فتى من أسلم
هو فتى من قبيلة "أسلم" صادق في دينه، قوي في جسده، له همة ماضية، وعزم قاطع، ورغبة حارة أن ينهض بمسؤوليته رجلاً مسلماً في الجهاد في سبيل الله تعالى.
لكنه كان محزوناً في ذلك اليوم الذي جلس فيه، يفكر فيما آلت إليه حاله، إنه فتى قوي يتمتع بالصحة والشباب، عضلاته مشدودة مفتولة وبدنه في حاجة إلى العراك والجهاد، فما هو بأهل للقعود، إنه لا يطيق ذلك ولا يحبه ولا يرغبه، بل هو يريد المسارعة إلى رضوان الله تعالى، وخير سبيل لذلك هو الجهاد الصادق المخلص الذي تصفو فيه النية وتنجو من جميع الأدران والشوائب.
وثمة فرصة كريمة سانحة، فهاهم المسلمون يستعدون للغزو في سبيل الله، وهم يَغْدُون ويروحون، وكلهم فَرَحٌ غامر، واستبشار وَضِيْء، وسرورٌ شامل بهيج، ذلك أنهم تعلّموا أن العمر واحد، وأن خِتامَهُ الموتُ إن طال أو قصُر، وأن ذلك الختام لا بدّ أن يأتي إلى المرء حيث يكون في البيت المظلم، والحصن المشيد، والمخبأ النائي، والكهف العميق، وقد ينجو من يقاتل في أشد المعارك، ويُقتَلُ من يهرب منها، وربما هرب المرء من الموت ليقع فيه.
وإذن؛ فما أحسن الجهاد في سبيل الله! وما أحسن أن يكون ختامُ حياة المرء أن يستشهد خلال ذلك الجهاد!.. وإن للشهيد منزلةً عند الله عز وجل كريمةً جليلة. من أجل ذلك كان المسلمون يتهيؤون للجهاد في سبيل الله تعالى، ومن أجل ذلك كانوا فرحين مستبشرين، ومن أجل ذلك كان الفتى الأسلمي محزوناً مكروباً ضيّق الصدر. أما فرحتهم واستبشارهم فلأنهم ماضون في سبيل الله للجهاد، وأما حزنه وضيقه فلأنه يجد نفسه لا يملك شيئاً يستطيع أن يتجهز به للخروج.
إنه فقير، لكنه غني النفس، وكل الذي يرجوه الآن أن تتهيأ له الفرصة لينجو من القعود، ويلتحقَ بكتائب الغزاة المؤمنين الذي يحملون للدنيا رسالة الحق والعدل ليخلصوها من شقاء الجاهلية وأوضارها وأوهامها.
كان فتانا الأسلمي كتلةَ نشاط وقوة ومضاء، وكانت رغبته أن يلحق بالغزاة المجاهدين صادقةً حارة، وهو وإن كان صغيرَ السن، قليلَ الخبرة والتجربة، فإنه كبيرُ القلب، قوي العزم، وافر الجرأة، وقّاد الفؤاد، في نفسه حنين جارف للجهاد، وفي صدره رغبة مُلِحَّة للنجاة من القعود واللحوق بمواكب المجاهدين.
ومن يدري فلعله يفوز في مخرجه هذا بالشهادة في سبيل الله عز وجل!؟ وتنداح الخواطر في فؤاد الفتى الأسلمي، ويَجْمَحُ به الخيال حتى ليرى نفسه في المعركة وقد اشتدت وعنفت كالأسد الكاسر يجول ويصول غير وجِلٍ ولا هيّاب، يلقي بنفسه في أشد ميادينها عنفاً وضراوة. ويشتد خياله في الجموح، فإذا به يحسَب نفسه يسمع صليل السيوف، وقعقعة الرماح، وصهيلَ الخيل، وهُتافَ الفرسان، وتكبيرَ المجاهدين المسلمين، وقد لاحت لهم بشائر النصر وهم يتواصون بالصبر، ويتداعون للثبات، وينادون للإقدام. لكنه ما يلبث أن يعود إلى الواقع الذي هو فيه فيحزن ويَأْلَم، ويعظم عليه الحزن، ويشتد عليه الألم.
إنه لا شيء يمنعه من الجهاد سوى أنه فقير، لا يجد زاداً ولا راحلة، ليس له سيف ولا رمح، ولا سهم ولا مُدْيَة، ولا حقيبة ولا كنانة، كيف يذهب للجهاد إذن!؟ أيذهب إلى الميدان أعزل من هذا كلِّه!؟ أيليق به ذلك!؟ وهَبْهُ ذهب!.. أفلا يكون إذا حمي الوطيس واشتد الوغى عضواً أشل لا يقدر حتى على الدفاع عن نفسه إذا احتاج الأمر إلى ذلك؟
وظل الفتى الأسلمي يخال نفسه مرة وقد طفق مجاهداً في سبيل الله تعالى، فيفرح ويشرق وجهه، وتعلو أساريرَهُ المؤمنة بسمةٌ بهيجة، طليقة طَمُوح، لكنه ما يلبث إذ يجد نفسه عاجزاً عن الخروج مضطراً للقعود مع من تخلف بعذر صادق أو عذر كاذب، أن يحزن ويأسى ويجلس مكلوم الفؤاد.
وظل على حاله تلك بين حزن وفرح، ألم وأمل، حتى وجد نفسه يتجه إلى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ليخبره أنه يريد الغزو، لكنه لا يجد لديه ما يجهز به.
أما إنه لشاب كريم ذلك الفتى الأسلمي الهمام. إنه مقبل على الموت يسعى إليه دون خوف، بينما هناك عشرات من المنافقين تتقطع قلوبهم، وتفزع أفئدتهم، وتتمزق نفوسهم إنْ سمعوا ذكر الجهاد والغزو، والقتلِ والقتال. إنهم حين يسمعون مثل هذه السيرة؛ تربدُّ وجوههم، وتعلوها صفرة أشبه بصفرة الموت، وتدور أعينهم في محاجرها، ويبدو على أساريرهم قتام هائل، ورعب غريب.
شتّان شتّان بين هؤلاء المنافقين الأنذال، وبين هذا الفتى الأسلمي المرقال، إنه مرقال إلى حيث الموت يَفْغَرُ فاه، مؤمِّلاً أن تقوده إلى الجنة رميةٌ بسهم، أو طعنةٌ برمح، أو ضربةٌ بسيف.
ألا بوركت أيها الفتى الأسلمي المقدام، وبورك النبي الذي ربّاك، وبورك الدين الذي شَرُفْتَ بالانتساب إليه. ما أروع خطاك!.. وأنت تتجه إلى النبي الكريم صلى الله عليه وسلم لتضع بين يديه شكواك النبيلة الكريمة، ورغبتك الصادقة السامية، وهِمَّتَكَ الوقادة الطَّمُوح. وأَمَرَهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم أن يذهب إلى رجل كان قد تجهز للغزو فمرض ليأخذ ما كان قد تجهز به.
وسرتِ الفرحة في فؤاد الفتى الأسلمي، وامتلأ حبوراً وبهجة، وسارع نحو المجاهد المريض يحمل إليه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. واستقبل المجاهد المريض فتانا الأسلمي خير استقبال، وسارع بطلب من أهله أن يدفعوا له كل ما كان قد تجهّز به دون أن يُنقِصوا منه شيئاً، فإن شيئاً يُنْتَقَصُ من جهاز مجاهد لن يبارَكَ فيه قط.
وطفق فتانا يشكر أخاه المريض أحرّ شكر وأصدقه وأكرمه، فقد أنقذه من القعود، وأتاح له سبيل الخروج في سبيل الله تعالى، وإنه هو الآخر مأجور مشكور، كيف لا، ومن جهَّز غازياً فقد غزا!؟
وخرج الفتى الأسلمي وقد اشتد فرحه، وصار قطعة من السرور البهيج الدفَّاق، والفرح الغامر المبين، خرج يعدو ويعدو، وقد شَعَرَ أن قوته تزداد، وبأسه يتعاظم، وأنَّ في مسمعه هتافاً حبيباً يدعوه إلى جنة عرضها السماوات والأرض.
*****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق