الأحد، 23 يناير 2022

البراء بن مالك يوم اليمامة

البراء بن مالك يوم اليمامة

     وقف الجيش المسلم يوم اليمامة ينتظر أمر قائده خالد بن الوليد بالهجوم.. كانت الدقائق تمرُّ بطيئة ثقيلة، ذلك أنَّ في المسلمين تحفزاً وتوثباً لاقتلاع جيش الرِّدّة من جذوره، واستئصاله من أعماقه حتى تصفو جزيرة العرب للرسالة الكريمة التي بُعث بها محمد صلى الله عليه وسلم ليموت ليل الجاهلية والفساد والظلام، ويبدأ فجر الحق والصلاح والنور.

     وقف الجيش المسلم يملؤه إيمان عميق، ويحدوه إخلاص وثيق، يشغل كل واحد من أفراده أمران: إما النصر وإما الشهادة.

     وفي مكانه من الجيش المجاهد وقف البراء بن مالك الصحابي الشجاع العظيم وعيناه الثاقبتان كعيني الصقر تتحركان في سرعة ونفاذ فوق ساحة المعركة، وقد بدا منهما تصميم عجيب، وإرادة هائلة، ونزوع إلى شهادة كريمة في ذلك اليوم المشهود..

     كانت عيناه تجوبان الساحة كلها، كأنها تبحث عن أشد الأماكن خطورة وأعظمها بأساً، لتسارع إليه بحثاً عن ختام هانئ سعيد، وأي ختام أهنأ وأسعد من شهادة في سبيل الله عز وجل!؟

     تلكم كانت أمنية البطل الشجاع.. أن يرمي بنفسه في أشد حلبات الساحة وأعنفها ليقوم بدوره في استئصال عفن الجاهلية والكفر والفساد، من أجل أن يقوم بذلك مجتمع الطهارة والنبل والصدق.. يرمي بنفسه على الموت، وسوف يسقط حصاد كثير من جيش الكفر والشرك والظلام بسيفه الشجاع العنيف قبل أن تسرع إليه ضربة سعيدة كريمة من يد شقي غير كريم، يسقط بعدها جسده على الأرض، في الوقت الذي تعلو فيه روحه وتسمو، ويكسب بذلك الفوز العظيم، والهناء الدائم، والخلود الذي لا يبلى.

     كالسهم ينطلق من القوس، كالصقر يسرع في طيرانه، كالنمر ينقض على فريسته. وثب البراء بن مالك يخترق صفوف المرتدّين حين نادى خالد بن الوليد: "الله أكبر"؛ إيذاناً ببدء القتال.

     انطلق البراء طالب الشهادة، وقد أحس أن رائحة الجنة في أنفه.. فاستثار ذلك فيه كل القوة والحركة، وكل السرعة والنشاط، وكل البطولة والحمية، فإذا بقوته تتضاعف، وإذا بنشاطه يزداد، وإذا به كالسيل الأتِيّ الدفاق، لا يقف في وجهه شيء.. وطفق البطل العظيم، يفتك سيفه المؤمن بالرقاب العفنة الفاسدة، مجتثاً ركام الأحقاد والسخائم والضغائن، سافحاً دماء قوم أصروا على محاربة العدل والخير، والشرف والمساواة، والنبل والرحمة.

     ما كان جيش مسيلمة ضعيفاً ولا هيناً، وما كان جباناً ولا رعديداً، ولم يكن قليل العدد، ولا قليل السلاح، بل كان له من ذلك نصيبٌ أيُّ نصيب! كان متفوقاً على المسلمين في كل شيء إلا ذلك المَعين العظيم الهائل، "مَعين الإيمان"؛ حيث كان للمسلمين منه حظ غني وافر وافر كبير.

     أما المرتدون فكانوا منه كالصحراء الخالية من الماء.. وذلك كان السر الكبير وراء العجائب الرائعة في انتصارات المسلمين. وأجاب جيش الردة على الجيش المسلم بهجوم مضاد عنيف كاد يأخذ فيه زمام المبادرة، واستطاع بالفعل أن يزلزل الجيش المسلم أكثر من مرة لولا أن القلوب المؤمنة كانت في كل مرة تتداعى إلى الثبات ومعاودة الهجوم.

     وفي إحدى المرات حدث خلل في صفوف المسلمين، وسرى شيء من الارتباك، وطفق فرسان المسلمين وقادتهم وذوو الرأي منهم يجوبون الميدان يحثون على الصبر والجِلاد حتى النصر المرتقب.

     وكان البراء بن مالك ذا صوت عالٍ جميل، فهتف به خالد بن الوليد: "تكلم يا براء!" وتكلم البراء، وعلا صوته الجياش العذب، فإذا به يهتف بكلمات قليلة لكنها قمة في البلاغة والإيجاز، لقد علا صوت البراء يقول: "يا أهل المدينة! لا مدينة لكم اليوم، إنما هو الله والجنة".. كلمات وضيئة مشرقة تُنبِئ عن روح صاحبها، وما يتردد في صدره من رغبات كبيرة سامية، وأمانٍ ضخمةٍ نبيلة.. إنه يهتف بأهل المدينة المنورة، أن ينسوا مدينتهم، وأن يجعلوا هدفهم رضوان الله عز وجل وجنته الطيبة الكريمة، ففي مثل هذا الموطن المشهود ينبغي ألّا يشغل المجاهدون أنفسهم بشيء سوى انتزاع النصر، عليهم أن ينسوا الديار التي خرجوا منها، والأهل الذين ودّعوهم، حتى المدينة المنورة عاصمة الإسلام، ومأرز الإيمان ينبغي ألا يتذكروها ففي الموقف ما يشغل.

     وسَرَت كلمات البراء بن مالك كالتيار الآتي الدافق في أرواح المجاهدين ودمائهم.. وعادت الصفوف تزدحم من جديد، ومضت سيوف المؤمنين تحصد المرتدين وهم يتراجعون، وجند الله تفعل بهم الأفاعيل.

     واحتمى المرتدون بحديقة كبيرة ولاذوا بها، وظنوا أنهم بمنجاة من سيوف المؤمنين.. وبدا إلى حين أن المعركة قد فترت لولا أن علا صوت البراء بن مالك يهتف: "يا معشر المسلمين، احملوني، وألقوني عليهم في الحديقة!".. كأنه أراد أن يقتحم الموت ليفتح للمسلمين باب الحديقة، فيهزم مسيلمة وجيشه، وتعلو كلمة الحق وترتفع، ويمضي هو شهيداً مبروراً.

     تلكم كانت أمنيته السعيدة، أن يفتح باب الحديقة، وأن يكسب الشهادة، ولم ينتظر البطل فاعتلى الجدار، وألقى بنفسه داخل الحديقة حيث يجتمع جيش الردة.. وفتح الباب فدخلَته جنود الإسلام.. وكانت هزيمة المرتدين، وكان مقتل مسيلمة، وكان انتصار الحق.. لكن شيئاً واحداً لم يتحقق للبراء، إن البطل لم يستشهد على الرغم من هذه المغامرة الجريئة، وصدق أبو بكر رضي الله عنه إذ قال: "احرص على الموت توهب لك الحياة".

     أيها البطل العظيم!.. لا تأسفن أنْ فاتتك الشهادة، فإنها قدِ ادُّخِرَت لك في يوم آخر.. كانت بطولتك رائعة معجبة، فقد تلقيت بضعاً وثمانين ضربة جعلتك تمضي بعد المعركة شهراً كاملاً، وأنت في العلاج يُشرف خالد بن الوليد نفسه على تمريضك.

     أيها البطل العظيم!.. لقد وصفك الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بأنك مستجاب الدعوة، فما عليك إلا أن تدعو أن يرزقك الله الشهادة، وسوف تفوز بها إذن، ولو بعد حين.

     أيها البطل العظيم!.. سيظل ما فعلتَ يوم اليمامة نموذجاً لأروع صور البطولة إذ تستعلي، والإيمان إذ يسمو، والفداء إذ يستميت.
*****

فتى من أسلم

فتى من أسلم

     هو فتى من قبيلة "أسلم" صادق في دينه، قوي في جسده، له همة ماضية، وعزم قاطع، ورغبة حارة أن ينهض بمسؤوليته رجلاً مسلماً في الجهاد في سبيل الله تعالى.

     لكنه كان محزوناً في ذلك اليوم الذي جلس فيه، يفكر فيما آلت إليه حاله، إنه فتى قوي يتمتع بالصحة والشباب، عضلاته مشدودة مفتولة وبدنه في حاجة إلى العراك والجهاد، فما هو بأهل للقعود، إنه لا يطيق ذلك ولا يحبه ولا يرغبه، بل هو يريد المسارعة إلى رضوان الله تعالى، وخير سبيل لذلك هو الجهاد الصادق المخلص الذي تصفو فيه النية وتنجو من جميع الأدران والشوائب.

     وثمة فرصة كريمة سانحة، فهاهم المسلمون يستعدون للغزو في سبيل الله، وهم يَغْدُون ويروحون، وكلهم فَرَحٌ غامر، واستبشار وَضِيْء، وسرورٌ شامل بهيج، ذلك أنهم تعلّموا أن العمر واحد، وأن خِتامَهُ الموتُ إن طال أو قصُر، وأن ذلك الختام لا بدّ أن يأتي إلى المرء حيث يكون في البيت المظلم، والحصن المشيد، والمخبأ النائي، والكهف العميق، وقد ينجو من يقاتل في أشد المعارك، ويُقتَلُ من يهرب منها، وربما هرب المرء من الموت ليقع فيه.

     وإذن؛ فما أحسن الجهاد في سبيل الله! وما أحسن أن يكون ختامُ حياة المرء أن يستشهد خلال ذلك الجهاد!.. وإن للشهيد منزلةً عند الله عز وجل كريمةً جليلة. من أجل ذلك كان المسلمون يتهيؤون للجهاد في سبيل الله تعالى، ومن أجل ذلك كانوا فرحين مستبشرين، ومن أجل ذلك كان الفتى الأسلمي محزوناً مكروباً ضيّق الصدر. أما فرحتهم واستبشارهم فلأنهم ماضون في سبيل الله للجهاد، وأما حزنه وضيقه فلأنه يجد نفسه لا يملك شيئاً يستطيع أن يتجهز به للخروج.

     إنه فقير، لكنه غني النفس، وكل الذي يرجوه الآن أن تتهيأ له الفرصة لينجو من القعود، ويلتحقَ بكتائب الغزاة المؤمنين الذي يحملون للدنيا رسالة الحق والعدل ليخلصوها من شقاء الجاهلية وأوضارها وأوهامها.

     كان فتانا الأسلمي كتلةَ نشاط وقوة ومضاء، وكانت رغبته أن يلحق بالغزاة المجاهدين صادقةً حارة، وهو وإن كان صغيرَ السن، قليلَ الخبرة والتجربة، فإنه كبيرُ القلب، قوي العزم، وافر الجرأة، وقّاد الفؤاد، في نفسه حنين جارف للجهاد، وفي صدره رغبة مُلِحَّة للنجاة من القعود واللحوق بمواكب المجاهدين.

     ومن يدري فلعله يفوز في مخرجه هذا بالشهادة في سبيل الله عز وجل!؟ وتنداح الخواطر في فؤاد الفتى الأسلمي، ويَجْمَحُ به الخيال حتى ليرى نفسه في المعركة وقد اشتدت وعنفت كالأسد الكاسر يجول ويصول غير وجِلٍ ولا هيّاب، يلقي بنفسه في أشد ميادينها عنفاً وضراوة. ويشتد خياله في الجموح، فإذا به يحسَب نفسه يسمع صليل السيوف، وقعقعة الرماح، وصهيلَ الخيل، وهُتافَ الفرسان، وتكبيرَ المجاهدين المسلمين، وقد لاحت لهم بشائر النصر وهم يتواصون بالصبر، ويتداعون للثبات، وينادون للإقدام. لكنه ما يلبث أن يعود إلى الواقع الذي هو فيه فيحزن ويَأْلَم، ويعظم عليه الحزن، ويشتد عليه الألم.

     إنه لا شيء يمنعه من الجهاد سوى أنه فقير، لا يجد زاداً ولا راحلة، ليس له سيف ولا رمح، ولا سهم ولا مُدْيَة، ولا حقيبة ولا كنانة، كيف يذهب للجهاد إذن!؟ أيذهب إلى الميدان أعزل من هذا كلِّه!؟ أيليق به ذلك!؟ وهَبْهُ ذهب!.. أفلا يكون إذا حمي الوطيس واشتد الوغى عضواً أشل لا يقدر حتى على الدفاع عن نفسه إذا احتاج الأمر إلى ذلك؟

     وظل الفتى الأسلمي يخال نفسه مرة وقد طفق مجاهداً في سبيل الله تعالى، فيفرح ويشرق وجهه، وتعلو أساريرَهُ المؤمنة بسمةٌ بهيجة، طليقة طَمُوح، لكنه ما يلبث إذ يجد نفسه عاجزاً عن الخروج مضطراً للقعود مع من تخلف بعذر صادق أو عذر كاذب، أن يحزن ويأسى ويجلس مكلوم الفؤاد.

     وظل على حاله تلك بين حزن وفرح، ألم وأمل، حتى وجد نفسه يتجه إلى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ليخبره أنه يريد الغزو، لكنه لا يجد لديه ما يجهز به.

     أما إنه لشاب كريم ذلك الفتى الأسلمي الهمام. إنه مقبل على الموت يسعى إليه دون خوف، بينما هناك عشرات من المنافقين تتقطع قلوبهم، وتفزع أفئدتهم، وتتمزق نفوسهم إنْ سمعوا ذكر الجهاد والغزو، والقتلِ والقتال. إنهم حين يسمعون مثل هذه السيرة؛ تربدُّ وجوههم، وتعلوها صفرة أشبه بصفرة الموت، وتدور أعينهم في محاجرها، ويبدو على أساريرهم قتام هائل، ورعب غريب.

     شتّان شتّان بين هؤلاء المنافقين الأنذال، وبين هذا الفتى الأسلمي المرقال، إنه مرقال إلى حيث الموت يَفْغَرُ فاه، مؤمِّلاً أن تقوده إلى الجنة رميةٌ بسهم، أو طعنةٌ برمح، أو ضربةٌ بسيف.

     ألا بوركت أيها الفتى الأسلمي المقدام، وبورك النبي الذي ربّاك، وبورك الدين الذي شَرُفْتَ بالانتساب إليه. ما أروع خطاك!.. وأنت تتجه إلى النبي الكريم صلى الله عليه وسلم لتضع بين يديه شكواك النبيلة الكريمة، ورغبتك الصادقة السامية، وهِمَّتَكَ الوقادة الطَّمُوح. وأَمَرَهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم أن يذهب إلى رجل كان قد تجهز للغزو فمرض ليأخذ ما كان قد تجهز به.

     وسرتِ الفرحة في فؤاد الفتى الأسلمي، وامتلأ حبوراً وبهجة، وسارع نحو المجاهد المريض يحمل إليه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. واستقبل المجاهد المريض فتانا الأسلمي خير استقبال، وسارع بطلب من أهله أن يدفعوا له كل ما كان قد تجهّز به دون أن يُنقِصوا منه شيئاً، فإن شيئاً يُنْتَقَصُ من جهاز مجاهد لن يبارَكَ فيه قط.

     وطفق فتانا يشكر أخاه المريض أحرّ شكر وأصدقه وأكرمه، فقد أنقذه من القعود، وأتاح له سبيل الخروج في سبيل الله تعالى، وإنه هو الآخر مأجور مشكور، كيف لا، ومن جهَّز غازياً فقد غزا!؟

     وخرج الفتى الأسلمي وقد اشتد فرحه، وصار قطعة من السرور البهيج الدفَّاق، والفرح الغامر المبين، خرج يعدو ويعدو، وقد شَعَرَ أن قوته تزداد، وبأسه يتعاظم، وأنَّ في مسمعه هتافاً حبيباً يدعوه إلى جنة عرضها السماوات والأرض.
*****

أبو سفيان بن الحارث ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم

أبو سفيان بن الحارث ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم

     هو أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخوه من الرضاعة.. وزميله في النشأة والصبا. ومن العجيب أنه ربما يهتدي البعيد النائي عن داعية الهدى، بينما يصدُّ عن ذلك الأقرباء الذين هم ألصق الناس به، يا سبحان الله! أينفر من الماء العذب من يعيشون إلى جواره، بينما يروى به آخرون بعيدون!؟ إن ذلك كثيراً ما يحدث، وليس في ذلك عجب أو غرابة، فالهداية والإعراض سِرّان من أسرار الله عز وجل.

     من هؤلاء المعرضين عن الماء السائغ، الصادّين عن المنهل العذب، المعادين للحق أن يعلو ويذيع بين الناس، أبو سفيان بن الحارث، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخوه من الرضاعة، وزميله في النشأة والصبا. وسبحان الله! فإن بيده الهداية والضلال.

     لقد نفر أبو سفيان من دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم أشد النفور، وعاداها أشد عداء، مجاهراً بالظلم والعداوة، معانداً للحق، مجافياً للهدى، محارباً للخير محالفاً للشيطان.

     وكان الرجل شاعراً معروفاً في مكة المكرمة، فأخذ يذيع شعره في هجاء الرسول عليه الصلاة والسلام والتنفير من الإسلام. واستمر أبو سفيان بن الحارث على العداوة دهراً طويلاً يقرب من عشرين عاماً قضاها في دنياه الشريرة الباغية.. ثم آنَ للظالم أن يرتدع، وللباغي أن يتوب، وللغافل أن يصحو، وللصادّ أن يثوب، لقد أضاءت شعلة الإيمان فؤاده فإذا به يستنير، وإذا به يتّقِدُ حباً للخير والحق، وإيماناً برسالة الإسلام. كان ذلك قبيل فتح مكة المكرمة.. وعندها مضى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعلن إسلامه بين يديه الكريمتين.

     وقف أبو سفيان بعد عداوة عشرين عاماً أمام نبيه وابن عمه صلى الله عليه وسلم، فأعرض عنه وأشاح عنه بوجهه الكريم. وتحوّل الرجل التائب النادم ليقف في مواجهة الرسول صلى الله عليه وسلم من جديد، فأعرض عنه مرة ثانية.. وعلمت أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها بذلك فشفقت له.. وأخذ أبو سفيان يردد كلمة الشهادة، ويعتذر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فعفا عنه، وقبِل منه، وأوصى به ابن عمه علي بن أبي طالب ليعلّمه الإسلام.

     ويُروى أن أبا سفيان حين انشرح صدره للإسلام جاء ابنَ عمه علي بن أبي طالب الذي نصحه أن يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم من قِبَلِ وجهه ويقولَ له: "تاللّه لقد آثرك الله علينا، وإن كنا لخاطئين"، ففعل أبو سفيان ذلك، فقال له صلى الله عليه وسلم: "لا تثريب عليكم اليوم، يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين".. عندها أنشده أبو سفيان أبياته التي منها:

لعـــمرك إني يوم أحمل رايـة     لتغـلبَ خيلُ اللَّاتِ خيلَ محمدِ
لكالمدلـج الحيران أظلم ليـــله     فهذا أواني حين أُهْدَى فأهتدي
* * *

     وأيّاً كان الأمر!.. فإن أبا سفيان قد دخل مرحلة جديدة في حياته؛ هي مرحلة التكفير والتوبة والتطهير، وإذا به يعود إلى ماضيه كأنه يريد أن يمحوه محواً، ويقتلعه من جذوره. بالأمس هجا المسلمين، واليوم يهجو الشرك، وبالأمس وقف يحارب المسلمين وهو اليوم يحارب معهم، لقد كانت في الرجل حُرقة داخلية، وندم عميق، ورغبة ملحة في بدء حياةٍ جديدةٍ تقوم على الصدق والإيمان والجهاد. وكأن الرجل وجد في الجهاد ضالة هو عنها يبحث، وهو إليها محتاج، وهكذا كان..

     شهد الرجل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة، وغزوة حنين، وغزوة الطائف.. وفي حنين، حين انكشف الناس ثبت ثبات الجبال.. وهو يقود بغلة النبي صلى الله عليه وسلم ومعه ابنه جعفر. ثبت أبو سفيان وجعل يدافع ويقاتل أشد القتال، فنظر إليه العباس بن عبد المطلب وأعجِبَ بما يفعل، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله هذا أخوك وابن عمك أبو سفيان فارض عنه، فقال صلى الله عليه وسلم "قد فعلت، فغفر الله له كل عداوة عادانيها".

     وقف أبو سفيان البطل يجاهد دون خوف أو وجل.. فقد آمن الرجل حقاً، فما عاد يرى لذة في العيش خيراً من نصرة الدين، يكشف عن هذا شِعرُه الذي قاله يوم حنين:

إن ابن عم المرء من أعمامِهِ
بني أبيه قـــوة من قــــــدامِهِ
فــــإن هذا اليوم من أيــــامِهِ
يقـــاتل الحرمي عن إحرامِهِ
يقاتل المســــــلم عن إسلامِهِ

     شِعرٌ يكشف عما كان يختلج في صدر أبي سفيان من أمانٍ ورغبات. إنه أخو الهيجاء حقاً طلباً لثواب الله ومرضاته هاهو يقول:

لقـد علمت أفنـــاء كعب وعامر     غداة حنين حين عم التضعضعُ
بأني أخو الهيجـاء أركب حدها     أمـــام رســـول الله لا أتتعتــــعُ
رجــــاء ثواب الله، والله واسـع     إليه تعـــــالى كل أمر سيـرجعُ

     يا سبحان الله! لقد آمن شِعر الرجل بعد طول كفران، كما آمن قلبه هو الآخر بعد كفران طويل.

     إن تحول أبي سفيان بن الحارث من الجاهلية إلى الإسلام كان تحولاً جذرياً حقيقياً.. سرى في أعمق أعماقه صدقاً وإخلاصاً وتضحية. لقد أسلم الرجل وحسن إسلامه، لذا قال صلى الله عليه وسلم عنه: "ألا إن الله ورسوله قد رضيا عن أبي سفيان بن الحارث؛ فارضوا عنه"، وأمر علياً أن ينادي في الناس بذلك.

     توبة عميقة تلك التي ملكت فؤاد أبي سفيان.. فقد كان له من الإيمان والوفاء والإخلاص حظ كبير.. وحسبك أنه لم يكن يرفع رأسه في وجه الرسول صلى الله عليه وسلم حياءً منه، وحسبك أنه واصل التكفير عن ماضيه بكثرة الصيام والصلاة والعبادة والجهاد، لقد تغيرت حياته تغيراً تاماً، ونقّتهُ التوبة النصوح، ومحّصه الإخلاص الصادق، وشرّفه الجهاد باللسان والسنان.. حتى لقد قال فيه صلى الله عليه وسلم: "أبو سفيان أخي وخيرُ أهلي، وقد أعقبني الله من حمزة بن عبد المطلب أبا سفيان بن الحارث"، لذا كان يُدعى "أسد الله وأسد الرسول".

     ومرت السنوات يتلو بعضها بعضاً، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو سفيان يوالي مسيرته في دروب الهداية والبر والجهاد.. وبينما كان يؤدي الحج جُرِح في رأسه فمرض فمات.. وفي مرضه كان يقول لأهله المحيطين به وعيناه تتقدان بالصدق والصفاء: "لا تبكوا عليّ، فإني لم أتنطَّق بخطيئة منذ أسلمت".

     أيها الصحابي الشاعر المجاهد! رحمك الله، وأكرمك، ورضي عنك وغفر لك، فقد كانت مواقفك بعد إسلامك قمة شامخة عنيفة في الصدق والصبر، والفضيلة والبر، والجهاد والتضحية؛ مواقف تكشف أيَّ عظيمٍ كنت، وأيَّ بطل كنت، وأيَّ مجاهد مؤمن منيب صادق، صاغه الإسلام.
*****

المِرقالُ.. شهيد القادسية

المِرْقَالُ.. شهيد القادسية

قد أكثروا لَوْمِي وما أقَــــلّا
إني شريتُ النفسَ لنْ أعتلّا
أعْوَرُ[1] يَبْغي أهلُهُ مَحَـلّ
قد عالجَ الحيــــاةَ حتى ملّا
لا بـدَّ أن يَفُلَّ أو يُفَـــلّا[2]

     أسمعتَ هذه الأهزوجةَ يترنَّمُ بها بطلٌ كَمِيٌّ شجاع؟ أصافحتْ أذنيكَ أنغامها الرائعة وترنيمتها الحيّة التي تعُجُّ بمعاني البطولةِ والرجولةِ والإباء؟ إنّ هناك من يلوم البطل المرقالَ على مواقفه، وعلى مبادرته إلى التزامِ الحق، ومُسارعتِه في محاربة الباطل.. هناك من يدعوه إلى الرَّيْثِ ويُحذِّرُه من عقابيل المبادرة والسرعة.

     وقد يكون لهؤلاء اللائمين عذرٌ فيما يبدو لهم، لكن البطل المرقالَ لم يكن ليوافقهم على ذلك ولم يكن ليفعلَ ما يريدون.. ذلك أنه كانت له قناعاتٌ أخرى تحمِلُه على اتخاذِ ما يطيبُ له وما يقتنعُ به من مواقف.

     كان الأمرُ عنده لا يتجاوز أن يكون حقاً أو باطلاً.. فإن كان باطلاً فهو ناءٍ عنه بعيد، وإن كان حقاً فهو ملتزمٌ له حريص عليه إليهِ مُسارع، ومِن أجل ذلك عُرِف بذلك اللقب الكريم "المرقال". والمرقالُ هو الذي يُسرِع في سفره ولا يتمهل. ولمّا كان بطلنا ممّن يمضي في الحربِ مُسرِعاً لا يتردد، مُنطلِقاً لا يُحجِم فقد منحه إخوانه ذلك اللقب الذي يكشفُ عن نفسيته من ناحية، وعن مواقفِه من ناحيةٍ أخرى.

     وكان المرقال يحيا بعينٍ واحدةٍ فحسب، لكن ذلك لم يكن لِيقعُدَ به قط عن الجهاد فقد كان الإرقال إلى المكرمات طبعاً فيه وسجية.. ولعله من أجل ذلك كثُرَ عليه اللائمون.. يريدون منه أن يغيّر من مواقفه لكن، أنّى لهم، وأنّى له ذلك؟

     هم يلومونه، لكنه هو قد باعَ نفسه، فالأمر إذن قد انتهى، والصفقة إذن قد تمت فلا محل للتراجع والنكوص. ثم هو رجلٌ قد عالجَ الحياةَ طويلاً، وذاق حلوَها ومُرَّها، فكان أنْ ملَّ من ذلك كلِّه.. فتاقت نفسه إلى الشهادة يحظى بها ويفوز، وإنه إذ ذاك لسعيدٌ جدُّ سعيد، وإذن فإن للبطل المرقال عُذرَهُ الواضح البيِّنَ فيما يفعل.. فهو لا بد أن يَفُلَّ أو يُفَلَّ، وهو من الحياة قد مَلّ، وهو على الشهادةِ حريصٌ جدُّ حريص، وإذن فإن إجابتَه لمن يلومُه هي:

قد أكثروا لَوْمِي وما أقَــــلّا
إني شريتُ النفسَ لنْ أعتلّا
أعْــــــوَرُ يَبْغي أهلُهُ مَحَـلّ
قد عالجَ الحيــــاةَ حتى ملّا
لا بـدَّ أن يَفُـــــــلَّ أو يُفَـــلّا

     ومنذ أسلم الرجل يوم فتح مكة المكرمة، مضى في حياته الجديدة على تلك السجية النبيلة، سجية الإرقال إلى المكرمات والجهاد، وإلى كل ما يقتنع بصحته وصوابه محتمِلاً في ذلك جميعَ ما يترتبُ عليه من أمورٍ مهما كانت فادحةً ثقيلة.

     وكأن المرقالَ لم يجِدْ لنفسه شيئاً كالجهاد في سبيل الله، لا سيما أنه تأخر في إسلامه دهراً ليس بالقصير، لذا طفِق يمضي في هذا الميدان بكل ما يقدر عليه من قوةٍ وجهدٍ وبلاء.. وفعلاً كانت له جولاتٌ كريمة مشهودة أخلصَ فيها أيّما إخلاص، وسَما إلى ذرى البطولةِ والصدقِ والتضحية.. وفي فتحِ العراقِ وفارس كان للمرقالِ دورٌ كبير كشف عن همته وعزيمته، وشجاعتهِ وبطولته، وصفاءِ نفسه، وأصالةِ معدنه.

     ففي القادسية أبلى أحسنَ بلاءٍ وثبَت ثبات الجبال.. وكان سيفه صوّالاً جوّالاً في رقاب عَبَدةِ النار. وحين عقد له سعدُ بن أبي وقاص رضي الله عنه لواء الإمارة على الجيش الذي أعدّه لقتالِ "يزدجر" آخر أكاسرة الفرس نهض المرقالُ بأعباء القيادة أحسن نهوضٍ في معركة جَلَوْلاء التي كانت شديدة العنف والضراوة حتى سماها المسلمون "جَلَوْلاءَ الوقيعة" وكان لهم فيها النصر المبين.. وكان المرقال يحمل بيده اللواء، ويقاتل مردداً هذه الأبيات التي يَعني بها نفسَه:

أعْـــــــوَرُ يبغي نفسَــــه خلاصا     مِثلُ الفنِيقِ[3] لابساً دِلاصا[4]
قــد جرَّبَ الحربَ ولا أنـاصــــا     لا ديـــةً يخشى ولا قِصــــــاصا
كلُّ امرئٍ وإنْ كبـــــا وحاصـــا     ليس يرى من موتِه مَنــــــــاصا

     إنها أبياتٌ رائعة هذه التي يهزجُ بها المرقال حين تضطرم المعركة وتشتد. إنه يرجو لنفسه الخلاص.. وهذا لا يكونُ إلا بالشهادة، إذن فما عليه إلا أن يجاهدَ ويجاهدَ عسى أن يفوزَ بما يؤمّل.. وما دام الموت ليس منه مناص فَلْيَكُنِ الإقدام، ولتكنِ الشجاعة، وليكنِ الجهاد الدائبُ الموصول الذي لا يهدأ ولا يلين.

     ويمكنُ لك أن ترى في قَوْلَةٍ وجيزةٍ للمرقال خلاصة حياته الكريمة بعد إسلامه. لقد كان يقول للمجاهدين من حوله داعياً إياهم للثباتِ والإقدام، والبذل والجهاد، حينَ يحمى وطيسُ المعركة: "ألا من كانت له إلى الله حاجة ومن كان يريد الآخرة فَلْيُقْبِل".. هكذا الأمر إذن ببساطةٍ ويُسرٍ ووضوح، طريقٌ بيّنةٌ واضحةٌ لاحِبَةٌ لِمن يريدُ الآخرة.. أن يتقدمَ ويجاهدَ ويضربَ حتى يكسبَ الشهادة، وعند ذلك فهو الفائزُ السعيد.

     ظلَّ البطلُ طِيلة حياته بعد إسلامه مرقالاً لا يهدأ، مسارعاً للمكرمات، مبادراً للجهاد، مؤمّلاً أن يفوز بالشهادة التي صارت عنده أحسنَ أمانيه وأحلاها.. اسمع هذه الأبياتَ التي قالها إذ هو مع الإمامِ علي بن أبي طالب لترى أنَّ من لقَّبه بالمرقالِ كان على معرفةٍ بنفسيتهِ دقيقةٍ ومحيطة، إنه يقول:

وسِــرْنـــــا إلى خيرِ البريَّـــــةِ كلِّها
               على عِلمِنـــا أنّــــــا إلى اللهِ نرجِــعُ
نوقِّــــرُهُ في فضـــــلِهِ ونُجِــــــــــلُّهُ
               وفي اللهِ ما نرجــــو وما نتـوقَّـــــــعُ
ونَخْصِفُ أخفافَ المَطِيِّ على الوجا
               وفي اللهِ ما نرمي، وفي الله نُوضِــعُ
دَلَفْنا بجـــمعٍ آثروا الحــــقَّ والهدى
               إلى ذي تُقىً في نَصْــــرِهِ نتســــرَّعُ
نكـــافحُ عنهُ والسيــــوفُ شهيــــرةٌ
               تصـــافحُ أعناقَ الرجـــــــالِ فتَقْطَعُ

     لعلكَ لم يَفُتْكَ أن تُمعِن النظرَ في قوله: "إلى ذي تُقىً في نَصْرِهِ نتسرَّعُ"، ومتى ذلك؟ إنّ ذلك حين تُشهَرُ السيوفُ وتحتدمُ المعركة، فتصافحُ السيوفُ الأعناقَ، ويكثر القتلُ بين الناس.

     ومرةً نشبت إحدى المعارك، وكانت عنيفةً ضارية، ومضى فيها البطل المرقال هاشمُ بن عتبةَ بن أبي وقاص رضي الله عنه مقبِلاً غيرَ مدبِر، صابراً واثِقاً محتسباً.. حتى تكاثر عليه الناس، فإذا به يسقط شهيداً مبروراً مجيداً ليفوز بالأمنية التي طالما رَجا وأمَّل. رحمكَ الله يا هاشم، وأجزلَ لك الثواب، ورحم الله من قال فيك:

يا هــاشمَ الخيرِ جُزِيتَ الجنَّــةْ     قاتــــلتَ في الله عدوَّ السُّـــــنَّةْ
والتَّاركي الحقِّ، وأهلَ الظِنَّــةْ     أعظِمْ بما فُزْتَ بهِ مِنْ مِنَّةْ[5]
*****
------------
[1] أصيب المِرْقال، واسمه هاشم بن عتبة في معركة اليرموك في إحدى عينيه، فهو يسمي نفسه الأعور.
[2] هذا الرجز، وسائر الأشعار الواردة من شعر المِرْقال هاشم بن عتبة.
[3] الفنيق: فَنَقَ ـِ فَنْقاً: تنعّم في عيشه. و(الفَنِيق) من الإبل: الفحل. (ج) فُنُق. (الفَنِيقَة) من النساء: المنعَّمَة. (المعجم الوسيط).
[4] دَلَصَتِ الدِّرْعُ ـُ دَلاصَةً: لانت. و ـ الشيءُ: بَرَقَ ولَمَعَ. والدِّلاصُ: اللَّيِّن البَرَّاقُ الأَمْلَسُ. ودِرْعٌ دِلاَصٌ: ليِّنَة. (ج) دِلاصٌ. (المعجم الوسيط).
[5] شعر أبي الطفيل القرشي.

أبو خيثمة وغزوة تبوك

أبو خيثمة وغزوة تبوك

     أقبلت غزوة تبوك في السنة التاسعة للهجرة، لتكون امتحاناً جديداً للمسلمين.. صبرِهم وبلائِهم، سمعهم ونشاطهم، إيثارهم واحتمالهم. أقبلت في فصل الصيف الحار المرهق.. حين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين للخروج من المدينة المنورة لغزو الروم في تبوك.

     الزمن هو الصيف، حيث تنصبُّ الشمس على رمال الطريق ليكون شيئاً أشبه بالفرن المتّقد.. والطريق طويل فهو يبلغ (700كم) على الجيش المجاهد الغازي أن يقطعها.. والعدو وهو الروم متجبر متنمر مدل بعدده وعدته.

     وفي هذه الصعاب هتف داعي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسلمين في المدينة المنورة أن هيّا إلى الجهاد.. وسارع المسلمون يلبون النداء على الرغم من الحر المتقد، والطريق الطويل، والعدو القوي.

     وكانت الثمار في بساتين المدينة المنورة قد طابت، وآن قطافها.. وكانت طيبة ناضجة.. النظر إليها طيب، وطعمها لذيذ.

     وكان الناس في مثل هذا الوقت من العام يطيب لهم كثيراً أن يسارعوا إلى بساتينهم يهربون إليها من الحر المتقد والشمس الضاربة، والريح التي تأتي حارة تلفح الوجوه والأجسام.. ففي بساتينهم ماء سائغ، وظل ظليل، وفاكهة طابت وحسُنَت، وآن القطاف.

     لكن الناس مع ذلك كله سارعوا إلى اللحاق بجيشه صلى الله عليه وسلم تاركين هذه اللذائذ والمغريات جميعاً؛ ذلك أنهم قد عرفوا أن ما عند الله خير وأبقى.

     وفصل الجيش المسلم من المدينة المنورة بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم راحلاً إلى تبوك ترفعه رافعة، وتخفضه خافضة، لا يريد علواً في الأرض ولا فساداً، وإنما يريد نشر الحق، ومحاربة الباطل، وإسعاد الناس بالرسالة الجديدة.. رسالة الإسلام.

     وعاد إلى المدينة المنورة بعد أيام قلائل من رحيل الجيش المسلم صحابي كريم هو أبو خيثمة، ذلك أنه كان غائباً عنها منذ هتف الداعي بالخروج حتى كان الرحيل المبارك في سبيل الله عز وجل.

     عاد أبو خيثمة ليجد المدينة المنورة تكاد تكون خالية من الرجال، فليس فيها سوى بعض العاجزين المعذورين، وعدد يسير جداً من المؤمنين المتخلفين الفقراء، وقوم آخرون ممن عُرِفوا بالنفاق.. أولئك هم الرجال الذين لقيهم أبو خيثمة حين عاد من سفره إلى المدينة المنورة بعد رحيل الجيش المسلم.

     وكانت عودته في وقت شديد الحرارة، ملتهب القيظ.. فعجّل بالذهاب إلى بيته حيث التقى بزوجتيه، وكل منهما في عريش داخل بستانه، وكل منهما قد برّدت له الماء، وهيأت له الطعام، ورشت الماء أمام عريشها، فإذا به يبرد ويطيب ويحلو.

     واجتمع للرجل الماء العذب السائغ، والظل الظليل الوارف، والزوجتان الكريمتان، والخضرة الجميلة، والفاكهة الناضجة اللذيذة.. كل ذلك أخذ يدعو أبا خيثمة، وكأنه يقول له: فرصة طيبة فانتهزها، الحر شديد، والتراب كأنه موقد، والحصى كالجمر، وأنت قادم من سفر، والمكان الآن ظليل جميل، والماء بارد، والعريشان طلقان ناشطان، والطعام طيب، والفاكهة ناضرة، والخضرة حلوة المنظر، والزوجتان تحفّان بك تخدمانك كيف تشاء، فاقعد، اقعد ولا تدع هذه النعمة تفلت من يديك.

     اقعد يا أبا خيثمة.. فما أنت واللحوق بالجيش المسلم!؟ فالصحراء الآن تنُّور متقد وهّاج، والسفر يشق فيها للجماعة، فكيف لك وأنت راكب منفرد!؟ هب راحلتك شردت منك!.. هب ماءك نفد!.. هب زادك لم يبقَ منه شيء!.. هبك ضللت الطريق!.. فما أنت فاعل في الصحراء وحيداً منفرداً!؟

     اقعد يا أبا خيثمة!.. فإن لك من ذلك كله عذراً أي عذر.. ولا تنسَ أنك لم تكن في المدينة ساعة دُعِي المسلمون للخروج فأجابوا.. ولم تكن حاضراً حين خرج الجيش فأنت معذور إذن من جهة أخرى.. وما عليك إذن أن تبقى حيث أنت!؟ كذلك تحدثت النفس، نفس أبي خيثمة، وكذلك وسوس رسول الشيطان.

     لكن صوتاً آخر طفق يهتف بعنف وإلحاح في مسمع أبي خيثمة، هو صوت الضمير المؤمن الذي ربّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفوس أتباعه الكرام الأوفياء، طفق يهتف ويقول: لا يا أبا خيثمة! حذار من القعود!.. اخرج في الحال، والحق برسول الله صلى الله عليه وسلم وجيشه المجاهد.. حذار أن تُؤثِرَ الدنيا على الآخرة!.. حذار من الإخلاد، البدارَ البدارَ إلى الخروج!.. فالدنيا رحلة وجيزة مهما طال عمر الإنسان، فلا يغررك ما ترى من ماء وثمر وظل وأهل..

     إنك لو تدبرت وأمعنت النظر لعلمت أن حصباء الطريق الملتهبة خير لك من هذين العريشين الباردين، وأن ما تحمله معك في قربتك من ماء قليل خير لك من الماء العذب البارد الذي أعدّته لك زوجتاك.. وأنّ خطوة واحدة تقطعها في الطريق إلى تبوك خير لك من كل ما يلذ لعينك مما في بستانك الذي جئت إليه، وأن ساعة تقضيها على متن راحلتك تحت الشمس المتقدة خير لك من ليالٍ طويلة وأيام كثيرة تقضيها حيث الماء والخضرة والوجه الحسن، وهو ما يدعوك إليه ما في نفسك ونفس كل إنسان من ضعف بشري!.

     واستمرت المعركة بين الهاتفين، هاتف الضعف الذي يدعو أبا خيثمة لدخول البستان والاستمتاع بطيبات ما فيه، وهاتف الإيمان الذي يدعوه للاستعلاء على هذا كله، وإيثار الآخرة على الدنيا، واللحاق برسول الله صلى الله عليه وسلم.

     وظل أبو خيثمة واقفاً لا يتحرك، ثابتاً لا يريم، كأنه قد سمر إلى الأرض، فما هو بقادر على الدخول أو الخروج.

     وطالت المعركة، وامتد الصراع، وأدركتِ الصحابيَّ الكريمَ رحمة من الله تعالى؛ فإذا به ينتصر على نفسه أيما انتصار!.. لقد فضّل الخروج على القعود، والنَّصَب على الراحة، والمشقة على الدعة، والحر اللافح على الهواء البارد.. لقد فضّل الأخرى على الدنيا.

     قال أبو خيثمة وهو ينظر إلى زوجتيه وما صنعتا له في حزن ولوم: رسول الله صلى الله عليه وسلم في الضحِّ والريح والحر، وأبو خيثمة في ظل بارد، وطعام مُهيّأ، وامرأة حسناء، في ماله مقيم؟ ما هذا بالنَّصَف!.. والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألتحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فهيِّئا لي زاداً.

     لقد انتصر البطل على نفسه، فاستعلى وارتفع، فكان تلميذاً نجيباً وفياً من تلاميذ مدرسة النبوة الطاهرة.. لقد جعله إيمانه الوثيق يُؤثِر احتمال مسؤوليته جندياً مؤمناً في الدولة المسلمة على دواعي القعود والإخلاد..

     إن الدولة المسلمة الناشئة تصوغ اليوم بدء حضارة جديدة تُكرِمُ الإنسان، وتُعلي كلمة الحق، وتُذِيع دعاء القرآن، وتحارب الوثنية والخرافة.. وهو عمل شاق ثقيل لا يقوم به إلا الرجال الكرام الأوفياء لما يعتقدون، المثابرون على السير في طريقهم مهما تكن الصعاب.. فكيف ينكص أبو خيثمة عن احتمال مسؤوليته في صياغة أكرم وأشرف وأسعد حضارة عرفها الإنسان!؟

     لم يكن أبو خيثمة لينكص، ولم يكن أبو خيثمة ليستبدل الأدنى بالذي هو خير.. وهكذا كان!. حمل سلاحه وزاده وركب راحلته، وانطلق يطوي الطريق اللاحب البعيد صوب غايته الكريمة المثلى.

     وذات يوم لاح للمسلمين الغزاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم طيف شخص مقبل من بعيد يختفي ويظهر، ويبدو ويغيب، فسارعوا يبلغونه الأمر، فقال عليه الصلاة والسلام: "كن أبا خيثمة!".

     وكان الرجل هو أبا خيثمة حقاً، واقترب من رسول الله صلى الله عليه وسلم خاشع الطرف، خافض الرأس، وئيد الخطى، وألقى عليه السلام، واعتذر إليه في صدق وإخلاص، فقبل عذره ودعا له بخير.

     رحمك الله يا أبا خيثمة، وأجزل لك الثواب!.. فلقد كنتَ مؤمناً صادقاً، وثيق الإيمان.. ما أروع قولك عن هذا الموقف الكريم!:

ولما رأيت النــــاس في الدين نـــافقوا     أتيــــتُ التي كانت أعفَّ وأكــــــرما
وبـــايعـت باليمنى يــــــدي لمحــــمد     فــــلم أكسبِ اثْماً ولم أغشَ محــــرما
تركت خضيبــــاً في العريش وحرمة     صفــــايا كراماً بُسْــــرها قد تحـــمما
وكنت إذا شك المنــــافق أسمحــــــت     إلى الدين نفسي شطره حيث يمما[1]
*****
-------------
[1] شعر أبي خيثمة، واسمه مالك بن قيس.

أبو طلحة الأنصاري.. ينفر ثقالاً

أبو طلحة الأنصاري.. ينفر ثقالاً

     كان يقرأ في كتابِ الله عز وجل حينَ استوقفَه قولُه تعالى في سورةِ براءة: "انفروا خِفافاً وثِقالاً"؛ فإذا به يهتفُ بأبنائه قائلاً: "لا أرى ربَّنا إلا يستنفِرُنا شباباً وشيوخاً.. يا بَنِيَّ جهِّزوني، جهِّزوني".

     والتفتَ الأبناءُ ينظرون إلى بعضِهم، وقد عقدت الدهشةُ ألسِنتَهم، وامتلكَهم عجَبٌ وإعجاب.. أما العجبُ فمِن هذا الوالد الذي يحملُ على كتفيه سنواتٍ طوالاً قضاها في جهادٍ دائبٍ وحركةٍ لا تنقطع، ثم هو يريدُ اليومَ أن يجهزوه للخروجِ بعدَ أن رأى أنّه لا عذرَ له.. وأما الإعجابُ فبنفسِه التي لا تزال تتقِدُ حماسةً وحميّةً، وقلبِه الذي لا يزال عامِراً بالحيوية والبطولة، وروحِه التي لا تزالُ تسمو وتعلو، وإيمانه الذي لا يرضى له القعودَ والكسل.

     ولو أنَّ الرجلَ ظلَّ حيث هو في هدوءٍ ودَعة، يعبُد الله عز وجل مُخلِصاً له الدين، مُخبِتاً مُنِيباً إليه لَما كان موضِعَ لومِ أحدٍ قط، ذلك أنَّه قد امتدّ به العمر، وتطاولت به الأيام ثم إنه غزا في سبيل الله فأبلى أحسنَ البلاء، طَوالَ مدةٍ ليست بالقصيرة.. لقد غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات، وغزا مع الخليفة الصِّدِّيق حتى مات، وغزا مع الخليفة عمر حتى مات، وإذن فإنَّ عُذرَهُ بَيِّنٌ، ليس بحاجةٍ أن يتَقَيَّدَ له الشواهدَ، فالناس تدري مِن أمره، وتعلمُ من سيرته، وتعرفُ من بطولته، ما يقومُ دليلاً لا يُرَدُّ؛ أنَّ الرجلَ معذورٌ عن الخروج.. فهو كبيرٌ في السِّن.. وهو غزا وغزا وأبلى.. ثم إنَّ له فِتيةً آمنوا وصَدَّقوا يغزونَ ويجاهدون.

     لكنَّ الرجل الذي ملأه الإسلام بالبطولة، وشَحَنه الإيمانُ بالفِداء.. وأوقَد فيهِ كتاب الله تعالى حُبَّ الشهادةِ كان قد توقَّفَ عندَ قولِ الله عز وجل: "انْفِرُوا خِفَافاً وثِقَالاً"؛ فرأى أن لا عُذرَ له قط، فهو إما خفيفٌ يقدرُ على الحركة والسفر والجهاد، وإما ثقيلٌ يُتعِبُهُ ذلك ويَؤوده، وهو في الحالينِ مُطالبٌ أن ينفر. لذا سارعَ يقول: "لا أرى ربَّنا إلا يستنفِرُنا شباباً وشيوخاً.. يا بَنِيَّ جهِّزوني، جهِّزوني".

     "يا بَنِيَّ جهِّزوني جهِّزوني"؛ قولةٌ تكشِف عن عُمقِ الإحساسِ بالمسؤوليةِ التي أوقدَها الإسلامُ في قلوبِ أتباعه. قولةٌ تكشف عن دوحِ الجِدِّ العميق في نفوس أولئك الرجال الذين صاغوا أكرمَ حضارةٍ عرفها الإنسان منذُ كان، قولةٌ تكشفُ عن النَّقلَةِ الشاسعةِ البعيدة التي أحدثها محمدٌ صلى الله عليه وسلم لدى ذلك الجيل القرآني الفريد الذي ربّاه فأحسنَ تربيتَه، فكانَ منه العَجَبُ العُجاب.

     "يا بَنِيَّ جهِّزوني جهِّزوني"؛ قالها الرجلُ لأولادهِ الذين يقفون من حولِه، بعدَ أن استوقفَه قول الله عز وجل، ورأى أنْ ليس له من الجهادِ فكاك..

     وقف أولادُ الرجلِ ينظرون إليهِ وقد تملَّكَهم العجب والإعجاب، واستولت عليهم مشاعِرُ التعظيم والإكبار.

     وقطعَ الصمتَ واحدٌ مِنهم يقول لوالده: "يرْحَمُكَ الله! قد غزوتَ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات، ومع أبي بكرٍ رضي الله عنه حتى مات، ومع عمرَ رضي الله عنه حتى مات".

     وسكت القائل، ورانَ على المكانِ صمتٌ جليل، والقائلُ قد أيقن، والآخرون قد أيقنوا أن الوالدَ قد اقتنعَ بتلك الحجةِ القوية، فعدل عن فكرة الخروج.. لكنَّ الرجل الذي استوقفه قول الله عز وجل، وامتلكَ عليه كلَّ إحساسه لم يقتنع بما قال ابنُه. إنه يرى نفسه مُطالَباً بالغزو.. وهل هو إلا خفيفٌ أو ثقيل؟ لذا رجعت قولتُه تصْدُرُ عنه كالضوء الساطع: "لا أرى ربَّنا إلا يستنفِرُنا شباباً وشيوخاً.. يا بَنِيَّ جهِّزوني، جهِّزوني".. وعاد الصمتُ الجليلُ يسودُ المكان.. وعاد الأبُ ينظرُ إلى أولادِه.. وعاد الأولاد إلى أبيهم ينظرون.

     وكأنَّ القائلَ الأولَ قد وجدَ حُجَّةً جديدةً قوية يُلْقي بها ليقطع الصمتَ الجليل الذي طال، وكأنه فَرحَ بها واستبشر، فإذا به يقول لأبيه: "فدَعْنا نَغْزُ عنك".. دَعْنا نَغْزُ عنك.. قَوْلَةٌ رائعة هي الأخرى تَسْتقي من المعينِ النبيل الذي استقت منه قولةُ الأب: "يا بَنِيَّ جهِّزوني جهِّزوني".. إنه معينٌ واحدٌ هو الذي رَوِيَ منه الأب، ورَوِيَ منهُ الأولاد، فإذا بالجهاد، وهو تَعَبٌ وجهدٌ ومشقة، وهو غربةٌ وجوعٌ وعطش، وهو جِراحٌ وقتلٌ وموت.. يغدو أُمنِيةً حلوة عزيزة يتسابقُ القومُ من أجل الحصول عليها والفوز بها. وربما خالَ المرءُ أنَّ أبا طلحةَ اقتنعَ هذه المرةَ بحجةِ الابن القائل، ذلك أنَّ فيها غزواً وخروجاً في سبيلِ الله، وانتصاراً على نوازعِ القعودِ والإخلاد حيث الأهلُ والوطنُ والمسكن، والرزق الدارُّ الهانئ.

     "يا بَنِيَّ جهِّزوني جهِّزوني!".. عاد أبو طلحةَ يقولها.. وعاد الأولاد يسمعونها.. وإذ رأوا عزماً لا يلين، وهمةً لا تَنْكُل.. جهَّزوا الأب الذي غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات، وغزا طوالَ عهدِ الصِّدِّيق حتى مات، وغزا طوالَ عهدِ عمرَ حتى مات. جهَّزهُ أبناؤه وخرجَ مُجاهداً في البحر، وركبَ متونَ أمواجه العالية.. ومات وهو في غَزَاتِه هذه.

     وانتظر مَن في السفينة سبعة أيامٍ حتى مروا بجزيرةٍ في البحر فدفنوه فيها، وهو لم يتغير. لقد أدركَ أبو طلحة غايتَه، وكسب الميتَة التي أراد، وفاز بالرضوان العميم. رحمك الله يا أبا طلحة، وأجزلَ لك المثوبة.. كأنَّ قولتك: "يا بَنِيَّ جهِّزوني جهِّزوني".. سوطُ نَكالٍ وسخرية يُلهِب ظهور المتواكلين القاعدين.
*****

عبد الله بن رواحة.. القائد الشاعر في مؤتة

عبد الله بن رواحة.. القائد الشاعر في مؤتة

لكنني أســـأل الرحـمن مغفـــرة      وضربة ذات فرع تقـذف الزبَـدا
أو طعنة بيديْ حران مجهـــــزة     بحربة تنفذ الأحشــــــــاء والكبدا
حتى يقـــال إذا مروا على جدثي     أرشده الله من غازٍ وقد رشدا[1]

     هو عبد الله بن رواحة صاحب هذه الأبيات، يضرع فيها إلى الله عز وجل أن يمن عليه بالشهادة في سبيله، فيكون من الفائزين، ويحظى بمقعد صدق عند مليك مقتدر.

     كان ذلك يوم مؤتة؛ إذ أمّر الرسول صلى الله عليه وسلم على المسلمين زيد بن حارثة، فإن أصيب فجعفر بن أبي طالب، فإن أصيب فعبد الله بن رواحة. وحين أزف رحيل الجيش المجاهد، ودّع الناس أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسلموا عليهم، فلما وُدِّع ابن رواحة بكى، فقال له الناس: ما يبكيك؟ فقال: أما والله ما بي حب الدنيا ولا صبابة بكم، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ آية من كتاب الله عز وجل يذكر فيها النار: ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا﴾؛ فلستُ أدري بالصَّدَر بعد الورود، فقال المسلمون: صحبكم الله، ودفع عنكم، وردكم إلينا صالحين، فقال ابن رواحة: الأبيات الثلاثة السابقة.
* * *

     وانطلق الجيش المؤمن إلى مؤتة، وهناك وجد جيشَ الروم فوق ما كان يتصور، إن عدده مئتا ألف مقاتل، مئة ألف من العرب، ومئة ألف أخرى من الروم، أما جيش الإسلام فقد كان عدده ثلاثة آلاف مجاهد فحسب!.

     ونظر المسلمون إلى عددهم القليل، فأدركهم شيء من الوجوم والتساؤل، وقال بعضهم: فلنبعث إلى رسول الله، نخبره بعدد عدونا، فإما أن يمدنا بالرجال وإما أن يأمرنا بالزحف فنطيع.

     وبينما الناس على ذلك، جاءهم ابن رواحة فقال: والله ما كنا نقاتل الناس بكثرة عدد، ولا بكثرة سلاح، ولا بكثرة خيول، إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، انطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين، إما ظهور عليهم، فذلك ما وعدنا الله ووعد نبينا، وإما الشهادة فنلحق بالإخوان، نرافقهم في الجنان. وإذ سمع الناس من ابن رواحة هذا النداء المتوهج المتحمس الذي يدل على عظم يقينه، وقوة ثقته بربه ودينه؛ تحمسوا وأجمعوا على القتال.

     كانت الشهادة أمنية عبد الله بن رواحة التي تستأثر بآماله وتطلعاته، كان يرجو ألا يعود من غزوته هذه إلى المدينة المنورة، لقد فضل على هذه العودة ضربة من سيف، أو طعنة من رمح، أو رمية بسهم ينتقل بها إلى عالم الشهداء السعداء.

     حين خرج إلى مؤتة، كان يركب خلفه على ناقته، زيد بن أرقم الذي كان يتيماً في حِجره، وذات مرة استمع زيد إلى عبد الله ينشد هذه الأبيات يخاطب بها ناقته:

إذا أديتِــــني وحمـلتِ رحلي    مسيرة أربع بعد الحِساء[2]
فشـــأنك أنعـــم، وخـلاكِ ذم     ولا أرجــعْ إلى أهلي ورائي
وجاء المسلمون وغـادروني     بأرض الشام مشتهي الثـواء
وردكِ كل ذي نســب قريبٍ     إلى الرحمن منقـطع الإخــاء
هنـــالك لا أبالي طَلْعَ بعـــلٍ     ولا نخلٍ أســـافلها رواء[3]

     وبكى زيد، إذ عزّ عليه أن يصاب الرجل الذي أحسن إليه، فضربه عبد الله على رأسه ضربة خفيفة وقال له: وما عليك يا لُكَعْ أن يرزقني الله الشهادة، وترجع بين شعبتي الرحل!؟ لقد كان البطل القائد يؤمل أن يحقق الله تعالى له رجاءه، فيبقى في الشام شهيداً ثاوياً مقيماً، بينما يعود زيد وحده على الرحل، وقد كان.
* * *

     ومضت المعركة تعنف وتشتد، فأصيب القائد الأول زيد بن حارثة، وأصيب القائد الثاني جعفر بن أبي طالب، وجاء دور القائد الثالث عبد الله بن رواحة، وحمل بطلنا الراية بعد استشهاد صاحبيه، حتى إذا هَمّ بالانطلاق تردد بعض التردد.

     يا للعجب! إن طالب الشهادة يحجمُ ويتردد، وإن الذي شجع الناس على الإقدام يداخله شيء من الخوف، لكن الأمر لم يطل فقد هزم البطل نفسه، ومضى لا يلوي على شيء وهو يقول لها:

أقســــمتُ يا نفس لتنــــزلنَّهْ     إذ أجلب الناس وشدوا الرنةْ
ما لي أراكِ تكرهيـــن الجنةْ     وطالما قد كنتِ.. مطمئنــــةْ
***

يــا نفس إلا تقتـــــلي تموتي     هذا حمام الموت قد صــليتِ
وما تمنيــــتِ فقد أعطيــــتِ     إن تفعـــــلي فعـــلهما هدِيتِ
أو تبتــــلي فطالما عوفيـــتِ     وإن تأخرتِ فقد شقيــتِ[4]

     وهكذا أقدم البطل، ومضى يقاتل في شدة واستماتة، وكان في غاية الجهد حين جاءه ابن عم له بعظم عليه شيء من لحم ليتقوى به، فأخذه وانتهش منه نهشة، ثم سمع المعركة يعلو ضجيجها، وتشتد، فإذا به يعاتب نفسه، فالوقت ليس وقت طعام، بل وقت جهاد ضارٍ عنيف، فألقى العظم من يده، ومضى يقاتل حتى استشهد.

     رحمك الله يا ابن رواحة! وأجزل لك الثواب، لقد رجوتَ أن تكون غازياً راشداً، وقد كنت، وقد رجوت أن تظل في الشام فظلَلْت. لطالما نظمت القصائد الغُرَّ الجياد، لكن أعظم قصيدة نظمتها كانت في مؤتة، ما كُتِبت بالمداد، ولا سُجِّلت على الورق، بل كُتِبت بدمك الزكي الطهور، وسُجِّلت على أرض مؤتة بالسيوف والرماح.

     إن هذه القصيدة العظيمة ذات شقّين، الأول انتصارك على نفسك حين ترددَتْ وجاشَتْ، والثاني استشهادك النبيل في سبيل الله عز وجل.
*****

----------
[1] شعر عبد الله بن رواحة.
[2] الحساء: جمع حسي، وهو الماء القليل، وقيل: مكان جنوب المدينة المنورة على بعد خمسة عشر كيلاً، وهو جزء من عقيق المدينة ذو زراعة ونُزُل.
[3] شعر عبد الله بن رواحة.
[4] شعر عبد الله بن رواحة.

جعفر الطيار.. القائد الطائر في مؤتة

جعفر الطيار.. القائد الطائر في مؤتة

     هو جعفر بن أبي طالب، الصحابي الجليل، والمؤمن العظيم، والقائد المجاهد، ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم، والقائد الثاني لمعركة مؤتة، والشهيد الذي توفي في أرض الشام وهو على رأس جيش صغير عدده ثلاثة آلاف من المسلمين يحارب به جيشاً للروم عدده مئتا ألف.

     لقد ندر في تاريخ الحروب أن تكون النسبة العددية بين الجيشين، مثل تلك النسبة التي كانت بين المسلمين والروم في يوم مؤتة، ذلك أن التفوق الرومي أكثر من كبير، وأكثر من ماحق. ولك أن تتصور جسامة ذلك حين تقارن بين مئتي ألف وبين ثلاثة آلاف. لكن جيش الإسلام الذي رباه وأعده محمد صلى الله عليه وسلم كان يمتلك سلاحاً عجيباً غير مرئي، لكنه يفعل الأفاعيل الغريبة المدهشة، بينما كان جيش الروم يفتقده، هذا السلاح العجيب غير المرئي هو سلاح الإيمان الذي يبث في النفوس طاقة جبارة هائلة، ومدداً نفسياً ضخماً، فيستحيل معه المتردد إلى مُقْدِم، والمُقْدِم إلى شجاع، والشجاع إلى بطل، والبطل إلى فارس مغوار يقتحم المهالك، ويلقي بنفسه في كل معترك، يبتغي القتل مظانه، لا يبالي أوَقع على الموت أم وقع الموت عليه؟

     هذا الإيمان العجيب الفعال الذي يطهر النفوس من أدران الطين، ويسمو بها إلى آفاق الرسالة الكريمة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم، فينفي منها الشوائب والأرجاس، فإذا بها تتحرر من جواذب الطمع والجشع، ومطارق الخوف والهلع، وإذا بها حميّة تتقد، وهمة تمضي، وجهاد نبيل لا يلين.

     ذلكم هو السلاح الذي افتقده جيش الروم، وامتلكه جيش المسلمين وكان لجعفر بن أبي طالب منه أرقى نصيب.
* * *

     والتقى الجيشان في يوم مخيف، جيش الروم يدافع عن عالم مهترئ عفن، نخر فيه الفساد، ومشى فيه السوس، يقوم على الظلم والجبروت، وبنى كيانه على علاقات فاسدة، يستعبد فيه الإنسان، ويظلم فيه العدل، وينحي فيها الخير، ويقدم فيه الشر.

     وجيش الإسلام يجاهد من أجل بناء عالم جديد، نظيفٍ وضاء، طاهرٍ أمين. الناس فيه يتساوون أمام خالقهم جل جلاله وأمام الشرع الذي أنزله، عالم يستهدف رفعة الإنسان، وكرامة الفرد، وخير الجموع، عالم يحرر الناس من الخرافة والوثنية والشرك، يقيم العدل وينحي الشر، ويقدم الخير، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. كان الصراع بين الجيشين صراعاً بين حضارتين، حضارة بائدة فاسدة، وحضارة جديدة رائعة، تريد أن تقدم للناس أروع فجر عرفته البشرية في عمرها الطويل.
* * *

مشهد تمثيلي..

الشخصيات: منادٍ ينادي، مجاهد، عبد الله.

(صوت المعركة يشتد ويعلو – سلاح – خيل – ضجيج).

- صوت المنادي "بأعلى صوته": يا معشر المسلمين! لا يهولنكم ما ترون من أعداد كثيرة، فوالله ما نقاتل الناس بعدد ولا عدة، بل بهذا الدين الذي أكرمنا الله به.

(صوت المعركة يطغى ويعلو)

- صوت المنادي مجدداً "بأعلى صوته": يا معشر المسلمين! اليوم يوم البيع بيعوا أنفسكم لله عز وجل، والثمن جنة عرضها السماوات والأرض.

(صوت المعركة يطغى ويعلو)

- صوت المنادي مجدداً "بأعلى صوته": أقدموا يا أهل الإسلام، أقدموا يا حملة القرآن.

(صوت المعركة يعلو من جديد)

- مجاهد "في صوت متحمس": يا عبد الله، إنها لمعركة حامية.

- عبد الله "في صوت متحمس": صدقت يا مجاهد.. لقد أبلى المسلمون في هذه المعركة أعظم البلاء.

- مجاهد "متحمساً": وكيف لا؟ وهم يطلبون الجنة؟ "صمت"

- صوت المنادي: لقد استشهد قائدنا زيد بن حارثة، وها هو قائدنا الثاني جعفر بن أبي طالب يحمل الراية من بعد "صوت المعركة"

- مجاهد: يا عبد الله، انظر إلى جعفر، إنه يحمل الراية، ويمضي كالسهم مجاهداً في سبيل الله.

- عبد الله: صدقت يا مجاهد.. انظر إليه كالليث.. بارك الله فيكم أهل بيت النبوة "متحمساً في صوت سريع" الله أكبر! هاهو ينزل عن فرسه كأنه يشعر أنها تعيقه عن جهاده.

- مجاهد "متحمساً في صوت سريع": انظر إلى ذلك الرومي يحاول الاستيلاء عليها.

- عبد الله: لقد عقر جعفر فرسه.

- مجاهد: ولكن.. انظر إلى هذه الكوكبة من فرسان العدو تحيط بجعفر، إنه يستأسد لكنهم تكاثروا عليه.

- عبد الله: ويح جعفر!.. لقد ضربت يمينه.

- مجاهد "متحمساً": لكن الراية لم تقع، لقد أمسكها بشماله.

- عبد الله "متحمساً حزيناً": ولكن هاهم يضربون شماله.

- مجاهد: بارك الله في جعفر! إنه يحتضنها بعضديه خوفاً عليها من أن تقع. إنه يهوي شهيداً مبروراً، هاهي الراية تكاد تسقط..

- عبد الله: الله أكبر، لكن هاهو عبد الله بن رواحة يعدو إليها ويحميها ويتولى قيادة المسلمين.

* * *

     كان جعفر من ذلك النوع النادر من الناس، إيماناً وبطولة، وجهاداً وتضحية وإخلاص نفس وصفاء وجدان. لقد مضى في صفوف العدو وهو يرتجز:

يا حبـذا الجنــــة واقتـرابها     طيــــبة وبـــــارداً شـرابها
والروم رومٌ قد دنـا عذابهـا     كافــــرة بعيــــدة أنســـابها
عليّ إذ لاقيتها ضرابها[1]

     وحين أصيبت يده اليمنى، سارع يحمل اللواء بيده اليسرى، فلما أصيبت سارع يحتضنه بعضديه، إنه حريص على ألا يقع، إنه قائد مسؤول وعليه أن يحتمل المسؤولية مهما تكن باهظة التكاليف. رحمك الله أيها البطل المجاهد!.

     إنها ميتة نادرة تلك التي كتبت لك. وإنه لمصير عظيم ذلك الذي أفضيت إليه، لقد فزت ووصلت وتركت أكثر الناس يلهثون وراء بطون لا تشبع حتى تجوع، ومطامع لا تأتي حتى تتجدد.

     لقد كنت جواداً في حياتك بالمال تمنحه المساكين حتى قال فيك أبو هريرة: "كان خير الناس للمساكين جعفر"، ثم كان ختام حياتك أروع الكرم والجود والإيثار.

     لقد التَمَسَكَ عبد الله بن عمر يوم مؤتة مع بعض المسلمين، فوجدوا فيك بضعاً وتسعين ما بين طعنة ورمية.

     ولِمَ العجب وقد كنت تعدو إلى اختيار عظيم كوفئت عليه، إذ صار لك في الجنة جناحان رائعان بدلاً من ذراعيك الكريمتين.
*****
----------------
[1] شعر جعفر بن أبي طالب.

عبّاد بن بِشر.. الحارس في غزوة ذات الرقاع

عبّاد بن بِشر.. الحارس في غزوة ذات الرقاع

     حلَّ الليل، وغطَّى بردائه الأسود الفضفاض على وجه الأرض، فكانت هدأةٌ، وكان سكونٌ، وكان صمتٌ مطبقٌ عجيبٌ عميقٌ.

     هدأت الكائنات، وداعب الكرى عيون قوم متعبين مجهدين، هم بحاجة إلى الراحة بعد عناءٍ شاق متصل. كان هؤلاء القوم جمعاً من المسلمين يقودهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة مشهورة له، وهي: ذات الرقاع؛ خرج فيها يطلب قوماً من بني محارب وبني ثعلبة يؤلّبون الجموع من غطفان لمحاربته.

     وكان النزول في شعب منفرد لينام فيه المسلمون ليلتهم تلك، وينالوا حظاً من الراحة بعد مشاقَّ ومتاعب، قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه الكرام: "مَنْ يَكْلَؤُنا الليلة؟" فقام الصحابيان الكريمان عبّاد بن بِشر وعمار بن ياسر، وقالا: "نحن يا رسول الله".

     وهدأ الجيش وأخذ كلٌّ موضعه، ومضى الحارسان الكريمان ليقفا في فم الشِّعب حمايةً للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين أن يؤخذوا على حين غرة، واتفق عباد وعمار على اقتسام الليل، فقام عباد يحرس أوله ونام عمار ليقوم من بعد فيحرس آخره.

     الليل هادئ صامت، والهواء عذب عليل، وعباد في فم الشعب هانئ بما انتدب إليه نفسه من حراسة وسهر، فإن عيناً باتت تحرس في سبيل الله لن تمسها النار، وشعَر عباد بفضل الله عليه أن هداه للإيمان، وهيأ له سبيل الجهاد، فأحسّ بعظيم نعمة الله تعالى عليه، وأخذ يُمضي ليله في تفكر وتأمل، وذكر وتسبيح، ثم بدا له من بعد ذلك أن يقوم مصلياً في جوف هذا الليل حيث لا يراه أحد، وحيث النفس أصفى، والبال أهدأ، والنية أصدق.

     وطفق الرجل يصلي وهو سعيد مسرور، خاشع منيب، وأخذ يقرأ من كتاب الله تعالى سورة الكهف.

ألا طوبى لعــــــبّاد بن بشــــــــــرِ     وعــــمّار كـفـــــــــايـة كــــل أمـرِ
سـنقضي الليل نحرسكم ويجـــري     قضـــــاء الله إن طرقــــوا بِشَـــــرِّ
كعهــــدك إذ جـــرى سماً نقـيعـــاً

وأجـــرى الأمر عبّادٌ ســــــــــويَّا     فقـــام ونام صاحبه ملـــــــــــــــيَّا
وكان بأن ينــــاصفـــــــه حــــريَّا     محــافظة على المثــــلى وبقيــــــا
قريـــع شـدائدٍ وافى قريعـــــــــــا

لربك صلِّ يا عبّــاد فـــــــــــــردا     وزد آلاءَهُ شكـــــــراً وحــمــــــدا
ومحـكم ذكره فاجعــــــــــله وِرْدا     فــــــإنّ له على الأكبـاد بـــــــردا
وإن أذكى الجوانحَ والضلوعا[1]

     وكان ثمة رجل من المشركين يتابع جيش المسلمين بصمت وحذر وإصرار، ذلك أن امرأته أسرها المسلمون، فأقسم ألّا يرجع حتى يصيب النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، أو يهريق دماً في أصحابه.

     وحين أبصر عباداً وهو واقف بفم الشعب يصلي فرح وهنّأ نفسه أن قد أدركَتْ ثأرها وبرَّتْ بقسمها. أخذ يقترب بهدوء، ويختار الجهة التي سوف يطلق فيها السهم ليطفئ نار حقده المتقدة في صدره على هؤلاء الذين أسروا زوجته.

     وحين اطمأن لجودة المكان الذي اختاره، وحين شعر أن الكل نائمون، وأن عباداً مشغول بصلاته، أطلق سهمه الأول بعد أن صوّب أدق ما يكون التصويب!.. وكم كانت فرحته كبيرة حين رأى السهم يصيب هدفه فيتدفق الدم من عباد بن بشر ويسيل على جسده وثيابه!. أدرك الرجل ثأره وهمَّ أن ينصرف لولا أن رأى عجباً من العجب. لقد رأى عباداً ينزع السهم، ويمضي في صلاته بهدوء وخشوع يرتل بحنان آيات من سورة الكهف.

     عجب الرجل أشد العجب، وأدركه من موقف عباد وثباته وحرصه على صلاته شعور بالإعجاب والإكبار. وكاد هذا الشعور يستولي عليه لولا أن عاد فتذكر زوجته الأسيرة، فاشتعل مرجل حقده من جديد، ووضع في قوسه سهماً آخر أطلقه بحزم وعزم ودقة، فكان أن أصاب جسد عباد، وفرح الرجل مجدداً حين رأى سهمه يصيب عدوه، وحين رأى الدماء تزداد تدفقاً وتغزراً. لكن العجب ما لبث أن عاد إليه من جديد.. لقد رأى عباداً ينزع الثاني ويمضي في صلاته يردد من سورة الكهف آيات بينات.

     وتملكه العجب بصبر هذا الحارس وبطولته وثباته، وثارت فيه معاني الإكبار لهذا الرجل وإن كان خصماً له. ولولا أن صورة زوجته الأسيرة أخذت تطالعه من جديد فتوقد في صدره الحقد لانصرف عنه في الحال، لكن الصورة الشاخصة والحقد المتأجج جعلا الرجل يطلق من كنانته سهماً بعد سهم، فيصيب عباداً الذي ينزع هذه السهام سهماً بعد سهم ويمضي في صلاته. أيُّ رجل هذا عباد بن بشر الذي يلوح سواده وهو قائم يصلي فتنثال عليه السهام واحداً بعد الآخر!..

ولاح ســــــواده فرمــــــــــــاه رامٍ     أتى إثــر الحليـــــلة في الظـــــــلامِ
فديتــك يا ابن بِشر من همــــــــــامٍ     أما تنفك عن نزع السهـــــــــــــــامِ
تحـــامي عن صلاتك ما تحـــــامي     وجســمك واهـــن الأعضــــاء دامِ
أما لك يا ابن بِشــــر في الســـــلام     وقد جرت الدمــاء على الرغـــــامِ
ألا أيقظ أخـــــــــــاك من المنـــــام     كفـــــاك فقد بلغت مدى التمـــــــامِ
وما تدع القنـوت ولا الخشوعا[2]

     وحين غلب الدم عبّاداً أيقظ أخاه عماراً الذي دهش لما رأى من حال أخيه، وطفق يسأله في لهجة لا تخلو من العتب:  أي أخي ما منعك أن توقظني له في أول سهم رمى به!؟

     قال عباد: لقد كنت أقرأ في سورة الكهف، فكرهت أن أقطعها، ولولا أني خشيت أن أضيع ثغراً أمرني به رسول الله صلى الله عليه وسلم ما انصرفتُ ولو أتى على نفسي.

     يا لروعتك يا عباد! ويا لإجابتك المضيئة المتوهجة التي تكشف أي رجل كنت! وأي إيمان كان يعمر فؤادك النبيل!..

رأى عمار خطبـــك حين هبَّــــا     فلم يرَ مثــله مـن قبل خطــــــبـا
يقول ونفســــــــه تنهدُّ كربــــــا     أيدعوني الحفـــاظ وأنت تـــأبى
لقد كلفت أمراً منــــك صعـــــبا     ولو أيقظتني لشفيت قلبــــــــــــا
جرحتَ سواده جَرحاً وجيعا[3]

     أما الرامي الذي ألحَّ بالسهام على عباد فما إن رأى عماراً وقد هبّ حتى زلزل قلبه، ومضى مسرعاً بالهرب، وهو لا يكاد يصدق نفسه أنه نجا بعد الدرس العجيب الذي تلقاه من عباد بن بشر، ذلك الدرس الذي يكشف له عظمة هؤلاء التلاميذ النجباء الذين تخرجوا من مدرسة النبوة الطهور.

وأبصر شخصه الرامي المُــلِحُّ     فزلزل قلبه للرعــــــب نضـح
وأمسك منه تهتــــــــــان وسحُّ     وما إن راعه سيف ورمــــــح
ولكن مسه خبـــــــــل فريعـــا
تولى يخبط الظلماء ذعـــــــرا     ويحسب درعه كفناً وقبـــــــرا
ألا أدبر جـــــــــــزاك الله شرا     ظفرت بصـــابر وأبيت صبرا
فآثرت الهزيمة والرجوعا[4]

     لقد هرب الرجل الملحّ بالسهام، وقام عمار بواجبه نحو عباد الذي ما كان ليقطع صلاته ولو قضت عليه السهام؛ لولا أنه خشي أن يضيع ثغراً أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بحراسته.

     أي رجل هذا هو عباد بن بشر!؟ أي بطولة في فؤاده!؟ أجبلٌ هو من الجبال الراسيات لا يضيره وقع السهام!؟ أم أنه بشر يعرف الألم ويكابده، لكن الإيمان رفعه إلى ذرى شامخات!؟

     موقف عاطر نبيل يا عباد شاء الله عز وجل أن يكتب لك فيه الحياة والنجاة من القتل لتصوغ من بعد مواقف أخرى عاطرة نبيلة. آخرها موقفك الشامخ السامق المنيف الذي كان ختامه أروع ختام وأكرمه وأشرفه. هو موقفك في اليمامة في حياة الصِّدِّيق رضي الله عنه حتى مضيت تحارب المرتدين، وتهدم عالمهم الزائف الكاذب، وتمضي إلى ربك شهيدَ صدقٍ عند مليكٍ مقتدر.
*****
----------------
[1] شعر أحمد محرم، ديوان مجد الإسلام.
[2] شعر أحمد محرم، ديوان مجد الإسلام.
[3] شعر أحمد محرم، ديوان مجد الإسلام.
[4] شعر أحمد محرم، ديوان مجد الإسلام.

أشهليان يوم حمراء الأسد بعد أحد

أشهليان يوم حمراء الأسد بعد أحد

     هما رَجلان أنصاريان من بني عبد الأشهل، شهدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة أحد، وعادا بعدها جريحين إلى المدينة المنورة. خرج الرجلان للجهاد في سبيل الله، والذبِّ دون دِينه أن تطغى عليه العُصبة المشركة التي جاءت بجيوشها، وعسكرت عند جبل أحد يحدوها حقدٌ دفين لِما أصابها يومَ بدر إذ تركت سادتها تفتكُ بهم سيوفُ المسلمين، ومضت تولّي الأدبار لا تلوي على شيء.

     جاءت العُصبة المشركة وهي تَأمَلُ أن تُنزِلَ بالمسلمين ضربة قاضية، وترجو أن تَقتُلَ الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم. وتعاهَدَ أربعة من فرسانها على قتلِه عليه الصلاة والسلام. واستنفر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم جُندَ الإسلام الصادقين من المهاجرين والأنصار، فخفّوا سِراعاً كراماً، سادةً نُجُباً، فرساناً غَطاريفَ، لا يبالون أوَقعوا على الموت أم وقعَ الموتُ عليهم.

     وعند جبل أحد نظّم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم جيشَه الشجاعَ المؤمن.. ووزع المسؤوليات، ورتّب الخطط، وطلب من الجميع الصدق والصبر، وطاعة الأوامر بدِقة..

     ونشبت المعركة ضارية شديدة، وكان النصرُ حليفَ المسلمين بادئ ذي بدء إذ التزموا أوامر الرسول القائد صلى الله عليه وسلم.. لكن بعضهم لم يلبث أن خالفَ تلك الأوامر فانقلب ميزان المعركة فإذا المسلمون مغلوبون.

     شهدَ الرجلان الأنصاريان هذا كلّه.. ونظرا انتقال النصرِ من الجانب المسلم إلى الجانب الكافر.. وأبصرا الهزيمة الساحقة تكاد تحُلُّ بالمسلمين، لولا أن ثبتَ الرسولُ الكريم صلى الله عليه وسلم ثبات الجبال الرواسي.. وثبتت معه قِلّةٌ من المسلمين.. فاعتدل الميزانُ بعضَ الشيء، وعادَ الجيش المسلم يتجمعُ ويتلاقى، ونجا بذلك من هزيمة شنعاء كان من المحتمل أن تَحُلَّ به.

     شهدَ الرجلان الأنصاريان هذا كلَّه.. وشهدا الجراح تشتدُّ عليهما وعلى الجيش المسلم، وعلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم نفسِه، وشهدا عودة المسلمين إلى المدينة المنورة آخرَ النهار، وقد استبدَّ بهم الجَهْدُ والإعياء.

     عاد الأنصاريان الأشهليّان إلى المدينة المنورة جريحين مرهَقيْن مكدودين.. بعد إعياءِ يومٍ طويل، وجراحاتٍ أثقلت خطاهما، وآذت مشيهما، وجعلتهما يبحثان أول وصولهما عن الراحةِ والعلاج.. وهكذا كان!.. فما وصل الرجلان دارَهما حتى استلقيا على الأرض.. واجتمع حولَهما الأهلُ والمحِبّون، يسهرون عليهما، ويُعْنَوْنَ بهما، ويقدمون لهما كل ما إليه يحتاجان.. ومضت سويعات الليل الساكنِ الساجي على المدينة المنورة، والمسلمون بجراحاتهم مشغولون، ومنهم الرجلان الأنصاريان الأشهليّان.
* * *

     لكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتأمل في نتائج معركة أحد.. فقد سقطت هيبة المسلمين العسكرية التي ارتفعت يومَ بدر، وتنفَّس المنافقون والمشركون واليهود الصُّعَداء، وأخذوا يتربّصون الشرّ بالمسلمين، والقبائلُ العربية المجاورة طمعت بالمسلمين، وقريشٌ قد تُعاوِدُ الهجومَ مجدداً على المدينة المنورة لاستئصال الإسلامِ نهائياً ما دامت الفرصةُ قد سنحت لها، والمسلمون أنفسُهم قد ضعفت روحُهم المعنوية بسبب الهزيمة. إذن لا بد من عمل حاسمٍ لتداركِ الموقف وإنقاذه.. وكان هذا العمل الحاسم غزوةً دعا إليها الرسول صلى الله عليه وسلم في اليوم الثاني لأحُد.. وهي غزوة حمراءِ الأسد التي غسلت جميع الآثار السلبية للذي جرى يومَ أحد.

     أذَّنَ مؤذِّنُ رسول الله صلى الله عليه وسلم للخروج في غزوةِ حمراء الأسد، وسمعَ المسلمون النداء، فسارعوا يستجيبون.. انطلقوا على الرغم مما بهم من مشقةٍ وعناء، وتعبٍ ونصَب، وجراح وكلومٍ لم تَجِفَّ دماؤها بعد، مما حلَّ بهم يومَ أمس في معركة أحُد.

     وسمع الرجلان الأنصاريان الأشهليّان النداء.. وكُلٌّ منهما مُرهَقٌ مُتعَب، مكدودٌ جريح. تُرى أيَظَلّانِ في الفِراش رَهْنَ العلاج أم يخرُجان؟ كيف تفوتهما غزوةٌ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إنهما جريحان.. لكنهما ليسا الجريحين الوحيدين، فالجرحى سواهما كثير، بل إنه صلى الله عليه وسلم جريح.. لكنّه على رأس الخارجين للجهاد. إذن فهما خارجان على الرغم من التعبِ والنصَب، والجهدِ والإعياء والكلومِ والجراح. هما خارجان للجهاد.

     لكن كيف يرحلان وما مِن دابةٍ عند أحدهما؟ تُرى أيكونُ ذلك عُذراً للقعود أم ماذا؟ لا.. إن الرجلين الجريحين عزَما على الخروج مشياً على الأقدامِ على الرغمِ من كل شيء. وهكذا كان.. خرجا ماشِيَيْنِ في طلبِ العدوِّ وهما جريحانِ ثقيلان.

     قال أحد الرجلين لأخيه –فقد كانا أخوين–: أتَفوتُنا غزوةٌ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ واللهِ ما لنا من دابةٍ نركبُها، وما مِنّا إلا جريحٌ ثقيل؟

     تساؤلٌ رائع عظيم يقولهُ الأخُ لأخيه: أتَفوتُنا غزوةٌ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لا.. إنهما أكرمُ وأعقلُ وأكْيَسُ وأحرصُ على الأجرِ والثواب من أن يظلّا رَهْنَ العلاجِ، فيخسرا بذلك غزاة مع الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.

     حديثٌ عَجَبٌ أمْرُكما أيها الأخوانِ الأنصاريانِ الكريمان!.. لكنَّ العجَبَ لم ينقضِ بعد.. ولكن لِمَ لَمْ ينقضِ بعد.. أثمة جديد؟؟ أجلْ؛ جديدٌ وأيُّ جديد!.. كان أحدُ الأخوين أيْسَرَ جُرحاً من الآخر.. فكانا يمشيان، فإذا اشتد الإعياءُ بصاحبهِ حملَه بعضَ الوقت ومشى به، فإذا استراحَ تركه يمشي.. وظلّا هكذا حتى انتهيا إلى ما انتهى إليه المسلمون.

     وهكذا وصل عبد الله بن سهل، ورافع بن سهل، وهما الأخَوان الأنصاريان الأشهليان إلى حيث عسكر المسلمون.. وهما جريحان مُثقلان، فما فاتَتهما غزوة حمراءِ الأسد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

     أيها الصحابيان الكريمان، سلامٌ عليكما في الأحياء، وسلامٌ عليكما في الأموات، وسلامٌ عليكما يوم تُبْعَثان.. سلامٌ عليكما وعلى الدِّين الذي أنجبَكما، والنبي الذي ربّاكما مؤمنينِ مجاهدينِ صادقينِ.
*****

الأكثر مشاهدة