يناجي عمر أبو ريشة راويات الزمان في مطلع مطولته «خالد» يخبرها بمكانة الصحراء في نفسه، فهو مفتون بها، وهي روضه وجدوله ودنانه، وما ذلك إلا لأنها الموطن الذي عهده الناس صانعاً للمجد ينبته قبل أن ينبت الورد:

راويات الزمان هل شعر الرمـــــــ
               ـــل بنفض الغبــــار عـــن أردانـي
رعشات في أضلعي ماجت الصحـ
               ـراء؛ فيها ومـــــاج فيهـا افـتتـــاني
صــدق الحب إن موطني الأجـــــــ
               ـرد روضي وجـــــدولـي ودنـــاني
ينبت المجد قبل أن ينبـــــت الــــور
               د؛ ويعطي الثمــــار قبــــــل الأوان

     ولما شارك عمر أبو ريشة في حفلة تكريم الأخطل الصغير بقصيدته «حكاية سمار» لم يفته وهو يشيد بوطنية الأخطل الصغير وشعره ضد الطغاة والمستعمرين، أن يربط ذلك بجذور الأخطل العربية، متمثلة في الأجداد الأبطال الفاتحين، الذين سجل لهم التاريخ صحائف مجد وبطولة وشرف، حين أسرجوا للفتوح خيولهم الضامرة وهي من أكرم عطاء الصحراء ورموزهـا:

أولست من نسل الألى نسـلوا العلى
               وكسوا دياجـــير الـــــــورى بمنائر
وتطلعوا صوب الشموس وأسرجوا
               للفتح صهوة كل مهــــــــر ضامــر
ومضوا إلى غاياتهم ثم انثنـــــــــوا
               وعلى خدود النجــــم وشـــم حوافر

     وحين تشرق أنوار الإسلام في جزيرة العرب، يبدأ موكب الهدى مسيرته المباركة، يتقدمها الفتى العربي النبيل، ابن الصحراء، الذي ضاقت صحراؤه بعزيمته فانطلق لآفاق أوسع وهب للفتح وعدته إيمانه ومروءته وحصانه، ففرحت به الدنيا أيما فرح ورفت طرباً وهي تستقبل ابن الصحراء القادم بكل شريف ونبيل وواعد، يقول عمر أبو ريشة في قصيدته «عرس المجد»:

من هنا شــــق الهــدى أكمامـــه     وتهادى موكبــــــاً في موكـــب
وأتى الدنيا فرفـــــــت طربـــــاً     انتشت مــــن عبقــــه المنسكب
وتغنـــــت بالـــمــــروءات التي     عرفتها في فتاهـــــا العـــــربي
أصيد ضاقـــــت بــه صحـراؤه     فأعـــــدتــــه لأفـــــــق أرحـب
هب للفتـــــح فأدمــى تحتـــــــه     حافر المهــر جبـــــين الكوكـب
وأمانيه انتفـــــاض الذل مـــــن     غيهــــب الـذل وذل الغيهـــــب
وانطـــلاق النــور حتى يرتوي     كل جفن بالــثرى مختضــــــب
حلــــم ولــى ولـــــم يجـرح بـه     شرف المسعى ونبــــل المطلب

     ومحبة عمر أبو ريشة للصحراء للدواعي الدينية والوطنية والتاريخية العامة التي سبقت الإشارة إليها يرفدها سبب آخر هو انتساب الشاعر إلى عائلة تعود جذورها إلى قبيلة بدوية كان شديد الاعتزاز بها، كما ترفدها صلته بالشعر العربي القديم والصحراء هي موطنه، من أجل ذلك تكثر في شعره ألفاظ تتصل بالصحراء مثل: الخيام، النخوة، السيوف، الصارم، القضب، الثأر، وهج القنا، صهيل الخيل، الفرسان، الحداء، الجراح، النجيع، الركب، النوق، الذئب، الرماح، الصعدة، حمحمات الخيل، الرمل، الفتح.

     ولعل الشاعر حين قال عن أبي الطيب المتنبي في قصيدته «شاعر وشاعر»:

بدوي لين الحضارة في بُـرْ     دَيْـه؛ نـاجى خشونة البيـداء

     كان يعني نفسه أيضاً، ذلك أنه -وهو الشاعر والدبلوماسي والأنيق والرقيق والغني- ظل كل عمره محباً للصحراء التي سكنت أعماقه، مشدوداً إلى عالمها، معتزاً بانتمائه إليها ديناً وشعراً ولغة ومروءة وأمجاداً وأرومة. ولعل هذا هو ما حدا بالدكتور سامي الدهان إلى أن يؤكد لنا حب الشاعر للصحراء وإيمانه بما تنبت حباً عميقاً يرى بسببه أرضها الجرداء خيراً من كل أرض في الدنيا، ويرد ذلك إلى عروبة الشاعر وحنينه إلى الصحراء رمالاً وأمجاداً[3].

     انظر كيف يقدم لنا البدوي -وهو ابن الصحراء وفارسها- في صورة رائعة نراه فيها بعباءته ومعوله وحصانه ومروءته وسمرته، يحطم الأوثان، ويهب الإسلام ولاءه وعزيمته وينطلق في الدنيا فاتحاً ظافراً، في قصيدته «هذه أمتي»:

يا لذكرى تلفت المجــــد ما بيــــ     ــن يديها إلــــى ربيـع زمانــــــه
يوم هز البدوي معولــــه الـصَّـلـ     ـد، وأهــــوى بـــه على أوثـانــه
والمروءات وهـج جبهتــه السـمـ     ـراء والأمنيــــات فيـض بنانـــه
فتهـاوت علــــى عباءتــــه الـدنْـ     ـيـا ورفـت على صهيـل حصانه
فـإذا الشـــرق للعروبــــة طـــود     تتـشظى النجـــوم فـــوق رعانـه
كل صرح للحق في الأرض بـاق     نحتـــته العليـــاء مـــن صوانــه

     وانظر إليه كيف يتصور المجاهد في هذا المشهد المزدحم بشتى العناصر الصحراوية التي هي عدته في الجهاد ضد الاستعمار والطغيان:

ما أسرج المهر واستل الحسام لها
               إلا وماجــــت شعـاب الجو عقبانا
تهوي على ما تهاوى من جوانبـه
               والخيل تعــثر بالأرسـان قطعانــا

     وحب الشاعر للصحراء لأنها رمز غني دال، يتصل بحبه لكل ما هو عربي وإسلامي، ويتصل بإكباره لهما ديناً وحضارة وفتوحاً وبطولات، لذلك نجده في نكبة فلسطين عام 1948م يبحث في التاريخ عن زعيم يتمنى وجوده زمن النكبة ليدحر العدو ويصنع النصر، فيقفز أمله إلى بطل كالمعتصم، وظفر كعمورية، وصرخة استنجاد مثل «وامعتصماه!»، لكنه لا يلبث أن يعود حزيناً حسيراً إذ يرى زعماء العرب يسمعون صرخات الاستنجاد من البنات المسكينات دون أن يستجيب لهن واحد منهم كما استجاب المعتصم من قبل لصريخ المرأة الهاشمية.

     وقد وفق عمر أبو ريشة منتهى التوفيق في استدعاء الرمز التاريخي، وأحسن توظيفه في مفارقة مريرة ساخرة حين قال في قصيدته «بعد النكبة»:

رب وامعتصمـــاه انطلقـــــت     ملء أفـــــــواه البنــات اليتـــم
لامست أسماعهـــــــــم لكنهــا     لم تلامس نخـــــوة المعتصــم

     الاستنجاد هو الاستنجاد، لكن الاستجابة مختلفة جداً فهي بالأمس حية إيجابية فاعلة بسبب وجود النخوة، وهي اليوم عاجزة واهنة سلبية لغيابها.

     لقد لجأ الشاعر إلى رمز غني «في موقف المعتصم الذي هزته صيحة المرأة العربية الحرة، فجند الجند فكانت عمورية والأمثولة في نجدة لا تبطئ، ولا تبعد عن ضربة تحق الحق وترد الغدر والطغيان، وقد أحس عمر أبو ريشة في قصيدته المعاصرة بإشباع انفعالاته الغاضبة والباحثة عن نجـــدة عندما تذكر وقائـع من الماضي، ولم يكتف بكلمة واحدة، بل جاء بـ"وامعتصماه!"، ثم نخوة المعتصم، فثبت ما يشعر أنه أساس في الموقــف لا ينبغــي أن يغيب عن البال»[4].

     ومن تناول عمر أبو ريشة الطريف في هذا المضمار أن يرمز فيما يشبه الصورة المسرحية للعصور الخوالي الزاهرة بجبل المجد، ولغفلة الأجيال بالسكرة، ولهدي النبوة المعطرة بالأنفاس، وللتاريخ الحضاري بالسفر العجيب الموشَّى[5]، يقول في رثائه للشهيد سعيد العاص:

نام في غيهب الزمان الماحــي     جبل المجــــد والندى والسماح
أسكرته أجيال نعمتــــــه البكــ     ـر، بفيـض الأعراس والأفراح
حين أنفاسه تموج على الكــــو     ن، بعـطر النبـــــــــوة الفـواح
فتمشت عليــــه دهـــم الليالـي     وكسـته من نسجهـــــا بوشــاح
وطوت سفره العجيب الموشى     بأسـاطير عهـــــده الوضــــاح

     وهي رموز فيها طرافة تأتي من جدتها، وفيها أصالة تأتي من توظيف الشاعر الخاص لها ومن تفرده بها، وفيها قرب من الذوق الإسلامي والعربي، مما يجعل تواصلنا معها أكبر، ومرد ذلك أن الاهتمام النفسي للإنسان يجعل رموزاً معينة تؤثر فيه أكثر من سواها[6].
❊❊❊

     والنور عند عمر أبو ريشة رمز أثير لكل ما يحبه خاصاً كان هذا المحبوب أو عاماً، ولذلك يشيع كثيراً عنده كلما اتصل الحديث بدين أو عزة أو مجد أو وطنية أو حب أو جمال، أما الظلمة فهي الرمز المضاد لكل هذه الأشياء.

     ولذلك يجعل جبل حراء الذي تنزَّل فيه الوحي على الرسول الكريم محمد ﷺ جبلاً موشحاً بالنور وهو ما نجده في قصيدته «محمد»:

وأتى طوده الموشح بالنــــــــو     ر، وأغفـى في ظل غار حراء

     فإذا جئنا إلى قصيدته «يا رمل» وجدناه يجعل دعوة محمد ﷺ صرخة زهراء تنطلق لهداية الناس:

فأرسل الصرخة الزهراء فانطلقت
               كتــــائب الله ترعى البيت والحرما

     كما يجعلها مروداً سنياً يكحل عيون قريش التي لا يزيدها النور إلا ضلالاً:

ويسحب المرود الأسنى على مقل
               ما زادها النور إلا ضـــلة وعمـى

     ويجعل رجال الفتوح الأوائل بناة زهراً:

فازينت بالبناة الزهر مملكــــــــــةٌ
               العدل ما شادها والحــق ما دعمــا

     كما يجعل دولة الإسلام الأولى نعمة عظيمة تضيء الدنيا، ويجعل الدنيا ظلاماً من بعدها:

نعمى أضاءت على الأيام وانطفأت
               فيا ليالي ادفقـــــي من بعدها ظلمـا

     ويجعل رسالة محمد ﷺ نوراً سيطلع بفجر الحرية والمجد، ويسائل الرمل عن موعد ذلك:

أمن سنــا أحمد حــر ستطلعــــــه
               وتطلع المجد في برديه مضطرما

     وفي قصيدة «عرس المجد» يجعل انطلاق النور أمنية من أماني الفاتح العربي:

وأمانيه انتفـــــاض الــــذل من     غيهب الـــــــذل وذل الغيهــب
وانطلاق النـــور حتى يرتـوي     كل جفـــــن بالثرى مختضــب

     ويجعل روابي القدس المكان الذي يظهر فيه النور ويسطع:

يا روابي القدس يـا مجلى السنا
               يا رؤى عيسى على جفن النبي

     كما يجعل شعره هبة لبلاده ولكل طالبي النور ورواده:

لبـلادي ولـــرواد السنا     كل ما ألهمتني من أدب

     وحين يرثى ابن أخته في قصيدته «لوعة» الذي مات شاباً واعداً ينظر إليه بعين خياله فيراه قد اكتسى من خيوط الفجر أسنى حلله:

وتراءى لي عليٌّ كاسيــــــاً     من خيوط الفجر أسنى حلل

     وفي قصيدة «فراق» التي قالها في رثاء قريبه وصديقه جميل مراد يصور أيام الفقيد الراحل على أنها كانت سروراً ومتعاً فيجعلها بيضاء:

ومغاني أيامك الزهر مهد     لوصال وملعب لأمــــاني

     ويجعل النادي الذي كان مثابة للسمر واللهو في لبنان، نادياً حافلاً بكل ما يريده رواده، ويجعل أرجاءه من المتع البيض التي تدعوهم إلى نفسها:

أين ناد لنـــــــا سهرت عليـــــه
               والليـــــــالي مطروة الأجفـــان
غمرتـه المنى فـليــــــس لنـا ما
               نتـمنى في ظلــــــــه الجـــذلان
كل أرجـــــائه من المتـــع البيـ
               ـض؛ ثغور تصيح يا من يراني

     ولما رثى صديقه الموسيقار كميل شمبير في قصيدته «مصرع الفنان» جعل المرثي يضيق ذرعاً بحياته لأن مورد الفن مظلم، لم يوقد له الشرق مشعلاً فاستبد به ظلام اليأس الذي أطفأ فيه شموع الرجاء:

مل دنياه بعدما سئم الســـــــــيـ     ـر؛ عليها وضـــاق في بلوائـه
مورد الفن مظلم لم يصـــــوب     فوقه الشرق مشعلاً من ضيائه
سار فيه وظلمة اليـــأس تطفي     تحت أنفاسهـــــا شموع رجائه

     وتوهم المرثي ذات يوم أنه لقي ما يريد فوافته آماله البيضاء في شكل عذارى يحملن له على سواعدهن البيض أكاليل فوزه ونجاحه:

وأرته طيوف آماله الغـــــــــرْ     رِ؛ عذارى يطفن حول وشاحه
حاملات على سواعدهـــا البيـ     ـض أكاليل فــوزه ونجاحــــــه

     وكان الشاعر مرة يسير وحده في الليل فتوهم أن أحداً يناديه فالتفت فلم ير إلا نجمة واحدة في الأفق، فجاءت قصيدته «نجمة». وفي هذه القصيدة يصور وحدته ووحشته، ويتوهم أنه صائر إلى الموت، وأنه بحاجة إلى قبس من نور هذه النجمة يكون له كفناً، لعله يخفف من قسوة القبر ووحشته:

نجمة ضاءت على البعـد فيــا     ذيلها الوضـــــاء كن لي كفني

     وفي قصيدته «قطرة الزيت» يلوم فتاة سارت في ليلها على أشعة سراجه حيناً من الدهر، فلما هجرته فيما بعد أخذت تضرب في التيه على غير هدى لأنها نسيت أن تأخذ مع السراج قطرة الزيت التي تضيئه:

لن تعثــــري عبر الدجـى إنه     أسنى ســــراج كان في بيـتي
حملته في غفــــلتي بعـدمــــا     أسرى بك التيه وأسـريـــــت
وما تـلفـــت به صــــــوب ما     أضحكت من عمري وأبكيت
ليتك لما سرت في نـــــــوره     ذكرت فيه قطـــــرة الزيـــت

     وحين كرم عمر أبو ريشة الأخطل الصغير في قصيدته «حكاية سمار» أشاد بشعره في إثارة الحمية الوطنية التي كان من فضلها أن تمزق ليل العبودية بإشراق صبح الحرية:

فإذا العبوديات تخلـــــع ليلها     مزقاً على قدم الصباح السافر

     ودعاه ألا يحزن لما يرى من فلول الظلمة والمعتدين ومن آثامهم السوداء:

لا يحزنَنْك ما ترى لفلولهـــــــا     في القدس من راع لها ومؤازر
أو مـا تصب على الخليج أكفها     من ســــود آثام وحمـــر جرائر
❊❊❊

     والحديث عن الرمز عند عمر أبو ريشة يستدعي وقفة متأنية عند قصيدته «نسر» وهي إحدى قصائده الشهيرة، وكان حفياً بها كثير الإنشاد لها. تقول القصيدة:

أصبح السفح ملعبـــــاً للنســـــور     فاغضبي يا ذرى الجبـال وثوري
إن للجرح صيحة فابعثيهـــــــــــا     في سماع الدنى فحيــــح سعـــير
واطرحي الكبرياء شلواً مدمــــى     تحت أقدام دهــــــــرك السكــــير
لملمي يا ذرى الجبال بقــــايا النـ     ـنسر وارمي بها صدور العصور
إنـه لم يعـــــــد يكحـل جفــن الـنـ     ـنجــــــم تيهاً بريشــــــه المنثــور
هجر الوكر ذاهلاً وعلـــــى عيــ     ــنيه شيء مــــن الوداع الأخـــير
تاركاً خلفــــه مواكـــــــب سحب     تتهاوى مــــن أفقهـــا المسحـــور
كم أكبت عليه وهـــــــي تنـــــدي     فوقه قبلــــــة الضحى المخمـــور
هبط السفح طاويـــــاً من جنـاحيـ     ـه علـــى كل مطمـــح مقبــــــور
فتبارت عصائـــب الطــير ما بيـ     ـن شرود مـــــن الأذى ونفـــــور
لا تطيري جوابة السفــح فالنســـ     ـر إذا ما خبرتـــــه لــــم تطـيري
نســل الوهن مخلبيــــــه وأدمــت     منكبيه عواصـــــــف المقـــــدور
والوقار الذي يشيــــــــــع عليـــه     فضلة الإرث من سحيــق الدهور
وقـف النسر جائعـــــــــاً يتلـــوى     فوق شلو علـــى الرمـــال نثــــير
وعجاف البغــــــاث تدفعــــه بالـ     ـمخـلب الغض والجنــاح القصير
سرت فيه رعشـة مــن جنون الـ     ـكـــــبر واهتـــز هزة المقـــرور
ومضى ساحبــاً على الأفق الأغـ     ـبر أنقــــــــاض هيـــكل منخــور
وإذا ما أتى الغياهــــب واجتـــــا     ز مدى الظن مـن ضمـير الأثــير
جلجلت منه زعقــــة نشــــت الآ     فاق حرى من وهجهـا المستطـير
وهوى جثة على الــــذروة الشمـ     ماء في حضـــن وكـره المهجـور
أيها النسر هل أعـــــود كما عــد     ت أم السفح قد أمــات شعــــوري

     تصور هذه القصيدة حكاية نسر كان يعيش في قمم الجبال مع أمثاله عزيزاً شامخاً، وحين اضطر بعد أن شاخ إلى الهبوط إلى السفح أدركه حزن مرير على نفسه حيث ترك كبرياءه وتحليقه ومنعته على القمة مع وكره المنيع. وزاد من حزنه أنه حين جاع اضطر إلى البحث عن طعامه مع عجاف الطيور وبغاثها، فدأبت على مضايقته ومحاصرته ومزاحمته، فاستيقظ فيه إباؤه وفضل أن يموت سيداً في وكره على أن يعيش ذليلاً في السفح، واستجمع ما بقي له من قوة، وانطلق إلى وكره المهجـور فوق القمة الشماء، فمات قرير العين لشعوره أنه استعاد كرامته وعزته.

     تنتهي الحكاية بعد أن استغرقت عشرين بيتاً، وهي حديث موضوعي خالص، ليست فيه أثارة من ذاتية، حتى إذا جئنا إلى البيت الأخير وهو الواحد والعشرون، فاجأنا الشاعر بذاته، وهي تسائل النسر:

أيها النسر هــــل أعود كما عــــد
               تَ؛ أم السفح قد أمات شعوري!؟

     نظم عمر أبو ريشة هذه القصيدة عام 1938م، أي في فورة شبابه وأوج قوته، حيث لم يبلغ الثلاثين من عمره «إثر مشكلة وظيفية وقعت له، عندما كان مديراً لدار الكتب الوطنية في حلب، وأزيح عن منصبه ليتسنمه من هو أدنى منه، فثارت كبرياؤه، ووجد نفسه نسراً حقيقياً هوى من قنانه الشامخة إلى السفوح والأودية»[7].

     وحين ألقى قصيدته هذه في الاحتفال الذي أقامته له «إثنينية» محمد عبد المقصود خوجه في جدة لتكريمه قدم لها بقوله: «شاهدت في قريتي على كومة من الصخور نسراً، وكان أحد الوكلاء إلى جانبي فقلت: عجيب هذا النسر! متى بدأت زياراته تتوالى إلى قريتي؟ قال: لم نشأ أن نصطاده بدون إذن منك. إنه هنا منذ بضعة أسابيع يعيش مع عجاف الطيـر، هل تريد أن نقتله؟ قلت لهم: دعوه، ولكن ذلك النسر اختفى، صورة عابرة، وصادف أن أخرجتني حكومتي إلى الخارج كسفير وبقيت ما يقرب من ربع قرن خارج سورية برتبة سفير، ولكن لا يجوز لي أن أعود إلى سورية»[8].

     وقد سمعت بنفسي الدكتور حسن ظاظا، وهو عالم وأديب وشاعر، وهو أيضاً صديق قديم لعمر أبو ريشة يروي حكاية القصيدة، وهي أنهما كانا في البتراء يتجولان، ونظرا ذات مرة من علٍ فشاهدا نسراً ميتاً على الأرض، وقد أكل الدود صدره، وكان جناحاه ممتدين على الأرض كما لو كان يهم بالطيران، فحزن عمر أبو ريشة للنسر فكانت القصيدة[9].

     وعلى كل حال لا تمنع رواية الدكتور حسن ظاظا الرواية التي ذكرها عمر أبو ريشة نفسه، حيث اختزن الشاعر المنظرين في نفسه، فرأى النسر وقد طار إلى الأعالي في قريته، ورآه وهو يحاول الطيران إليها وهو في البتراء.

     والمؤكد أن عمر أبو ريشة وجد نفسه في النسر، فمن المعروف عنه أنه كان عزيز النفس، أبياً شديد الإباء، وكان فيه ميل إلى التمرد والطموح، مما يذكرنا بالمتنبي الذي التقى معه في هذا الجانب، فإذا أقصي ظلماً عن مكانه، وحل فيه من لا يستحق، وإذا اضطر إلى العمل طويلاً خارج الديار، فلا غرابة أن يثور غضبه وإباؤه، ولا غرابة أن يأبى المكانة الدنيا التي لا تليق به، ولا غرابة أن يحاول الصعود إلى مكانته السابقة التي تليق به كما فعل النسر، ولا غرابة أيضاً أن يخشى على نفسه من أن يكون السفح قد قتل طموحه وعنفوانه مما يجعله غير قادر على تسنم القمة لذلك ينهي القصيدة بهذا البيت المتسائل والدال والحزين:

أيها النسر هــــل أعود كما عــــد
               تَ؛ أم السفح قد أمات شعوري!؟

     إن الشاعر يأبى السفح وما يتصل به من هوان، ويظل مشدوداً إلى السماء وما يتصل بها من رفعة، وهو شديد الرغبة في رفض الهزيمة والعجز والاستسلام، والبيت الأخير في القصيدة يصور ذلك بغاية القوة والتركيز.

     القصيدة كلها ــ باستثناء بيتها الأخير ــ تجري في إطار موضوعي، حيث صاغ الشاعر القصة خارج ذاته، لكنه في النهاية وظفها توظيفاً ذاتياً، فعلمنا أن الرمز ذاتي، وأن القصيدة جمعت بين الإطارين الموضوعي والذاتي. والذي يبدو أن صورة النسر في البتراء ميتاً وصورتَه في قريته حياً، استيقظتا في نفسه مع مشكلته الوظيفية، وتفاعلتا معها فكانت القصيدة، وكان النسر رمزاً لعمر أبو ريشة في متاعبه وفي مطامحه على السواء. لقد كان النسر «يرمز للشاعر لا في محنته فحسب، بل في آماله أيضاً، فإذا كان الشاعر يشكو علته كالنسر، فإنه كالنسر يأمل في افتداء ما خسر، وفي العودة للذرى، لذا فهو يصور نفسه وقد عادت له الرفعة فاهتز وجلجل، وصرخ صرخته الهائلة، وعاد إلى ذراه وهوى هناك»[10].

     لقد رمز الشاعر «بالنسر في شيخوخته إلى العزة الذاوية التي تأبى أن تقضي في مهاوي الحضيض، فتنهض من شيخوختها نهضة أخيرة تحلق في سماواتها القديمة، ثم تهوي على ملاعبها الأولى فوق القمم بدل أن تمــوت في وهدة السفوح. والقصيدة تتضمن طرفين متناقضـــين: ضعف البدن، وعزة الهمة، فكان طبيعياً أن يستدعي كل طرف ما يتصل به من أخيلة وصور. لكن التداعي هنا ليس تداعي ألفاظ، بل تداعي معان يجلب بعضها بعضاً، ويرتبط بعضها ببعض. فالسفح يرتبط بالجراح والكبرياء الدامية وبغاث الطير، على حين تستدعي القمة صور الآفاق الرحبة والنجوم العالية والأجنحة الخفاقة. وما دامت الصورة مركبة على هذا النحو من جانبين متقابلين، فلا بد أن يجسم الشاعر كلّاً من هذين الجانبين حتى تكون المقابلة قادرة على إبراز تلك الانطلاقة الأخيرة للنسر بعد أن أدرك ما بين ماضيه وحاضره من خلاف رهيب»[11].

     وهكذا يستبين لنا أن القصيدة ذاتية، مما يجعلنا نستبعد التأويلات الكثيرة المتصلة بها، ونراها تأويلات لا تقوم على دليل، كذلك الذي نجده عند الدكتور أحمد بسام ساعي حيث يرى أن عمر أبو ريشة قلد في هذه القصيدة كلّاً من «ألفرد دوفيني» في قصيدته «البجعة»، و«بودلير» في قصيدته « طائر الباتروس»[12]. وذلك الذي نجده عند الدكتور شوقي ضيف حيث يرى في النسر طموح الشعب السوري إلى التعبير عن رفضه للاحتلال الفرنسي الجاثم على صدره[13].

     وفي سياق الحديث عن ذكرياته مع الشاعر عمر أبو ريشة، يروي الدكتـور عبد القدوس أبو صالح أنه حضر أمسية للشاعر في النادي العربي بدمشق ألقى فيها قصيدته «نسر» قائلاً: «وعندما كان عمر أبو ريشة ينشد قصيدته تبادر إلى ذهني ذلك الشبه الكبير بينه وبين النسر، فها هو ذا الشاعر يقف أمامنا بقامته الفارعة ومنكبيه اللذين يشبهان جناحي النسر، بل ها هو رأسه الصغير مع قزعات الشعر على قذاله وجانبي رأسه تذكرانك برأس النسر والريش القليل الذي يكسوه، ولعل الذي أثار ذلك التشابه في ذهني تلك المقدمــة التي بين فيها الشاعر مناسبة القصيدة، وما بين صاحبها وقصة النسر من علاقة رمزيــة، إذ قرر أن قيود الوظيفة كانت تنال من انطلاقه وجرأته، وتكاد تخرجه عن أن يكون صوت الأمة المعبر عن آمالها وآلامها ليرضى بالفتات الذي يتمثل في المرتب الشهري، وقد تمثلت مشاعره في هذه التجربة الشعرية التي كانت مأساة النسر تمثـــل المعـــادل الرمـــزي لها عن طريق القصة الشعرية الرائعــة»[14].

     ولقد ظل النسر الذي يحلم بالقمـة الشماء وما يتصل بها من حلم شهي وشـموخ عزيز، وينفر من الأرض والسفح وما يرتبط بهما من هوان وذلة وتحاسد، رمزاً أثيراً عند عمر أبو ريشة، لذلك رأيناه في قصيدته «نسر» التي تعود إلى عام 1938م يطوف بهذه المعاني بشغف وإصرار، ويصور من خلالها نفسه، ولذلك رأيناه أيضاً بعد ذلك بتسعة أعوام، يطوف بهذه المعاني بشغف وإصرار ويصور فيها سعد الله الجابري، الذي رثاه عام 1947م في قصيدته «بلادي»، ويقدمه لنا نسراً يطبق جفونه على أحلى أحلامه إذ يصل القمة:

هكذا تصــمد النســـور وتــذري     بالســـوافي على ذرى الأطــواد
وإذا ما انتهى إلى القــمة الشــمْـ     ـمَاء مســتطلعاً جـلاء الأعــادي
شاء أن يطبــق الجفون على أكـ     ـرم حــلم بها وأشهى مــــــــراد
وغفا تاركاً على الأرض ذكرى     سلمت من تخــــــرص الحســاد

     وقبل القصيدتين السابقتين نجد الشاعر في عام 1937م يعنى بهذه المعاني، ويفصل فيها حيث يقول في قصيدته «شهيــد»:

يا ظلام الأجيــال قُصَّ جناحيـــــ     ــك، فهـذي طلائـــــع الإصبــاح
مرْود كحَّـل الجفـــــــون الكسالى     فأفاقت علــى السنـــا اللمــــــــاح
فصحـا من عيــائه الجـبــــل الهـا     جع، واهـــتز مفعـــــم الأتــــراح
وتعالى صياحـــــــــــــه يتوالـــى     فاشرأبت نســـوره للصيـــــــــاح
تركت في الوكون أفراخها الزغـ     ـب، وهبـــــت على أزيـز الرياح
وتبارت عصائباً فالفضـا الرحــــ     ـب، بساط من مخــلب وجنـــــاح
غضب البغي فانبــرى يحشد الهو     ل، ويرنـو إلى الأذى بارتيـــــاح
شقّ فكّـــــــي جهنــــــم فأسـالـت     في الروابي لُعـــابها والبطـــــاح
فاقشعرت من وهجه القـلل الصمْ     مُ، وأجّــت شوامـــــــــخُ الأدواح
وتدجى الدخـان يحجب عين الشـ     ـشمس عن مأتـم الثرى المستبـاح
فتهــــــاوت تلك النسـور وأزرت     بالمنايا على اللظـــــــى المجتـاح
تنشب المخلب المعقـف فـي البغـ     ـي وتزجي المنقار في إلحــــــاح
ولسـان اللهيـــــب يلعـــب بالريــ     ـش ويطوي الجراح فوق الجراح
غضبة للنســــور لا النصر فيهـا     بمتاح ولا الونــــى بمبـــــــــــاح
لم تزحــــــــزح تلك المخالب إلا     بعد ما جردت مـــــــــن الأرواح
فتـــلاشى الدخان عن وثبــات الـ     ـبغــي في بركـــــة الــدم النضاح 
وسرى الليل مالئاً جــــــــبل النــا     ر سكوناً لولا نشيد الأضاحــــــي
يا دماء النسور تجـــــــرى سخاء     بغــــرام البطولـــــــــة الفضـــاح
أنبتي العــــز سرحــــــــــة يتفيـا     بأظاليلهــــا شتيـت النواحـــــــــي
أنت دمع الســمــاء إن لهث الحقـ     ــل وجفـــــت سنابــل وأقاحـــــي

     والأبيات من أروع الشعر الوطني الذي يتخذ من النسر رمزاً للنجدة التي تقتحم الأهوال وتقاتل في شراسة حتى لو بدا لهـــا أن النصر مستحيل، وتجود بدمائها التي تنبت المجد والخـــير.

     لقد كان النسر في القصيدة الأولى هو الشاعر، وكان النسر في القصيدة الثانية هو الجابري، وكان النسر في القصيدة الثالثة هو الشهيد، وكان النسر في القصائد الثلاث هو الإباء والشموخ والعزة، وكان عمر يصـور فيها نفسه كما هي أو كما يريـدها أن تكون.
❊❊❊

     وإذا كان عمر أبو ريشة يرى نفسه في النسر، فإنه يراها كذلك في الجبل، فالنسر رمز له والجبل كذلك، وكلاهما يمثل الإباء والشموخ والعنفوان والعزة، وهو ما أحبه الشاعر كثيراً، وحاول أن يتصف به.

     لذلك يمكن القول: إن قصيدته «جبل» قصيدة رمزية يصور فيها نفسه:

معاذ خلال الكبــر ما كنت حاقــــداً
               ولا غاضباً إن عاب مسراي عائب
فكم جبـــل يغفو على النجم خـــــده
               وأذيالـــه للسائمــــــات ملاعـــــب
نظرت إلى الدنيــا فلم ألف عندهــا
               كبيراً أداري أو صغــــيراً أعاتــب
وما هان لي في موقف العز موقف
               ولا لان لي في جـانب الحـق جانب
فيا غربة الأحرار ما أطول السرى
               وملء غيابـات الدروب غياهـــــب

     إن الجبل في هذه القصيدة هو الشاعر نفسه، يرى فيه شخصيته وآماله ترفعاً وعزة وشموخاً وشجاعة، وإحساساً بالتفرد المتفوق، إذ يتفوق الجبل على ما حوله علواً مادياً ويتفوق الشاعر على من حوله تفوقاً معنوياً.
❊❊❊

     ويمكن أن تعد قصيدة «بلبل» لعمر أبو ريشة قصيدة رمزية، حيث يرى الشاعر في البلبل نفسه من زاوية أخرى مخالفة للزاوية التي رأى نفسه فيها في النسر والجبل في القصيدتين السابقتين، وإن كانت الرؤيتان تلتقيان في دلالة واحدة:

حلم تخلى عنــــــه في رغـــــــده     هل يقدر النــــــــــــوح على رده
لو يعلــــم الصيـــاد ما صيــــــده     لم يجعل البلبـــــــــل فـــي صيده
ألفيتـــــــه ينـــــثر ألحانـــــــــــه     كأنمـــــا ينـــــــــــثر من كــــبده
وإلفه المشفـــــق ظــــــل لـــــــه     باق كما كان علـــى عهــــــــــده
مدله اللفتــــات مستوحـــــــــــش     طاو جناحيـــه علـــــــى وجــــده
كم أطبقـــت منقــــاره غصــــــة     فمده ينـــقر فــــي قيـــــــــــــــده
أسقمـــه العيـــش علـى وفــــــره     لما رآه ليــــــــس مــــن كــــــده
وأين مخضـــل الجنى حولـــــــه     من زنبـــــق الروض ومن ورده
طـــوى المنى نوحــــــاً ولكنمـــا     لم يغنه النـــوح ولــــــــــم يجـده
فعاف دنيـــاه ولــــــم يتخـــــــــذ     عشاً ولم يحمل ســــوى زهــــده
كأنـــــه من طـــول ما مضــــــه     من عبث الدهـــــــر ومــن كيـده
أبى عليه الكبر أن يـــــورث الــ     أفــــــــراخ ذل العيش من بعــده

     نحن في هذه القصيدة مع بلبل محزون لأنه فقد حريته، ولا يخفف من حزنه قفصه الجميل ورزقه الوفير، لذلك تخرج ألحانه أحزاناً شجية كأنما ينثرها من كبده المقروحة. لم يستطع البلبل أن يفعل كما فعل النسر حين مات في وكره المهجور في القمة العالية، فأسوار القفص تمنع حركته، لكن هذه الأسوار إذا منعت حركته لم تستطع أن تمنع كبره وإباءه وتطلعه لحياة الحرية، لذلك أبى لأولاده أن يكون مصيرهم كمصيره، فامتنع عن الإنجاب. «وحين تنتهي القـصيدة نصبــح على شــبه يقين بأن الشـاعر بعد هذه الصورة التي يمكن اعتبارها قرينة تعين المقصود، لم يكن يتحدث عن بلبل حقيقي، بل كان يتحـدث عن نفسه، وقد قصرت به الأيام عن تحقيق كل مطامحه، فإذا به يزهد في الحياة وفي الناس»[15].

     لقد عبر كل من النسر والجبل بطريقته التي تتسق معه عن الشاعر وطموحه، والبلبل عبر أيضاً بطريقته التي تتسق معه عن الشاعر وطموحه، ثمة فـــــرق بين القدرة هنا وبين القدرة هنـــاك، ولكنَّ ثمة توحداً بين إرادة الجميع يعبر كل منهم عنها حسب قدرته وطبيعته. النسر طار إلى وكره احتجاجاً على الذل وتوقاً إلى العزة، والجبل ظل في عليائه أبياً مترفعاً، والبلبل امتنع عن الإنجاب احتجاجاً على الأسر وتوقاً إلى الحرية.

     والحقيقة أن الشاعر في القصائد الثلاث؛ هو النسر، وهو الجبل، وهو البلبل. قال الجاحظ: «البلبل لا ينـسل في قفص». هذه الجملة وضعها عمر أبو ريـشة مـقدمة نثرية لقصيدته، ومنها -وهي البداية- يبدأ خيط التوق إلى الحرية، وفي البيت الأخير يكتمل التوق إليها، وما بين الخيطين قطعة جميلة نسجها الشاعر بمهارة واقتدار لتكون رمزاً لما يريد، ولتعبر عن «فقد الحرية وضياع معنى الأشياء»[16].
❊❊❊

     وفي قصيدته «حكاية سمار» يرمز عمر أبو ريشة للحياة بفتاة جميلة جداً غوية جداً يقول فيها:

وإذا عروس مـا استقـر رواؤهــا     إلا على متبايــــــن متنافــــــــــر
بسمت إلي وما سمعـت للمتي الـ     ـغبـراء همســـة وازع أو زاجــر
من أنـت؟ قلت لها، ففيك تقاتلـت     شتى غوايات الفتــــــون الآســـر
أقبلت من صدر الربيع وقلت لي     أتحبني أتحبني يا شاعــــــري!؟
أنا بدعة الدنيا وســـر خلودهــــا     هتكت على عري الحياة ستائري
تتلمظ الشــهوات فوق محاجـري     وتعــربد اللذات خلــــف مآزري
وتســلسل النعماء حمـر مراشفي     وتلف جيــد النجم شقر ضفائري

     لقد استعان الشاعر بملكته القادرة في التصوير ليقدم لنا الفتاة الجميلة رمزاً للحياة، وفيهما معاً الجمال والإغواء والإغراء، وكل دواعي الفتنة التي تحمل الإنسان على الإقبال عليهما دون وازع أو زاجر. رمز بديع وتصوير حي يتفوق فيه عمر أبو ريشة على ما يماثله عند شوقي في قصيدته «ذكرى المولد النبوي» حيث قال:

أخا الدنيـا أرى دنياك أفعى     تبـــدل كل آونـــــــة إهابــا
وأن الرقط أيقـظ هاجعــات     وأترع في ظلال السلم نابا
ومن عجب تشيب عاشقيها     وتفنيهم وما برحـــت كعابا
فمن يغتر بالدنيـــــــــا فإني     لبست بها فأبليــت الثيابـــا

     فشوقي غلب عليه التقرير الجاف والحكمة المصنوعة، فجار على أبياته مع روعة لغتها وجمال موسيقاها، أما عمر أبو ريشة فقد غلب عليه التصوير الحي المتحرك والحوار الرشيق المتدفق فجاءت أبياته مثيرة باهرة.
❊❊❊

     وقد أجرت الأستاذة نازك باسيلا مع عمر أبو ريشة مقابلات طويلة أعد لها بإتقان جيد من قبلها ومن قبله، ونشرت في مجلة الأسبوع العربي التي تصدر في بيروت في عشر حلقات متصلة بدأت بتاريخ 7/ 3/ 1983م، وانتهت في 9/ 5/ 1983م.

     في الحلقة الثامنة يتحدث عمر أبو ريشة عن ذكرياته في مانشستر، وأهمها أنه أحب فتاة إنجليزية حسناء اسمها «نورا»، وأنها بادلته حباً بحب، وأن علاقتهما كانت طاهرة مبرأة، وكانت بهدف الزواج الذي وافقت عليه الأسرتان، لكن الموت اختطف الفتاة، فحزن عليها حزناً شديداً كاد يدفعه إلى الانتحار، لقد وقعت الوفاة عام 1932م، وقال الشاعر في فتاته قصيدته «خاتمة الحب» في السنة نفسها، لكن الطريف أنه ظل كما بدا من المقابلة التي أجريت عام 1983م أي بعد واحد وخمسين عاماً، يتذكر محبوبته الإنجليزية بشوق بالغ وحزن دفين كما لو كان الموت قبل قليل، يفعل هذا مع تطاول الزمن، ومع تجاوزه السبعين، ومع أنه تزوج عام 1939م من السيدة منيرة محمد مراد أم أولاده الثلاثة، وعام 1980م من السيدة سعاد مكربل، ومع أن السيدتين المذكورتين كانتا معاً في عصمته إبان المقابلة.

     هذا كله يحملنا على الظن بأن الطيف الذي طالعه وهو يخاصر فتاة في حلبة الرقص إنما هو طيف نورا. يقوي هذا الظن أن القصيدة التي صور فيها ذلك وهي تحمل اسم «الطيف» تعود إلى عام 1962م، فإذا كان الشاعر حتى عام 1983م مع كل ما كان يحيط به مما سبقت الإشارة إليه لم ينس محبوبته الأثيرة، فلا ريب أنه قبل ذلك بواحد وعشرين عاماً كان أكثر ذكراً لها. ولذلك ربما يكـــون تقديرنا أن الطيف الذي طالعه رمز لنورا تقديراً صحيحاً. تقول القصيــدة:

على شفتينـا ثار طيـــفك وارتمـى     فأبعـد وهج الشوق والعطر عنهما
وتسـألني ما بي فأخنق زفرتـــــي     وأرنـو إليهــــا موجعــاً متبسمــــا
وأرجـع عنها حاملاً منـك وحشتي     وفي خافقي جوع وفي مقلتي ظما
وأغرق في كـأسي عهودك كلهـــا     فما أعرف الأشيـــــــاء إلا توهما
حنــــانكِ أبقـــي لي بقيـــة سلــوة     ألوك بهـا الشهد الذي كان علقمـــا
فكــل جــمال صاح بي منه هاتـف     إليــك تنـاهى أو إلى سحرك انتمى
ولي خطوات بعد في درب غربتي     سأقطعها وثبــاً وأخضــبهــــا دمـا
وألقـــاك بالحــب الــذي تعرفينـــه     ولن تسألــــي عنـــه ولـــن أتكلمـا

     وفي الأبيات أكثر من إيماءة تزكي تقديرنا وتشد من عضده. فالطيف المحبوب يقتحم على الشاعر ساعة أنس ولهو فيفسدها عليه. وحين تسأله فتاته التي كان يراقصها عما به يجاملها وفي قلبه زفرة، ويرجع عنها وفيه وحشة وجوع وظمأ لأن طيف نورا الميتة غلب حقيقة الفتاة الحية.

     والشاعر يطلب من نورا أن تعينه فتبقي له شيئاً من الصبر يستعين به، ويؤكد لها أن كل جمال شهده من بعدها هو دون جمالها، وأنه سيظل يشعر بالغربة حتى يلقاها وقد وفى بعهوده معها وصان حبها وذكراها.
❊❊❊

     هذا والبحث في الرمز عند عمر أبو ريشة يدل على خلو شعره من رموز الوثنية اليونانية القديمة وأساطيرها التي شاعت كثيراً في العصر الحديث، حتى كاد يصبح استعمالها أمارة دالة على عصرية الشاعر وتجديــده يتجمل بها، لذلك لا نجد في شعره قط «بروميثيوس، سيزيف، أوليس، بنلوبي، أوديب، أنتجيونا، أورفيوس» وما إليها.

     وكما خلا شعر عمر أبو ريشة من الرموز اليونانية خلا من الرموز المسيحية كالخلاص والفداء والخطيئة وما إليها، وكان رمز «الصلب» يطل على قلة، ومرد ذلك إلى قوة شخصيته التي تحميه من الانسياق الأعمى خلف أي موجة تجديد، وأصالته التي شدت أطنابه بالإسلام والعروبة وما يتصل بهما.
❊❊❊

     يبقى أن نقول: إن الرمز عند عمر أبو ريشة قليل في شعره، ذلك أنه كان شاعراً متفرداً يصعب جداً تصنيفه في أسوار مدرسة من المدارس الفنية، وديوانه يدل على هذه الحقيقة التي كان مدركاً لها، فحين سئل عما إذا كان قد تأثر بشاعر معين وقبس عنه، قال: «إنهم في مجموعهم وعلى اختلاف وتباين أساليبهم ونزعاتهم، لم يكونوا مقلدين لأسلافهم، لقد كانوا مبدعين، كل في طاقته الوجدانية والفنية، لقد مهدوا لي السبيل لأن أخلق شيئاً جديداً، فأنا بنيت بيدي الكوخ الذي أحبه وأقيم فيه، وليس لأحد منهم حجر واحد بين أحجاره»[17].

     يضاف إلى تفرده وبنائه لكوخه على النحو الذي يريد، أنه كان شاعر محافل وشاعر المحافل ليس له أن يغرق في الرموز ويكثر منها، وليس له أن يغرق في الرومانسية وذاتيتها المسرفة، لأنه يخاطب الجمهور، ويتلمس آلامه وآماله، وينتزع إعجابه وتصفيقه. ومن هنا قلَّ الرمز عنده كثيراً، ولذلك صح فيه ما قرره الدكتور أنطون غطاس كرم من أن فيه أثراً من الرمزية، لكن هذا الأثر الذي يقربه من الرمزيين لا يجعله ملازماً لهذا الأدب تمام الملازمة[18].
❊❊❊

-----------------
[1] سامي الدهان، الشعر الحديث في الإقليم السوري، ص275.
[2] من حوار أجرته معه نازك باسيلا، ونشرته مجلة الأسبوع العربي البيروتية في 9/ 5/ 1983م.
[3] الشعر الحديث في الإقليم السوري، ص291-292.
[4] فايز الداية، جماليات الأسلوب الصورة الفنية في الأدب العربي، ص176.
[5] محمد عادل الهاشمي، أثر الإسلام في الشعر الحديث في سورية، من 1920 إلى 1946م، ص266.
[6] Critical Approaches to Literature, David Daitehes Lingman, London, 1974, P.168.
[7] أحمد بسام ساعي، حركة الشعر الحديث في سورية من خلال أعلامه، ص372.
[8] الإثنينية، جدة، 1411هـ/1991م.
[9] في زيارة خاصة للدكتور حسن ظاظا في منزله في الرياض، عام 1412هـ/ 1992م.
[10] توفيق صايغ، مجلة الآداب، بيروت، أيلول 1955م.
[11] عبد القادر القط، الاتجاه الوجداني في الشعر العربي المعاصر، ص359.
[12] حركة الشعر الحديث في سورية من خلال أعلامه، ص359.
[13] دراسات في الشعر العربي المعاصر، ص192.
[14] مجلة أهلاً وسهلاً، جدة، ديسمبر 2000م.
[15] محمد فتوح أحمد، الرمز والرمزية في الشعر المعاصر، ص306.
[16] عاطف جودة نصر، الخيال مفهوماته ووظائفه، ص252.
[17] المجلة العربية، الرياض، جمادى الثانية 1398هـ= مايو 1978م.
[18] الرمزية والأدب العربي الحديث، بيروت، دار الكشاف، 1949م، ص180-181م.

كتاب عمر أبو ريشة عاشق المجد - لغة الشعر

لغــــة الشعـر

     يتخذ كل فن من الفنون وسيلة يوصل بها ما يريد إلى المتلقي، فالنحت وسيلته الحجارة والأخشاب، والرسم وسيلته الأصباغ والألوان، والموسيقى وسيلتها آلاتها المختلفة، أما الأدب فوسيلته الكلمة.

     وإذا كان الأدب بشقيه الشعر والنثر يعتمد على الكلمة؛ فثمة فارق بين الكلمة في الشعر وبينها في النثر. إنها في النثر أقرب إلى الهدوء والانضباط، وأقرب إلى الاستعمال فيما وضعت له أصلاً، لكنها في الشعر أقرب إلى التوتر والشحنة النفسية والعاطفية عالية الدرجة، وهي فيه أيضاً أكثر انفعالاً وإيحاء وإثارة، وأكثر تمرداً على الدلالة الأصلية لمعناها القاموسي، وهذا كله أمر طبيعي. فالتجربة التي يعبر عنها النثر هادئة لذلك تكون أقرب إلى الهدوء والموضوعية والانضباط خلافـــاً للتجربة التي يعبر عنها الشعر، وهي تجربة تكون في الغالب حادة حارة متوتــرة، ومن هنا جاء الخلاف بين لغة الشعر ولغة النثر. «لقد ظل الشعر في كل العصور تقريباً يكتب لغة خاصة، لغة الشعر، وهي تحوي كلمات وعبارات وأصنافاً من الصور ليست شائعة في الحديث العادي»[1].

     وإذا كانت لغة النثر هي لغة الحياة المعتادة يومياً بكل ما يستدعيه هذا الاعتياد من وضوح وتحديد ومباشرة، فإن لغة الشعر هي لغة الحياة غير المعتادة بكل ما يستدعيه تجاوز العادة والإلف والتكرار من توتر وتوهج وخصوصية وانفعال، ومن هنا يمكن القول: إن للشعر «لغته على الدوام موحية متوترة وقادرة على الإثارة، ولا تنبثق عن مشكلات الحياة اليومية، وإنما تصدر عن وجدان عميق، والتعبير عن الوجدان يستلزم ألفاظاً ذات دلالات نفسية وشعورية خاصة قادرة على تصوير إحساس الشاعر وعلى التأثير في نفس القارئ أو السامع لتحدث عنده إحساساً مماثلاً، وتنقل إليه تجربة الشاعر كاملة»[2].

     ولأن الشعر «تعبير عن الحالات الفائقة في الحياة، يحتاج أكثر من كل فن آخر من الفنون الأدبية إلى شدة التطابق والتناسق بين التعبير والحالة الشعورية التي يعبر عنها. وقد أسلفنا أن اللفظ يعبر عن الحالات الشعورية بعدة دلالات كامنة فيه، وهي دلالته اللغوية، ودلالته الإيقاعية، ودلالته التصويرية، ونقص أي من هذه الدلالات الثلاث في الشعر يؤثر في مدى تعبيره عن التجربة الشعوريـة الفائقـــة التي يتصدى لتصويرهـــا، ويغض من قوة الإيحاء إلى نفوس الآخريـــن. وأيّاً كانت القيم الشعورية فإن تقصير اللفظ في تصويرها يحجب جزءاً من قيمتها ويمنعه الإيحاء، ويؤثر بالتالي في حكمنا على النص الأدبي وعلى صاحبه كذلك. من هنا كان للفظ قيمته، وبخاصة في الشعر الذي هو صورة من اللحظات الفائقة في الحياة الشعورية. ولم يخطئ بعض النقاد العرب كثيراً وهم يقولون: المتنبي والمعري حكيمان والشاعر البحتري، أو وهم يضيقون بأبي تمام وتعقيداته اللفظية والمعنوية»[3].

     ومعنى ذلك أن قيمة اللفظ في الشعر قيمة كبيرة، لأن تجربة الشاعر المتوترة بحاجة إلى لغة متوترة موحية مثيرة كما يصفها الدكتور الطاهر أحمد مكي ليكون بوسعها أن تعبر عن التجربة الشعرية التي هي حالات فائقة في الحياة كما يصفها الأستاذ سيد قطب.

     إن الشاعر إزاء مخزون لغوي يتعامل معه ويختار منه، وهنا تظهر موهبته في استبعاد ألفاظ واستخدام أخرى. ذلك أن «للألفاظ أرواحاً، ووظيفة التعبير الجيد أن يطلق هذه الأرواح في جوها الملائم لطبيعتها فتستطيع الإيحاء الكامل والتعبير المثير»[4]، وحين يوفق الشاعر في اختيار ألفاظه لينقل إلينا تجربته من خلالها، يكون حظه من النجاح أكبر في الامتحان الذي يمر به. «وليس المقصود هو رونق اللفظ أو جزالته، ولا قوة الإيقاع أو حلاوته، إنما المقصود هو التناسق بين طبيعة التجربة الشعورية وطبيعة الإشعاع الإيقاعي والتصويري للفظ بحيث يتسق الجو الشعري والجو التعبيري»[5].

     إن لغة الشاعر لغة مرنة، ولغة إيحائية ليست لها الدلالات الثابتة الجامدة، ولذلك يمكن أن نجد للفظ أكثر من دلالة حيث تتسع هذه الدلالة وتضيق، وتتوهج أو تخبو، وتتحرك أو تجمد حسب استعمال كل شاعر لها، وفقاً للتجربة، ووفقاً للإيقاع، ووفقاً للسياق، ووفقاً للشحنة النفسية، «فليست الألفاظ إذن في بساطتها أو جلالها هي المحك ولكن الطاقة أو العاطفة أو الحركة التي يسبغها الشاعر عليها هي التي تحدد قيمتها»[6]. ومعنى ذلك أن «الكلمات والصور والتراكيب إنما هي رموز قد تشير لدى الشاعر إلى مضامين أبعد ما تكون عن توقعاتنا، والشاعر صياد يبحث عن الكلمة بحث الصياد عن السمكة»[7].

     ولذلك ينصب اهتمام الشاعر على «أن يثير في اللغة نشاطها الخلاق حتى يكتمل له التشكيل الجمالي الذي يعادل أو يوازي واقعه النفسي والفكري والاجتماعي، وكما واجه الشاعر واقعه التاريخي والاجتماعي بموقفه؛ فإنه يواجه خبرة مجتمعه الفنية مواجهة جمالية بتشكيل خاص لأدواته»[8].

     وإذا كانت التجربة الشعرية تراوح لحظة الإبداع بين الوعي وبين اللاوعي مع اختلاف في درجة ذلك، وتباين ما بين شاعر وآخر، وما بين تجربتين مختلفتين لشاعر واحد، صح لنا أن نقول: إن لما وراء الوعي دخلاً «في اختيار الألفاظ، فكثيراً ما يجد الشاعر الملهم كلمات وعبارات تقفز إلى منطقة الوعي في نفسه من حيث لا يدري، وقد لا يكون واعياً لمعانيها بدقة وهو ينظمها، وقد يعجب بعد انتهائه من النظم وعودته إلى الحالة الشعورية العادية كيف انثالت هذه الألفاظ والعبارات عليه انثيالاً كما يقول الجاحظ بحق، ثم قد يدرك فيما بعد أو لا يدرك أن لهذه الألفاظ أو لهذه العبارات ظلالاً في نفسه تتسق مع الجو الشعوري الذي نظم فيه قصيدته، سواء كان هذا الجو من صنع مؤثر خارج عن إرادته أو بسبب استحضاره له»[9].

     وكما أن للشعراء أرواحهم فإن للكلمات أرواحها، والشاعر إذ يستدعي كلمة ما؛ يستدعيها وبينه وبينها تواصل ما. «فللألفاظ أرواح، ولكل لفظة تاريخ، وليست الألفاظ إلا رموزاً لملابسات شتى متشابكة فيما وراء الوعي. وقد يختلف هذا بين شاعر وآخر، ولكن تبقى اللفظة رمزاً على الظلال والمعاني التي حملتها في تاريخها الطويل. والشاعر الملهم هو الذي يستوحي الألفاظ ورموزها العميقة، ويستدعيها في اللحظة المناسبة»[10].

     وبطبيعة الحال تتآزر اللغة مع بقية أدوات الشاعر من خيال وموسيقى وعاطفة وفكرة لتؤدي مهمتها المطلوبة، فالشعر محصلة كلية لأدوات مختلفة، والشاعر يستعمل اللغة «في سياق خاص يمكنها من إعطاء أقصى طاقاتها التعبيرية والتصويرية والإيقاعية، فلا شك في أن هذا الائتلاف يحدث قدراً من الإيقاع الموسيقي الذي يزداد تنغيمه جمالاً وأثراً كلما انسجمت الكلمات وائتلفت الصور والجمل الشعرية، وهذا يعني أن تآلف هذه العناصر هو الذي يقود إلى التشكيل الجمالي، وبخاصة عندما يتحد الإيحاء بالإيقاع مما يؤكد أن الحديث عن لغة الشاعر وأسلوبه لا ينفصل عن الحديث عن صوره وموسيقى شعره، وأن عملية الفصل بين هذه العناصر عملية تستوجبها ضرورة الدرس فحسب»[11]، ذلك لأن «العمل الشعري في نهاية الأمر معطى في كليته وشموله، وهذا الشمول كفيل بأن ينقض التفكيك المتعسف لوحدة البناء الشعري وتقسيمه إلى ألفاظ ومعان وأوزان وأساليب»[12].

     ولما كانت موضوعات الشاعر متعددة، كان لا بد له من أن يكون دقيقاً في لغته بحيث يأتي بها أقرب ما تكون للوفاء بمعانيه، وهو أمر نبه إليه النقد العربي القديم، حيث دعا الشاعر إلى المواءمة بين ألفاظه ومعانيه، فالقاضي الجرجاني يخاطب الشاعر قائلاً له: «فلا يكون غزلك كافتخارك، ولا مديحك كوعيدك، ولا هجاؤك كاستبطائك، ولا هزلك بمنزلة جدك، ولا تعريضك مثل تصريحك، بل ترتب كلاً مرتبته وتوفيه حقه، فتلطف إذا تغزلت، وتفخم إذا افتخرت، وتتصرف للمديح تصرف مواقعــه، فإن المدح بالشجاعة والبأس يتميز عن المدح باللباقة والظـرف، ووصف الحرب والسلاح ليس كوصف المجلس والمدام، فلكل واحد من الأمرين نهج هو أملك به، وطريق لا يشاركه الآخر فيه»[13].

     إن تعامل الشاعر مع اللغة هو امتحان لذوقه وثقافته وموهبته، حيث ينبغي له أن يحسن انتقاء الكلمات وبناء العبارات بما يتسق مع التجربة الشعورية تعبيراً عنها وإيصالاً لها. «وحري بنا ألا ننسى أن هذا الرحيق الموسيقي المصفى الذي يقدمه لنا فن الشعر لا يكمن في أوزانه وتلحين كلامه وأنغامه فحسب، بل يكمن أيضاً في انتخاب ألفاظه الحية الرشيقة، ومرجع ذلك إلى أن الشعراء يستمدون أساليبهم من نفس المناجم اللغوية التي يستمد منها الإنسان العادي عباراته في حاجاته ومطالب عيشه، فإذا هم لم يتخيروا لأنفسهم من الألفاط والصيغ ما يخفق بحيوية نابضة هبطت أساليبهم إلى مستوى الحياة العادية وعباراتها اليومية. ومن هنا تبرز صعوبة لغة الشعر، ولا نقصد إلى أنه ينبغي أن تكون من الألفاظ الغريبة التي لا تشيع على الألسن، وإنما نقصد أن يكون الشاعر من المهارة بحيث يعرف في دقة خواص الألفاظ وطاقتها الشعرية الموسيقية، وبحيث يختار منها لشعره مادة حية تجسم تجربته الذاتية»[14].
❊❊❊

     وقد اختلف النقاد في لغة عمر أبو ريشة بين فريقين: فريق يتهمه بضعف لغته وقلة مفرداته وقلة اتصاله بالتراث اللغوي، وفريق يقف مناقضاً لذلك، يشيد بلغته ويرفع من مكانها.

     ومن الفريق الأول الأستاذ أحمد الجندي الذي يقول: «أما الشعر العربي فعمر قليل الحفظ له، ولكنه يحفظ الجيد المختار منه، وربما التفت إلى فرائد من هذا الشعر لا تخطر على بال الأدباء من ذوي الاختصاص، فهو مولع بالتنقيب واكتشاف المعاني الطريفة النادرة التي تلفت الفكر لفتاً قوياً»[15]، والذي يقرر أن عناية عمر أبو ريشة الزائدة بالصورة ربما جارت على لغته وأسلوبه فيقول: «يؤخذ عليه أحياناً التفاته الكلي إلى الصورة أو المعنى وتهاونه في أمر الأسلوب والموسيقى، فهو من هذه الناحية شبيه بابن الرومي في حين أن شوقي أو البدوي مثلاً يبحثان عن المعنى جاهدين، ولكنهما لا ينسيان الأسلوب والموسيقى...، ويؤخذ على عمر أو يأخذ عليه اللغويون بصورة خاصة أنه لا يكلف نفسه عناء البحث عن الكلمات التي تمر بشعره فيما إذا هو شك بصحتها، وسادتنا اللغويون لا يعذرون الشاعر إذا هو أخطأ خطأ يمسهم ولو حلق في السماء، ولهم الحق في ذلك، فلغة الشعر يجب أن تكون لغة صحيحة مصفاة»[16].

     ومن هذا الفريق الأستاذ سامي الكيالي الذي يقول: «يأخذ عليه بعض النقاد ضعف لغته وحاجتها إلى المتانة والصقل، ويقولون: إن له لغة خاصة به ما يفتأ يكررها في كل قصيدة، وهو يصب ألفاظه في قوالب لفظية تغلب على شعره وتطبعه بطابع خاص، ونستطيع أن نرسم حدود لغته الشعرية، ونحصي قوالبه اللفظية. ولغته وإن رفعها الخيال إلى سماء عالية تحتاج إلى متانة وصقل، ومصدر هذا أن الشاعر لا يديم النظر في دواوين الشعر وكتب الأدب القديمة، ولو أنه درس اللغة على أساتذة فحول لاستطاع أن يكون أكثر إجادة في الشعر الحديث بما أوتي من دقة الشعور، وعمق الإحساس، وقوة الخيال. ويظهر أنه يرى نفسه غنياً عن مثل هذه الدراسة التي تقوي لغته وتصقلها وتجعلها جزلة تواتيه بالألفاظ القوية»[17].

     أما الدكتور سامي الدهان فيقف مع الفريق الذي يشيد بلغة عمر أبو ريشة وقوة صلته بالشعر العربي القديم، ويورد لنا في هذا الصدد رواية طريفة يحكي لنا فيها كيف كان الشاعر في صدر شبابه ينظم قصائد، ثم ينشدها لأصدقائه في حلب ومنهم الدكتور الدهان على أنها من الشعر العربي القديم، فيذهب هؤلاء الأصدقاء إلى المصادر القديمة باحثين عما سمعوه فيقول: «وكم فعل عمر مثل هذا، حين كنا نخلو إليه في جلساتنا بحي قريب من قلعة حلب، يهدر بالشعر القديم ويقلده متندراً ساخراً!. ولن أنسى أنه كان يخدعنا عن أنفسنا ونحن في مطلع الشباب، فنحسب أن الشعر قديم حقاً، ويلهو بنا زمناً نبحث فيه عن صاحب الشعر في المصادر القديمة، ونعود إليه لنقرأ في ثغره ضحكة الشباب المنتصر الساخر»[18].

     وينقل لنا الدكتور سامي الدهان جزءاً من أبيات الشاعر التي قالها على لسان النابغة الذبياني في مسرحيته «ذي قار» ليدلل بها على صلته القوية بالشعر القديم، وقوة تمثله له، وقدرته على محاكاته:

وتخال عصف الريح فـوق هضابه
               هزج السميــدع صيد في المرصاد
والذئب مطوي الحوايـــــا لم يجــد
               في الحــــي معطن ماعـــز للــزاد
قد حدثتـــــه النفــــس في مهريتي
               فدنا علــــــــى كبر بــه وعنــــــاد
قد خالني جبســاً تهــــز فرائصـي
               ومعـــــرداً من سفلــــة الأوغــــاد

     ويعلق الدكتور الدهان على هذه الأبيات بقوله: «ولن نتابع رواية الأبيات، فالشاعر يقد الذئب بسيفه ويعالجه بحد مشطب، كما فعل شعراء العرب مع الذئاب. وقد روينا هذا لندلل على قوة الشاب في الشعر، وتمثله للشعر العربي القديم وإجادته في تقليده، ولنعرضه على أولئك الذين كانوا في شك من قدرة عمر على صوغ الألفاظ القاموسية أو اللحاق بالقدماء»[19].

     ويورد الدكتور سامي الدهان جزءاً من مقابلة أجراها مع عمر أبو ريشة ونشرها في عدد يناير 1936م من مجلة الحديث الحلبية التي كان يصدرها، يدعم فيه رأيه في صلة الشاعر القوية بالشعر العربي القديم.

     وفي هذه المقابلة يتحدث الشاعر عن أدوار مختلفة في حياته الأدبية، حيث أحب البحتري وأبا تمام وسواهما، وحيث أخذ يعارض طائفة من القصائد العربية الشهيرة كبائية أبي تمام، وسينية البحتري، ثم يتحدث أنه في واحد من هذه الأدوار أولع بالتنقيب عما يعجبه من شعر قديم، وسر بنماذج لأبي صخر الهذلي، وعبدة بن الطبيب، وابن زريق البغدادي وسواهم.

     ويعقب الدكتور الدهان على كلام الشاعر بقوله: «لقد أطلنا في النقل عن عمر لأننا أردنا أن يتحدث عمر بلسانه عن شعره، فهو خير من يكشف عن تجربته الشعرية، وهو أحسن من يحلل نفسيته الخاصة. فقد عشق الشاب شعر القدماء أول الأمر، فاكتسب هذه اللغة والمفردات والتراكيب، واختزن بعضها ليرددها أبداً، وأهمل غيرها لأنها لا تصلح في رأيه لشعره، وهو لم يعن باللغة العربية غوصاً على قواعدها ومعرفة لأحوالها كما فعل البزم، ولكنه عني بها كأداة لشعره فحسب، يحتاج إليها في تراكيبه وصوره، فلم يدر حول القالب يعبده ويمجده، بل انصرف إلى الجوهر. ولقد عرف عمر أن الشعر العربي يجب أن لا يعيش في العصر الحاضر عالة على شعر القدماء يقلدهم ويحذو حذوهم في كل شيء. وعرف أن الشعر الغربي قد خطا في سماء الإلهام منذ القرن السادس عشر حتى بلغ إلى السماوات العالية بينما لبث الشعر العربي كسير الجناح أسير التقاليد والألاعيب، فأراد أن يلحقه عمر بركب الشعر العالمي، فاستعرض هذا الشعر العالمي وقرأه، واستوحى كثيراً من أهدافه وصوره، فلم يقف في حبه عند شاعر واحد، وقد كان قلباً، فاختار حيناً شاعراً، واختار حيناً غيره كما كان في حبه للنساء، وهو قد ولد شاعراً، وليس للشاعر مذهب واحد في أقواله، وفي حبه، وفي طريق عيشه»[20].

     ومن الواضح أن الدكتور الدهان يشيد بلغة عمر أبو ريشة، ويؤكد متانتها وصلة صاحبها بالشعر العربي القديم، حيث نظم على لسان النابغة قصيدة جزلة كأن صاحبها بدوي خالص، وحيث كان يعبث بزملائه فيصنع أبياتاً ثم يدعي أنها لشعراء قدامى، ويطالب هؤلاء الزملاء بمعرفة قائليها، ويسلم الدكتور الدهان أن الشاعر لم يعن باللغة العربية عناية المختص كما فعل محمد البزم في سورية حيث درس اللغة العربية دراسة عميقة متخصصة، ولكنه يرى أنه أخذ عن القدامى مفرداتهم وتراكيبهم، واختزن ما أخذ ليستعمله من حيث هو أداة يريد أن يوصل بها ما يريد لا أكثر ولا أقل.

     ويرى الدكتور شوقي ضيف أن التمعن في شعر عمر أبو ريشة يقود «إلى حقيقة مهمة عنده، وهي أن شعره يتصل مباشرة بعناصر شعرنا القديم ورواسبه، فهو قد تثقف به ثقافة واسعة، ولذلك كان شعره قريباً منا، ومن الغريب حقاً مع هذه السعة في التصوير أن اللفظ قلما يسقط عنده، فهو ينظم في لغة رصينة جزلة، وقد ترق فتعذب، ولكنها لا تسف ولا تهبط»[21].

     ويتحدث الدكتور حلمي محمد القاعود بإعجاب عن لغة عمر أبو ريشة في الفصل الذي عقده لدراسة قصيدته الطويلة «محمد»، وانتهى فيه إلى أن الدارس يستطيع أن يلاحظ على عمر أبو ريشة «سيطرته القوية على ألفاظ اللغة، ويرى أيضاً قدرته على استخدام كافة الألفاظ السهلة والوعرة في براعة واضحة دون أن يتوقف عند ألفاظ بعينها. ومن هنا يمكن القول: إن قاموس عمر أبو ريشة في المطولة هو ألفاظ اللغة جميعها، وهذا دليل حي على ثراء معجمه وقدرته اللغوية التي تضاف الى قدرته الشعرية»[22].

     أما الدكتور محيي الدين صبحي فيشيد بلغة عمر أبو ريشة ويصفه بأنه ذو معرفة عميقة باللغة، وأن الألفاظ عنده محسوبة بدقة، وعد ذلك مأثرة له، لأنها على حد تعبيره بترت التدفق اللفظي[23].

     ويأتي الشاعر زكي قنصل ليشيد بلغة عمر أبو ريشة، وليقرر أنه بهره بسعة خياله، ودقة صوره، واختيار ألفاظه وتواؤمها مع معانيه، وليقرر أيضاً أن عمر أبو ريشة كان «دودة» مطالعة، وأنه كان قوي الحافظة شديد الإلمام بأشعار القدامى والمحدثين، وأنه كان يروي معظم قصائده لا يعثر بكلمة واحدة، ولا يتلجلج ببيت، فكأنه يقرأ من كتاب مفتوح[24].

     وللدكتور حسن ظاظا ثناء كبير على لغة عمر أبو ريشة، حيث يصفه بأنه كان فناناً في اختيار الكلمة ذات الهالة لوناً ونغماً وضوءاً ورنيناً، وأن ألفاظه غنائية ومؤثرة ومنتقاة بعناية، وأنه لابد لدارسه من أن يعنى بقاموسه الشعري، وأنه يبدو للناس فقيراً لغوياً لأنه لا يقلد أحداً، وإنما يعبر من أقرب الطرق لأنه صاحب صور جديدة، ولغة جديدة، ومذاق جديد[25].
❊❊❊

     وأياً كان الأمر، فإن لعمر أبو ريشة صلة بالشعر العربي القديم، تزيد عند الدكتور الدهان، وتتضاءل عند الكيالي، وتتوسط عند الجندي الذي يشهد لعمر بحفظ الجيد المختار منه. ويمكن القول: إن عمر أبو ريشة لم يمتلك ناصية اللغة كما امتلكها البزم والجارم وعبد المطلب وحافظ وشوقي، لكن اطلاعه على الشعر العربي القديم وحفظه للجيد المختار منه أمداه بمخزون وافر كان يتعامل معه تعامل الصيدلي الماهر الذي يحدد عناصر أدويته ويختار نسبها بدقة بالغة، ولا غرابة في هذا لأنه كان يتأنى ويتعنى، بحيث يمكن أن يعد من مدرسة عبيد الشعر، ولذلك قال وهو محق فيما قال في جوابه للأستاذ حاتم صادق حين سأله: كيف تكتب الشعر؟: «علاقتي بالشعر بعيدة الجذور، وكل كلمة أستعملها أدرسها وأعيها وأعرف موقعها وأبعاد معانيها، الشعر عندي عالم فسيح بلا حدود أجوبه بملء حريتي متى شاء لي الإحساس»[26].

     وإذا كان الشعراء الذين درسوا اللغة العربية دراسة عميقة مثل البزم والجارم وعبد المطلب وحافظ وشوقي قد تفوقوا على عمر أبو ريشة في معرفة هذه اللغة فإنه قد تفوق عليهم في استخدامه لما يعرفه منها، فلغته أكثر خصوصية وتفرداً، وعليها بصمات ذوقه الحاد الخاص، وهم بالتراث ألصق، وهو بذاته ألصق، وربما أمكن أن يعزى شيء من شعرهم لسواهم، ولكن هذا الإمكان يكاد يستحيل مع شعره لتفرده وخصوصيته، فلغته بنت اختياره لا بنت محفوظاته، وهي منتقاة لا عامة، ومحسوبة لا مترهلة.

     وإذا كان الأسلوب هو الرجل فإن ذلك يصدق على عمر أبو ريشة بأكثر مما يصدق على سواه، فشخصيته القوية الحية المتأبية على القيود والرافضة للتقليد، والمستجيبة لذاتها ودوافعها ظهرت في شعره شكلاً ومضموناً، وما أصدق ما قاله الأستاذ مصطفى عبد اللطيف السحرتي في هذا الصدد!: «وهناك عنصر يؤثر في الأسلوب وهو شخصية الشاعر، وهو عنصر وإن كان خفياً فهو بالغ الأهمية، وهو بمثابة الروح الخفي في الكائن الحي. وهذا العنصر الروحي لو صحت التسمية يطبع الأسلوب بطابعه، ويكشف عن صورة صاحبه، فكياسة الشاعر تطبع أسلوبه الشعري، كما نجد ذلك في مثل أسلوب إسماعيل صبري. وحيوية الشاعر وهي من جواهر الشخصية تلد أسلوباً قوياً مليئاً بالحركة والحياة كما نلحظ ذلك في مثل أسلوب عمر أبي ريشة»[27].

     وإذا كانت كياسة إسماعيل صبري تطبع شعره بالرقة المفرطة، فإن حيوية عمر أبو ريشة تطبع شعره بالقوة والتفرد والمذاق الخاص لأن شخصيته القوية تطبع شعره بطابعها، صوراً ولغة وبناء وموضوعات. رحم الله عمر أبو ريشة لكأنه فصل تماماً بين شخصيته كدبلوماسي لبق كيس رقيق، وبين شخصيته كشاعر قوي فاعل مبادر يعبر عما يريد كما يريد شاعراً حياً جهيراً متحركاً، عاش ومات وهو ملء السمع والبصر، وكان حريصاً جداً على إتقان صنعته الفنية.
❊❊❊

     ويمكن أن توصف لغة عمر أبو ريشة بأنها لغة شاعرية بمعنى أنها تحتذي النموذج الأعلى الذي يبحث في لغة الشاعر عن الجمال والجرس والإيحاء والظلال. ولقد مرت على الأدب العربي فترة طلب «فيها المثالية في كل شيء، في البطولة، وفي الأخلاق، وفي الفن، وكان «المثال» في الشعر هو البحث عن اللفظة الجميلة المنتقاة التي تكاد تقف وحدها لوحة شعرية قبل أن تحتل موقعها في القصيدة، وكذلك الحرص على العبارة الأصيلة المتقنة، التي تعد امتداداً طبيعياً ومتأنياً لجزالة اللغة الشعرية القديمة. وقد ظل فريق كبير من الشعراء العرب يحتفظون حتى الآن بلغة المثال يحرصون على انتقاء اللفظة، ويحتفلون بصياغة العبارة، ويفرقون بحزم بين لغة الشعر ولغة الواقع، ولا يسمحون لأنفسهم بالانزلاق إلى تلك اللغة الجديدة التي خرج إليها الشباب. والاتجاه قوي متعدد الجوانب عند الشعراء للحفاظ على هذه اللغة المثالية. وهناك أعلام كبار في سورية خط كل منهم بشعره منهاجاً لمدرسة شعرية كاملة في بلده لها شعراؤها الكبار أيضاً. ومن هؤلاء بدوي الجبل الذي يقف على ذروة السلفية الشعرية بديباجته العربية الصافية، وعبارته الناصعة، وألفاظه المتفردة، وعمر أبو ريشة الذي يعد خير من تمثل عناصر الرومانسية والرمزية من غير أن يذهب «بمثالية» لغته، بل إن رومانسيته ورمزيته جعلتاه أكثر تمسكاً بهذه المثالية»[28].

     يقول عمر أبو ريشة في قصيدته «المنحنى» التي مهد لها بهذه المقدمة النثرية: «كانا يتجولان في إحدى روابي كشمير الساحرة، وقالت له: كل هذا الجمال لنا، ثم صمتت في خشوع، ثم بكت»:

أمسـكت بــي باسمة لاهيَــــــةْ     على حواشي الربــوة الزاهيَةْ
وملـــــت في صمت وطوقتني     وملء عينيك رؤى خافيــــــة
رفيقـتي أكـــرم ما في غـــــــد     حكاية الخمــــر عن الداليــــة
سنقطع الدرب عـلــى المنحنى     وللسنا الإيمـــــــاءة الهاديــــة
وبَعْدنا يبقى الشــــذا والنـــدى     والنسمة الرائحــــــة الغاديـــة
والبلبل الشادي علــى أيكـــــة     والنرجس الحاني على ساقيـة
ونشوة العشاق في همــــس ما     قلناه في أيامنــــــا الماضيـــة
رفيقتي أهوت علــى ساعــدي     شاحبة، وانفجــــرت باكيــــة

     إن لغة الشاعر في هذه الأبيات لغة شاعرية مثالية، فهي موحية بألفاظها الجميلة ذات الظلال والإيحاء، وهي مصفاة منتقاة لا تجد فيها أثراً لما يسميه بعضهم لغة الواقع أو لغة الصحافة، وهي جميلة الجرس تزيد الوقع الموسيقي للبحر السريع الذي تجري عليه القصيدة وتثريه. وفي مفرداتها تكثر الكلمات الأنيسة التي تشي بالرضا والسكينة والهدوء الحالم واللذة النفسية الوادعة، مما ينسجم تمام الانسجام مع موضوع القصيدة والجو النفسي لدى الشاعر ورفيقته، حيث كانا يتجولان في منطقة بعيدة من كشمير، في ظروف تدل على الجمال الطبيعي والخلوة الهادئة، والبعد عن كل منغص قد يفسد التجربة التي صورها الشاعر، وكانت اللغة عوناً كبيراً له في هذا التصوير.

     هذه اللغة الشاعرية المثالية عند الشاعر التي أشاد بها الدكتور أحمد بسام ساعي يشيد بها باحث آخر هو الدكتور محمد عادل الهاشمي إشادة تعلي من قيمتها الجمالية الإيحائية البديعة، فيقول: «تطعيم الأسلوب الجزل باللفظة الموحية، سمة فنية برزت عند من جمعوا بين الثقافتين العربية والأجنبية، وقد عكس شعرهم المتأثر بالإسلام هذه الظاهرة، ويمثلها فنياً عمر أبو ريشة بتوفره على انتقاء اللفظة الجزلة الفخمة، وشحنها بالظلال الشاعرية الموحية، وكأننا أمام شعر يجاور شعر الفحول القدامى في شدة إحكامه ونسجه، ويفيض بالإيحاء والإمتاع في ظلاله وإلهامه»[29].
❊❊❊

     ولغة عمر أبو ريشة لغة صحيحة، فحيث تمضي في ديوانه تقابلك لغته الصحيحة المبرأة من الخطأ والعجمة والابتذال، ولا ريب أن مرد ذلك إلى قوة صلته بالشعر العربي بقطع النظر عن تنازع النقاد في حجم هذه الصلة، وإلى كونه شاعراً ذا أناة ينقح ويهذب ويراجع بحثاً عن الإتقان والكمال.

     يقول عمر أبو ريشة في قصيدته «شاعر وشاعر» التي ألقاها عام 1935م في الجامعة السورية بمناسبة المهرجان الألفي للمتنبي:

شاعر الخلد قف على قبــة الخلــ
               ــد وشاهد أئمــــــة الشعـــــــراء
هتفوا باسمك المضمــــخ بالمجــ
               ـــد وكدوا حناجـــراً من ثنــــــاء
قربوا عهدك البعيد فمــــــــــرت
               صور منه فاتنـــــــــــات الـرواء
شاعر العرب غض طرفــك فالــ
               ـعرب حيارى في قبضـة عسراء
يخجل المجد أن يرى الليث شلواً
               تحت أنيـــاب حيــــــــــة رقطاء
أين ملك في ظله ترقــــص النعـ
               ـمى وتشدو شبَّــــابـة العليــــــاء
أين لمع المـنى وحمحمة الخيـــــ
               ــل ووهج القنـا وخفـــق اللـــواء
الميامين يا غرام الميــــامـــــــيـ
               ـن يخوضون لجـــة من شقــــاء
القيود الثقـال عضت عليهــــــــم
               وجرى سمها علـــــــى الأحنــاء
فاعذرَنْ إن سرت خلال نشيـدي
               بحة من تفجـــــــــــع وعنــــــاء
كيف أهدي إليك بيض الأغانــي
               وجــــراح الأيــام خلـــف ردائي

     والأبيات قطعة من قصيدة طويلة نظمها الشاعر عام 1935م، أي وهو في منتصف العقد الثالث من عمره، بعد رجوعه من بريطانيا بسنوات قلائل، وحين ننظر فيها نجدها صحيحة اللغة، سليمة البناء، متينة التركيب، مما يدعم الرأي النقدي الذي يحكم للشاعر بقوة صلته بالشعر العربي القديم، وغزارة مخزونه منه. وتخلو الأبيات من أي ضعف أو ركاكة، وتنجو من كل خطأ أو عجمة، وتجمع إلى الجمال الصواب، وإلى الصحة الدقة.
❊❊❊

     وتحقق لغة عمر أبو ريشة قدراً من الاتساق بين التجربة النفسية التي تنقلها وبين الوقع الموسيقي للألفاظ، بحيث يتواءم هذا الوقع مع حالة الشاعر، مما يجعلنا أكثر تفاعلاً معها واتصالاً بها، وهذا ما قرره الشاعر زكي قنصل حين أشاد بقدرة عمر أبو ريشة، وقرر أنه بهره بسعة خياله ودقة صوره واختيار ألفاظه وتلاؤمها مع معانيه[30].

     يقول عمر أبو ريشة في قصيدته «عالم من نساء»:

جنباً إلى جنب نجــــر الخطـــــى
               وفي مآقينا احتضــــار العـــــزاء
كأننا طيفان قـــــــــــــد أفلتــــــــا
               من عالم الموتـــــى ودنيا الفنــــاء
لا لمسة منهـــــــــــــا ولا همسـة
               أشقى المنى ما ضاق عنه الشقـاء
وسلَّـنا من صمتنــــا موعـــــــــد
               نـادى به المرفــــأ مــــــر النـداء
وكان منــا موقف لــــــــــم يــدع
               في الشهقة الحــرى بقايــا رجـاء
تــدري وأدري أنهـــــــا فرقــــة
               ليس لنا من بعدهـــــــا من لقـــاء
سارت إلى المركب مشدوهـــــة
               معقودة أجفانهـــــــــا بالسمــــاء
وغاب في اليم وغابـــــــــت بـه
               وغاب عني عالـــــــم من نســاء

     والأبيات تنقل لنا تجربة حزينة، لكن هذا الحزن صامت لا جلبة فيه ولا ضوضاء، يسير فيه البطلان إلى حيث يفترقان دون أمل في لقاء قادم، هي تجربة حزن يتصف بالسكوت والاستسلام التام، ويمضي البطلان فيها صامتين كأنهما في مشهد جنائزي، يغوص كل منهما في أعماقه يتأمل ويراجع ويودع ويأسى ويحزن. وقد أحسن الشاعر في كلمات قصيدته حيث اختارها تعبر بجرسها عن التجربة كما عبرت عنها بدلالتها، فاللمسة والهمسة والانسلال والسماء والسير والنساء، تنقل لنا بحرف السين الوسوسة النفسية التي كانت تملأ بطلي التجربة، والضيق والشقاء والشهقة والفرقة تنقل لنا بحرف القاف حالة الضيق لديهما، وإذ يحقق حرف السين وقعاً موسيقياً ينسجم والاستسلام، يحقق حرف القاف وقعاً موسيقياً ينسجم والضيق، ذاك برنينه الهامس، وهذا بقلقلته المتحركة.

     وإذا رقت لغة الشاعر ولانت، وغلبت عليها الكلمات الشاعرية المصفاة كما رأينا في قصيدته «عالم من نساء»؛ فإنها تتخذ نمطاً مغايراً لذلك حين تدعو الحاجة، ففي قصيدة الشاعر الوطنية «يا عيد» نرى لغة جزلة قوية، وهو ما تستدعيه التجربة التي تعبر عنها القصيدة، وهي تجربة حدة وعنف وصراع وغضب. والفرق بين التجربتين استدعى الفرق بين اللغتين، وهو ما أدركه عمر أبو ريشة فصنعه مشكوراً. تقول قصيدته الوطنية «يا عيد»:

يا عيد ما افتر ثغر المجـــــد يا عيـد
               فكيف تلقاك بالبشـــــــرى الزغاريد
وكيف ينشق عن أطياف عزتنـــــــا
               يا عيد كم في روابي القدس مـن كبد
حلم وراء جفــــون الحـــــق موؤود
               طالعتنا وجراح البغي راعفـــــــــــة
وما لها من أســــاة الحـــــي تضميد
               فللفجيعة في الأفواه غمغمـــــــــــــة
وللرجولــــــــة في الأسمـــاع تنديـد
               فتلك راياتنا خجلـــــــــى منكســـــة
فأين من دونهــــــــا تلك الصناديـــد
               يا عيد كم في روابي القدس مـن كبد
ما بالها وثبت للثأر وانكفـــــــــــأت
               وسيفها فـــــي قـــراب الذل مغمـود
يا للشعوب التي قــــادت أزمتهــــــا
               على الليالي عبابيــــــــــد رعاديــــد
يا عيد كم في روابي القدس مـن كبد
               لها علـــى الرفـــرف العـلوي تعييـد
هيهات لن يشتـــكي ما طُلَّ من دمها
               فالحقـــد مضطرم والعــــزم مشدود
سينجلي ليـــلنا عن فجـــر معـــترك
               ونحن في فمــــه المشبــوب تغريــد

     لقد غابت عن هذه الأبيات تلك الكلمات الجميلة الأنيقة الرشيقة التي مرت بنا في القصيدة السابقة «عالم من نساء»، وحلت محلها كلمات ضخمة مجلجلة وقوية. وهو أمر يحمد للشاعر، فكلمات «عالم من نساء» موائمة لطبيعة التجربة التي توحي بالهدوء والذاتية والوداعة والسكون، وكلمات «يا عيد» موائمة لطبيعة التجربة وهي تجربة غضب وطني، ونقمة على البغي والظلم، وبطش العدو المغتصب، وذل القريب المتحكم، واستشراف لمستقبل قادم يصنعه وطنيون غاضبون أشداء يرفضون الضيم ويتمردون على القيود. ومثل هذه التجربة بعمومها وعنفها وشدتها تحتاج لغة تنسجم معها، وهو ما أحسن الشاعر فيه إذ صنعه، حين جعل لغة قصيدته لغة فخمة ضخمة داوية تقرع الأسماع بلجب وصخب، وكأنها النذير للعدو، والبشير للصديق.
❊❊❊

     والبناء اللغوي عند عمر أبو ريشة بناء متين محكم السبك متصل الأواصر، تتراص أجزاؤه تراصاً قوياً، كأن كل جزئية فيه تقع موقعها المقرر، بدون نبو أو معاظلة أو تعقيد، وبذلك تجمع إلى المتانة استرسالاً جميلاً، وإلى الإحكام تدفقاً عذباً، والأمثلة على ذلك كثيرة كقوله في قصيدته «جبل»:

معاذ خلال الــكبر ما كـنـــــت حاقداً
               ولا غاضبـاً إن عـاب مسراي عائب
فكم جبـــل يغــفـو على النجــم خــده
               وأذيـــــالـه للســــــائمات ملاعــــب
نظــرت إلى الدنيــا فلم ألف عنـــدها
               كبيـراً أداري أو صغـــــيراً أعـــاتب
وما هان لي في موقف العز موقـــف
               ولا لان لي في جانـب الحق جــانـب
فيا غربة الأحرار؛ ما أطول السرى!
               وملء غيابات الدروب غياهـــــــــب

     والأبيات كما يظهر لمن يقرؤها أكثر من مرة، محكمة البناء اللغوي إحكاماً شديداً، فالكلمة تقع في مكانها المحسوب، وهي تترابط مع أخواتها الأخريات لتشكل جملاً متينة الصلة، وثيقة العرى، لا تنافر فيها ولا تعقيد ولا صعوبة، والأدوات التي تصل بين أجزاء الجمل تزيدها متانة، لذلك يشعر المرء وهو إزاء هذه الأبيات أنه إزاء بناء باذخ مستو محكم متين، لا عوج فيه ولا نتوء. على أن هذا البناء المحكم لم يجر قط على الاسترسال والتدفق والعذوبة بحال، لذلك يستطيع المرء أن ينشد الأبيات مرة بعد مرة بغاية اليسر والسهولة دون أن يعاني من ذلك أي مشقة. وتلك ميزة تحسب للشاعر وتقدر.
❊❊❊

     لكن هذا البناء المحكم لم يأت دفعة واحدة؛ إنما كان حصيلة الدرس والأناة والاطلاع الواسع، يزكي ذلك أننا نجد لغة الشاعر في بواكير شبابه فيها الكثير من الضعف والحشو والقرب من اللغة المحكية، ولعل هذا ما دفعه إلى إسقاط الكثير من شعر شبابه الأول.

     ويسعفنا النظر في شعر البواكير بأمثلة على ذلك. ففي قصيدة «خاتمة الحب» يخاطب مرثيته قائلاً لها:

عفة البرد ما عهدت بـك الصمـــ     ــت قبيل اللقاء في كل حــــــــال
طوقيني بساعديك فلا خـــــــــــو     ف علينا من أعين العـــــــــــذال
ما أرى الموت مطفئاً شعلة الـــــ     ـحسن ولا بالمزيل سحر الجمـال

     وواضح ما في الأبيات من حشو نجده في قوله «في كل حال» و«ولا بالمزيل سحر الجمال» حيث لا تقدم العبارتان أي إضافة ذات قيمة، وواضح ما فيها من اقتراب من اللغة المحكية كقوله: «فلا خوف علينا من أعين العذال».

     وهذه القصيدة التي تعود إلى عام 1932م تكثر في لغتها هذه العيوب كقول الشاعر مخاطباً المرثية:

لو تعذبت في الحيـــــاة لقلـنا:     لم تطق نفسك احتمال العذاب

     وقوله في نهايتها معلناً تسليمه بقضاء الله تعالى:

حكــــــــــمة الله هـــــــذه ملؤهــــــــــــــــا الرْ
               رَأفة والعدل وكل الإنصاف فـي الأحكام[31]
ليــــــس لي ما أقـــــــول يا مــدع الـكــــــــــو
               ن فوقـــــع الســـــــــكوت فــوق الكــــــــــلام

     ونجد في رثاء الشاعر لحافظ إبراهيم نماذج كثيرة من هذه العيوب كقوله مشيداً بحافظ:

كان حلو اللسان يرحمه الله كريم الأخلاق أنس الندامى

     فعبارة «يرحمه الله» لم تضف إلى المعنى أي بعد جديد في هذا البيت الذي تغلب عليه النثرية والتقريرية.

     وكقوله مصوراً أحلام المرثي بعد موته:

تلك أحلامه العـذاب تبقـــــت     من زوايا مخـــــادع وهميــة
كعروس لما تمثلهـا الفكـــــــ     ـر بأفق القرائــــــح الشعرية
كلما أوشكـــت تميـــــل إليـه     نظمتهــــــــا أنامل البشريــة
وتراءت لـه صـروف لياليــ     ــه شخوصــاً إنسيــــة جنيـة

     ففي هذه الأبيات حشو وركاكة وضعف وقرب واضح من اللغة المحكية.

     وفي القصيدة التي قالها عمر أبو ريشة عام 1933م في تكريم الشاعر العراقي أحمد الصافي النجفي نجده يخاطبه بقوله:

كم تغنيت في بســـــاط عليـــــــه     نثــــرت أكــؤس وفض فــــــدام
وحواليه زمـــــرة من حســــــان     هن للنفـــــــس بغيــــــة ومــرام
هذه فوق صدرهـــا رقص العــو     د، وسالـــت من روحــه الأنغـام
تلك من نشوة الطلا تمضغ النطـ     ـق، وتغفــــو وفـي الشفاه ابتسـام

     والبيتان الأول والثاني جيدان، اللغة فيهما عالية محكمة فضلاً عن جودة التصوير، أما البيت الثالث فالحشو والابتذال نجدهما في العود الذي سالت الأنغام من روحه، وأما البيت الرابع فإن كلمة «تمضغ» تفسد الصورة مع طرافتها إذ تنقلها إلى جو المآكل والمآدب.

     وعلى كل حال تكشف المقارنة بين لغة عمر أبو ريشة في هذه النماذج المبتدئة وبين لغته في النماذج التي آل إليها أمره فيما بعد عن الأثر المحمود للصبر والمران والاطلاع والمعاودة.
❊❊❊

     على أن لغة عمر أبو ريشة التي نجت مما وجدناه فيها من عيوب في بواكير شعره لم تخل من عيب استمر بعد مرحلة الشباب، نجد ذلك في استدعائه للصفات والإضافات والمعطوفات بأكثر مما يستدعيه المعنى مما يفقد الشعر التكثيف الذي هو ميزة أساسية من مزاياه، ويسبغ عليه التسطح بكل ما يؤدي إليه من تباطؤ وترهل وإملال. وربما كان مرد ذلك إلى أن حجم الانفعال لدى الشاعر كبير بحيث لا يستطيع التعبير عنه من خلال اللغة المحكمة، فيهرب إلى هذا الاستدعاء، ويجمع الكلمات تجميعاً حتى يصل بها إلى آخر البيت حيث القافية.

     يقول الشاعر في قصيدة «خالد»:

نفحــات النبي والفتــــــح والعلــ
               ـيـاء والعـــز والنــــدى والبيــان

     وفي هذا البيت نجد «نفحات النبي» بكل ما تثيره في النفس من معان وذكريات، ثم نجد خمس كلمات معطوفة عليها عطفاً متصلاً يصيب البيت بالترهل والرتابة.

     وما وجدناه في هذا البيت نجد مثيلاً له في قوله في قصيدة «فراق» التي قالها في رثاء صديقه وقريبه جميل مراد:

ومسحت الشفــــه من قبـلات الـ
               ـحب والشوق والرضى والحنان

     ومثيلاً آخر في قوله في قصيدته «عام جديد» مصوراً أحزانه الخاصة والعامة في مطلع سنة جديدة:

وحــدي هنــا في حجــرتي     والليل والعــــــــام الوليــد
والكأس والغصص الحِــرا     ر، وغربة الحلـم البعيــــد
وتساؤل القلــــــــق المرير     ووطأة الصمـــــت المديـد

     على أن الإنصاف يقتضي القول: إن هذه الظاهرة التي يمكن أن نعدها من بقايا مرحلة البواكير قلت كثيراً مع النضج والمران، فلا نعثر عليها إلا قليلاً.
❊❊❊

     وفي شعر عمر أبو ريشة نجد مجموعة من التراكيب الجميلة التي تشيع في لغته وتكسبها جمالاً ورونقاً كقوله: كبرياء الألم، يتيم النغم، ملعب العز، مغنى الشمم، جباه الأنجم، غصة دامية، غبار التهم، طهر الصنم، المجد الظمي؛ في قصيدته الشهيرة «بعد النكبة».

     وكقوله في قصيدته «حماة الضيم»: سلافة حلمه، كآبة صمته، دهم الخطوب، كهف عبادة، جر السنين، حماة الضيم، جفن الحق.

     وكقوله في قصيدته «هكذا»: ترف الأيام، هانت الخيل، الخيام الشم، جيد أتلع، السبات الممتع، جياع خشع.

     وكقوله في قصيدته «حكاية سمار»: إغضاء سال، شموع شبابه، بقية زهوة، عبث الليالي، غيابات السرى، أشباح الونى، غوايات الفتون الآسر، بدعة الدنيا، تعربد اللذات، جيد النجم، جفن السامر، وحي ضلالة، قبر ضمائر، جواب الأعالي، مخضل الكمائم، سر العاصر، الحرف الحرون، الوتر الحنون، شفوف الليل، تابوت الشباب، رفات أهداب، بوح سرائر، سكرة المذبوح.

     وكقوله في قصيدته «الفارس»: صهوة المجد، البسمة اللعوب، حلف الكبر، أورق الرمل، سيرة السيوف، أسرى التراب، شوق السماء، دأبك الوهب. وكقوله في قصيدته «في طائرة»: طلعة ريا، ألحاظ كسالى، بوركت صحراؤهم، حملوا الشرق.

     وكقوله في قصيدته «معبد كاجوراو»: وهب الأمان، وقفة عنفوان، نثر الفتون، نضوا صبوة، غوية ظمأى، رعشة محمومة، مساحب الأردان، أقنعة الحياة، أولى فأولى.

     وكقوله في قصيدته «طلل»: حوافر خيل الزمان المشت، كف الدمار، ينفض الوهم أشباحه، ينتحر الموت.

     وكقوله في قصيدته «لبنان»: فتون سرمدي، معبد النجوى، أحشاء الثرى، خد الفرقد، الزمان الأمرد، مئزر من زبد، شفاه الأبد.

     وكقوله في قصيدته «إفرست»: عاصب الغيم، مجلى الأرض، المترف الشيق، غوي السنا.

     وكقوله في قصيدته «نسر»: فحيح سعير، الضحى المخمور، فضلة الإرث، جنون الكبر، ضمير الأثير، نشت الآفاق، وكره المهجور.

     وكقوله في قصيدته «دليلة»: الغمائم المجدولة، فجاءة مستحيلة، مخابئ كهف، الصبر المبرح، وشاح الليل، أشلاء قهقهات.

     وكقوله في قصيدته «خالد»: راويات الزمان، أجنحة الإلهام، غصة الظمآن، هبوب الأجيال، انفلاتي من الغيوب، هاجس رحماني، الأمل العاتب، وشاح البطولة، زغردة النصر، أنشودة الجهاد، دمعة التكفير، ضلوع اليرموك، الطيوف الحسان، الليالي الكسالى، لا رعاني الصبا، فمي ضريح لساني، عرشها الرث، منار الإباء.

     هذه التراكيب من مضاف ومضاف إليه، وصفة وموصوف، وفعل وفاعل، وفعل ونائب فاعل، وفعل وفاعل ومفعول به، ومبتدأ وخبر، تراكيب فيها طرافة وجمال وجدة، وفيها بصمات الشاعر وذوقه واختياره، الأمر الذي يدل على أنه كان يتأنى في شعره ويتعنى وأنه كان حقاً كما وصفه الدكتور حسن ظاظا فناناً في اختيار الكلمات المؤثرة ، وأن ما قاله عن نفسه من أنه يدرس كل كلمة يستعملها ويعيها ويعرف موقعها وأبعاد معانيها صحيح تماماً[32].

     والتأمل في التراكيب السابقة وأمثالها يكشف عما فيها من جمال وخصوصية، وبعضها لا يملك الإنسان إلا أن يقول: هذه بصمات عمر أبو ريشة تطالعنا فيها كقوله: سلافة حلمه، غيابات السرى، وغوايات الفتون الآسر، شفوف الليل، طلعة ريا، وقفة عنفوان، نضوا صبوة، مساحب الأردان، حوافر خيل الزمان المشت، ينتحر الموت، ينفض الوهم أشباحه، فحيح سعير، الضحى المخمور، جنون الكبر، ضمير الأثير؛ بل إن هذه التراكيب يمكن اعتبارها اختراعاً من اختراعات الشاعر، حيث يشعر الدارس بجدتها وطرافتها، وأنها شيء جديد لعله يطالعه للمرة الأولى.

     وإذا دل هذا على تعنِّي الشاعر وتأنِّيه وصبره، فإنه يدل كذلك على أصالته التي تأبى إلا أن تعبر عن ذوقها الخاص، وقدرته التي تجعله يتعامل مع اللغة تعامل الصائغ المقتدر الذي يشكل من مفــــرداتها تراكيب تعرف به ويعــــرف بهـــا. إن اللغة مـــورد متـــاح لكل أديب وكاتب وشاعــــر، لكن الذي يتعامل معها بهــــذه الخصوصيـــة والتفـــرد قليــــل جـــداً ومنهم عمر أبو ريشة.
❊❊❊

المعجم الشعـري:

     وإذا كان لكل شاعر طريقته الخاصة في صوره وموسيقاه وموضوعاته؛ فإن له أيضاً «معجمه الشعري الخاص، يكرر ألفاظاً يتكئ عليها في أكثر قصائده، ويسوق عبارات نجدها في أماكن عديدة من شعره. ولكن من الشعراء من تكون ألفاظه وعباراته حادة المذاق لو جاز التعبير، يبقى أثرها طويلاً على لوحة النفس بسبب الشحنة الشعرية أو الشعورية القوية التي غذاها بها الشاعر من ناحية، وبسبب امتيازها الحاد عن ألفاظ الشعراء الآخرين وعباراتهم من ناحية ثانية. فإذا ما تكررت عند الشاعر نفسه بعد ذلك أحسسنا برنينها القديم ما يزال في آذاننا وأدركنا بسرعة البديهة أن تشابهاً ما قد وقع بين هذه القصيدة وبين ما سبقها من قصائد للشاعر. ويمكن أن نقول: إن ألفاظ نزار قباني وعباراته في معظمها من هذا النوع الحاد الطعم، وما أسهل اكتشاف التشابه والتكرار عنده لهذا السبب!.. وقد تكون لغة عمر أبو ريشة أيضاً في مثل هذه الحدة والتميز».

     وحين نمضي في ديوان الشاعر نجد أن له بالفعل معجمه الشعري الخاص الذي لا نخطئ اكتشاف بصماته عليه، ولا نخطئ أن نرى فيه تلك الكلمات المتميزة ذات المذاق الحاد على حد تعبير الدكتور أحمد بسام ساعي، وهذه محاولة لحصر أهم الكلمات من خلال متابعتها في ديوانه: المنى، نعمى، الحلم، الذكرى، السنا، النجوى، الذهول، الطيف، الرؤى، السراب، الزهو، البغي، النجم، النسر، الطهر، الرجس، يهمي، مخضل، الجناح، هيكل، البيد، المئزر، المزهر.

     وإذا كانت الكلمات السابقة تمثل أهم المعجم الشعري عند الشاعر، فإن هناك كلمات أخرى من هذا المعجم تشيع في شعره ولكن بدرجة أقل وهي:

     جرح، شرف، جمال، جلال، جنة، عز، ذل، بطولة، رجولة، إباء، وطن، مجد، شباب، هوى، طيب، ضيم، حقد، نخوة، خيل، فرسان، سيوف، خيام، نشيد، فتون، غواية، ضلالة، بوح، دموع، عناد، شموخ، علا، شموس، فتوح، آلام، أحلام، كؤوس، دروب، زحام، رمل، موت، بدعة، أحرار، أغلال، حرمان، غصص، غناء، زهراء، نجي، صحراء، ظفر، شرق، راعف، حوافر، وهم، مترف، وحشة، سفح، جبل، شبح، غيهب، سمار، خمر، أقداح، صبا، نشوة، خميلة، جدول، شيق، ريق، شقي، إثم، زورق، مجداف، طلعة، عفاف، عزاء، صدأ، عربدة، كفن، إيمان، هدى، تاريخ، جهاد، صلاة، كتائب، حداء، جاهلية، مروءة، كبرياء، ألم، دنيا، يتيم، ملعب، مغنى، شمم، جباه.

     ويمكن أن ترد هذه الكلمات التي مثلت أبرز ما في معجم عمر أبو ريشة الشعري إلى أمرين يعبران عن الشاعر تعبيراً أميناً. ذلك أن تكرار عناصر لغوية معينة يوحي بسيطرتها وإلحاحها على صاحبها فهي لاتفتأ تنبثق عنه باستمرار:

الأول: إباء الشاعر وشموخه وعنفوانه واعتزازه بالإسلام نبياً وقرآناً وتاريخاً وحضارة وحبه للعرب وصحرائهم وفروسيتهم ومروءتهم، وغيرته على وطنه الذي تتكاثر عليه الجراح بين عجز القادة وهجمة الغاصب والمحتل، وهذا ما تمثله كلمات: الشرف، الجلال، العز، البطولة، الرجولة، المروءة، الوطن، المجد، الفتوح، الإيمان، الجاهلية، الكتائب، الجهاد، وما إليها.

الثاني: تجارب الشاعر الشخصية في الغزل واللهو والعبث وهو ما تمثله كلمات: الشباب، الطيب، الفتون، النشوة، الخميلة، الشيق، الريق، الطهر، الإثم، الطلعة، الغواية، الزهو، الحرمان، الوهم، الترف، السمار، الطيف، وما إليها.

     ودارس عمر أبو ريشة يجد أن هذين الأمرين أهم ما ألح على هذا الشاعر الجهير الذي انسجم مع نفسه في شعره تمام الانسجام وعبر عنها بفضائلها ونقائصها، واهتماماتها العامة واهتماماتها الخاصة.
❊❊❊

--------------------
[1] M.H.Abrams, A. Glossary Of Literary, Rinehart and Winston, New York, U.S.A. P.140.
[2] الطاهر أحمد مكي، الشعر العربي المعاصر، روائعه ومدخل لقراءته، ص76.
[3] سيد قطب، النقد الأدبي أصوله ومناهجه، بيروت والقاهرة، دار الشروق، ص68.
[4] المرجع السابق، ص71.
[5] المرجع السابق، ص69.
[6] عز الدين إسماعيل، الأسس الجمالية في النقد العربي، ص340.
[7] أحمد بسام ساعي، حركة الشعر الحديث في سورية من خلال أعلامه، ص232.
[8] النعمان القاضي، أبو فراس الحمداني الموقف والتشكيل الجمالي، ص395.
[9] سيد قطب، كتب وشخصيات، ص45.
[10] المرجع السابق، ص45-46.
[11] النعمان القاضي، أبو فراس الحمداني الموقف والتشكيل الجمالي، ص379.
[12] عاطف جودة نصر، الخيال مفهوماته ووظائفه، ص181.
[13] الوساطة بين المتنبي وخصومه، ص24.
[14] شوقي ضيف، فصول في الشعر ونقده، ص303.
[15] شعراء سورية، ص116.
[16] المرجع السابق، ص125-126.
[17] الأدب العربي المعاصر في سورية، ص307.
[18] الشعراء الأعلام في سورية، ص311.
[19] المرجع السابق، ص311.
[20] المرجع السابق، ص322.
[21] دراسات في الشعر العربي المعاصر، ص244.
[22] القصائد الإسلامية الطوال في العصر الحديث قراءة ونصوص، ص181.
[23] جريدة الرياض، الرياض، 28/ 12/ 1412هـ= 29/ 6/ 1992م.
[24] من رسالة شخصية بعثها إلى الأستاذ عبد العزيز الرفاعي، عنوانها "ذكريات عن عمر".
[25] في زيارة خاصة للدكتور حسن ظاظا في منزله في الرياض، عام 1412هـ/ 1992م.
[26] جريدة الشرق الأوسط، لندن، 1/ 9/ 1990م.
[27] الشعر المعاصر على ضوء النقد الحديث، ص68-69.
[28] أحمد بسام ساعي، حركة الشعر الحديث في سورية من خلال أعلامه، ص195.
[29] أثر الإسلام في الشعر الحديث في سورية من 1920م إلى 1946م، ص258.
[30] من رسالة شخصية بعثها إلى الأستاذ عبد العزيز الرفاعي، عنوانها "ذكريات عن عمر".
[31] هذا البيت فيه زيادة في الوزن، وقد أثبته بعض الدارسين كما هنا، وعند هاني الخير في كتابه "قيثارة الخلود"، وجاء عند د.عمر الأسعد في كتابه "قطاف الستين":
حكمة الله هــذه ملؤهـــــــا العَدْ = لُ، وكل الإنصاف فـي الأحكام
وهذه إفادة من الدكتور عمر خلوف. (المُراجع).
[32] في زيارة خاصة للدكتور حسن ظاظا في منزله في الرياض، عام 1412هـ/ 1992م.

الأكثر مشاهدة