الأحد، 23 يناير 2022

عجوزان يوم أُحُد.. ظِمْءُ حمار

عجوزان يوم أُحُد.. ظِمْءُ حمار

     وقعت الصيحة في المدينة المنورة أن قريشاً أقبلت بجيش ضخم، وألقت رحالها عند جبل أحد، وقد عزمت أن تجتث الإسلام من جذوره، وتبطش بالمسلمين بطشةً هائلة، وتثأر لقتلاها الذين طوَّحت بهم سيوف المؤمنين في بدرٍ قبل عامٍ من الزمن.

     وقعت تلك الصيحة في المدينة المنورة، فطفِق المسلمون يتنادون للخروج.. وأخذوا يحمّسون أنفسَهم، ويوصون بعضهم بالثبات والصبر والاحتساب. ونودي: يا معشر المؤمنين اجتمِعوا!.. ويا معشر المهاجرين انفِروا!.. ويا أيها الأنصار هيّا إلى الجهاد!.. ويا خيلَ الله اركبي!..

     وكشف التجمُّعُ السريع للمسلمين حول الرسول صلى الله عليه وسلم عن عظَمةِ نفوسهم، وصدقِ إيمانهم، وعميق يقينِهم، وتفانيهم في الذود عن دينِ الله أن يعدوَ عليه الظالمون الحاقدون.

     وفي المسجد النبوي الشريف كان تجَمُّعٌ جادٌّ مؤمن، وفيه أيضاً كان حوارٌ جادٌّ مؤمن، وفيه كذلك كانت مشورة جادةٌّ مؤمِنة.. وكان إيمان، وكان إيثار، وكان صدقٌ وجهاد، وكان حرصٌ على الخروج إلى العدو، حيث يُعسكِر عند جبل أحد، حتى لا يظن أحدٌ أن المسلمين جَبُنوا إذ فضّلوا قتال العدو داخل مدينتهم لا خارجها.

     وخرج الجيش المسلم يقوده رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد.. وفيه أمانيَّ صادقة حارة تتوزعُ أفرادَه بين نصرٍ مؤزَّرٍ كريم، وشهادة طيبةٍ أثيرة.. ومضت كتائب المهاجرين والأنصار إلى الجبل الأشمّ الذي يحنو على المدينة المنورة كأنه يحرسُها ويحميها، الجبل الذي نحِبُّه ويحبُّنا، الجبل الذي شهِدَ عند سفوحه المباركةِ أصدق صورِ البطولةِ والتفاني، والصبرِ والثبات، والبطولةِ والإيمان.

     كان التفوق الضخمُ لصالحِ المشركين، فقد كانوا أكثرَ عدداً وعُدَّة.. كانوا ثلاثة آلاف، أما المسلمون فقد خرجوا في ألفٍ فقط، ما لبثَ أن انسحبَ زعيمُ النفاق عبد الله بن أُبَيٍّ بالثلث منهم.. وبقي الثلثان يواصلان المسيرَ صوبَ الجبل الأشم الذي تَحفُلُ ذاكرة التاريخ عنه بكل طيّبٍ عظيم مُعجِب مما جرى عند قدميه المبسوطتين شمالَ المدينة المنورة.

     واتخَذ رسول الله صلى الله عليه وسلم كلَّ ما ينبغي عليه أن يفعلَه قائداً مسؤولاً وفوَّض الأمرَ كلَّه لله.. ومضى رابطَ الجأش، ثَبْتَ الجَنان، وأوصى صحابته الكرام بالطاعة والصبر والثبات، فهم منصورون بإذن الله ما استمسكوا بوصاياه الكريمة.

     وكان من عِدادِ الأسباب التي قام باتخاذِها صلى الله عليه وسلم أنْ دفعَ النساء والصبيان والعجَزة إلى آطامِ المدينة المنورة الحصينة، تحسُّباً لِما قد يحدث، وأخذاً بالحيطة والحذر.

     ونشبت المعركة عند جبلِ أحد.. وانتقل فيها الكسبُ من جانب إلى جانب.. وكان نصرٌ مبين، أعقبه خِلافٌ وعصيان، ثم هزيمةٌ كادت تكون ساحقة لولا أن ثبتَ صلى الله عليه وسلم مع قِلةٍ مؤمنةٍ صامدةٍ ثباتَ الجبالِ الراسيات.
* * *

     وفي المدينة المنورة حيث بقي النسوة والأطفال والعجَزة، في آطامِها العالية كانت نفوس القوم تدعو وتُكثِرُ من الدعاء.. وترتقب نتيجةَ المعركةِ بقلقٍ وخشيةٍ وتوجّس.

     وفي أُطمٍ من تلك الآطام كان عجوزان مسلمان طاعنان في السِّن هما اليمانُ بن جابر، وثابتُ بن وُقْش، كانا شيخين كبيرين، قد تطاولَ بهما العمر، وتراخت بهما الأيام، وآدَ جسميهما كَرُّ الجديدين، وامتدادُ الزمن.. فهما مُتعَبانِ دون تعب، مُرهقانِ دون إرهاق، مكدودانِ ناحلانِ واهنان لو أنَّ الريحَ هبَّت على أحدهما عنيفةً شديدة لكاد يسقط، ولو أنَّ أحَداً توكَّأ عليه لكاد ينهدم. ومثلُ تلك الحالة جديرةٌ بالعُذرِ، حَقِيقةٌ ألا يُعتَبَ على صاحبها وألّا يُلام.

     لكن الشيخين المسلمين، على الرغم من هذا كلِّه.. كانا في حالة أخرى بعيدة عن اللوم والعتب من الآخرين، إنها لومٌ وعتبٌ داخِليّان، يا للعجب!.. وكيف ذلك!؟

     لا تعجبْ، لا تعجبْ!.. ذلك أن الشيخين المسلمين كانا يلومان نفسيهما، وكانا يَعْتَبان عليها ويشتدّان في العتاب. كيف يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم ومَن معه يخوضون لظى حربٍ ضَروسٍ طاحنة وهما آمنان في هذا المعقلِ الأشِبِ الشامخ؟ أذاك من الإنصاف؟ أذاك من العدل؟ أذاك من الوفاء؟ أهُوَ عملٌ يليق بالمؤمن أن يفعلَه؟ مثلُ تلك الخواطر الشريفة السامية كانت تنداحُ في خَلَدَي الشيخين المسلمين الطاعِنَيْنِ في السن، وتحرِّكُ همومَهما، وتثير أشجانهما.

     ولم يطل الأمر كثيراً، فقد انتصرت دواعي الخروجِ على كل ما سواها من دواعي القعود، أحقاً كانت أم باطلاً؟

     قال أحد الشيخين لصاحبه في لهجةٍ عاتبة، مشفقةٍ حانية، يمتزجُ فيها الرجاءُ والأمل باللومِ والتبكيت: "لا أبا لَك.. ما ننتظر؟ فوالله ما بقيَ لواحدٍ مِنّا من عمرهِ إلا ظِمْءُ حمار، إنما نحن هامةٌ اليوم أو غداً، ألَا نأخذ أسيافنا، ثم نلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم؟

     سؤالٌ شهمٌ نبيل ذلك الذي توجَّهَ به أحدُ العجوزَينِ لصاحبِه، سؤالُ من يهربُ من دواعي القعودِ والإخلاد، ويلتمسُ دواعي الخروج والمبادرة.

     نحن عجوزان طاعنان بلونا الحياة بحُلوِها ومُرِّها.. وحلبنا الدهرَ أشطُرَهُ.. وها قد أوفى الركبُ على غايته أو كاد.. وإنما نحن خارجان من هذه الحياة، إن لم يكنِ اليوم ففي الغد. ما الذي بَقِيَ لنا من هذه الحياة!؟ لعله لا شيء سوى ظِمْءِ حمارٍ فحسب، وظِمْءُ الحمار قصيرٌ قصير، فهو أقل الدوابِّ صبراً عن الماء.

     حديث الشيخ الطاعن لأخيه الطاعن غايةٌ في العجبِ والروعةِ والدهشة، ولا يكادُ يفهمه ويُحيطُ به، ويستوعِبُ أبعادَه العميقةَ المؤمنةَ إلا من عرفَ المستوى العجيبَ الذي دفعَ إليهِ محمدٌ صلى الله عليه وسلم أصحابه الكرام. وكأن الطاعن الآخَر السامع وجَد في حديث أخيه ما يحلو له، ويطيب فإذا به يفرح، وإذا به يبتهج، وإذا به يَسعَد.. ولم يَمْضِ سوى قليلٍ حتى شهدَ الأُطُمُ المنيعُ الأَشِب، العجوزين الطاعنين وهما يلحقان برسول الله صلى الله عليه وسلم في أحد.

     ودخل الرجلان العجوزان في حومةِ المعركة، جسماهما واهنان عاجزان، لكن رُوحَيهِما فَتِيَّتان ناضرتان، بالإيمان غنيَّتانِ مليئتان، بالقرآن مُطَيَّبتان معطَّرتان..، فأما ثابت فقتلَه المشركون، وأما اليمان فاختلفت عليه أسيافُ المسلمين وهم لا يعرفونه فَقُتِل، وحذيفةُ يقول: أبي..! أبي..! فقالوا له: واللهِ ما عرفناه، فقال حذيفة: يغفرُ الله لكم وهو أرحم الراحمين.. فأرادَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يَدِيَهُ لكنَّ حذيفة تصدّقَ به على المسلمين.

     وآبَ الشيخان الطاعنان إلى حيث المَقِيلُ الأخير هانئين سعيدين، وضيئين طاهرين، فقد فازا بالشهادة، وسارعا إلى الموت، ولم ينتظرا قدومَه المرتقبَ حيث لا مفرَّ ولا مهرب.

     يا سفوح أُحُد!.. يا سفوحَ الجبل الذي يحبُّنا ونحبه!.. أما طيَّب ثراك العزيز الأثير دمُ الشهيدين العجوزين ثابتِ بن وَقْش، واليمانِ بن جابر!؟

     أما نبَتَ الأقحوانُ والشيح، والعوسجُ والعرار، يحملُ بعضاً من ريّاهما!؟

     أمَا تهمسُ رمالُكَ وحصاكَ بالبطولةِ التي بَدَتْ منهما!؟

     أما تحكي للصَّبا في الأسحارِ قصة الموقفِ العظيمِ الذي صاغاه بِدَميهما!؟..

     أمَّا أنا فأشهدُ أنْ قد شممتُ ذلك الطِّيب، ونشقتُ ذلك العبير، وعبقتُ تلك الريّا، ووعيتُ ذلك الهمس، وسمعتُ تلك الحكايا، وعدتُ من بعد ذلك كلِّه والخزيُ يجلِّلُني، والدمعةُ تُبادرني، وسؤالٌ حائرٌ يتردَّدُ على شفتيّ: تُرى أيُّ عذرٍ لي ولأمثالي نحنُ الأصحّاءَ القاعدين!؟
*****

حذيفة بن اليمان ووالده يوم أحد

حذيفة بن اليمان ووالده يوم أحد

     هو حذيفة بن اليمان الصحابي الكريم العظيم الذي كانت له طبيعةٌ خاصة فريدة بلغت فيه حداً كبيراً جعله يُعْرَفُ بها من بين بقيةِ الصحابة الكرام، فهو وإن اشتركَ معهم في عمقِ الإيمان، وبُغْضِ النفاق؛ فقد انفردَ عنهم في قدرتهِ الكبيرة على رؤيته مهما تكن مكامِنُه بعيدة.

     ولهذا فإنه وَهَبَ الإسلامَ نفسَه كلَّها، ومضى في طريقه لا يعرف التردد، بل يزداد على الأيام مضاءً وعزيمة، ونقاءً وأمانة، وصدقاً في بيع نفسه لله عز وجل، يقوِّي من ذلك لديه إيمانهُ الراسخُ من جهة، واحتقارهُ الشديدُ للنفاقِ والمنافقين من جهة أخرى.

     لقد اعتنقَ حذيفةُ ديناً قوياً، طاهراً، نظيفاً، شجاعاً، يحب الجهرَ والوضوح، والإبانةَ والصراحة، ويحتقر الجبنَ والكذب، والخِسَّةَ والنفاق، والأساليبَ الملتويةَ الحقيرة مما يحلو لبعض الناس أن يَعُدُّوه من الذكاءِ والدهاءِ وبُعْدِ النظر؛ ذلك هو الدينُ الذي اعتنقَه حذيفة.

     أما المعلمُ الذي تلقّى ذلك على يديه الطاهرتين فهو محمدُ بنُ عبد الله صلى الله عليه وسلم، وهو النقيُّ الواضح، الصادقُ الأمينُ الشجاعُ الصريحُ الذي يحبُ الأقوياء في الحق، الشجعانَ في الخير، ويكرهُ المرائينَ والمنافقين، والكاذبينَ والمخادعين.

     ولمّا كان حذيفةُ تلميذاً نجيباً سبّاقاً؛ فقد نمت موهبتُه الكبرى وتألّقت.. ولمَ لا ودينُه الإسلام، ورسولُه محمدٌ صلى الله عليه وسلم، وإخوانُه هم الصحابةُ الكرام!؟ لَكأنَّ حذيفةَ كان مُخْتَصَّاً بقراءةِ الوجوه، واستبطانِ السرائر، ومعرفةِ الدخائل المُسْتَسِرَّةِ المخبوءة.. ومن غيرِ ريبٍ كان له من ذلك حظٌّ كبير وافر جعل أمير المؤمنين عمرَ بنَ الخطاب رضي الله عنه وهو المُلْهَمُ الذكيُّ الفطنُ يستدلُّ برأيه في اختيار الرجال.

     ورجلٌ من هذا الطرازِ الكريم النادر لا ينبغي له إلا أن يكونَ بإيمانه وثيقاً عميقاً، ولا ينبغي له إلا أن يكونَ في ولائهِ كذلك.. وحقاً لقد كان حذيفةُ كذلك. يكشفُ عن هذا موقفهُ الضخمُ يومَ أحد، لقد شهدَ أباه يُصْرَعُ في ذلك اليوم المشهود، يُصْرَعُ بأيدٍ مسلمة قتلته عن خطأ وهي تحسَبُه واحداً من المشركين.

     كان حذيفةُ يجاهد بصدقٍ ومضاء حين حانت منه التفاتةٌ فإذا به يرى أباه والسيوف تَنُوشُهُ من هنا وهناك فصرخَ: أبي أبي!!.. لكنَّ قدرَ اللهِ غالب، لقد جاءت الصرخة متأخرةً بعدَ أنْ حُمَّ القضاء[1].

     وحين عَرَفَ المسلمون ما صنعوا بأبي حذيفةَ تولّاهم حزن، وأخذَهم وجوم، وسارعوا يعتذرون إليه عن خطأٍ غيرِ مقصود، لكنه نظر إليهم في حزنٍ وإشفاق، وجثةُ والدهِ الشهيدِ أمامَ ناظريه، وقال: "يغفرُ اللهُ لكم وهو أرحمُ الراحمين"، ثم مضى بسيفهِ في المعركةِ المتقدة يجاهد بصدقٍ ويقين.

     موقفٌ نبيل -لا ريب- ذلك الذي كان من حذيفة، أن يسارعَ إلى العفوِ عن إخوتهِ الذين قتلوا أباه، ويدعو لهم بالمغفرة، لكنه ليس بعجيب.. ولِمَ العجب؟ ألم يكن من تلاميذِ مدرسةِ النُّبُوَّةِ المطهَّرة؟

     على أن هذا الموقفَ النبيل أَتْبَعَهُ حذيفةُ بموقفٍ آخرَ نبيل، وذلك حين طفق يشتدُّ صوب المعركة المشبوبة تاركاً جثة والدهِ الشهيد دونَ أن يتوقفَ عندها، ولِمَ الوقوف!؟ لقد أفضى الوالدُ إلى بارئهِ.. وليس في الوقت متسعٌ لدفنهِ فالمعركة ضارية حامية.. وهي أَولى ما يتّجِهُ إليه الجَهْدُ الآن.. ولا ينبغي أن يتأخرَ ذو بلاء.. ولا ينبغي أن يقعدَ ذو غَناء. إنه لن يترتبَ أيُّ تقصيرٍ على تأخيرِ دفنِ الوالدِ الشهيد، أما التأخرُ عن المبادرةِ إلى المعركة فإن تقصيراً كبيراً سوف يترتبُ عليه.. لذا فليسَ لحذيفةَ سوى البِدارِ إلى القتالِ الضاري العنيف.. وهكذا كان.

     مضى البطلُ في المعركة ليصوغَ موقفاً آخرَ من مواقفِ النبلِ والبذل، والعزيمةِ والمضاء، يُضِيفُه إلى موقفهِ الأول حين نظرَ إلى مَنْ قتل أباه من المسلمين، وقال: "يغفرُ اللهُ لكم وهو أرحمُ الراحمين".

     وانجابت سُحبُ المعركة، وهدأَ النَّقْعُ الثائر، وانصرفَ موكبُ الحاقدين عن أُحد، وبلغَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ما كان من أمرِ أبي حذيفة، وكيف قُتِل؟ فأمر بأن تُؤَدَّى الدِيةُ عنه لكنَّ حذيفة أبى ذلك، وجعل دمَ أبيه الشهيد صدقةً على المسلمين.

     يا لها من صدقةٍ غاليةٍ كبيرة! ما أروعَها إذ يجود بها حذيفة! وما أروعَ حذيفةَ وهو يتقدمُ بها في صدقٍ وطُهرٍ وحنان! وفي إخباتٍ كريم طلباً لرضوان اللهِ تعالى ومثوبتهِ.

     هؤلاء المسلمون عجبٌ من العجب، وأُقْسِمُ لولا أن أخبارَهم وردت في أوثقِ الكتب وأصّحِ المصادر لبادرَ المرءُ إلى الشكِّ فيها واتهامِها.. لكن التمحيصَ التاريخيَّ الأمين يؤكدُ صحتَها وصدقَها، ويُوَثِّقُها ويجعلُها في مرتبةِ الحقائقِ الراسخة.

     هؤلاء المسلمون عجبٌ من العجب، حقائقُ بطولاتِهم تفوقُ الأساطير، وشوامخُ مواقفهِم أكبرُ من الخيال، لكنَّها بعدَ ذلك كلِّه، الصدقُ كلُّه، النبلُ كلُّه، والعظمةُ والإيثار، والتفوقُ والطموح، والاستعلاءُ والشموخ.

     وحذيفةُ رضي الله عنه واحدٌ من هؤلاء، وها أنت ترى له في يومِ أحد ثلاثةَ مواقف عاطرةً ناضرةً متألقة، فهو يدعو لإخوانهِ الذين قتلوا أباه بالمغفرة، وهو يدَعُ جثةَ الوالدِ الشهيد مسرعاً إلى المعركة لِيُبْلِيَ أحسنَ البلاء، ثم هو يتصدقُ بدمِ أبيهِ على المسلمين حينَ يأمرُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم له بالدية.

     سلامٌ عليك يا حذيفة! وألف تحيةٍ لكل موقفٍ من مواقفِكَ يومَ أحد، وإنَّ لك سواها لمواقفَ أخرى جديرةً بأن يكتبَ عنها المؤلفون، ويستلهمَ تألُّقَها الشعراء، وتُصاغَ حولَها دُرَرُ البيانِ المؤمنِ الوضيء.

     أيتها الأمة المسلمة!..

     إن لكِ في مثلِ هاتيكَ المواقف عظةً وعبرة، وإن لك فيها لدرساً أيَّ درس، وإنها لَنِعْمَتِ الأُسْوَةُ والقدوةُ.

     إنكِ اليومَ وأنتِ تقاتلين أعداءَ الله عز وجل وهم كثيرون أقوياء، وهم عليك مجتمعون، وهم على اختلافهِم يُوَحِّدُ مَكْرَهم بُغْضُهم لهذا الدين، وحقدُهم على هذا الإسلام، وكراهيتُهم لهذا القرآن، يخشون انتفاضةً منك شجاعةً كبيرة تُلْقيهم في مؤخَّرةِ الركب البشري، وتجعلُ قيادةَ الحضارة بأيدي المؤمنين الكرام الذين يريدون إنقاذَ البشرية اليوم من جاهليتِها الرعناء، جاهليةِ القرنِ العشرين، العاتيةِ الباغيةِ الفاجرة..

     إنك اليوم والأمرُ هكذا والصراعُ ضارٍ عنيف جديرةٌ أن تعودي إلى مثلِ حذيفة، وإلى مثلِ مواقفِ حذيفة، وإنك إنْ فعلتِ يا أمتي الغالية، ستنفضين عنك غبارَ الكسلِ والعار، وتستعذبين حلاوةَ الإيمان، وتطمحين إلى صياغةِ رجالٍ كأولئك الرجال، ومواقف كهاتيكَ المواقف.

     وإنك لفاعلةٌ ذلك بإذن الله، فأنتِ أمةٌ نجيبةٌ وَلُود، وها هو التاريخ يشهدُ أنكِ على مدارِ الزمن أنجبتِ الشجعانَ والقادة، والفرسانَ والأبطال، والكماةَ والغطاريف، وإنك أقوى ما تكونين حينَ تَعْنُفُ التحديات، ويشتدُّ الخصوم، ويَبْطَرُ الأعداء، ويحسبُ الناسُ أنَّ أمةَ الإسلام قد بادت أو كادت تَبِيدْ.

     إنك إذ ذاك تخرجين من بينِ الجراح، ومن جثثِ القتلى، ومن الحُطامِ والرُكام، وتسارعين إلى بطولاتٍ حَسِبَها الناسُ قد مضى زمانُها، يحدوك الإيمان، ويقود خطاكِ القرآن، ويشدُّ عزيمتَكِ دَوِيُّ الأذان.
*****
--------------------
[1] أخرج البخاري في المغازي باب: ﴿إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا﴾ رقم: (4065)، وفي المناقب الأنصار باب ذكر حذيفة بن اليمان رقم: (3724): من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "لما كان يوم أحد هزم المسلمون، فصرخ إبليس لعنة الله عليه: أي عباد الله، أخراكم، فرجعت أولاهم فاجتلدت هي وأخراهم، فبصر حذيفة فإذا هو بأبيه اليمان فقال: أي عباد الله أبي أبي. قال: قالت: فوالله ما احتجزوا حتى قتلوه، فقال حذيفة: يغفر الله لكم، قال عروة: فوالله ما زالت في حذيفة بقية خير حتى لحق بالله".

عمرو بن الجموح بعرجته في أُحُد

عمرو بن الجموح بعرجته في أُحُد

     كان عمرو بن الجموح واحداً من زعماء يثرب، وسيداً من سادات بني سلمة، وكان رجلاً كريم النفس، حسن المعشر، جواداً طيباً. وحين أشرق نور الدعوة الجديدة، واستضاءت به يثرب صارت المدينة المنورة مهد الدولة الإسلامية الأولى، ودار الهجرة الشريفة المباركة، ومأرز الإيمان إلى يوم الدين.

     وتأخر إسلام عمرو بن الجموح، ذلك أن إلفه لدينه القديم كان له في فؤاده نصيب وافر، وكان ولده معاذ بن عمرو قد سبقه إلى الإسلام، وكان مع صديقه معاذ بن جبل يدعوان إلى الله تعالى في المدينة المنورة في نشاط وحماسة.

     كان لعمرو بن الجموح صنم في منزله اسمه "مَناف"، وكان المُعاذان معاذ بن عمرو، ومعاذ بن جبل يمضيان ليلاً إلى هذا الصنم فيطرحانه في حفرة فيها بعض القاذورات، فإذا أصبح عمرو بن الجموح طفق يبحث عن صنمه مناف حتى إذا وجده غسله وطيّبه، ووضعه في داره حَفِيّاً به حريصاً عليه.

     ويعود المعاذان إلى السخرية بمناف في الليلة الأخرى، فيعود عمرو بن الجموح إلى البحث عنه وغسله وتطييبه.. وتتكرر العملية حتى يسأم عمرو، وعندها يجيء بسيفه فيضعه في عنق الصنم مناف وكأنه يقول له: إنْ كان فيك خيرٌ فدافع عن نفسك. وفي الصباح وجد عمرو صنمه منافاً في الحفرة القذرة مشدوداً بحبل إلى كلب ميّت.

     وتحركت فطرة عمرو بن الجموح، وعلِم ما عليه دينه القديم من سفاهة وتفاهة، وأخذت المقارنة بين الدعوة الجديدة وبين دين الجاهلية تتضح فإذا بعالم الإسلام بهيج رائع، مشرقٌ خصيب، نقيٌ طاهر، وضيءٌ طليق، وإذا بعالم الجاهلية ثقيلٌ قاتم، مظلمٌ كئيب، جديبٌ مقفِر، ضيقٌ مسدود، وإذا بعمرو بن الجموح يدخل في دين الله عز وجل، ويلتحق بموكب المؤمنين الصادقين.
* * *

     أسلم عمرو بن الجموح، وأخلص نفسه لله عز وجل، وكشفت الأيام صدق إيمانه، فضلاً عن جوده وكرمه، فضلاً عن شجاعته وحرصه على الشهادة.

     وكأن الرجل آلى على نفسه أن يمحو سواد لياليه في الجاهلية ببياض أيامه في الإسلام، وكأنه حرص على أن ينتقل بكل ما يقدر عليه من قوةٍ وشدة، وبأسٍ وصلابة، وجودٍ وسخاء إلى دنيا الإسلام يعمل على تشييدها وتعضيدها وحمايتها، ليُسهِم إسهاماً جاداً في القضاء على دنيا الخرافة والظلم والباطل، دنيا الجاهلية.

     وكان له من السخاء حظٌ طيبٌ موفور، ظهرت فيه أصالة نفسه، وصفاء معدنه، وكرم سريرته فإذا به يجود لا يخشى غوائل الفقر، ولا يرهب عوادي الحاجة، ثم جاءت الأيام التي دعا فيها الإسلام أبناءه إلى جود آخر هو الجود بالنفس، فقد بدأ عهد الجهاد..

     ومضى القوم الكرام الذين هزموا الشح في نفوسهم، والذين خاضوا في أعماقهم معارك عنيفة جعلتهم يمتلكون جميع أسباب المبادرة إلى الخيرات، والمسارعة إلى الفضائل.. مضوا يجودون بالنفوس من بعد أن جادوا بالمال.

     ومِن هؤلاء الذين نجحوا في الاختبارَين معاً، اختبار الجود بالمال، واختبار الجود بالنفس كان عمرو بن الجموح.
* * *

     جاءت معركة بدر، وجاء موسم الجود بالنفس رخيصة في سبيل خالقها، فإذا بعمرو بن الجموح يحرص على الخروج للجهاد.

     ولكن كانت ثمة مشكلة!.. إن عمرو بن الجموع كان أعرج، وكان عرجه شديداً، مما يجعله غير صالح للقتال، وإنَّ له أربعة أولاد، كلهم مسلمون، وكلهم مجاهدون، أصروا على إعفاء والدهم من الخروج، وله من خروجهم هم عذر أي عذر! فضلاً عن عرجه الشديد. وهكذا كان، فقد بقي عمرو في المدينة المنورة وخرج المسلمون إلى بدر.

     ودار العام على بدر، وجاءت غزوة أحد، وخاف عمرو أن يحبسه أولاده عن الجهاد، وخشي منهم مثل الذي فعلوه يوم بدر. ومضى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: "إن بَنِيَّ يريدون أن يحبسوني عن الخروج معك إلى الجهاد، ووالله إني لأرجو أن أخطر بعرجتي هذه في الجنة".

     لقد استحال عمرو إلى أمنية واحدة.. أن يُسمح له بالجهاد، وأن يُرزَق الشهادة. وكان فرحه عظيماً حين أذِنَ له الرسول صلى الله عليه وسلم بالخروج، فانطلق في سعادة وحبور، ودعا في صوتٍ ضارعٍ خاشع: "اللَّهمَّ ارزقني الشهادة ولا تردني إلى أهلي!". ونشبت المعركة، والتقت كتائب الإيمان مع كتائب الجاهلية، واشتد القتال، وانطلق عمرو بن الجموح وأولاده الأربعة يصدُقون الله ما عاهدوه عليه.

     مضى بسيفه المؤمن يضرب في أعناق المشركين، وفي قلبه حنين لا يهدأ قط، ذلك أنه في انتظار الضربة التي سوف تنقله إلى عالم الشهداء السعداء.

     إن اللهفة تستبد به، وتمتلكه وتجعله يمضي في نشاط لا يفتر، ذلك أنه حريص على أن يطأ برجله العرجاء في جنة الخلد التي لا تبلى.

     وأخيراً جاءه ما يؤمل، وأصاب ما كان يحرص عليه فإذا به شهيدٌ سعيد. ومضى إلى ربه أميناً مبروراً، وبعد ست وأربعين سنة على دفنه نزل سيل شديد من الماء غطى أرض القبور بسبب عين من الماء أجراها معاوية، فسارع المسلمون ينقلون رفات الشهداء الكرام. فوجدوهم كما وصفوهم: لينة أجسادهم، تتثنّى أطرافهم. وكانت جثة عمرو، لم تأكل الأرض منها شيئاً، كأن صاحبها في حلم هانئ بهيج.

     رحمك الله يا عمرو!.. وأجزل لك الثواب، موقفك يوم أحد في حرصك على الشهادة، درس يهيب بنا نحن -القاعدين الأصحّاء- أن ننجو من هذا الهمود الكئيب، والتواكل السقيم، وأن نسمو إلى آفاق المسؤولية الكبيرة التي أحسن حملها الأجداد العظام، وأضعناها نحن التعساء المتواكلين.
*****

عبد الله بن جحش يوم أحد

عبد الله بن جحش يوم أحد

     خرجت قريش في السنة الثالثة للهجرة الشريفة، زاحفةً نحو المدينة المنورة في جيش لجب لهَّام، يسوقها حقدٌ ضارٍ عنيف، ويحث خطاها شوق عارمٌ جيَّاشٌ للثأر من المسلمين، وَالانتقامِ لما حلّ بها يومَ بدر، قبل عام منصرم حين كانت أول معركةٍ بين الإسلام والجاهلية، وكانَ أولَ نصرٍ عزيز مؤزر سقط فيه من المشركين سبعون قتيلاً، وأسِر سبعون آخرون.

     كانت قريش تريد الثأر إذن، وكانت صورُ قادتها وهم يَسقطون صرعى على أرض بدر كعتبة بن ربيعة، وأبي جهل بن هشام؛ ماثلة أمامها لا تزول ولا تريم، بل تؤجج نيران الحقد الأهوج المجنون.

     وعسكرت عند جبل أحد، ذلك الجبل الحبيب الذي شهد أروع صور التضحية والصدق والفداء، وقد أجمع قادةُ رحلتها المشؤومة أن يستأصلوا الإسلام نهائياً، قتلاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإبادة للمسلمين كاملة، حتى ينتهيَ أمرُ هذا الدين الجديد الذي أرَّق ليلهم، وأتعبَ خُطاهم، وأضنى أجسادهم، وألقى الهواجس في مضاجعهم، وجعل أمورهم تنتهي إلى ما يكرهون.
***

     وخرج الجيش المسلم يقوده رسول الله صلى الله عليه وسلم صوب معسكر المسلمين في أحد، يسوقه الحنين إلى الجهاد، ويحث خطاه الشوق العارم للموت في سبيل الله طلباً لجنة الخلد الدائم، والنعيم الذي لا يزول. ووقف في صفه عبد الله بن جحش رضي الله عنه، وفي صدره رغبة في الجهاد جياشة، وعزم على الاستبسال والقتال، حار صادق نبيل.

     كان عبد الله من أعظم أبطال غزوة أحد، ثباتاً وصدقاً، ومضاءً وتضحية، ولم يكن يدور في خلده سوى رجاءٍ كبير، رجاءٌ عملاق، أن يرويَ بدمه الطهور ثرى الجبل الكريم، ويثويَ عند سفحه المبارك شهيد صدق وتضحية ومضاء.

     ولم يتوقف رجاؤه عند هذا الحد فحسب، بل كان يعظمُ ويمتد، إنه يرغبُ أن يُمَثَّلَ به بعد استشهاده، يجدع أنفه، وتقطع أذنه، ويعبث بوجهه النبيل أيدي الحاقدين الكافرين، ليزداد أجره وثوابه، وتعلو درجته ومكانته عند الله عز وجل.

     دعا عبد الله بن جحش قبل المعركة فقال: "اللَّهمَّ ارزقني غداً رجلاً شديداً في بأسه، فيقتلني ثم يأخذني فيجدع أنفي وأذني، فإذا لقيتك قلتَ: يا عبد الله!.. فيم جُدِعَ أنفك وأذنك؟ فأقول: فيك وفي رسولك، فتقول: صدقت".

     وحين التقى الجيشان عند سفح أحد قاتل عبد الله قتال المستأسد الضاري، وصال وجال، ورمى بنفسه أنف الجلّى غير وجِلٍ ولا هيّاب. وتحقق رجاء البطل المقدام، فقد استشهد على يد أبي الحكم بن الأخنس، ومثَّل به المشركون، فكان شهيداً وفياً لإيمانه العظيم، وكان صورةً من أنبل صور الصدق والوفاء.
***

     هنيئاً لك أيها البطل الكميُّ السريُّ، هنيئاً لك ما نلت، فقد فزت بما رجوت، وكسبْتَ ما أمَّلْت، لك تهنئة مضيئة ناضرة، ولك بشرى وضيئةٌ طاهرة.

فأبشر أيها البطل الكريم أبشر!..

أبشـــرْ فذلك ما ســـألتَ قضــاهُ     ربٌّ هداكَ فكنــــتَ عندَ هُـــداهُ
آثرتَـــهُ ورضيتَ بين عبـــــادِه     من صالحِ الأعمالِ ما يرضـــاهُ
قتــــلوكَ فيه، تردُّهم عن دينِــه     صرعى، وتمنعُ أن يُبــاحَ حِماهُ
وبَغَوا عليك فعذبوا الجسد الذي     ما للـكـــــرامةِ والنعيــــمِ سواهُ
هي دعوةٌ لك ما بسطتَ بهـا يداً     حتى تقبَّــــلَ واستجـابَ اللهُ[1]

     لقد شهدتَ الجهادَ أروعَ ما يشهدُه الأبطال، وأبليتَ في الشدة أكرمَ ما يُبلي الرجال، وإنك لشهيد كريم، وإن الجنة منزل الشهداء، وأكرِمْ بالجنة! وأكرِمْ بالشهداء! فنعم الدار هي! ونعم السكان هم!..

ولقد رأيتَ حِمى الجهادِ فصِفْ لنا     ماذا جــــزاكَ اللهُ من رضـــــوانِه
ماذا أعـــدَّ لكــــلِّ بَــــرٍّ مُتَّــــــــقٍ     ذاكَ الحمى القدسيَّ كيـــــف تراهُ؟
وحبــــاكَ في الفردوسِ من نُعماهُ؟     غَوَتِ النفوسُ فما أطاعَ هواهُ؟[2]
***

     هي مَنزلة جُلّى تلك التي أصبتَ يا عبد الله، وهو شرفٌ عزيزٌ باذخ، شرف الشهادة في سبيل الله تعالى، ولقد دفعتَ المهر غالياً.. وهو دمك الطهور، لكنك أنت الفائز، وهل بعد رضوانه تعالى وجنته فوز؟

أرأيتَ عبد اللهِ كيـــــف بلغتَــهُ     دمُكَ المُطهَّرُ لو أتِيـــــحَ لهالكٍ
شرفاً مدى الجوزاءِ دونَ مداهُ؟     أعيــــا الأُساةَ شِفــــاؤهُ لَشفــاهُ

     أيها البطل المقدام الشهيد! أيها المؤمنُ الصادقُ العظيم! أيها الثاوي في ثرى الجبلِ الأشم الذي يُحبُّنا ونُحِبُّه!.. لقد كانت أمنيتك أروع الأماني، وكان أمَلُكَ أطهرَ الآمال، وكانت رغبتك أنبل الرغائب.

     لقد سموتَ على الدنيا ومتاعها، وطفقتَ مِرقالاً وثّاباً إذ المعركة عنيفة ضارية، ومضيتَ جوّالاً صوّالاً، إذ الرؤوس تقع، والسيوف تحصُد، والدماء تنثال، مسرعاً صوب غايتك الجليلة الكبيرة حتى جاءتك السعادة في أبهى صورها، فإذا بك تفوز، وإذا بِرجائك واقعٌ يتحقق، وإذا بأملك يعانقُ مصيرك العظيم على ثرى أحُد، لتكون من بعدُ أغرودة تضحيةٍ في فم الزمان، وأنشودة صدقٍ في ضمير الحياة.

--------------
[1] شعر أحمد محرم، ديوان مجد الإسلام.
[2] شعر أحمد محرم، ديوان مجد الإسلام.

مصعب بن عمير.. المهاجر الداعية شهيد أحد

مصعب بن عمير.. المهاجر الداعية شهيد أحد

     هو مصعب بن عمير، الشاب الغني المنعم الذي قلب الإسلامُ حياتَه قلباً عنيفاً شاقاً، فإذا به تضحيةٌ ونُبل، وإيثارٌ وبطولة، وصدقٌ ووفاء. كان هذا الشاب المكي من أشهر فتيان مكة المكرمة، إن لم يكن أشهرهم جميعاً، ذلك أنه قد ولِد في مهاد الغنى والنعيم، ونشأ في أحضان الدلال، وشبَّ في ظلال خمائله، فكان له من ذلك كله نصيب وافر، يضاف إلى وسامة خَلْق عليها، وإشراق نفس، وصفاء سريرة؛ لذا كان شاباً لمّاعاً في المجتمع المكي، ينتشر أريجه العطِر النقي حيثما يكون.

     وأصبحت مكة المكرمة ذات يوم على حديث النبأ الجديد يذيعه محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، نبأ الدين الجديد الذي بُعِث به. فعَجِبت واستغربت، وأصبحت ذات يومٍ على نبأ مصعب بن عمير وقد انخلع من دين قومه، وتبع الدين الجديد فازداد بها العجب والدهشة. ذلك أن الفتى القرشي الذي ما كان في مكة كلها من هو أنعم عند أبويه منه، ترك كل ما كان فيه من ترف ونعيم، حباً لله ورسوله، لقد ودع حياته الماضية، واختار درباً جديداً يلتقي فيه بالمشقة والجوع، والنصَب والحرمان.

     لقد صار الفتى الأنيق، العطِر النضر، لا يُرى إلا مرتدياً الملابس الخشنة الجافية، يجوع ويعرى، ويكدّ ويتعب، لكنه بإيمانه سعيدٌ هانئ، متفوقٌ متألق، يملأ العيون إعجاباً وجلالةً ومهابة.
* * *

     ودارت الأيام دورتها فهاجر الفتى القرشي إلى الحبشة مرتين مع من هاجر من المسلمين، وحين عاد من هجرته الثانية إلى مكة المكرمة، ظل فيها نموذجاً للإيثار والنبل، والسمو والعظَمة، حتى إذا جاء الأنصار يبايعون رسول الله صلى الله عليه وسلم عند العقبة، كان مبعوث نبيه الكريم الأمين إلى يثرب يبشر فيها بدين الله عز وجل، ويهيئ الجو فيها للهجرة المرتقبة..

     وكان مصعب نعم المبعوث الموفق! فقد نهض بالمطلوب منه أحسن النهوض، وأدّاه أجمل الأداء، فإذا بيثرب تتهيأ لتصير المدينة المنورة، دار الهجرة ومأرز الإيمان، ومثابة الجهاد، ومنطلق الدعوة إلى الله عز وجل، والقاعدة الأمينة الوفية لدينه الكريم، وتظل الأيام في سيرها الحثيث المتوالي، ويُصاب المشركون بهزيمة نكراء يوم بدر، ويدور العام على بدر، فإذا بهم في غزوة أحد وقد أعدوا أنفسهم لثأرٍ ضارٍ عنيف. وفي يوم أحد، كان لمصعب حديثٌ أي حديث.
* * *

     أعد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد جيشه الصغير المؤمن، ووزع المسؤوليات على أصحابه الكرام، وكان لمصعب شرف اللواء لواء المعركة يحمله ويحميه، وقامت المعركة ضارية شديدة، وهبّت رياح النصر على المسلمين، لكن الرماة خالفوا أوامر النبي القائد عليه الصلاة والسلام، فانعكس الأمر، ودفع المسلمون بسبب هذه المخالفة فادح الثمن، فقد مضت سيوف المشركين تفتك بالعصبة المؤمنة، وكانت قبل قليل تولي الأدبار، وأدرك الفتى القرشي النبيل مصعب بن عمير الخطر العنيف، فمضى يرفع اللواء الذي دفعه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

     إن مسؤوليته الآن تتركز في حفظ هذا اللواء شامخاً مرفوعاً مهما تكن التضحية من أجل ذلك، وهكذا فعل مصعب. يدٌ تحمل اللواء في عنف وشدة وإصرار، ويدٌ أخرى تحمل السيف تضرب به في قوة وبسالة ومضاء. ووصل زحف المشركين إلى مصعب، فما أخافه ولا هاله، وأقبل أحد فرسان المشركين عليه، فضربه على يده اليمنى فقطعها، ومصعب يقول: "وما محمدٌ إلا رسول قد خلت من قبله الرسل"..، وأشفق البطل على اللواء أن يقع فحمله بيده اليسرى، فضربها الفارس المشرك فقطعها.. فسارع البطل يحنو على اللواء ويجمعه بعضديه إلى صدره وهو يقول: "وما محمدٌ إلا رسول قد خلت من قبله الرسل".. ومرة ثالثة حمل الفارس المشرك على مصعب بالرمح فأنفذه فسقط مصعب وسقط اللواء.

     وانتهت المعركة الضارية وطفق الرسول صلى الله عليه وسلم يتفقد جرحاها وقتلاها ووجد فيمن وجد مصعباً، ولما أرادوا دفنه لم يجدوا إلا نَمِرة؛ إذا وُضعت على رأسه تعرت رجلاه، وإذا وُضعت على رجله ظهر رأسه، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: "اجعلوها مما يلي رأسه، واجعلوا على رجليه من نبات الإذخِر"، وألقى على مصعب نظرة وداعٍ حزينة، وقال له: "لقد رأيتك بمكة وما بها أرق حُلّةً ولا أحسنُ لِمَّة منك، ثم ها أنت!".

     رحمك الله يا مصعب! وأجزل لك الثواب، وأكرم مثواك مع الأبرار الأطهار. لقد مضيت إلى خالقك الكريم، وإليك هذه الأبيات عسى أن تليق بك:

كما يورق الغصن عند الربيــع     وتهـــدي النسائم ريح الصبــــا
كـــما يزهر الغاب في طهـــره     مضيت إلى الموت ثبت الخطى
وينتفـــض الطير عند المطــــرْ     لـقــــلبٍ كليمٍ قبيـــل السّحَــــــرْ
ويخضرُّ غض الشباب النضــرْ     وأشرقتَ كالصبـــح لـمَّـــا سفرْ
*****

أبو حذيفة بن عتبة يوم بدر

أبو حذيفة بن عتبة يوم بدر

     هو أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، الصحابي المجاهد الشهيد، الذي جمع الله تعالى له بين الشرف والفضل، فكان منهما نموذجٌ مشرِّفٌ نادر هو أبو حذيفة هذا.

     أسلم الرجل مبكراً، ومبكراً جداً.. أسلم قبل أن يدخل النبي صلى الله عليه وسلم دار الأرقم ليدعوَ فيها، ومن عجائب الهداية أنه أسلم على الرغم من أسرته المشركة التي أسرفت في عداوتها للدعوة الجديدة، كان أبوه عتبة وعمه شيبة من سادة قريش.. لكنهما عاشا مشركين محاربين للإسلام، ومسرفين في العداوة والكيد والأذى، وماتا مشركين بسيوف المؤمنين في معركة بدر.

     إنها قدرة على الارتفاع والسمو تلك التي امتلكها أبو حذيفة، فإذا به يتجاوز الأفق الواطئ الدنيء الذي تعيش فيه أسرته، ويستشرف آفاقاً أخرى أجلَّ وأعظم، وأنبل وأكرم، وأجمل وأروع، هي آفاق الإسلام العظيم الذي جاء يُخرِج الناس من الظلمات إلى النور.

     هذه المقدرة التي امتلكها أبو حذيفة هيأت له الفرصة للإسلام المبكر على الرغم من جميع الصعاب والمعوّقات، فاكتسب موقفاً كريماً لا يَبلى على كرِّ الدهر، هو موقف السابق المُسارع إلى الإيمان.

     وحين هاجر المسلمون إلى الحبشة مرتين نائِينَ بأنفسهم عن الأذى، كان أبو حذيفة واحداً من المهاجرين في المرتين، وهو موقف آخر له، ينظر إليه المرء في إعجاب، ذلك أن بوسع رجل مثله أن يظل في مكة المكرمة بمنأى العذاب والتنكيل، يحميه من ذلك نسبٌ في قريش أثيلٌ عريق، وسيادة لوالده عتبة يعترف بها الجميع، لكنه مع ذلك هاجر مرتين، ذلك أنه دخل في المجموعة المسلمة الأولى واحداً من مجاهديها الصامدين يحملُ مثل الذي تحمل، ويَجْهَدُ مثل الذي تجهد دون حرصٍ على راحة، أو حذر أو مشقة.

     والعجيب أن أبا حذيفة الذي هاجر مرتين إلى الحبشة على الرغم من والده عتبة، هاجرت معه زوجته سهلة بنت سهيل بن عمرو.. على الرغم من والدها، الذي كان هو الآخر من سادة قريش، وممّن يعادون دعوة الإسلام ويحاربونها.

     لقد اهتدى الزوجان، من حيث ضلّ الأبوان، وأقبلا على الدين الجديد صادقين مهاجرين صابرين من حيث وقف والدهما يحاربانه ويكيدان له.. حتى خُتِمَ لأحدهما بالقتل يوم بدر، وللآخر بالهداية يوم فتح مكة المكرمة.. وإن الهداية والضلال حقاً سِرّان من أسرار الله تعالى يضعهما حيث يشاء.

     وجاءت هجرة ثالثة لأبي حذيفة في هجرته إلى المدينة المنورة، حيث مضى لا يلوي على شيء ليشارك في بناء الدولة الجديدة التي تحمل مشعل النور والحق والخير، وتصوغ فجر الحضارةِ الجديدةِ؛ أكرمِ وأعظمِ وأشرفِ حضارةٍ عرفها الإنسان، حضارةِ الإسلام.

     وفي المدينة المنورة آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أبي حذيفة وبين عبّاد بن بِشر الذي سارع يُقاسِمُه داره ومتاعه.

     وكان المتآخيان الكريمان، الأنصاري والمهاجري، غاية في الشرف والشهامة والأريحية، وقمة في الصدق والإخلاص والصفاء.. ولقد كانت في حياتهما مَشابِهُ كثيرة رائعة نبيلة، وكان ختامها أن تواثقا على الاستشهاد معاً، وشاء الله عز وجل أن يتحقق ذلك بالفعل فإذا بالبطلين المؤمنين يمضيان شهيدين مبرورين في يوم واحد، هو يوم اليمامة كأنهما كانا على ميعاد.. مضيا شهيدين أثخنتهما الجراح، وفَشَتْ فيهما الكُلوم، وتعاورتهما السيوف، واندقّت فيهما الرماح، وهما ثابتان ثبات الجبال الشم، هانئان سعيدان، باسمان مطمئنان، واثقان مستبشران، يرنُوان إلى جنة الخلد حيث أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر، تَرِدُ مياه الجنة، وتأوي إلى قناديل معلقةٍ في سقف العرش.

     ومنذ استقر أبو حذيفة في المدينة المنورة، حتى لقيَ وجه ربه عز وجل يوم اليمامة، كان جندياً مؤمناً صادق الإيمان، ينهض بتبِعاتِ المؤمن المجاهد في سبيل الله أحسن نهوض وأصدقه وأكرمه.. ويتحمل مسؤوليته كاملة في بناء المجتمع الإسلامي الأول، وصياغة الجيل الربّاني الفريد.

     ودار الزمن مسرعاً يحث خطاه، وجاءت معركة بدر، ووقف أبو حذيفة في الصف المسلم، بينما وقف في الجهة الأخرى حيث الصف الكافر أبو عتبة، وعمه شيبة، وأخوه الوليد.

     وكان هؤلاء أول من وقف بين الصفين يطلب المبارزة.. وتصدى لهم ثلاثة من عشيرة الرسول صلى الله عليه وسلم هم عمه حمزة بن عبد المطلب، وابنا عمه علي بن أبي طالب، وعبيدة بن الحارث.. ولم يَطُلِ الأمر.. إذ سُرعان ما مزقت السيوف المؤمنة صدور الكافرين الصادّين عن الحق المحاربين للهدى المحالفين للشيطان.

     موقفٌ صعب جداً، أن يرى أبو حذيفة دماء أبيه وأخيه وعمه تجري معاً في وقتٍ واحد، موقف شاق وثقيل، لأن أبا حذيفة كان يعرف في أبيه حِلْماً وفضلاً، فكان يرجو له أن يهتدي للإسلام، فلما رأى مصرعه على الكفر تألّم ووقف واجماً حزيناً.

     ولَحَظَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الفَطِن النبيل الحكيم، وقدَّر ما دار في نفسه من عواطف فقال له: "يا أبا حذيفة لعلك دخلكَ من أبيك شيء؟"

     فقال أبو حذيفة: "لا والله يا رسول الله، ما شككت في أبي ولا في مصرعه، ولكني كنتُ أعرف من أبي رأياً وحلماً وفضلاً، فكنتُ أرجو أن يهديه ذلك إلى الإسلام، فلما رأيتُ ما أصابه، وذكرت ما مات عليه من الكفر بعد الذي كنتُ أرجو له أحزنني ذلك". عندها ترفَّق به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال له خيراً، ودعا له بخير.

     على أن أبا حذيفة أوقعَهُ الشيطان في زلّةٍ لا تليق به مؤمناً عظيماً، وتلميذاً نجيباً من تلاميذ المدرسة النبوية المطهرة.

     ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم بدر: "من لقي منكم العباس بن عبد المطلب فلا يَقتُلهُ فإنما خرج مُستَكْرَهاً"، وسمع بذلك أبو حذيفة فإذا به يقول: "أنقتلُ آباءنا وإخواننا وعشيرتنا ولا نقتلُ العباس؟ والله لئن لقيتُه لأُلْجِمَنَّهُ السيف".

     وبلغت كلمته هذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لعمر بن الخطاب: "أيُضْرَبُ وجهُ عمِّ رسول الله بالسيف؟".

     وأحسّ عمر العملاق العظيم بفداحةِ كلمة أبي حذيفة فقال للرسول صلى الله عليه وسلم: "يا رسول الله دعني فَلْأَضْرِبْ عنقه بالسيف فوالله لقد نافق"...

     لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبى على عمرَ ذلك، وأدرك أنما هي هفوة عابرة غير متعمدة.

     وفاءَ أبو حذيفة إلى رشده بعد زلّته تلك، واستبدّ به القلق على هفوته هاتيك، واعتذر عنها، وظلّ طيلة حياته وهو يقول: واللهِ ما أنا بآمنٍ من تلك الكلمة التي قلتُها يومئذٍ، ولا أزال منها خائفاً إلا أن تُكَفِّرها عني الشهادة.

     لقد كانت في حياة أبي حذيفة مواقف كثيرة مشرِّفة، لكن موقفه في أعقاب زلّته تلك موقفٌ خاصٌّ متميز ليس له في حياته كلها مثيل.

     إن الرجلَ قد شعر بفداحة ما قال، وخطورة ما أزَلّهُ الشيطان إليه، وامتلكه ندم حاد عنيف، جعله يشعر أنه على حافة الهاوية، وأنه قد ينتهي إلى الخسران ما لم يَحْظَ بالشهادة عسى أن تكفِّرَ عنه هفوته تلك.

     ومن يُمعِن النظر في عبادة أبي حذيفة، يكتشف معدنه النبيل، ونفسه الحساسة، وتقواه الصادقة، ومدى ما كان يشعر به من ندم وحسرة وأسف.. "واللهِ ما أنا بآمنٍ من تلك الكلمة التي قلتُها يومئذٍ ولا أزال منها خائفاً إلا أن تُكَفِّرها عني الشهادة"؛ كلمة نبيلة غاية في النُّبْلِ، جليلة غاية في الجلال، جميلة في معناها، سامية في مقصدها، ثقيلة في تكاليفها، ناضرة طاهرة عاطرة. لذا طفِقَ البطلُ يجاهد ويجاهد، مؤمِّلاً أن يُرزَق الشهادة في سبيل الله.. حتى يهدأ ويستريح.

     وأخيراً تحقق له ما أراد، فثوى في أرض اليمامة بعد قرابة عشر سنوات من تلك الزلة، شهيداً صادقاً وفياً، وثوى معه أخوه الأنصاري عَبّاد بن بِشر، وعلى وجه كلٍّ منهما ابتسامة طاهرة متوضّئة.
*****

سعد بن معاذ مشيراً بالروحاء في الطريق إلى بدر

سعد بن معاذ مشيراً بالروحاء في الطريق إلى بدر

     خرج المسلمون إلى بَدرٍ في السنة الثانية للهجرة يقودهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، مُؤَمِّلِينَ أن يَغنموا قافلةً لقريش كانت عائدةً من الشام يقودها أبو سفيان.. خرج المسلمون، وما كان في حُسبانهم أنه ربما دارت معركة بينهم وبين قريش.. لقد ظنوا الأمر أيسرَ من ذلك، حَسِبوه قافلةً معها عددٌ قليل من الحُرّاسِ ليس بوسعهم أن يُقاوِموا هَجْمَتَهُم.. وإذن فالأمر لا يعدو جولةً أو جولتين تكونُ القافلةُ بعدها غنيمةً لهم.

     لكن الله عز وجل.. وهو العليم الخبير.. أراد للمسلمين شيئاً آخر.. أرادَ لهم أن تنجوَ القافلة.. وأراد لهم أن يلتقوا مع جيشِ قريشٍ الذي يبلغ ثلاثة أضعاف جيشهم لِيصنَعَ بهم ما هو به عليم.

     ساروا يوماً أو يومين.. وعلموا بنجاة القافلة، وعلموا بخروجِ قريشٍ للقتال.. إن الموقف قد اختلفَ وتبدّل.. ولا بد إذن من إعادة النظر فيه. واستشار الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم مَنْ معه في القتال.. فقامَ أبو بكرٍ وأشارَ فأحسن.. ومِثلَهُ فعل عمرُ والمقداد، قاما فأشادا فأحسَنا.. لكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان لا يزالُ ينتظرُ رأيَ آخرين هم الأنصارُ رضوان الله عليهم ذلك أن البيعةَ بينهم وبينه كانت أن يُدافِعوا عنه في المدينة المنورة ولم يكن فيها شيءٌ عن القتالِ خارجَها.. فلو أنهم لَم يقاتلوا استناداً إلى حَرْفِيَّةِ البَيعَةِ لَما كانوا لها ناقضين.. لكن الأنصارَ كانوا أكبرَ من ذلك وأعظم.

     أدركَ سعدُ بن معاذ رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما يريدُ أن يسمعَ رأيَ الأنصار فقال له: "لَكأنَّكَ تُرِيدُنا يا رسولَ الله؟" قال صلى الله عليه وسلم: "نعم"..

     عندها قال سعدٌ رضي الله عنه، ما يشهد له بعظيم إيمانِه وعميقِ يقينِه، ويكشفُ عن نفسه الصافيةِ الشجاعةِ الصادقة، نقاءً وبطولة، وفِداءً ورجولة، وأصالةَ نفسٍ ونصاعةَ وجدان.

     ما كان سعد بن معاذ يعرف الطريق التي يسيرُ فيها جيش رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن ذلك لم يكن شيئاً ذا بالٍ عنده.. فهو يتبعُ نبيَّه وقائدَه، وهو سائِرٌ معه، مُدافِعٌ عنه، مُقاتِلٌ دونه مهما امتد السفرُ وتطاول، قال سعد: "والذي أكرمك وأنزل عليك الكتاب ما سلكتها قط.. ولا لي بها علم، ولَئِن سِرتَ حتى تأتي بَرْكَ الغِماد من ذي يَمَنٍ لنسيرنَّ معك".

     إن سعداً مُجمِعٌ على الخروج وراء نبيه الكريم ولو انتهى السفرُ إلى اليمن.. وإن سعداً لَيَعلَمُ أن الرسول صلى الله عليه وسلم مبعوثٌ بالحق، وأنَّ عليهم تأييدَهُ حتى يُبَلِّغَ رسالة السماءِ إلى أهل الأرض.. وإذن فلا بد من القتال، وإذن فلا محلَّ للتراجعِ والنكوص.. كما فعلَ بنو إسرائيل مع موسى عليه السلام حين جَبُنوا وتراجعوا وقالوا: "اذهب أنت وربك فقاتِلا، إنا هاهنا قاعدون".. لا، ليس لسعدٍ ولا للأنصار ولا للمهاجرين أن يتخذوا مثلَ هذا الموقف، إنَّ لهم موقفاً آخر على النقيض من موقفِ بني إسرائيل، هو موقف التضحيةِ والطاعةِ والجهاد.. وهو ما عبَّرَ عنه سعدُ بن معاذ حينَ قال للرسول صلى الله عليه وسلم: "ولا نكونُ كالذين قالوا لموسى عليه السلام، اذهب أنتَ وربُّكَ فقاتِلا إنّا هاهنا قاعدون، ولكن.. اذهب أنتَ وربُّكَ فقاتِلا إنّا معكما مُتَّبِعون"..

     لقد كان سعدُ بن معاذ طِرازاً فريداً بين الناس.. كان من النُّدرةِ التي تحتملُ المسؤوليةَ مهما عظُمَت ومهما كانت باهظةَ التكاليف. إنه يعلمُ أن الرسول صلى الله عليه وسلم خرجَ بادئَ ذي بدءٍ لأمر القافلة التي نَجَتْ، وهاهو الآن إزاءَ موقفٍ جديدٍ يستشيرُ فيهِ مَن معه، فإنَّ قريشاً قد خرجَت للقتال، لذا لَمْ يَفُتْ سعداً أن يقول للرسول صلى الله عليه وسلم وهو يُدلي بمشورته: "ولَعلَّ أن تكونَ قد خرجتَ لِأمر، وأحدثَ الله إليكَ غيرَه، فانظرِ الذي أحدثَ الله إليك، فامْضِ، فَصِلْ حِبالَ من شِئت، واقطعْ حبالَ من شِئت، وخُذ مِن أموالنا ما شِئت، وأعطِنا ما شِئت، وما أخذتَ منا كان أحبَّ إلينا ممَّا تركت".. قولةٌ تستوقفُ الانتباه، وتستدعي التأمل، فيها ثِقةٌ رائعة، وإيمانٌ مكين، وصدقٌ وتصديق، وإيثارٌ لِما يَخلُدُ ويبقى على ما يَنفَدُ ويفنى.

     إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مبعوث بالحق، وإذن فإنَّ لهُ أن يفعلَ ما يشاء، يصلُ حبالَ مَن يشاء، ويقطعُ حبالَ من يشاء.. يأخذُ من أموالِ المسلمين ما يشاء، ويَدَعُ من أموالِهم ما يشاء.

     وهذا ما أدركَهُ سعد بن معاذ، فسارعَ يقولُه بثقةٍ هائلة واطمئنانٍ مكين. وإنه لَمِنَ الظُّلمِ للحقيقةِ ولِأنفسِنا كذلك أن يغيبَ عنّا قولُ سعد: "وما أخذتَ منا كان أحبَّ إلينا ممَّا تركت".. أسَمِعتَ هذه القولة!؟ أوَعَيتَها!؟ تُرى أيُّ مستوىً نادرٍ تكشفُ عنه.. دفعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابَه إليه!؟ ألَا بُورِكتَ يا سعد! وبورِكتْ كلِمةٌ أنتَ قائِلُها! وبوركَ الدِّينُ الذي صاغَك! وبورِكَ النبيُّ الذي ربَّاك!.. لقد آمنتَ وصدَّقت، وسَمَوْتَ وارتفعت، وكنتَ جديراً بالمكانة التي تبَوَّأت، إنك واللهِ بها جدير، إنك واللهِ بها جدير.

     منزلةٌ رائعةٌ نادرة بلَغها سعدُ بن معاذ.. لذا لم يكُن بِدعاً أن يَقِفَ ليقولَ لرسوله صلى الله عليه وسلم: "فَقَد آمنّا بِك وصدّقناك، وشهدنا أنَّ ما جئتَ به هو الحق، وأعطيناكَ على ذلك عهودَنا ومواثيقَنا على السمعِ والطاعة، فامضِ يا رسول الله لِما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضتَ بنا البَحرَ فَخُضتَهُ لَخُضناهُ معك، ما تَخَلَّف منا رجلٌ واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدوَّنا غداً. إنّا لَصُبُرٌ في الحرب، وصُدُقٌ عند اللقاء، لعلَّ الله يريكَ منّا ما تَقَرُّ به عينُك، فَسِرْ على بركةِ الله".

     وتتحدثُ كتبُ السيرة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سُرَّ بِمقالةِ سعدٍ هذه، ونَشِطَ وقال: "سيروا وأبشِروا، فإن الله وعدني إحدى الطائفتين، والله لَكأنّي أنظُرُ إلى مصارعِ القوم".

     رحمك الله يا سعد! فَلَنِعمَ الموقفُ كان ذلك الذي وقفتَهُ يومَ أشرتَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أشرتَ في الرَّوْحاء وأنتم في الطريقِ إلى بدر. لقد سَرَّ قولُكَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ونّشَّطَه.. ولِمَ لا!؟ وأنتَ والأنصارُ صُبُرٌ في الحرب، صُدُقٌ عند اللقاء، أعِفَّةٌ كرام، تَقِلُّون عند الطمع.. وتكثرون عند الفزع، وتبيعونَ أنفسَكم رخيصةً في سبيل الله، ابتغاءَ جنةِ الخلدِ التي لا تَبْلى.
*****

المقداد بن الأسود في الطريق إلى بدر

المقداد بن الأسود في الطريق إلى بدر

     هو المقدادُ بن الأسود، البطل المؤمن المجاهد الذي وصفه أصحابه فقالوا: "أولُ من عدا به فرسُه في سبيل الله المقدادُ بن الأسود" وهو واحد من المبكرين بالإسلام وسابعُ سبعة جَهَروا باعتناقهم له متحمِّلين كلَّ الأذى الذي تفننت قريشٌ في صبّه على ذلك الرعيل الأول، في شجاعة الرجال، وصبر الكرام، واحتمال الأوفياء، وبشاشةِ من أخلصوا أنفسَهُم لله عز وجل.

     وسوف يظل موقفه الذي تألق فيه قبل معركة بدر صورةً رائعة أمينةً تكشفُ عظمةَ هذا الرجل الشهم، وعظمةَ المستوى الذي قادَ أصحابَه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتساعَ النُّقلَةِ الجليلة التي أحدثها في حياتهم.

     هو موقف شامخ جليل، فيه أصالةُ النفوسِ المؤمنة، وفيه ألَقُ السرائر النقية، وفيه احتمالُ الرجال لمسؤولياتِهمُ الكاملة مهما تكنِ الصعاب.

     هو موقف يكفي للإعراب عن شموخه واستعلائه أن عبد الله بنَ مسعود صاحبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيه: "لقد شهدتُ من المقداد مشهداً، لَأنْ أكونَ صاحبَه أحبُّ إليَّ مما في الأرضِ جميعاً".

     ففي ذلك اليوم الذي بدأ صعباً شاقاً، وانتهى نصراً خالداً، حين أقبلت قريش في غرورها وكبريائها، وإصرارها وعنادها، وحين كان المسلمون قلةً لم يخوضوا بعد أي معركة حربية... راح رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أشيروا عليَّ أيها الناس". وهي قولة وجيزة لكنها عميقة الإيحاءات والدلالات، شاسعة المرامي والأبعاد. هي قولة تَعْجِمُ إيمان الذين معه، وتبلو عزائمهم، وتكشفُ حقيقة رغائبهم الدفينة في وقت صعب عصيب.. ينفع فيه الصدق ليكون القائد على معرفة حقيقية عميقة بالقوة التي بين يديه، فيقدرَ من بعد ماذا هو فاعل بها؟

     ووقف الصِّدِّيق العظيم فقال وأحسن، وتلاه عمرُ العظيم فقال وأحسن، ثم نهض المقداد، فإذا به يلقي بهذه الكلمات الوضاءِ العِذاب، المتدفقةِ بالنور، الممتلئةِ بالإيمان، المزدحمة بمشاعر البطولة والفداء والجهاد التي كانت تَعْمُرُ فؤادَ المقداد، وأفئدة الصحابة الكرام الآخرين من مهاجرين وأنصار.

     وقف المقداد يقول: "يا رسول الله، اِمْضِ لما أراك اللهُ فحن معك، واللهِ لا نقولُ لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، بل نقول لك: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون. والذي بعثك بالحق، لو سرتَ بنا إلى بَرْكِ الغِمادِ لجالدنا معك من دونه حتى تبلغَه، ولَنُقاتلنَّ عن يمينك، وعن يسارك، وبين يديك، ومن خلفك، حتى يفتحَ الله عليك".
* * *

     تلكم كانت الكلماتُ التي هتف بها المقدادُ قبل بدر، وهي كلماتٌ وجيزةٌ بسيطة، لكنها في العمق على الغاية منه، وفي الصدق على الغاية منه، وفي الإيمان على يقين منه عجيب، وفي تقدير جدية الموقف وصعوبة المسؤولية على أنقى وأمضى وأوعى ما يكون الرجال الصادقون، الأوفياء للطريق الذي اختاروه في حياتهم.

     قد يظن ظان أنها قولة أملتها الحماسة، وحقاً إن فيها لحماسة، وإن الحماسة الرشيدة البصيرة مكرمة وفضل، وما أشقى الحياة إن خلت من عواطف الخير والحق، الحارّة المتقدة المشبوبة! فإنها وقود صادق عظيم النفع كبير الغَناء، في تحريك المسيرة الخيّرة إلى الأمام صوب هدفها الجليل النبيل.

     إن بوسع المرء أن يقول: إن الدعوات التي لا عاطفة فيها تولد ميتة، ولا تحقق أي شيء ذي بال، وخذ الفلسفة دليلاً على ذلك، وقل لي: ما الذي استطاعت أن تُحدِثه بالفعل في حياة الناس!؟ من أجل ذلك كان الإيمان عقلاً وعاطفة، فكراً ووجداناً، وهو لذلك ذو نفع عظيم، إذ هو خطاب للفطرة البشرية كلها.

     إن في قولة المقداد حماسة، ولكنها حماسة رشيدة بصيرة، ترتكز من وضوح الرؤية على فهم ذكي وتقدير دقيق، وتعتمد من سلامة الفكر على حكمة راجحة ونظر عميق، ثم هي فوق ذلك إعلان حارٌّ متقد، وهتاف عنيف جيّاش بالمستوى المطلوب من أصحاب الدعوات أن يكونوا عليه.

     موقف المقداد، هذا الذي غبطه عليه ابن مسعود الصحابي الجليل، يكشف لنا شجاعته الفائقة، وحكمته الراجحة، ونظره العميق.
* * *

     ومن غير ريب تركت كلمات المقداد أثراً كريماً في الحشد المؤمن الصالح الذي كان يقوده رسول الله صلى الله عليه وسلم.

     فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أشرق وجهه الطاهر الشريف وتهلل، وخرجت من فمه العاطر الكريم دعوة صالحة للمقداد.

     وأما الجيش المؤمن الذي كان لا يتجاوز ثلاثمئة إلا بقليل؛ فقد سرى فيه روح دفّاق بلغ مكانَه من أفئدة المؤمنين فقوى عزمهم، وشدّ أزرهم، فإذا بهم عزيمة أثبت من الصخر، وهمّة أسمى من الجبال الشُّم، ورغبة مُلِحَّة عنيفة أن يلتقوا بجيش البغي والوثنية، والخرافة والضلال، والجاهلية والغباء، ليصدقوا اللهَ ما عاهدوه عليه.

     وربما كانت الكلمةُ الجليلةُ النبيلة المفعمةُ بالخير، الضاجَّةُ بالمكرمات؛ كلمة الصحابي العظيم سعد بن معاذ التي جاءت بعد قولة المقداد، إنما كانت أثراً لها، وامتداداً لما بلغته في أعماق المؤمنين.

     أيها البطلُ العظيمُ المؤمن! أيها المقداد!..

     إذا كان موقفك هذا قد أُعْجِبَ به ابنُ مسعود إعجاباً جعله يُؤْثِرُهُ على ما في الأرض جميعاً لو كان هو صاحبَهُ، وابن مسعود هو من هو في الإيمان والأسبقية، تُرى ألا يَعْدِلُ وحدَهُ حياتنا نحن جميعاً، وهي الكليلةُ الكابيةُ العاجزةُ التي لو اجتمعت كُلُّها في جيلنا كلِّه لما صاغت بعض هذا الذي وقفت قبل معركة بدر، فكيف بموقفك كُلِّهِ!؟
*****

أبو عبيدة بن الجراح ووالده في بدر

أبو عبيدة بن الجراح ووالده في بدر

     برز ثلاثة من قادة قريش وزعمائها يوم بدر قبل نشوب المعركة، وبرز لهم ثلاثة من المهاجرين الكرام عليهم رضوان الله تعالى.. ولم تطل المبارزة، ذلك أن السيوف المؤمنة ما لبثت أن قضت على المشركين الثلاثة، فإذا بهم أثر بعد عين.

     عندها نشبت المعركة عنيفة ضارية، والتقى ثلاثمئة وثلاثة عشر رجلاً من المسلمين يقودهم الرسول صلى الله عليه وسلم بألف من المشركين على رأسهم مجموعة من زعماء الوثنية والضلال يحاولون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، والله متم نوره ولو كره الكافرون.

     وفي الجيش المسلم وقف بطل نقي الفؤاد، طاهر السريرة، هيّن ليّن، حسن المعشر، يحبه من يعاشره لما أودع الله فيه من حسن الخلق، وسهولة الصحبة.. وكان البطل إلى جانب هذا كله شجاعاً مقداماً، صوّالاً جوّالاً، جسوراً لا يخاف، ماضياً لا يتردد، أبيّ النفس، قوي العزيمة، ثبت الجنان. وطوال تاريخه كانت مواقفه تدل على هذا كله.. وتدل كذلك على شفافية في النفس، ورقة في الطبع، وزهادة في الحياة، واستعلاءٌ نبيلٌ أبيٌّ على زخرفها وباطلها.

     وقف البطل المسلم يُجيل عينيه اللتين تتقدان بالعزم والمضاء في أرجاء المعركة، وطفق من بعد ذلك يلقي بنفسه حيث تعنف وتضطرم وتشتد، لا يبالي أعاد من هجمته سالماً معافى أم رُزِقَ الشهادة التي هو عليها حريص!؟.

     وفي الجهة المقابلة، وقف أبو البطل المسلم يقاتل مع المشركين، صادّاً عن الحق، محارباً للهدى، مناوئاً للخير محالفاً للشر.. وقف الأب المشرك يُجيل عينيه في ميدان المعركة.. باحثاً عن ابنه، ذلك أنه قد عزم على قتله!.. يا سبحان الله! هكذا شاءت إرادته أن يكون الأمر يوم بدر بين الولد والوالد.. وإن في الدنيا لعجائب وغرائب!.. وإن الهداية والضلال لَسِرّان من أسرار الله جل جلاله!.

     عينا الوالد مُتقدتان بالحقد، مضطرمتان بالغضب.. لقد عصفت بها رياح الجنون عاتية مدمرة، وهبّت عليها نكباء ثائرة.. كان في حقد عنيف عنيف، وغضب مدمّر مجنون، وعتوٍّ وجبروت، وظلم وطغيان، وكان ذلك كله بسبب عدائه للدين الجديد، وإصراره على باطل الأوثان،.. وإلى جانب هذا كله كان فيه أسى لما فعله محمد صلى الله عليه وسلم بقريش، لقد رأى أنه سفّه أحلامها، ومزَّق وحدتها، وجعلها حديث الناس..

     إذن؛ فهو كاره للرسالة الجديدة، حاقد على رسولها.. لكنه آخر الأمر ركّز كل أحقاده، وجمع كل جنونه، ووجّه ذلك كله نحو ولده الذي كان يقف في الجيش المسلم. نظر إليه على أنه عاق جاحد، ظالم آثم، منكر للجميل، خرج على طاعته، وتمرد على رغبته، واختار لنفسه ديناً جديداً، وسخِر بما عليه الأب من قناعة بأصنام يؤمن بها، وأوثان يتقرّب إليها.

     كذلك كان الوالد يفكر، وتلكم كانت عواطفه في أثناء المعركة، وإلى تلك الوجهة انصبّت آثار ذلك.. فإذا بها تلتقي أخيراً لتتجه صوب الولد الذي عزم الوالد أن يقتله. يقتله!؟ ولكن لماذا!؟ لأنه رأى أن صدره لا يهدأ، وقلبه لا يسكن، وغضبه لا يفثأ، وحزنه لا يزول إلا إذا قتل ولده الذي خرج على طاعته، وتمرد عليه ليكون قتلُه درساً لكل ولد عاق وابن متمرد.

     العينان جوّالتان جوّابتان، تطوفان في ميدان المعركة باحثة عن الولد، والسيف مشهور منصلت، واليد ممتدة متشنجة، والصدر يغلي بالحقد المجنون المدمر.. هكذا مضى الأب يبحث عن ولده حتى التقى به.. فأحسّ عندها أن ساعة الثأر والانتقام قد جاءت.. واقترب الوالد من ولده وكانت لحظة مثيرة!.

     التقى الخصمان العنيدان، وتقابل السيفان المنصلتان، ووقف الرجلان أحدهما إزاء الآخر. وأدركَ الولدَ شيءٌ من الرقة والحنان، فهذا أبوه الذي طالما عُنِيَ به ودلَّـله، ورعاه ورباه، وحمله بين ذراعيه، وناغاه بأجمل الألحان، وأصدق العواطف.. وكاد الأمر يستحيل إلى ذكريات جميلة شفافة لدى الولد، لولا أن تذكر أن أباه كافر، وأنه مُصر على الكفر والضلال، وأنه محارب للحق، وأنه صادٌّ عن دين الله.

     هنا كانت مفاصلة حازمة، وقف الولد على أثرها وقد عرف أنه لا شيء يربطه بهذا الأب الظالم سوى العداوة.. وتحركت في نفسه عواطف البطش والفتك بهذا المعادي لدين الله أن يمتدّ وتعلو راياته لتُخرِج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.

     لكنه ما لبث أن فضّل أن يمضي إلى مكان آخر من ميدان المعركة يقاتل فيه، تاركاً أباه لسيف مؤمن آخر يقضي عليه.. وهكذا كان!. حوّل الولد وجهه عن أبيه، ومضى نحو كوكبة أخرى كافرة يجاهدها ويفتك بها.

     لكن الوالد المجنون غضب لذلك، ومضى يبحث عن ولده حتى ظفر به وهجم عليه هجمة ضارية، لولا أن الولد سارع يبتعد عن والده صوب كوكبة أخرى من المشركين يجاهدها.

     ومرة ثالثة لحق الوالد المجنون بولده، ومضى يبحث عنه في كل مكان حتى التقى به، وتوجّه إليه.. وانصرمت لحظة من الزمن ثقيلة بطيئة، وحمل الأب سيفه البتّار يهوي به على ولده ليشفي قلبه الجريح، ويطفئ ناره المتقدة. لكن الولد تحوّل عن الضربة بخِفّة وتجنّبها بمهارة.. ونظر إلى أبيه في هدوء.. إنه ليس أباه الذي كان يعرفه أيام صغره، إنه الآن رجل آخر، رجل ليست بينه وبينه صلة.

     رجل ينأى عن الحق، بل يحاربه جاهداً، يريد إطفاء شعلته الوهاجة. وإذن؛ فالصراع الآن بين اتجاهين في الحياة، وطريقتين في التفكير، ومنهجين في السلوك، ومعيارين للفضائل والأخلاق، وتصويرين متناقضين أشدّ التناقض للحياة كلها، ولوظيفة الإنسان فيها. إذن فليبطش الولد بالوالد.. لتكون الغلَبَة للخير على الشر، والحق على الباطل، وفجر الإسلام الصادق الكريم على ليل الجاهلية الخرافي الكاذب.

     وهكذا كان!.. أهوى الولد بسيفه المؤمن على والده الظالم الآثم، فمزّقه شرَّ مُمزَّق، ووقع على الأرض يتخبّط بدمه الحاقد المجنون، لقد قتل الولدُ أباه، ضارباً بذلك أروع مثال للفداء في سبيل الله، والتفاني دون دِينه أن يقف في طريقه الحاقدون.

     موقف نادر مشرّف، لا يكاد يعرف التاريخ مثيلاً له، موقف نبيل سيظل أعجوبة شامخة من أعاجيب الإيمان.

- ترى، من هو هذا البطل المؤمن العظيم الذي صرع أباه يوم بدر؟

- إنه الصحابي العظيم الجليل أبو عبيدة عامر بن الجرّاح، بطل الإسلام، وفاتح الشام، وأعجوبة الإيمان النادرة.
*****

الخليفة والنصراني والقاضي

الخليفة والنصراني والقاضي

     خرج علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى السوق وهو أمير للمؤمنين.. وبينما كانت عيناه تجوبان هنا وهناك أبصر رجلاً يحمل دِرعاً بيده يبيعها.

     نظر أمير المؤمنين ودقّق في نظره.. فإذا به يعرف هذه الدرع.. إنها درعُه هو افتقدها ذات يوم، وهو الآن يراها بين يدي رجلٍ غريبٍ يبيعها في السوق. واقترب من الرجل حامل الدرع.. وقال له في هدوء دون أن يخيفَه أو يبطش به: "هذه دِرعي".

     لكن الرجل لم يضطرب لمرأى أمير المؤمنين وهو يقول له "هذه درعي".. لم يضطرب ولم يخشَ شيئاً، ذلك أنه عرف من عدالة الإسلام الشيء الكثير.. لذا لَم يدفعِ الدرع إلى أمير المؤمنين، فقد ظل بها متمسكاً، مُصِرّاً على أنها له ولو كان خصمه أمير المؤمنين.

     وإذ أصر الرجل على موقفه.. وإذا كان أمير المؤمنين متأكداً أن الدرع درعه أحيلت المشكلة للقضاء ليحكم فيها. ومَثُلَ أمير المؤمنين، ومَثُلَ حامل الدرع أمام القاضي شُريْح الذي كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قد عيّنه على القضاء.

     لم يضطرب شريح قط، ولم يقلق ولم يَخَف، فقد كان يعلم أي منصب خطير هو فيه.. كما كان يعلم كذلك أي رجل عظيم هو علي بن أبي طالب!.

     ومضت المحاكمة على غاية اليسر والهدوء والبساطة.. سأل شريح القاضي أمير المؤمنين الذي عيّنه في القضاء: "ما تقول؟"

     قال أمير المؤمنين: "هذه درعي وقعت مني منذ زمان"..

     ثم التفت القاضي إلى الرجل الآخر وسأله: "ما تقول؟"

     قال الرجل: "ما أكذِّبُ أمير المؤمنين، والدرع درعي.."،

     وأدار القاضي المشكلة في ذهنه.. هذا الرجل يُصِر على أن الدرع له.. وأمير المؤمنين يؤكد أنها له.. إذن فعلى أمير المؤمنين أن يُقدِّم البيّنة على ذلك باعتباره هو المُدّعي؛ لذا توجّه إليه بهذا السؤال: "هل مِن بيّنة؟"

     وأعجِبَ أمير المؤمنين بما فعل شريح.. إذ سأله عن البيّنة على صحة دعواه أن الدرع له.. لذا سارع يقول: "صدَقَ شريح"، وانتهت المحاكمة!.. وحكم شريح بأن تبقى الدرع عند الرجل لأن صاحب الدعوى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب لم يقدم ما يثبت أن الدرع له.

     انتهت المحاكمة، وأمير المؤمنين مُعجَبٌ بالقاضي شريح، الذي لم يضطرب ولم يَخَفْ، ولم يتجاوز قواعد العدل خلال المحاكمة.. وقضى بالدرع للرجل الآخر.

     وشريح نفسُه كان مُعجباً بأمير المؤمنين الذي لم يسارع إلى الدرع يستردها من حاملها.. ويعاقبه على أخذ مال الآخرين، وإنما مضى إليه يتقاضى مع خصمه في يُسْرٍ وهدوء.. وحين جاء الحُكمُ لصالح الرجل الآخر، فرح كثيراً لأن القاضي لم يتجاوز قواعد العدل فيما فعل.

     لكن إعجاباً آخر كان يعتمل في فؤاد الرجل حامل الدرع الذي جاء الحكم لصالحه.. كان هذا الرجل عادياً لا حول له ولا طَول.. مع ذلك فقد كسب الحكم ضد أمير المؤمنين، عند قاضٍ عيّنه أمير المؤمنين.

     ولم يكن الأمر عند ذلك المستوى فحسب.. إنه أروع وأعجب! لقد كان الرجل نصرانياً، ومع ذلك جاء الحكمُ لصالحه ضد أمير المؤمنين. وإذن فقد حَكَمَ قاضٍ مسلم لرجلٍ نصراني ضد أمير المؤمنين، الذي عيّن القاضي في مكانه. عدالة نادرة، وخُلُقٌ عظيم، وأمانةٌ في احتمال المسؤولية وأدائها قَلَّ أنْ وُجِدَ لها نظير.

     إعجابٌ صادق كان يعتمل في فؤاد الرجل النصراني بسبب هذا كله.. إعجابٌ حرّك فيه الفطرة الخيّرة، فإذا به يقول: "أما أنا فأشهد أن هذه أحكام الأنبياء، أمير المؤمنين يجيء إلى قاضيه، وقاضيه يقضي عليه، هي والله يا أمير المؤمنين درعك، اتبعتك وقد زالت عن جملك الأورق فأخذتها، إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله".

     هكذا هتَفَت فطرة الرجل، بعد أن فجَّرَ فيها مكامنَ الخيرِ موقفُ أمير المؤمنين، وموقف قاضيه، فاعترف بأن الدرعَ لأمير المؤمنين.. وازداد معين الخير في نفسه عطاءً غنياً ثرّاً.. فإذا بوجدانه يصفو، وإذا بروحه تسمو، وإذا بالنور يملأ كيانه، وإذا به يرى الحق واضحاً جليّاً كالشمس، وإذا بهِ يُسلِم.

     عندها قال أمير المؤمنين للنصراني الذي أسلم: "أما إذ أسلمت فهي لك". لقد أهداه الدرع، بل حمله على فرس كذلك.

     صفحة في تاريخ القضاء مشرقة وضيئة، وقصة عن أمير المؤمنين طاهرة نقية، وموقف للقاضي شريح عادل نبيل.

     ترى أما يُعطّر الأريج حنايا الزمان بسبب هذه الرواية؟ بلى.. إنه ليَفعَلُ ذلك، ويتقدّمُ شاهدَ صدقٍ أن أعظم جيلٍ شهد الزمان هو ذاك الذي ربّاه الرسول صلى الله عليه وسلم، فصاغَ أكرمَ حضارةٍ عرفها الإنسان.
*****

الأكثر مشاهدة