الأحد، 26 سبتمبر 2021

كتاب الرثاء في شعر البارودي وشوقي وحافظ - الفصل الأول - 11 - الصورة الشعورية

الفصل الأول
(الرثاء في شعر شوقي)

11- الصورة الشعرية:

     شوقي شاعر مصور مقتدر، تكثر صوره في مراثيه من حيث العدد، وتتنوع من حيث المادة والعناصر، والتفصيل والتكثيف، والتكامل الذي يصير أحياناً لوحات فنية كأنها مشاهد رائعة، وقد أعانه على امتلاك هذه القدرة التصويرية القوية، خيال وثاب، وثقافة واسعة، واطلاع واسع على الأدب الغربي، وأسفار كثيرة شاهد فيها كثيراً من عجائب خلق الله، وحياة مترفة منعمة، ولذلك كان الخيال القوي القادر أحد جوانب عبقريته وتفرده.

     يقول الدكتور شوقي ضيف وهو يتحدث عن الصورة عند شوقي: ((كان من الأسس المكونة الثابتة في هذه الصناعة خيال متألق، إذ كان شوقي واسع الخيال، غني التصوير، وشعره من هذه الناحية متحف لصور وأشباح متحركة تفد عليك من كل جانب، وكأنها تريد أن تأخذ عليك كل طرقك حتى تعلن إعجابك بصاحبها، وإن الإنسان ليخيل إليه أنه لم تكن تفوته لفتة أو حركة لشيء أو لصورة إلا اختزنها في ذاكرته ووعاها في حافظته ليلقي بها عند الحاجة رسماً أو لوحة باهرة ... كان يعرف كيف يجسم الصورة وكيف يركبها وكيف يحشد جزئياتها وعناصرها، فإذا هي تتحول إلى لوحة كبيرة كهذه اللوحات التي نراها في معارض الرسامين ... إنك تراه لا يزال يضم الخط إلى الخط حتى تتم له الصورة الكبيرة التي يريدها، ولم تكن هناك صورة تستطيع أن تتأبى على هذا الخيال الخالق الذي ترتسم فيه صور الأشياء تامة كاملة، فلا نقرؤها حتى نحس كأنها فعلاً تحت أبصارنا، وكأننا نراها رؤية المشاهد لا رؤية الغائب، وهذا كله يكسى بأردية الحلم وأكسية الوهم))[1]. والحقيقة أن النظر في صوره التي نلقاها في مراثيه يشهد بذلك بوضوح وقوة وغزارة.

     في رثائه لعمر المختار يجعل رفاته لواء يدعو إلى الثأر، ومناراً لا ضياء فيه، بل فيه دم يدعو أجيال الغد إلى الانتقام، وجرح يصيح، وضحية تجاهد بالدم:

ركزوا رفاتـــــك في الرمال لواء     يستنهض الوادي صبــــاح مسـاء
يا ويحهم نصبوا منـــــاراً من دم     يوحي إلى جيــــــل الغد البغضاء
جرح يصيح على المدى وضحية     تتـــلمس الحرية الحمــــــراء[2]

     والشهيد عمر المختار، رجل لا تفارقه شجاعته، لقد كان شجاعاً في الميدان وهو كذلك شجاع في أيدي جلاديه، فقلبه الذي لم يخش إلا الله لم يضعف، وجبينه لم ينخفض وكأنه سقراط بين قضاته، والأسد يزأر لكنه لا يبكي، لقد جاء إلى المحكمة يجر قيوداً كالحية الرقطاء لم تضعفه سنوات عمره المديد التي لو أصابت جبلاً لهدمته، فقد بقي معها صابراً مجاهداً. ها هنا مشهد رائع تتكامل عناصره، كأنه لوحة فنان مقتدر يجمع فيها الجزئية إلى الجزئية ليبهر الناس:

لبى قضاء الأرض أمس بمهـــجة
               لم تخــش إلا للســــماء قضــــــاء
وافــــاه مرفــــوع الجبيــــن كأنه
               سقـــراط جر إلى القضــــاة رداء
شيــــخ تمـــالـك نفســه لم ينفجــر
               كالطفل من خوف العقـــــاب بكاء
وأخــو أمــور عــاش في سرائـها
               فتغيـــــرت فتوقـــــع الضــــــراء
الأسد تزأر في الحديـــد ولن ترى
               في السجن ضرغاماً بكى استخذاء
وأتى الأسيـــر يجر ثقــــل حديـده
               أســـد يجـــرر حيــــة رقـطــــــاء
عضت بســــاقيه القيود فلم ينـــــؤ
               ومشت بهـــــيكله السنون فنـــــاء
تســــعون لو ركبت مناكب شاهق
               لترجـــلت هضبــــــاته إعيــــــاء

     وفي قصيدته في شكسبير تقع على مشهد رائع يصور فيه شوقي مصير جمجمة أديب كبير، منهل العطاء، صارت في التراب جوفاء غبراء كأنها أصيص مهمل:

بمن أماتـــك قل لي كيف جمجمة     غبراء في ظلمات الأرض جوفاء
كانت سماء بيـــان غير مقـــــلعة     شؤبــوبها عسل صاف وصهبــاء
فأصبحت كأصيص غير مفتقــــد     جفته ريحـــانة للشعر فيحـاء[3]

     ويصور شوقي لسان شكسبير الذي كانت له صولة وجولة في مهاجمة الظلم والظالمين، وكيف صار مثل ذنابى عقرب بال، لكنه لا يزال يؤدي دوره في محاربة الظلم:

وكيف بات لسان لم يدع غرضاً     ولم تفتـه من البـــــاغين عوراء
عفا فأمسى ذنابى عقــرب بليت     وسمها في عروق الظلم مشـــاء

     وأما يده التي كانت تفعل بما تكتب أفعالاً عظيمة، لأن في كل أنملة منها قدرة على التأثير البالغ، فإنها صارت بفعل الدود كالدود:

وما الذي صنعت أيدي البــــــلى بيد
               لهـــــا إلى الغيــــب بالأقـــلام إيماء
في كل أنمــــلة منها إذا انبجســـــت
               بـــرق ورعـــد وأرواح وأنـــــــواء
أمست من الدود مثل الدود في جدث
               قفـــــازها فيه حصبـــــاء وبوغــــاء

     إن مصير شكسبير بعد الموت يقدمه لنا شوقي في مشهد رائع متكامل، الجمجمة التي تفكر، واللسان الذي يتحدث، والأنامل التي تكتب، آلت مع التراب والبلى إلى عظام جوفاء غبراء، وذنابى عقرب هالك، وتربة هينة رخوة.

     وفي مشهد جميل مؤثر يصور لنا في رثائه لحافظ، شوقه إلى أستاذه الإمام محمد عبده، وهو شوق جعله يذوب حنيناً إليه، وهناك في المدفن تلاقى التلميذ مع الأستاذ، فوجد التلميذ أستاذه مع الأبرار والصالحين وأثر النعيم على جبينه، فتشاكيا الفرقة، وسرا باللقاء:

وأتيت صحراء الإمام تذوب من     طول الحنيـــن لساكن الصحراء
فـلقيــــت في الدار الإمام محمداً     في زمرة الأبـــرار والحنفــــاء
أثـــر النعيـــم على كريم جبيـنه     ومراشـــد التفسيــــر والإفتـــاء
فشـــكوتما الشوق القديم وذقتـما     طيب التداني بعد طول تناء[4]

     وفي رثائه للشاعر محمد عبدالمطلب يطلب شوقي من المرثي أن يصف النعيم الخالد في الجنة كما يتوقع له أن يكون، حيث الثمار في ربا كاليواقيت، والخمر في أباريق من الذهب، وحيث المرثي ينثر الشعر على الأبرار من ساكني الجنة، مترنماً في إنشاده بناي يسستعيره من رضوان خازن الجنة:

قم صـف الخــــلد لنا في ملـــــكه     من جـلال الخلق والصنع العجب
وثمـــــار في يواقيــــــت الربـــا     وســــــلاف في أبــــاريق الذهب
وانثـــر الشعر على الأبــرار في     قــدس الســــاح وعلوي الرحــب
واستعـر رضوان عودي قصــب     وترنـــم بالقــــــوافي في القصب
واسق بالمعـــــنى إلهيــــــــاً كما     تتســـاقون الرحيق المنسكب[5]

     وفي رثائه للأديب محمد تيمور، يجعل الموتى ضيوفاً على البلى، والبلى ذئب، بل هو شر الذئاب:

نزلوا على ذئــــب البلى     فتضيفوا شر الذئاب[6]

     والصورة رائعة مؤدية مثيرة، فالموتى ضيوف، والعادة أن المضيف يكرم ضيفه، لكن الأمر هنا على النقيض من ذلك، إنه المضيف الفاتك إزاء الضيف العاجز عن كل حيلة.

     وفي رثاء يعقوب صروف يقدم لنا شوقي الدنيا في مشهد تصويري رائع جداً، نرى فيه الدنيا جالسة في طريق البشر، الذين يهلكون فريقاً إثر فريق وهي تودعهم بنظرة كليلة ساخرة، ذلك أنها لم تفرح بهم يوم أقاموا فيها ولم تجزع عليهم يوم غادروها، وهي كقائد عسكري جبار يسوق جنوده إلى الموت دون أن يحزن لهم حتى كأنهم ذباب هين، لأنه يرى في استمرار القتل والقتال، سلامة له وسلطة يضحي من أجلهما بجنوده حتى لو هلكوا جميعاً:

قعدت من الأظعان في مقطع السرى
               ومــروا ركابــــــاً في غبـــار ركاب
وجـــدت عليهم في الوداع بســـــاخر
               من اللحـــظ عن ميت الأحبة نــــابي
أقـــاموا فلم يؤنسـك حاضر صحبــة
               ومالوا فلم تستــــوحشي لغيــــــــاب
تســــوقين للموت البنيـــــن كقــــائد
               يرى الجيــــش خـلقـــاً هيناً كذبــاب
رأى الحرب سلطانــــاً له وســلامة
               وإن آذنت أجنـــــاده بتبــــــــاب[7]

     وفي صورة جميلة يقدم لنا شوقي ما يرغبه ليعقوب صروف من سلام، ومن رحمة تساقط من السحاب الماطر، ومن ريحان رفاف يضوع عطره:

سلام على شيخ الشيوخ ورحمة     تحدر من أعطاف كل سحــــاب
ورفاف ريحان يروح ويغتـــدي     على طيبات في الخلال رطـاب

     وفي بيتين رائعين يقدم لنا شوقي صورة رائعة جداً لجهد كارنافون في الكشف عن مقبرة توت عنخ آمون:

أفضى إلى ختــــــم الزمان ففضه     وحبا إلى التـــاريخ في محـــرابه
وطوى القرون القهقرى حتى أتى     فرعون بين طعامه وشــرابه[8]

     إن كارنا فون بذل جهداً هائلاً فيما فعل، لقد ظل يزحف حتى وصل إلى قدس التاريخ ومحرابه حيث وجد الزمان وعليه قفل مختوم ففضه، وأعاد ما قد مضى فنشره ثانية، فكأنه أعاد الزمن إلى الوراء ليصل إلى فرعون بين طعامه وشرابه، ويقدمه بالتالي إلى الناس اليوم.

     وفي صورة رائعة أخرى يقدم لنا شوقي توت عنخ آمون حال اكتشافه، فهو يكاد يكون حياً بكل ما له من وقار الملك وأبهة الغنى، فالطيب يفوح حول سريره، واللؤلؤ الزاهي يلمع في ثيابه، والتحف الغالية لا تزال جديدة إلى جواره، كأنها الفاكهة يقدمها قاطفها في أبهى حلة وأسرع وقت لتظل ناضرة:

المنـــدل الفياح عود سريــــره     واللـــؤلؤ اللماح وشي ثيــــابه
وكأن راح القاطفين فرغن من     أثماره صبحــــــاً ومن أرطابه

     ويطلب شوقي من اللورد كارنافون أن يصف له ما بعد الموت، فيقدم لنا ذلك في تصوير بديع، فما بعد الموت هو النزل الذي يرجع فيه الإنسان عن ضلاله، ويدع لعبه، وينام العدو عن حقده ويسلو الصديق عن هوى من يحب:

يا صاحب الأخرى بلغت محلة     هي من أخي الدنيا مناخ ركابه
نزل أفــــاق بجانبيه من الهوى     من لا يفيق وجد من تلعــــــابه
نــــام العدو لديه عن أحقــــاده     وسلا الصديق به هوى أحبـابه

     وفي رثائه لرياض باشا يقدم لنا شوقي مشهداً تصويرياً متكاملاً عن الموت وساعته وأنواعه وعن حال الروح بعده، مشهد تتكامل عناصره ويقود بعضها إلى بعض حتى كأنه لوحة فنية لا يستقيم أمرها إلا بأن ينظر إليها مكتملة:

رهيــــن الرمس حدثني ملياً     حديث الموت تبد لي العظات
هو الخبر اليقين وما ســــواه     أحـــاديث المنى والترهـــات
سـألتــك ما المنـــية أي كأس     وكيف مذاقهـــا ومن السقــاة
وماذا يوجس الإنسـان منــها     إذا غصت بعــلقمها اللهــــاة
وأي المصرعين أشــد موت     على علم أم الموت الفـــوات
وهل تقع النفــوس على أمان     كما وقعت على الحرم القطاة
وتخــــلد أم كزعم القوم تبلى     كما تبلى العظام أو الرفــات
تعــــالى الله قـــابضهـــا إليه     ونــاعشها كما انتعش النبات
وجازيها النعيم حمى أمينـــاً     وعيشــــاً لا تكــدره أذاة[9]

     إن الشاعر يحدث الفقيد ويطلب منه أن يخبره عن الموت ليتعظ فهو وحده اليقين وما سواه باطل، وفي سؤال ذي طبيعة استقصائية تدل على فزع الشاعر من الموت يسأله عن طعم الموت وسقاته وماذا يشعر المرء أثناءه، ويطلب منه أن يخبره عن الموت المفاجئ والموت المعلوم وأيهما أشد، وعن مصير الروح بعد مغادرة الجسد أتخلد أم تبلى؟ وينهي شوقي مشهده المصور المتكامل بالإيمان الكامل، فالروح يقبضها الله تعالى إليه، وينعشها كما ينتعش النبات ويجزيها النعيم إن كانت محسنة والعذاب إن كانت خلاف ذلك، إن جزئيات المشهد تتكامل لتشكل اللوحة في نسق واحد يروع ويعجب، ومما يزيده روعة وإعجاباً الحوار والتساؤل والاستقصاء في التساؤل، والنهاية التي انتهى إليها، وهي نهاية سكينة وتسليم.

     وفي صورة مكثفة رائعة يصور لنا شوقي واقعة أسر جدته وهي بنت عشر سنوات في جزيرة المورة في اليونان، وما أدى إليه هذا الأسر من خير لها باعتناقها الإسلام وإخلاصها له:

عنــــنت لهم بمورة بنت عشر     وسيف الموت في هام الكمـاة
فكنت لهم وللرحـمن صيـــــداً     وواسطة لعقد المسلمات[10]

     وفي رثائه لعبد الخالق ثروت نجد عدداً من الصور المكثفة البديعة، فالتصريح الذي حصل عليه الفقيد هو إكليل فخار على رأسه، لكن الفقيد لا يجد في مقابل ذلك بعد موته إكليلاً من هام الرجال يحمله:

مكلل الهـــــام بالتصريح ليس لــــه
               عود من الهام يحويه ولا نضد[11]

     ومصر سعيدة بحماية الله التي انبسطت فاحتمت بها، بعد أن انطوت حماية المحتل، وجمال الصورة يبدو جلياً في إظهار حماية تطوى وأخرى تنشر، وبلد يحتمي بالله لا بالناس:

طوى حمايته المحتل وانبسطت
               حماية الله فاستـــــذرى بها البلد

     والفقيد نشأ في عز وفخار، فهو من الدنيا في جبينها وفمها، وهذا المجد يستدعي حسد الأقران فالمجد والحسد دائران مقترنان مع الفقيد وعليه:

نشأت في جبهة الدنيا وفي فمها    يدور حيث تدور المجد والحسد

     ومرثاة شوقي في الفقيد تتساقط دموعه من حولها، كما تتساقط حبات البرد حول السوسن العاطر، فللدموع سقوط وللبرد سقوط، والقصيدة سوسن والسوسن قصيدة:

أرســلتها وبعثت الدمع يكنفها     كما تحدر حول السوسن البرد

     ويفتتح شوقي قصيدته في محمد فريد بهذا البيت الذي نجد فيه صورة غنية، تضع أمامنا حقيقة الموت الماثلة، الجديدة القديمة:

كل حي على المنيــــة غــــــــــادي
               تتوالى الركاب والموت حادي[12]

     فالأحياء في سفر لا ينتهي يفضي بهم إلى المنية، وهم قوافل متوالية، يشجعها ويحدو بها الموت حتى لا تمل من السفر الدائب، هو يحدو وهم يمضون والمنية تبتلع الجميع.

     وفي صورة أخرى مكثفة غنية يجعل شوقي الأجساد طعاماً للرحى التي تطحنها وتجعلها غباراً ما يلبث أن يتطاير، فالغبار المتطاير إنما هو ثمرة الطحن الذي لا يتوقف:

والغبار الذي على صفحتيها     دوران الرحى على الأجساد

     ويقدم لنا شوقي عدالة المصير الذي ينتهي إليه الناس في التراب في صورة جميلة، فالتراب إنسان عادل ينهض بحقوق العباد بالتساوي، وهو من عدله يجمع القوي إلى الضعيف، والملك إلى الزاهد، والتراب كتاب مبسوط نقي مبرأ من الحقد حتى كأنه قلوب الأنبياء في طهرها ونقائها:

هل ترى كالتراب أحسن عـدلاً     وقيـــــاماً على حقوق العبــــاد
نزل الأقويــاء فيه على الضعـ     ـفى وحـــل الملـــوك بالزهــاد
صفحــــات نقية كقـــــلوب الر     ســـل مغسولة من الأحقــــــاد

     وفي قصيدته في اللورد كتشنر، يصور لنا الشاعر سطوة الموت وقدرته وجبروته، فما ينجو منه لا حذر ولا محتاط في هذا البيت البديع:

رب ثــــــاو في الظبى ممتـــــنع
               سله المقدار من جفن الحذر[13]

     فللحذر جفن يرقب به من يحب حتى لا يصل إليه الموت، لكن الموت الغالب يسله سلاً من بين كل ما يحتمي به فيصرعه، والموت وهو يتسلل لواذاً إلى الميت يتقي ويحذر ويترقب حتى يفوز بما يريد.

     وفي بيت بديع يصور شوقي غرق السفينة التي كان فيها كتشنر، وهو بيت عجيب، فيه إحكام وإيجاز وحركة:

طعنت فانبجست فاستصرخت     فأتـــــاها حيــــنها فهي خبــــر

     ففي ثلاثة أفعال متوالية حكى قصة السفينة كاملة، تطعن فتثقب فتستنجد لكن الهلاك يجعلها خبراً من الأخبار، ومما يمنح الصورة حيوية وإثارة، تعاقب الفاءات في الأفعال وهو ما يوحي بالسرعة التي هلكت فيها السفينة.

     ولما رثى شوقي صديقه عمر لطفي صور لنا آخر لقاء جرى بينهما في مشهد رائع مؤثر:

سهرنــــا قبيل الردى لـيــــــــلة
               وما دار ذكر الردى في الســـمر
فقــــمت إلى حفــــرة هيــــــئت
               وقـــمت إلى مثــــلهـا تحتـــــفـر
مددت إلـيـــــك يــــــــداً للوداع
               ومد يـــداً للقـــــاء القـــــــــــدر
ولو أن لي عـــــلـم ما في غـــد
               خبأتك في مقلتي من حذر[14]

     لقد سهر الصديقان سهرة جميلة لم يأت فيها ذكر الموت الذي كان لهما بالمرصاد، فقام الفقيد إلى حفرته، وقام الشاعر إلى أخرى تعد له ينتظرها وتنتظره، والوداع يقتضي السلام، فأما يد الشاعر فقد امتدت إلى الفقيد، لكن يد الفقيد بخلاف ما ينبغي امتدت إلى القدر تصافحه وتستجيب لداعيه، ولو أن الشاعر كان يعرف الغد لجعل من عينه مخبأ يحمي فيه صديقه الفقيد. صورة رائعة بل مشهد حي، الصديقان يسهران ويسمران، والأيادي تذهب كل في طريقها، يذهب أحدهما إلى حفرة ليسكن فيها ويقوم الآخر إلى حفرة لا تزال تعد له، والمقلة تحمي من الموت حذراً من خطفه للفقيد لكن الشاعر لا يعلم بالغيب المضروب، فيغلب الحذر ويفوز الموت.

     وفي صورة مكثفة رائعة يقدم لنا شوقي الدنيا على حقيقتها حيث يقول عنها في رثائه إسماعيل صبري:

نعــــماؤك الريحــــــان إلا أنــه     مست حواشيه نقيع زعاف[15]

     فالدنيا في بهجتها ونعيمها كالريحان بطيبه المعهود، لكن السم القاتل يسكن في هذا الريحان، وبذلك تتجاور التناقضات في الدنيا وأهمها هنا الهناء والفتك.

     والفقيد الذي كان ينادم الملوك صارت الذئاب تنادمه، وشتان ما بين منادمة الأمس وبين منادمة اليوم:

ومنادم الأملاك تحت قبابهم     أمسى تنادمه ذئاب فيــــافي

     وهي صورة عجيبة جداً فيها تقابل ساخر، فالمنادمة لم تنقض بل استمرت تحت التراب كما كانت فوقه، لكن الذي كان ينادم الملوك أصبحت تنادمه الذئاب، والمنادمة الأولى يحفها النعيم والثراء والجاه والسرور، بخلاف المنادمة الثانية التي يحفها الافتراس والوحشة والحزن والوحدة.

     وفي مشهد رائع متكامل يقدم لنا شوقي ما يؤول إليه الناس في قبورهم، وهو في هذا المشهد، يجيد التصوير من ناحية، ويجيد عرض مخاوفه النفسية من ناحية:

في منــزل دارت على الصيد العلا
               فيـــه الرحى ومشت على الأرداف
وأذيل من حسن الوجــــوه وعزها
               ما كــــان يعبد من وراء سجــــاف
من كل لـمـــــاح النعيــــم تقــــلبت
               ديبــــاجتــاه على بلى وجفـــــــاف
وترى الجماجم في التراب تمـاثلت
               بعد العقـــول تماثـــــل الأصــداف
وترى العيــــون القاتـــلات بنظرة
               منهوبة الأجفــــان والأسيــــــــاف
وتراع من ضحك الثغـــور وطالما
               فتنـــــت بحــــلو تبســـم وهنــــاف

     إن الصورة هاهنا تحولت إلى مشهد متكامل تأخذ جزئياته مواقعها فيه لتظهر أمامنا لوحة حية، فالقبر منزل يطحن القادة ومن يليهم طحن الرحى، وفيه تكشف الستور عن الوجوه التي كانت من عزها وتمنعها كأنها تعبد، فيتقلب على البلى والجفاف كل منعم مترف، وهو تقلب مناقض بطبيعة الحال لما كان عليه الساكن، والجماجم التي كانت تتفاوت في منزلتها بعقول أصحابها ومواهبهم ومواقفهم صارت متماثلة في التراب كأنها أصداف على شاطئ بحر، وعيون الحسان التي كانت تقتل المعجبين وتنهب أنظارهم صارت في محاجر بالية وقد نهب الموت منها أجفانها الساحرة وسيوفها القاتلة، والأفواه التي كانت تفتن الناس بجمالها وابتسامها آلت إلى ضحك مخيف مريع.

     ويقدم لنا شوقي الشمس في صورة عجيبة، فيها ذكاء وغرابة وإدانة، وفيها ندرة أيضاً:

غزت القرون الذاهبين غزالة     دمهـــم بذمة قرنها الرعـــاف

     فالشمس تحب أن تفتك وتسطو، ولذلك غزت الأجيال الذاهبة من البشر فأهلكتهم، فهي القاتلة الواترة، وهي مطالبة بدمهم الذي لا يزال يتساقط من قرنها الراعف.

     وفي صورة عجيبة أخرى يقدم لنا شوقي الشمس وهي تنسج ثلاث عمائم ليرتديها الناس في مراحل أعمارهم الثلاث، الشباب حيث الشعر أسود، والكهولة حيث الشعر أشهب، والشيخوخة حيث الشعر أبيض، ولما كان الموت هو المصير الذي سوف تلقي بالناس إليه، فإنها سخرية بهم تنسج لهم أكفان الموت من ثياب الزفاف، فالشمس في هذه الصورة البديعة نساجة محترفة دائبة، وساخرة أيضاً:

نسجت ثلاث عمائم واستحدثت     أكفان موتى من ثيــــاب زفاف

     وفي مشهد بديع يصور لنا شوقي في رثائه لفوزي الغزي، بطش القائد الفرنسي بدمشق بحماقة ورعونة، فيقول لها:

أنسيــــت نـــــار الباطشين وهـــــزة
               عــرت الزمــــان كأن روما تحــرق
رعنــــاء أرســــــلها ودس شواظهـا
               في حجــــرة التـــاريخ أرعن أحمـق
فمشـــت تحطـــم باليميـــن ذخيـــرة
               وتــلص أخرى بالشــــمال وتســرق
جنـــت فضعضعها وراض جماحها
               من نشئـــك الحمس الجنون المطبـق
لقي الحديـــــد حميــــــة أمويــــــــة
               لا تكتسي صدأ ولا هي تطرق[16]

     ففي هذا المشهد نرى بطش المستعمر بدمشق وهو بطش ظلوم هز الزمان فتذكر الناس بحريق دمشق حريق روما من قبل، والقائد الفرنسي الذي قصف المدينة أرعن أحمق يرسل هجمة رعناء حمقاء، طفقت تبطش وتسرق وقد استبد بها جنون لم يضعضعه إلا حماسة أبناء دمشق الذين تصدوا لها، فغلبت الحماسة الأموية الأصيلة، عسف المستعمر وظلمه وجنونه.

     عناصر المشهد واضحة: نار تحرق، وزمان يهتز، وقائد مجنون، وهجمة مجنونة، ناهبة باغية، وشباب شجعان ينتصرون لمدينتهم، ومن هذه العناصر تتكامل جزئيات المشهد وجوانبه المختلفة لنجد أنفسنا أمام لوحة تروع.

     ويقدم شوقي لنا الحزن في الشام على الفقيد في صورة جميلة، تضفي الحياة الإنسانية على غير الإنسان:

بردى وراء ضفــــافه مستعبــر     والحور محلول الضفائر مطرق
والطير في جنـــــبات دمر نوح     يجد الهموم خليـــهن ويــــــأرق

     فبردى إنسان يبكي، والحور في غوطة دمشق محزون متهدل الأغصان تهدل ضفائر المرأة التي أذهلها الحزن عن شعرها، والطير في دمر يبكي بكاء مراً، يعدي الهم إلى الخلي فإذا به أرق ساهر.

     وفي رثاء شوقي لأمين الرافعي يقدم لنا الشاعر مشهداً متكاملاً لقافلة الموت التي سبقت الفقيد وجعلته يمضي وحده يريد اللحاق بهم، والمسافرون في القافلة يصنع الموت بهم صنيعه وينتهي بهم إلى ثرى نقي يجدون معه طعماً لم يكن ليخطر لهم:

مــــال أحبــــابه خليــلاً خليــلاً     وتــــولى اللــــدات إلا قليـــــلا
فصلوا أمس من غبار الليـــالي     ومضى وحـــــده يحث الرحيلا
سكنـــت منهم الركـــاب كأن لم     تضطرب ساعة ولم تمض ميلا
جردوا من منـــازل الأرض إلا     حجــــراً دارساً ورملاً مهيـــلا
وتعـــروا إلى البلى فكســـــاهم     خشـنة اللحد والدجى المســدولا
في يبــــاب من الثـرى رده المو     ت نقيـــاً من الحقــــود غسيـــلا
طرحوا عنـــــده الهموم وقــالوا     إن عبء الحياة كان ثقيلا [17]

     ففي هذا المشهد نرى أصدقاء الفقيد وقد مضت بهم قافلة الموت، ففصلوا من غبار الزمن وتركوه وحده يحاول اللحاق بهم، وفي منزل القافلة الذي حطت به نرى السكون كأن الناس لم تتحرك ساعة من الزمن ولم تقطع ميلاً من الأرض، والمنزل الجديد جردهم مما كان لهم بالأمس في منازلهم وكساهم لحداً خشناً وليلاً مسدولاً، لكنه وضعهم جميعاً في أرض نقية طاهرة من الأحقاد فوجدوا فيها سعادة لم يكونوا يتوقعونها، وتخلصوا بها من همومهم التي كانت عبئاً ثقيلاً عليهم في حياتهم.

     وفي صورة رائعة يتخيل شوقي نفسه وقد مات، وجاء من ينوح عليه ويبكي، ويلقي المراثي التي صيغت من الدمع والحزن والحرقة، لكن الشاعر لا يستطيع أن يتكلم فالردى لا يأذن له بذلك:

رب يــــوم يـنـــــــاح فيه عـلينا     لو نحس النـــــواح والتـرتيـــلا
بمـراث كتبـــن بالـدمع عنــــــا     أسطراً من جوى وأخرى غليلا
يجـــد القــــائلون فيها المعـاني     يوم لا يــــأذن البــــلى أن نقولا

     وما أروع صورة البلى الذي جعله الشاعر وكأنه إنسان له أن يأذن وله أن يمنع، لكنه في هذا الموقف اختار المنع.

     وفي رثاء الطيارين العثمانيين فتحي ونوري يروعنا شوقي بصوره الحية المؤثرة التي وفق فيها أبعد توفيق. يصور لنا شوقي في مشهد حي قصر الحياة وتناقضاتها فيقول:

لا تحفــــلن ببــــؤسها ونعيـــــــمها
               نعـــمى الحيـــــاة وبؤسها تضــليل
ما بيــــن نضرتها وبين ذبــولهــــا
               عمـــر الورود وإنــــه لقــليــــــــل
هذا بشيــر الأمس أصبــــح ناعيــاً
               كالحـــلم جـــــــاء بضده التــــأويل
يجـــري من العبرات حول حديثــه
               ما كـــــان من فــرح عليــه يسيـــل
ولرب أعـــراس خبـــــأن مآتـــــما
               كالرقط في ظل الرياض تقيل[18]

     إن شوقي يريد أن يهون من شأن الدنيا فجمع عدداً من الأضداد فيها وجعلها متساوية، حتى لا يفرح ولا يحزن بها أحد، فبؤسها ونعيمها ضلال ليس لأحد أن يحزن بالأول أو يفرح بالثاني، وهي ما تكاد تزهر حتى تذبل كالورد المعروف بقصر عمره، والذي كان بالأمس يبشر هو اليوم ينعى، كالمنام الذي جاء الواقع على عكسه، وسرور البشير أمس هو عبرات الناعي اليوم، وقد تذهب إلى الرياض الخضراء لتسعد بها فتروعك الأفاعي، كما تروع المآتم المخبوءة في حفلات الأعراس حيث لا يتوقع الناس.

     وفي مشهد رائع جميل يصور لنا شوقي الطيارين الشهيدين اللذين قتلا في الفضاء، وقد صارت السماء بمالها من طهر وعلو وإيمان قبراً لهما:

أي الغزاة أولي الشـــــــهادة قبلكم     عرض السماء ضريحهم والطول
يغــــدو عليــــهم بالتحيـــة أهلــها     ويرفــــرف التسبيـــــح والتهليـل
إدريس فوق يميـــــنه ريحـــــانة     ويســـــوع فوق يميـــــنه إكليـــل
في عـــــالم ســـكانه أنفــــــاسهم     طيب وهمس حديثــــــهم إنجيــل

     إن السماء بطولها وعرضها قبر للشهيدين، وأهل السماء من الملأ الأعلى يذهبون للسلام عليهما حيث يشيع الإيمان تسبيحاً وتهليلاً، وهناك نبيان كريمان يقفان لتحية الشهيدين أحدهما يحمل الإكليل والآخر يحمل الريحان، وسكان السماء حيث قبر الشهيدين أهل تقوى وعفة ونقاء، أنفاسهم كالطيب وحديثهم كالإنجيل.

     ويقدم لنا شوقي وقع الكارثة على دمشق حيث دفن الشهيدان في صورة حية، تحزن فيها دمشق ويحزن أهلها، وتذبل بساتينها، والحزن عام في كل مكان، حتى إن المسجد الأموي انتابه حزن غامر جعله طلولاً:

هلعت دمشــق وأقبلت في أهلها     ملهــــوفة لم تدر كيف تقـــــول
مشت الشجون بها وعم غياطها     بين الجــــداول والعيون ذبــول
في كل سهــــل أنة ومنــــــاحة     وبكـــل حــزن رنـــة وعويــل
وكــــأنما نعيــــــــت أمية كلها     للمسجــد الأموي فهو طلــــول

     وفي رثائه لجورجي زيدان يصور لنا الموت صورة غريبة لكنها دقيقة، فالموت رفيق دائم للإنسان يلازمه في حله وترحاله، والعهد بالرفيق أن يكون حارساً لرفيقه، لكن الموت رفيق غير حارس بل غير مؤتمن، يظل مع الإنسان في سفر أو إقامة حتى يظفر به:

وما علــــمت رفيــــقاً غير مؤتمــــن
               كالموت للمرء في حل وترحال[19]

وفي رثائه لشهداء العلم والغربة يصور كيف استقبل هؤلاء الشهداء في مصر تصويراً جميلاً حياً كأنه لوحة:

يطـــاف بهم نعشــــاً فنعشــــاً كأنهـــــم
               مصاحف لم يعل المصلي على التـــالي
توابيـــــت في الأعنــــاق تترى زكيــة
               كتــــــابوت موسى في منـــاكب إسرال
ملففـــــــــة في حـلــــــة شفقـيـــــــــــة
               هلاليــــة من رايــة النيـــــل تمثــــــال
أظل جــــلال العــــلم والموت وفـــدها
               فــــلم تــــلق إلا في خشوع وإجـــــلال
تفـــــارق داراً من غــــــرور وبـــاطل
               إلى منزل من جيرة الحق محلال[20]

     فالشهداء لهم مكانة علية تجعل المشيعين يتناقلونها نعشاً نعشاً في ترتيب محكم، ولهذه النعوش الزكية قدسية خاصة تجعلها فوق أعناق الرجال الحريصة عليها، مثل تابوت موسى الذي كان يجري في اليم والملائكة تحوطه، وهي ملفوفة في راية النيل الخضراء، يحفها جلالان: جلال العلم وجلال الشهادة لذا لا يلقاها المشيعون إلا بخشوع وإكبار، يرمقونها وهي تفارق دار الغرور إلى دار البقاء.

     إن جمال هذا المشهد يظهر في تكامله وما فيه من حركة ولون وقدسية دينية وظلال، تتجمع عناصره لتضفي عليه الحياة وتملأه بالتأثير.

     وفي رثائه للشريف حسين، سأل المرثي كيف غامر إلى جوار الإنجليز، وكيف انخدع بهم ويعتذر منه بأنه لا يريد لومه، ويعتذر له في بيتين جميلين بأنه لم يكن الوحيد الذي طمع فكان هلاكه في طمعه:

كلنـــــــا وارد الســـــــراب وكل     حمل في وليمة الذئـــــب طــاعم
قد رجونــــا من المغــــــانم حظاً     ووردنا الوغى فكنا الغنائم [21]

     والصورة بديعة جداً، فيها السراب الذي يريده المتوهم، وفيها الحمل الذي يصبح طعاماً للذئب، وفيها من يقدم يدفعه الرجاء للحصول على غنيمة يفوز بها، فإذا به غنيمة يفوز بها أعداؤه.

     ويجعل شوقي العزيمة البعيدة وهي حركة نفسية، ثماراً تظهر بعد حين، ربما لا يستفيد منها زارعها بل الأجيال التالية:

إنما الهمة البعيـــــدة غرس     متأتي الجنى بطيء الكمائم
ربما غــاب عن يد غرسته     وحوته على المدى يد قـادم

     والصورة تجمع الحركة النفسية إلى الحركة المادية، لتؤدي دورها في الإشادة بالمرثي الذي ستظهر آثاره النافعة في قابل الأيام.

     ويوفق شوقي في تصويره لسرعة النبأ الذي وصله إلى الأندلس بوفاة أمه وأثره الدامي عليه توفيقاً بعيداً:

طوى الشرق نحو الغرب والماء للثــرى
               إلي ولم يــركــــب بســــاطاً ولايــــــــما
أبــــان ولم ينبـــــس، وأدى ولم يفـــــــه
               وأدمى وما داوى، وأوهى ومارما[22]

     فالنعي يطوي المسافة من مصر إلى الأندلس طياً سريعاً، وما وصل حتى بلغ دون كلام، وأدى دون قول، وجرح دون أن يداوي، وأضعف دون أن يعين.

     وفي مشهد متكامل بديع يصور لنا شوقي كيف جاءه خبر الموت ليقطع آماله التي أخذت تملأ قلبه مع انتهاء الحرب:

فلما بدا للنـــــاس صبــــح من المنى
               وأبصر فيه ذو البصيــرة والأعـمى
وقرت سيوف الهنــــد وارتكز القنـا
               وأقـلعـــت البـــلوى وأقشعت الغمى
وحنـــت نواقيـــس ورنت مــــــآذن
               ورفت وجوه الأرض تستقبل السلما
أتى الدهر من دون الهنــاء ولم يزل
               ولـوعـــاً ببنيـــان الرجـــاء إذا تمــا

     لقد ظهر للناس فجر من الآمال رأى فيه الجميع خطورة الحرب فعملوا على وقفها، فتوقف القتال ومضى البلاء، وحنت المساجد والكنائس إلى السلم وفرحت الأرض وطربت، وفي هذا الموعد الجميل جاء الموت ليعكر على الهناء صفوه، وتلك عادته التي أولع بها من قديم. إن المشهد متكامل فيه مقدمات تقطعها المفاجأة بغير المتوقع، فتبلى آمال الشاعر ويزول هناؤه لما صنعه به الدهر الذي حرمه من أمه التي كان يتوقع لقاءها مع نهاية الحرب.

     وفي رثائه لمصطفى كامل، يخاطب الشاعر الفقيد:

شهيــــد الحق قـــــم تره يتــــيماً
               بــــأرض ضيعت فيها اليتـــامى
أقــــام على الشفاه بها غريبــــــاً
               ومر على القلوب فما أقاما[23]

     إن الشاعر يجعل من المرثي شهيداً للحق، ثم يأسى لحال الحق الذي بات يتيماً حيث لا يحفظ اليتامى ولا يصانون، وقد بلغ الأمر بالحق اليتيم الذي زهد فيه الناس أن صار غريباً منبوذاً ليس له محل لا في القلوب ولا حتى في الأفواه. والصورة بديعة جداً يجمع فيها الشاعر بين المحسوس وغير المحسوس، والغربة على الشفاه والقلوب، لتروع السامع وتحزنه على الحال العسير الذي صار إليه الحق.

     وفي صورة مكثفة تومض صور لنا جنازة الفقيد التي ملأت الأرض، والتي حملت على النعش الهمة والدين والمروءة والزعامة:

ولم أر مثـــل نعشك إذ تهادى     فغطى الأرض وانتظم الأناما
تحـــمل هـــمة، وأقـل دينــــاً     وضم مروءة وحـــوى زماما

     وفي مشهد بديع يصور لنا شوقي في رثائه لأبيه المودة التي كانت بينهما، والتي كانا بها يأكلان معاً ويشربان معاً ويتمشيان معاً، في بساطة وعفوية، لا توحي لمن يراهما بأنهما أب وابن يتعاملان بما تلزمهما به قواعد التعامل بين الآباء والأبناء، بل هما صديقان يتعاملان بعفوية وندية:

مــــا أبي إلا أخ فـــــــــارقتـه     وده الصــدق وود الناس مين
طـــالما قـمنـــــا إلى مائـــــدة     كانت الكســرة فيها كســرتين
وشربنــــا من إنــــاء واحــــد     وغســـلنا بعد ذا فيه اليــــدين
وتمشــــــــينـا يــدي في يـــده     من رآنا قال عنا أخوين[24]

     وفي رثائه لمصطفى كامل نجد هذه الصورة المكثفة التي تومض وتوحي، وتجعل المتلقي يتعامل مباشرة مع غناها وجمالها وجلالها:

ومشى جلال الموت وهو حقيقة     وجلالك المصدوق يلتقيان[25]

     ففي هذه الصورة جلال للموت، وجلال للميت، وهذان الجلالان يلتقيان، فيكون بينهما تقدير لبعضهما من جانب، وخضوع أحدهما للآخر من جانب، ثم لا تفصل لنا الصورة شيئاً بعد ذلك بل تترك لخيال الواحد منا أن يتعامل معها كما يشاء.

     وفي القصيدة نفسها مشهد رائع متكامل، لشجاعة الفقيد قبيل موته وصبره وبعد همته واستبساله في خدمة وطنه:

ولقد نظرتك والردى بك محـدق     والداء ملء معــــــالم الجثـــمان
يبغي ويطغى والطبيـــب مضلل     قنط وســـــاعات الرحيل دواني
ونواظر العـــــواد عنـــك أمالها     دمع تعــــــالج كتــمه وتعــــاني
تمـــلي وتكتب والمشــاغل جمة     ويداك في القرطاس ترتجفــــان
فهششت لي حتى كأنك عائـــدي     وأنـــا الذي هد السقــــام كيــاني
ورأيت كيف تموت آساد الشرى     وعرفت كيف مصارع الشجعان

     فالشاعر ينظر إلى صديقه قبيل موته، الردى محدق به، والداء يملأ أركانه، والطبيب قنط حائر، والباقي من الحياة قليل، وعيون الزوار ملأى بالدموع تحاول كتمها عن الزعيم، والزعيم مع هذا كله، لا يزال يكتب مرة ويملي مرة تحدوه رغبة في إنهاء مشاغله الجليلة الجمة فيما بقي له من ساعات وفاء منه لوطنه، وعلو همة، ومضاء عزيمة، والأعجب من ذلك أنه هو الذي يبتسم للشاعر، وكأن الشاعر مريض جاء الزعيم يعوده ويشجعه، وهذا منه موقف جدير بالإعجاب يتعلم منه الناس كيف تموت الأسود وكيف يقضي الشجعان.

     إن هذا المشهد متكامل رائع يشكل لوحة تتجمع جزئياتها وتفاصيلها من موت ومرض، وطبيب يائس، وزمن يسرع، وعيون تبكي، وسباق بين المشاغل والموت، وبسمة صابرة راضية تجعل المريض زائراً والزائر مريضاً، وخاتمة يموت فيها البطل الميتة اللائقة به، لنجد أنفسنا أمام منظر درامي ينتزع منا الإعجاب والحزن معاً.

     وهكذا يستبين لنا بجلاء أن شوقي شاعر مصور مقتدر، الصورة أداة أساسية يكثر من استعمالها، ويعدد في موادها وينوع في أشكالها فهي مرة صورة مكثفة غنية تومض وتوحي أكثر مما تفصل وتستقصي، وهي مرة مشهد متكامل تتجمع فيه الجزئيات والتفاصيل لتتعاون معاً في إخراج لوحة تامة الأبعاد والنسب تروع وتعجب، وأحياناً يأتي بالحوار والتساؤل وهو ما يضفي الحياة والحركة على المشهد، وأحياناً يجمع المتناقضات والأضداد ليسوي بينها، وأحياناً يلجأ إلى التناقض الساخر، وكما تروعنا قوة تصويره للأشياء المادية، تروعنا قوة تصويره للحركة النفسية، ولجمعه الموفق بين المحسوس وغير المحسوس.

     لذلك للأستاذ أحمد محفوظ أن يشيد بملكة شوقي المبدعة في قوة التصوير فيقول فيها: ((كان شاعر وصف من الطراز الأول، كان يصور الروضة فيجيد عرض محاسنها ويجلوها في جمال أخاذ ويصف القصر فتأخذك روعة أبهائه وجمال شرفاته، ويصف البحر فتحس بأمواجه الدافقة المتدفعة تغمرك برشاشها، وزرقته الزاهية تسلبك النظر إليها والتحديق فيها ... وشوقي كان بعيد الرمية في التصوير عندما يصف، كان كامل الصورة عندما يبرز اللوحة الفنية من الغرض الموصوف، وهو ثاني اثنين في الشعراء ابن الرومي وهو، وحسبه مجداً أنه تال لأفحل شاعر وصاف عرفه الشعر العربي))[26].

     وللدكتور شوقي ضيف أن يصف شوقي بأنه كان ((واسع الخيال، غني التصوير، وشعره من هذه الناحية متحف لصور وأشباح متحركة تفد عليك من كل جانب، وكأنها تريد أن تأخذ عليك كل طرقك حتى تعلن إعجابك بصاحبها، وإن الإنسان ليخيل إليه أنه لم تكن تفوته لفتة أو حركة لشيء أو لصورة إلا اختزنها في ذاكرته ووعاها في حافظته، ليلقي بها عند الحاجة رسماً أو لوحة باهرة))[27].

     كان شوقي إذن شاعراً مصوراً مقتدراً أعانته ملكته القوية وظروفه المواتية على اختزان الكثير مما يقرأ ويسمع ويشاهد، فيسعفه هذا المخزون المليء وقت الحاجة خير إسعاف في تقديم صور جميلة رائعة. يقول الدكتور محمد حسن عبدالله:((إن الطبيعة بكل ما تنطوي عليه من أشياء وجزئيات وظواهر، هي المصدر الأساسي لإمداد الشاعر بمكونات الصورة، ولكنه لا ينقلها إلينا في تكوينها وعلاقاتها الموضوعية، إنه يدخل معها في جدل فيرى منها أو تريه من نفسها جانباً. يتوحد معه بإدراك حقيقة كونية وشخصية معاً))[28]. والنظر في صور شوقي على ضوء هذا الرأي النقدي، يؤكد لنا أنه كان شاعراً غنياً في امتلاك مكونات الصور، قادراً على التفاعل معها، بما يجعله في النهاية مصوراً مقتدراً رائعاً.

------------
[1] شوقي شاعر العصر الحديث، ص 46 – 49.
[2] الديوان 2/344.
[3] الديوان 2/350.
[4] الديوان 2/359.
[5] الديوان 2/366.
[6] الديوان 2/369.
[7] الديوان 2/373.
[8] الديوان 2/377.
[9] الديوان 2/386.
[10] الديوان 2/398.
[11] الديوان 2/427.
[12] الديوان 2/434.
[13] الديوان 2/441
[14] الديوان 2/447.
[15] الديوان 2/486.
[16] الديوان 2/492.
[17] الديوان 2/496.
[18] الديوان 2/503.
[19] الديوان 2/512.
[20] الديوان 2/516.
[21] الديوان 2/526.
[22] الديوان 2/532.
[23] الديوان 2/538.
[24] الديوان 2/558.
[25] الديوان 2/574.
[26] حياة شوقي، ص 103 – 107.
[27] شوقي شاعر العصر الحديث، ص 46.
[28] الصورة والبناء الشعري، دار المعارف، القاهرة، 1988م، ص 33.

كتاب الرثاء في شعر البارودي وشوقي وحافظ - الفصل الأول - 10 - لغة الشعر

الفصل الأول
(الرثاء في شعر شوقي)

10- لغة الشعر:

     كانت لشوقي معرفة واسعة بالعربية، مفردات وتراكيب وطرائق تعبير، وكانت له إلى جانب ذلك أذن موسيقية واعية، صقلتها كثرة المطالعة في دواوين الشعر العربي، وحبه للموسيقى والغناء، فتلاقى هذان الأمران ليجعلا لغة شعره لغة متفردة متميزة، تتجاوز رتبة الصحة لتصل إلى درجة الكمال والجمال، وحسن الاتساق وتمام الاستواء دون نبو أو شذوذ، فكأنها خرير الماء الصافي في أرض هادئة لينة، إن لغة شوقي لغة عالية دون غلظ، لينة دون إسفاف، وهو فيها صائغ ماهر مقتدر، وهو أمر يمكن لنا أن نعثر عليه في مراثيه جميعاً لسعته وامتداده.

     وإذا كان لدارس أن يؤاخذ شوقي في موقف وطني، أو عاطفة باردة، فليس له بحال أن يؤاخذه في لغته التي كانت قوية محكمة مصفاة. يقول الأستاذ عباس حسن: ((وأما شوقي فكلماته منتقاة، وألفاظه ممتازة، يضع الكلمة اللائقة في الموضع اللائق، تتوسط أخوات مؤتلفات فلا نفور ولا قلق ولا إكراه، ومامثله إلا كالصيرفي النقاد فهو بحتري زمانه))[1].

     أما الأستاذ أحمد محفوظ فإنه يقول: ((ولم يكن شوقي إلا ساحر الأسلوب جزل اللفظ يستعرض الحسن منه فيختار أحسنه، فهو صائغ صناع، وإذا أراد صوغ عقد نثر حقيبة جواهره، فاختار ما يلائم الذوق الرفيع، وصاغ العقد بمقدار يرضي الجمال بل يبهره، وشوقي عندي يتبع البحتري في هذا، فهما اثنان لم يظفر الشعر العربي بضريب لهما في جمال الأسلوب ... وهو لا ينزل إلا قليلاً، لأن ذوق الاختيار عند الفنان المطبوع لا يتزحزح من الحسن إلى القبيح حيث هو عالم بالحسن قادر عليه. فهو إن تزحزح إنما يتزحزح درجة أو درجتين، فالموهبة تأبى عليه أن ينزل دون ذلك، لأنها غالبة عليه في المجال، والكمال المحض غير واقع، فصفاء العبقرية قد يعتوره سحاب يحجب الشمس ولكنه لا يحجب الضياء))[2].

     أما الدكتور طه وادي فإنه يقول: ((أسهم شوقي على درب الإحياء الشعري وبدايات التجديد فيه، بمحاولات كثيرة كماً وكيفاً، فشعره يمثل مرحلة متقدمة من مراحل إحياء الشعر العربي التي بدأها البارودي، حيث أصبحت الجملة الشعرية أصفى لغة وأثرى خيالاً وأقوى تركيباً، وحملها طاقة غنائية عذبة، موظفة عناصر التراث القديم ومطورة لها، وهذه العودة إلى مصادر العروبة في الفن هي التي وحدت الذوق العربي حول شعر شوقي وأهلته بالتالي ليكون أمير الشعر العربي سنة 1927م))[3].

     وأما الدكتور شوقي ضيف فهو ينتهي إلى أن شوقي ((عني عناية شديدة بدرس الشعر وعيونه التي سبقته، وهو درس انتهى به إلى فهم أسرار الصنعة ومعرفة أصولها معرفة جعلت النصر حليفه في أكثر مبارياته إن لم يكن فيها جميعاً. فلقد تلقن أصول الصياغة العربية في الشعر، ولم تعد هناك كلمة شاعرية أو لفظة موسيقية لم يعرفها شوقي فقد أحاط علماً بكل القوالب الصوتية))[4]، وبعد أن يقارن الدكتور شوقي ضيف بين البحتري وشوقي يقول: ((إن شوقي يجري على عمود الشعر العربي، فقد أوتي من علمه بصياغاته وتأليفه ما لم يؤته شاعر منذ البحتري))[5].

     وهكذا تتضافر شهادات الدارسين لتعلي – بحق – من لغة شوقي وتؤكد عظمتها وتفوقها. الأمر الذي يشهد له ديوانه به حيث مضيت.

     يقول شوقي في رثاء صديقه عمر لطفي:

قفــــوا بالقبــــور نســــائل عمر     متى كانت الأرض مثـوى القمر
سلوا الأرض هل زينــت للعليــ     ـم وهل أرجت كالجنـــان الحفـر
وهل قـــــام رضوان من خلفها     يــلاقي الرضي النـقي الأبـــــر
برغم الـقــــــلوب وحبـــــــاتها     ورغم الســــــماع ورغم البصر
نزولك في الترب زين الشبــاب     سنــــاء الندي سنــــــــا المؤتمر
مقيــــل الصديـــق إذا ما هـفـــا     مقيـــــل الكريم إذا ما عثــــــــر
حييــــت فكنـــت فخــار الحيـاة     ومت فكنت فخـــــار السير[6]

     إن الألفاظ في هذه الأبيات واضحة جلية فيها حسن الانتقاء، الذي يجعلها سهلة الفهم، وفيها اختيار يجعل بعضها موحياً يترك لدى المتلقي أثره الذي يوسع مدى خياله وتفاعله، أما بنية الجملة فهي مستوية مستقرة مسترسلة، تتوالى فيها الكلمات لتقع الواحدة منها في موقعها الطبيعي دون عسف أو تكلف. يضاف إلى ذلك ولع شوقي بالمقابلة حيث يوائم بين الشطرين برد الثاني على الأول أو تكملته على النسق نفسه، كما نرى في البيتين الأخيرين من هذه القطعة.

     ولو وقفنا عند قول شوقي في تصوير السفينة الغارقة في قصيدته في كتشنر:

وجفت قلباً وخــــارت جؤجؤاً     ونزت جنبــاً ونــاءت من أخر
طعنت فانبجست فاستصرخت     فأتـــاها حينها فهي خبـــر[7]

     لراعتنا قدرته على انتقاء ألفاظه المؤدية الموحية، وموالاة التعقيب على الأفعال الدالة على الحدث بالفاء بحيث نشهد منظر السفينة تحيط بها الكارثة بسرعة بالغة، فيضطرب قلبها، وتعجز مقدمتها، وتميد من الجنب، وتثقل من الخلف، ويتتابع في المشهد منظر الطعن فالانفجار فطلب النجدة فالهلاك، وهكذا كانت الألفاظ والتراكيب مؤدية معبرة عن المشهد باقتدار تام.

     وانظر إلى هذه الأبيات من رثائه لمحمد المويلحي:

سيـــد المنشــئين حث المنـــــايـا     ومضى في غـبـــــاره أتبـــــاعه
حطـــهم بالإمــــام للموت ركـب     يتـــــلاقى بطـــاؤه وســـــراعـه
قنعوا بالتـــــراب وجهـــاً كريماً     كان من رقعة الحيــــــاة قنــاعه
كسنــا الفجر في ظلال الغوادي     كرم صفحتاه، هدي شعاعه[8]

     فالألفاظ مؤدية دالة، سهلة دون ابتذال، موحية دون غموض، فيها حسن الانتقاء وفيها حسن التوزيع داخل الجملة بحيث تقع اللفظة موقعها، والجمل مسترسلة محكمة، تتوالى بانسجام وانتظام، والشطر الثاني يتم معنى الشطر الأول أو يضيف إليه أو يقابله، بحيث يخرج المرء من تمثله للأبيات وهو في أحسن حالات الفهم والتلقي والمشاركة.

     ومثل ذلك يقال في هذه الأبيات من رثائه إسماعيل صبري، وهي أبيات تألقت فيها لغة شوقي وارتفعت إلى الذروة:

جلل من الأرزاء في أمثـــــاله     همم العزاء قليـــلة الإسعـــاف
خفت له العبـــرات وهي أبيــة     في حادثات الدهر غير خفـاف
ولكل ما أتلفت من مستـــــكرم     إلا مودات الرجـــــال تــــلافي
ما أنت يا دنيــــا أرؤيا نــــــائم     أم ليل عرس أم بســــاط سلاف
نعــــماؤك الريحـــــــان إلا أنه     مســت حواشيه نقيع زعـــــاف
حملوا على الأكتاف نور جلالة     يذر العيون حواسد الأكتـــــاف
وتقــــلدوا النعش الكريم يتــيمة     ولكم نعــوش في الرقاب زياف
متمايـــل الأعواد ممــا مس من     كــرم ومما ضم من أعطـــــاف
وإذا جلال الموت واف ســــابغ     وإذا جلال العبقرية ضــافي[9]

     فهي مستوية الصياغة جداً، ألفاظاً وتراكيب، انتقاء وترتيباً، وموالاة بين الأشطر تكملة أو إضافة أو مقابلة، فلا يشعر المرء إزاءها إلا بالروعة والإعجاب، ولا يملك إلا الإقرار أنه أمام يد قادرة صناع، وهذه السمة هي من الكثرة والشيوع والاتساع بحيث تكاد توجد في جميع مراثي شوقي، الأمر الذي يجعل متابعتها بالدرس والتحليل عملاً نمطياً، لذلك توقفنا لدى بعض النماذج التي تغني عن المتابعة والاستقصاء.

     ومن أجمل ما وفق فيه شوقي في صياغته، تلك الإضافات اللفظية الجميلة، التي توحي بالجدة والطرافة وحسن الوقع، وتزيد من القدرة على الإيحاء، مثل: ((سابقة الوداد))، و((صنعة الأفواف))، و((ثياب زفاف))، و((عذب نطاف))، و((لماح النعيم))، و((صفوة الألاف))، و((رؤيا نائم))، و((بساط سلاف))، و((جلال العبقرية)) في القصيدة نفسها. ومثل ذلك يقال عن الصفة التي تلحق بالموصوف لتسبغ عليه روعة وجمالاً، مثل: ((الرفات السافي))، و((الغدير الصافي))، و((قرنها الرعاف))، و((الروضة المئناف)) في القصيدة نفسها.

     وفي رثاء شوقي ليعقوب صروف، نعثر على مثل هذه الصيغ البليغة المؤدية: ((خداع سراب))، و((وشيك خراب))، و((قيام ضباع))، و((قعود ذئاب))، و((شهد رضاب))، و((مجال وثاب))، و((فسيح رحاب))، و((رفاف ريحان))[10].

     وفي رثائه لمحمد فريد نعثر على مثل هذه الصيغ: ((ساقة النعش))، و((منار المعاد))ـ، و((حقيبة الموت))، و(( نضو سفار))[11].

     وفي رثاء شوقي لأمين الرافعي نظفر بهذه الصيغ الجميلة: ((غبار الليالي))، و((خشنة اللحد))، و((الدجى المسدولا))، و((خالدي الغرار))، و((قرحة الثكل)) ([12]).

     وهذا النوع من الصياغة يبرع فيه شوقي، ويضفي على أسلوبه جمالاً وروعة.

     وهكذا برع شوقي في صياغته، وبلغ شأواً بعيداً من الصحة والجمال والتفوق في ألفاظه، وفي تراكيبه، إننا نجد فيها السهولة دون ابتذال، وحسن الانتقاء دون تكلف، والإيحاء دون غموض، والجزالة دون إغراب، ونجد أيضاً الانسجام والاسترسال في سبك متسق يقع فيه كل شيء موقعه المناسب دون عسف أو إكراه، كما نجد التقابل، والإضافة البديعة، والوصف المؤدي، وهذا كله من أمارات عبقرية شوقي وتفوقه، وهو أيضاً دلالة على قوة ملكته الموسيقية الرائعة المصفاة.

     لقد كان شوقي واحداً من أهم رموز مدرسة الإحياء، وهي مدرسة لها دورها الكبير في الشعر العربي على عدة مستويات منها مستوى اللغة، فقد أحسنت هذه المدرسة للغة، وأعادتها إلى قوتها القديمة وحررتها من الضعف الذي لحقها دهراً طويلاً. يقول الدكتور طه وادي وهو يتحدث عن دور هذه المدرسة: ((إن دور هذه المدرسة جليل في بعث المعجم اللغوي القديم وإشاعته، بعد أن انقطعت في العصور الوسطى صلة الفكر والأدب به. إن الإحيائيين استوحوا القديم قلباً وقالباً. من هنا فإنهم قد أثروا المعجم المتداول وأعادوا للغة نقاءها وبهاءها وقوة أدائها. ومن يدرس إنتاج العصر كله فكرياً وأدبياً وصحفياً يلمس إصرار المثقفين على استخدام المفردات ذات الصلة القوية بالمعجم القديم))([13]).

     وإذا صح هذا الحكم على أحد من شعراء الإحياء فإنه بدون ريب يصح على أشهر أعلامهم البارودي وحافظ وشوقي، الذين كانت لهم مقدرة لغوية متفردة، ومعجم شعري غني، شديد الصلة بالمعجم اللغوي القديم للشعر العربي.

     إن ديوان شوقي كله، في مراثيه وفي غير مراثيه، يشهد بتفوقه في لغته، وهو تفوق يدل على أن صلته الوثيقة والمستمرة، بعيون الشعر العربي منحته القدرة على السيطرة عليها، حتى باتت كأنها عجينة بين يديه يشكلها كما يشاء بيسر ومهارة، وكأنها ألقت إليه قيادها تماماً، راضية مختارة.

----------------------
[1] المتنبي وشوقي، ص 91.
[2] حياة شوقي، ص 100 – 102.
[3] شعر شوقي الغنائي والمسرحي، ص 11.
[4] شوقي شاعر العصر الحديث، ص 78.
[5] المرجع السابق، ص 81.
[6] الديوان 2/447.
[7] الديوان 2/441.
[8] الديوان 2/480.
[9] الديوان 2/486.
[10] الديوان 2/373.
[11] الديوان 2/434.
[12] الديوان 2/496.
[13] شعر ناجي الموقف والأداة، دار المعارف، القاهرة، ط3، 1990م، ص 19.

كتاب الرثاء في شعر البارودي وشوقي وحافظ - الفصل الأول - 09 - التجربة الشعورية


الفصل الأول
(الرثاء في شعر شوقي) 

9- التجربة الشعورية:

     كانت شخصية شوقي شخصية عميقة الغور، ليس من اليسير معرفة مكنونها وعاطفتها، وقد تعمق هذا الأمر فيه من طول عمله الرسمي مع الخديوي عباس حيث يضطر الموظف خاصة إذا كان كبيراً وقريباً من قيادة الدولة إلى أن يكيف نفسه مع التوجه العام لها، ويوظف اهتمامه وعواطفه في الوجهة التي تنسجم مع ذلك، فهو حين يفكر أو يقترح أو يبدي رأياً أو ينفعل، يفعل كل ذلك بحساب دقيق، خلافاً للإنسان البعيد عن هذه الأجواء الذي يكون أقرب إلى العفوية والتلقائية إزاء ما يعرض له. وحتى حين زالت دولة عباس وزالت دولة شوقي السياسية معها، لم تزل عنه قيوده القديمة إلا بمقدار، ولعله كان يقصد نفسه حين قال:

من يخلع النير يعش برهة     في أثر النير وفي ندبه[1]

     وقد وصفه الأستاذ أحمد محفوظ، بأنه كان ذا مزاج خاص يدل على الأثرة، وهو مزاج كان يتحكم به، بحيث لو كان أخوه في حاجة أو مجاملة تثقل عليه لما قام بها[2].

     أما الأستاذ العقاد فقد وصفه بأنه لم ينصر مذهباً من مذاهب السياسة الوطنية إلا في إبان دولته القائمة أو في الوقت الذي يأمن فيه سوء العاقبة[3]، ورأي العقاد هذا يلتقي مع رأي الدكتور طه حسين الذي يقول عن شوقي: ((ولم يكن له في حياته اليومية عدو ظاهر، إنما الناس جميعاً أصدقاؤه وخلصاؤه، يظهر لهم صفحة واضحة نقية، ومن وراء هذه الصفحة صفحات بيض وصفحات سود))[4].

     أما الأستاذ سيد قطب فإنه يجعل طلب السلامة هدفاً ثابتاً عند شوقي، لذلك لم يكن يقوم بدور الموجه الرائد الذي يقتنع بفكرة ويتبناها حتى لو جرت عليه الأذى، وإنما كان يقوم بدور المحبذ لما آلت إليه الأمور وصارت إليه الحال. يقول: ((ونحن حين نتتبع شوقي في مواعظه التي ضمنها أماديحه لا نراه مرة واحدة قام بدور الموجه، وإنما قام دائماً بدور المحبذ للأمر الواقع ... وبذلك لم يكن شوقي واعظاً بل كان مؤيداً لكل حالة واقعة بعد وقوعها، ولقد كان من غير شك في جميع الأوقات ينفذ وصيته في مجنون ليلى:

إذا الفتنة اضطرمت في البلاد     ورمت النجــــــاة فكن إمعـــة

     فالسلامة هي التي كانت تسير شوقي في أماديحه ومواعظه كلها بحيث لا تكلفه جهداً ولا مشقة ولا تضحية من أي نوع ومن أي لون ... وأصدق ما يقال عن شوقي: إن هذه لم تكن سماحة نفس، وإنما كانت هي سمة رجل البلاط الذي عليه أن يستقبل صاحب السلطة أياً كان، بالانحناءة المحفوظة والابتسامة المعروفة، وهكذا كان يرحمه الله))[5].

     ويلاحظ الدكتور عبد القادر القط أن شوقي لم يكن يشعر بلوعة الحزن إزاء من يرثيهم في معظم الأحيان، يقول: ((لقد كان شوقي في معظم مراثيه يحاول أن يتفلسف ويخلع على من يرثيهم كثيراً من الفضائل المألوفة لأنه في معظم الأحيان لم يكن يشعر نحو من يرثيهم بلوعة الحزن التي تجعل من الرثاء فناً آخر غير فن المدح))[6].

     أما الأستاذ يحيى حقي فيرى أن الظروف المواتية لشوقي أضرت به، يقول: ((ولكن هذا التدليل الذي لقيه شوقي قد أضر به ولو قليلاً، فهو لم يسلم من أن يتحول أحيانا بسببه من شاعر يهز بقوة وجدان الشعب، إلى شاعر لا يقصد إلا التطريب، كأن الشاعر القائد انقلب إلى نديم مسامر، ولما وجد نفسه في غمرة الأضواء اتخذ شيئاً فشيئاً صورة راقص الباليه، مفتوناً هو نفسه قبل الجمهور برشاقته في حركته، وأجمل منها عنده رشاقة سكونه، كأنه تمثال، الحركة هي القصيدة والسكون هو البيت))[7].

     تلاقى هذا كله مع حب شوقي للخلود، ورغبته في أن يكون الشاعر الذي يذكر اسمه في كل مناسبة، فأكثر من النظم، وأكثر من الرثاء، فرثى من يعرف ومن لا يعرف، ومن يحب ومن يكره[8]، المهم أن يقرأ له الناس مرثية في شخصية ماتت، ويفسر الأستاذ يحيى حقي حرص شوقي على ذلك، بأنه دلالة على أن شوقي إنما هو صورة عصرية لشاعر القبيلة في عصره الذهبي، فشاعر القبيلة العربية هو المدافع عنها، والمفتخر بأمجادها، والراثي لقادتها، أي هو سجلها الدقيق الأمين، وقبيلة شوقي هنا هي مصر والعروبة والإسلام، وهذا صحيح فشوقي كانت تتداخل فيه هذه الدوائر الثلاث تداخلاً يتكامل ولا يتناقض، فهو محب لها، فإذا أضفنا إلى ذلك حب شوقي الشديد لشعره ولنفسه، وقدرته الهائلة على النظم، وتفرغه له، ورغبته في المجد والخلود، كان لنا أن نفسر كثرة مراثيه، وكان لنا أن نقبل تفسير الأستاذ يحيى حقي[9] بأنه امتداد عصري لشاعر القبيلة، والقبيلة هنا هي مصر والعروبة والإسلام.

     يقول الدكتور أحمد محمد الحوفي: ((ولا عجب في وفرة مراثي شوقي وفرة لا نظير لها في شعر أحد من شعراء العربية القدامى والمحدثين، لأن شوقي كان شاعر مصر وشاعر العروبة وشاعر الإسلام، يعبر عن أفراح المصريين والعرب والمسلمين وعن أتراحهم، فلم يكن بد من رثائه لعظمائهم وعزائه في سادتهم وقادتهم))[10]. من أجل ذلك للأستاذ يحيى حقي أن يقول بحق: ((لا نملك ونحن نستعرض باب الرثاء عند شوقي إلا أن نتخيله رجلاً لا يبلغه نبأ وفاة صديق له أو لأسرته، أو نبأ وفاة علم من الأعلام، لا في مصر وحدها، بل في العالم العربي، بل في العالم الإسلامي، بل في أوربا، إلا سارع وصاغ قصيدة في رثائه، وأحياناً لا يكتفي برثائه لأعلام مصر أيام المأتم بل ينظم قصيدة أخرى يوم الأربعين أو يوم تأبين بعد عام ... لا عجب أن مال الناس إلى اتهام شوقي بالإفراط كأنه ندابة محترفة، متطوعة، لا ترى جنازة إلا سارت خلفها تذرف الدمع، وقد بلغ هذا الاتهام مسامع شوقي أو لعله أحس به من تلقاء ذاته فدافع عن نفسه بقوله:

يقولون يرثي كل خل وصاحب     أجل إنما أقضي حقوق صحابي

     وحين رثى سعيد زغلول توقع أن يتهمه الناس أيضاً بأنه قصد من هذا الرثاء مجاملة خاله سعد زغلول، بل الأدهى من ذلك أنه قصد من هذه المجاملة أن يختاره سعد عضواً في مجلس الشيوخ فإذا به في هذه المرثية يسارع إلى نفي التهمتين عن نفسه بقوله:

سيــقولون ما رثـاه على الفضــ      ـل ولكن رثــــــاه زلفى لخـــاله
لست أرجـوه كالرجـال لصيــــد     من حرام انتخــابهم أو حــــلاله

     وحين شاع الإزراء بما يسمى شعر المناسبات كان لابد من أن يثب اسم شوقي للخاطر إذا أريد التمثيل بسبب هذه المراثي العديدة))[11].

     شوقي إذن أسير ظروف سياسية، ومالية، واجتماعية، ومزاج شخصي حاد، ورغبة عنيفة في المجد والخلود، يسارع إلى الإكثار من الرثاء، كثرة بالغة، لا نظير لها في قديم أو حديث.

     ترى ما الذي يؤدي إليه ذلك كله؟ لابد أن يؤدي إلى أن تكون العاطفة عنده في الأغلب باردة فاترة وقل أن تتوهج لتكون عاطفة حية محترقة، وهذا الأمر لاحظه غير دارس، فالدكتور شوقي ضيف الذي يشيد بخيال شوقي وموسيقاه لا يجعل للعاطفة مثل حظهما في شعره، يقول:((وهذان الركنان من الخيال والموسيقى الواضحان في صناعة شوقي، كان يسندهما ركن ثالث هو ركن العاطفة وإن لم يكن له وضوحهما ولا قوتهما، لسبب بسيط، وهو أن شوقي يكاد ينكر نفسه في شعره، فهو ليس من الشعراء الذاتيين الذين نقرأ عندهم حدة العواطف))[12].

     وبعد أن يصف الدكتور شوقي ضيف الشاعر الكبير بأنه شاعر غيري لا ذاتي، وأن عواطفه العامة تغلب عواطفه الخاصة، يعود ليقرر ((والحقيقة أن شوقي يمثل الشخص المترف، الذي أترف حسه وشعوره إلى أقصى حد، ولعله لذلك لم يستطع النهوض بالتعبير عن عواطف صارخة أو منحرفة في نفسه))[13].

     أما الأستاذ فوزي عطوي فإنه يقول معلقاً على رثاء شوقي لمصطفى كامل في نونيته الشهيرة: ((ومهما حاول شوقي التبرير والاعتذار، فإن السمة العامة لقصيدته الرثائية هي البعد عن العاطفة العميقة))[14].

     وأما الدكتور عبد الرشيد عبد العزيز سالم فإنه يقول: ((وأما شوقي فقد كان ثرياً محظوظاً في حياته وعمله وعترته، لذلك كان غالباً ما يملأ رثاءه وتأبينه للزعماء والقادة بالحكم والأمثال التي تدل على عمق فكرته وبعد نظره، وإن كانت العاطفة فيها ليست مشبوبة ملونة بالسواد والحزن كما هي عند حافظ))[15]. والأستاذ عباس حسن يقرر أن العاطفة ((فاترة خامدة في كثير من شعر شوقي، لا تتأجج ولا تتدفق إلا في النواحي الوطنية والدينية، ووصف متاعبه وما يلقى من أهوال، ورثائه لأهله وخاصة نفسه، وأصحاب نعماه، وبعض الغزليات))[16].

     وقد أدى هذا كله: طبيعته العميقة الهادئة، والتدليل الذي أضر به بسبب ما مر به من ظروف مواتية، وطول مقامه في العمل الرسمي بكل قيوده وحساباته، ومزاجه الحاد الذي يتحكم في علاقاته، وإيثاره للراحة والسلامة والعافية، ورغبته في المجد والخلود، وانتماؤه لدوائر مصر والعروبة والإسلام انتماء يتكامل ولا يتناقض، وحرصه على أن يكثر من النظم وقدرته على ذلك، إلى برود عاطفته إزاء الأحداث والأشخاص في الغالب، وهو برود يتفاوت بين مرثية وأخرى، وربما اشتد أحياناً بحيث يشعر المرء أنه أمام نعي رسمي جاف، كما نجد في قصائده في هيجو، والأمير اليمني، والأميرة فاطمة إسماعيل، والإمام محمد عبده.

     ومن أجل هذا يحاول شوقي تغطية عاطفته الباردة بالإكثار من الحكمة والأسئلة الفلسفية والفخر بنفسه وشعره، والانصراف إلى أشياء أخرى تتصل أو لا تتصل بالشاعر أو المرثي.

     ومن أجل ذلك قد تروعنا مراثي شوقي بموسيقاها الصافية وجرسها الجميل، ولغتها الطلية المصفاة وما فيها من صور وأخيلة، ومعان فلسفية أو وطنية، لكنها في الغالب لا تقع منّا الموقع الذي يؤثر في عواطفنا ويستثير أحزاننا.

     وحين يفلت شوقي من قيوده، ويتخلص من بروده، كأن يكون بينه وبين المرثي صلة مودة خاصة، أو قضايا دينية أو وطنية، أو قرابة، ترتقي مراثي شوقي وتتفوق، وذلك كقصائده في إسماعيل صبري، وأمين الرافعي، وعمر لطفي، والطيارين العثمانيين، وعمر المختار.

     في رثائه لعبد الحليم العلايلي، نشعر بملامح مودة شخصية بين الشاعر وبين المرثي في آخر القصيدة، جعلت للأبيات طابعاً حزيناً.

أخي عبدالحليم ولســــت أدري     أأدعو الصهر أم أدعــو الإخاء
وكم صح الوداد فكـــان صهراً     وكـــان كأقــرب القربى صفاء
عجيــــب تركك الدنيـا سقيـــماً     وكنـــت النحــل تملأها شفــاء
وكنـــــا حين يعضــــل كل داء     نجيء إليك نلتمس الدواء[17]

     فالشاعر محزون لفقدانه المرثي الذي كان يجمعه به الصهر والإخاء معاً، ويبدو أن المودة كانت بينهما عامرة، لذلك كانت وحدها صهراً أو كالصهر، وكان الفقيد مثابة للشاعر يلجأ إليه إذا أعضله أمر.

     وقصيدة شوقي في عمر المختار وهي من أفضل قصائده، تظهر فيها عاطفته قوية جياشة، فلقد أسرته شخصية الشهيد بجهادها ودينها ونهايتها المأساوية، فإذا بعاطفته تتحرك وتصدق وتتحد مع صوره وأخيلته وتراكيبه لنفوز في النهاية بهذه القصيدة الرائعة.

     وعاطفة شوقي في هذه القصيدة تفيض بالإعجاب بالمختار الذي أبلى أحسن البلاء ثم دفن في الصحراء لتكون مقراً له كالسيوف في أغمادها:

تلك الصحــــارى غمد كل مهنـد     أبلى فأحسن في العدو بلاء[18]

     والمختار جدير بكل إكبار فقد اختار الفقر على الغنى، والظمأ على الري، والجهاد على القعود، والجوع على الشبع، لأنه كان صاحب قضية فداها بنفسه وبكل ما يملك:

خيرت فاخترت المبيت على الطوى     لم تبــــن جــــــاهاً أو تــــلم ثــــراء
إن البطــــولة أن تمـــوت من الظمـا     ليس البطـــــولة أن تعب المــــــــاء

     والمختار مقاتل شجاع دؤوب خاض كثيراً من المعارك التي لم تبق منه إلا ما يبقى من رفات نسر أو أشلاء أسد:

لم تبق منه رحى الوقائع أعظماً     تبــــلى ولم تبق الرماح دمــــاء
كرفـــــات نسر أو بقية ضيــغم     باتـــــا وراء الســـافيات هبـــاء

     ويشتد إعجاب شوقي بالمختار لثباته أمام الموت، حيث لم يجزع ولم يلن، ذلك أنه ربط قلبه بقضاء السماء فلم يبال بقضاء الأرض، ووقف أمام القضاة يعطيهم درساً في الشجاعة كما وقف سقراط من قبل:

لبى قضاء الأرض أمس بمهجة     لم تخش إلا للســـــماء قضــــاء
وافــــــاه مرفوع الجبين كـــأنـه     سقراط جر إلى القضــــاة رداء
وأخو أمور عـــاش في سرائهـا     فتغيــــرت فتوقع الضــــــــراء

     ويأسى شوقي لنهاية البطل الذي لم تعطف سنه العالية قلوب قضاته عليه، وربما أطلق العدو إسار عدوه تقديراً لسن أو إعجاباً ببطولة، لكن ذلك فات قضاة المختار فدفعوا به إلى الحبل المهين ليقتلوه شنقاً ويحرموه ميتة القتل بالرصاص، وهو جدير بهذه الميتة لطول تمرسه بالقتل والقتال ولإكرامه حتى أعداءه.

والســــن تعطـــف كل قــــلب مهذب     عــرف الجــدود وأدرك الآبــــــــــاء
دفعــــوا إلى الجــــلاد أغلب ماجـــداً     يـــأسو الجـــراح ويطلق الأســـــراء
ويشـــــاطر الأقــران ذخر ســــلاحه     ويصـــف حــول خـوانـــه الأعـــداء
وتخيـــــــروا الحبــل المهيــن منـــية     لليــــث يلفــــظ حـوله الحوبـــــــــاء
حرموا الممات على الصوارم والقنـا     من كـــــان يعطي الطعنـة النجــــلاء

     ولما مات حافظ رثاه شوقي بقصيدة فيها حزن على المرثي ووفاء له جعله يقول في أول أبياتها:

قـــد كنت أوثر أن تقول رثـــــــائي     يا منصف الموتى من الأحياء[19]


     وجعله يخاطبه بعد أن أجاد في تصوير لقائه بالأستاذ الإمام محمد عبده، إجادة تامة، خطاباً ينضح بالصدق والمودة والحزن:

ووددت لو أني فــــداك من الردى     والكـــاذبون المرجفــــــون فدائي
النـــاطقون عن الضغينة والهـوى     الموغـــرو الموتى على الأحيــاء
من كـل هــــدام ويبـــني مجـــــده     بكـرائم الأنقـــــاض والأشـــــلاء
ما حطـــموك وإنما بك حطــــموا     من ذا ينــــازع رفرف الجــوزاء
انظــر فأنت كأمس شأنك بـــــاذخ     في الشرق واسمك أرفع الأسمـاء

     ففي هذه الأبيات تظهر عاطفة شوقي الصادقة إزاء نده وقرينه حافظ، وهي عاطفة تجعله يود لو افتداه بنفسه، وتجعله يسخر من الذين حاولوا تحطيمه ويؤكد له أن مجده باذخ وشهرته واسعة، ويحمل الوفاء شوقي على أن يتذكر بالامتنان وعرفان الجميل لحافظ قصيدته الشهيرة التي ألقاها في الحفل الذي كرم فيه شوقي وبويع أميراً للشعراء فيقول له:

بالأمس قد حليــــتني بقصيــــدة     غراء تحفـــظ كاليـــــد البيضـاء
غيظ الحسود لها وقمت بشكرها     وكــما علمت مودتي ووفــــائي
في محفــــل بشـــــرت آمالي به     لما رفعت إلى الســــــماء لوائي

     وفي رثاء شوقي لمحمد علي الزعيم الهندي المدفون في القدس الشريف، نجد أثر العاطفة الدينية واضحاً في الإعجاب بالفقيد ورثائه، ذلك أن الفقيد مجاهد إسلامي تجاوز الدائرة الهندية ليصل إلى هموم المسلمين في كل مكان ويتبناها، ولذلك لا غرابة أن يكون الحزن على الفقيد في الأرض وفي السماء ولا غرابة أن يهيئ القدس ربوة من روابيه له:

واليوم ضم النـــــاس مأتم أرضه     وحوى الملائك مهرجـــان سمائه
يـا قدس هيئ من ريــاضك ربوة     لـنزيـــل تربك واحتفل بلقــــــائه
بطل حقــــوق الشرق من أحماله     وقضية الإسلام من أعبائه[20]

     وفي رثائه لمحمد تيمور الذي مات شاباً، نجد رنة حزن صادق جعلت الشاعر يسائل المرثي في لوعة ومودة، عن تركه الدنيا شاباً منعماً متحلياً بالنبوغ والآمال:

ماذا نقــــمت من الشبـــــا     ب وأنت في نعم الشبــاب
متحـــلياً هبــــة النبـــــــو     غ مطوق المنــح الرغاب
ولم الـترحــــل عن حيـــا     ة أنت منـــها في ركـــاب
لم تعـــــد شاطئــــــها ولم     تبلغ إلى ثبج العباب[21]

     وزوجة الفقيد محزونة تبكي شبابها وشبابه:

فقــــدتك في العمر الطريـ     ــر وفي زها الدنيا الكعاب
تبــــكي وتنــــدب إلـفــــها     بيـــن الأفـــــانين الرطاب

     وأبو الفقيد ثاكل رازح تحت وطأة المصيبة، يود أن يكون له سر النبي الكريم يوشع عليه السلام ليرد شمسه عن الموت كما ردها النبي الكريم يوم حارب أعداءه:

وانظر أبـــــــاك وثكـــله     ورزوحه تحت المصـاب
لو كـــان يملك سر يـــــو     شع رد شمسك من غياب

     وفي رثاء شوقي ليعقوب صروف، نجد معالم مودة وصداقة دفعته إلى رثائه، ورثاء الصحاب دين يقضى:

يقولـــــون يرثي كل خـــل وصـــاحب
               أجــــل إنما أقضي حقوق صحــــــابي
جزيتــــهم دمعي فلما جرى المــــــدى
               جعلت عيون الشعر حسن ثوابي[22]

     ويذكر الشاعر صديقه الفقيد بالثناء الذي استحقه يوم احتفل بالعيد الفضي لمجلته المقتطف:

حملنا إليك الغار بالأمس ناضراً     وسقنــا كتاب الحمد تلو كتــــاب

     وفي مودة ظاهرة، وعاطفة إعجاب وتقدير، يبين شوقي أن الفقيد فاز من الدنيا بالثواب فيما عمله، لأنه أمضى نصف قرن فيها يعمل عملاً محترماً، نزه المجلة فيه عن الكذب وعن المهاترات، وعن اللغو والحقد والهوى، وجعلها مناراً لعلم ينفع وبيان يضيء، فانتفعت بها الناشئة والشباب على مدى جيلين من الزمان:

وما انفـــكت الدنيا وإن قل لبـثها     لســـــان ثواب أو لسان عقـــاب
ألا في سبيل العلم خمسون حجة     مضت بين تعـــليم وبين طـلاب
قطعــت طوالي ليلها ونهـــارها     بآمـــال نفس في الكمال رغـاب
رأى الله أن تـــلقى إليك صحيفة     فنزهتـــها عن هوشة وكــــذاب
ولم تتخــــذها آلة الحقد والهوى     ولا منتــــدى لغو وسوق سبـاب 
مشينـــا بنوري علمها وبيــــانها     فـلم نسر إلا في شعاع شهــــاب
وعشنا بها جيـــلين قمت عليهما     معــــلم نشء أو إمام شبـــــــاب

     وفي أواخر القصيدة يسلم شوقي على المرثي سلاماً يفيض بالمودة الصادقة والتقدير، والشوق إلى الذكريات المشتركة التي يحفظها الوفاء رغم بعد المسافة بينهما:

سلام على شيخ الشيوخ ورحــمة     تحدر من أعطاف كل سحــــــاب
ورفاف ريحان يروح ويغتـــــدي     على طيبات في الخــــلال رطاب
وذكرى وإن لم ننس عهدك ساعة     وشـــوق وإن لم نفتـــكر بإيــــاب

     وفي توجع محزون يفيض باللوعة والأسى، يتساءل عما فعلته السوافي بالفقيد الذي كان في عفته وحيائه كفتاة بتول طاهرة، وكان في نشاطه خلية نحل، وكان في الأخلاق مثلاً يحتذى:

وويح السوافي هل عرضن على البلى
               جبينــــك أم ستــــــرنه بحجــــــــــاب
وهل صـــــن مـــــاء كان فيه كـــــأنه
               حيـــــــاء بتول في الصـــلاة كعــــاب
ويالحيــــاة لـم تـــدع غيــر ســـــــائل
               أكــــانت حـيـــــــــاة أم خـليـــــة داب
وأين يـــد كـــــانت وكان بنــــــــــانها
               يــــراعة وشي أو يراعـــــــة غــــاب
ولهفي على الأخلاق في ركن هيـــكل
               ببطــن الثرى رث المعـــــالم خــــابي

     وتمتلئ نفس شوقي بالإعجاب بصنيع اللورد كارنافون في الكشف عن مقبرة توت عنخ آمون، فتجعله يقول له في إكبار واضح:

أعـلمـــت أقـــــوام الزمـــان مكـــانه
               وحشـــــدتهم في ســـاحه ورحـــــابه
لولا بنــــانـك في طـــــــلاســـم تربه
               ما زاد في شرف على أصحابه[23]

     واللورد الميت رجل دؤوب صبور، وبهذا استطاع أن يصل إلى كنوز فرعون، ففض ختم الزمان، وحبا إلى محراب التاريخ، وطوى القرون إلى الوراء حتى ظفر:

لم يـــــأله صبـــــراً ولم ين هـــمة
               حتى انثــــنى بكنوزه ورغـــــــابه
أفضى إلى ختــــم الزمـــان ففضه
               وحبــــا إلى التـــاريخ في محرابه
وطوى القرون القهقرى حتى أتى
               فرعـــون بين طعــــامه وشــرابه

     وفي رثائه لجدته تمزار نجد عاطفة الشاعر تتدفق بحزن هادئ عليها، فقد كان لها في قلبه مكان كبير، وكانت ترعاه وتسهر عليه كثيراً، فهو يدعو لها بالرحمة، ويشيد بتقواها وفضلها حيث كانت فيهما قدوة تحتذى فكأنها أم للمؤمنين، وكأنها خلاصة الفضائل الباقية:

صـــلاة الله يا تمزار تجـــزي     ثراك عن التــــلاوة والصـلاة
وعن تسعين عـــاماً كنت فيها     مثال المحسنـــــات الفضليات
بررت المؤمنــات فقــــال كل     لعــــــلك أنت أم المؤمنـــــات
وكانت في الفضــــائل باقيات     وأنت اليوم كل الباقيات[24]

     ويختم الشاعر القصيدة بثلاثة أبيات تفيض بالحزن، فهو يسأل جدته أن تتئد في سيرها ليعتصر لحظة الوداع حتى الثمالة، وتمسك يداه بصخر القبر كما تمسك ذاكرته بصفات الفقيدة الغالية، وليتذكر حياتها الماضية فلا يجدها على طولها إلا حسو الطائر قصراً وسرعة:

هنـاك وقفت أســـألك اتئــــاداً     وأمسك بالصفـــات وبالصفاة
وأنظر في ترابــك ثم أغضي     كما يغضي الأبي على القـذاة
وأذكر من حيـــاتك ما تقضى     فكان من الغــــداة إلى الغـداة

     ورثاء شوقي لعبد العزيز جاويش يفيض بالحزن الصادق، إذ يبدو أنه كان معجباً به، وبمواقفه الوطنية والدينية، فقد شقي بالسياسة ومطاردتها، وحمل نفسه من أجل أمته وبلاده ما يتجاوز طوقه، وامتحن فإذا به يفوز فوز النضار إذا امتحن بالنار، لذلك يقول شوقي له في عاطفة إكبار واضح:

طريــد السيـــاسة منذ الشبــــاب
               لـقــــد آن أن يستــــريح الطريـد
لـقـيــــت الـدواهي من كـيــــدها
               وما كالسيـــــــاسة داه يكـيـــــــد
حمــــلت على النفس ما لا يطاق
               وجــــاوزت المستطاع الجهـــود
وقلبت في النــــار مثل النضـــار
               وغربت مثل الجمان الفريد[25]

     ويبعث شوقي بسلام من القلب إلى الفقيد، يتساءل فيه عن إمكانية المراسلة بين الحي والميت ويجيب بأنه سوف يجد سبيلاً إليها من خلال ذكريات الماضي والدموع الهاطلة، وشوارد الأفكار التي تظل تجوب وادي الموت، والنعوش التي لا تمل نقل الأحياء إلى عالم الموتى:

سلام أبا ناصر في التـراب     يعير التراب رفيف الورود
بعــــــدت وعز إليك البريد     وهل بين حي وميت بريــد
أجل بيننا رسل الذكريــات     وماض يطيف ودمع يجود
وفكر وإن عقلته الحيـــــاة     يظل بوادي المنـــايا يرود
أجل بيننا الخشب الدائبات     وإن كان راكبـــها لا يعود

     ولما رثى شوقي عبدالخالق ثروت كانت عاطفة الإعجاب بالفقيد تملؤه إكباراً له وحزناً عليه، فالحكم لم يطغ الفقيد، والعيش الرغيد لم يفتنه، ذلك أنه كان يراقب الله في كل ما يعمل، وينظر إلى التاريخ في كل ما يقدم عليه، ولذلك فهو للشاعر خير اللدات، وإذا كان الحزن على كل فقيد لابد أن يمضي، فإن الحزن على عبدالخالق ثروت باق متجدد:

لم يطغــك الحكم في شتى مظـاهره
               ولا استخفك لين العيش والرغــــــد
تغــــدو على الله والتاريخ في ثقـــة
               ترجو فتقــــدم أو تخشى فتتــــــــئد
نشــــأت في جبـهة الدنيا وفي فمها
               يدور حيث تدور المجــــد والحسـد
لكل يوم غـــــد يمضي بروعتـــــه
               وما ليومك يا خير اللدات غد[26]

     والمنية التي رمت الفقيد فصرعته منية قاسية لا قلب لها يلين ولا كبد يرحم، وقلب الفقيد الذي صرعته المنية انفجرت دماؤه عما هو أزكى من الورد عفة وخلقاً ونقاء، وليست قلوب الرجال في حال واحد صدقاً ومودة ووفاء:

رمتـك في قنوات القلب فانصدعت
               منـــــية ما لهــــا قلب ولا كبـــــــد
لما أنــاخت على تامورك انفجرت
               أزكى من الورد أو من مائه الورد
ما كل قــــلب غدا أو راح في دمه
               فيه الصديق وفيه الأهل والولـــــد

     وينهي شوقي قصيدته بأبيات تفيض حزناً ومودة، يقرئ فيها صديقه الراحل السلام من الله تعالى، ويخبره أنه صاغ فيه مرثية كان الفقيد يعرف قيمة قائلها وقيمة أشعاره، يرسلها شوقي محوطة بالدمع المتساقط حولها كما يتساقط البرد حول السوسن، متذكراً فيها ما كان بينه وبين صديقه الراحل من ود صاف لم يتغير:

أبــــا عزيز ســــــــــلام الله لا رسل
               إليـــك تحمل تســــليمي ولا بـــــرد
ونفـحة من قوافي الشعر كنت لهـــا
               في مجلس الراح والريحان تحتشــد
أرسلـتها وبعثـــت الـدمـع يكنــــفها
               كمــــا تحـــدر حول السوسن البرد
عطفت فيها إلى الماضي وراجعني
               ود من الصغر المعســـول منعقــــد
صـــاف على الدهر لم تقفر خليــته
               ولا تغيـــر في أبيـــــاتها الشهــــــد

     وفي رثائه لمحمد فريد يتوجع شوقي للسنوات التي قضاها الفقيد غريباً عن وطنه، يكابد ويقاسي، في بؤس وشدة وتشرد، يجوع ويعرى ويمرض لكنه يجد ذلك كله هيناً في سبيل بلده:

فريـــد ضحايانـــــا كثيــر وإنمـــــــا
               مجــــال الضحايـــــا أنت فيه فريـــد
فما خلف ما كابدت في الحق غايـــة
               ولا فوق ما قــــاسيت فيه مزيــــــــد
تغــــربت عشـــراً أنت فيهن بــائس
               وأنت بآفــــاق البـــــلاد شريـــــــــد
تجـــــوع ببــلدان وتعرى بغيــــرها
               وترزح تحــــت الداء وهو عتــــــيد
ألا في سبيـــــل الله والحـــق طارف
               من المــــال لم تبخــــل به وتليـــــــد
وجودك بعد المـــــال بالنفس صابراً
               إذا جزع المحضور وهو يجود[27]

     ورثاء شوقي لصديقه عمر لطفي يفيض عليه بالحزن الصادق، الذي يجعله يتساءل هل زينت له الأرض وهل عطرت له حفرة القبر، وهل قام رضوان خازن الجنة إزاءها ليرحب بالفقيد الذي كان تقياً نقياً باراً:

قفــــوا بالقبـــــور نســـائل عمر     متى كانت الأرض مثـوى القمر
ســـلوا الأرض هل زينت للعليـ     ـــم وهل أرجت كالجنــان الحفر
وهل قـــــام رضوان من خلـفها     يـــلاقي الرضي النقي الأبــــــر
فـــــلو عـــلم الجمع ممن مضى     تنــــحى له الجـــــمع حتى عبـر
إلى جنــــة خلقــــت للكـــــــريم     ومن عرف الله أو من قدر[28]

     والفقيد زين الشباب بمواقفه وأخلاقه، وهو فخار للحياة في حياته وفخار للسير الكريمة بعد وفاته، لذلك يعز على القلوب والأسماع والأبصار أن يوسد التراب:

برغــم القـــلوب وحبـــــــاتها     ورغم الســــماع ورغم البصر
نزولك في الترب زين الشباب     سنــــاء النــــدي سنــا المؤتمر
مقيـــل الصديق إذا ما هفــــــا     مقيـــل الكريم إذا ما عثـــــــر
حييــت فكنـــت فخار الحيــاة     ومـت فكنــــت فخـار السيـــر

     وفي تصوير رائع بديع يتحول إلى لوحة جميلة تعبر عن الود الصادق بين الشاعر والمرثي، يحدثنا شوقي عن سهرة سهرها الصديقان معاً طاب فيها الحديث وتنقل دون أن يمر ذكر الموت فيها، لكن القدر كان بالمرصاد فأخذ الفقيد إلى حفرة مهيأة، وأخذ بناظر الشاعر إلى حفرة تهيأ له لتكون مقراً له بعد حين، ويستبد الحزن بالشاعر استبداداً كبيراً يجعله يود لو جعل عينيه مخبأ لصديقه يحميه من الموت:

سهرنـــــا قبيل الردى ليـــــلة     وما دار ذكر الردى في السمر
فقــــمت إلى حفـــرة هيئــــت     وقــــمت إلى مثـــلها تحتفـــر
مـددت إليــــك يــــــداً للوداع     ومد يــداً للقـــــاء الـقــــــــدر
ولــو أن لي عــلم ما في غــد     خبــــأتك في مقلتي من حــذر
رثيتــك لا مالكاً خـــــــاطري     من الحـزن إلا يسيــــراً خطر
سقتـــــك الدموع فإن لم يدمن     كعـــــادتهن سقـــــــاك المطر

     ولما عاد شوقي إلى رثاء صديقه عمر لطفي مرة ثانية، كان يشعر بالمودة بينه وبين صديقه، وكان يشعر أنه منفرد بالوفاء والخلق العظيم بين الناس لذلك يلتاع لفقده ويتحسر:

يــــا من أراني الدهر صحــة وده     والود في الدنيا حديث مفتــــــرى
وسمعت بالخلق العظيـــــم رواية     فأراني الفضل العظيــــم مصورا
ماذا لقيــــت من الرقــــاد وطوله     أنا فيك ألقى لوعة وتحسرا[29]

     ويود شوقي لو سقى قبر الفقيد كما سقت دموعه مراثيه:

لما دعيت أتيـــــت أنثـــــر مدمــعي
               ولو استطعت نثرت جفني في الثرى
أبكي يمينــــك في التراب غمـــــامة
               والصدر بحراً والفــــؤاد غضنفـــرا

     وإذا كان البلى قد غير المرثي بما فعله به وغير الشاعر بحزنه على صديقه ولوعته لفقده، فإن وفاءه لم يتغير فهو حافظ للعهد حتى يلتقي مع صاحبه في الدار الآخرة:

غيرتني حزنـــاً وغيرك البلى
               وهواك يأبى في الفؤاد تغيـــرا
فعلي حفظ العهــــد حتى نلتقي
               وعليك أن ترعاه حتى نحشـرا

     ولما مر شوقي في مدينة نابولي على الدار التي كان يقيم فيها الخديوي إسماعيل بعد نفيه من مصر، حزن لما أصاب الخديوي المنفي، وقال فيه قطعة قصيرة لكنها تفيض بالصدق والحزن والوفاء:

أبكيــــك إسماعيل مصر وفي البكـا
               بعـــد التـــذكر راحة المستعبــــــــر
ومن الـقيــــام ببعــض حقـــك أنني
               أرثي لعـــزك والـنعيـــم المدبـــــــر
هذي بيـــوت الروم كيف سكنـــتهـا
               بعـــد القصور المزريـــــات بقيصر
ومن العجــــائب أن نفسك أقصـرت
               والدهــر في إحراجهــــا لم يقصــــر
ما زال يخـــلي منـــــك كل محــــلة
               حتى دفعــــت إلى المحــل الأقـفــــر
نظر الزمـــان إلى ديـــــارك كـلهــا
               نظر الرشيد إلى منازل جعفر[30]

     فالشاعر محزون حزناً صادقاً لما آل إليه أمر الخديوي إسماعيل، حيث عاش في بيت متواضع بعد القصور الرائعة، وزال عنه العز والنعيم، ومما يزيد الحزن أن الخديوي كفت نفسه وأقصرت لكن الدهر كان ماضياً في إحراجها وملاحقتها، فمازال يدفعه من موقف إلى آخر أشد صعوبة، ومازال يجرده من قوته ونفوذه حتى أذاقه النفي والموت، فإذا بداره بلقع، فتك بها الزمان كما فتك بالبرامكة من قبل يوم نكبهم الرشيد.

     وقصيدة شوقي في رثاء الشاعر إسماعيل صبري تفيض بالحزن الصادق، ويبدو منها أنه كانت بينهما مودة خاصة وثقها الشعر، ووثقها تتلمذ شوقي على صبري، ووثقها ما عرف به صبري من خلق وعلم وفضل. ومنذ الأبيات الأولى للقصيدة نشعر بحزن الشاعر على صديقه وأستاذه الذي خلت منه الدار، إذ استجاب لداعي الموت فلباه تقياً عفيفاً. فكان رزء شوقي به كبيراً يساوي رزءه بشبابه الذي افتقده، وهو رزء جلل لا تنهض بالعزاء له همم، وتسيل له عبرات أبية عزيزة:

أجل وإن طــــال الزمـــــان موافي
               أخـــلى يديــك من الخليــــل الوافي
داع إلى حـق أهـــــاب بخـــــــاشع
               لبس النذيـــر على هـدى وعفـــاف
ذهب الشبــــــاب فلم يكن رزئي به
               دون المصــــاب بصفــــوة الألاف
جـــلل من الأرزاء في أمثـــــــــاله
               هـــمم العــــزاء قليـــــلة الإسعـاف
خفـــت له العبـــــرات وهي أبيــــة
               في حادثات الدهر غير خفاف[31]

     ويتوجع شوقي لصديقه وأستاذه، ويعبر عن ذلك في صورة بديعة غنية نرى المرثي فيها وقد هان في التراب، فصارت الذئاب تنادمه بعد أن كان ينادم الملوك في قصورهم:

ومنادم الأملاك تحت قصورهم
               أمسى تنـــادمه ذئـــــــاب فيافي

     وينادي شوقي أستاذه ليبعث إليه سلاماً حاراً عاطراً يمتلئ بالحزن واللهفة منه ومن صحابه وذويه:

أأبـــا الحسين تحية لـثـراك من     روح وريحـــان وعذب نطاف
وسلام أهل وله وصحــــــــابة     حسرى على تلك الخلال لهاف

     ولا يجد شوقي ما يتقدم به إلى أستاذه إلا الشعر، وهو أكرم ما كان يحبه الفقيد، وهو قصارى ما يستطيعه شوقي، لكن الوفاء يجعل الشاعر يقر لأستاذه أن شعره فيه إنما هو ثمرة من ثمراته، ودرة من بحره الواسع، فمنه تعلم الشعر والفضل معاً:

هل في يدي سوى قريض خـالد     أزجيــــه بين يديك للإتحـــــاف
ما كان أكرمه عليك فهل تــرى     أني بعثــــت بـــأكرم الألطــاف
هـــذا هو الريحــــان إلا أنـــــه     نفحات تلك الروضة المئنـــاف
والــــدر إلا أن مهــــد يتــــيمه     بالأمس لجة بحـــــرك القـذاف
أيــــام أمرح في غبارك ناشئـاً     نهج المهار على غبار خصاف
أتعلم الغايـــــات كيف ترام في     مضمار فضل أو مجال قـواف

     وما بين الشاعر الراثي والشاعر المرثي من ود صادق وألفة وثيقة، يحمل شوقي على أن يسأل صديقه وأستاذه ومرثيه، عن الموت، في بيت رائع جميل، هو:

قل لي بســــــابقة الوداد أقاتل     هو حين ينزل بالفتى أم شافي

     ولعل هذه المرثية من أقوى الأدلة على أن عاطفة شوقي حين تتحرر من همودها، تعلي من شعره كثيراً، إذ تلتقي العاطفة الحية ببقية مزاياه الأخرى ليكون التفوق، ولذلك لا غرابة أن نجد الأستاذ أحمد محفوظ يصف رثاء شوقي لإسماعيل صبري بأنه أبلغ رثاء قاله وأعمقه عاطفة[32].

     وتظهر عاطفة الحزن الصادق في رثاء شوقي لأمين الرافعي، إذ يبدو أن مواقفه الوطنية ونزاهته وإباءه، جعلته بمكان يراه الشاعر جديراً بالإشادة والتمجيد، فهو في الحق سيف قاطع وهو سيف مؤمن مجاهد، له من البرق وميضه، ومن الرعد دويه:

أخــذ الموت من يد الحق سيـــــفاً     خــــالدي الغرار عضباً صقيـــلا
لمســــتـه يد الســــــماء فـكان الـ     ـبرق والرعد خفقة وصليلا[33]

     والفقيد أبي النفس عزيز الجانب كأنه الذهب إذا امتحن زاد صلابة ونقاء:

وإباء الرجال أمضى من السيـ     ـف على كف فارس مســــلولا
رب قلب أصاره الحق ضرغا     ماً وصدر أصاره الحق غيــلا
قيل حلله قلت عرق من التبـــ     ـــــر أراح البيان والتحليــــلا
لم يزد في الحديد والنــــار إلا     لمحـــة حرة وصبراً جميــــلاً

     وإعجاب الشاعر بالمرثي يحمله على التماس العذر له فيما اتهم به من غلو:

قيل غال في الرأي قلت هبوه     قد يكون الغلو رأياً أصيـــــلا
وقــديماً بنى الغـــــلو نفــوساً     وقديماً بنى الغــــلو عقـــــولا
وكم استنهض الشيوخ وأذكى     في الشباب الطماح والتأميــلا

    والفقيد صادق عفيف، لا يغتاب الناس، ولا يشغل نفسه بتوافه الأمور، لأنه شغل نفسه بقضية الوطن وهي أجل وأعلى:

وأرى الصدق ديــدناً لسليل الـ     ـرافعيين والعفـــــاف سبيــــلا
عاش لم يغتب الرجال ولم يجـ     ـعل شؤون النفوس قالاً وقيــلا

     والفقيد رجل من نوادر الرجال الذين وهبوا أنفسهم لقضية الوطن فحركوا الناس بما فعلوا وأيقظوا القائمين ودعوهم إلى المطالبة بحقهم:

قد فقـــدنا به بقيــــــة رهـــط     أيقظوا النيــــل وادياً ونزيـلا
حركوه وكان بالأمس كالكهـ     ـف حزونــاً وكالرقيم سهولا

     ومما يزيد إعجاب الشاعر بالفقيد أنه كان رائداً في الجهاد الوطني، جعله شغله الشاغل يترنم به باستمرار كما يترنم الحواري بالإنجيل، وهو من شجاعته لا يتردد في الجهاد، بل يمضي فيه يزن الصفوف ويقومها وما يبالي إذا هجم أكان معه من يعينه أم كان وحده يعرض نفسه للخطر:

تنشـــد الناس في القضية لحناً     كالحواري رتــــل الإنجيــــلا
ماضياً في الجهاد لم تتـــــأخر     تزن الصف أو تقيم الرعيـــلا
ما تبالي مضيت وحدك تحمي     حوزة الحق أم مضيت قبيـــلا

     ومرثية شوقي في الطيارين العثمانيين وهي من أفضل مراثيه تفيض بالحزن الصادق الذي فجره في قلب الشاعر أكثر من سبب: عاطفته الوطنية، وعاطفته الدينية، وجذوة الدم التركي في عروقه، والولاء الديني والسياسي للخلافة العثمانية، والميتة المأساوية التي قضى بها المرثيان الشهيدان، وهو ما جعله يقول لهما:

يا أيها الشــــهداء لن ينسى لــــكم     فتح أغر على السماء جميل[34]

     والعاطفة الدينية لدى شوقي تحمله على أن يجعل قبر الشهيدين في السموات العلا، مع الأنبياء والصديقين، حيث الطهر والنقاء والترفع عن الأذى:

أي الغزاة أولي الشــــــهادة قبلكم     عرض السماء ضريحهم والطول
يغــــدو عليــــكم بالتحيــــة أهلها     ويرفــــرف التسبيـــــح والتهليـل
إدريس فوق يميـــــنه ريحـــــانة     ويســــوع فوق يميــــنه إكليــــل
في عـــــالم سكـــــانه أنفــــاسهم     طيــــب وهمس حديثهم إنجيـــل

     وتجعله أيضاً يرى نعش الشهيد عالياً في الأرض والسماء، وكفن الشهيد من القرآن الكريم، أما غسله فهو بمدامع جبريل:

من كل نعـش كالثـريـــــا مجــده     في الأرض عال والسماء أصيل
فيه شهيـــــد بالكتــــاب مكــــفن     بمدامع الروح الأميـــن غسيـــل

     وتجعله أيضاً يعزي بالمصاب عاصمة الخلافة الإسلامية، والخليفة العثماني فيها، طالباً منه الصبر مشيراً إلى أن في المسلمين من يسد مسد الشهيدين:

شعري إذا جبت البحـــــار ثلاثة
               وحــــواك ظل من فروق ظليــل
وبلغت من باب الخلافة ســــــدة
               لستورها التمسيــــح والتقبيـــــل
قـل للإمــــام محـــــــــمد ولآلـه
               صبر العظام على العظيم جميـل
إن تفقـــدوا الآساد أو أشبـــــالها
               فالغــــاب من أمثــــــالها مأهول
صبراً فأجر المسلمين وأجــركم
               عند الإلـــه وإنـــه لجـــــــــزيل

     وفي رثائه لصديقه وزميله علي أبي الفتوح، نجد عاطفة صادقة تفيض بالأسى، وبالحنين للذكريات المشتركة، حيث كان الراثي والمرثي طالبين يدرسان معاً في فرنسا، وبينهما مودة وألفة وصداقة، وهو ما يصنعه النوى المشترك والزمالة المشتركة في أفضل فترة من عمر الإنسان هي فترة الشباب، يقول شوقي متحسراً على مصير الفقيد:

لهـفي على ذاك الشـبـــــــــا     ب وذلـــك المســـتقبــــــــل
وعلى المعـــــارف إذ خلت     من ركـنــــهـا والموئـــــــل
وعلى شمـــــــائل كالربــــا     بين الصبـــــا والجـــــــدول
وحيـــــاء وجه كـــــان يـــؤ     ثر عن يسوع المرسل[35]

     ويعود بذاكرته إلى أيام الدراسة فيحن لها ويأسى لانقضائها:

إني التفـت إلى الشبــا     ب الغابر المتمثــــــل
ووقفـت ما بين المحقـ     ـق منه والمتخيــــــل
فرأيت أيـاماً عجــــلن     ولـيـــتها لم تعجـــــل
كانـت موطأة المهــــا     د لنا عذاب المنــــهل
ذهبت كحــــلم بيد أن     الحـــــلم لم يتــــــأول
إذ نحن في ظل الشبـا     ب الوارف المتهـــدل
جاران في دار النوى     متقابـــــلان بمنــــزل
أيكي وأيكك ضــاحكا     ن على خمائل مونبلي

     وأبو الفقيد ثاكل محزون يفعل كل ما بوسعه لمن يقدر على رد ابنه إليه:

وأب وراءك حزنـــه     لنواك حـــزن المثكل
يهب الضياع العامرا     ت لمن يــرد له علي

     وزوجة الفقيد حزينة، هجمت على منازلها المنون، فأصابت وفتكت، فعظم الحزن على الزوجة والأسرة جميعاً، فكأنهم آل الحسين بن علي y يوم كربلاء:

دخلت منــــــازلها المنو     ن على الجريء المشبل
كســرت جنـــــاح منعم     ورمت فـــــــــؤاد مدلل
فــــكأن آلك من شـــــج     ومتــــــيم ومرمــــــــل
آل الحسيـــــن بكربـــلا     في كربــــة لا تنجــــلي

     وفي رثاء شوقي لوالدته نلمح عاطفة صادقة حارة، فالألم يستبد به لفقدان الوالدة العزيزة، خاصة أنه كان يتوقع عودته إلى مصر من المنفى بعد أن وقفت الحرب، فجاءه النبأ الدامي فكانت المصيبة عنده مضاعفة:

إلى الله أشكو من عوادي النوى ســـهما
               أصـــــاب سويــداء الفـــؤاد وما أصمى
من الهاتـكــــات القلب أول وهــــــــــلة
               وما داخـــلت لحماً ولا لامست عظـــما
تـــوارد والنـــــاعي فأوجســــــت رنة
               كلامــاً على سمعي وفي كبــــدي كـلما
فمـــا هتـفــــا حتى نزا الجنب وانزوى
               فيــــا ويح جنبي كم يسيــــل وكم يدمى
طوى الشرق نحو الغرب والماء للثرى
               إلي ولـــم يركــــب بســــاطاً ولا يمــــا
أبـــــان ولم ينـــــبس وأدى ولم يفــــــه
               وأدمى وما داوى وأوهى ومارما[36]

     والفقيدة الغالية قتيلة بسبب النوى لبعد ابنها عنها، وقتيلة بسبب الحرب التي منعتها من لقائه دون أن يكون لها إثم جنته:

لك الله من مطعــــونة بقنا النوى     شهيدة حــرب لم تقارف لها إثما
مدلهــة أزكى من النـــــار زفرة     وأنزه من دمع الحيا عبرة سحما
سقاها بشيرى وهي تبكي صبابة     فلم يقو مغناها على صوبه رسما
أست جرحها الأنباء غير رفيقـة     وكم نازع سهماً فكان هو السهما

     ولما كان الشاعر في منفاه في الأندلس وهي ما هي جمالاً وإشراقاً، لم ينس قط اثنين هما والدته الغالية، وبلده الغالي:

فما برحت من خاطري مصــر ساعة     ولا أنت في ذي الدار زايلت لي وهما
إذا جنني الليــــل اهتززت إليـــــــكما     فجنحاً إلى سعدى وجنحـــاً إلى سلمى

     ولما بدا للناس أن الحرب وقفت، وبدأ العالم يستقبل عهداً جديداً للسلام، يتواكب مع ما كان يرجوه الشاعر من عودته لمصر ولقائه بأمه المحزونة لبعده، جاءت المفاجأة لتقلب الفرح مأتماً:

فلما بـــــدا للناس صبـــح من المنى
               وأبصـــر فيه ذو البصيرة والأعمى
وقرت سيوف الهند وارتكز القنـــــا
               وأقلعـــت البلوى وأقشعــــت الغمى
وحنـــت نواقيــــس ورنت مـــــآذن
               ورفت وجوه الأرض تستقبل السلما
أتى الدهر من دون الهنــاء ولم يزل
               ولوعــاً ببنيـــــان الرجـــــاء إذا تما
إذا جــــال في الأعيـــاد حل نظامها
               أو العرس أبـــلى في معـــالمه هدما

     وفي رثاء شوقي لوالده نجد الأسى الهادئ الصادق، ينطلق في يسر وعفوية، يتحدث الشاعر فيه كما لو كان المرثي صديقاً له بينهما صحبة وألفة وذكريات مودة مشتركة، أكثر مما يتحدث عن أب يرثيه، فمقام الصداقة هنا أظهر من مقام الأبوة، وهو ما يوحي بالصدق والتلقائية، ويجعل للقصيدة طعماً مميزاً مؤثراً:

مــــــا أبي إلا أخ فــــــارقتـه     وده الصدق وود الناس ميــن
طــــالما قمنـــــــــا إلى مائدة     كانت الكسرة فيها كســـرتيـن
وشربنــــا من إنـــــــاء واحد     وغســـلنا بعد ذا فيه اليــــدين
وتمشــــــينـــا يدي في يــــده     من رآنا قال عنا أخوين[37]

     ويتوجع شوقي لأبيه، ويسأله كيف ذاق كأس الموت المرة، وكيف كانت ساعته الأخيرة التي ودع فيها الدنيا:

يــا أبي والموت كـــــــأس مرة     لا تـــذوق النفس منها مرتيـــن
كيف كـــانت ســـــاعة قضيتها     كل شيء قـبــــــلها أو بعد هين
أشــــربت الموت فيــها جرعة     أم شربت الموت فيها جرعتين

     وقصيدة شوقي في مصطفى كامل، تفيض بإعجابه بالمرثي، بنقاء سريرته وبعد همته، وبجهوده المتواصلة في خدمة الوطن، وفي تصوير بديع تظهر لنا عاطفة شوقي إزاء المرثي، عاطفة إعجاب يمتزج فيه الدين بالوطنية بالبطولة:

يزجون نعشك في السناء وفي السنا
               فكـــــأنما في نعشــــــك الـقــــمران
وكأنه نعـــش الحسيــــــن بكربـــلا
               يختـــــال بين بـكا وبيـــن حنــــــان
في ذمـــــة الله الـكريــــــم وبـــــره
               ما ضــــم من عرف ومن إحســــان
ومشى جــــــلال الموت وهو حقيقة
               وجلالك المصــــدوق يلتقيـان[38]

     والحزن على الفقيد يتجاوز الرجال ليصل إلى النساء، والناس جميعاً خاشعون صامتون كأنما يسمعون خطبة من خطب الفقيد الشهيرة:

شقت لمنظـــــرك الجيوب عقائل     وبكتـــك بالدمع الهتــــون غواني
والخلق حولك خاشعون كعـهدهم     إذ ينصتـــون لخطبة وبيــــــــان

     وجهود الفقيد الوطنية تجعل له قبراً يختلف عن قبور الناس، قبراً يدفن فيه الزعيم في جوانح الوطن أو أسماع الناس وأجفانهم، وجهوده الدينية تجعله جديراً أن يرثى في القرآن الكريم لو أن له بقية:

لـو أن أوطـــانـاً تصور هيكلاً     دفنــــوك بين جوانح الأوطـان
أو كان يحمل في الجوانح ميت     حملوك في الأسماع والأجفــان
أو كان للذكر الحكـيـم بقيــــــة     لم تــــأت بعد رثيت في القرآن

     وفي تصوير رائع بديع، تظهر فيه عاطفة الشاعر إزاء الفقيد عاطفة إعجاب بالبطولة وقوة العزيمة وبعد الهمة، يقدم لنا شوقي مشهداً متكاملاً، يأتي فيه لزيارة الزعيم المريض، فيرى الداء قد أحاط به، والطبيب عاجزاً يائساً، وساعة الفراق قد دنت والزوار يعرفون ذلك فيكادون يبكون، لكن الزعيم يسابق ما بقي له من عمره إذ يريد أن يستنفد آخر سويعاته في خدمة الوطن، فهو يكتب ويملي، بل يهش للزائرين كأنهم مرضى يعودهم وكأنه صحيح لا شيء فيه، وهو ما يجعله جديراً بأن توصف ميتته بأنها ميتة الشجعان، ومصرعه بأنه مصرع الأسود:

ولقد نظـرتك والردى بك محـدق
               والـــداء ملء معالم الجثـــــــمان
يبغي ويطغى والطبيـــب مضـلل
               قنـــط وســـاعات الرحيـل دواني
ونواظر العـــواد عنـــــك أمـالها
               دمع تعــــالج كتـــــمه وتعــــاني
تمــلي وتكتب والمشــــاغل جمة
               ويــداك في القرطاس ترتجفـــان
فهششت لي حتى كأنـــك عائدي
               وأنـــا الذي هد السقـــام كيـــاني
ورأيت كيف تموت آساد الشرى
               وعرفت كيف مصارع الشجعان

     وفي عام 1927م يموت الزعيم المصري الشهير سعد زغلول، فينظم شوقي في رثائه قصيدة هي من درر مراثيه، بل من درر شعره كله، والقصيدة متألقة فنياً وهذا لا غرابة فيه، ومتوهجة عاطفياً وهذا موضع الاستغراب، فقد كان شوقي كما روى الأستاذ أحمد محفوظ (( يكره سعد زغلول، وكان يكتم كرهه هذا إلا في مجالسه الخاصة التي كانت تضم صفوة الأصفياء، ومع ذلك نراه يرثيه ويرثي ابن أخته سعيد زغلول، ثم إنه عمل على الظفر برضا سعد ليدخل من خلاله عضواً في مجلس الشيوخ عن دائرة لم يزرها ولم يعرف عن أهلها شيئاً قط))[39].

     وموضع الاستغراب نجده في صدق عاطفة الشاعر في مرثيته هذه، ولعل السبب أن الموت يطفئ الأحقاد، ثم إن وفاة سعد زغلول، أظهرت حب الناس الشديد له، ومن كافة المستويات فأحبه شوقي، وللحب عدواه كما للكراهية عدواها، وزاد من حبه له أنه رأى أهل العلم والفضل والرأي يتحدثون عن إنجازات الفقيد الماثلة، فأعجب بها وبه، وللقلوب بشكل عام، ولقلوب الشعراء بشكل خاص تقلباتها وعجائبها.

     لقد تألق شوقي في هذه المرثية، فنياً وعاطفياً، وظهرت فيها مقدرته بأجلى صورها، كما ظهرت في مرثيته لإسماعيل صبري التي تعد هي الأخرى من أروع مراثيه وأصدقها.

     يجعل شوقي من الفقيد شمساً تغرب فيبكي عليها المشرق، ويجلل السواد الدنيا، فكأن الدجى مازال يضرب ستوره:

شيعــــوا الشمس ومالوا بضحــــاها
               وانحــــنى الـشـــرق عليها فبـــكاها
جــــلل الصبـــــح ســــــواداً يومهـا
               فكـــــأن الأرض لم تخلع دجـــــاها
انظـــروا تـلقــــوا عليها شفقـــــــــاً
               من جراحات الضحايا ودماها[40]

     ورفات الفقيد كريحان الضحى في الجنة يعلو رباها، وهو بقية بناء من كرم، وحياة ملأت الأرض بالجود:

يا رفاتاً مثل ريحان الضحى     كللت عدن به هام ربــــــاها
وبقـــــايا هيــــــكل من كرم     وحياة أترع الأرض حيــاها

     والراية التي لف بها نعش الزعيم، هي الراية التي طالما فداها وبذل نفسه من أجلها، فهي اليوم تضم الصدر الذي ضمها من قبل وحماها ووقاها:

حضنـــت نعشك والتفـــت به     رايـــة كنت من الذل فــــداها
ضمت الصدر الذي قد ضمها     وتلقى الســـهم عنها فوقــــاها

     والأمة كلها محزونة تبكي على سعد دماً، فهو الذي بناها وهو الذي جعلها صخرة صلبة لا تلين:

تسكب الدمع على سعد دماً     أمة من صخرة الحق بناها

     وفي أسى وحزن يتوجع الشاعر لصديقه الفقيد، ويتذكر لقاءاته به، وحفاوته بمقدمه، ويعود للحزن إذ لا يرى من ذلك كله شيئاً سوى الذكريات:

أيــــن من عيــــني نفس حرة     كنـــت بالأمس بعيـــني أراها
كـــلما أقبــــلت هزت نفســها     وتواصى بشـرها بي ونــداها
وجرى الماضي فماذا ادكرت     وادكار النفس شيء من وفاها
ألمح الأيــــــام فيـــــها وأرى     من وراء السن تمثال صبـاها

     هذه النماذج من مراثي شوقي، تبين أن عاطفة الشاعر حين تتحرر من برودها، لقرابة أو إعجاب بموقف أو دين أو وطنية، تتوهج وتحتل درجة عالية من الصدق، فنظفر من شوقي بشعر رائع في الرثاء يأسرنا فيه بعاطفته الحية كما يأسرنا فيه بصياغته الرائعة.

     وهذه النماذج المتألقة فناً، المتوهجة عاطفة، تذكرنا بقطعة رثاء فريدة لشوقي في مسرحيته ((مجنون ليلى)) يقولها على لسان المجنون وهو واقف على قبر ليلى، ففي هذه القطعة تشعر أن الشاعر الكبير، تحرر من كل القيود التي عابت مراثيه، فالتقى الصدق العفوي مع القدرة المتألقة. وهي تمضي على هذا النحو:

عرفت القبور بعرف الريـــاح     ودل على نفســـه الموضـــــع
كثــــكلى تلمس قبــــر ابنــــها     إلى القبــــر من نفسها تدفــــع
هـداها خيــــال ابنها فاهتـــدت     وليــــلى الخيــــال الذي أتبــع
فجعـنـــا بليــــلى ولم نك نحـــ     ــسب يا قـلــــب أنا بها نفــجع
أعيـــــني هذا مكان البـــــكاء     وهــــــذا مسيــــلك يا أدمـــــع
هنـــا جسم ليلى هنــــا رسمها     هنا رمقي في الثـــرى المودع
هنا فم ليلى الزكي الضحــوك     يكــــاد وراء البـــــلى يلـــــمع
هنا سحــــر جفن عفاه التراب     وكــــــان الرقى فيه لا تنــــفع
هنا من شبــــابي كتــاب طواه     وليـــــس بنـــــاشره البــــــلقع
هنا الحادثـات هنا الأمل الحـلـ     ـــو ياليــــل والألم الممتـــــــع
طريد المقادير هل من يجيــــر     ك منها سوى الموت أو يمنــع
تـــذل الحيـــــاة لســــــلطانهـا     وللمـوت ســلطـــانها يخضــع
طريــــد الحيــــاة ألا تسـتقـــر     ألا تستــــريح ألا تهجــــــــــع
بلى قد بلغـــت إلى مفـــــــزع     وهذا التراب هو المفـزع[41]

     إن هذه الأبيات قطعة فريدة، التقت فيها مزايا شوقي جميعاً، مع صدق فني عميق، وقدرة على تقمص شخصية المجنون، واستغراق تام في الموقف وما يحيط به، ولعل هذا ما دفع الدكتور عبدالقادر القط إلى الثناء الكبير المستطاب عليها، فقال: ((فليس في هذه الأبيات ما يلجأ إليه شوقي عادة في مراثيه حين يحاول أن يتفلسف في مطالع قصائده فيورد صوراً بيانية مختلفة لمعنى واحد مألوف هو أن كل حي غايته الفناء، وحين يخلع على من يرثيهم من الفضائل ما جرى العرف عليه من مواطن الرثاء، بل فيها حركة نفسية نابضة تمثل لوعة الإحساس بالفقد ومرارة الشعور بالضياع، ومن مظاهر صدق الإحساس فيها أن الشاعر لم يصور ما فقده قيس بموت ليلى من ماض عزيز على نحو تقليدي مليء بالسعادة الكاملة، خال من كل الهموم، بل جعله مزيجاً من ((الحادثات، والأمل الحلو، والألم الممتع)) ومع ذلك فهو عزيز على نفس قيس بكل ما كان فيه من أمل وألم.

     ويلمس شوقي في قوله ((الألم الممتع)) وتراً شجياً من أوتار الرومانسية التي تستعذب الألم وتتخذ من معاناته رمزاً للتميز وعمق الشعور وممارسة الحياة على حقيقتها، ويؤكد التفاته إلى هذا المعنى الرومانسي مرة أخرى في قوله على لسان الأموي مخاطباً قيس:

تفردت بالألم العبقـــري     وأنبغ ما في الحياة الألم

     وفي هذه الأبيات السابقة ينتهي الشاعر إلى مسحة من ((التفلسف)) عن الحياة والموت لكنها هنا نابعة من طبيعة الموقف،معبرة أصدق التعبير عن شعور قيس ... فقد تمثل طبيعته الشخصية وعاش معها بعواطفه، وتخيل كل ما يمكن أن يدور في خبايا نفسها من خلجات، فجاء تعبيره عنها صادقاً، يجمع بين كل ما يحسه الثاكل من أسى وما قد يفكر فيه أمام لغز الحياة والموت.

     ولقد كانت مرثيات شوقي التي تستغرق جزءاً كاملاً من دواوينه الأربعة موضعاً لنقد كثير ساخر من دعاة الاتجاه الوجداني الجديد، إذ رأوا فيها تمجيداً ((موضوعياً)) لكثير من قادة السياسة ووجهاء المجتمع وزعماء العصر على اختلاف نزعاتهم وأوضاعهم واختلاف صلته الاجتماعية أو الشخصية بهم، ومهما يكن من طبيعة ذلك النقد ودواعيه، فإننا قل أن نظفر من بين تلك المراثي الكثيرة بقصيدة تضارع في جمالها وشجنها ما لهذه الأبيات القليلة التي قالها على لسان المجنون وقد وقف على قبر ليلى))[42].

     لقد تفلت شوقي في هذه القطعة الفريدة من القيود التي كانت أغلالاً في معظم مراثيه، فأبدع غاية الإبداع، ولكن هذا التفلت كان الاستثناء أما الأغلال فكانت القاعدة.

     لقد ظل شوقي في معظم مراثيه أسيراً لبروده الذي غلب على حياته وهو أهم هذه الأغلال، ولذلك فإن أكثرها يظل شعراً جميل النسيج، بديع الصياغة، حلو الموسيقى، لكنه بارد لا يؤثر فينا كأنه تمثال حجري جميل الصنعة لكنه يخلو من الحياة. وهذا البرود يشتد أحياناً حتى تتحول القصيدة إلى ما يشبه النعي الرسمي الذي يعدد في بيان يتلى، آثار الفقيد وأعماله، كما هو الحال في قصائد شوقي في هيجو، والأمير اليمني، وسليمان أباظة، ومحمد عبده، وعثمان غالب، ومحمد علي باشا، ومحمد ثابت، والأميرة فاطمة إسماعيل، وسعيد زغلول، وإسماعيل أباظة، والشاعر الموسيقي فردي.

     والدارس لمراثي شوقي يلاحظ أن فيها ما يمكن تسميته بنقاط هروب، وهي تلك الاستطرادات والاستطالات الجانبية التي يلجأ إليها الشاعر ليغطي بها فتور عاطفته، أو للإشادة بنفسه، أو لاستعراض مخزونه اللغوي والثقافي، أو لأثر التراث العربي عليه، وهذه الملاحظة نجدها في عموم مراثيه، بل وفي مراثيه التي نشعر فيها بصدق عاطفته وهو ما يوحي بأن الفتور يظل يعتاده ويشده، أو أن إعجابه بنفسه، وشعره، وغزارة مخزونه اللغوي والثقافي، وأثر التراث عليه، يظل يلح عليه فيظهر في مراثيه.

     ومن أبرز نقاط الهروب في مراثي شوقي الحكمة التي أكثر منها وتوسع فيها بحيث لا تكاد تخلو منها قصيدة من قصائده.

     ومن هذه النقاط إشادته بالبنات وإشارته إلى الحرب العالمية الأولى في رثائه مصطفى فهمي[43] وحديثه عن الإسكندرية وكورنيشها في رثائه لحافظ[44]، ومبالغته في الثناء على نفسه في رثاء جدته[45]، ومبالغته في الحديث عن فتنة الأولاد ولغز القضاء والقدر في تعزيته لهيكل[46]، وفخره بشعره في أول القصيدة التي رثى بها صديقه عمر لطفي وآخرها[47]، ورثاؤه لنفسه في قصيدته في أمين الرافعي[48]، وفخره بشعره وخلقه في رثائه جرجي زيدان[49]، وفخره بنفسه وبشعره وحلفه الأيمان المغلظة أن لا يد له في الحرب العالمية الأولى في رثاء والدته[50]، والإسراف في المبالغة والحديث التاريخي في رثاء الأمير اليمني[51] وحديثه عن زحلة في رثائه سعد زغلول[52].

     وعلى كل حال على الدارس أن يتذكر أن هذا الوهن والفتور في عاطفة شوقي لا يقلل من مزاياه الأخرى المقررة في شعره التي فرض بها نفسه ظاهرة متفردة في تاريخ الشعر العربي. لقد كان شوقي – وسوف يبقى – نقطة تحول مضيئة في وجدان مصر والعروبة والإسلام، وسيظل الكلام عنه متجدداً، ولذلك يمكن أن يوصف بما وصف به أستاذه المتنبي من قبل بأنه ((مالئ الدنيا وشاغل الناس)).

     شوقي حقاً شاعر متفرد، بل هو ظاهرة متفردة في الشعر العربي، لكن كثيراً من شعره لابد أن يسقط مع الزمن لارتباطه بمناسبات لم تتجاوز ظرفها العابر في إبداع الشاعر وتفاعله مع الحدث، ذلك أنه كان حريصاً على أن لا تخلو الصحف من قصيدة له في مناسبة يتحدث عنها الناس ومنها موت هذا الشخص أو ذاك، وهو ما أفقده الصدق أحياناً، وقد لمس هذا الأمر الدكتور أحمد هيكل حين تحدث عن الأثر السلبي لشعر المناسبات فقال عن ظاهرتها: ((وقد جرت هذه الظاهرة السيئة إلى عدة ظواهر سيئة تفرعت عنها، من أهمها عدم تعبير الشعر في كثير من الأحيان عن تجارب صادقة))[53].

----------------
[1] الديوان 1/377.
[2] حياة شوقي، ص 75 – 76.
[3] شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي، دار نهضة مصر، القاهرة، ص 183.
[4] حافظ وشوقي، مكتبة الخانجي، القاهرة، ص 174.
[5] كتب وشخصيات، ص 262-264.
[6] الاتجاه الوجداني في الشعر العربي المعاصر، دار النهضة العربية، بيروت، ط2، 1981م، ص 25.
[7] د. طه وادي: شعر شوقي الغنائي والمسرحي، ص 282.
[8] ذكر الأستاذ أحمد محفوظ أن شوقي رثى أناساً يكرههم، حياة شوقي، ص 108.
[9] د. طه وادي: شعر شوقي الغنائي والمسرحي، ص 280.
[10] أضواء على الأدب الحديث، ص 153.
[11] د. طه وادي: شعر شوقي الغنائي والمسرحي، ص 276- 278.
[12] شوقي شاعر العصر الحديث، ص 050
[13] المرجع السابق، ص 54.
[14] أحمد شوقي أمير الشعراء، دار صعب، بيروت، ط3، 1973م، ص 155.
[15] شعر الرثاء العربي واستنهاض العزائم، وكالة المطبوعات، الكويت، 1982م، ص 33.
[16] المتنبي وشوقي، ص 194.
[17] الديوان 2/341.
[18] الديوان 2/344.
[19] الديوان 2/359.
[20] الديوان 2/364.
[21] الديوان 2/369.
[22] الديوان 2/373.
[23] الديوان 2/377.
[24] الديوان 2/398.
[25] الديوان 2/408.
[26] الديوان 2/427.
[27] الديوان 2/432.
[28] الديوان 2/447.
[29] الديوان 2/454.
[30] الديوان 2/467.
[31] الديوان 2/486.
[32] حياة شوقي، ص 128.
[33] الديوان 2/496.
[34] الديوان 2/503.
[35] الديوان 2/508.
[36] الديوان 2/532.
[37] الديوان 2/558.
[38] الديوان 2/574.
[39] حياة شوقي، ص 70.
[40] الديوان 2/578.
[41] مسرحية مجنون ليلى، دار مصر للطباعة، القاهرة، 1977م، ص 109 – 110.
[42] الاتجاه الوجداني في الشعر العربي المعاصر، ص 77 – 79.
[43] الديوان 2/354.
[44] الديوان 2/359.
[45] الديوان 2/398.
[46] الديوان 2/423.
[47] الديوان 2/454.
[48] الديوان 2/496.
[49] الديوان 2/512.
[50] الديوان 2/532.
[51] الديوان 2/555.
[52] الديوان 2/578.
[53] تطور الأدب الحديث في مصر، دار المعارف، القاهرة، ط5، 1987م، ص144.

الأكثر مشاهدة