الخليفة والنصراني والقاضي
خرج علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى السوق وهو أمير للمؤمنين.. وبينما كانت عيناه تجوبان هنا وهناك أبصر رجلاً يحمل دِرعاً بيده يبيعها.
نظر أمير المؤمنين ودقّق في نظره.. فإذا به يعرف هذه الدرع.. إنها درعُه هو افتقدها ذات يوم، وهو الآن يراها بين يدي رجلٍ غريبٍ يبيعها في السوق. واقترب من الرجل حامل الدرع.. وقال له في هدوء دون أن يخيفَه أو يبطش به: "هذه دِرعي".
لكن الرجل لم يضطرب لمرأى أمير المؤمنين وهو يقول له "هذه درعي".. لم يضطرب ولم يخشَ شيئاً، ذلك أنه عرف من عدالة الإسلام الشيء الكثير.. لذا لَم يدفعِ الدرع إلى أمير المؤمنين، فقد ظل بها متمسكاً، مُصِرّاً على أنها له ولو كان خصمه أمير المؤمنين.
وإذ أصر الرجل على موقفه.. وإذا كان أمير المؤمنين متأكداً أن الدرع درعه أحيلت المشكلة للقضاء ليحكم فيها. ومَثُلَ أمير المؤمنين، ومَثُلَ حامل الدرع أمام القاضي شُريْح الذي كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قد عيّنه على القضاء.
لم يضطرب شريح قط، ولم يقلق ولم يَخَف، فقد كان يعلم أي منصب خطير هو فيه.. كما كان يعلم كذلك أي رجل عظيم هو علي بن أبي طالب!.
ومضت المحاكمة على غاية اليسر والهدوء والبساطة.. سأل شريح القاضي أمير المؤمنين الذي عيّنه في القضاء: "ما تقول؟"
قال أمير المؤمنين: "هذه درعي وقعت مني منذ زمان"..
ثم التفت القاضي إلى الرجل الآخر وسأله: "ما تقول؟"
قال الرجل: "ما أكذِّبُ أمير المؤمنين، والدرع درعي.."،
وأدار القاضي المشكلة في ذهنه.. هذا الرجل يُصِر على أن الدرع له.. وأمير المؤمنين يؤكد أنها له.. إذن فعلى أمير المؤمنين أن يُقدِّم البيّنة على ذلك باعتباره هو المُدّعي؛ لذا توجّه إليه بهذا السؤال: "هل مِن بيّنة؟"
وأعجِبَ أمير المؤمنين بما فعل شريح.. إذ سأله عن البيّنة على صحة دعواه أن الدرع له.. لذا سارع يقول: "صدَقَ شريح"، وانتهت المحاكمة!.. وحكم شريح بأن تبقى الدرع عند الرجل لأن صاحب الدعوى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب لم يقدم ما يثبت أن الدرع له.
انتهت المحاكمة، وأمير المؤمنين مُعجَبٌ بالقاضي شريح، الذي لم يضطرب ولم يَخَفْ، ولم يتجاوز قواعد العدل خلال المحاكمة.. وقضى بالدرع للرجل الآخر.
وشريح نفسُه كان مُعجباً بأمير المؤمنين الذي لم يسارع إلى الدرع يستردها من حاملها.. ويعاقبه على أخذ مال الآخرين، وإنما مضى إليه يتقاضى مع خصمه في يُسْرٍ وهدوء.. وحين جاء الحُكمُ لصالح الرجل الآخر، فرح كثيراً لأن القاضي لم يتجاوز قواعد العدل فيما فعل.
لكن إعجاباً آخر كان يعتمل في فؤاد الرجل حامل الدرع الذي جاء الحكم لصالحه.. كان هذا الرجل عادياً لا حول له ولا طَول.. مع ذلك فقد كسب الحكم ضد أمير المؤمنين، عند قاضٍ عيّنه أمير المؤمنين.
ولم يكن الأمر عند ذلك المستوى فحسب.. إنه أروع وأعجب! لقد كان الرجل نصرانياً، ومع ذلك جاء الحكمُ لصالحه ضد أمير المؤمنين. وإذن فقد حَكَمَ قاضٍ مسلم لرجلٍ نصراني ضد أمير المؤمنين، الذي عيّن القاضي في مكانه. عدالة نادرة، وخُلُقٌ عظيم، وأمانةٌ في احتمال المسؤولية وأدائها قَلَّ أنْ وُجِدَ لها نظير.
إعجابٌ صادق كان يعتمل في فؤاد الرجل النصراني بسبب هذا كله.. إعجابٌ حرّك فيه الفطرة الخيّرة، فإذا به يقول: "أما أنا فأشهد أن هذه أحكام الأنبياء، أمير المؤمنين يجيء إلى قاضيه، وقاضيه يقضي عليه، هي والله يا أمير المؤمنين درعك، اتبعتك وقد زالت عن جملك الأورق فأخذتها، إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله".
هكذا هتَفَت فطرة الرجل، بعد أن فجَّرَ فيها مكامنَ الخيرِ موقفُ أمير المؤمنين، وموقف قاضيه، فاعترف بأن الدرعَ لأمير المؤمنين.. وازداد معين الخير في نفسه عطاءً غنياً ثرّاً.. فإذا بوجدانه يصفو، وإذا بروحه تسمو، وإذا بالنور يملأ كيانه، وإذا به يرى الحق واضحاً جليّاً كالشمس، وإذا بهِ يُسلِم.
عندها قال أمير المؤمنين للنصراني الذي أسلم: "أما إذ أسلمت فهي لك". لقد أهداه الدرع، بل حمله على فرس كذلك.
صفحة في تاريخ القضاء مشرقة وضيئة، وقصة عن أمير المؤمنين طاهرة نقية، وموقف للقاضي شريح عادل نبيل.
ترى أما يُعطّر الأريج حنايا الزمان بسبب هذه الرواية؟ بلى.. إنه ليَفعَلُ ذلك، ويتقدّمُ شاهدَ صدقٍ أن أعظم جيلٍ شهد الزمان هو ذاك الذي ربّاه الرسول صلى الله عليه وسلم، فصاغَ أكرمَ حضارةٍ عرفها الإنسان.
*****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق