السبت، 25 ديسمبر 2021

التسامح الديني اختراع إسلامي

التسامح الديني اختراع إسلامي

     ربما كنا جميعاً نحفظ كلمة الكاتب الفرنسي المشهور غوستاف لوبون التي يقرر فيها حقيقة كبيرة من حقائق تاريخنا وحضارتنا، ومن حقائق التاريخ البشري العام كله والحضارة الإنسانية جمعاء، وهي تلك التي يقول فيها: "إن الأمم لم تعرف راحمين متسامحين مثل العرب ولا ديناً سمحاً مثل دينهم". إنها كلمة منصفة هي في الحقيقة إنصاف للحق والتاريخ قبل أن تكون إنصافاً للعرب والمسلمين.

     والآن إليك هذه الشهادة الضخمة لحبر كبير من أحبار النصرانية هو ميخائيل الأكبر بطريرك أنطاكية الذي عاش في النصف الثاني من القرن الثاني عشر، أي بعد أن خضعت الكنائس الشرقية للحكم الإسلامي خمسة قرون، يؤكد ميخائيل الأكبر في هذه الشهادة تسامح المسلمين، واضطهاد الروم للكنيسة الشرقية. يقول الرجل: وهذا هو السبب في أن الله الذي تفرد بالقوة والجبروت والذي يزيل دولة البشر كما يشاء ويؤتيها من يشاء ويرفع الوضيع، لمّا رأى شرور الروم الذين لجؤوا إلى القوة فنهبوا كنائسنا وسلبوا ديارنا في كافة ممتلكاتهم، وأنزلوا بنا العقاب في غير رحمة ولا شفقة، أرسل أبناء إسماعيل "يعني العرب" من الجنوب "يعني الجزيرة العربية" ليخلّصنا على أيديهم من قبضة الروم، وفي الحق إننا إذا كنا قد تحملنا شيئاً من الخسارة بسبب انتزاع الكنائس الكاثوليكية منا وإعطائها لأهل خلقيدونية، فقد استمرت هذه الكنائس التي في حوزتهم، ولما أسلمت المدن للعرب خصص هؤلاء لكل طائفة الكنائس التي وجدت في حوزتها، وفي ذلك الوقت كانت قد انتزعت منا كنيسة حمص الكبرى وكنيسة حوران، ومع ذلك لم يكن كسباً هيناً أن نتخلص من قسوة الروم وأذاهم وحنقهم وتحمسهم العنيف ضدنا وأن نجد أنفسنا في أمن وسلام.

     هذه الشهادة المنصفة تدل على كذب أولئك المتعصبين ضد تاريخنا الذين يزعمون أننا كنا قساة أكرهنا الناس على الدخول في ديننا وعاملنا غير المسلمين بقسوة واضطهاد، فعلى العكس كانت حقائق التاريخ من ناحيتنا ومن ناحيتهم.

     أما من ناحيتنا فقد كان التسامح أصلاً عريقاً عندنا، وأما من ناحيتهم فقد كان التعصب والبغي غالباً على ما يفعلون، وإن مخازيهم أثناء الحروب الصليبية مثلاً ليندى لها الجبين حياء وخجلاً، بل إن مخازيهم في اضطهاد بعضهم لبعض، مما لا ينكره أي دارس، وإن الذي جرى بين البروتستانت والكاثوليك كان أمراً في غاية الفظاعة والوحشية، يظهر ذلك بوضوح - مثلاً - في مذبحة "سان بارتلمي" أما مآسي محاكم التفتيش في القرون الوسطى فقد كانت قمة في الهمجية والضراوة، ولا يزال وجدان الحضارة البشرية يحمل عنها أسوأ الذكريات لما كان فيها من فجائع ومظالم وتفنن في تعذيب الضحايا.

     إن ذلك كله، وثمة الكثير الذي يشبهه ينهض دليلاً لا يرد على أن الغربيين في جملتهم، قوم قساة القلوب، وهم من أشد الناس تعصباً وحقداً على مخالفيهم في الرأي والعقيدة حتى لو كانوا من أبناء جلدتهم ودينهم، وأنهم من أشد شعوب الأرض بطشاً وفتكاً، وأنهم لم يعرفوا التسامح الديني خلال تاريخهم في العصور كلها، ولا يزالون حتى اليوم يتحكم فيهم هذا التعصب بدرجات متفاوتة، على أن الإنصاف يدعو إلى الشهادة أن التسامح الديني في الغرب تزداد مساحته ازدياداً ملحوظاً مشكوراً، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم.

     لقد منح الإسلام الذي يعلي الإنسان، ويطهر نفسه، ويعتق روحه، ويزكي سريرته، الفرصة للناس جميعاً أن يتفيؤوا ظلاله الواسعة مسلمين كانوا أم كافرين، فإذا بروحه المتسامحة الكريمة تنشئ ضروباً رائعة جداً من التسامح ليس لها مثيل لا في قديم ولا في حديث، ولقد كان رجال الدين المسيحي في ظل الدولة المسلمة، يُعْطَوْنَ سلطة الإشراف التام على رعاياهم في جميع شؤونهم الدينية والكنسية، ولا تتدخل الدولة المسلمة في ذلك، اللهم إلا في حل المشكلات التي تنشأ بين مذاهبهم لتنصف بعضهم من بعض، فقد كان الملكانيون مثلاً يضطهدون أقباط مصر في عهد الروم ويسلبونهم كنائسهم، فلما فتحت مصر، رَدَّ المسلمون إلى الأقباط كنائسهم وأنصفوهم، ثم تطاول الأقباط بعد ذلك على الملكانيين انتقاماً منهم وثأراً لما كانوا قد فعلوه بهم قبل الفتح الإسلامي، فشكوا ذلك إلى هارون الرشيد، فأمر باسترداد الكنائس التي استولى عليها الأقباط في مصر، وردها إلى الملكانيين بعد أن راجعه في ذلك بطريركهم. وكانت الوظائف في الدولة تمنح للمستحق، وكان الأطباء النصارى في العهدين الأموي والعباسي محل الرعاية لدى الخلفاء، وكان لهم الإشراف على مدارس الطب في بغداد ودمشق زمناً طويلاً، كان ابن أثال النصراني طبيب معاوية الخاص، وكان سرجون كاتبه، وقد عيّن مروان أثناسيوس مع آخر اسمه إسحاق في بعض مناصب الحكومة في مصر، ثم بلغ مرتبة الرئاسة في دواوين الدولة، وكان واسع الثراء عظيم الجاه.

     ثمة شاهد ضخم هائل هتف به بعض النصارى، يدل على تسامح المسلمين الواسع وهو ما جعل نفراً من أبناء الدين المسيحي يفضلون أن يقعوا تحت الحكم الإسلامي، على أن يقعوا تحت حكم طائفة نصرانية مخالفة.

     قبيل أن يفتح السلطان العبقري المجاهد محمد الفاتح القسطنطينية، فكّر كثير من أبناء هذه المدينة بالاستعانة بروما، ومن المعروف أن هناك خلافاً تاريخياً واسعاً بين كنيسة روما وكنيسة القسطنطينية، تمثل هذا الخلاف في عداء واسع بل وقتال واجتياح واضطهاد.

     وحين شدد محمد الفاتح قبضة حصاره على القسطنطينية، ارتفعت فيها أصوات من بعض أبنائها، تطالب ببذل الجهد للحصول على معونة روما ونجدتها، ولكن أصواتاً معارضة أخرى ما لبثت أن وقفت ضد هذا المطلب، وأخذت تهتف وفي مخيلتها فظائع المسيحيين اللاتين بمدينتها واضطهادهم للمسيحيين الشرقيين في القسطنطينية قائلة بأعلى صوتها: لأَنْ نرى في القسطنطينية عمامة المفتي خير من أن نرى قبعة الكاردينال.

     وكان صاحب هذا الشعار الذي عبّر عن عواطف كثير من أهل القسطنطينية في تفضيلهم عدل المسلمين الغرباء على ظلم إخوانهم المسيحيين، واحداً من أهم الشخصيات السياسية في القسطنطينية يومذاك، وهو الدوق نوتاراس.

     وهكذا حفل تاريخنا الطويل بأمثال هذه المواقف العادلة إزاء غير المسلمين، ولا غرابة فالإسلام هو رسالة الله الأخيرة للناس جميعاً، وقد رتّبت كل شيء، وهيأت فرصة العيش الكريم الحر، للبشر أجمعين، مسلمين وغير مسلمين.

     وبعد:

     فلا يمكن لعاقل أن يزعم أن تاريخنا لم تكن فيه أخطاء، بل كانت فيه أخطاء تقل وتكثر، وكانت فيه مظالم تصيب الناس من مسلمين وغير مسلمين، لكنه كان - في جملته - أكثر تواريخ البشر رحمة وعدلاً وتسامحاً، وهو ما قرره غوستاف لوبون في جملته الشهيرة التي تم افتتاح هذا المقال بها، كما قرره غيره من المنصفين قبله وبعده.

     وللشيخ محمد الغزالي رحمه الله، جملة بديعة يحسن إيرادها في هذا المجال، فيها دقة، وإيجاز، وإبداع، يقرر فيها أن التسامح الديني إنما هو "اختراع إسلامي" ذلك أن الإسلام أول من بدأه وأن المسلمين أول من طبقوه.

* * *

الطمع القاتل

الطمع القاتل

مستقبل اليهود في فلسطين كما يراه محمد أسد

     من أمتع السير الذاتية، وأكثرها تشويقاً، كتاب المهتدي النمساوي "محمد أسد - ليوبولد ﭬايس سابقاً "، الذي روى فيه - من بين ما روى - قصة تحوله من اليهودية إلى الإسلام، وقد ترجم الكتاب إلى العربية، وطبع مرة باسم "الطريق إلى الإسلام"، ومرة أخرى باسم "الطريق إلى مكة". والكتاب جدير بأن يوضع بين أيدي غير المسلمين ممن ترجى لهم الهداية لأنه عون كبير لهم على الوصول إليها. لقد قرأت هذا الكتاب عدة مرات، وفي مراحل مختلفة من حياتي، ومع ذلك لا زلت أجد في قراءته متعة فكرية وأدبية وتاريخية ودعوية. وأتمنى أن ينهض بعض المخرجين بمهمة تحويله إلى فلم سينمائي أو مسلسل تلفزيوني.

     وللمرحوم محمد أسد كتاب صغير الحجم اسمه "الإسلام على مفترق الطرق" وهو كتاب عميق الفكر، دقيق النظر، فيه غيرة على الأمة، وتحذير لها من مخاطر التغريب، ولو أن مؤلفه سماه "المسلمون على مفترق الطرق" لكان العنوان أكثر دقة ودلالة. ولقد تمنيت كثيراً أن تتاح لي فرصة لقاء المؤلف، ومحاورته، وسؤاله عما جاء في سيرته الذاتية، وعن مستقبل اليهود في فلسطين، وانتظرت، حتى يسّر الله عز وجل لي ذلك على غير سعي مني ولا تدبير، وكل شيء عند الله بمقدار.

     كان ذلك في عام 1399هـ - 1979م، حين وصلت إلى طنجة صيفاً في أول زيارة لي للمغرب العزيز، وقد علمت أن المرحوم كان مقيماً فيها، ومن خلال استعلامات الهاتف حصلت على رقمه واتصلت به، فرحب بي كثيراً، وزارني في الفندق، وهو في غاية السرور، وعانقني وهو يبكي، إذ وجد من يسأل عنه وهو في بلد غير بلده الأصلي، شيخ عجوز، انقطعت جذوره مع ذويه بسبب هجرته وإسلامه، ولا يكاد يعرفه أحد في طنجة، ويعيش مع زوجته في بيت هادئ، واسع، مع الذكريات والوحدة، وأعباء الشيخوخة، ذلك أنه كان في التاسعة والسبعين من عمره، لأنه من مواليد 1900م ولأن له ولداً وحيداً اسمه طلال، من زوجة أخرى يعيش في بريطانيا.

     زرته في البيت، وكانت فرحة لي وله لا توصف، وسألني كيف تعرفت إليه فأجبته، لقد كان كالعصفور بلله القطر في يوم صائف، فرح وانتفض، وأخذت الذكريات تتداعى من خلال الأسئلة والأجوبة، وأخذ يريني بعض صوره المحفوظة لديه، ويشرح لي ظروفها، وكأنه وجد من يفرغ لديه شحنة كبيرة، من الخواطر والذكريات والكلام الحبيس، ووجد من يهرب إليه من وحدته ونسيان الناس له. وقد حاولت أن أكون له عوناً حقيقياً في ذلك.

     طال الحديث وامتد وتنوع، فوجدت فيه دليلاً جديداً على ذكاء الرجل، وثقافته، ومعرفته العميقة بالمسلمين ما لهم وما عليهم، وبالغرب ما له وما عليه، فضلاً عن مقدرته البيانية، وحسن إدارته للحوار، حتى إني عجبت - ولا أزال - من قلة إنتاجه، مع هذه المزايا المهمة، ومع سعة وقته وعزلته وعمره الطويل.

     لم أسأله عن ذلك، وليتني فعلت، لكنني سألته عن أمر أهم. قلت له: أنت رجل يهودي تحول إلى الإسلام تحولاً صادقاً عميقاً، بعد تأمل، ومعاناة، ومقارنة، وترحال، وهو ما يجعلك أقدر منا على التنبؤ بمستقبل صراعنا مع اليهود في فلسطين، فماذا أنت قائل؟

     فقال لي: يا بني، اليهود قوم حمقى، لا يتعلمون من عبر التاريخ، ولا يستفيدون من أخطائهم، فيهم الغرور، وفيهم الطمع، وهذا هو المقتل. إنهم يشبهون القرد الذي روى حكايته الحكيم اليوناني "إيسوب" في قصصه التي تشبه قصص "كليلة ودمنة" في أدبنا العربي، وخلاصتها أن رجلاً كان لديه قرد، وذهب خارج بيته لحاجة طرأت له، فسر القرد، ذلك أنه رأى جرّة فيها جوز، فسارع إليه ليأكله، مدّ يده داخل الجرة وأمسك بجوزة وحاول إخراجها فلم يستطع لأن يده تكوّرت بسبب الجوزة التي قبض عليها، فضاقت عليه فتحة الجرة، لذلك لم يكن أمامه بد من أن يترك الجوزة لتعود يده إلى وضعها العادي فيستطيع إخراجها من الجرة، لكن طمعه منعه من ذلك، وظل حاله على ما هو عليه، يده تمسك بالجوزة داخل الجرة وقد تجمدت عليها، حتى جاء صاحبه، فضربه، فحلت به عقوبة مطامعه. قال: وهكذا اليهود في فلسطين، إن عقوبة الطمع تنتظرهم، وسوف يتركون فلسطين كارهين، كما ترك القرد الجوزة في الجرة كارهاً.

     لم أنس ما قاله لي محمد أسد وقارنته بسلوك اليهود قديماً وحديثاً، فازددت به اقتناعاً، إن المشروع الصهيوني في فلسطين بلغ ذروته عام 1967م، ثم بدأ يتجمد، ثم بدأ يتآكل، وأمارات نهايته تزداد يوماً بعد يوم، ونحن المسلمين في صعود، وهو في هبوط، والمستقبل لنا بإذن الله، وإن موعدهم الصبح وإن الصبح لقريب.

* * *

مع الحاج أمين الحسيني

مع الحاج أمين الحسيني

عبرة وذكرى

     مع كثرة ما كتب عن اليهود والصهيونية في العالم العربي، يمكن للمرء أن يقرر أن هذا العدو لا يزال مجهولاً لدى الكثيرين، نظراً لأن معظم ما كتب عنه كان كلاماً عاطفياً حماسياً يتبدد بسهولة بعد حين من الزمن، ومن هنا تبدو الحاجة ماسة إلى دراسات علمية موضوعية جادة مستقصية تكشف حقيقته ومخاطره ومطامعه.

     على أنك لا تخطئ أن تجد بعض العارفين معرفة دقيقة بهذا العدو، بحيث تصلح كتاباتهم وأقوالهم وآراؤهم أن تكون وثائق وشهادات ومراجع يمكن الاعتماد عليها، وينبغي إشاعتها ومن هؤلاء عبد الله التل والحاج أمين الحسيني في الجيل الماضي والدكتور عبد الوهاب المسيري هذه الأيام.

     والحاج أمين الحسيني شخصية غير عادية، فقد عاشت طويلاً، وشرّقت وغرّبت، وجعلت همها الأول التعريف بخطر اليهود والصهاينة، والدفاع عن فلسطين بكل ما تقدر عليه، حتى صار مع الزمن رمزاً للقضية الفلسطينية، وأباً للمجاهدين من أبنائها، نال ذلك بجدارة تامة، هي حصيلة مواقفه، وشجاعته، ومغامراته، ودأبه، ووعيه المتقدم، وسمته الديني، وإصراره على أن قضية فلسطين قضية إسلامية قبل كل شيء، وهو ما جعل له ولها حضوراً واسعاً في العالم كله، وبخاصة بين العرب والمسلمين.

     يقول المرحوم أمين الحسيني: لقد بلونا هذا العدو وخبرناه، وأدركنا مدى تصميمه على استئصال شأفتنا وإبادتنا، كما أدركنا مدى خطره على العرب والمسلمين جميعاً، ومن هنا جاء اعتقادنا أن لا حل لقضية فلسطين ولا درء لهذا الخطر الداهم إلا الجهاد، الجهاد الصادق، الطويل النفس، المنبثق عن العزم والتصميم وإرادة القتال، ونعتقد أن الأمة الإسلامية لن يكون لها مبرر أمام الله والتاريخ والأجيال القادمة إذا هي تقاعست أو فرطت لأنها تملك جميع أسباب القوة والمنعة وهي بالتالي قادرة على تحقيق النصر بإذن الله.

     ويمضي المرحوم أمين الحسيني، مفتي فلسطين ورمزها، أيام قيادته لحركة الجهاد ضد الصهاينة، يحشد الأدلة على صحة رأيه، فيقرر أن الأمة العربية تجاوز عددها 100 مليون، وأن زيادتها السنوية أكثر من ثلاثة ملايين، وأن الأمة المسلمة تجاوز عددها 700 مليون، وأن زيادتها السنوية أكثر من عشرين مليوناً، وهو ما يجعل قدرة العرب والمسلمين على القتال والتعويض والتجدد كبيرة جداً خلافاً للصهاينة المعتدين، وهو يذكر بطبيعة الحال الأرقام التي كانت في أيامه، أما الآن فهي أكبر بكثير، وهو ما يؤكد صدق نظرته، وصحة استشرافه للمستقبل.

     ثم يمضي الزعيم الفلسطيني - في سياق حشد أدلّته لإثبات وجهة نظره - فيتحدث عن إمكانيات الأمة فيقول: ومن حيث الإمكانيات فقد حبا الله تعالى أمتنا بموارد عظيمة وثروات هائلة، وجعلها من أغنى الأمم، وأعطاها بسطة في الرزق والأرض والموقع. وقد أثبتت حرب رمضان المبارك على قصرها صحة ما نقول، وأنزلت بالعدو من الهلع والجزع ما كشف لنا عن نقاط ضعفه الكبيرة، كما أثبتت الحرب أن لا جامع لهذه الأمة كالجهاد، ولا موحد لكلمتها كالقتال.

     ثم يؤكد بإلحاح على وجوب الحذر من الصهاينة المعتدين، فهم أهل مكر وغدر وخديعة فيقول: وإني أحذر من مكر اليهود وخداعهم، فليس في نيتهم سلام حقيقي، وحين يتظاهرون بالسلام، إنما يريدون كسب الوقت للتأهب لعدوان جديد.

     ويعود إلى التحذير منهم مجدداً فيقول: أحذر العرب والمسلمين من أن القبول بقرار مجلس الأمن 242 إنما هو ضياع لفلسطين وتفريط بالأمانة الغالية، لأن هذا القرار ينص على الاعتراف الكامل بدولة العدو، ويضفي عليها الشرعية، ويتنازل لها عن أكثر من أربعة أخماس فلسطين، ويعرض المسجد الأقصى للضياع، والبلاد العربية والإسلامية لأشد الأخطار، كما أحذر من أطماع اليهود في البحر الأحمر وهي شديدة الخطورة.

     في أواخر عمره، جاء الحاج أمين الحسيني إلى الرياض زائراً، وهرع إلى الفندق الذي يقيم فيه عدد من أبناء فلسطين الذين آلت إليهم قيادة الجهاد الفلسطيني، وطال الحديث وتشعب، واسترسل الضيف الكريم فيه، وحاول أن يضع في هذه الجلسة خلاصة خبرته، وعصارة تجربته، وكأنه يشعر أنها الوصية التي يقولها مَنْ يودع الحياة ليعيها مَنْ بعده. وقد حدثني بما كان في هذه الزيارة أحد شهودها، وروى لي أنها كانت جلسة ملأى بالعبر والمعلومات والإخلاص، وقد أثر الضيف الكريم في الحضور، حتى استولى عليهم، ثم بكى من فرط التأثر والإشفاق.

     وقد ركز - أكثر ما ركز - على أن اليهود أهل غدر، ولا يحفظون عهداً مع أحد، ولا يحفظون جميلاً حتى لمن عطف عليهم وأعانهم، وحذر من الصلح معهم، وأكد أن المستقبل في صراعنا معهم هو لنا بإذن الله، على أن نستمر في الصبر والمصابرة، واستفراغ الوسع وبذل الجهود.

     رحمك الله أيها المجاهد المؤمن الحاج أمين الحسيني.

     ترى هل ننتفع من كلماتك الثمينة، أم أنها ستمضي هباء خلال عَدْوِنا اللاهث خلف مكرة سامريين، وحواة ثعالب، وقردة حاقدين، ومقلّدين مضبوعين، ومستسلمين متخاذلين يريدون أن يقودوا أمتنا معصوبة العين نحو الهلاك ويقنعوها أن الذئب يمكن أن يخرج عن طبيعته الغادرة، وأن الأفعى يمكن لها أن تخرج من طبيعتها السامة.

     وبعد:

     فإن المشروع الصهيوني في فلسطين إلى زوال، لقد بلغ ذروته عام 1967م، حين انتزع نصراً مجانياً لم يكن يحلم به، بسبب قيادات سيئة كان في يدها القرار العربي يومذاك، ثم بدأ بالتجمد والتآكل ولعل الجيل التالي من أبناء الأمة يشهد نهايته.

     وأهم الأسباب التي تدعو إلى الإيمان بزوال هذا المشروع، أن الدولة العبرية مخالفة لسنن الله عز وجل في قيام الدول وسقوطها جملة وتفصيلاً، وأن الضعف العربي لن يدوم، وأن دعم أمريكا له لابد أن يتوقف ذات يوم، ثم إن إمكانات العرب والمسلمين، عقيدة، وتكاثراً، وثروة، وموقعاً، وتعويضاً إمكانات هائلة خلافاً لإمكانات هذه الدولة المصنوعة الممسوخة، وأخيراً - وليس آخراً - أن الشعب الفلسطيني امتلك زمام المبادرة، وعاد إلى هويته الحقيقية، وصدع بها، وتحمل أعباءها، وجعل مضمونها وشعارها "لا إله إلا الله محمد رسول الله".

* * *

يحدثونك عن النجاح

يحدّثونك عن النجاح

الإرادة أولاً

     كثر الحديث في السنوات الأخيرة عن النجاح في الحياة، وتنوع المتحدثون في هذا الأمر، وتنوع الحديث أيضاً، وهو أمر محمود ونافع ومطلوب، يمثل ظاهرة إيجابية جديرة بالعناية والاهتمام، للناس عامة وللشباب خاصة.

     ويدور الحديث في العادة على حَفْز الإنسان على الإبداع، والتجدد، وإدراك منطق الأولويات، فضلاً عن التقويم، والقراءة، والصحبة، والصبر، وتحديد الغاية، وضبط الوسيلة المناسبة المؤدية لها، وما إلى ذلك، وهذا كله صواب وخير، ينبغي لنا أن نفرح به ونستزيد منه.

     والذي أريد أن أقوله هو أن "الإرادة" هي أهم أسباب النجاح وأولها، ومن هنا جاء العنوان "الإرادة أولاً" فالإرادة هي الخطوة الأولى التي تجر ما وراءها من خطوات. وبين يدي أربع وقائع عملية تشهد بذلك، عرفت أصحابها معرفة شخصية من بداياتهم المتواضعة حتى وصلوا ذروة النجاح.

* * *

     عرفت الأول وهو "ح - ش" طالباً في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الرياض، قادماً إليها من بلد عربي شقيق وكان جاداً قليل الكلام، مستقيماً، يعيش عيشة أقرب إلى الكفاف كما هو شأن أكثر الطلاب، حدد هدفه بدقة، وحدد الوسيلة المؤدية إليه، وتسلّح بالإرادة، وثابر وصابر، فحصل على درجة البكالوريوس بتفوق، وهو ما هيأ له فرصة الدراسة العليا، فحصل على الماجستير بتفوق، ثم على الدكتوراه بتفوق، وأذكر أني حضرت جلسة المناقشة، وكنت أراه - وأنا في غاية السعادة - يقدم ملخص الرسالة ويجيب عن أسئلة اللجنة المناقشة لها، ثم عمل مدرساً للحديث الشريف - وهو تخصصه - في كل من ماليزيا وأمريكا، ثم عمل - بالتعاون مع سواه - على إنشاء جامعة إسلامية مفتوحة في أمريكا تعمل من خلال الانتساب، وتمنح طلبتها درجتي الماجستير والدكتوراه، وهو اليوم أحد من يستشارون في الأحاديث الشريفة، من حيث درجتها، وشرحها، ومظانها، وما إلى ذلك، وأذكر أنه تزوج وهو في سنواته الأولى من الدراسة ولعل له اليوم عدداً من الأولاد، وصل بعضهم إلى المرحلة الجامعية وعسى أن يسيروا على نهج أبيهم في الاستقامة والإرادة.

* * *

     أما الثاني وهو "ع - ب" فقد عرفته وهو في العقد الرابع من عمره يحمل درجة الليسانس في الحقوق من مصر، ويعمل مستشاراً قانونياً في إحدى دوائر الدولة في الرياض، وقد رأيته مرات كثيرة خلال سنوات عمله، وكان سلوكه وأدبه فضلاً عن لهجته، أدلّة تشير إلى بلده المجاور الذي قدم منه وهو بلد عرف أبناؤه بالاستقامة والتوفير، والهجرة وطول النفس، عاش على الكفاف، وعاش أحياناً على أقل من الكفاف، بحيث صار بعض زملائه يتندرون عليه ويتهمونه بالبخل، وكنت خلافاً لهم أكبر فيه همته وأقدر ظروفه وأحترم طموحه.

     جمع الرجل قدراً طيباً من المال، ثم ذهب إلى بريطانيا، حيث لبث فيها بضع سنوات عاد بعدها، خبيراً في الاقتصاد، مرجعاً في تخصصه، متقناً للغة الإنجليزية، وهو اليوم مستشار كبير في أحد البنوك، مكانه كبير ودخله وفير، ويمتلك بيتاً فاخراً في واحد من أحياء الرياض، وله >ديوانية< أسبوعية في بيته العامر، يلتقي فيها الناس فيتحدثون ويسمرون ويستمعون إلى محاضرة أسبوعية يديرها هو، أو يديرها أحد خلصائه، وله صلات واسعة مهمة، وله خدم وحشم. زرته في بيته العامر أكثر من مرة، وتذكرت حالته بين أمسه ويومه، وحمدت له إرادته ودعوت له.

* * *

     أما الثالث فهو الشيخ "م - أ" عرفته طالباً في المرحلة المتوسطة في المدينة المنورة، على منوِّرها أفضل الصلاة والسلام، حيث كنت مدرساً في إحدى مدارسها، وكان واحداً من طلابي. كنت أعطف عليه وأشجعه، لأدبه، ولاستقامته، ولفقره، ولغربته أيضاً، فقد كان أبوه من القادمين إلى المدينة المنورة من بلده النائي البعيد الواقع في جنوب شرق آسيا.

     والتحق إلى جانب المعهد الذي كان يدرس فيه، بإحدى مدارس تحفيظ القرآن الكريم واستمر على ما عهده الناس منه، من أدب وصبر واستقامة، فازداد حب الناس له خاصة أنه كان ذا خلق حسن وصوت حسن.

     ومرت الأيام، فأنهى المرحلتين المتوسطة والثانوية، ثم التحق بالجامعة فحصل على الليسانس فالماجستير فالدكتوراه، وهو اليوم أحد أئمة المسجد النبوي الشريف، وأحد القراء المشهورين الذين يذاع لهم في الإذاعات، وتباع أشرطتهم هنا وهناك، وأقبلت عليه الدنيا فكثر بين يديه المال، وصارت له منزلة وجاه، وتزوج ثلاث نسوة، وعرضت رابعة نفسها عليه، لقد أدرك نجاحاً كبيراً بإذن الله تعالى، وكانت الإرادة أول أسلحته فيما نال، لم ألقه منذ تلك الأيام قط، ولكني أسمع له في الإذاعة، وأتابع نجاحه المتواصل، وأفرح له، وأدعو له، وأرى فيه نموذجاً جديراً بالاحتذاء، وسمعت أنه لا يزال يذكرني بخير، وهذا من وفائه وطيب معدنه، ولعل لي بعض الجهد في نجاحه لأني كنت أحنو عليه وأشجعه، ولعل لي بعض الثواب في ذلك وهو خير وأبقى.

* * *

     أما الرابع فهو "م - ش - خ" وهو من مصر، وقصته أعجوبة من الأعاجيب، وهي جديرة بأن يحولها روائي مقتدر إلى قصة شيقة، ومخرج بارع إلى فلم سينمائي، كان عمره في حدود العشرين أو أقل قليلاً حين اعتقلته الشرطة المصرية عام 1954م إبان الصراع بين جماعة الإخوان المسلمين وبين الرئيس جمال عبد الناصر، فقد كان واحداً من أعضائها. وقد حكم عليه بالإعدام ثم خفف الحكم إلى المؤبد، وظل في السجن عشرين عاماً حتى أفرج عنه الرئيس أنور السادات خلال المصالحة التي تمت بينه وبين الإخوان في أواسط عهده.

     خرج من السجن قوي الإرادة، فاستعاد قيده في الجامعة فإذا به طالب في كلية الهندسة لا يخجل من زملائه الذين هم أصغر منه بكثير، وقد أعانه على مواصلة كفاحه بعد محنته الطويلة أنه كان هادئاً بشوشاً رياضياً.

     ثم شاء الله تعالى، وله حكمته البالغة أن يمتحنه امتحاناً قاسياً، فقد اختل توازنه ذات يوم فوقع على الأرض حيث يمر المترو، فجاء المترو فقطع ساقيه الاثنتين معاً. لم يستسلم للحزن ولم يركن إلى الشكوى، فسافر إلى ألمانيا لتركيب ساقين صناعيتين في جهة متخصصة. وتم تركيب الساقين، وأخذ المختصون يدربونه على المشي عليهما، وكان ممن يعنون به راهبة ألمانية نذرت نفسها للدين المسيحي والتبشير به، وقضت في الصين تمارس التبشير من خلال العناية بالمرضى مدة تقارب المدة التي قضاها صاحبنا في سجنه.

     ومع الزمن بدأت الراهبة تعجب بصاحبنا، أعجبت بصبره واستقامته ورضاه بالابتلاء، وجرت بينهما أحاديث متنوعة، ثم إنها استغربت كيف يسجن هذا الرجل وهو ذو استقامة نادرة، ثم فهمت أنه سجن لسبب سياسي، وحين استوعبت أمر صاحبنا تماماً وعرفته معرفة دقيقة، قادها إعجابها به إلى الإعجاب بدينه، فتركت الرهبنة، وأسلمت وتزوجته، وهي اليوم تعيش معه في مصر.

     عاد صاحبنا إلى مصر، ومعه زوجته الفاضلة، وصبره النادر، وقدماه الصناعيتان، ومعه سيارة ألمانية يتم تحريكها باليدين لا القدمين صنعت لأمثاله من المعاقين.

     وفي مصر بدأ يشتري قطعاً من الأرض، ويبني عليها عدداً من الشقق ويبيعها، وهنا أقبلت عليه الدنيا وتكاثر طالبو الشراء منه، لأنهم كانوا على يقين تام أنه يلتزم التزاماً تاماً بكل ما يعد به من إتقان ومواعيد، وكثر المال بين يديه فتوسع في مشروعاته المتصلة بالبناء، فأسس مصنعاً للبلاط، وآخر للرخام، وثالثاً للطوب وهكذا، ويعينه فيما ينشط فيه عمال ومهندسون وفنيون، يحبهم ويحبونه ويستفيد منهم ويستفيدون منه.

* * *

     لقد حرصت على أن أغفل ذكر أسماء هؤلاء الناجحين، خوفاً من إحراجهم، فقد يكون لهم رأي مخالف لما عندي، ولولا الخوف لذكرتها كاملة، مكللة بالثناء، معطرة بالشذا، لأني أرى ما فعلوه كرامة لهم، ووساماً على صدورهم، وشرفاً لهم في الدنيا والآخرة.

     بارك الله عليهم، وزادهم تفوقاً وتألقاً، ونفعهم ونفع بهم، ورفعهم ورفع بهم، واستعملهم فيما يرضيه، وجعلهم للشبان أسوة حسنة ونماذج تحتذى وتقتدى.

     هذه القصص الأربع لهؤلاء الفرسان النادرين، التي رأيتها رأي العين، وعرفت أصحابها معرفة شخصية، هي شواهد تقول بأفصح لسان وأقوى حجة: إن أسباب النجاح كثيرة، فإذا جئنا إلى ترتيبها فإن "الإرادة أولاً".

* * *

لون من المحاسبة

لون من المحاسبة

     قرأت لأحد المربين الحكماء نصيحة ثمينة، تدعو المسلم أن يخصص بضع دقائق كل يوم قبل نومه، يستعرض فيها ما مر به في يومه المنصرم، فما وجد من خير حمد الله عليه ونوى أن يستزيد منه، وما وجد من شر استغفر الله منه وعزم على هجره، ثم ينام على أحسن العزائم.

     سررت كثيراً بهذه النصيحة الذكية والعملية وحرصت كثيراً على التقيد بها، وأدركت من هذا الحرص مقداراً متفاوتاً من النجاح، أرجو أن يزيد ويصبح جزءاً ثابتاً فيّ حتى ألقى الله تعالى.

     جعلت من دأبي حين آوي إلى فراشي في الليل، أن أخلو بنفسي دقائق مباركة، أستعرض فيها ما مر بي في يومي، فأحاسبها حساباً دقيقاً، وقد أقسو عليها، ألومها لأن صوتي ارتفع حيث لا ينبغي له ذلك، وألومها لأنني اغتبت أحداً من الناس فأستغفر الله تعالى له ولي، وألومها لأنني في المجلس الذي سهرت فيه تحدثت بأكثر مما ينبغي، فوقعت في شهوة الكلام، وألومها لأن شوائب ذميمة من حب الظهور والرغبة في التعالم كدرت علي نيتي، وألومها لأني تقاعست عن خدمة صديق كريم وأنا قادر على خدمته، وألومها لأنني اشتريت أشياء لا أحتاجها مسوقاً برغبة الامتلاك والتكديس، وألومها لأنني بخلت حيث يدعوني الكرم، وألومها لأنني أسرفت حيث تمنعني الحكمة.

     إلى جانب ذلك كنت أهنئ نفسي على أي خير مر بي في يومي المنصرم، من مروءة تبذل، أو حاجة تقضى، أو نصيحة تسدى، أو نجاح يقع، أو فائدة تجبى، أو صلاة في مسجد، أو زيارة لجار، أو صلة لرحم.

     وكنت أختم ذلك - كما أوصى المربي الحكيم - بحمد الله تعالى على الخير مع العزم على مواصلته والاستمرار فيه ومحاولة الاستزادة منه، والعزم على ترك الشر والاستغفار عنه، وكنت أسأل الله تعالى دائماً أن يرزقني الإخلاص والصواب معاً لأن أحدهما لا يغني عن الآخر.

     ولقد وجدت في هذا اللون من المحاسبة فوائد جمة كانت تزداد مع استمراري فيه، وتقل مع نسياني له وإهمالي إياه.

     تعلمت أن أشتغل بعيوبي عن عيوب الناس، وتعلمت أنَّ التربية عملية مستمرة تظل حاجتنا إليها ماسة مهما امتد بنا العمر وازداد حظنا من الصلاح ذلك لأننا بشر لابد أن نخطئ. وتعلمت أن أعترف بالخطأ وأن أعتذر، وتعلمت أن أبدل وجهة نظري حيث تدعوني دواعٍ كريمة إلى ذلك وقلت لأحد رفاقي الذي لامني على ذلك: الذين لا يغيرون آراءهم إن وجدت الدواعي الكريمة لذلك صنفان هما الأنبياء والأغبياء، الأنبياء لأنهم لا يخطئون والأغبياء لأنهم يتوهمون أنهم لا يخطئون.

     واستفدت من هذه المحاسبة راحة في الضمير تتمشّى في كل كياني، حين أشعر أنني أنام وليس لمسلم علي حق وحقوق العباد مبنية على المشاحّة وحقوق الله مبنية على المسامحة، وحفظت من مأثور الدعاء: اللهم لا تجعل علي تباعة لأحد.

     استفدت أنني أنام وأنا سليم الصدر نقي السريرة أدعو لنفسي وللمسلمين أجمعين الأموات منهم والأحياء، فلا أبيّت أذى لأحد، ولا أنطوي على غش لمخلوق، وربما دعوت حتى لمن أساء إلي.

     شعرت مع الزمن أن هذه المحاسبة عون كبير للمسلم تأخذ بيده للتخلص من معاصي القلوب من حقد وحسد وكبر وغرور وشح ويأس وخوف وعجز وما إلى ذلك، ومعاصي القلوب أخطر من معاصي الجوارح والتخلص منها أعسر، ذلك أن المسلم حين يدمن هذه المحاسبة ترتقي مداركه وتتسع آفاقه وتصفو نيته وتعلو عزيمته وتزكو سريرته، ويصبح أقرب إلى أخلاق الكرام والنبلاء والصالحين.

     ووجدت في هذه المحاسبة عوناً حميداَ لي على دنياي أيضاً، إذ إنني بها أنام سعيداً وأقوم نشيطاً وأستقبل مسؤوليات يومي الجديد بأمل حي وإرادة فاعلة.

     ووجدت فيها أيضاً عوناً لي على التجدد حين أخفق في قضية، أو أخسر في صفقة، أو أبتلى بأذى من رئيس أو زميل أو جار أو قريب. والمرء الذي يفقد القدرة على التجدد ويبقى أسير أخطائه أو أخطاء الآخرين هو ميت وإن عده الناس من الأحياء.

     كما وجدت في هذه المحاسبة عوناً لي على التخلص بالتدريج من الشعور بالحزن والمرارة والإحباط، وفي ذلك خير كثير، لأن في تراكم هذا الشعور واستفحاله آثاراً مدمرة.

     إن الحديث عن فوائد هذا اللون البديع من المحاسبة كثير، وما قلته من هذه الفوائد يومئ لما لم أقله، وللقارئ الكريم أن يجيل بصيرته فيه ليجد الكثير.

     كانت مدة المحاسبة تستغرق مني سبع دقائق تزيد قليلاً، أو تنقص قليلاً، تعقبها أو تسبقها أدعية النوم المأثورة.

     في الليالي التي أحاسب نفسي فيها حساباً شاملاً، وأقرأ الأدعية المأثورة كاملة، كنت أشعر بسعادة لا حد لها، وكنت أشعر أنني خرجت من حمام "ساونا" نفسي نقِّاني أحسن النقاء وطهرني أحسن التطهير، وربط على قلبي، وجعلني في معية الله عز وجل.

     وحين كنت أنظر إلى ما مضى من العمر، وأشعر أني قد لا أقوم من نومي، تهون علي الدنيا هواناً كبيراً ويزداد تعلقي بالباقي القادم على حساب الفاني المنصرم.

     اعتاد الناس على محاسبة بعضهم: الزوجان يتحاسبان، والأب يحاسب الابن، والرئيس يحاسب المرؤوس، والشريك يحاسب شريكه... وقل مثل هذا ما شئت، وليس هذا الأمر عيباً، بل هو أمر محمود ومطلوب بآدابه وضوابطه، لأنه وسيلة لرقي الحياة تجعلنا نعرف الخطأ لنتجاوزه والصواب لنحتفظ به ونستزيد منه. ليت الناس يحرصون على هذا اللون البديع والراقي والشائق من المحاسبة، عندها سوف يتقدمون في دينهم ودنياهم ويكون حظهم من هذا التقدم مساوياً لحظهم من هذه المحاسبة.

     ورحم الله المربي الحكيم الذي تعلمت منه هذه النصيحة الثمينة، ورحم الله الخليفة العظيم عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي أوصانا فقال: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، والذي دعا الناس إلى
تعريفه بأخطائه وعدّ ذلك هدية منهم إليه فقال: رحم الله امرأ أهدى إلي عيوبي.

* * *

ساعتي الأثيرة

ساعتي الأثيرة

     قبل قرابة ثلاثين عاماً اشتريت ساعة رقمية، وكان هذا النوع من الساعات جديداً يومذاك، يتسامع الناس به ويحرصون عليه ويزينون معاصمهم به. ومع أني لا أبادر سريعاً إلى اقتناء الجديد الذي يتسابق الناس إليه ويقلدون بعضهم في امتلاكه إلا أنني قلدتهم يومذاك.

     ومع الزمن نشأت بيني وبين هذه الساعة ألفة ومودة حتى إنني استعملتها أكثر من عشرين عاماً بدون انقطاع، ومن العجيب أنني لم أحتج إلى تغيير بطاريتها قط، فقد ظلت تعمل بإخلاص وكفاءة كل هذه المدة الطويلة ببطاريتها الأولى.

     وأخذ الناس يتحولون عن هذا النوع من الساعات لكنني لم أتحول عن ساعتي الأثيرة، وأخذ أصدقائي وأبنائي يلحون علي في تغييرها فلم أستجب، وبدأ بعضهم يلومني على الاحتفاظ بها لخدوش أصابتها هنا وهناك فلم أستجب، ثم إن ثمنها صار رخيصاً جداً فقد وصل إلى حوالي خمسين ريالاً وهو ما حدا بمن حولي إلى مطالبتي بتغييرها بدعوى أنها لا تليق بي لرخصها وهوانها على الناس فلم أستجب أيضاً. وحدث أن انقطع حزامها وهو ما جعل المطالبين بالتغيير يجزمون أني سوف أفعل ولكنني لم أفعل واكتفيت بأن اشتريت حزاماً جديداً لها بعشرة ريالات.

     ومرة ألح علي واحد من خلّص رفاقي بأن أشتري ساعة جديدة أجمل وأغلى فأطعته لكنني تركت الساعة الجديدة في البيت وعدت إلى ساعتي الأثيرة.

     ومرة أخرى أهدتني ابنتي الأثيرة ساعة جديدة جميلة وثمينة فلم أستعملها وظللت على عهد الوفاء مع ساعتي الأثيرة.

     قال لي أحد أبنائي: إنها لا تليق بك، فقلت له: بل تليق، إنها تؤدي مهمتها بكفاءة وقيمة الإنسان فيما يفعل لا فيما يحمل.

     وقال لي آخر: إن كثيراً من الفقراء يلبسون ما هو أثمن من ساعتك، قلت: لهم أن يفعلوا ولي أن أفعل.

     وفي كل مرة كان يطول الجدل كنت أقول لهم: إن الساعة وسيلة لضبط الوقت وليست غاية في حد ذاتها، وساعتي الأثيرة تؤدي مهمتها بدقة تامة فلم التغيير؟

     وأخيراً تكاثرت الضغوط علي فوافقت مكرهاً على التخلص من ساعتي الأثيرة وليتني لم أوافق، ذلك أني أردت أن تصاحبني كل عمري. عندها سألت أبنائي ما الذي سوف نفعله بها، فقالوا: نعطيها لفقير، قلت لهم: وهل تجدون فقيراً يرضى بها؟ أتحبون الشجاعة؟ قالوا: نعم، قلت: شراء ساعة جديدة وثمينة وأنيقة و التزين بها لا يحتاج إلى شجاعة، إنما الشجاعة الحقيقية في احتفاظي بساعتي القديمة الأثيرة الوفية والتزين بها، وإن لامني من لام لأنني منسجم مع نفسي.

* * *

* كنت ولا أزال باستمرار أتذكر الحديث الشريف "إن الله كتب الإحسان في كل شيء" أتذكره مع ساعتي الأثيرة ومع سواها. لو أن كل واحد منا تعامل مع ساعته كما تعاملت لوفرنا أموالاً كثيرة، ثم لو أننا جعلنا هذا التعامل الذي يحثنا عليه الحديث الشريف قاعدة لنا في التعامل مع كل شيء في حياتنا من أثاث ولباس وأدوات وسيارات وطرق ومبان وأقلام وأوراق، وما إلى ذاك، لوفرنا أموالاً هائلة - فضلاً عن الجهد والوقت - لا أستطيع تخيل مقدارها لكنها ستكون بالمليارات.

* حين تتحول الوسائل إلى غايات نقع في الأوهام والتكاثر والتباهي، ونشتري ما لا نحتاج إليه فنقع في رذيلة التكدس، ثم نحتاج إلى أمكنة لحفظ ما كدسناه، وإلى جهد ووقت ومال لصيانته ثم نضيق به ذرعاً فنتخلص منه بعد أن يصير عبئاً ثقيلاً.

* نحن بحاجة إلى عادة الاستغناء لتكون بديلاً حميداً عن عادة الاستكثار، ومثل هذا التحول يحتاج إرادة جادة تقوم على عقل بصير ونفس غنية.

* رأيت أكثر الذين يشترون الساعات الثمينة هم أكثر الناس في إضاعة الوقت، مثلهم مثل الذين يقودون سياراتهم بسرعة بالغة تعرضهم وتعرض سواهم للخطر فإذا وصلوا حيث يريدون عكفوا على توافه الأمور.

* يقول الصحابي العظيم الداهية عمرو بن العاص رضي الله عنه: لا أطلق زوجتي ما أطاقت عشرتي، ولا أغير صديقي ما أحسن صحبتي، ولا أبدل دابتي ما حملتني، فإن الملل من كواذب الأخلاق. ترى لو نجونا من الملل وكواذب الأخلاق الأخرى في التعامل مع الأشياء من ساعات وسواها كم سوف نحسن إلى أنفسنا في ديننا ودنيانا على السواء؟

     إنّ حسن التعامل مع الأشياء نوع من الشكر، والشكر يحفظ النعمة ويستدعي المزيد، وصدق الله العظيم ﴿لئن شكرتم لأزيدنكم﴾.

* * *

الجمعة، 24 ديسمبر 2021

إنَّ لله جنوداً من عسل

إنَّ لله جنوداً من عسل

     حقق المسلمون في معركة القادسية نصراً كبيراً على الدولة الفارسية، لكن عدداً من قادة الجيش الفارسي تمكنوا من الفرار، وأخذوا يحشدون الناس لحرب المسلمين، ويثيرون فيهم الحمية، ويؤلبون ويستعدون ويدبرون، باذلين كل ما بوسعهم للإعداد للمعركة القادمة، وهي المعركة التي عرفت باسم "نهاوند" وكان قائد الفرس فيها هو "الفيرزان" وكان قائد المسلمين فيها هو "النعمان بن مقرن المزني".

     والتقى الجيشان وبذل كل منهما غاية وسعه، وأكرم الله تعالى المسلمين بنصر مؤزّر بعد جهود كبيرة ودماء كثيرة.

     وحين انتهت المعركة تنبه القائد المسلم "حذيفة بن اليمان" الذي خلف "النعمان بن مقرن المزني" الذي فاز بالشهادة، إلى أهمية السؤال عن مصير "الفيرزان" فلما تبيّن له أنه ليس في القتلى وأنه استطاع الفرار عزم على ملاحقته والظفر به، لأنه إذا نجا فسوف يحاول حشد الناس لمقاتلة المسلمين مجدداً، وتلك حصافة منه، ونظر حكيم بعيد، وتفكير إستراتيجي سديد. وتولت أمر مطاردة "الفيرزان" كوكبة من فرسان المسلمين يقودهم "القعقاع بن عمرو التميمي".

     كان الفيرزان ذكياً واسع الحيلة، فأسرع في الفرار، لكنه واجه مشكلة لا قبل له بها، لقد كان يعدو في أرض زراعية ضيقة السكك، وكانت هذه الأرض غنية بالعسل الذي عمد أصحابه إلى حمله على دوابهم حين فروا مع الفارين، وعندها صارت الدواب عبئاً على السكك، تعوق بكثرتها وبطئها خطة "الفيرزان" في الهرب، وهو ما جعل المسلمين يظفرون به ويقتلونه، فقال أحدهم يومها قولة جميلة ذهبت مثلاً: "إن لله جنوداً من عسل".

     إنَّ الله تعالى سيد الكون وصاحبه، وكل ما فيه طوع أمره، وقدرته لا حد لها، يسخّر ما يشاء كما يشاء، لقد قال جل شأنه في الآية 31 من سورة المدثر: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُو} وصدق فيما قال، وحسب المرء أن يتأمل في جند الله من ملائكة وشياطين، وإنس وجن، وليل ونهار، وصحة ومرض، ومطر وجدب، ورياح وأعاصير، وفقر وغنى، وبصل وعسل... وما إلى ذلك مما يطيق متابعته ومما لا يطيق، ليقف مأخوذاً مبهوراً وهو يتدبر الآفاق الواسعة لجزء من آية كريمة من الكتاب العزيز، الذي يظل غضاً طرياً لا تنقضي عجائبه ولا يخلق على كثرة الرد، والذي يجد فيه كل جيل جديداً من الأمر لم تجده الأجيال السابقة.

     ما أجمل أن يمضي المسلم وهو يضرب في شعاب الحياة، ناجحاً أو مخفقاً، فقيراً أو غنياً، غالباً أو مغلوباً، مريضاً أو صحيحاً، مستصحباً باستمرار عظمة الله وقدرته، مخلصاً له القول والعمل، حريصاً على الاستمساك بدينه والدعوة إليه، ثابتاً على عهده معه حتى يلقاه، طالباً منه العون والسداد، واثقاً أنه سيمده بجند من جنده من حيث يعلم ومن حيث لا يعلم، راجياً منه القبول، مستقصياً - ما استطاع - هؤلاء الجند عدداً وعدة وتنوعاً وقدرة.

     إنه حين يفعل ذلك سيجد في نفسه قوة في الجسد، وطلاقة في الروح، وفرحة في القلب، وبسمة في الوجه، ورسوخاً في اليقين، ومضاء في العزيمة. ولعله يمر ببائع العسل فيبتسم ويتذكر كيف كان العسل جندياً يقاتل مع المسلمين فيقتل. فيشكر للعسل جنديته، ويراها في كل شيء آخر، ولعله يقول لنفسه: إن كل شيء في الكون جندي من جنود الله، والعسل أحلى هذه الجنود مذاقاً.

* * *

الأربعاء، 22 ديسمبر 2021

هلا كنت الطائر المبصر

هلا كنت الطائر المبصر

     ودع التاجر الصالح أسرته وودع عماله وأوصاهم خيراً، ثم مضى إلى دار شيخه ليستأذنه في السفر ويودعه ويطلب الدعاء منه، فباركه الشيخ ودعا له، فانطلق بنفس راضية، وعزيمة متوقدة، يقود قافلة له إلى بلد آخر ليبيع بضاعته هناك.

     كان التاجر رجلاً صالحاً أميناً، يتحرى الحلال، ويكثر الصدقة، ويرضى بالقليل من الربح، سمحاً محبباً إلى جميع مَنْ يتعاملون معه، ففشت له بين الناس سمعة حميدة في دينه ودنياه، وكثر المال بين يديه فازداد سماحة ورضاً وصدقة، وصار علماً حيث يكون.

     مضت القافلة تضرب في الأرض يقودها صاحبها، مستعيناً على طول الطريق بالراحة حيناً، وبالدعاء حيناً، وبمحادثة أصحابه حيناً آخر، حتى إذا أخذ النوم بمعاقد الأجفان واشتد التعب بالأبدان، اختار التاجر شِعْباً هادئاً في الطريق فيه ظل وشجر وماء فأناخوا فيه ركابهم وقضوا فيه ليلتهم.

     استيقظ القوم في الصباح فأدوا الصلاة، وأخذوا يرقبون اليوم الجديد وهو يتنفس، فشعر التاجر الصالح بمتعة روحية، وآثر الخلوة بنفسه في الشِعْب الهادئ الجميل، وطفق يتلو أوراد الصباح المأثورة وهو يمشي هادئاً متأملاً مندمجاً مع أدعيته ونفسه والمكان والزمان، فشعر بنفسه يحلق ويسمو، وشعر أن الكون كله يسبح لله خالقه ومبدعه.

     فجأة لفتت انتباهه شجيرة صغيرة حسناء، فاقترب منها يتأمل صنع الله فيها، فإذا به يرى طائراً بديعاً جداً على أحد أغصانها فأخذ يدنو منه بهدوء وحذر حتى لا يخاف الطائر فيهرب. وما لبث أن أدركه شيء من التساؤل حين رأى الطائر لا يتحرك قط، وازداد التساؤل الذي أخذ يقترن بالحيرة والدهشة مع اقترابه من الطائر، وبقاء الطائر حيث هو، حتى كاد يلمسه بيده لكنه لم يفعل.

     مضت ساعة من الزمان والتاجر يتأمل في الطائر، فاستبان له أنه أعمى، فتحول التساؤل في نفسه إلى مزيد من الحيرة والدهشة إذ أخذ يقول لنفسه: كيف يأكل هذا الطائر وكيف يشرب، ثم انتحى مكاناً قريباً وجلس فيه في صمت مطبق وقد شغله أمر الطائر عن نفسه وصحبته وقافلته.

     بعد حين لمح طائراً آخر جاء إلى الطائر الأعمى فأخذ يضع في منقاره شيئاً من الحب يجمعه من هنا وهناك، ثم يسقيه شيئاً من الماء من الغدير المجاور حتى إذا أحس أنه أدى مهمته طار بعيداً واختفى.

     فرح التاجر الصالح كثيراً، وسجد شكراً لله، وأخذ يتساءل في نفسه: إذا كان الله تعالى لم ينس الطائر الأعمى فيسر له من يطعمه ويسقيه فلم العناء والتعب والضرب في الأرض؟ وحين تحول التساؤل عنده إلى قرار صارم توجه إلى القافلة فعاد بها إلى بلده، وفي نيته أن يعتكف في بيته، وسيرزقه الله تعالى كما رزق الطائر الأعمى.

     حين وصل إلى بلده، وجد من تمام الأدب أن يمر على شيخه ليسلم عليه ويحدثه بما رأى ففعل. قال الشيخ الذي كان يجمع العقل إلى الصلاح للتاجر العائد: لم عدت سريعاً يا بني؟ قال التاجر لشيخه: لي أسوة بالطائر الأعمى. قال الشيخ العاقل الحكيم لتلميذه التاجر الصالح: يا بني هلَّا كنت الطائر المبصر، يا بني عد إلى ماكنت عليه من الجد والدأب والتعب، واجعل يدك العليا بالإعطاء لا السفلى بالاستعطاء، وأغن نفسك ومَنْ معك فإن الله يحب معالي الأمور.

* * *

رأى ملابس الإحرام فتوهج

رأى ملابس الإحرام فتوهج

قصة واقعية

     حطّت الطائرة في جدة تحمل وفداً عربياً جاء يلتقي نظيره في إطار العلاقات المعتادة بين الدول، وتم استقبال الوفد استقبالاً حفياً، وكانت تحيات ومجاملات، ثم آل أمر الوفد إلى فندق جميل ليقيم فيه. وذات مساء جاء من يعرض على الوفد السفر إلى مكة المكرمة لأداء العمرة، وكانت الدعوة محفوفة بكل دواعي القبول والاستجابة، فالسيارات الجميلة جاهزة، والسائقون، والدليل، وملابس الإحرام، ونسخ من القرآن الكريم وكتب الأدعية المأثورة، كل ذلك جاهز أيضاً.

     فرح الضيوف فرحاً كبيراً، وشكروا من هيأ لهم هذه الفرصة العزيزة وأخذوا يستعدون، وأخذوا ينظرون إلى واحد منهم وهم بين إقدام وإحجام.

     أما الإقدام فمرده أنهم يريدون لزميلهم الخير الذي جاءهم على طبق من ود ويسر وصفاء، وأما الإحجام فمرده أنهم يعرفون زميلهم جيداً، إنه يساري عريق في يساريته، نشأ على كره الدين وأهله، وشبَّ على الفكر الثوري الإلحادي، وظل يعيش ومثله الأعلى لينين وستالين وتيتو وكاسترو ومن إليهم، ثم إنه لم يكن يسارياً يعيش في عزلة، بل كان يسارياً يعمل لما يؤمن به ويراه رسالة يحيا من أجلها ويموت كذلك.

     طالت فترة الترقب بين الإقدام والإحجام حتى كانت المفاجأة حين حسم صاحبنا الأمر بنفسه، وكان ذلك حين أبصر أحد زملائه يرتدي ملابس الإحرام، فطلب لنفسه مثلها وعيناه تدمعان.

      أما الزملاء ففرحوا لصاحبهم وعجبوا، وأدوا جميعاً العمرة وعادوا وقد لاحظوا التغير العميق الذي أصابه.

     كان يبكي منذ ارتدى ملابس الإحرام حتى خلعها، وطفق يبتهل بحرقة ويدعو بحرارة، وفي وجهه أمارات الندم والفرح والسكينة والرجاء.

     ويوم أن عاد إلى بلده كان من الواضح أنه إنسان جديد، حسم اختياره بجرأة وعزيمة، وخلع ماضيه المظلم واستقبل حاضره المضيء وكبر في عين الناس حين رأوه يتخلى عن منصبه الرفيع ودنياه الحافلة بالجاه والمال والنفوذ، ويتفرغ لحياته الجديدة من إيمان واستقامة، وتوبة صادقة، وفرحة لا ضفاف لها بالنقلة الرائعة التي فاز بها.

     ما الذي حدث لهذا المهتدي السعيد؟

     لقد استيقظ في قلبه الإيمان النائم، وكانت ملابس الإحرام هي الشرارة التي أيقظته، تذكر الأذان الذي كان يسمعه في مسجد الحي، ووجوه المصلين التي تغشاها السكينة، وفرحة الناس برمضان حين يأتي، وأحاديث أمه وأبيه في طفولته عن الله تعالى، وعن الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام، وحكايات الصحابة والصالحين، وأصوات البلابل التي تصدح بالقرآن الكريم كالمنشاوي وعبد الباسط.

     تذكر ذلك، وتذكر أمثال ذلك فتخلّى عن يساريته الزائفة وعاد إلى إيمانه الأصيل.

* * *

     إن في هذه القصة أكثر من درس وعبرة.

     فيها أن المسلم قد يضل ويفسد بسبب الشهوات أو الشبهات، أو كليهما، لكنه يندر أن يكفر، وبذلك تظل فرصة العودة متاحة.

     وفيها أن في كل مسلم مساحة من الخير تكبر أو تصغر، لكنها لا تمّحي تماماً إلا في حالات نادرة جداً، وعلى الدعاة أن يكتشفوا هذه المساحة، بالصبر، والأمل، والود الصادق، والبسمة الحانية، وحب الخير، والهدية الطيبة، وبذل المعروف، والكلمة الودود، والتبشير لا التنفير، والقدوة الحسنة، وحسن الخلق، وخفض الجناح، ومعرفة مفتاح الشخصية التي يتعاملون معها، فإذا تم لهم ذلك وسّعوا هذه المساحة، ونمّوها، وغذّوها، بانتظار ساعة التوهج، وهي آتية ذات يوم، في موقف ما، يعده الله تعالى برحمته وعنايته وحبه لخلقه، كما أتت صاحبنا اليساري الذي أيقظت فيه ملابس الإحرام إيمانه النائم، لقد رآها فتوهج فانتفض فاستقام.

* * *

     إن أدوات الداعية في عمله كثيرة، منها أن يبحث عن مساحة الخير في المدعو ويُعنى بها، وهذه المساحة هبة من الله ونور منه، تجدها في معظم خلق الله عامة وفي المسلمين منهم خاصة.

* * *

عرف عمر فتوهج



عرف عمر فتوهج
مستعرب إيطالي يقرأ عن عمر

     أحب اللغة العربية وآدابها، فترك موطنه في إيطاليا واتجه إلى مصر، لينهل منها ما يروي غليله، وهناك التحق بقسم اللغة العربية في كلية الآداب في جامعة القاهرة وحسناً فعل، فقد كانت في هذا القسم العريق كوكبة ممتازة من الأساتذة الأجلَّاء العظام، منهم أستاذ الأجيال الدكتور شوقي ضيف رحمه الله الذي سمعت منه هذه القصة الجميلة.

     بدأ هذا الإيطالي المستعرب يقرأ ويستمع، ونمت ثقافته، وازداد معرفة بالعربية وثقافتها، وبدأ يتصل بأهم مكونات هذه الثقافة وهو الإسلام.

     وشاء الله تعالى أن يقع في يده كتاب عن الخليفة العبقري العظيم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قرأ الكتاب فوجد شخصية نادرة من أندر شخصيات التاريخ ومن أقدرها، علم وحزم، وذكاء وأدب، وعفة وزهد، وشجاعة وبطولة، وإدارة وإرادة، وعمل دؤوب، ونظر ثاقب، ورؤية عسكرية، وتخطيط اقتصادي، ويقظة في القلب، وتوقد في العقل، وتوهج في الروح، واستشراف للمستقبل، وإحاطة ذكية بظروف المدى الواسع الذي يحكمه، والمدى الذي يجاوره، والمدى الذي يرسل إليه جيوش الفتح المظفرة... وما إلى ذلك.

     لو أن إنساناً تألق في واحد من هذه الميادين لعده التاريخ عظيماً، فكيف بعمر الذي تألق فيها جميعاً وفي سواها؟ ترى ألا يمكن أن يقول المرء: إن عمر كان مجموعة من الرجال العظام في رجل، ومجموعة من القدرات والعظمات والعبقريات والإبداعات تلاقت في شخصيته النادرة التي تربّت في مدرسة النبوة الطاهرة؟

     المهم أن صاحبنا الإيطالي حين قرأ عن عمر ما قرأ امتلكه الإعجاب وسيطر عليه وبهره، ويبدو أنه كان سوي النفس منصفاً، وأنه جمع إلى ذلك عقلاً ذكياً، ذلك أنه ذهب إلى الدكتور شوقي ضيف ليقول له: إن نبيكم إنسان صادق وأنا أجزم بذلك، فلما قال له الدكتور شوقي ضيف: إن هذا ما يؤمن به كل مسلم، ولكن كيف انتهيت أنت إلى ذلك؟ قال له الإيطالي: إن رجلاً بحجم عمر لا يمكن أن يلقي قياده لرجل كاذب.

     لقد اكتملت المعادلة الذكية المنصفة في عقل الرجل الإيطالي ووجدانه فقادته إلى هذا الاستنتاج الرائع والبديهي، والبسيط والعميق، فهتف بهذه العبارة الموفقة الوجيزة المسددة: إن نبيكم إنسان صادق، وأنا أجزم بذلك، لأن رجلاً بحجم عمر لا يمكن أن يلقي قياده لرجل كاذب.

     هذه القصة سمعتها من أستاذي وأستاذ الأجيال، الدكتور شوقي ضيف، وليتني سألته عن اسم هذا الإيطالي لأعرف بقية خبره.

     إن مما يستفاد من هذه القصة، أن نقدم عظماءنا للآخرين بأسلوب يجمع بين الدقة والأمانة والتشويق، فذلك مما يقودهم إلى الإعجاب بهؤلاء العظماء، وبالتالي إلى الدين الذي ينتمون إليه، وربما قادهم هذا الإعجاب إلى الإسلام.

     وعلى ذكر عمر، العبقري، الملهم، الموهوب، أنصح الآباء والأمهات والأساتذة وجميع المشغولين بالقضية التربوية أن يضعوا أمام أبنائهم كتاب "ملحمة عمر" للأديب القدير المرحوم علي أحمد باكثير، فهو عمل أدبي شيق جداً يقدم لقارئه مجموعة من حقائق التاريخ، ويضع أمامه قدوة نادرة، ويثير في نفسه أشرف المشاعر، ويزوده بزاد من المتع العقلية والثقافية والإيمانية والأدبية والنفسية، قل أن يجد لها المثيل.

* * *

الأكثر مشاهدة