أبو عبيدة بن الجراح ووالده في بدر
برز ثلاثة من قادة قريش وزعمائها يوم بدر قبل نشوب المعركة، وبرز لهم ثلاثة من المهاجرين الكرام عليهم رضوان الله تعالى.. ولم تطل المبارزة، ذلك أن السيوف المؤمنة ما لبثت أن قضت على المشركين الثلاثة، فإذا بهم أثر بعد عين.
عندها نشبت المعركة عنيفة ضارية، والتقى ثلاثمئة وثلاثة عشر رجلاً من المسلمين يقودهم الرسول صلى الله عليه وسلم بألف من المشركين على رأسهم مجموعة من زعماء الوثنية والضلال يحاولون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، والله متم نوره ولو كره الكافرون.
وفي الجيش المسلم وقف بطل نقي الفؤاد، طاهر السريرة، هيّن ليّن، حسن المعشر، يحبه من يعاشره لما أودع الله فيه من حسن الخلق، وسهولة الصحبة.. وكان البطل إلى جانب هذا كله شجاعاً مقداماً، صوّالاً جوّالاً، جسوراً لا يخاف، ماضياً لا يتردد، أبيّ النفس، قوي العزيمة، ثبت الجنان. وطوال تاريخه كانت مواقفه تدل على هذا كله.. وتدل كذلك على شفافية في النفس، ورقة في الطبع، وزهادة في الحياة، واستعلاءٌ نبيلٌ أبيٌّ على زخرفها وباطلها.
وقف البطل المسلم يُجيل عينيه اللتين تتقدان بالعزم والمضاء في أرجاء المعركة، وطفق من بعد ذلك يلقي بنفسه حيث تعنف وتضطرم وتشتد، لا يبالي أعاد من هجمته سالماً معافى أم رُزِقَ الشهادة التي هو عليها حريص!؟.
وفي الجهة المقابلة، وقف أبو البطل المسلم يقاتل مع المشركين، صادّاً عن الحق، محارباً للهدى، مناوئاً للخير محالفاً للشر.. وقف الأب المشرك يُجيل عينيه في ميدان المعركة.. باحثاً عن ابنه، ذلك أنه قد عزم على قتله!.. يا سبحان الله! هكذا شاءت إرادته أن يكون الأمر يوم بدر بين الولد والوالد.. وإن في الدنيا لعجائب وغرائب!.. وإن الهداية والضلال لَسِرّان من أسرار الله جل جلاله!.
عينا الوالد مُتقدتان بالحقد، مضطرمتان بالغضب.. لقد عصفت بها رياح الجنون عاتية مدمرة، وهبّت عليها نكباء ثائرة.. كان في حقد عنيف عنيف، وغضب مدمّر مجنون، وعتوٍّ وجبروت، وظلم وطغيان، وكان ذلك كله بسبب عدائه للدين الجديد، وإصراره على باطل الأوثان،.. وإلى جانب هذا كله كان فيه أسى لما فعله محمد صلى الله عليه وسلم بقريش، لقد رأى أنه سفّه أحلامها، ومزَّق وحدتها، وجعلها حديث الناس..
إذن؛ فهو كاره للرسالة الجديدة، حاقد على رسولها.. لكنه آخر الأمر ركّز كل أحقاده، وجمع كل جنونه، ووجّه ذلك كله نحو ولده الذي كان يقف في الجيش المسلم. نظر إليه على أنه عاق جاحد، ظالم آثم، منكر للجميل، خرج على طاعته، وتمرد على رغبته، واختار لنفسه ديناً جديداً، وسخِر بما عليه الأب من قناعة بأصنام يؤمن بها، وأوثان يتقرّب إليها.
كذلك كان الوالد يفكر، وتلكم كانت عواطفه في أثناء المعركة، وإلى تلك الوجهة انصبّت آثار ذلك.. فإذا بها تلتقي أخيراً لتتجه صوب الولد الذي عزم الوالد أن يقتله. يقتله!؟ ولكن لماذا!؟ لأنه رأى أن صدره لا يهدأ، وقلبه لا يسكن، وغضبه لا يفثأ، وحزنه لا يزول إلا إذا قتل ولده الذي خرج على طاعته، وتمرد عليه ليكون قتلُه درساً لكل ولد عاق وابن متمرد.
العينان جوّالتان جوّابتان، تطوفان في ميدان المعركة باحثة عن الولد، والسيف مشهور منصلت، واليد ممتدة متشنجة، والصدر يغلي بالحقد المجنون المدمر.. هكذا مضى الأب يبحث عن ولده حتى التقى به.. فأحسّ عندها أن ساعة الثأر والانتقام قد جاءت.. واقترب الوالد من ولده وكانت لحظة مثيرة!.
التقى الخصمان العنيدان، وتقابل السيفان المنصلتان، ووقف الرجلان أحدهما إزاء الآخر. وأدركَ الولدَ شيءٌ من الرقة والحنان، فهذا أبوه الذي طالما عُنِيَ به ودلَّـله، ورعاه ورباه، وحمله بين ذراعيه، وناغاه بأجمل الألحان، وأصدق العواطف.. وكاد الأمر يستحيل إلى ذكريات جميلة شفافة لدى الولد، لولا أن تذكر أن أباه كافر، وأنه مُصر على الكفر والضلال، وأنه محارب للحق، وأنه صادٌّ عن دين الله.
هنا كانت مفاصلة حازمة، وقف الولد على أثرها وقد عرف أنه لا شيء يربطه بهذا الأب الظالم سوى العداوة.. وتحركت في نفسه عواطف البطش والفتك بهذا المعادي لدين الله أن يمتدّ وتعلو راياته لتُخرِج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.
لكنه ما لبث أن فضّل أن يمضي إلى مكان آخر من ميدان المعركة يقاتل فيه، تاركاً أباه لسيف مؤمن آخر يقضي عليه.. وهكذا كان!. حوّل الولد وجهه عن أبيه، ومضى نحو كوكبة أخرى كافرة يجاهدها ويفتك بها.
لكن الوالد المجنون غضب لذلك، ومضى يبحث عن ولده حتى ظفر به وهجم عليه هجمة ضارية، لولا أن الولد سارع يبتعد عن والده صوب كوكبة أخرى من المشركين يجاهدها.
ومرة ثالثة لحق الوالد المجنون بولده، ومضى يبحث عنه في كل مكان حتى التقى به، وتوجّه إليه.. وانصرمت لحظة من الزمن ثقيلة بطيئة، وحمل الأب سيفه البتّار يهوي به على ولده ليشفي قلبه الجريح، ويطفئ ناره المتقدة. لكن الولد تحوّل عن الضربة بخِفّة وتجنّبها بمهارة.. ونظر إلى أبيه في هدوء.. إنه ليس أباه الذي كان يعرفه أيام صغره، إنه الآن رجل آخر، رجل ليست بينه وبينه صلة.
رجل ينأى عن الحق، بل يحاربه جاهداً، يريد إطفاء شعلته الوهاجة. وإذن؛ فالصراع الآن بين اتجاهين في الحياة، وطريقتين في التفكير، ومنهجين في السلوك، ومعيارين للفضائل والأخلاق، وتصويرين متناقضين أشدّ التناقض للحياة كلها، ولوظيفة الإنسان فيها. إذن فليبطش الولد بالوالد.. لتكون الغلَبَة للخير على الشر، والحق على الباطل، وفجر الإسلام الصادق الكريم على ليل الجاهلية الخرافي الكاذب.
وهكذا كان!.. أهوى الولد بسيفه المؤمن على والده الظالم الآثم، فمزّقه شرَّ مُمزَّق، ووقع على الأرض يتخبّط بدمه الحاقد المجنون، لقد قتل الولدُ أباه، ضارباً بذلك أروع مثال للفداء في سبيل الله، والتفاني دون دِينه أن يقف في طريقه الحاقدون.
موقف نادر مشرّف، لا يكاد يعرف التاريخ مثيلاً له، موقف نبيل سيظل أعجوبة شامخة من أعاجيب الإيمان.
- ترى، من هو هذا البطل المؤمن العظيم الذي صرع أباه يوم بدر؟
- إنه الصحابي العظيم الجليل أبو عبيدة عامر بن الجرّاح، بطل الإسلام، وفاتح الشام، وأعجوبة الإيمان النادرة.
*****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق