السبت، 25 ديسمبر 2021

حكاية عاقبة

حكاية عاقبة

     ظل القاضي عاقبة بن يزيد يطيل النظر في الخصومة التي بين يديه، ويقلب فيها أوجه النظر، ويفكر، ويتأمل، راجياً أن يجد الحق، أين هو بين هذين الخصمين فيحكم به.

     ولم يكن عاقبة بالرجل الذي تشتبه عليه الأمور، أو المرء الذي تضطرب عنده الموازين، أو القاضي الذي يجبن أو يتلكأ، كان رجلاً ملء إهابه وأزيد، كان مؤهلاً أحسن ما يكون التأهيل ليغدو قاضياً بارعاً ممتازاً، فهو ذو علم جامع، وهو ذو ذكاء متقد، وهو صاحب صبر وأناة، ثم هو صاحب استقامة وتقوى، يصدع بالحق ويحكم به، ولا يخاف في الله لومة لائم.

     وإذن فقد اجتمعت فيه كل الصفات الممتازة النادرة، التي تتكامل وتتناغم، ليكون بها - بإذن الله - من القضاة الممتازين النادرين.

     ومع ذلك كله لم يستطع عاقبة أن يصل إلى الحق فيحكم به فيريح ويستريح، ذلك أن المشكلة معقدة، والشكوى ذات شعب وفروع، والأدلة مفقودة، والقرائن غائبة، وليس ثمة بصيص من نور.

     وكأن عاقبة وجد في التأجيل حلاً يرتاح إليه بعض الشيء، يلجأ فيه إلى الله تعالى طالباً منه العون. لذا طالت المدة واستغرقت القضية ما لم يستغرقه سواها وقتاً وجهداً، ولعله كان يبصر في تراخي الزمن راحة للنفس وأملاً في الحل.

     لكنه بعد ذلك كله، لم يصل إلى ما كان يرجوه، فلزمه حزن وهم، وجاشت في نفسه رغبة حارة أن يصطلح الخصمان حتى ينصرفا راضيين، دون أن يضطر إلى إصدار حكم ينوء به وجدانه التقي النقي.

     يا لها من قضية شائكة، ويا له من قاض متحرج، إن له حدوداً من الشرع لا يقدر على تجاوزها، وهو بها مقيد ملزم، وهو سعيد بهذه القيود، فرح بهذا الإلزام، وإن من القيود ما هو نافع أعظم النفع، وإن من الإلزام ما هو خير من الحرية. وإذن فإن عاقبة لم يكن ضيق الصدر بما يحيط به من حدود وقيود فهي ضوابط وموازين للخير والشر، لكنه كان ضيق الصدر من عجزه عن الوصول إلى الحقيقة.

     يأتي الخصم الأول ومعه شهود وحجج، ومعه بينة وأدلة، ويأتي الثاني ومعه مثل ذلك أو ما هو أزيد، ويخلو عاقبة بنفسه ليقول في ضراعة حارة: رباه أعني وارحمني وخذ بيدي في هذه المعضلة المستعصية، إنني كالسائر في ليل بهيم، والظلمة حوله مطبقة متراكبة.

* * *

     وظل أمد القضية يتراخى حتى جاء ذلك اليوم.

     قرع باب عاقبة في وقت راحة وهدأة، وكانت فرحة القاضي غامرة حين نظر فوجد أحد الخصمين واقفاً بالباب.

     فرحة من الأعماق هزت فؤاد القاضي الأمين الحائر، فإن قدوم الرجل إلى داره في مثل هذا الوقت لا يتعدى أمرين اثنين: إما أن الرجل قد وقع على أدلة لا تدفع تجعل الحكم لصالحه، وإما أنه اصطلح مع خصمه.

     والأمران طيبان، فما أحسن أن تتبدد سحب الأوهام فيحكم القاضي بالحق وهو من أمره على يقين، وإما أن يكون الصلح والصلح خير. لذا كانت فرحة القاضي كبيرة حين رأى الرجل يستأذنه في الدخول فأذن له.

* * *

     لكن فرحة عاقبة انقلبت إلى حزن وحسرة، ذلك أن الرجل القادم إليه، عرف من بعض الناس أنه يحب الرطب، فعمد إلى جمع قدر طيب منه، مما لذ منه وزكا، وجاء به إلى داره بعد أن رشا البواب ليدخل طبق الرطب إليه.

     ونظر عاقبة إلى الطبق المملوء، فأدرك أنها رشوة ذميمة من رجل ذميم، لعل صاحبها ظنه قاضياً من قضاة السوء فجاءه بها، ولم يلبث أن فعل المعهود من أمثاله، ردّ الرشوة، وطرد صاحبها، وأغلظ له القول. بل إنه أخذ يفتش في نفسه متخوفاً أن يكون فيها عيبٌ لم ينتبه إليه، جعل صاحب الرطب يظن به السوء.

* * *

     في اليوم التالي تقدم الخصمان إلى عاقبة الذي توهم أن نفسه تميل إلى صاحب الرطب، فعظم عليه الأمر، واستهوله، وتخوف أنه لم يعد قادراً على النظر إلى الخصمين بعين واحدة، وأحس أن نزاهته وتقواه، وسمعته وعدالته، موضع امتحان خطير. عندها سارع إلى المهدي، أمير المؤمنين، يحث خطاه صوب قصره في بغداد، وجاء الإذن بالدخول، كيف لا؟ والقاضي العلم النزيه هو من يستأذن؟

     وحين وقف القاضي بين يدي الخليفة، استعفاه من القضاء، ولكن الخليفة تريث، وظن أن بعض الناس تطاول عليه أو رد حكمه، فاستوضح الأمر فوضّحه له عاقبة، وبيّن له خوفه من أن طبق الرطب المردود ربما يدفعه إلى الانحياز إلى صاحبه، فجاء إلى الخليفة يطلب الإقالة قائلاً له: لا آمن أن تقع عليّ حيلة في ديني، وقد فسد الناس، فأقلني يا أمير المؤمنين، وأعفني عفا الله عنك.

* * *

     دهش الخليفة العظيم، وأعجب بقاضيه الألمعي النزيه، وساد الصمت الجليل المكان، وانصرف الجميع معجبين بما كان، وخلا الزمان بنفسه ليروي لنا هذه القصة الرائعة، لنجد فيها نموذجاً يحتذى، وحكاية تروى، فتملأ علينا عقولنا وضمائرنا، ونعجب بها أشد الإعجاب، ونحس بها طريّة شيّقة، بعد وقوعها بأكثر من ألف عام.

* * *

الصحابة في سقيفة بني ساعدة

الصحابة في سقيفة بني ساعدة

     أدركني خوف شديد وأنا أقرأ مقالة الأستاذ إبراهيم البليهي "التشرذم العربي" في "الأربعاء" ملحق جريدة المدينة الغراء 17/ 3/ 1423هـ - 29/ 5/ 2002م، فالمقالة ملأى بالمبالغة والتعميم والنظر إلى جزء من الصورة وتجاهل أجزاء أخرى.

     وقارئ المقالة - إذا استسلم لها - سوف ينتهي إلى أن العرب أمة لا تصلح لشيء، وهي مجموعة نقائص وفضائح ومخاز مخجلة.

     وحين فكرت في الرد وجدت أن المقالة ملأى بأمور كثيرة جداً، بحيث إذا تتبعها الإنسان طال الرد وربما تحول إلى كتاب، فآثرت أن أقف عند أمر واحد فقط هو موقف الصحابة الكرامy في سقيفة بني ساعدة حين توفي الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.

     هذا الموقف حشده الأستاذ البليهي ضمن ما حشد للعرب من مخاز ونقائص وفضائح، ووظفه على أنه تنازع على السلطة، فقال: "ثم إنه قبل أن يقبر الرسول صلى الله عليه وسلم ظهر التنازع على السلطة"، ثم استرسل في استعراض ما حشده.

* * *

     والحقيقة أن موقف الصحابة في سقيفة بني ساعدة موقف جدير بكل احترام وإجلال وثناء، إنه موقف يتسم بالشجاعة، والمسؤولية، والشورى، والحسم، والحوار الأخلاقي، ويكشف أنهم رجال دين كما أنهم رجال دنيا، ينهضون فيهما معاً نهوضاً مشرفاً يرضي الله في سمائه ويرضي عباده في أرضه.

* أدرك الصحابة أن رسولهم الكريم قد مات، وانتهت مهمته على الأرض، وأن عليهم أن يحملوا هذه المهمة الجليلة من بعده، لم يشغلهم الحزن عن الواجب، ولم تحجزهم العاطفة عن العقل، لقد استوعبوا اللحظة التاريخية وهبوا للتصدي لها فأحسنوا وأجادوا، وبداية هذا التصدي الذي جمع بين الذكاء والجرأة أن يلتقوا، فالتقوا في السقيفة، وتلك شجاعة عقلية وشجاعة نفسية أيقنوا معها أن حبهم لرسولهم وبكاءهم عليه لا يغيران من حقيقة موته. نعم لقد أحبوه، ونعم لقد بكوه، لكنهم مضوا فوراً فعملوا ما ينبغي عليهم عمله، وتلك شيمة الرجال الأحرار والمعادن المتفوقة.

* وإدراك الصحابة بفطرتهم السوية وعقولهم المتوقدة لأهمية "اللحظة التاريخية" وأداؤهم الممتاز فيها يذكر الدارس المتابع بأن في حياة الدول والحضارات والحركات والأحزاب - فضلاً عن الأفراد - حالات في غاية الدقة والخطورة يتوقف فيها النجاح والإخفاق، وربما البقاء والفناء، على إدراك أهمية "اللحظة التاريخية" وطريقة التعامل معها، وكم من نجاح وإخفاق، وبقاء وفناء، ترتب على حسن التعامل معها أو سوئه، والأمر أكثر من أن تحصى شواهده. وإذن فإن ما فعله الصحابة في السقيفة يوم وفاة رسولهم الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام، هو ذروة الذروة وقمة القمم، وهو أول المواقف الحاسمة الكبرى في التاريخ الإسلامي في مرحلة ما بعد النبوة المطهرة. والصحابة الكرام يستحقون عليه مجموعة من الأوسمة، علماً أنهم أكبر من كل وسام وأغنى عن كل ثناء.

* حين التقى الصحابة الكرام في سقيفة بني ساعدة، أصَّلوا فكرة العمل المؤسسي، الذي يقر بحق الأمة في قيادتها من خلال أهل الحل والعقد، والعمل المؤسسي من أعظم الظواهر الحميدة في التاريخ، والذين يدرسون اليوم نقاط القوة في حضارة اليابان وحضارة الغرب، عليهم أن يجعلوا في مقدمة هذه النقاط احترام العمل المؤسسي وإعلاءه وتقديمه.

* وهم في لقائهم الميمون أصَّلوا أيضاً مبدأ الشورى، فلم ينفرد بالأمر أحد، ولم تلتق مجموعة منفردة وحدها لتقرر أمراً دون الآخرين ثم تأتي إليهم لتأخذ موافقتهم عليه لتضفي على قرارها صبغة الشورى، لا، لم يفعلوا ذلك لأنهم أهل دين يحجزهم عن هذا التزييف، ولأنهم رجال أحرار تأبى فطرتهم السليمة ومعادنهم العالية هذا التزوير. لقد اجتمعوا في العلانية، وتحاوروا وتجادلوا ساعة من نهار، ثم اختاروا الصديق خليفة لهم، فكان خير خلف لخير نبي.

* والصحابة الكرام حين اختاروا خليفتهم العظيم، كانوا قمة في الوعي السياسي، فلم تعش دولة الإسلام الوليدة يوماً واحداً بدون قائد لها، وهذا جعل الدولة تنجو من أي "فراغ دستوري" كما يعبر أهل القانون، فكانوا دستوريين قبل الدستوريين، وقانونيين قبل القانونيين. وتلك محمدة تذكر، ومنقبة تشكر.

* وهم حين اختاروا الصديق خليفة لهم كانوا في غاية الصواب، فقد أثبت هذا الرجل الرقيق الوديع الذي حكم عامين وبعض العام، أنه رجل مسؤولية من طراز رفيع، ورجل شجاعة لا حد لها، وأنه اتخذ أصعب القرارات الحاسمة والصائبة، ونفذها تنفيذاً مدهشاً، فكانت مدة خلافته القصيرة ملأى بالإنجازات العظيمة.

* ثم إن الأداء الرفيع للصحابة في السقيفة، يدل على نجاح الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في تربيته لهم، ذلك أنه رباهم رجالاً شجعاناً أحراراً أسوياء، يعرفون ما لهم وما عليهم، ويتحملون مسؤولية هذه المعرفة فيحتملونها ويؤدونها بكفاءة واقتدار، والانتقاص من موقفهم هذا يمكن أن يفسر على أنه طعن في تربية الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام لهم، بدعوى أنهم تنازعوا على السلطة فور وفاته فآثروا دنياهم على دينهم. ومعاذ الله أن أظن بالأستاذ إبراهيم ذلك، لكن هذا التفسير متاح لمن أراده.

* إن الحديث عن موقف الصحابة في سقيفة بني ساعدة، حديث يطول، وهو مفخرة لهم، وشرف وكرامة، ويبدو لي أنه يصلح أن يكون رسالة للماجستير أو الدكتوراه في العلوم السياسية، ونحن المسلمين مطالبون أن نستلهم عبره ودروسه في بناء نظامنا السياسي في حاضرنا ومستقبلنا.

* أرأيت يا أستاذ إبراهيم كيف أخطأت خطأ كبيراً حين انتقصت من موقف الصحابة الكرام في السقيفة، وهو موقف كله مناقب ومكارم وإنجازات ودروس؟

*بقيت مجموعة من الخواطر أود أن أجعلها على شكل برقيات وجيزة أوجهها إلى عقل البليهي ووجدانه، وهو المسلم العربي، الذي سمعت عن عفته ونزاهته وأمانته وتواضعه الكثير، زاده الله توفيقاً وأعانه على تصحيح أخطائه.

* ماذا يقول الأستاذ البليهي في حضارة الإسلام - وقد كان العرب روحها وجوهرها ورأس الحربة فيها - التي شهدت لها أعداد لا تحصى من غير العرب ومن غير المسلمين، من قادة وساسة وأدباء وفنانين ومفكرين ورحالة ومؤرخين، فقالت فيها كلاماً في غاية النفاسة، ولن أدل الأستاذ البليهي على الأقوال والقائلين والكتب التي عنيت بذلك، فهو قارئ ومتابع ولابد أن لديه مكتبة عامرة.

* هناك وجهة نظر شائعة لدى عدد من قادة الغرب - ولا أقول كلهم - ترى أن الإسلام الذي تسميه الخطر الأخضر، هو عدوها الأكبر بعد سقوط الشيوعية التي كانت تسميها الخطر الأحمر، وهؤلاء القادة ينتقصون المسلمين عامة والعرب خاصة، ويحرّضون عليهم، ويقفون ضدهم، وينحازون إلى أعدائهم، ويصفونهم بأسوأ الصفات، ألا يرى الأستاذ البليهي أن متابعة أخطاء العرب، وتكبيرها، وتعميمها، والإلحاح عليها، والسكوت عن فضائلهم، هو جهد خاطئ يصب في خدمة أولئك القادة بطريقة أو بأخرى بقطع النظر عن النوايا، والنوايا الطيبة لا تعني بالضرورة صواب الرأي.

* إن الله تعالى اختار جزيرة العرب منطلقاً لرسالته، وهو الحكيم العليم، وهو عز وجل ﴿أعلم حيث يجعل رسالته﴾ زماناً ومكاناً ولساناً وإنساناً. ومعنى ذلك أن الإنسان العربي كان المؤهل أكثر من سواه لحمل أعباء الرسالة بشهادة رب العزة والجلال، ولابد أن لهذه الأهلية مجموعة من المزايا العالية المتفوقة، فأين حديث البليهي عنها؟

     هذا على صعيد الماضي، أما على صعيد الحاضر فيبقى للإنسان العربي، والمكان العربي، واللسان العربي، الدور الأول في حمل أعباء الرسالة، ولن ننتقص من جهود إخواننا المسلمين غير العرب، ولكن هذه الحقيقة ينبغي أن تعرف. وهذه الحقيقة عرفها وجهر بها الشيخ الصالح والمربي الحكيم أبو الحسن الندوي عليه رحمة الله، فأشاد بالعرب كثيراً، وتحدث عن مزاياهم المقررة، وأكثر من التأكيد على أن العرب ينبغي أن يتقدموا المسلمين أجمعين ليكونوا القادة والرادة في ركب الإصلاح والدعوة والتغيير، وجعل قيادتهم لهذا الركب من أهم أسباب النجاح المأمول، وطالما حثّهم وحضّهم وحمّلهم المسؤولية، وحسناً فعل. وشهادة الشيخ الندوي لها قيمتها المقدرة لسببين مهمين، الأول: عفته وزهده وبراءته وغيرته المحمودة على الأمة، والثاني: معرفته العميقة بالتاريخ الإسلامي وحركات الإصلاح والتجديد فيه.

* قرر محمد إقبال وهو الشاعر المفكر الفيلسوف، أن العقل المسلم العربي في جملته استطاع أن يفهم الإسلام أكثر من العقل المسلم غير العربي في جملته، وهو رأي ذكي قاله آخرون، وهي نقطة متميزة تحسب للعرب، ومن أسبابها أن اللغة العربية هي وعاء الكتاب والسنة ومعظم التراث الإسلامي، ومعرفتهم بها لأنهم أهلها جعلتهم أقدر على فهم الإسلام من سواهم، يضاف إلى ذلك أن للعقل العربي مرونة وذكاء وقدرة على التجديد، ومرة أخرى نحن لا نجحد فضائل المسلمين غير العرب ومعاذ الله أن نفعل ذلك فديننا يعلمنا الإنصاف حتى مع الخصوم لكننا نقرر حقيقة مؤكدة.

* انتشر المسلمون الحضارمة في جنوب شرقي آسيا، وفي شرق أفريقيا، فكانوا نماذج مشرفة للاستقامة والأمانة والصدق، فأسلمت الملايين على أيديهم في بلاد لم تطأها قدم جندي مسلم قط، أسلمت هذه الملايين من خلال إعجابها بالقدوة الحسنة التي مثلها المسلم الحضرمي، والحضرمي عربي صميم خالص العروبة، حمل مع إسلامه عروبته حيث هاجر. ترى أليست هذه الصفحة الحضارية الرائعة بل والمدهشة مما يحسب للإنسان العربي من مزايا نبيلة؟

* مرت بالعرب نكبات هائلة تجاوزوها وخرجوا منها منتصرين مع فداحتها، وأهمها اجتياح التتار لهم، والحروب الصليبية العاتية ضدهم، والهجمة الاستعمارية الغربية عليهم، ولولا ما للعرب من مزايا رائعة وأهمها الإسلام لانقرضوا.

* تمر الأمة المسلمة - من عرب وغير عرب - بحالة ضعف وخذلان، لكنها سوف تتجاوز بإذن الله هذه الحالة، لأنها تمتلك العقيدة الصحيحة، والموقع النفيس، والممرات الاستراتيجية، والثروات الكبيرة، والتجدد الديمغرافي، وخطها البياني - مع الإقرار بكل أخطائها - خط صاعد في الجملة، وبإذن الله سيكون يومها خيراً من أمسها، وغدها خيراً من يومها والمبشرات كثيرة ومنها ما يفعله الشعب الفلسطيني البطل الذي أخذ يعيد قضيته إلى هويتها الحقيقية وهي أنها قضية إسلامية، وأخذ يحرر نفسه من الخوف، وأخذ يستبسل في طلب الشهادة، وأخذ يقاتل تحت شعار "لا إله إلا الله محمد رسول الله" وهذه هي البداية الصحيحة للتحرير الحقيقي، أن يتحرر الإنسان فيحرر المكان.

* المسلمون عامة والعرب خاصة، أمة مستهدفة، والظالمون لا يخافون إلا القوي أو من يحمل عوامل القوة فيستهدفونهم، ونحن إن لم نكن اليوم أقوياء فإننا نحمل كل عوامل القوة ونحن سنملكها - بإذن الله - في يوم قادم. ألا يرى الأستاذ إبراهيم في استهدافنا من قبل الظالمين أمارة واضحة تدل على شعورهم بأهميتنا، ومخاوفهم من غدنا الواعد الصاعد؟

* غفر الله لي وللأستاذ إبراهيم، وأعاننا على معرفة أخطائنا وتجاوزها.

* * *

التسامح الديني اختراع إسلامي

التسامح الديني اختراع إسلامي

     ربما كنا جميعاً نحفظ كلمة الكاتب الفرنسي المشهور غوستاف لوبون التي يقرر فيها حقيقة كبيرة من حقائق تاريخنا وحضارتنا، ومن حقائق التاريخ البشري العام كله والحضارة الإنسانية جمعاء، وهي تلك التي يقول فيها: "إن الأمم لم تعرف راحمين متسامحين مثل العرب ولا ديناً سمحاً مثل دينهم". إنها كلمة منصفة هي في الحقيقة إنصاف للحق والتاريخ قبل أن تكون إنصافاً للعرب والمسلمين.

     والآن إليك هذه الشهادة الضخمة لحبر كبير من أحبار النصرانية هو ميخائيل الأكبر بطريرك أنطاكية الذي عاش في النصف الثاني من القرن الثاني عشر، أي بعد أن خضعت الكنائس الشرقية للحكم الإسلامي خمسة قرون، يؤكد ميخائيل الأكبر في هذه الشهادة تسامح المسلمين، واضطهاد الروم للكنيسة الشرقية. يقول الرجل: وهذا هو السبب في أن الله الذي تفرد بالقوة والجبروت والذي يزيل دولة البشر كما يشاء ويؤتيها من يشاء ويرفع الوضيع، لمّا رأى شرور الروم الذين لجؤوا إلى القوة فنهبوا كنائسنا وسلبوا ديارنا في كافة ممتلكاتهم، وأنزلوا بنا العقاب في غير رحمة ولا شفقة، أرسل أبناء إسماعيل "يعني العرب" من الجنوب "يعني الجزيرة العربية" ليخلّصنا على أيديهم من قبضة الروم، وفي الحق إننا إذا كنا قد تحملنا شيئاً من الخسارة بسبب انتزاع الكنائس الكاثوليكية منا وإعطائها لأهل خلقيدونية، فقد استمرت هذه الكنائس التي في حوزتهم، ولما أسلمت المدن للعرب خصص هؤلاء لكل طائفة الكنائس التي وجدت في حوزتها، وفي ذلك الوقت كانت قد انتزعت منا كنيسة حمص الكبرى وكنيسة حوران، ومع ذلك لم يكن كسباً هيناً أن نتخلص من قسوة الروم وأذاهم وحنقهم وتحمسهم العنيف ضدنا وأن نجد أنفسنا في أمن وسلام.

     هذه الشهادة المنصفة تدل على كذب أولئك المتعصبين ضد تاريخنا الذين يزعمون أننا كنا قساة أكرهنا الناس على الدخول في ديننا وعاملنا غير المسلمين بقسوة واضطهاد، فعلى العكس كانت حقائق التاريخ من ناحيتنا ومن ناحيتهم.

     أما من ناحيتنا فقد كان التسامح أصلاً عريقاً عندنا، وأما من ناحيتهم فقد كان التعصب والبغي غالباً على ما يفعلون، وإن مخازيهم أثناء الحروب الصليبية مثلاً ليندى لها الجبين حياء وخجلاً، بل إن مخازيهم في اضطهاد بعضهم لبعض، مما لا ينكره أي دارس، وإن الذي جرى بين البروتستانت والكاثوليك كان أمراً في غاية الفظاعة والوحشية، يظهر ذلك بوضوح - مثلاً - في مذبحة "سان بارتلمي" أما مآسي محاكم التفتيش في القرون الوسطى فقد كانت قمة في الهمجية والضراوة، ولا يزال وجدان الحضارة البشرية يحمل عنها أسوأ الذكريات لما كان فيها من فجائع ومظالم وتفنن في تعذيب الضحايا.

     إن ذلك كله، وثمة الكثير الذي يشبهه ينهض دليلاً لا يرد على أن الغربيين في جملتهم، قوم قساة القلوب، وهم من أشد الناس تعصباً وحقداً على مخالفيهم في الرأي والعقيدة حتى لو كانوا من أبناء جلدتهم ودينهم، وأنهم من أشد شعوب الأرض بطشاً وفتكاً، وأنهم لم يعرفوا التسامح الديني خلال تاريخهم في العصور كلها، ولا يزالون حتى اليوم يتحكم فيهم هذا التعصب بدرجات متفاوتة، على أن الإنصاف يدعو إلى الشهادة أن التسامح الديني في الغرب تزداد مساحته ازدياداً ملحوظاً مشكوراً، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم.

     لقد منح الإسلام الذي يعلي الإنسان، ويطهر نفسه، ويعتق روحه، ويزكي سريرته، الفرصة للناس جميعاً أن يتفيؤوا ظلاله الواسعة مسلمين كانوا أم كافرين، فإذا بروحه المتسامحة الكريمة تنشئ ضروباً رائعة جداً من التسامح ليس لها مثيل لا في قديم ولا في حديث، ولقد كان رجال الدين المسيحي في ظل الدولة المسلمة، يُعْطَوْنَ سلطة الإشراف التام على رعاياهم في جميع شؤونهم الدينية والكنسية، ولا تتدخل الدولة المسلمة في ذلك، اللهم إلا في حل المشكلات التي تنشأ بين مذاهبهم لتنصف بعضهم من بعض، فقد كان الملكانيون مثلاً يضطهدون أقباط مصر في عهد الروم ويسلبونهم كنائسهم، فلما فتحت مصر، رَدَّ المسلمون إلى الأقباط كنائسهم وأنصفوهم، ثم تطاول الأقباط بعد ذلك على الملكانيين انتقاماً منهم وثأراً لما كانوا قد فعلوه بهم قبل الفتح الإسلامي، فشكوا ذلك إلى هارون الرشيد، فأمر باسترداد الكنائس التي استولى عليها الأقباط في مصر، وردها إلى الملكانيين بعد أن راجعه في ذلك بطريركهم. وكانت الوظائف في الدولة تمنح للمستحق، وكان الأطباء النصارى في العهدين الأموي والعباسي محل الرعاية لدى الخلفاء، وكان لهم الإشراف على مدارس الطب في بغداد ودمشق زمناً طويلاً، كان ابن أثال النصراني طبيب معاوية الخاص، وكان سرجون كاتبه، وقد عيّن مروان أثناسيوس مع آخر اسمه إسحاق في بعض مناصب الحكومة في مصر، ثم بلغ مرتبة الرئاسة في دواوين الدولة، وكان واسع الثراء عظيم الجاه.

     ثمة شاهد ضخم هائل هتف به بعض النصارى، يدل على تسامح المسلمين الواسع وهو ما جعل نفراً من أبناء الدين المسيحي يفضلون أن يقعوا تحت الحكم الإسلامي، على أن يقعوا تحت حكم طائفة نصرانية مخالفة.

     قبيل أن يفتح السلطان العبقري المجاهد محمد الفاتح القسطنطينية، فكّر كثير من أبناء هذه المدينة بالاستعانة بروما، ومن المعروف أن هناك خلافاً تاريخياً واسعاً بين كنيسة روما وكنيسة القسطنطينية، تمثل هذا الخلاف في عداء واسع بل وقتال واجتياح واضطهاد.

     وحين شدد محمد الفاتح قبضة حصاره على القسطنطينية، ارتفعت فيها أصوات من بعض أبنائها، تطالب ببذل الجهد للحصول على معونة روما ونجدتها، ولكن أصواتاً معارضة أخرى ما لبثت أن وقفت ضد هذا المطلب، وأخذت تهتف وفي مخيلتها فظائع المسيحيين اللاتين بمدينتها واضطهادهم للمسيحيين الشرقيين في القسطنطينية قائلة بأعلى صوتها: لأَنْ نرى في القسطنطينية عمامة المفتي خير من أن نرى قبعة الكاردينال.

     وكان صاحب هذا الشعار الذي عبّر عن عواطف كثير من أهل القسطنطينية في تفضيلهم عدل المسلمين الغرباء على ظلم إخوانهم المسيحيين، واحداً من أهم الشخصيات السياسية في القسطنطينية يومذاك، وهو الدوق نوتاراس.

     وهكذا حفل تاريخنا الطويل بأمثال هذه المواقف العادلة إزاء غير المسلمين، ولا غرابة فالإسلام هو رسالة الله الأخيرة للناس جميعاً، وقد رتّبت كل شيء، وهيأت فرصة العيش الكريم الحر، للبشر أجمعين، مسلمين وغير مسلمين.

     وبعد:

     فلا يمكن لعاقل أن يزعم أن تاريخنا لم تكن فيه أخطاء، بل كانت فيه أخطاء تقل وتكثر، وكانت فيه مظالم تصيب الناس من مسلمين وغير مسلمين، لكنه كان - في جملته - أكثر تواريخ البشر رحمة وعدلاً وتسامحاً، وهو ما قرره غوستاف لوبون في جملته الشهيرة التي تم افتتاح هذا المقال بها، كما قرره غيره من المنصفين قبله وبعده.

     وللشيخ محمد الغزالي رحمه الله، جملة بديعة يحسن إيرادها في هذا المجال، فيها دقة، وإيجاز، وإبداع، يقرر فيها أن التسامح الديني إنما هو "اختراع إسلامي" ذلك أن الإسلام أول من بدأه وأن المسلمين أول من طبقوه.

* * *

الطمع القاتل

الطمع القاتل

مستقبل اليهود في فلسطين كما يراه محمد أسد

     من أمتع السير الذاتية، وأكثرها تشويقاً، كتاب المهتدي النمساوي "محمد أسد - ليوبولد ﭬايس سابقاً "، الذي روى فيه - من بين ما روى - قصة تحوله من اليهودية إلى الإسلام، وقد ترجم الكتاب إلى العربية، وطبع مرة باسم "الطريق إلى الإسلام"، ومرة أخرى باسم "الطريق إلى مكة". والكتاب جدير بأن يوضع بين أيدي غير المسلمين ممن ترجى لهم الهداية لأنه عون كبير لهم على الوصول إليها. لقد قرأت هذا الكتاب عدة مرات، وفي مراحل مختلفة من حياتي، ومع ذلك لا زلت أجد في قراءته متعة فكرية وأدبية وتاريخية ودعوية. وأتمنى أن ينهض بعض المخرجين بمهمة تحويله إلى فلم سينمائي أو مسلسل تلفزيوني.

     وللمرحوم محمد أسد كتاب صغير الحجم اسمه "الإسلام على مفترق الطرق" وهو كتاب عميق الفكر، دقيق النظر، فيه غيرة على الأمة، وتحذير لها من مخاطر التغريب، ولو أن مؤلفه سماه "المسلمون على مفترق الطرق" لكان العنوان أكثر دقة ودلالة. ولقد تمنيت كثيراً أن تتاح لي فرصة لقاء المؤلف، ومحاورته، وسؤاله عما جاء في سيرته الذاتية، وعن مستقبل اليهود في فلسطين، وانتظرت، حتى يسّر الله عز وجل لي ذلك على غير سعي مني ولا تدبير، وكل شيء عند الله بمقدار.

     كان ذلك في عام 1399هـ - 1979م، حين وصلت إلى طنجة صيفاً في أول زيارة لي للمغرب العزيز، وقد علمت أن المرحوم كان مقيماً فيها، ومن خلال استعلامات الهاتف حصلت على رقمه واتصلت به، فرحب بي كثيراً، وزارني في الفندق، وهو في غاية السرور، وعانقني وهو يبكي، إذ وجد من يسأل عنه وهو في بلد غير بلده الأصلي، شيخ عجوز، انقطعت جذوره مع ذويه بسبب هجرته وإسلامه، ولا يكاد يعرفه أحد في طنجة، ويعيش مع زوجته في بيت هادئ، واسع، مع الذكريات والوحدة، وأعباء الشيخوخة، ذلك أنه كان في التاسعة والسبعين من عمره، لأنه من مواليد 1900م ولأن له ولداً وحيداً اسمه طلال، من زوجة أخرى يعيش في بريطانيا.

     زرته في البيت، وكانت فرحة لي وله لا توصف، وسألني كيف تعرفت إليه فأجبته، لقد كان كالعصفور بلله القطر في يوم صائف، فرح وانتفض، وأخذت الذكريات تتداعى من خلال الأسئلة والأجوبة، وأخذ يريني بعض صوره المحفوظة لديه، ويشرح لي ظروفها، وكأنه وجد من يفرغ لديه شحنة كبيرة، من الخواطر والذكريات والكلام الحبيس، ووجد من يهرب إليه من وحدته ونسيان الناس له. وقد حاولت أن أكون له عوناً حقيقياً في ذلك.

     طال الحديث وامتد وتنوع، فوجدت فيه دليلاً جديداً على ذكاء الرجل، وثقافته، ومعرفته العميقة بالمسلمين ما لهم وما عليهم، وبالغرب ما له وما عليه، فضلاً عن مقدرته البيانية، وحسن إدارته للحوار، حتى إني عجبت - ولا أزال - من قلة إنتاجه، مع هذه المزايا المهمة، ومع سعة وقته وعزلته وعمره الطويل.

     لم أسأله عن ذلك، وليتني فعلت، لكنني سألته عن أمر أهم. قلت له: أنت رجل يهودي تحول إلى الإسلام تحولاً صادقاً عميقاً، بعد تأمل، ومعاناة، ومقارنة، وترحال، وهو ما يجعلك أقدر منا على التنبؤ بمستقبل صراعنا مع اليهود في فلسطين، فماذا أنت قائل؟

     فقال لي: يا بني، اليهود قوم حمقى، لا يتعلمون من عبر التاريخ، ولا يستفيدون من أخطائهم، فيهم الغرور، وفيهم الطمع، وهذا هو المقتل. إنهم يشبهون القرد الذي روى حكايته الحكيم اليوناني "إيسوب" في قصصه التي تشبه قصص "كليلة ودمنة" في أدبنا العربي، وخلاصتها أن رجلاً كان لديه قرد، وذهب خارج بيته لحاجة طرأت له، فسر القرد، ذلك أنه رأى جرّة فيها جوز، فسارع إليه ليأكله، مدّ يده داخل الجرة وأمسك بجوزة وحاول إخراجها فلم يستطع لأن يده تكوّرت بسبب الجوزة التي قبض عليها، فضاقت عليه فتحة الجرة، لذلك لم يكن أمامه بد من أن يترك الجوزة لتعود يده إلى وضعها العادي فيستطيع إخراجها من الجرة، لكن طمعه منعه من ذلك، وظل حاله على ما هو عليه، يده تمسك بالجوزة داخل الجرة وقد تجمدت عليها، حتى جاء صاحبه، فضربه، فحلت به عقوبة مطامعه. قال: وهكذا اليهود في فلسطين، إن عقوبة الطمع تنتظرهم، وسوف يتركون فلسطين كارهين، كما ترك القرد الجوزة في الجرة كارهاً.

     لم أنس ما قاله لي محمد أسد وقارنته بسلوك اليهود قديماً وحديثاً، فازددت به اقتناعاً، إن المشروع الصهيوني في فلسطين بلغ ذروته عام 1967م، ثم بدأ يتجمد، ثم بدأ يتآكل، وأمارات نهايته تزداد يوماً بعد يوم، ونحن المسلمين في صعود، وهو في هبوط، والمستقبل لنا بإذن الله، وإن موعدهم الصبح وإن الصبح لقريب.

* * *

مع الحاج أمين الحسيني

مع الحاج أمين الحسيني

عبرة وذكرى

     مع كثرة ما كتب عن اليهود والصهيونية في العالم العربي، يمكن للمرء أن يقرر أن هذا العدو لا يزال مجهولاً لدى الكثيرين، نظراً لأن معظم ما كتب عنه كان كلاماً عاطفياً حماسياً يتبدد بسهولة بعد حين من الزمن، ومن هنا تبدو الحاجة ماسة إلى دراسات علمية موضوعية جادة مستقصية تكشف حقيقته ومخاطره ومطامعه.

     على أنك لا تخطئ أن تجد بعض العارفين معرفة دقيقة بهذا العدو، بحيث تصلح كتاباتهم وأقوالهم وآراؤهم أن تكون وثائق وشهادات ومراجع يمكن الاعتماد عليها، وينبغي إشاعتها ومن هؤلاء عبد الله التل والحاج أمين الحسيني في الجيل الماضي والدكتور عبد الوهاب المسيري هذه الأيام.

     والحاج أمين الحسيني شخصية غير عادية، فقد عاشت طويلاً، وشرّقت وغرّبت، وجعلت همها الأول التعريف بخطر اليهود والصهاينة، والدفاع عن فلسطين بكل ما تقدر عليه، حتى صار مع الزمن رمزاً للقضية الفلسطينية، وأباً للمجاهدين من أبنائها، نال ذلك بجدارة تامة، هي حصيلة مواقفه، وشجاعته، ومغامراته، ودأبه، ووعيه المتقدم، وسمته الديني، وإصراره على أن قضية فلسطين قضية إسلامية قبل كل شيء، وهو ما جعل له ولها حضوراً واسعاً في العالم كله، وبخاصة بين العرب والمسلمين.

     يقول المرحوم أمين الحسيني: لقد بلونا هذا العدو وخبرناه، وأدركنا مدى تصميمه على استئصال شأفتنا وإبادتنا، كما أدركنا مدى خطره على العرب والمسلمين جميعاً، ومن هنا جاء اعتقادنا أن لا حل لقضية فلسطين ولا درء لهذا الخطر الداهم إلا الجهاد، الجهاد الصادق، الطويل النفس، المنبثق عن العزم والتصميم وإرادة القتال، ونعتقد أن الأمة الإسلامية لن يكون لها مبرر أمام الله والتاريخ والأجيال القادمة إذا هي تقاعست أو فرطت لأنها تملك جميع أسباب القوة والمنعة وهي بالتالي قادرة على تحقيق النصر بإذن الله.

     ويمضي المرحوم أمين الحسيني، مفتي فلسطين ورمزها، أيام قيادته لحركة الجهاد ضد الصهاينة، يحشد الأدلة على صحة رأيه، فيقرر أن الأمة العربية تجاوز عددها 100 مليون، وأن زيادتها السنوية أكثر من ثلاثة ملايين، وأن الأمة المسلمة تجاوز عددها 700 مليون، وأن زيادتها السنوية أكثر من عشرين مليوناً، وهو ما يجعل قدرة العرب والمسلمين على القتال والتعويض والتجدد كبيرة جداً خلافاً للصهاينة المعتدين، وهو يذكر بطبيعة الحال الأرقام التي كانت في أيامه، أما الآن فهي أكبر بكثير، وهو ما يؤكد صدق نظرته، وصحة استشرافه للمستقبل.

     ثم يمضي الزعيم الفلسطيني - في سياق حشد أدلّته لإثبات وجهة نظره - فيتحدث عن إمكانيات الأمة فيقول: ومن حيث الإمكانيات فقد حبا الله تعالى أمتنا بموارد عظيمة وثروات هائلة، وجعلها من أغنى الأمم، وأعطاها بسطة في الرزق والأرض والموقع. وقد أثبتت حرب رمضان المبارك على قصرها صحة ما نقول، وأنزلت بالعدو من الهلع والجزع ما كشف لنا عن نقاط ضعفه الكبيرة، كما أثبتت الحرب أن لا جامع لهذه الأمة كالجهاد، ولا موحد لكلمتها كالقتال.

     ثم يؤكد بإلحاح على وجوب الحذر من الصهاينة المعتدين، فهم أهل مكر وغدر وخديعة فيقول: وإني أحذر من مكر اليهود وخداعهم، فليس في نيتهم سلام حقيقي، وحين يتظاهرون بالسلام، إنما يريدون كسب الوقت للتأهب لعدوان جديد.

     ويعود إلى التحذير منهم مجدداً فيقول: أحذر العرب والمسلمين من أن القبول بقرار مجلس الأمن 242 إنما هو ضياع لفلسطين وتفريط بالأمانة الغالية، لأن هذا القرار ينص على الاعتراف الكامل بدولة العدو، ويضفي عليها الشرعية، ويتنازل لها عن أكثر من أربعة أخماس فلسطين، ويعرض المسجد الأقصى للضياع، والبلاد العربية والإسلامية لأشد الأخطار، كما أحذر من أطماع اليهود في البحر الأحمر وهي شديدة الخطورة.

     في أواخر عمره، جاء الحاج أمين الحسيني إلى الرياض زائراً، وهرع إلى الفندق الذي يقيم فيه عدد من أبناء فلسطين الذين آلت إليهم قيادة الجهاد الفلسطيني، وطال الحديث وتشعب، واسترسل الضيف الكريم فيه، وحاول أن يضع في هذه الجلسة خلاصة خبرته، وعصارة تجربته، وكأنه يشعر أنها الوصية التي يقولها مَنْ يودع الحياة ليعيها مَنْ بعده. وقد حدثني بما كان في هذه الزيارة أحد شهودها، وروى لي أنها كانت جلسة ملأى بالعبر والمعلومات والإخلاص، وقد أثر الضيف الكريم في الحضور، حتى استولى عليهم، ثم بكى من فرط التأثر والإشفاق.

     وقد ركز - أكثر ما ركز - على أن اليهود أهل غدر، ولا يحفظون عهداً مع أحد، ولا يحفظون جميلاً حتى لمن عطف عليهم وأعانهم، وحذر من الصلح معهم، وأكد أن المستقبل في صراعنا معهم هو لنا بإذن الله، على أن نستمر في الصبر والمصابرة، واستفراغ الوسع وبذل الجهود.

     رحمك الله أيها المجاهد المؤمن الحاج أمين الحسيني.

     ترى هل ننتفع من كلماتك الثمينة، أم أنها ستمضي هباء خلال عَدْوِنا اللاهث خلف مكرة سامريين، وحواة ثعالب، وقردة حاقدين، ومقلّدين مضبوعين، ومستسلمين متخاذلين يريدون أن يقودوا أمتنا معصوبة العين نحو الهلاك ويقنعوها أن الذئب يمكن أن يخرج عن طبيعته الغادرة، وأن الأفعى يمكن لها أن تخرج من طبيعتها السامة.

     وبعد:

     فإن المشروع الصهيوني في فلسطين إلى زوال، لقد بلغ ذروته عام 1967م، حين انتزع نصراً مجانياً لم يكن يحلم به، بسبب قيادات سيئة كان في يدها القرار العربي يومذاك، ثم بدأ بالتجمد والتآكل ولعل الجيل التالي من أبناء الأمة يشهد نهايته.

     وأهم الأسباب التي تدعو إلى الإيمان بزوال هذا المشروع، أن الدولة العبرية مخالفة لسنن الله عز وجل في قيام الدول وسقوطها جملة وتفصيلاً، وأن الضعف العربي لن يدوم، وأن دعم أمريكا له لابد أن يتوقف ذات يوم، ثم إن إمكانات العرب والمسلمين، عقيدة، وتكاثراً، وثروة، وموقعاً، وتعويضاً إمكانات هائلة خلافاً لإمكانات هذه الدولة المصنوعة الممسوخة، وأخيراً - وليس آخراً - أن الشعب الفلسطيني امتلك زمام المبادرة، وعاد إلى هويته الحقيقية، وصدع بها، وتحمل أعباءها، وجعل مضمونها وشعارها "لا إله إلا الله محمد رسول الله".

* * *

يحدثونك عن النجاح

يحدّثونك عن النجاح

الإرادة أولاً

     كثر الحديث في السنوات الأخيرة عن النجاح في الحياة، وتنوع المتحدثون في هذا الأمر، وتنوع الحديث أيضاً، وهو أمر محمود ونافع ومطلوب، يمثل ظاهرة إيجابية جديرة بالعناية والاهتمام، للناس عامة وللشباب خاصة.

     ويدور الحديث في العادة على حَفْز الإنسان على الإبداع، والتجدد، وإدراك منطق الأولويات، فضلاً عن التقويم، والقراءة، والصحبة، والصبر، وتحديد الغاية، وضبط الوسيلة المناسبة المؤدية لها، وما إلى ذلك، وهذا كله صواب وخير، ينبغي لنا أن نفرح به ونستزيد منه.

     والذي أريد أن أقوله هو أن "الإرادة" هي أهم أسباب النجاح وأولها، ومن هنا جاء العنوان "الإرادة أولاً" فالإرادة هي الخطوة الأولى التي تجر ما وراءها من خطوات. وبين يدي أربع وقائع عملية تشهد بذلك، عرفت أصحابها معرفة شخصية من بداياتهم المتواضعة حتى وصلوا ذروة النجاح.

* * *

     عرفت الأول وهو "ح - ش" طالباً في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الرياض، قادماً إليها من بلد عربي شقيق وكان جاداً قليل الكلام، مستقيماً، يعيش عيشة أقرب إلى الكفاف كما هو شأن أكثر الطلاب، حدد هدفه بدقة، وحدد الوسيلة المؤدية إليه، وتسلّح بالإرادة، وثابر وصابر، فحصل على درجة البكالوريوس بتفوق، وهو ما هيأ له فرصة الدراسة العليا، فحصل على الماجستير بتفوق، ثم على الدكتوراه بتفوق، وأذكر أني حضرت جلسة المناقشة، وكنت أراه - وأنا في غاية السعادة - يقدم ملخص الرسالة ويجيب عن أسئلة اللجنة المناقشة لها، ثم عمل مدرساً للحديث الشريف - وهو تخصصه - في كل من ماليزيا وأمريكا، ثم عمل - بالتعاون مع سواه - على إنشاء جامعة إسلامية مفتوحة في أمريكا تعمل من خلال الانتساب، وتمنح طلبتها درجتي الماجستير والدكتوراه، وهو اليوم أحد من يستشارون في الأحاديث الشريفة، من حيث درجتها، وشرحها، ومظانها، وما إلى ذلك، وأذكر أنه تزوج وهو في سنواته الأولى من الدراسة ولعل له اليوم عدداً من الأولاد، وصل بعضهم إلى المرحلة الجامعية وعسى أن يسيروا على نهج أبيهم في الاستقامة والإرادة.

* * *

     أما الثاني وهو "ع - ب" فقد عرفته وهو في العقد الرابع من عمره يحمل درجة الليسانس في الحقوق من مصر، ويعمل مستشاراً قانونياً في إحدى دوائر الدولة في الرياض، وقد رأيته مرات كثيرة خلال سنوات عمله، وكان سلوكه وأدبه فضلاً عن لهجته، أدلّة تشير إلى بلده المجاور الذي قدم منه وهو بلد عرف أبناؤه بالاستقامة والتوفير، والهجرة وطول النفس، عاش على الكفاف، وعاش أحياناً على أقل من الكفاف، بحيث صار بعض زملائه يتندرون عليه ويتهمونه بالبخل، وكنت خلافاً لهم أكبر فيه همته وأقدر ظروفه وأحترم طموحه.

     جمع الرجل قدراً طيباً من المال، ثم ذهب إلى بريطانيا، حيث لبث فيها بضع سنوات عاد بعدها، خبيراً في الاقتصاد، مرجعاً في تخصصه، متقناً للغة الإنجليزية، وهو اليوم مستشار كبير في أحد البنوك، مكانه كبير ودخله وفير، ويمتلك بيتاً فاخراً في واحد من أحياء الرياض، وله >ديوانية< أسبوعية في بيته العامر، يلتقي فيها الناس فيتحدثون ويسمرون ويستمعون إلى محاضرة أسبوعية يديرها هو، أو يديرها أحد خلصائه، وله صلات واسعة مهمة، وله خدم وحشم. زرته في بيته العامر أكثر من مرة، وتذكرت حالته بين أمسه ويومه، وحمدت له إرادته ودعوت له.

* * *

     أما الثالث فهو الشيخ "م - أ" عرفته طالباً في المرحلة المتوسطة في المدينة المنورة، على منوِّرها أفضل الصلاة والسلام، حيث كنت مدرساً في إحدى مدارسها، وكان واحداً من طلابي. كنت أعطف عليه وأشجعه، لأدبه، ولاستقامته، ولفقره، ولغربته أيضاً، فقد كان أبوه من القادمين إلى المدينة المنورة من بلده النائي البعيد الواقع في جنوب شرق آسيا.

     والتحق إلى جانب المعهد الذي كان يدرس فيه، بإحدى مدارس تحفيظ القرآن الكريم واستمر على ما عهده الناس منه، من أدب وصبر واستقامة، فازداد حب الناس له خاصة أنه كان ذا خلق حسن وصوت حسن.

     ومرت الأيام، فأنهى المرحلتين المتوسطة والثانوية، ثم التحق بالجامعة فحصل على الليسانس فالماجستير فالدكتوراه، وهو اليوم أحد أئمة المسجد النبوي الشريف، وأحد القراء المشهورين الذين يذاع لهم في الإذاعات، وتباع أشرطتهم هنا وهناك، وأقبلت عليه الدنيا فكثر بين يديه المال، وصارت له منزلة وجاه، وتزوج ثلاث نسوة، وعرضت رابعة نفسها عليه، لقد أدرك نجاحاً كبيراً بإذن الله تعالى، وكانت الإرادة أول أسلحته فيما نال، لم ألقه منذ تلك الأيام قط، ولكني أسمع له في الإذاعة، وأتابع نجاحه المتواصل، وأفرح له، وأدعو له، وأرى فيه نموذجاً جديراً بالاحتذاء، وسمعت أنه لا يزال يذكرني بخير، وهذا من وفائه وطيب معدنه، ولعل لي بعض الجهد في نجاحه لأني كنت أحنو عليه وأشجعه، ولعل لي بعض الثواب في ذلك وهو خير وأبقى.

* * *

     أما الرابع فهو "م - ش - خ" وهو من مصر، وقصته أعجوبة من الأعاجيب، وهي جديرة بأن يحولها روائي مقتدر إلى قصة شيقة، ومخرج بارع إلى فلم سينمائي، كان عمره في حدود العشرين أو أقل قليلاً حين اعتقلته الشرطة المصرية عام 1954م إبان الصراع بين جماعة الإخوان المسلمين وبين الرئيس جمال عبد الناصر، فقد كان واحداً من أعضائها. وقد حكم عليه بالإعدام ثم خفف الحكم إلى المؤبد، وظل في السجن عشرين عاماً حتى أفرج عنه الرئيس أنور السادات خلال المصالحة التي تمت بينه وبين الإخوان في أواسط عهده.

     خرج من السجن قوي الإرادة، فاستعاد قيده في الجامعة فإذا به طالب في كلية الهندسة لا يخجل من زملائه الذين هم أصغر منه بكثير، وقد أعانه على مواصلة كفاحه بعد محنته الطويلة أنه كان هادئاً بشوشاً رياضياً.

     ثم شاء الله تعالى، وله حكمته البالغة أن يمتحنه امتحاناً قاسياً، فقد اختل توازنه ذات يوم فوقع على الأرض حيث يمر المترو، فجاء المترو فقطع ساقيه الاثنتين معاً. لم يستسلم للحزن ولم يركن إلى الشكوى، فسافر إلى ألمانيا لتركيب ساقين صناعيتين في جهة متخصصة. وتم تركيب الساقين، وأخذ المختصون يدربونه على المشي عليهما، وكان ممن يعنون به راهبة ألمانية نذرت نفسها للدين المسيحي والتبشير به، وقضت في الصين تمارس التبشير من خلال العناية بالمرضى مدة تقارب المدة التي قضاها صاحبنا في سجنه.

     ومع الزمن بدأت الراهبة تعجب بصاحبنا، أعجبت بصبره واستقامته ورضاه بالابتلاء، وجرت بينهما أحاديث متنوعة، ثم إنها استغربت كيف يسجن هذا الرجل وهو ذو استقامة نادرة، ثم فهمت أنه سجن لسبب سياسي، وحين استوعبت أمر صاحبنا تماماً وعرفته معرفة دقيقة، قادها إعجابها به إلى الإعجاب بدينه، فتركت الرهبنة، وأسلمت وتزوجته، وهي اليوم تعيش معه في مصر.

     عاد صاحبنا إلى مصر، ومعه زوجته الفاضلة، وصبره النادر، وقدماه الصناعيتان، ومعه سيارة ألمانية يتم تحريكها باليدين لا القدمين صنعت لأمثاله من المعاقين.

     وفي مصر بدأ يشتري قطعاً من الأرض، ويبني عليها عدداً من الشقق ويبيعها، وهنا أقبلت عليه الدنيا وتكاثر طالبو الشراء منه، لأنهم كانوا على يقين تام أنه يلتزم التزاماً تاماً بكل ما يعد به من إتقان ومواعيد، وكثر المال بين يديه فتوسع في مشروعاته المتصلة بالبناء، فأسس مصنعاً للبلاط، وآخر للرخام، وثالثاً للطوب وهكذا، ويعينه فيما ينشط فيه عمال ومهندسون وفنيون، يحبهم ويحبونه ويستفيد منهم ويستفيدون منه.

* * *

     لقد حرصت على أن أغفل ذكر أسماء هؤلاء الناجحين، خوفاً من إحراجهم، فقد يكون لهم رأي مخالف لما عندي، ولولا الخوف لذكرتها كاملة، مكللة بالثناء، معطرة بالشذا، لأني أرى ما فعلوه كرامة لهم، ووساماً على صدورهم، وشرفاً لهم في الدنيا والآخرة.

     بارك الله عليهم، وزادهم تفوقاً وتألقاً، ونفعهم ونفع بهم، ورفعهم ورفع بهم، واستعملهم فيما يرضيه، وجعلهم للشبان أسوة حسنة ونماذج تحتذى وتقتدى.

     هذه القصص الأربع لهؤلاء الفرسان النادرين، التي رأيتها رأي العين، وعرفت أصحابها معرفة شخصية، هي شواهد تقول بأفصح لسان وأقوى حجة: إن أسباب النجاح كثيرة، فإذا جئنا إلى ترتيبها فإن "الإرادة أولاً".

* * *

لون من المحاسبة

لون من المحاسبة

     قرأت لأحد المربين الحكماء نصيحة ثمينة، تدعو المسلم أن يخصص بضع دقائق كل يوم قبل نومه، يستعرض فيها ما مر به في يومه المنصرم، فما وجد من خير حمد الله عليه ونوى أن يستزيد منه، وما وجد من شر استغفر الله منه وعزم على هجره، ثم ينام على أحسن العزائم.

     سررت كثيراً بهذه النصيحة الذكية والعملية وحرصت كثيراً على التقيد بها، وأدركت من هذا الحرص مقداراً متفاوتاً من النجاح، أرجو أن يزيد ويصبح جزءاً ثابتاً فيّ حتى ألقى الله تعالى.

     جعلت من دأبي حين آوي إلى فراشي في الليل، أن أخلو بنفسي دقائق مباركة، أستعرض فيها ما مر بي في يومي، فأحاسبها حساباً دقيقاً، وقد أقسو عليها، ألومها لأن صوتي ارتفع حيث لا ينبغي له ذلك، وألومها لأنني اغتبت أحداً من الناس فأستغفر الله تعالى له ولي، وألومها لأنني في المجلس الذي سهرت فيه تحدثت بأكثر مما ينبغي، فوقعت في شهوة الكلام، وألومها لأن شوائب ذميمة من حب الظهور والرغبة في التعالم كدرت علي نيتي، وألومها لأني تقاعست عن خدمة صديق كريم وأنا قادر على خدمته، وألومها لأنني اشتريت أشياء لا أحتاجها مسوقاً برغبة الامتلاك والتكديس، وألومها لأنني بخلت حيث يدعوني الكرم، وألومها لأنني أسرفت حيث تمنعني الحكمة.

     إلى جانب ذلك كنت أهنئ نفسي على أي خير مر بي في يومي المنصرم، من مروءة تبذل، أو حاجة تقضى، أو نصيحة تسدى، أو نجاح يقع، أو فائدة تجبى، أو صلاة في مسجد، أو زيارة لجار، أو صلة لرحم.

     وكنت أختم ذلك - كما أوصى المربي الحكيم - بحمد الله تعالى على الخير مع العزم على مواصلته والاستمرار فيه ومحاولة الاستزادة منه، والعزم على ترك الشر والاستغفار عنه، وكنت أسأل الله تعالى دائماً أن يرزقني الإخلاص والصواب معاً لأن أحدهما لا يغني عن الآخر.

     ولقد وجدت في هذا اللون من المحاسبة فوائد جمة كانت تزداد مع استمراري فيه، وتقل مع نسياني له وإهمالي إياه.

     تعلمت أن أشتغل بعيوبي عن عيوب الناس، وتعلمت أنَّ التربية عملية مستمرة تظل حاجتنا إليها ماسة مهما امتد بنا العمر وازداد حظنا من الصلاح ذلك لأننا بشر لابد أن نخطئ. وتعلمت أن أعترف بالخطأ وأن أعتذر، وتعلمت أن أبدل وجهة نظري حيث تدعوني دواعٍ كريمة إلى ذلك وقلت لأحد رفاقي الذي لامني على ذلك: الذين لا يغيرون آراءهم إن وجدت الدواعي الكريمة لذلك صنفان هما الأنبياء والأغبياء، الأنبياء لأنهم لا يخطئون والأغبياء لأنهم يتوهمون أنهم لا يخطئون.

     واستفدت من هذه المحاسبة راحة في الضمير تتمشّى في كل كياني، حين أشعر أنني أنام وليس لمسلم علي حق وحقوق العباد مبنية على المشاحّة وحقوق الله مبنية على المسامحة، وحفظت من مأثور الدعاء: اللهم لا تجعل علي تباعة لأحد.

     استفدت أنني أنام وأنا سليم الصدر نقي السريرة أدعو لنفسي وللمسلمين أجمعين الأموات منهم والأحياء، فلا أبيّت أذى لأحد، ولا أنطوي على غش لمخلوق، وربما دعوت حتى لمن أساء إلي.

     شعرت مع الزمن أن هذه المحاسبة عون كبير للمسلم تأخذ بيده للتخلص من معاصي القلوب من حقد وحسد وكبر وغرور وشح ويأس وخوف وعجز وما إلى ذلك، ومعاصي القلوب أخطر من معاصي الجوارح والتخلص منها أعسر، ذلك أن المسلم حين يدمن هذه المحاسبة ترتقي مداركه وتتسع آفاقه وتصفو نيته وتعلو عزيمته وتزكو سريرته، ويصبح أقرب إلى أخلاق الكرام والنبلاء والصالحين.

     ووجدت في هذه المحاسبة عوناً حميداَ لي على دنياي أيضاً، إذ إنني بها أنام سعيداً وأقوم نشيطاً وأستقبل مسؤوليات يومي الجديد بأمل حي وإرادة فاعلة.

     ووجدت فيها أيضاً عوناً لي على التجدد حين أخفق في قضية، أو أخسر في صفقة، أو أبتلى بأذى من رئيس أو زميل أو جار أو قريب. والمرء الذي يفقد القدرة على التجدد ويبقى أسير أخطائه أو أخطاء الآخرين هو ميت وإن عده الناس من الأحياء.

     كما وجدت في هذه المحاسبة عوناً لي على التخلص بالتدريج من الشعور بالحزن والمرارة والإحباط، وفي ذلك خير كثير، لأن في تراكم هذا الشعور واستفحاله آثاراً مدمرة.

     إن الحديث عن فوائد هذا اللون البديع من المحاسبة كثير، وما قلته من هذه الفوائد يومئ لما لم أقله، وللقارئ الكريم أن يجيل بصيرته فيه ليجد الكثير.

     كانت مدة المحاسبة تستغرق مني سبع دقائق تزيد قليلاً، أو تنقص قليلاً، تعقبها أو تسبقها أدعية النوم المأثورة.

     في الليالي التي أحاسب نفسي فيها حساباً شاملاً، وأقرأ الأدعية المأثورة كاملة، كنت أشعر بسعادة لا حد لها، وكنت أشعر أنني خرجت من حمام "ساونا" نفسي نقِّاني أحسن النقاء وطهرني أحسن التطهير، وربط على قلبي، وجعلني في معية الله عز وجل.

     وحين كنت أنظر إلى ما مضى من العمر، وأشعر أني قد لا أقوم من نومي، تهون علي الدنيا هواناً كبيراً ويزداد تعلقي بالباقي القادم على حساب الفاني المنصرم.

     اعتاد الناس على محاسبة بعضهم: الزوجان يتحاسبان، والأب يحاسب الابن، والرئيس يحاسب المرؤوس، والشريك يحاسب شريكه... وقل مثل هذا ما شئت، وليس هذا الأمر عيباً، بل هو أمر محمود ومطلوب بآدابه وضوابطه، لأنه وسيلة لرقي الحياة تجعلنا نعرف الخطأ لنتجاوزه والصواب لنحتفظ به ونستزيد منه. ليت الناس يحرصون على هذا اللون البديع والراقي والشائق من المحاسبة، عندها سوف يتقدمون في دينهم ودنياهم ويكون حظهم من هذا التقدم مساوياً لحظهم من هذه المحاسبة.

     ورحم الله المربي الحكيم الذي تعلمت منه هذه النصيحة الثمينة، ورحم الله الخليفة العظيم عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي أوصانا فقال: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، والذي دعا الناس إلى
تعريفه بأخطائه وعدّ ذلك هدية منهم إليه فقال: رحم الله امرأ أهدى إلي عيوبي.

* * *

ساعتي الأثيرة

ساعتي الأثيرة

     قبل قرابة ثلاثين عاماً اشتريت ساعة رقمية، وكان هذا النوع من الساعات جديداً يومذاك، يتسامع الناس به ويحرصون عليه ويزينون معاصمهم به. ومع أني لا أبادر سريعاً إلى اقتناء الجديد الذي يتسابق الناس إليه ويقلدون بعضهم في امتلاكه إلا أنني قلدتهم يومذاك.

     ومع الزمن نشأت بيني وبين هذه الساعة ألفة ومودة حتى إنني استعملتها أكثر من عشرين عاماً بدون انقطاع، ومن العجيب أنني لم أحتج إلى تغيير بطاريتها قط، فقد ظلت تعمل بإخلاص وكفاءة كل هذه المدة الطويلة ببطاريتها الأولى.

     وأخذ الناس يتحولون عن هذا النوع من الساعات لكنني لم أتحول عن ساعتي الأثيرة، وأخذ أصدقائي وأبنائي يلحون علي في تغييرها فلم أستجب، وبدأ بعضهم يلومني على الاحتفاظ بها لخدوش أصابتها هنا وهناك فلم أستجب، ثم إن ثمنها صار رخيصاً جداً فقد وصل إلى حوالي خمسين ريالاً وهو ما حدا بمن حولي إلى مطالبتي بتغييرها بدعوى أنها لا تليق بي لرخصها وهوانها على الناس فلم أستجب أيضاً. وحدث أن انقطع حزامها وهو ما جعل المطالبين بالتغيير يجزمون أني سوف أفعل ولكنني لم أفعل واكتفيت بأن اشتريت حزاماً جديداً لها بعشرة ريالات.

     ومرة ألح علي واحد من خلّص رفاقي بأن أشتري ساعة جديدة أجمل وأغلى فأطعته لكنني تركت الساعة الجديدة في البيت وعدت إلى ساعتي الأثيرة.

     ومرة أخرى أهدتني ابنتي الأثيرة ساعة جديدة جميلة وثمينة فلم أستعملها وظللت على عهد الوفاء مع ساعتي الأثيرة.

     قال لي أحد أبنائي: إنها لا تليق بك، فقلت له: بل تليق، إنها تؤدي مهمتها بكفاءة وقيمة الإنسان فيما يفعل لا فيما يحمل.

     وقال لي آخر: إن كثيراً من الفقراء يلبسون ما هو أثمن من ساعتك، قلت: لهم أن يفعلوا ولي أن أفعل.

     وفي كل مرة كان يطول الجدل كنت أقول لهم: إن الساعة وسيلة لضبط الوقت وليست غاية في حد ذاتها، وساعتي الأثيرة تؤدي مهمتها بدقة تامة فلم التغيير؟

     وأخيراً تكاثرت الضغوط علي فوافقت مكرهاً على التخلص من ساعتي الأثيرة وليتني لم أوافق، ذلك أني أردت أن تصاحبني كل عمري. عندها سألت أبنائي ما الذي سوف نفعله بها، فقالوا: نعطيها لفقير، قلت لهم: وهل تجدون فقيراً يرضى بها؟ أتحبون الشجاعة؟ قالوا: نعم، قلت: شراء ساعة جديدة وثمينة وأنيقة و التزين بها لا يحتاج إلى شجاعة، إنما الشجاعة الحقيقية في احتفاظي بساعتي القديمة الأثيرة الوفية والتزين بها، وإن لامني من لام لأنني منسجم مع نفسي.

* * *

* كنت ولا أزال باستمرار أتذكر الحديث الشريف "إن الله كتب الإحسان في كل شيء" أتذكره مع ساعتي الأثيرة ومع سواها. لو أن كل واحد منا تعامل مع ساعته كما تعاملت لوفرنا أموالاً كثيرة، ثم لو أننا جعلنا هذا التعامل الذي يحثنا عليه الحديث الشريف قاعدة لنا في التعامل مع كل شيء في حياتنا من أثاث ولباس وأدوات وسيارات وطرق ومبان وأقلام وأوراق، وما إلى ذاك، لوفرنا أموالاً هائلة - فضلاً عن الجهد والوقت - لا أستطيع تخيل مقدارها لكنها ستكون بالمليارات.

* حين تتحول الوسائل إلى غايات نقع في الأوهام والتكاثر والتباهي، ونشتري ما لا نحتاج إليه فنقع في رذيلة التكدس، ثم نحتاج إلى أمكنة لحفظ ما كدسناه، وإلى جهد ووقت ومال لصيانته ثم نضيق به ذرعاً فنتخلص منه بعد أن يصير عبئاً ثقيلاً.

* نحن بحاجة إلى عادة الاستغناء لتكون بديلاً حميداً عن عادة الاستكثار، ومثل هذا التحول يحتاج إرادة جادة تقوم على عقل بصير ونفس غنية.

* رأيت أكثر الذين يشترون الساعات الثمينة هم أكثر الناس في إضاعة الوقت، مثلهم مثل الذين يقودون سياراتهم بسرعة بالغة تعرضهم وتعرض سواهم للخطر فإذا وصلوا حيث يريدون عكفوا على توافه الأمور.

* يقول الصحابي العظيم الداهية عمرو بن العاص رضي الله عنه: لا أطلق زوجتي ما أطاقت عشرتي، ولا أغير صديقي ما أحسن صحبتي، ولا أبدل دابتي ما حملتني، فإن الملل من كواذب الأخلاق. ترى لو نجونا من الملل وكواذب الأخلاق الأخرى في التعامل مع الأشياء من ساعات وسواها كم سوف نحسن إلى أنفسنا في ديننا ودنيانا على السواء؟

     إنّ حسن التعامل مع الأشياء نوع من الشكر، والشكر يحفظ النعمة ويستدعي المزيد، وصدق الله العظيم ﴿لئن شكرتم لأزيدنكم﴾.

* * *

الجمعة، 24 ديسمبر 2021

إنَّ لله جنوداً من عسل

إنَّ لله جنوداً من عسل

     حقق المسلمون في معركة القادسية نصراً كبيراً على الدولة الفارسية، لكن عدداً من قادة الجيش الفارسي تمكنوا من الفرار، وأخذوا يحشدون الناس لحرب المسلمين، ويثيرون فيهم الحمية، ويؤلبون ويستعدون ويدبرون، باذلين كل ما بوسعهم للإعداد للمعركة القادمة، وهي المعركة التي عرفت باسم "نهاوند" وكان قائد الفرس فيها هو "الفيرزان" وكان قائد المسلمين فيها هو "النعمان بن مقرن المزني".

     والتقى الجيشان وبذل كل منهما غاية وسعه، وأكرم الله تعالى المسلمين بنصر مؤزّر بعد جهود كبيرة ودماء كثيرة.

     وحين انتهت المعركة تنبه القائد المسلم "حذيفة بن اليمان" الذي خلف "النعمان بن مقرن المزني" الذي فاز بالشهادة، إلى أهمية السؤال عن مصير "الفيرزان" فلما تبيّن له أنه ليس في القتلى وأنه استطاع الفرار عزم على ملاحقته والظفر به، لأنه إذا نجا فسوف يحاول حشد الناس لمقاتلة المسلمين مجدداً، وتلك حصافة منه، ونظر حكيم بعيد، وتفكير إستراتيجي سديد. وتولت أمر مطاردة "الفيرزان" كوكبة من فرسان المسلمين يقودهم "القعقاع بن عمرو التميمي".

     كان الفيرزان ذكياً واسع الحيلة، فأسرع في الفرار، لكنه واجه مشكلة لا قبل له بها، لقد كان يعدو في أرض زراعية ضيقة السكك، وكانت هذه الأرض غنية بالعسل الذي عمد أصحابه إلى حمله على دوابهم حين فروا مع الفارين، وعندها صارت الدواب عبئاً على السكك، تعوق بكثرتها وبطئها خطة "الفيرزان" في الهرب، وهو ما جعل المسلمين يظفرون به ويقتلونه، فقال أحدهم يومها قولة جميلة ذهبت مثلاً: "إن لله جنوداً من عسل".

     إنَّ الله تعالى سيد الكون وصاحبه، وكل ما فيه طوع أمره، وقدرته لا حد لها، يسخّر ما يشاء كما يشاء، لقد قال جل شأنه في الآية 31 من سورة المدثر: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُو} وصدق فيما قال، وحسب المرء أن يتأمل في جند الله من ملائكة وشياطين، وإنس وجن، وليل ونهار، وصحة ومرض، ومطر وجدب، ورياح وأعاصير، وفقر وغنى، وبصل وعسل... وما إلى ذلك مما يطيق متابعته ومما لا يطيق، ليقف مأخوذاً مبهوراً وهو يتدبر الآفاق الواسعة لجزء من آية كريمة من الكتاب العزيز، الذي يظل غضاً طرياً لا تنقضي عجائبه ولا يخلق على كثرة الرد، والذي يجد فيه كل جيل جديداً من الأمر لم تجده الأجيال السابقة.

     ما أجمل أن يمضي المسلم وهو يضرب في شعاب الحياة، ناجحاً أو مخفقاً، فقيراً أو غنياً، غالباً أو مغلوباً، مريضاً أو صحيحاً، مستصحباً باستمرار عظمة الله وقدرته، مخلصاً له القول والعمل، حريصاً على الاستمساك بدينه والدعوة إليه، ثابتاً على عهده معه حتى يلقاه، طالباً منه العون والسداد، واثقاً أنه سيمده بجند من جنده من حيث يعلم ومن حيث لا يعلم، راجياً منه القبول، مستقصياً - ما استطاع - هؤلاء الجند عدداً وعدة وتنوعاً وقدرة.

     إنه حين يفعل ذلك سيجد في نفسه قوة في الجسد، وطلاقة في الروح، وفرحة في القلب، وبسمة في الوجه، ورسوخاً في اليقين، ومضاء في العزيمة. ولعله يمر ببائع العسل فيبتسم ويتذكر كيف كان العسل جندياً يقاتل مع المسلمين فيقتل. فيشكر للعسل جنديته، ويراها في كل شيء آخر، ولعله يقول لنفسه: إن كل شيء في الكون جندي من جنود الله، والعسل أحلى هذه الجنود مذاقاً.

* * *

الأربعاء، 22 ديسمبر 2021

هلا كنت الطائر المبصر

هلا كنت الطائر المبصر

     ودع التاجر الصالح أسرته وودع عماله وأوصاهم خيراً، ثم مضى إلى دار شيخه ليستأذنه في السفر ويودعه ويطلب الدعاء منه، فباركه الشيخ ودعا له، فانطلق بنفس راضية، وعزيمة متوقدة، يقود قافلة له إلى بلد آخر ليبيع بضاعته هناك.

     كان التاجر رجلاً صالحاً أميناً، يتحرى الحلال، ويكثر الصدقة، ويرضى بالقليل من الربح، سمحاً محبباً إلى جميع مَنْ يتعاملون معه، ففشت له بين الناس سمعة حميدة في دينه ودنياه، وكثر المال بين يديه فازداد سماحة ورضاً وصدقة، وصار علماً حيث يكون.

     مضت القافلة تضرب في الأرض يقودها صاحبها، مستعيناً على طول الطريق بالراحة حيناً، وبالدعاء حيناً، وبمحادثة أصحابه حيناً آخر، حتى إذا أخذ النوم بمعاقد الأجفان واشتد التعب بالأبدان، اختار التاجر شِعْباً هادئاً في الطريق فيه ظل وشجر وماء فأناخوا فيه ركابهم وقضوا فيه ليلتهم.

     استيقظ القوم في الصباح فأدوا الصلاة، وأخذوا يرقبون اليوم الجديد وهو يتنفس، فشعر التاجر الصالح بمتعة روحية، وآثر الخلوة بنفسه في الشِعْب الهادئ الجميل، وطفق يتلو أوراد الصباح المأثورة وهو يمشي هادئاً متأملاً مندمجاً مع أدعيته ونفسه والمكان والزمان، فشعر بنفسه يحلق ويسمو، وشعر أن الكون كله يسبح لله خالقه ومبدعه.

     فجأة لفتت انتباهه شجيرة صغيرة حسناء، فاقترب منها يتأمل صنع الله فيها، فإذا به يرى طائراً بديعاً جداً على أحد أغصانها فأخذ يدنو منه بهدوء وحذر حتى لا يخاف الطائر فيهرب. وما لبث أن أدركه شيء من التساؤل حين رأى الطائر لا يتحرك قط، وازداد التساؤل الذي أخذ يقترن بالحيرة والدهشة مع اقترابه من الطائر، وبقاء الطائر حيث هو، حتى كاد يلمسه بيده لكنه لم يفعل.

     مضت ساعة من الزمان والتاجر يتأمل في الطائر، فاستبان له أنه أعمى، فتحول التساؤل في نفسه إلى مزيد من الحيرة والدهشة إذ أخذ يقول لنفسه: كيف يأكل هذا الطائر وكيف يشرب، ثم انتحى مكاناً قريباً وجلس فيه في صمت مطبق وقد شغله أمر الطائر عن نفسه وصحبته وقافلته.

     بعد حين لمح طائراً آخر جاء إلى الطائر الأعمى فأخذ يضع في منقاره شيئاً من الحب يجمعه من هنا وهناك، ثم يسقيه شيئاً من الماء من الغدير المجاور حتى إذا أحس أنه أدى مهمته طار بعيداً واختفى.

     فرح التاجر الصالح كثيراً، وسجد شكراً لله، وأخذ يتساءل في نفسه: إذا كان الله تعالى لم ينس الطائر الأعمى فيسر له من يطعمه ويسقيه فلم العناء والتعب والضرب في الأرض؟ وحين تحول التساؤل عنده إلى قرار صارم توجه إلى القافلة فعاد بها إلى بلده، وفي نيته أن يعتكف في بيته، وسيرزقه الله تعالى كما رزق الطائر الأعمى.

     حين وصل إلى بلده، وجد من تمام الأدب أن يمر على شيخه ليسلم عليه ويحدثه بما رأى ففعل. قال الشيخ الذي كان يجمع العقل إلى الصلاح للتاجر العائد: لم عدت سريعاً يا بني؟ قال التاجر لشيخه: لي أسوة بالطائر الأعمى. قال الشيخ العاقل الحكيم لتلميذه التاجر الصالح: يا بني هلَّا كنت الطائر المبصر، يا بني عد إلى ماكنت عليه من الجد والدأب والتعب، واجعل يدك العليا بالإعطاء لا السفلى بالاستعطاء، وأغن نفسك ومَنْ معك فإن الله يحب معالي الأمور.

* * *

الأكثر مشاهدة