سعد بن معاذ مشيراً بالروحاء في الطريق إلى بدر
خرج المسلمون إلى بَدرٍ في السنة الثانية للهجرة يقودهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، مُؤَمِّلِينَ أن يَغنموا قافلةً لقريش كانت عائدةً من الشام يقودها أبو سفيان.. خرج المسلمون، وما كان في حُسبانهم أنه ربما دارت معركة بينهم وبين قريش.. لقد ظنوا الأمر أيسرَ من ذلك، حَسِبوه قافلةً معها عددٌ قليل من الحُرّاسِ ليس بوسعهم أن يُقاوِموا هَجْمَتَهُم.. وإذن فالأمر لا يعدو جولةً أو جولتين تكونُ القافلةُ بعدها غنيمةً لهم.
لكن الله عز وجل.. وهو العليم الخبير.. أراد للمسلمين شيئاً آخر.. أرادَ لهم أن تنجوَ القافلة.. وأراد لهم أن يلتقوا مع جيشِ قريشٍ الذي يبلغ ثلاثة أضعاف جيشهم لِيصنَعَ بهم ما هو به عليم.
ساروا يوماً أو يومين.. وعلموا بنجاة القافلة، وعلموا بخروجِ قريشٍ للقتال.. إن الموقف قد اختلفَ وتبدّل.. ولا بد إذن من إعادة النظر فيه. واستشار الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم مَنْ معه في القتال.. فقامَ أبو بكرٍ وأشارَ فأحسن.. ومِثلَهُ فعل عمرُ والمقداد، قاما فأشادا فأحسَنا.. لكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان لا يزالُ ينتظرُ رأيَ آخرين هم الأنصارُ رضوان الله عليهم ذلك أن البيعةَ بينهم وبينه كانت أن يُدافِعوا عنه في المدينة المنورة ولم يكن فيها شيءٌ عن القتالِ خارجَها.. فلو أنهم لَم يقاتلوا استناداً إلى حَرْفِيَّةِ البَيعَةِ لَما كانوا لها ناقضين.. لكن الأنصارَ كانوا أكبرَ من ذلك وأعظم.
أدركَ سعدُ بن معاذ رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما يريدُ أن يسمعَ رأيَ الأنصار فقال له: "لَكأنَّكَ تُرِيدُنا يا رسولَ الله؟" قال صلى الله عليه وسلم: "نعم"..
عندها قال سعدٌ رضي الله عنه، ما يشهد له بعظيم إيمانِه وعميقِ يقينِه، ويكشفُ عن نفسه الصافيةِ الشجاعةِ الصادقة، نقاءً وبطولة، وفِداءً ورجولة، وأصالةَ نفسٍ ونصاعةَ وجدان.
ما كان سعد بن معاذ يعرف الطريق التي يسيرُ فيها جيش رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن ذلك لم يكن شيئاً ذا بالٍ عنده.. فهو يتبعُ نبيَّه وقائدَه، وهو سائِرٌ معه، مُدافِعٌ عنه، مُقاتِلٌ دونه مهما امتد السفرُ وتطاول، قال سعد: "والذي أكرمك وأنزل عليك الكتاب ما سلكتها قط.. ولا لي بها علم، ولَئِن سِرتَ حتى تأتي بَرْكَ الغِماد من ذي يَمَنٍ لنسيرنَّ معك".
إن سعداً مُجمِعٌ على الخروج وراء نبيه الكريم ولو انتهى السفرُ إلى اليمن.. وإن سعداً لَيَعلَمُ أن الرسول صلى الله عليه وسلم مبعوثٌ بالحق، وأنَّ عليهم تأييدَهُ حتى يُبَلِّغَ رسالة السماءِ إلى أهل الأرض.. وإذن فلا بد من القتال، وإذن فلا محلَّ للتراجعِ والنكوص.. كما فعلَ بنو إسرائيل مع موسى عليه السلام حين جَبُنوا وتراجعوا وقالوا: "اذهب أنت وربك فقاتِلا، إنا هاهنا قاعدون".. لا، ليس لسعدٍ ولا للأنصار ولا للمهاجرين أن يتخذوا مثلَ هذا الموقف، إنَّ لهم موقفاً آخر على النقيض من موقفِ بني إسرائيل، هو موقف التضحيةِ والطاعةِ والجهاد.. وهو ما عبَّرَ عنه سعدُ بن معاذ حينَ قال للرسول صلى الله عليه وسلم: "ولا نكونُ كالذين قالوا لموسى عليه السلام، اذهب أنتَ وربُّكَ فقاتِلا إنّا هاهنا قاعدون، ولكن.. اذهب أنتَ وربُّكَ فقاتِلا إنّا معكما مُتَّبِعون"..
لقد كان سعدُ بن معاذ طِرازاً فريداً بين الناس.. كان من النُّدرةِ التي تحتملُ المسؤوليةَ مهما عظُمَت ومهما كانت باهظةَ التكاليف. إنه يعلمُ أن الرسول صلى الله عليه وسلم خرجَ بادئَ ذي بدءٍ لأمر القافلة التي نَجَتْ، وهاهو الآن إزاءَ موقفٍ جديدٍ يستشيرُ فيهِ مَن معه، فإنَّ قريشاً قد خرجَت للقتال، لذا لَمْ يَفُتْ سعداً أن يقول للرسول صلى الله عليه وسلم وهو يُدلي بمشورته: "ولَعلَّ أن تكونَ قد خرجتَ لِأمر، وأحدثَ الله إليكَ غيرَه، فانظرِ الذي أحدثَ الله إليك، فامْضِ، فَصِلْ حِبالَ من شِئت، واقطعْ حبالَ من شِئت، وخُذ مِن أموالنا ما شِئت، وأعطِنا ما شِئت، وما أخذتَ منا كان أحبَّ إلينا ممَّا تركت".. قولةٌ تستوقفُ الانتباه، وتستدعي التأمل، فيها ثِقةٌ رائعة، وإيمانٌ مكين، وصدقٌ وتصديق، وإيثارٌ لِما يَخلُدُ ويبقى على ما يَنفَدُ ويفنى.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مبعوث بالحق، وإذن فإنَّ لهُ أن يفعلَ ما يشاء، يصلُ حبالَ مَن يشاء، ويقطعُ حبالَ من يشاء.. يأخذُ من أموالِ المسلمين ما يشاء، ويَدَعُ من أموالِهم ما يشاء.
وهذا ما أدركَهُ سعد بن معاذ، فسارعَ يقولُه بثقةٍ هائلة واطمئنانٍ مكين. وإنه لَمِنَ الظُّلمِ للحقيقةِ ولِأنفسِنا كذلك أن يغيبَ عنّا قولُ سعد: "وما أخذتَ منا كان أحبَّ إلينا ممَّا تركت".. أسَمِعتَ هذه القولة!؟ أوَعَيتَها!؟ تُرى أيُّ مستوىً نادرٍ تكشفُ عنه.. دفعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابَه إليه!؟ ألَا بُورِكتَ يا سعد! وبورِكتْ كلِمةٌ أنتَ قائِلُها! وبوركَ الدِّينُ الذي صاغَك! وبورِكَ النبيُّ الذي ربَّاك!.. لقد آمنتَ وصدَّقت، وسَمَوْتَ وارتفعت، وكنتَ جديراً بالمكانة التي تبَوَّأت، إنك واللهِ بها جدير، إنك واللهِ بها جدير.
منزلةٌ رائعةٌ نادرة بلَغها سعدُ بن معاذ.. لذا لم يكُن بِدعاً أن يَقِفَ ليقولَ لرسوله صلى الله عليه وسلم: "فَقَد آمنّا بِك وصدّقناك، وشهدنا أنَّ ما جئتَ به هو الحق، وأعطيناكَ على ذلك عهودَنا ومواثيقَنا على السمعِ والطاعة، فامضِ يا رسول الله لِما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضتَ بنا البَحرَ فَخُضتَهُ لَخُضناهُ معك، ما تَخَلَّف منا رجلٌ واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدوَّنا غداً. إنّا لَصُبُرٌ في الحرب، وصُدُقٌ عند اللقاء، لعلَّ الله يريكَ منّا ما تَقَرُّ به عينُك، فَسِرْ على بركةِ الله".
وتتحدثُ كتبُ السيرة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سُرَّ بِمقالةِ سعدٍ هذه، ونَشِطَ وقال: "سيروا وأبشِروا، فإن الله وعدني إحدى الطائفتين، والله لَكأنّي أنظُرُ إلى مصارعِ القوم".
رحمك الله يا سعد! فَلَنِعمَ الموقفُ كان ذلك الذي وقفتَهُ يومَ أشرتَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أشرتَ في الرَّوْحاء وأنتم في الطريقِ إلى بدر. لقد سَرَّ قولُكَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ونّشَّطَه.. ولِمَ لا!؟ وأنتَ والأنصارُ صُبُرٌ في الحرب، صُدُقٌ عند اللقاء، أعِفَّةٌ كرام، تَقِلُّون عند الطمع.. وتكثرون عند الفزع، وتبيعونَ أنفسَكم رخيصةً في سبيل الله، ابتغاءَ جنةِ الخلدِ التي لا تَبْلى.
*****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق