المِرْقَالُ.. شهيد القادسية
قد أكثروا لَوْمِي وما أقَــــلّا
إني شريتُ النفسَ لنْ أعتلّا
أعْوَرُ[1] يَبْغي أهلُهُ مَحَـلّ
قد عالجَ الحيــــاةَ حتى ملّا
لا بـدَّ أن يَفُلَّ أو يُفَـــلّا[2]
أسمعتَ هذه الأهزوجةَ يترنَّمُ بها بطلٌ كَمِيٌّ شجاع؟ أصافحتْ أذنيكَ أنغامها الرائعة وترنيمتها الحيّة التي تعُجُّ بمعاني البطولةِ والرجولةِ والإباء؟ إنّ هناك من يلوم البطل المرقالَ على مواقفه، وعلى مبادرته إلى التزامِ الحق، ومُسارعتِه في محاربة الباطل.. هناك من يدعوه إلى الرَّيْثِ ويُحذِّرُه من عقابيل المبادرة والسرعة.
وقد يكون لهؤلاء اللائمين عذرٌ فيما يبدو لهم، لكن البطل المرقالَ لم يكن ليوافقهم على ذلك ولم يكن ليفعلَ ما يريدون.. ذلك أنه كانت له قناعاتٌ أخرى تحمِلُه على اتخاذِ ما يطيبُ له وما يقتنعُ به من مواقف.
كان الأمرُ عنده لا يتجاوز أن يكون حقاً أو باطلاً.. فإن كان باطلاً فهو ناءٍ عنه بعيد، وإن كان حقاً فهو ملتزمٌ له حريص عليه إليهِ مُسارع، ومِن أجل ذلك عُرِف بذلك اللقب الكريم "المرقال". والمرقالُ هو الذي يُسرِع في سفره ولا يتمهل. ولمّا كان بطلنا ممّن يمضي في الحربِ مُسرِعاً لا يتردد، مُنطلِقاً لا يُحجِم فقد منحه إخوانه ذلك اللقب الذي يكشفُ عن نفسيته من ناحية، وعن مواقفِه من ناحيةٍ أخرى.
وكان المرقال يحيا بعينٍ واحدةٍ فحسب، لكن ذلك لم يكن لِيقعُدَ به قط عن الجهاد فقد كان الإرقال إلى المكرمات طبعاً فيه وسجية.. ولعله من أجل ذلك كثُرَ عليه اللائمون.. يريدون منه أن يغيّر من مواقفه لكن، أنّى لهم، وأنّى له ذلك؟
هم يلومونه، لكنه هو قد باعَ نفسه، فالأمر إذن قد انتهى، والصفقة إذن قد تمت فلا محل للتراجع والنكوص. ثم هو رجلٌ قد عالجَ الحياةَ طويلاً، وذاق حلوَها ومُرَّها، فكان أنْ ملَّ من ذلك كلِّه.. فتاقت نفسه إلى الشهادة يحظى بها ويفوز، وإنه إذ ذاك لسعيدٌ جدُّ سعيد، وإذن فإن للبطل المرقال عُذرَهُ الواضح البيِّنَ فيما يفعل.. فهو لا بد أن يَفُلَّ أو يُفَلَّ، وهو من الحياة قد مَلّ، وهو على الشهادةِ حريصٌ جدُّ حريص، وإذن فإن إجابتَه لمن يلومُه هي:
قد أكثروا لَوْمِي وما أقَــــلّا
إني شريتُ النفسَ لنْ أعتلّا
أعْــــــوَرُ يَبْغي أهلُهُ مَحَـلّ
قد عالجَ الحيــــاةَ حتى ملّا
لا بـدَّ أن يَفُـــــــلَّ أو يُفَـــلّا
ومنذ أسلم الرجل يوم فتح مكة المكرمة، مضى في حياته الجديدة على تلك السجية النبيلة، سجية الإرقال إلى المكرمات والجهاد، وإلى كل ما يقتنع بصحته وصوابه محتمِلاً في ذلك جميعَ ما يترتبُ عليه من أمورٍ مهما كانت فادحةً ثقيلة.
وكأن المرقالَ لم يجِدْ لنفسه شيئاً كالجهاد في سبيل الله، لا سيما أنه تأخر في إسلامه دهراً ليس بالقصير، لذا طفِق يمضي في هذا الميدان بكل ما يقدر عليه من قوةٍ وجهدٍ وبلاء.. وفعلاً كانت له جولاتٌ كريمة مشهودة أخلصَ فيها أيّما إخلاص، وسَما إلى ذرى البطولةِ والصدقِ والتضحية.. وفي فتحِ العراقِ وفارس كان للمرقالِ دورٌ كبير كشف عن همته وعزيمته، وشجاعتهِ وبطولته، وصفاءِ نفسه، وأصالةِ معدنه.
ففي القادسية أبلى أحسنَ بلاءٍ وثبَت ثبات الجبال.. وكان سيفه صوّالاً جوّالاً في رقاب عَبَدةِ النار. وحين عقد له سعدُ بن أبي وقاص رضي الله عنه لواء الإمارة على الجيش الذي أعدّه لقتالِ "يزدجر" آخر أكاسرة الفرس نهض المرقالُ بأعباء القيادة أحسن نهوضٍ في معركة جَلَوْلاء التي كانت شديدة العنف والضراوة حتى سماها المسلمون "جَلَوْلاءَ الوقيعة" وكان لهم فيها النصر المبين.. وكان المرقال يحمل بيده اللواء، ويقاتل مردداً هذه الأبيات التي يَعني بها نفسَه:
أعْـــــــوَرُ يبغي نفسَــــه خلاصا مِثلُ الفنِيقِ[3] لابساً دِلاصا[4]
قــد جرَّبَ الحربَ ولا أنـاصــــا لا ديـــةً يخشى ولا قِصــــــاصا
كلُّ امرئٍ وإنْ كبـــــا وحاصـــا ليس يرى من موتِه مَنــــــــاصا
إنها أبياتٌ رائعة هذه التي يهزجُ بها المرقال حين تضطرم المعركة وتشتد. إنه يرجو لنفسه الخلاص.. وهذا لا يكونُ إلا بالشهادة، إذن فما عليه إلا أن يجاهدَ ويجاهدَ عسى أن يفوزَ بما يؤمّل.. وما دام الموت ليس منه مناص فَلْيَكُنِ الإقدام، ولتكنِ الشجاعة، وليكنِ الجهاد الدائبُ الموصول الذي لا يهدأ ولا يلين.
ويمكنُ لك أن ترى في قَوْلَةٍ وجيزةٍ للمرقال خلاصة حياته الكريمة بعد إسلامه. لقد كان يقول للمجاهدين من حوله داعياً إياهم للثباتِ والإقدام، والبذل والجهاد، حينَ يحمى وطيسُ المعركة: "ألا من كانت له إلى الله حاجة ومن كان يريد الآخرة فَلْيُقْبِل".. هكذا الأمر إذن ببساطةٍ ويُسرٍ ووضوح، طريقٌ بيّنةٌ واضحةٌ لاحِبَةٌ لِمن يريدُ الآخرة.. أن يتقدمَ ويجاهدَ ويضربَ حتى يكسبَ الشهادة، وعند ذلك فهو الفائزُ السعيد.
ظلَّ البطلُ طِيلة حياته بعد إسلامه مرقالاً لا يهدأ، مسارعاً للمكرمات، مبادراً للجهاد، مؤمّلاً أن يفوز بالشهادة التي صارت عنده أحسنَ أمانيه وأحلاها.. اسمع هذه الأبياتَ التي قالها إذ هو مع الإمامِ علي بن أبي طالب لترى أنَّ من لقَّبه بالمرقالِ كان على معرفةٍ بنفسيتهِ دقيقةٍ ومحيطة، إنه يقول:
وسِــرْنـــــا إلى خيرِ البريَّـــــةِ كلِّها
على عِلمِنـــا أنّــــــا إلى اللهِ نرجِــعُ
نوقِّــــرُهُ في فضـــــلِهِ ونُجِــــــــــلُّهُ
وفي اللهِ ما نرجــــو وما نتـوقَّـــــــعُ
ونَخْصِفُ أخفافَ المَطِيِّ على الوجا
وفي اللهِ ما نرمي، وفي الله نُوضِــعُ
دَلَفْنا بجـــمعٍ آثروا الحــــقَّ والهدى
إلى ذي تُقىً في نَصْــــرِهِ نتســــرَّعُ
نكـــافحُ عنهُ والسيــــوفُ شهيــــرةٌ
تصـــافحُ أعناقَ الرجـــــــالِ فتَقْطَعُ
لعلكَ لم يَفُتْكَ أن تُمعِن النظرَ في قوله: "إلى ذي تُقىً في نَصْرِهِ نتسرَّعُ"، ومتى ذلك؟ إنّ ذلك حين تُشهَرُ السيوفُ وتحتدمُ المعركة، فتصافحُ السيوفُ الأعناقَ، ويكثر القتلُ بين الناس.
ومرةً نشبت إحدى المعارك، وكانت عنيفةً ضارية، ومضى فيها البطل المرقال هاشمُ بن عتبةَ بن أبي وقاص رضي الله عنه مقبِلاً غيرَ مدبِر، صابراً واثِقاً محتسباً.. حتى تكاثر عليه الناس، فإذا به يسقط شهيداً مبروراً مجيداً ليفوز بالأمنية التي طالما رَجا وأمَّل. رحمكَ الله يا هاشم، وأجزلَ لك الثواب، ورحم الله من قال فيك:
يا هــاشمَ الخيرِ جُزِيتَ الجنَّــةْ قاتــــلتَ في الله عدوَّ السُّـــــنَّةْ
والتَّاركي الحقِّ، وأهلَ الظِنَّــةْ أعظِمْ بما فُزْتَ بهِ مِنْ مِنَّةْ[5]
*****
------------
[1] أصيب المِرْقال، واسمه هاشم بن عتبة في معركة اليرموك في إحدى عينيه، فهو يسمي نفسه الأعور.
[2] هذا الرجز، وسائر الأشعار الواردة من شعر المِرْقال هاشم بن عتبة.
[3] الفنيق: فَنَقَ ـِ فَنْقاً: تنعّم في عيشه. و(الفَنِيق) من الإبل: الفحل. (ج) فُنُق. (الفَنِيقَة) من النساء: المنعَّمَة. (المعجم الوسيط).
[4] دَلَصَتِ الدِّرْعُ ـُ دَلاصَةً: لانت. و ـ الشيءُ: بَرَقَ ولَمَعَ. والدِّلاصُ: اللَّيِّن البَرَّاقُ الأَمْلَسُ. ودِرْعٌ دِلاَصٌ: ليِّنَة. (ج) دِلاصٌ. (المعجم الوسيط).
[5] شعر أبي الطفيل القرشي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق