الأحد، 23 يناير 2022

خالد بن الوليد حين موته

خالد بن الوليد حين موته

     "ما ليلة يُهدى إليَّ فيها عروس، أو أُبشَّرُ فيها بوليد، بأحب إليَّ من ليلة شديدة الجليد في سرية من المهاجرين، أصبِّحُ بهم المشركين".

     أما والله إنها لقولة رائعة آسرة.. قولة تكشف عن أعماق قائلها، ما يضطرب فيه من وجدان، ما يتردد فيه من أمان، ما يجيش فيه من آمال، ما يرنو إليه من أهداف. إنها قولة البطل المجاهد خالد بن الوليد رحمه الله رحمةً واسعة، ذلك الرجل الذي ملك عليه حبُّ الجهاد نفسَه، وغاص حتى سويداء قلبه فهو به مشغول، وعليه حريص.. لقد أصبح الجهاد أجمل ما في حياته، وأروع ما في حياته، وأسمى ما في حياته.

     لذا فإن ليلة تُزَف إليه فيها عروس، أو يُبَشّرُ فيها بغلامٍ وليد، ليست أحلى ولا أجمل، ولا أعطر ولا أنضر، ولا أقرب ولا أطيب من ليلة باردة، يشتد فيها البرد، حتى يستحيل الماء إلى جليد، يسعى فيها مع جماعة من المهاجرين، ليفاجئ المشركين في الصباح الباكر فيستأصل جمعهم الذي يعادي موكب الحق والفضيلة والإيمان.

     إنه خالد.. البطل الذي كان له في فتح العراق والشام، واستئصال المرتدين أعظم نصيب، فهو بالخير مذكور، وعند الله مأجور، حتى يرث الله الأرض ومن عليها. كثيرة هي الآمال العذاب التي كانت تختلج في خلده النبيل، لكن أعظم هذه الآمال، وأسماها وأكرمها، هي أن يموت شهيداً.. أن يُرزق الشهادة.. تلك كانت أمنيته التي لا تفارقه، لا في حلٍّ ولا في ترحال، لا في ليلٍ ولا في نهار، فهو بها كلف مشغول، وهو عليها حريص مؤمل، وهو بها متيّمٌ والِه.

     أرأيت أحداً استبد به الحب، واشتد عليه الجوى، فهو ذاهل واهن محزون، راغب راهب مكدود!؟ إنّ حرص خالد على الشهادة أشد من حرص هذا على حبيبته وأعنف.

     أرأيت أحداً اشتد عليه العطش في الصحراء حتى كاد يذهب به، وطفق يجري وراء السراب يحسبه ماء، وقد صار لسانه في حلقه كأنه قطعة من الخشب!؟ إنّ حرص خالد على الشهادة أعظم من حرص هذا الظامئ على الماء البارد عثر عليه وهو في حاله ذاك. الشهادة في سبيل الله أمنية البطل العظيم، ورجاؤه المُلِحّ العنيف، وأمله الذي لا يغيب عنه.

     وذات يوم كان البطل العظيم، راقداً على فراشه في حمص من أرض الشام يودع الدنيا، يا سبحان الله! البطل العظيم الذي طالما اقتحم المهالك، ورمى بنفسه يبتغي الشهادة، يموت على فراشه، الرجل الذي قضى حياته على ظهور الخيل، والذي تكسرت بيده يوم مؤتة تسعة أسياف، والذي غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي قهر جيوش المرتدين، والذي دكّ صروح الطاغوت في الشام والعراق، أميراً وقائداً يحمل مسؤولية الأمراء والقادة، وجندياً يحمل شظف الجندي وقسوة الظروف التي يجاهد فيها ضد أقوى دول العالم يومذاك.. هذا الرجل يموت على فراشه في حمص، لا شهيداً في الميدان.

     إن قولته الأولى تكشف لنا عن نوع اهتماماته في الحياة، لكن قولته التي هتف بها على فراش الموت في حمص، ذات دلالة أعظم، وأثر أبلغ. لقد قال وهو على فراشه: "لقد شهدتُ كذا وكذا زحفاً، وما في جسدي موضعٌ إلا وفيه ضربة سيف، أو طعنة رمح، أو رمية سهم، ثم هأنذا أموت على فراشي، حتف أنفي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء!".

     إنه ليس خائفاً من الموت، لكنه محزونٌ ألّا يموتَ شهيداً على الرغم من كل ما أصابه من ضربٍ بالسيوف، أو طعنٍ بالرماح، أو رميٍ بالسهام. ذلك هو سبب حزنه وألمه، ألّا تُختَم حياته بالختام الذي طالما رجا وأمَّل.

     يا سبحان الله! كان يمكن لأي ضربة سيف، أو طعنة رمح، أو رمية لسهم، أن تكون سبب الشهادة، لكن حكمة الله تعالى شاءت غير ذلك، شاءت أن يموت البطل حتف أنفه على فراشه في مدينة حمص بأرض الشام.

     لقد علّل أحد علماء الهند الأجِلّاء ميتة البطل دون شهادة، بأن خالداً سيفُ الله، وسيف الله لا ينبغي له أن يُقْهر، لذا فلا يكون بوسع أحد أن يغلبه أو يعيبه فأنّى له الشهادة!؟

     يا سبحان الله! إن قولة خالد وهو على فراش الموت؛ عِظة كبرى لكل ذي لُبٍّ بصير، أو عقلٍ راشد، أو فطرة سليمة. قولة لا يجيد النطق بها في مثل ذلك الظرف إلا رجل كخالد. وإن الرجال الذين هم كخالد قليل قليل.

     ومضى البطل إلى ربه راضياً مرضياً، وبكت أمه الوالهة الثكلى، وهي تقول:

أنت خيرٌ من ألف ألف من القوم إذا ما كبَتْ وجوه الرجالِ
أشجـــــاع؟ فأنت أشجع من ليثٍ غضنفرٍ يذود عن أشبـالِ
أجـــــــواد؟ فأنت أجود من سيل أتِيٍّ يسيل بين الجبالِ[1]

     أيها البطل العظيم.. سلام الله عليك في مثواك الأخير، وهنيئاً لك جوار ربك، فقد علّمنا المصطفى صلى الله عليه وسلم أن من سأل الله تعالى الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه، وكأنك القائل عن الشهادة كما بدا لي:

هنالك فوزي الذي قد رجوت     وأصدق لقيـــا وأرجى دعـاءْ
وأسمى أماني أندى الحنيــــن     وأطهر نبل وأسنى رجــــــاءْ
وأضـــوع عطر نديٍّ حبيــبٍ     وأسعـــد عرس وأهنى لقـــاءْ
هنـــاك النعيــم الذي لا يزول     وأكــرم نعمى وأوفى هنــــاءْ

     يا بطل المعامع العنيفة! يا فجر النصر الوردي الآسر!.. لقد بلغ بك المطاف الغاية التي يبلغها كل حي، بعد أن خلّفت ذكرى عاطرة ماجدة خالدة.

     رحمك الله أبا سليمان، لقد عشت حميداً، ولقد متّ سعيداً، وما عند الله خيرٌ لك وأبقى.

     ومن أجمل ما سمعت في حياتي عن خالد؛ جملة بليغة جداً، ذكية جداً، عن أحد علماء الهند، فاتني أن أحفظ اسمه، يقرر فيها أن خالداً حلم بالشهادة، لكنها ليست قدره، ذلك أنه سيف الله، وسيف الله لا يكسر.
*****
------------
[1] الأبيات منسوبة إلى أم خالد بن الوليد. واسمها لبابة الصغرى بنت الحارث الهلالية، وهي خالة عبدالله بن عباس رضي الله عنهم.

خالد بن الوليد ينتصر على نفسه يوم العزل

خالد بن الوليد ينتصر على نفسه يوم العزل

     معارك كثيرة خاضها بطلنا العظيم، وانتصر فيها انتصاراً كبيراً مدهشاً، معارك تحسب الواحدة منها لمحة أمجاده وبطولته النادرة، وعبقريته العسكرية المدهشة، حتى إذا جئت لواحدة أخرى حسبتها أعظم وأروع.

     حين مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسارع المرتدون يعلنون التمرد والعصيان، أرسله الخليفة الصِّدِّيق يبطش بهم، ويجوس خلال ديارهم، فأيقظهم من سباتهم، وكسر شوكتهم، وحطّم رؤوس الشر منهم، وجعلهم يلتزمون طريق الصادق الأمين، فإذا بهم من بعد ذلك جنود صادقون في كتائب الحق المؤمنة، تنشر الهدى، وترفع الحق، وتدك معاقل الطاغوت.

     وحين عادت جزيرة العرب معقلاً أَشِباً للإسلام من جديد سار بطلنا إلى العراق بناءً على طلب الخليفة أبي بكر الصديق. وفي العراق كان البطل يجاهد الإمبراطورية الفارسية، ويقتلع جذورها من الأرض اقتلاعاً عنيفاً لا عودة فيه للشرك والوثنية. وكان موكبه ينتقل من نصر إلى نصر، فحيثما حلَّ زال الباطل واندحر، وعلا الأذان يحمل إلى الدنيا بشائر العالم الجديد يصوغه تلاميذ الرسول صلى الله عليه وسلم على هدى من ربهم ونور.

     ويطلب إليه الخليفة بعد ذاك أن يتجه إلى الشام حيث الروم تحتشد لمعركة اليرموك الضارية العنيفة، ويمضي البطل، ويقود المسلمين هناك إلى نصر هائل حاسم بعد أن يترك المثنى بن حارثة الشيباني على مَنْ ترك من جيشه بالعراق.

     إنها انتصارات باهرة حقاً بكل ما تعنيه هذه الكلمة، باهرة رائعة لو أن واحداً من القادة العسكريين فاز في بعض منها لكان شيئاً مذكوراً في التاريخ العسكري، فكيف بمن فاز فيها جميعاً، ضد أقوى دولتين في العالم يومذاك، دولة الروم ودولة الفرس.

     لكنَّ بطلنا خالداً بن الوليد، كان قد ادُّخِر له نصرٌ عظيمٌ رائعٌ هو أعظم انتصاراته على الإطلاق.. إنه انتصاره على نفسه في معركة اليرموك.

     إنه انتصار نلتقي فيه مع العظمة الإنسانية في أعظم صورها، نبلاً ورجولة، وفداءً وتضحية، وكرم نفس.
* * *

     ففي الوقت الذي كان فيه خالد بن الوليد، ينتزع النصر بإذن ربه من أشداق آساد الروم، كان الخليفة الجديد عمر بن الخطاب يرسل أمره بتنحية خالد عن القيادة، وتولية أبي عبيدة بن الجراح مكانه.

     ففي رواية جاء الأمر إلى خالد فكتمه على الناس، ومضى في جهاده العنيف حتى إذا تم النصر، تقدم من أبي عبيدة يخبره بالذي جاء، ويعمل تحت إمرته جندياً كالآخرين.

     وفي رواية أخرى أنَّ أمر عمر بن الخطاب إنما جاء لأبي عبيدة فكتمه عن خالد، حتى إذا كان النصر أبلغه إياه، فما تغير، بل مضى يعمل تحت إمرة الجراح كالآخرين.

     وأيّاً كان الأمر، فإن سلوك خالد بن الوليد هو الذي يشدنا، ويستأثر باهتمامنا وإعجابنا، ذلك أنه مسلك بالغ الروعة والعظمة، والسمو والرفعة، والنبل والجلال.

     لعل موقف خالد هذا هو أعظم موقف في حياته يكشف عن إخلاصه العميق، وصدقه الوثيق، وتفانيه في خدمة دينه العظيم.

     لم يغير من جهاده شيئاً، ذلك أنه يجاهد وهو أمير، كما يجاهد وهو جندي، إذ الهدف واحد هو رضوان الله تعالى.

     ما تمرَّدَ وما تأفف، وما تشكَّى وما تظلَّم، بل انتصر على نفسه أروع انتصار إذ لم يغير العزل من جهاده شيئاً قط، فكان انتصاره على نفسه أروع من انتصاره على الروم، ذلك أنه لا يقاتل من أجل الخليفة، بل من أجل ربه ورب الخليفة، ورب الناس أجمعين.

     وعمر؛ الخليفة العظيم لم يعزله عن سوء أو تهمة، بل ضحَّى به في سبيل نقاء العقيدة حين رأى شدة تعلق الجنود به، واعتمادهم على عبقريته وكفايته العسكرية في انتزاع النصر، لقد عزله ليعلم هؤلاء أن النصر من الله تعالى، الذي ينصر الإسلام بخالد وبغير خالد، ليعتمدوا على الله وحده لا على بشر مهما كان عظيماً.

     رحمك الله أيها البطل المنصور! الذي هزم المرتدين، وهزم الفرس، وهزم الروم، وهزم نفسه، فكانت هزيمته لنفسه أعظم ما فعل وأروع ما اختار.

     وبحسب الناس أن يعلموا أن الخليفة عمر كان يعتزم رد الإمارة إليك بعد أن زال افتتان الناس بك لولا أن اخترمك الموت، ليعلموا أيَّ عظيم كان.

     وبحسبهم أن يعلموا أنك جعلت عمر وصيّاً على ما تركت، ليعلموا أي عظيم كنت، طهرك الإسلام من الأحقاد والشوائب، كما طهر عمر، فكنتما تلميذين نجيبين من تلاميذ النبوة المطهرة.

     رحمك الله يا خالد!.. وأجزل مثوبتك، وجزاك عن المسلمين والإسلام خير الجزاء. وإني على استحياء ووجل أضع بين يديك هذه الأبيات:

أيها العـــملاق يـا ليـــث الوغى     يا مضــــاءً مســـتميتـــاً لا يلينْ
أنت عنـــوان لمجـــد شــــــامخ     دوّخ الشـــرّ ودكّ الكافـــــــرينْ
حصــــدت خيـلك عاتي ظـلمهمْ     ومضت جــوَّابـةً في العـــالمينْ
تزرع الدرب انتصارات غـدت     مضرب الأمثال، والفوز المبينْ
أنـت سيـــــف الله في لألائـــــه     ما نبــــا يوماً ولم يفـــــلله ليــن
*****

خالد بن الوليد والقادة .. يوم اليرموك

خالد بن الوليد والقادة.. يوم اليرموك

     أرسل أبو بكر الصديق أربعة جيوش لفتح الشام، على رأسها أربعة من كرام الرجال، وعظام القادة؛ هم أبو عبيدة بن الجراح، وعَمْرو بن العاص، ويزيد بن أبي سفيان، وشرحبيل بن حسنة.

     ومضت الجيوشُ المؤمنةُ تصدع بنيان الإمبراطورية الرومانية، وتُعلِي حيث تمضي كلمة الحق، وترتيلَ القرآن، ودَوِيَّ الأذان.

     وفكّر الإمبراطور الروماني هرقل ومن معه بالموقفِ الصعب، فعزموا على إرسال جيش ضخم هائل يبلغ تعداده قرابة ربع مليون مقاتل.. وحينَ بعثَ القادةُ الأربعةُ للخليفة الصِّدِّيق بالصورة المخيفة قال رضي الله عنه: "والله لأشفينَّ وساوسهم بخالد!".. قال هذه الكلمة، وسارعَ إلى إنفاذها في الحالِ، وهو مَنْ هو في معرفة الرجال واختيارهم.

     وكان خالدٌ يقودُ جيش المسلمين في العراق مجاهداً عَبَدَةَ النيران وأهل الوثنية.. وما كاد يتلقى أمرَ الصِّدِّيق بالتحول من العراق إلى الشام حتى سارع لإنفاذِه حالاً دون ريثٍ بعد أن تركَ طائفةً من جيشه مع المُثنّى بن حارثة على العراق.. واجتازَ البطلُ الشجاع بادية الشام سالكاً أصعب دروبها، وأشدها وحشة، وأقلَّها ماءً وعشباً ليصل بأقصى ما يستطيع إلى حيثُ يعسكِرُ القادة الأربعة في ديار الشام بانتظار قدومه.

     وما كادَ يصلُ حتى نظرَ إلى مَنْ معه، وإلى القادةِ الأربعةِ وجيوشهم، فجعلَ الجميع في جيشٍ واحد، وأنجزَ بعبقريته النادرة تنظيمَه وتنسيقَه وإعداده للقتال في وقتٍ وجيز. ثم وقف يخاطب القادة الأربعةَ، ويخاطب المجاهدين جميعاً بقوله: "إن هذا يومٌ من أيامِ اللهِ لا ينبغي فيه الفخرُ ولا البغي، أخلِصوا جهادَكم، وأريدوا الله بعملكم، وتعالوا نتعاوَرِ الإمارة، فيكونُ أحدُنا اليومَ أميراً، والآخرُ غداً، والآخرُ بعد غدٍ حتى يتأمَّرَ كلُّكم".

     كلماتٌ قلائل تلك التي هتف بها أبو سليمان، لكنها تُنْبِئُ عن عَظَمتِهِ وبراعتِه، ونبلِه وإخلاصِه، وحسنِ تصرفِه ساعةَ الشدة والضيق.

     هذا يومٌ من أيامِ الله.. تلكم كانت بداية كلامه.. وما أروعها من بداية حكيمة صادقة ناصعة!. إن يوم اليرموك يومٌ من أيام الله.. وإذن فليكن فيه الصدقُ والصفاء، والطهرُ والإخلاص، والإنابة والإخبات.

     إنه يومٌ لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي، ولا طلبُ الشهرة أو السمعة.. وكان أن بدأ أبو سليمان بنفسه قبل الجميع فحملها على ما دعا الناس جميعاً والقادةَ الأربعةَ إليه. لقد تنازل عن حقهِ الدائمِ في القيادةِ العامة، وجعل نفسه مثل واحدٍ من إخوته الآخرين.. وبذلك سدَّ سبيل الشيطان على الجميع أن يوسوسَ لأحدهم بما يُبعِدهُ عن جادة الصواب.

     لا شك أنه موقف شهمٌ نبيل من أبي سليمان.. موقفٌ يكشف عن صدقه وإخلاصه من ناحية، وعن حصافته وبراعته من ناحية أخرى.. وكان القادة الأربعة الآخرون نِعمَ الرجالُ الأوفياءُ الصادقون.. لذا سارعوا يوافقون على ما اقترحه أبو سليمان.. وتركوا له القيادة في اليوم الأول.. وكان فيه النصرُ والتأييد.

     ولم يكن ليفوتَ أبا سليمان أن الروحَ المعنويةَ في الجيش من أعظمِ أسبابِ الغلَبةِ والتوفيق.. وأن الجيش الشجاع يغطي بشجاعته على نقص الموارد والأسلحة والأغذية والعُدد، وأن ذلك كلَّه ينقلبُ عِبئاً على الجيش الجبان يُعجِزُهُ ويَؤوده.. وقد يَدَعُه للعدوِّ غنيمةً باردة.. لذا حرصَ أبو سليمان على أن يبثَّ القوة المعنوية في صفوف المسلمين.. فأمر المقدادَ أن يطوفَ بهم يقرأُ عليهِم آياتِ الجهاد، ويوصيهم بالصبر والثبات.

     وما كان ليفوتَ أبا سليمان أن حركة هروبٍ صغيرةً يقوم بها رجالٌ قلائل قد تؤدي إلى كارثة للجيش كلّه.. لذا تراه يدعو نساء المسلمين ويأمرُهنّ بالوقوف وراء الجيش المسلم وفي أيديهِنَّ السيوف ويطلبَ منهن أن يقتلنَ كلَّ من يحاول الهروب.. وهي لفتةٌ ذكيةٌ بارعةٌ لا ريب أدّت دَورَها على أحسنِ ما يكون.

     كان عددُ الجيش المسلم أربعين ألفاً، أما جيش الروم فقد كان يصل إلى حوالي ربعِ مليون.. إنه فرقٌ ضخمٌ جداً دفعَ أحدَ المسلمين إلى أن يقولَ: "ما أكثرَ الرومَ وأقلَّ المسلمين!".

     وهي قولةٌ سيئةٌ مدمِّرةٌ قد تفعلُ في الجيش المسلم ما لا تفعله كتائب الروم.. لذا سارعَ أبو سليمان يكْبِتُها ويدفِنُها في الحال وهو يقول: "اصمت أيها الرجل! بل ما أقلَّ الروم!.. وما أكثرَ المسلمين!.. إنما تكثُر الجنود بالنصر، وتقلُّ بالخذلانِ لا بعددِ الرجال.. واللهِ لَوَدِدْتُ أن الأشقرَ براءٌ من تَوَجِّيه[1]، وأنهم أضعفوا في العدد".

     كلماتٌ وِضاءٌ عِذابٌ أكرِم بها! وأكرِم بقائلها!.. لقد وَدَّ البطلُ لو أن حصانه الأشقر الذي أضناه السفر المتواصل سالمٌ معافى، إذن لامتطى صهوتَه الشماء، ومضى في صفوفِ الروم لا يلوي على شيء مهما أضعفوا في العدد.

     وبدأت المعركة عنيفةً ضارية.. وأنبلَ الرومُ في فيالقَ كالجبال، فوجدوا المسلمين أثبتَ منها وأرسى، ودار قتالٌ هائلٌ مرير.. وتراجع بعض المسلمينَ مذعورين فارّين فإذا بنساء الإسلام يستقبِلْنَهم هاتفاتٍ وفي أيديهن السيوف: إلى أينَ يا حُماةَ الإسلام وطُلابَ الشهادة!؟ فرجع الفارّون، وقد امتلؤوا بالحماسة والعزيمة.

     ووقف عكرمةُ بن أبي جهل يهتف: "من يُبايعُ على الموت!؟" فبايعه أربعمئة من شجعان المسلمين، فاقتحمَ بهم لُجَجَ المنايا في اليرموك..

     وانطلق أحد المجاهدين إلى أبي عبيدة بن الجراح فقال له: إني قد عزمتُ على الشهادة؛ فهل من حاجةٍ إلى رسولِ الله أبلغها حين ألقاه؟

     قال أبو عبيدة: نعم، قلْ لهُ: "يا رسول الله إنا قد وجدنا ما وعدَنا ربُّنا حقاً". واندفع الرجل كالسهمِ وسطَ المنايا يَضرِبُ ويُضرَبُ حتى فاز بالشهادة.

     لوحات فداءٍ رائعةٌ شامخةٌ رسمتها عزائمٌ مؤمنةٌ مُتّقِدة في اليرموك منها لوحةٌ لأبي سليمان وهو على رأس مئةٍ من جنوده لا غير ينقضُّونَ على مَيسرةِ العدو التي تبلغ أربعين ألفاً.. وهو يصرخُ عن بُعد: "والذي نفسي بيده!.. ما بقي مع الروم من الصبرِ والجَلَدِ إلا ما رأيتم، وإني لأرجو أن يمنحَنا الله أكتافهم".

     مئةٌ يخوضون في أربعين ألفاً.. إنه لعجبٌ أيُّ عجب!.. ولكن لا، لِمَ العجب!؟ أليسَ يملأُ قلوبَهم إيمانٌ شامخٌ عظيم!؟ أليسوا طلابَ آخرةٍ وعُشاقَ شهادة!؟ أليسوا كتائبَ النور التي انطلقت لتُخرِج الناس من ليل الجاهلية المظلم الآثم إلى فجر الإسلام الوردي المضيء!؟

     لقد كان اليرموك شاهدَ صدقٍ وعدلٍ على عظَمةِ الأمة المسلمة التي ربَّاها محمد صلى الله عليه وسلم.

     مواقفُ فيها أحلى من الفجر، وأسطعُ من الشمس، وأمضى من العزم.. وقفها تلاميذ المدرسةِ النبويةِ الشريفةِ الذين صاغتهم سنواتٌ طوال في مكة المكرمة، والمدينة المنورة. اليرموك ملحمةٌ من ملاحِم الجهاد الإسلامي العاطر.. فيها كلُّ ما في الملاحم من بطولةٍ تفوقُ الخيال، وتسبقُ الأمانيَّ والأحلام، لكنها بطولةٌ صادقةٌ ليس فيها تهويل أو مبالغة. ألفُ كاتبٍ يكتبُ عن اليرموك، وألفُ قَصَّاصٍ يستوحي مواقفها، وألفُ شاعرٍ يستلهِمُ بطولاتها، ثم تبقى مِن بعدِ ذلك كالمَنْجَمِ البِكر والغابةِ العذراء.

     مواقفُ في اليرموك مُضَمَّخةٌ بالطِّيب، معطَّرةٌ بالمِسك، ندِيَّةٌ غالية أثيرة.. كانت لرجالٍ هم قِمَّةٌ في الشجاعة والبطولة، والصدقِ والإخلاص، والعزمِ والإيمان.
*****
------------
[1] توجِّيه: توجُّعه من حفاء حافره. وَجِيَ: رقَّت قدم الدابة أو حافرها أو خفها من كثرة المشي.

خالد بن الوليد والطريق الصعب

خالد بن الوليد والطريق الصعب

     كان خالد بن الوليد على رأس جيشه في العراق حين جاءه أمر الخليفة أبي بكر الصِّدِّيق بالتوجّه إلى الشام فوراً، ليكون أميراً على جيوش المسلمين الأربعة هناك التي كانت تتهيأ للوقوف أمام ربع مليون جندي من جيوش الروم في اليرموك.

     كانت المهمّة المطلوبة من خالد غاية في الخطورة.. فجيوش المسلمين في الشام ومعها مَنْ رحَل مع خالد من العراق عددها جميعاً أربعون ألف مجاهد فحسب!.. تتصدّى لذلك الجيش الروماني الضخم اللهام.. لكنَّه كانت هناك مشكلة ضخمة أمام خالد، عليه أن يتغلّب عليها، ويجِد لها الحل الحاسم السريع. تلك هي: كيف يصل من العراق إلى الشام بأقصى سرعة، من أجل اللحوق بالجيش هناك قبل بدء المعركة!؟

     التمس خالد بن الوليد الأدِلّاء سائلاً عن أقرب الطرق إلى الشام، فدله الناس على رافع بن عميرة الطائي الذي كان من أمهر الأدِلّاء في الفيافي المُقفِرة.. وبيّنَ رافع لخالد أن هناك عدداً من الطرق يمكن له أن يسلكها باتجاه الشام. وثمّة طريق سهل، موفور الماء، كثير الرزق، لكنه مزدحم بالسكان.. وطريق ثانٍ قليل السكان، موفور الماء، ولكنه طويل بعيد.. وطريق ثالث وعر، قليل الماء، غير مطروق، لكنه أقصرها جميعاً.

     وفَكَّر القائد العبقري الفذ، وأطال النظر في الموقف الصعب!.. إن الطريق الأول سهل موفور الماء، موفور الأرزاق، لكنه مزدحم بالسكان الذين قد يقاتلونه في أثناء رحلته.

     وما كان خالد ليخاف قتال هؤلاء، لكنه كان حريصاً على الوصول بأسرع وقت إلى حيث يحتشد المسلمون في اليرموك.. ومثل هذا الطريق بمثل هذه الظروف سيؤدي إلى تأخر البطل وامتداد الرحلة، وهو عكس ما كان يريد؛ لذا سارع خالد بن الوليد يرفض سلوك هذا الطريق على الرغم من إغرائه، وميل النفس إلى الرحيل عبره لأنه سهل مطروق، كثير الماء، وافر الرزق.

     أما الطريق الثاني فقد كانت له ميزة كبيرة، إنه موفور الماء، وقليل السكان.. وهذا شيء هام لجيش يرحل صوب هدف كبير، ويتحاشى الصدامات الجانبية التي تعوقه عمّا يريد. فالماء كثير، والماء في الصحراء مادة الحياة.. ثم إن السكان قلة نادرة.. مما يجعل الجيش المرتحل بمنجاة عن مشاكل قد تنجم من مروره عليهم.. وإذن فإن لهذا الطريق إغراءً كبيراً لسلوكه.. لولا أنه طويل بعيد. وسارع خالد بن الوليد يرفض سلوك هذا الطريق على الرغم من مزاياه لأنه يخشى من طول الرحلة.

     بقي الطريق الثالث، وهو صعبٌ موحِش، وَعِرٌ مخيف.. غير مأهولٍ ولا مطروق، لكنه أقصر جميع الطرق. وظهرت ميزة القصر هذه بإغرائها الكبير لخالد بن الوليد واضحة ماثلة، فما تردد البطلُ في أنْ عَزَم على سلوك هذا الطريق الأخير على الرغم من جميع الصعاب الأخرى.. ذلك أنَّ ميزة القِصر كانت تهيئ لخالد أن يصل مبكراً إلى الشام قبل نشوب المعركة.

     كانت الطريق التي اختارها خالد غاية في الخطورة، بحيث يدل اختياره لها على روح المغامرة التي كانت تسري في أعماقه، وتأبى إلا أن تَظهرَ بين الفينة والأخرى على الرغم من حرص القائد أن يُجَنِّبَ جنودَهُ المهالك.

     ويمكن لك أن تدرك ذلك جيداً حين تسمع وصف الدليل رافع بن عميرة الطائي لتلك الطريق، لتعلم أي موقف صعب مخيف عزم خالد على اتخاذه. قال رافع لخالد: "إنك لن تطيق ذلك بالخيل والأثقال.. والله إن الراكب الفرد ليخافها على نفسه وما يسلكها إلا مغرور.. إنها لخمس ليالٍ لا يصاب فيها ماء مع مضلّتها!".

     لا شك أن كلمات رافع مخيفة مرعبة، وإنها تكفي لِبَث الرعب في أشجع القلوب وأثبتها ما لم يكن لها من الله عاصم.. خمس ليال طوال في صحراء قاحلة مخيفة ما يسلكها إلا مغرور كما عبّر الدليل نفسه، يخافها المرء المنفرد مع حُسن استعداده، وكثرة ما معه من ماء وزاد.. ثم هي صحراء يعلن الدليل نفسه أنه قد يضل فيها. والماء في الصحراء مادة الحياة الأساسية، ومن يفقدها يفقد الحياة..

     لكن خالداً رضي الله عنه عزم على سلوك هذه الدرب المخيفة على الرغم من كل تلك الصعاب مستعيناً باللّه عز وجل، متوكلاً عليه، متخذاً ما بوسعه من الأسباب التي يقدر عليها. قال خالد لرافع: "إن القوة تأتي على قدر النية، وإن المسلم لا ينبغي له أن يكترث بشيء يقع فيه مع معونة الله عز وجل".

     وحين رأى الدليل تلك العزيمة الخالدية الشجاعة قال: "أكثروا من الماء، ومن استطاع منكم أن يصر أذن ناقته على ماء فليفعل.. فإنها المهالك إلا ما دفع الله". ثم طلب عشرين ناقة عظيمة سمينة فلما أُتِيَ بها أجهدها عطشاً، ثم أورَدَها الماء فشربت حتى امتلأت، وعند ذلك قطع مشافرها ثم كممها حتى لا تجترّ ما عندها من ماء!.

     ورحل خالد، ورحل الجيش عبر الصحراء، وفي كل يوم تُذبح أربع من هذه النوق فيؤخذ ما في بطونها من ماء فيشرب الناس، ويسقون خيولهم، ويواصلون المسير.

     وبعد خمس ليال، ذُبِحت النوق العشرون جميعاً، ونفد الماء من الجيش الذي كاد يقطع الطريق إلا بقية منه، والعطش مخيف مرعب، وهو في الصحراء أرعب من مخيف، وأخوف من مرعب!. وللصحراء رهبتها المخيفة، ووحشيتها المرعبة.. وما أصعب ذلك! وما أشقَّه لمن نفد ما عنده من ماء!.

     وقال خالد لرافع: ويحك.. يا رافع ما عندك!؟ فأجاب رافع الذي كان قد أصيب بالرمد: "أدركت الريّ إن شاء الله!".. ثم هتف بالعطاش حوله: "انظروا، هل ترون شجيرة من عوسج كقعدة الرجل!؟" ونظر القوم، وأعادوا النظر، وبحثوا وأعادوا البحث دون أن يظفروا بشجيرة العوسج تلك.

     عندها هتف رافع يائساً حزيناً: "هلكتم والله إذن، وهلكتُ لا أبا لكم.. انظروا انظروا!".. وطفق القوم ينظرون، وانطلقوا يبحثون، واشتدوا في البحث والتفتيش فإذا بهم يجدون الشجيرة، وقد قطِعت وبقيت منها بقية: فلما رآها المسلمون كبّروا، ثم حفروا بجوارها.. فإذا بالماء ينبع ثراً عذباً.. فشربوا، وسقوا إبلهم وخيولهم، ونجّاهم الله من شر كبير.

     مغامرة لا شك مثيرة تلك التي قام بها خالد.. شاء الله عز وجل أن تنتهي بالنجاح.. وأن يصل إلى اليرموك بمن معه ليخوضوا معركة هائلة كُتِب فيها للمسلمين الفوز المبين.

     كان خالد أمام موقف صعب حين عزَم على اختراق بادية الشام: أيسلك أحد الطريقين الطويلين حيث يتوافر الماء والرزق!؟ أم يسلك الطريق الوجيز الوعر حيث قلة الماء والأرزاق!؟

     في أحد الطريقين الطويلين يكون الأمن لكنَّ الوصول إلى المعركة سيكون متأخراً. وفي الطريق الوعر القصير تقل مدة الرحيل، ولكن تعظم الأخطار.. وهل يخاف خالد من الأخطار!؟ وهل كان بوسعه أن يفعل ما فعل من بطولات عجيبة غريبة لو أنه آثر السلامة وابتعد عن المجازفة!؟

     عرف أن عليه الوصول بأقصى سرعة إلى الشام.. وإذن؛ فليسلك الطريق الوعر القصير. وعرف أن عليه أن يتخذ الأسباب التي يقدر عليها ففعل.. وإذ تم له ذلك، توكل على الله عز وجل ومضى ولم يتردد، وانطلق ولم يُحجِم، مستعيناً باللّه عز وجل، متبرِّئاً من حوله وقوته وتدبيره، إلى حول خالقه وقوته وتدبيره.. وكان يعلم أن العزيمة ردء عظيم لا يكل، وسلاح قوي لا يفل.. لذا كانت قولته لرافع: "ويحك إن القوة تأتي على قدر النية"..

     كان ما فعله خالد من اجتياز الصحراء مغامرة شجاعة كبيرة، لكنها لم تكن مغامرة حمقاء جاهلة، بل كانت مغامرة عاقلة مؤمنة، اتخذ من أسبابها ما يقع تحت مقدرته، واستعان باللّه عز وجل.. فكان أن نجَحَت، ولنعم المغامرة ما صنع خالد! ولنعمت المغامرات حين تكون من هذا القبيل!.

     أيها القائد العبقري المؤمن!.. إن موقفك في اجتياز الصحراء درس شجاع لكل القاعدين والمتواكلين الذين أخلدوا إلى الأرض، واستناموا إلى الكسل، وآثروا الدّعَة والخمول، يهمس في آذانهم أنهم ليسوا بالرجال!.
*****

البراء بن مالك يوم اليمامة

البراء بن مالك يوم اليمامة

     وقف الجيش المسلم يوم اليمامة ينتظر أمر قائده خالد بن الوليد بالهجوم.. كانت الدقائق تمرُّ بطيئة ثقيلة، ذلك أنَّ في المسلمين تحفزاً وتوثباً لاقتلاع جيش الرِّدّة من جذوره، واستئصاله من أعماقه حتى تصفو جزيرة العرب للرسالة الكريمة التي بُعث بها محمد صلى الله عليه وسلم ليموت ليل الجاهلية والفساد والظلام، ويبدأ فجر الحق والصلاح والنور.

     وقف الجيش المسلم يملؤه إيمان عميق، ويحدوه إخلاص وثيق، يشغل كل واحد من أفراده أمران: إما النصر وإما الشهادة.

     وفي مكانه من الجيش المجاهد وقف البراء بن مالك الصحابي الشجاع العظيم وعيناه الثاقبتان كعيني الصقر تتحركان في سرعة ونفاذ فوق ساحة المعركة، وقد بدا منهما تصميم عجيب، وإرادة هائلة، ونزوع إلى شهادة كريمة في ذلك اليوم المشهود..

     كانت عيناه تجوبان الساحة كلها، كأنها تبحث عن أشد الأماكن خطورة وأعظمها بأساً، لتسارع إليه بحثاً عن ختام هانئ سعيد، وأي ختام أهنأ وأسعد من شهادة في سبيل الله عز وجل!؟

     تلكم كانت أمنية البطل الشجاع.. أن يرمي بنفسه في أشد حلبات الساحة وأعنفها ليقوم بدوره في استئصال عفن الجاهلية والكفر والفساد، من أجل أن يقوم بذلك مجتمع الطهارة والنبل والصدق.. يرمي بنفسه على الموت، وسوف يسقط حصاد كثير من جيش الكفر والشرك والظلام بسيفه الشجاع العنيف قبل أن تسرع إليه ضربة سعيدة كريمة من يد شقي غير كريم، يسقط بعدها جسده على الأرض، في الوقت الذي تعلو فيه روحه وتسمو، ويكسب بذلك الفوز العظيم، والهناء الدائم، والخلود الذي لا يبلى.

     كالسهم ينطلق من القوس، كالصقر يسرع في طيرانه، كالنمر ينقض على فريسته. وثب البراء بن مالك يخترق صفوف المرتدّين حين نادى خالد بن الوليد: "الله أكبر"؛ إيذاناً ببدء القتال.

     انطلق البراء طالب الشهادة، وقد أحس أن رائحة الجنة في أنفه.. فاستثار ذلك فيه كل القوة والحركة، وكل السرعة والنشاط، وكل البطولة والحمية، فإذا بقوته تتضاعف، وإذا بنشاطه يزداد، وإذا به كالسيل الأتِيّ الدفاق، لا يقف في وجهه شيء.. وطفق البطل العظيم، يفتك سيفه المؤمن بالرقاب العفنة الفاسدة، مجتثاً ركام الأحقاد والسخائم والضغائن، سافحاً دماء قوم أصروا على محاربة العدل والخير، والشرف والمساواة، والنبل والرحمة.

     ما كان جيش مسيلمة ضعيفاً ولا هيناً، وما كان جباناً ولا رعديداً، ولم يكن قليل العدد، ولا قليل السلاح، بل كان له من ذلك نصيبٌ أيُّ نصيب! كان متفوقاً على المسلمين في كل شيء إلا ذلك المَعين العظيم الهائل، "مَعين الإيمان"؛ حيث كان للمسلمين منه حظ غني وافر وافر كبير.

     أما المرتدون فكانوا منه كالصحراء الخالية من الماء.. وذلك كان السر الكبير وراء العجائب الرائعة في انتصارات المسلمين. وأجاب جيش الردة على الجيش المسلم بهجوم مضاد عنيف كاد يأخذ فيه زمام المبادرة، واستطاع بالفعل أن يزلزل الجيش المسلم أكثر من مرة لولا أن القلوب المؤمنة كانت في كل مرة تتداعى إلى الثبات ومعاودة الهجوم.

     وفي إحدى المرات حدث خلل في صفوف المسلمين، وسرى شيء من الارتباك، وطفق فرسان المسلمين وقادتهم وذوو الرأي منهم يجوبون الميدان يحثون على الصبر والجِلاد حتى النصر المرتقب.

     وكان البراء بن مالك ذا صوت عالٍ جميل، فهتف به خالد بن الوليد: "تكلم يا براء!" وتكلم البراء، وعلا صوته الجياش العذب، فإذا به يهتف بكلمات قليلة لكنها قمة في البلاغة والإيجاز، لقد علا صوت البراء يقول: "يا أهل المدينة! لا مدينة لكم اليوم، إنما هو الله والجنة".. كلمات وضيئة مشرقة تُنبِئ عن روح صاحبها، وما يتردد في صدره من رغبات كبيرة سامية، وأمانٍ ضخمةٍ نبيلة.. إنه يهتف بأهل المدينة المنورة، أن ينسوا مدينتهم، وأن يجعلوا هدفهم رضوان الله عز وجل وجنته الطيبة الكريمة، ففي مثل هذا الموطن المشهود ينبغي ألّا يشغل المجاهدون أنفسهم بشيء سوى انتزاع النصر، عليهم أن ينسوا الديار التي خرجوا منها، والأهل الذين ودّعوهم، حتى المدينة المنورة عاصمة الإسلام، ومأرز الإيمان ينبغي ألا يتذكروها ففي الموقف ما يشغل.

     وسَرَت كلمات البراء بن مالك كالتيار الآتي الدافق في أرواح المجاهدين ودمائهم.. وعادت الصفوف تزدحم من جديد، ومضت سيوف المؤمنين تحصد المرتدين وهم يتراجعون، وجند الله تفعل بهم الأفاعيل.

     واحتمى المرتدون بحديقة كبيرة ولاذوا بها، وظنوا أنهم بمنجاة من سيوف المؤمنين.. وبدا إلى حين أن المعركة قد فترت لولا أن علا صوت البراء بن مالك يهتف: "يا معشر المسلمين، احملوني، وألقوني عليهم في الحديقة!".. كأنه أراد أن يقتحم الموت ليفتح للمسلمين باب الحديقة، فيهزم مسيلمة وجيشه، وتعلو كلمة الحق وترتفع، ويمضي هو شهيداً مبروراً.

     تلكم كانت أمنيته السعيدة، أن يفتح باب الحديقة، وأن يكسب الشهادة، ولم ينتظر البطل فاعتلى الجدار، وألقى بنفسه داخل الحديقة حيث يجتمع جيش الردة.. وفتح الباب فدخلَته جنود الإسلام.. وكانت هزيمة المرتدين، وكان مقتل مسيلمة، وكان انتصار الحق.. لكن شيئاً واحداً لم يتحقق للبراء، إن البطل لم يستشهد على الرغم من هذه المغامرة الجريئة، وصدق أبو بكر رضي الله عنه إذ قال: "احرص على الموت توهب لك الحياة".

     أيها البطل العظيم!.. لا تأسفن أنْ فاتتك الشهادة، فإنها قدِ ادُّخِرَت لك في يوم آخر.. كانت بطولتك رائعة معجبة، فقد تلقيت بضعاً وثمانين ضربة جعلتك تمضي بعد المعركة شهراً كاملاً، وأنت في العلاج يُشرف خالد بن الوليد نفسه على تمريضك.

     أيها البطل العظيم!.. لقد وصفك الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بأنك مستجاب الدعوة، فما عليك إلا أن تدعو أن يرزقك الله الشهادة، وسوف تفوز بها إذن، ولو بعد حين.

     أيها البطل العظيم!.. سيظل ما فعلتَ يوم اليمامة نموذجاً لأروع صور البطولة إذ تستعلي، والإيمان إذ يسمو، والفداء إذ يستميت.
*****

فتى من أسلم

فتى من أسلم

     هو فتى من قبيلة "أسلم" صادق في دينه، قوي في جسده، له همة ماضية، وعزم قاطع، ورغبة حارة أن ينهض بمسؤوليته رجلاً مسلماً في الجهاد في سبيل الله تعالى.

     لكنه كان محزوناً في ذلك اليوم الذي جلس فيه، يفكر فيما آلت إليه حاله، إنه فتى قوي يتمتع بالصحة والشباب، عضلاته مشدودة مفتولة وبدنه في حاجة إلى العراك والجهاد، فما هو بأهل للقعود، إنه لا يطيق ذلك ولا يحبه ولا يرغبه، بل هو يريد المسارعة إلى رضوان الله تعالى، وخير سبيل لذلك هو الجهاد الصادق المخلص الذي تصفو فيه النية وتنجو من جميع الأدران والشوائب.

     وثمة فرصة كريمة سانحة، فهاهم المسلمون يستعدون للغزو في سبيل الله، وهم يَغْدُون ويروحون، وكلهم فَرَحٌ غامر، واستبشار وَضِيْء، وسرورٌ شامل بهيج، ذلك أنهم تعلّموا أن العمر واحد، وأن خِتامَهُ الموتُ إن طال أو قصُر، وأن ذلك الختام لا بدّ أن يأتي إلى المرء حيث يكون في البيت المظلم، والحصن المشيد، والمخبأ النائي، والكهف العميق، وقد ينجو من يقاتل في أشد المعارك، ويُقتَلُ من يهرب منها، وربما هرب المرء من الموت ليقع فيه.

     وإذن؛ فما أحسن الجهاد في سبيل الله! وما أحسن أن يكون ختامُ حياة المرء أن يستشهد خلال ذلك الجهاد!.. وإن للشهيد منزلةً عند الله عز وجل كريمةً جليلة. من أجل ذلك كان المسلمون يتهيؤون للجهاد في سبيل الله تعالى، ومن أجل ذلك كانوا فرحين مستبشرين، ومن أجل ذلك كان الفتى الأسلمي محزوناً مكروباً ضيّق الصدر. أما فرحتهم واستبشارهم فلأنهم ماضون في سبيل الله للجهاد، وأما حزنه وضيقه فلأنه يجد نفسه لا يملك شيئاً يستطيع أن يتجهز به للخروج.

     إنه فقير، لكنه غني النفس، وكل الذي يرجوه الآن أن تتهيأ له الفرصة لينجو من القعود، ويلتحقَ بكتائب الغزاة المؤمنين الذي يحملون للدنيا رسالة الحق والعدل ليخلصوها من شقاء الجاهلية وأوضارها وأوهامها.

     كان فتانا الأسلمي كتلةَ نشاط وقوة ومضاء، وكانت رغبته أن يلحق بالغزاة المجاهدين صادقةً حارة، وهو وإن كان صغيرَ السن، قليلَ الخبرة والتجربة، فإنه كبيرُ القلب، قوي العزم، وافر الجرأة، وقّاد الفؤاد، في نفسه حنين جارف للجهاد، وفي صدره رغبة مُلِحَّة للنجاة من القعود واللحوق بمواكب المجاهدين.

     ومن يدري فلعله يفوز في مخرجه هذا بالشهادة في سبيل الله عز وجل!؟ وتنداح الخواطر في فؤاد الفتى الأسلمي، ويَجْمَحُ به الخيال حتى ليرى نفسه في المعركة وقد اشتدت وعنفت كالأسد الكاسر يجول ويصول غير وجِلٍ ولا هيّاب، يلقي بنفسه في أشد ميادينها عنفاً وضراوة. ويشتد خياله في الجموح، فإذا به يحسَب نفسه يسمع صليل السيوف، وقعقعة الرماح، وصهيلَ الخيل، وهُتافَ الفرسان، وتكبيرَ المجاهدين المسلمين، وقد لاحت لهم بشائر النصر وهم يتواصون بالصبر، ويتداعون للثبات، وينادون للإقدام. لكنه ما يلبث أن يعود إلى الواقع الذي هو فيه فيحزن ويَأْلَم، ويعظم عليه الحزن، ويشتد عليه الألم.

     إنه لا شيء يمنعه من الجهاد سوى أنه فقير، لا يجد زاداً ولا راحلة، ليس له سيف ولا رمح، ولا سهم ولا مُدْيَة، ولا حقيبة ولا كنانة، كيف يذهب للجهاد إذن!؟ أيذهب إلى الميدان أعزل من هذا كلِّه!؟ أيليق به ذلك!؟ وهَبْهُ ذهب!.. أفلا يكون إذا حمي الوطيس واشتد الوغى عضواً أشل لا يقدر حتى على الدفاع عن نفسه إذا احتاج الأمر إلى ذلك؟

     وظل الفتى الأسلمي يخال نفسه مرة وقد طفق مجاهداً في سبيل الله تعالى، فيفرح ويشرق وجهه، وتعلو أساريرَهُ المؤمنة بسمةٌ بهيجة، طليقة طَمُوح، لكنه ما يلبث إذ يجد نفسه عاجزاً عن الخروج مضطراً للقعود مع من تخلف بعذر صادق أو عذر كاذب، أن يحزن ويأسى ويجلس مكلوم الفؤاد.

     وظل على حاله تلك بين حزن وفرح، ألم وأمل، حتى وجد نفسه يتجه إلى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ليخبره أنه يريد الغزو، لكنه لا يجد لديه ما يجهز به.

     أما إنه لشاب كريم ذلك الفتى الأسلمي الهمام. إنه مقبل على الموت يسعى إليه دون خوف، بينما هناك عشرات من المنافقين تتقطع قلوبهم، وتفزع أفئدتهم، وتتمزق نفوسهم إنْ سمعوا ذكر الجهاد والغزو، والقتلِ والقتال. إنهم حين يسمعون مثل هذه السيرة؛ تربدُّ وجوههم، وتعلوها صفرة أشبه بصفرة الموت، وتدور أعينهم في محاجرها، ويبدو على أساريرهم قتام هائل، ورعب غريب.

     شتّان شتّان بين هؤلاء المنافقين الأنذال، وبين هذا الفتى الأسلمي المرقال، إنه مرقال إلى حيث الموت يَفْغَرُ فاه، مؤمِّلاً أن تقوده إلى الجنة رميةٌ بسهم، أو طعنةٌ برمح، أو ضربةٌ بسيف.

     ألا بوركت أيها الفتى الأسلمي المقدام، وبورك النبي الذي ربّاك، وبورك الدين الذي شَرُفْتَ بالانتساب إليه. ما أروع خطاك!.. وأنت تتجه إلى النبي الكريم صلى الله عليه وسلم لتضع بين يديه شكواك النبيلة الكريمة، ورغبتك الصادقة السامية، وهِمَّتَكَ الوقادة الطَّمُوح. وأَمَرَهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم أن يذهب إلى رجل كان قد تجهز للغزو فمرض ليأخذ ما كان قد تجهز به.

     وسرتِ الفرحة في فؤاد الفتى الأسلمي، وامتلأ حبوراً وبهجة، وسارع نحو المجاهد المريض يحمل إليه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. واستقبل المجاهد المريض فتانا الأسلمي خير استقبال، وسارع بطلب من أهله أن يدفعوا له كل ما كان قد تجهّز به دون أن يُنقِصوا منه شيئاً، فإن شيئاً يُنْتَقَصُ من جهاز مجاهد لن يبارَكَ فيه قط.

     وطفق فتانا يشكر أخاه المريض أحرّ شكر وأصدقه وأكرمه، فقد أنقذه من القعود، وأتاح له سبيل الخروج في سبيل الله تعالى، وإنه هو الآخر مأجور مشكور، كيف لا، ومن جهَّز غازياً فقد غزا!؟

     وخرج الفتى الأسلمي وقد اشتد فرحه، وصار قطعة من السرور البهيج الدفَّاق، والفرح الغامر المبين، خرج يعدو ويعدو، وقد شَعَرَ أن قوته تزداد، وبأسه يتعاظم، وأنَّ في مسمعه هتافاً حبيباً يدعوه إلى جنة عرضها السماوات والأرض.
*****

أبو سفيان بن الحارث ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم

أبو سفيان بن الحارث ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم

     هو أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخوه من الرضاعة.. وزميله في النشأة والصبا. ومن العجيب أنه ربما يهتدي البعيد النائي عن داعية الهدى، بينما يصدُّ عن ذلك الأقرباء الذين هم ألصق الناس به، يا سبحان الله! أينفر من الماء العذب من يعيشون إلى جواره، بينما يروى به آخرون بعيدون!؟ إن ذلك كثيراً ما يحدث، وليس في ذلك عجب أو غرابة، فالهداية والإعراض سِرّان من أسرار الله عز وجل.

     من هؤلاء المعرضين عن الماء السائغ، الصادّين عن المنهل العذب، المعادين للحق أن يعلو ويذيع بين الناس، أبو سفيان بن الحارث، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخوه من الرضاعة، وزميله في النشأة والصبا. وسبحان الله! فإن بيده الهداية والضلال.

     لقد نفر أبو سفيان من دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم أشد النفور، وعاداها أشد عداء، مجاهراً بالظلم والعداوة، معانداً للحق، مجافياً للهدى، محارباً للخير محالفاً للشيطان.

     وكان الرجل شاعراً معروفاً في مكة المكرمة، فأخذ يذيع شعره في هجاء الرسول عليه الصلاة والسلام والتنفير من الإسلام. واستمر أبو سفيان بن الحارث على العداوة دهراً طويلاً يقرب من عشرين عاماً قضاها في دنياه الشريرة الباغية.. ثم آنَ للظالم أن يرتدع، وللباغي أن يتوب، وللغافل أن يصحو، وللصادّ أن يثوب، لقد أضاءت شعلة الإيمان فؤاده فإذا به يستنير، وإذا به يتّقِدُ حباً للخير والحق، وإيماناً برسالة الإسلام. كان ذلك قبيل فتح مكة المكرمة.. وعندها مضى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعلن إسلامه بين يديه الكريمتين.

     وقف أبو سفيان بعد عداوة عشرين عاماً أمام نبيه وابن عمه صلى الله عليه وسلم، فأعرض عنه وأشاح عنه بوجهه الكريم. وتحوّل الرجل التائب النادم ليقف في مواجهة الرسول صلى الله عليه وسلم من جديد، فأعرض عنه مرة ثانية.. وعلمت أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها بذلك فشفقت له.. وأخذ أبو سفيان يردد كلمة الشهادة، ويعتذر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فعفا عنه، وقبِل منه، وأوصى به ابن عمه علي بن أبي طالب ليعلّمه الإسلام.

     ويُروى أن أبا سفيان حين انشرح صدره للإسلام جاء ابنَ عمه علي بن أبي طالب الذي نصحه أن يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم من قِبَلِ وجهه ويقولَ له: "تاللّه لقد آثرك الله علينا، وإن كنا لخاطئين"، ففعل أبو سفيان ذلك، فقال له صلى الله عليه وسلم: "لا تثريب عليكم اليوم، يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين".. عندها أنشده أبو سفيان أبياته التي منها:

لعـــمرك إني يوم أحمل رايـة     لتغـلبَ خيلُ اللَّاتِ خيلَ محمدِ
لكالمدلـج الحيران أظلم ليـــله     فهذا أواني حين أُهْدَى فأهتدي
* * *

     وأيّاً كان الأمر!.. فإن أبا سفيان قد دخل مرحلة جديدة في حياته؛ هي مرحلة التكفير والتوبة والتطهير، وإذا به يعود إلى ماضيه كأنه يريد أن يمحوه محواً، ويقتلعه من جذوره. بالأمس هجا المسلمين، واليوم يهجو الشرك، وبالأمس وقف يحارب المسلمين وهو اليوم يحارب معهم، لقد كانت في الرجل حُرقة داخلية، وندم عميق، ورغبة ملحة في بدء حياةٍ جديدةٍ تقوم على الصدق والإيمان والجهاد. وكأن الرجل وجد في الجهاد ضالة هو عنها يبحث، وهو إليها محتاج، وهكذا كان..

     شهد الرجل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة، وغزوة حنين، وغزوة الطائف.. وفي حنين، حين انكشف الناس ثبت ثبات الجبال.. وهو يقود بغلة النبي صلى الله عليه وسلم ومعه ابنه جعفر. ثبت أبو سفيان وجعل يدافع ويقاتل أشد القتال، فنظر إليه العباس بن عبد المطلب وأعجِبَ بما يفعل، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله هذا أخوك وابن عمك أبو سفيان فارض عنه، فقال صلى الله عليه وسلم "قد فعلت، فغفر الله له كل عداوة عادانيها".

     وقف أبو سفيان البطل يجاهد دون خوف أو وجل.. فقد آمن الرجل حقاً، فما عاد يرى لذة في العيش خيراً من نصرة الدين، يكشف عن هذا شِعرُه الذي قاله يوم حنين:

إن ابن عم المرء من أعمامِهِ
بني أبيه قـــوة من قــــــدامِهِ
فــــإن هذا اليوم من أيــــامِهِ
يقـــاتل الحرمي عن إحرامِهِ
يقاتل المســــــلم عن إسلامِهِ

     شِعرٌ يكشف عما كان يختلج في صدر أبي سفيان من أمانٍ ورغبات. إنه أخو الهيجاء حقاً طلباً لثواب الله ومرضاته هاهو يقول:

لقـد علمت أفنـــاء كعب وعامر     غداة حنين حين عم التضعضعُ
بأني أخو الهيجـاء أركب حدها     أمـــام رســـول الله لا أتتعتــــعُ
رجــــاء ثواب الله، والله واسـع     إليه تعـــــالى كل أمر سيـرجعُ

     يا سبحان الله! لقد آمن شِعر الرجل بعد طول كفران، كما آمن قلبه هو الآخر بعد كفران طويل.

     إن تحول أبي سفيان بن الحارث من الجاهلية إلى الإسلام كان تحولاً جذرياً حقيقياً.. سرى في أعمق أعماقه صدقاً وإخلاصاً وتضحية. لقد أسلم الرجل وحسن إسلامه، لذا قال صلى الله عليه وسلم عنه: "ألا إن الله ورسوله قد رضيا عن أبي سفيان بن الحارث؛ فارضوا عنه"، وأمر علياً أن ينادي في الناس بذلك.

     توبة عميقة تلك التي ملكت فؤاد أبي سفيان.. فقد كان له من الإيمان والوفاء والإخلاص حظ كبير.. وحسبك أنه لم يكن يرفع رأسه في وجه الرسول صلى الله عليه وسلم حياءً منه، وحسبك أنه واصل التكفير عن ماضيه بكثرة الصيام والصلاة والعبادة والجهاد، لقد تغيرت حياته تغيراً تاماً، ونقّتهُ التوبة النصوح، ومحّصه الإخلاص الصادق، وشرّفه الجهاد باللسان والسنان.. حتى لقد قال فيه صلى الله عليه وسلم: "أبو سفيان أخي وخيرُ أهلي، وقد أعقبني الله من حمزة بن عبد المطلب أبا سفيان بن الحارث"، لذا كان يُدعى "أسد الله وأسد الرسول".

     ومرت السنوات يتلو بعضها بعضاً، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو سفيان يوالي مسيرته في دروب الهداية والبر والجهاد.. وبينما كان يؤدي الحج جُرِح في رأسه فمرض فمات.. وفي مرضه كان يقول لأهله المحيطين به وعيناه تتقدان بالصدق والصفاء: "لا تبكوا عليّ، فإني لم أتنطَّق بخطيئة منذ أسلمت".

     أيها الصحابي الشاعر المجاهد! رحمك الله، وأكرمك، ورضي عنك وغفر لك، فقد كانت مواقفك بعد إسلامك قمة شامخة عنيفة في الصدق والصبر، والفضيلة والبر، والجهاد والتضحية؛ مواقف تكشف أيَّ عظيمٍ كنت، وأيَّ بطل كنت، وأيَّ مجاهد مؤمن منيب صادق، صاغه الإسلام.
*****

المِرقالُ.. شهيد القادسية

المِرْقَالُ.. شهيد القادسية

قد أكثروا لَوْمِي وما أقَــــلّا
إني شريتُ النفسَ لنْ أعتلّا
أعْوَرُ[1] يَبْغي أهلُهُ مَحَـلّ
قد عالجَ الحيــــاةَ حتى ملّا
لا بـدَّ أن يَفُلَّ أو يُفَـــلّا[2]

     أسمعتَ هذه الأهزوجةَ يترنَّمُ بها بطلٌ كَمِيٌّ شجاع؟ أصافحتْ أذنيكَ أنغامها الرائعة وترنيمتها الحيّة التي تعُجُّ بمعاني البطولةِ والرجولةِ والإباء؟ إنّ هناك من يلوم البطل المرقالَ على مواقفه، وعلى مبادرته إلى التزامِ الحق، ومُسارعتِه في محاربة الباطل.. هناك من يدعوه إلى الرَّيْثِ ويُحذِّرُه من عقابيل المبادرة والسرعة.

     وقد يكون لهؤلاء اللائمين عذرٌ فيما يبدو لهم، لكن البطل المرقالَ لم يكن ليوافقهم على ذلك ولم يكن ليفعلَ ما يريدون.. ذلك أنه كانت له قناعاتٌ أخرى تحمِلُه على اتخاذِ ما يطيبُ له وما يقتنعُ به من مواقف.

     كان الأمرُ عنده لا يتجاوز أن يكون حقاً أو باطلاً.. فإن كان باطلاً فهو ناءٍ عنه بعيد، وإن كان حقاً فهو ملتزمٌ له حريص عليه إليهِ مُسارع، ومِن أجل ذلك عُرِف بذلك اللقب الكريم "المرقال". والمرقالُ هو الذي يُسرِع في سفره ولا يتمهل. ولمّا كان بطلنا ممّن يمضي في الحربِ مُسرِعاً لا يتردد، مُنطلِقاً لا يُحجِم فقد منحه إخوانه ذلك اللقب الذي يكشفُ عن نفسيته من ناحية، وعن مواقفِه من ناحيةٍ أخرى.

     وكان المرقال يحيا بعينٍ واحدةٍ فحسب، لكن ذلك لم يكن لِيقعُدَ به قط عن الجهاد فقد كان الإرقال إلى المكرمات طبعاً فيه وسجية.. ولعله من أجل ذلك كثُرَ عليه اللائمون.. يريدون منه أن يغيّر من مواقفه لكن، أنّى لهم، وأنّى له ذلك؟

     هم يلومونه، لكنه هو قد باعَ نفسه، فالأمر إذن قد انتهى، والصفقة إذن قد تمت فلا محل للتراجع والنكوص. ثم هو رجلٌ قد عالجَ الحياةَ طويلاً، وذاق حلوَها ومُرَّها، فكان أنْ ملَّ من ذلك كلِّه.. فتاقت نفسه إلى الشهادة يحظى بها ويفوز، وإنه إذ ذاك لسعيدٌ جدُّ سعيد، وإذن فإن للبطل المرقال عُذرَهُ الواضح البيِّنَ فيما يفعل.. فهو لا بد أن يَفُلَّ أو يُفَلَّ، وهو من الحياة قد مَلّ، وهو على الشهادةِ حريصٌ جدُّ حريص، وإذن فإن إجابتَه لمن يلومُه هي:

قد أكثروا لَوْمِي وما أقَــــلّا
إني شريتُ النفسَ لنْ أعتلّا
أعْــــــوَرُ يَبْغي أهلُهُ مَحَـلّ
قد عالجَ الحيــــاةَ حتى ملّا
لا بـدَّ أن يَفُـــــــلَّ أو يُفَـــلّا

     ومنذ أسلم الرجل يوم فتح مكة المكرمة، مضى في حياته الجديدة على تلك السجية النبيلة، سجية الإرقال إلى المكرمات والجهاد، وإلى كل ما يقتنع بصحته وصوابه محتمِلاً في ذلك جميعَ ما يترتبُ عليه من أمورٍ مهما كانت فادحةً ثقيلة.

     وكأن المرقالَ لم يجِدْ لنفسه شيئاً كالجهاد في سبيل الله، لا سيما أنه تأخر في إسلامه دهراً ليس بالقصير، لذا طفِق يمضي في هذا الميدان بكل ما يقدر عليه من قوةٍ وجهدٍ وبلاء.. وفعلاً كانت له جولاتٌ كريمة مشهودة أخلصَ فيها أيّما إخلاص، وسَما إلى ذرى البطولةِ والصدقِ والتضحية.. وفي فتحِ العراقِ وفارس كان للمرقالِ دورٌ كبير كشف عن همته وعزيمته، وشجاعتهِ وبطولته، وصفاءِ نفسه، وأصالةِ معدنه.

     ففي القادسية أبلى أحسنَ بلاءٍ وثبَت ثبات الجبال.. وكان سيفه صوّالاً جوّالاً في رقاب عَبَدةِ النار. وحين عقد له سعدُ بن أبي وقاص رضي الله عنه لواء الإمارة على الجيش الذي أعدّه لقتالِ "يزدجر" آخر أكاسرة الفرس نهض المرقالُ بأعباء القيادة أحسن نهوضٍ في معركة جَلَوْلاء التي كانت شديدة العنف والضراوة حتى سماها المسلمون "جَلَوْلاءَ الوقيعة" وكان لهم فيها النصر المبين.. وكان المرقال يحمل بيده اللواء، ويقاتل مردداً هذه الأبيات التي يَعني بها نفسَه:

أعْـــــــوَرُ يبغي نفسَــــه خلاصا     مِثلُ الفنِيقِ[3] لابساً دِلاصا[4]
قــد جرَّبَ الحربَ ولا أنـاصــــا     لا ديـــةً يخشى ولا قِصــــــاصا
كلُّ امرئٍ وإنْ كبـــــا وحاصـــا     ليس يرى من موتِه مَنــــــــاصا

     إنها أبياتٌ رائعة هذه التي يهزجُ بها المرقال حين تضطرم المعركة وتشتد. إنه يرجو لنفسه الخلاص.. وهذا لا يكونُ إلا بالشهادة، إذن فما عليه إلا أن يجاهدَ ويجاهدَ عسى أن يفوزَ بما يؤمّل.. وما دام الموت ليس منه مناص فَلْيَكُنِ الإقدام، ولتكنِ الشجاعة، وليكنِ الجهاد الدائبُ الموصول الذي لا يهدأ ولا يلين.

     ويمكنُ لك أن ترى في قَوْلَةٍ وجيزةٍ للمرقال خلاصة حياته الكريمة بعد إسلامه. لقد كان يقول للمجاهدين من حوله داعياً إياهم للثباتِ والإقدام، والبذل والجهاد، حينَ يحمى وطيسُ المعركة: "ألا من كانت له إلى الله حاجة ومن كان يريد الآخرة فَلْيُقْبِل".. هكذا الأمر إذن ببساطةٍ ويُسرٍ ووضوح، طريقٌ بيّنةٌ واضحةٌ لاحِبَةٌ لِمن يريدُ الآخرة.. أن يتقدمَ ويجاهدَ ويضربَ حتى يكسبَ الشهادة، وعند ذلك فهو الفائزُ السعيد.

     ظلَّ البطلُ طِيلة حياته بعد إسلامه مرقالاً لا يهدأ، مسارعاً للمكرمات، مبادراً للجهاد، مؤمّلاً أن يفوز بالشهادة التي صارت عنده أحسنَ أمانيه وأحلاها.. اسمع هذه الأبياتَ التي قالها إذ هو مع الإمامِ علي بن أبي طالب لترى أنَّ من لقَّبه بالمرقالِ كان على معرفةٍ بنفسيتهِ دقيقةٍ ومحيطة، إنه يقول:

وسِــرْنـــــا إلى خيرِ البريَّـــــةِ كلِّها
               على عِلمِنـــا أنّــــــا إلى اللهِ نرجِــعُ
نوقِّــــرُهُ في فضـــــلِهِ ونُجِــــــــــلُّهُ
               وفي اللهِ ما نرجــــو وما نتـوقَّـــــــعُ
ونَخْصِفُ أخفافَ المَطِيِّ على الوجا
               وفي اللهِ ما نرمي، وفي الله نُوضِــعُ
دَلَفْنا بجـــمعٍ آثروا الحــــقَّ والهدى
               إلى ذي تُقىً في نَصْــــرِهِ نتســــرَّعُ
نكـــافحُ عنهُ والسيــــوفُ شهيــــرةٌ
               تصـــافحُ أعناقَ الرجـــــــالِ فتَقْطَعُ

     لعلكَ لم يَفُتْكَ أن تُمعِن النظرَ في قوله: "إلى ذي تُقىً في نَصْرِهِ نتسرَّعُ"، ومتى ذلك؟ إنّ ذلك حين تُشهَرُ السيوفُ وتحتدمُ المعركة، فتصافحُ السيوفُ الأعناقَ، ويكثر القتلُ بين الناس.

     ومرةً نشبت إحدى المعارك، وكانت عنيفةً ضارية، ومضى فيها البطل المرقال هاشمُ بن عتبةَ بن أبي وقاص رضي الله عنه مقبِلاً غيرَ مدبِر، صابراً واثِقاً محتسباً.. حتى تكاثر عليه الناس، فإذا به يسقط شهيداً مبروراً مجيداً ليفوز بالأمنية التي طالما رَجا وأمَّل. رحمكَ الله يا هاشم، وأجزلَ لك الثواب، ورحم الله من قال فيك:

يا هــاشمَ الخيرِ جُزِيتَ الجنَّــةْ     قاتــــلتَ في الله عدوَّ السُّـــــنَّةْ
والتَّاركي الحقِّ، وأهلَ الظِنَّــةْ     أعظِمْ بما فُزْتَ بهِ مِنْ مِنَّةْ[5]
*****
------------
[1] أصيب المِرْقال، واسمه هاشم بن عتبة في معركة اليرموك في إحدى عينيه، فهو يسمي نفسه الأعور.
[2] هذا الرجز، وسائر الأشعار الواردة من شعر المِرْقال هاشم بن عتبة.
[3] الفنيق: فَنَقَ ـِ فَنْقاً: تنعّم في عيشه. و(الفَنِيق) من الإبل: الفحل. (ج) فُنُق. (الفَنِيقَة) من النساء: المنعَّمَة. (المعجم الوسيط).
[4] دَلَصَتِ الدِّرْعُ ـُ دَلاصَةً: لانت. و ـ الشيءُ: بَرَقَ ولَمَعَ. والدِّلاصُ: اللَّيِّن البَرَّاقُ الأَمْلَسُ. ودِرْعٌ دِلاَصٌ: ليِّنَة. (ج) دِلاصٌ. (المعجم الوسيط).
[5] شعر أبي الطفيل القرشي.

أبو خيثمة وغزوة تبوك

أبو خيثمة وغزوة تبوك

     أقبلت غزوة تبوك في السنة التاسعة للهجرة، لتكون امتحاناً جديداً للمسلمين.. صبرِهم وبلائِهم، سمعهم ونشاطهم، إيثارهم واحتمالهم. أقبلت في فصل الصيف الحار المرهق.. حين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين للخروج من المدينة المنورة لغزو الروم في تبوك.

     الزمن هو الصيف، حيث تنصبُّ الشمس على رمال الطريق ليكون شيئاً أشبه بالفرن المتّقد.. والطريق طويل فهو يبلغ (700كم) على الجيش المجاهد الغازي أن يقطعها.. والعدو وهو الروم متجبر متنمر مدل بعدده وعدته.

     وفي هذه الصعاب هتف داعي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسلمين في المدينة المنورة أن هيّا إلى الجهاد.. وسارع المسلمون يلبون النداء على الرغم من الحر المتقد، والطريق الطويل، والعدو القوي.

     وكانت الثمار في بساتين المدينة المنورة قد طابت، وآن قطافها.. وكانت طيبة ناضجة.. النظر إليها طيب، وطعمها لذيذ.

     وكان الناس في مثل هذا الوقت من العام يطيب لهم كثيراً أن يسارعوا إلى بساتينهم يهربون إليها من الحر المتقد والشمس الضاربة، والريح التي تأتي حارة تلفح الوجوه والأجسام.. ففي بساتينهم ماء سائغ، وظل ظليل، وفاكهة طابت وحسُنَت، وآن القطاف.

     لكن الناس مع ذلك كله سارعوا إلى اللحاق بجيشه صلى الله عليه وسلم تاركين هذه اللذائذ والمغريات جميعاً؛ ذلك أنهم قد عرفوا أن ما عند الله خير وأبقى.

     وفصل الجيش المسلم من المدينة المنورة بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم راحلاً إلى تبوك ترفعه رافعة، وتخفضه خافضة، لا يريد علواً في الأرض ولا فساداً، وإنما يريد نشر الحق، ومحاربة الباطل، وإسعاد الناس بالرسالة الجديدة.. رسالة الإسلام.

     وعاد إلى المدينة المنورة بعد أيام قلائل من رحيل الجيش المسلم صحابي كريم هو أبو خيثمة، ذلك أنه كان غائباً عنها منذ هتف الداعي بالخروج حتى كان الرحيل المبارك في سبيل الله عز وجل.

     عاد أبو خيثمة ليجد المدينة المنورة تكاد تكون خالية من الرجال، فليس فيها سوى بعض العاجزين المعذورين، وعدد يسير جداً من المؤمنين المتخلفين الفقراء، وقوم آخرون ممن عُرِفوا بالنفاق.. أولئك هم الرجال الذين لقيهم أبو خيثمة حين عاد من سفره إلى المدينة المنورة بعد رحيل الجيش المسلم.

     وكانت عودته في وقت شديد الحرارة، ملتهب القيظ.. فعجّل بالذهاب إلى بيته حيث التقى بزوجتيه، وكل منهما في عريش داخل بستانه، وكل منهما قد برّدت له الماء، وهيأت له الطعام، ورشت الماء أمام عريشها، فإذا به يبرد ويطيب ويحلو.

     واجتمع للرجل الماء العذب السائغ، والظل الظليل الوارف، والزوجتان الكريمتان، والخضرة الجميلة، والفاكهة الناضجة اللذيذة.. كل ذلك أخذ يدعو أبا خيثمة، وكأنه يقول له: فرصة طيبة فانتهزها، الحر شديد، والتراب كأنه موقد، والحصى كالجمر، وأنت قادم من سفر، والمكان الآن ظليل جميل، والماء بارد، والعريشان طلقان ناشطان، والطعام طيب، والفاكهة ناضرة، والخضرة حلوة المنظر، والزوجتان تحفّان بك تخدمانك كيف تشاء، فاقعد، اقعد ولا تدع هذه النعمة تفلت من يديك.

     اقعد يا أبا خيثمة.. فما أنت واللحوق بالجيش المسلم!؟ فالصحراء الآن تنُّور متقد وهّاج، والسفر يشق فيها للجماعة، فكيف لك وأنت راكب منفرد!؟ هب راحلتك شردت منك!.. هب ماءك نفد!.. هب زادك لم يبقَ منه شيء!.. هبك ضللت الطريق!.. فما أنت فاعل في الصحراء وحيداً منفرداً!؟

     اقعد يا أبا خيثمة!.. فإن لك من ذلك كله عذراً أي عذر.. ولا تنسَ أنك لم تكن في المدينة ساعة دُعِي المسلمون للخروج فأجابوا.. ولم تكن حاضراً حين خرج الجيش فأنت معذور إذن من جهة أخرى.. وما عليك إذن أن تبقى حيث أنت!؟ كذلك تحدثت النفس، نفس أبي خيثمة، وكذلك وسوس رسول الشيطان.

     لكن صوتاً آخر طفق يهتف بعنف وإلحاح في مسمع أبي خيثمة، هو صوت الضمير المؤمن الذي ربّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفوس أتباعه الكرام الأوفياء، طفق يهتف ويقول: لا يا أبا خيثمة! حذار من القعود!.. اخرج في الحال، والحق برسول الله صلى الله عليه وسلم وجيشه المجاهد.. حذار أن تُؤثِرَ الدنيا على الآخرة!.. حذار من الإخلاد، البدارَ البدارَ إلى الخروج!.. فالدنيا رحلة وجيزة مهما طال عمر الإنسان، فلا يغررك ما ترى من ماء وثمر وظل وأهل..

     إنك لو تدبرت وأمعنت النظر لعلمت أن حصباء الطريق الملتهبة خير لك من هذين العريشين الباردين، وأن ما تحمله معك في قربتك من ماء قليل خير لك من الماء العذب البارد الذي أعدّته لك زوجتاك.. وأنّ خطوة واحدة تقطعها في الطريق إلى تبوك خير لك من كل ما يلذ لعينك مما في بستانك الذي جئت إليه، وأن ساعة تقضيها على متن راحلتك تحت الشمس المتقدة خير لك من ليالٍ طويلة وأيام كثيرة تقضيها حيث الماء والخضرة والوجه الحسن، وهو ما يدعوك إليه ما في نفسك ونفس كل إنسان من ضعف بشري!.

     واستمرت المعركة بين الهاتفين، هاتف الضعف الذي يدعو أبا خيثمة لدخول البستان والاستمتاع بطيبات ما فيه، وهاتف الإيمان الذي يدعوه للاستعلاء على هذا كله، وإيثار الآخرة على الدنيا، واللحاق برسول الله صلى الله عليه وسلم.

     وظل أبو خيثمة واقفاً لا يتحرك، ثابتاً لا يريم، كأنه قد سمر إلى الأرض، فما هو بقادر على الدخول أو الخروج.

     وطالت المعركة، وامتد الصراع، وأدركتِ الصحابيَّ الكريمَ رحمة من الله تعالى؛ فإذا به ينتصر على نفسه أيما انتصار!.. لقد فضّل الخروج على القعود، والنَّصَب على الراحة، والمشقة على الدعة، والحر اللافح على الهواء البارد.. لقد فضّل الأخرى على الدنيا.

     قال أبو خيثمة وهو ينظر إلى زوجتيه وما صنعتا له في حزن ولوم: رسول الله صلى الله عليه وسلم في الضحِّ والريح والحر، وأبو خيثمة في ظل بارد، وطعام مُهيّأ، وامرأة حسناء، في ماله مقيم؟ ما هذا بالنَّصَف!.. والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألتحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فهيِّئا لي زاداً.

     لقد انتصر البطل على نفسه، فاستعلى وارتفع، فكان تلميذاً نجيباً وفياً من تلاميذ مدرسة النبوة الطاهرة.. لقد جعله إيمانه الوثيق يُؤثِر احتمال مسؤوليته جندياً مؤمناً في الدولة المسلمة على دواعي القعود والإخلاد..

     إن الدولة المسلمة الناشئة تصوغ اليوم بدء حضارة جديدة تُكرِمُ الإنسان، وتُعلي كلمة الحق، وتُذِيع دعاء القرآن، وتحارب الوثنية والخرافة.. وهو عمل شاق ثقيل لا يقوم به إلا الرجال الكرام الأوفياء لما يعتقدون، المثابرون على السير في طريقهم مهما تكن الصعاب.. فكيف ينكص أبو خيثمة عن احتمال مسؤوليته في صياغة أكرم وأشرف وأسعد حضارة عرفها الإنسان!؟

     لم يكن أبو خيثمة لينكص، ولم يكن أبو خيثمة ليستبدل الأدنى بالذي هو خير.. وهكذا كان!. حمل سلاحه وزاده وركب راحلته، وانطلق يطوي الطريق اللاحب البعيد صوب غايته الكريمة المثلى.

     وذات يوم لاح للمسلمين الغزاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم طيف شخص مقبل من بعيد يختفي ويظهر، ويبدو ويغيب، فسارعوا يبلغونه الأمر، فقال عليه الصلاة والسلام: "كن أبا خيثمة!".

     وكان الرجل هو أبا خيثمة حقاً، واقترب من رسول الله صلى الله عليه وسلم خاشع الطرف، خافض الرأس، وئيد الخطى، وألقى عليه السلام، واعتذر إليه في صدق وإخلاص، فقبل عذره ودعا له بخير.

     رحمك الله يا أبا خيثمة، وأجزل لك الثواب!.. فلقد كنتَ مؤمناً صادقاً، وثيق الإيمان.. ما أروع قولك عن هذا الموقف الكريم!:

ولما رأيت النــــاس في الدين نـــافقوا     أتيــــتُ التي كانت أعفَّ وأكــــــرما
وبـــايعـت باليمنى يــــــدي لمحــــمد     فــــلم أكسبِ اثْماً ولم أغشَ محــــرما
تركت خضيبــــاً في العريش وحرمة     صفــــايا كراماً بُسْــــرها قد تحـــمما
وكنت إذا شك المنــــافق أسمحــــــت     إلى الدين نفسي شطره حيث يمما[1]
*****
-------------
[1] شعر أبي خيثمة، واسمه مالك بن قيس.

أبو طلحة الأنصاري.. ينفر ثقالاً

أبو طلحة الأنصاري.. ينفر ثقالاً

     كان يقرأ في كتابِ الله عز وجل حينَ استوقفَه قولُه تعالى في سورةِ براءة: "انفروا خِفافاً وثِقالاً"؛ فإذا به يهتفُ بأبنائه قائلاً: "لا أرى ربَّنا إلا يستنفِرُنا شباباً وشيوخاً.. يا بَنِيَّ جهِّزوني، جهِّزوني".

     والتفتَ الأبناءُ ينظرون إلى بعضِهم، وقد عقدت الدهشةُ ألسِنتَهم، وامتلكَهم عجَبٌ وإعجاب.. أما العجبُ فمِن هذا الوالد الذي يحملُ على كتفيه سنواتٍ طوالاً قضاها في جهادٍ دائبٍ وحركةٍ لا تنقطع، ثم هو يريدُ اليومَ أن يجهزوه للخروجِ بعدَ أن رأى أنّه لا عذرَ له.. وأما الإعجابُ فبنفسِه التي لا تزال تتقِدُ حماسةً وحميّةً، وقلبِه الذي لا يزال عامِراً بالحيوية والبطولة، وروحِه التي لا تزالُ تسمو وتعلو، وإيمانه الذي لا يرضى له القعودَ والكسل.

     ولو أنَّ الرجلَ ظلَّ حيث هو في هدوءٍ ودَعة، يعبُد الله عز وجل مُخلِصاً له الدين، مُخبِتاً مُنِيباً إليه لَما كان موضِعَ لومِ أحدٍ قط، ذلك أنَّه قد امتدّ به العمر، وتطاولت به الأيام ثم إنه غزا في سبيل الله فأبلى أحسنَ البلاء، طَوالَ مدةٍ ليست بالقصيرة.. لقد غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات، وغزا مع الخليفة الصِّدِّيق حتى مات، وغزا مع الخليفة عمر حتى مات، وإذن فإنَّ عُذرَهُ بَيِّنٌ، ليس بحاجةٍ أن يتَقَيَّدَ له الشواهدَ، فالناس تدري مِن أمره، وتعلمُ من سيرته، وتعرفُ من بطولته، ما يقومُ دليلاً لا يُرَدُّ؛ أنَّ الرجلَ معذورٌ عن الخروج.. فهو كبيرٌ في السِّن.. وهو غزا وغزا وأبلى.. ثم إنَّ له فِتيةً آمنوا وصَدَّقوا يغزونَ ويجاهدون.

     لكنَّ الرجل الذي ملأه الإسلام بالبطولة، وشَحَنه الإيمانُ بالفِداء.. وأوقَد فيهِ كتاب الله تعالى حُبَّ الشهادةِ كان قد توقَّفَ عندَ قولِ الله عز وجل: "انْفِرُوا خِفَافاً وثِقَالاً"؛ فرأى أن لا عُذرَ له قط، فهو إما خفيفٌ يقدرُ على الحركة والسفر والجهاد، وإما ثقيلٌ يُتعِبُهُ ذلك ويَؤوده، وهو في الحالينِ مُطالبٌ أن ينفر. لذا سارعَ يقول: "لا أرى ربَّنا إلا يستنفِرُنا شباباً وشيوخاً.. يا بَنِيَّ جهِّزوني، جهِّزوني".

     "يا بَنِيَّ جهِّزوني جهِّزوني"؛ قولةٌ تكشِف عن عُمقِ الإحساسِ بالمسؤوليةِ التي أوقدَها الإسلامُ في قلوبِ أتباعه. قولةٌ تكشف عن دوحِ الجِدِّ العميق في نفوس أولئك الرجال الذين صاغوا أكرمَ حضارةٍ عرفها الإنسان منذُ كان، قولةٌ تكشفُ عن النَّقلَةِ الشاسعةِ البعيدة التي أحدثها محمدٌ صلى الله عليه وسلم لدى ذلك الجيل القرآني الفريد الذي ربّاه فأحسنَ تربيتَه، فكانَ منه العَجَبُ العُجاب.

     "يا بَنِيَّ جهِّزوني جهِّزوني"؛ قالها الرجلُ لأولادهِ الذين يقفون من حولِه، بعدَ أن استوقفَه قول الله عز وجل، ورأى أنْ ليس له من الجهادِ فكاك..

     وقف أولادُ الرجلِ ينظرون إليهِ وقد تملَّكَهم العجب والإعجاب، واستولت عليهم مشاعِرُ التعظيم والإكبار.

     وقطعَ الصمتَ واحدٌ مِنهم يقول لوالده: "يرْحَمُكَ الله! قد غزوتَ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات، ومع أبي بكرٍ رضي الله عنه حتى مات، ومع عمرَ رضي الله عنه حتى مات".

     وسكت القائل، ورانَ على المكانِ صمتٌ جليل، والقائلُ قد أيقن، والآخرون قد أيقنوا أن الوالدَ قد اقتنعَ بتلك الحجةِ القوية، فعدل عن فكرة الخروج.. لكنَّ الرجل الذي استوقفه قول الله عز وجل، وامتلكَ عليه كلَّ إحساسه لم يقتنع بما قال ابنُه. إنه يرى نفسه مُطالَباً بالغزو.. وهل هو إلا خفيفٌ أو ثقيل؟ لذا رجعت قولتُه تصْدُرُ عنه كالضوء الساطع: "لا أرى ربَّنا إلا يستنفِرُنا شباباً وشيوخاً.. يا بَنِيَّ جهِّزوني، جهِّزوني".. وعاد الصمتُ الجليلُ يسودُ المكان.. وعاد الأبُ ينظرُ إلى أولادِه.. وعاد الأولاد إلى أبيهم ينظرون.

     وكأنَّ القائلَ الأولَ قد وجدَ حُجَّةً جديدةً قوية يُلْقي بها ليقطع الصمتَ الجليل الذي طال، وكأنه فَرحَ بها واستبشر، فإذا به يقول لأبيه: "فدَعْنا نَغْزُ عنك".. دَعْنا نَغْزُ عنك.. قَوْلَةٌ رائعة هي الأخرى تَسْتقي من المعينِ النبيل الذي استقت منه قولةُ الأب: "يا بَنِيَّ جهِّزوني جهِّزوني".. إنه معينٌ واحدٌ هو الذي رَوِيَ منه الأب، ورَوِيَ منهُ الأولاد، فإذا بالجهاد، وهو تَعَبٌ وجهدٌ ومشقة، وهو غربةٌ وجوعٌ وعطش، وهو جِراحٌ وقتلٌ وموت.. يغدو أُمنِيةً حلوة عزيزة يتسابقُ القومُ من أجل الحصول عليها والفوز بها. وربما خالَ المرءُ أنَّ أبا طلحةَ اقتنعَ هذه المرةَ بحجةِ الابن القائل، ذلك أنَّ فيها غزواً وخروجاً في سبيلِ الله، وانتصاراً على نوازعِ القعودِ والإخلاد حيث الأهلُ والوطنُ والمسكن، والرزق الدارُّ الهانئ.

     "يا بَنِيَّ جهِّزوني جهِّزوني!".. عاد أبو طلحةَ يقولها.. وعاد الأولاد يسمعونها.. وإذ رأوا عزماً لا يلين، وهمةً لا تَنْكُل.. جهَّزوا الأب الذي غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات، وغزا طوالَ عهدِ الصِّدِّيق حتى مات، وغزا طوالَ عهدِ عمرَ حتى مات. جهَّزهُ أبناؤه وخرجَ مُجاهداً في البحر، وركبَ متونَ أمواجه العالية.. ومات وهو في غَزَاتِه هذه.

     وانتظر مَن في السفينة سبعة أيامٍ حتى مروا بجزيرةٍ في البحر فدفنوه فيها، وهو لم يتغير. لقد أدركَ أبو طلحة غايتَه، وكسب الميتَة التي أراد، وفاز بالرضوان العميم. رحمك الله يا أبا طلحة، وأجزلَ لك المثوبة.. كأنَّ قولتك: "يا بَنِيَّ جهِّزوني جهِّزوني".. سوطُ نَكالٍ وسخرية يُلهِب ظهور المتواكلين القاعدين.
*****

الأكثر مشاهدة