الأحد، 26 سبتمبر 2021

كتاب الرثاء في شعر البارودي وشوقي وحافظ - الفصل الأول - 08 - الحس التاريخي

الفصل الأول
(الرثاء في شعر شوقي)

8- الحس التاريخي:

     كان شوقي مولعاً بالتاريخ، قرأ فيه كثيراً، ونظم فيه عدداً من قصائده، وكان يكثر من التجوال في بعض الآثار والتأمل والخلوة فيها. يقول الأستاذ أحمد محفوظ عنه، وهو من أعرف الناس به وأقربهم إليه:(( كان شوقي شاعر آثار من الطراز الأول، كان يعجبه أن يندمج في القديم ويوغل فيه إيغالاً بعيداً، كان يزور الهرم أسبوعياً، ويلم بالمتحف المصري كثيراً للوقوف على التاريخ والنظر فيه بخيال شاعر كان يستهويه القديم ويحب الماضي ... وهو أبرز شاعر عربي احتفل بالتاريخ، فقد شمل شعره تاريخ مصر كله من فرعوني إلى إسلامي، وقد كان ينفذ بخياله اللماح إلى الزوايا من تاريخ أجدادنا فيجلوه في أروع صورة وأبهى رواء))[1].

     أما الدكتور شوقي ضيف فيرى أن شوقي مؤهل للتفوق في الشعر التاريخي، لأنه كان شاعراً ((غيرياً)) إحساسه بنفسه غير تام. يقول: ((ومهما يكن فنحن لا نستطيع أن ننكر أن إحساس شوقي بنفسه غير تام في شعره، لأنه من الشعراء الغيريين وهو من هذه الناحية كان معداً ليتفوق لا في الشعر الغنائي، وإنما في الشعر القصصي، ولعله من أجل ذلك يرتفع إلى القمة حين يترك المدائح والمراثي والشعر الغنائي الخالص إلى التاريخ، حينئذ ينفسح الأفق أمامه إذ يجد مادة خصبة لشعره وغيريته، فشوقي إنما تلائمه الموضوعات الخارجية التي لا ينسج فيها نفسه وإنما ينسج غيره، فهو لم يعش لنفسه، وإنما عاش لغيره، وكان من آثار ذلك براعته في تحويل التاريخ، وتاريخ بلده بالذات إلى شعر رائع، ومن قبله نظم الشعراء في التاريخ، نظم ابن المعتز أرجوزة في أحداث عصر المعتضد بالله الخليفة العباسي، كما نظم نشوان بن سعيد الحميري قصيدته الحميرية في ملوك اليمن، ونظم أبو طالب الأندلسي في قصص الأنبياء ودول الإسلام، وأيضاً نظم لسان الدين بن الخطيب تاريخ الممالك الإسلامية في أرجوزته (( رقم الحلل في نظم الدول )) ونظم غيرهم، ولكنك تقرؤهم جميعاً فتحس أنك تقرأ شعراً تعليمياً أو شعر متون علمية، لا روح فيه ولا حياة، ولا محاولة لفهم التاريخ وتعليل الحوادث، وإنما هو سرد ورواية حوادث مسلسلة، وكأننا نقرأ أثباتاً للتاريخ مرقومة. وربما كان الشيء الوحيد عند شوقي الذي لم يحلق فيه هو ديوانه ((دول العرب وعظماء الإسلام)) وكأنما بناه بناية هذه الأراجيز السابقة، ولكن اترك هذا الديوان إلى شعره في تاريخ مصر، تر التاريخ يتحول إلى شعر وفن،وقصيدته ((كبار الحوادث في وادي النيل)) هي آية شعره الأولى المنزلة،فقد صور فيها عصر بناة الأهرام وخلفائهم تصويراً مبدعاً إذ تحدث حديث المؤرخ الذي ينفعل مع التاريخ ...وتعرض لما أذاعه مؤرخو اليونان عن استبداد الفراعنة ... ثم خطا نحو عصر الرعاة المظلم فتأسف وتحسر ... ولم تلبث أضواء الفجر أن انتشرت فظهر رمسيس، ثم دخلت مصر في الظلام ثانية لعهد الفرس وقمبيز، واستنقذها الإسكندر واختط الإسكندرية، وكانت دولة البطالسة ثم احتلال الرومان، وكل ذلك يجسمه شوقي وكأنه مثال، فالتاريخ يعاد خلقه، يعيده خيال موسيقار مبدع، وهو لا ينسى دخول موسى وعيسى مصر، ولا دخول الإسلام، فيقف وقفة طويلة عند الأديان وينطلق في مصر الإسلامية، فيختار أروع عصورها، وهو عصر الأيوبيين وصلاح الدين، ويعرض لعصر العثمانيين وحملة نابليون، ... ويتحدث عن الأسرة العلوية ... واقرأ قصائده في توت عنخ آمون، وفرعونياته جميعاً، فستجده يسوقك إلى ما يشبه المعبد.))[2].

     وبهذا يتضح إلى أي مدى تغلغل حب التاريخ في شوقي وظهر في شعره، تاريخاً حياً تقترن فيه الواقعة التاريخية بالخيال المبدع بالموسيقى المصفاة، وهذا الأمر يظهر في مراثي شوقي كما يظهر في سائر شعره، ولا غرابة في ذلك فهو يقول في مقدمة قصيدته ((رومة)) التي نظمها عام 1900م وأهداها إلى صديقه المؤرخ إسماعيل رأفت: ((والشعر ابن أبوين: التاريخ والطبيعة))[3].

     قي رثائه لعمر المختار، يجعل قبره في الصحراء كقبور الموتى من شباب أمية وكهولتهم:

تلك الصحارى غمد كل مهنــــد
               أبـلى فأحسن في العـــدو بـــلاء
وقبور موتى من شبــــاب أميـة
               وكهــــولهم لم يبــــرحوا أحياء
لو لاذ بالجــــوزاء منهم معقــل
               دخلوا على أبـراجها الجـــوزاء
فتحوا الشـــمال سهوله وجبــاله
               وتوغلوا فاســتعمروا الخضراء
وبنوا حضـارتهم فطاول ركنها
               دار الســـلام وجلق الشماء[4]

   والاستدعاء التاريخي في هذه الأبيات جميل إذ يقرن في خلد الإنسان بين المختار وبين الفاتحين من بني أمية الذين لا يزالون أحياء بكريم فعالهم، والذين فتحوا البلاد وبنوا الحضارة فكان لهم فيها مقام رفيع.

   ومن أجمل ما وفق فيه شوقي تشبيهه عمر المختار بسقراط الفيلسوف اليوناني، الذي حكم عليه قضاته بالموت، فتلقى الحكم شجاعاً صابراً، وحين عرض عليه بعض تلاميذه أن يساعدوه على الهرب أبى، ورفض أن يخرق نظام أثينا الذي كان هو أحد من وضعوه وأقروه، لذلك تجرع السم راضياً، وكان مثل عمر المختار مثل سقراط، فهو الآخر وقف أمام قضاته من الطليان صابراً عزيز النفس، هان عليه قضاء الأرض لأنه ربط نفسه بقضاء السماء:

لبى قضاء الأرض أمس بمهجة     لم تخــــش إلا للسماء قضـــــاء
وافـــاه مرفوع الجبين كـــــــأنه     سقراط جر إلى القضــــاة رداء

     وفي رثائه لمحمد تيمور يصور شوقي حزن الوالد المفجوع على ولده الفقيد، تصويراً جميلاً، بحيث لو كان للوالد سر يوشع مع الشمس لرد شمس حياته عن المغيب، كما فعل يوشع بن نون الذي حارب الجبارين فهزمهم لكنه خشي أن يفلتوا منه بدخول الليل فلا يتم انتصاره عليهم، فدعا الله عز وجل أن تقف الشمس فلا تغرب حتى يظفر بالنصر التام فاستجاب الله تعالى له. يقول شوقي:

وانظــر أبــــــــاك وثكــــــله     ورزوحـــه تحـــت المصـاب
لو كــــان يملــك ســـر يـــــو     شع رد شمسك من غياب[5]

     وفي قصيدة شوقي في اللورد كارنافون، نجد التاريخ عنصراً حياً يملأ جوانب القصيدة التي كانت عن شخص كشف آثار أحد الفراعنة المهمين، وكان لكشفه دوي عظيم يومها. وفي هذه القصيدة يذكرنا شوقي أن الكشف عن توت عنخ آمون لا يعني عودته إلى الدنيا، بل عودته هي يوم القيامة حيث الحساب، لذلك يطلب أن يظل مغمداً حيث هو، لأن المستبد يطاق وهو في مقبرته لكنه لا يطاق وهو في ملكه وجبروته:

ما آب جبــــار الـقــــرون وإنـــما     يوم الحســــاب يكون يوم إيــــابه
فذروه في بلد العجـــــائب مغــمداً     لا تشـــهروه كأمس فوق رقــــابه
المســـتبد يطــــاق في نـــاووسـه     لا تحت تـــاجيه وفوق وثـــــــابه
والفــــرد يؤمن شـره في قبــــره     كالسيف نام الشر خلف قرابه[6]

     وفي تصوير رائع بديع يقدم لنا شوقي مشهداً تاريخياً كاملاً، نجد فيه جهد اللورد المكتشف كما نجد عظمة الفرعون المكتشف، أما اللورد فقد صابر وصبر حتى ظفر بكشفه النادر، وأما فرعون فإننا نراه، وكأنه لا يزال على عرشه، ثيابه موشاة باللؤلؤ، والعطر يملأ أرجاء عرشه، والثمار حوله طازجة فرغ قاطفوها منها للتو:

لم يـــــأله صبـــراً ولم ين همـــــة
               حتى انثنى بكنــــوزه ورغـــــــابه
أفضى إلى ختـــم الزمان ففضــــه
               وحبــــا إلى التـــاريخ في محرابه
وطوى القرون القهقـرى حتى أتى
               فرعــــون بين طعـــــامه وشرابه
المنــــدل الفياح عود سريـــــــره
               واللؤلــــؤ اللمــــاح وشي ثيــــابه
وكأن راح القــــاطفين فرغن من
               أثمــــاره صبحـــاً ومن أرطــابه

     وجدث الفرعون المكتشف حوى من المجد ما يضيق به قصر غمدان الشهير في اليمن، ففيه حضارة وفيه عمران:

جدث حـوى ماضاق غمدان به     من هـــالة الملك الجسيم وغابه
بنيان عمران وصرح حضـارة     في القبـــر يلتقيان في أطنـــابه

     ويجعل شوقي من حسين شيرين، زين العابدين بن الحسين بن علي رضي الله عنهم، لما كان فيه من دين وخلق وإيمان:

أرأيت زين العــــــابدين مجهزاً     نقلوه نقل الورد من محرابه[7]

     وفي رثائه لرياض باشا يشير شوقي إلى عمر الفقيد الطويل الذي عاش قرابة قرن قام فيها بأعمال مجيدة، تجعل دجلة والفرات يتمنيان مثل أيامه وهما اللذان عاصرا الخليفة المأمون، وتجعل قيصر الروم يود لو كان لروما شيء من عبقرية المرثي وجهوده:

رياض طويت قرنـــاً ما طوته     مع المــأمون دجـــلة والفـرات
تمنـــت منه أيـــــاماً تحــــــلى     بها الدول الخــوالي البــاذخات
وود القيصـــــران لو ان روما     عليها من حضارته سمات[8]

     وفي رثائه لعثمان غالب يطلب ممن يلومه أن يتذكر أن أمثاله من بناة الوطن، هم في منزلة أهل بدر الذين غفر الله لهم لعظيم بلائهم من أجل الإسلام فلا يؤاخذون على خطأ، كما في قصة الصحابي الشهير حاطب بن أبي بلتعة، الذي بعث لأهل مكة المكرمة يخبرهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قادم لفتح مدينتهم، وهو ما جعل بعض الصحابه الكرام يطالبون بعقوبته:

قـــل للمريب إليــــك لا     تأخذ على الحر الهنـات
إن النـــــوابغ أهل بــــد     ر مالهم من سيئات[9]

     ويقظة مصر وقيامها للمطالبة بحقها هو إحياء لها وبعث، كبعث المومياوات التي ظلت قروناً في ضمير الزمان ثم ظهرت:

عثـمان قـــم تــــــر آية     الله أحيــــا الموميــــات
خرجت بنين من الثرى     وتحركت منه بنــــــات

     وعبدالعزيز جاويش ينزل مع صاحبيه في الجهاد اللذين سبقاه إلى الوفاة مصطفى كامل ومحمد فريد، كما ينزل الحواري الطاهر من قائده وإمامه:

وبــــات الحواري من صاحبيه     شهيـــدين أسرى إليهم شهيــــد
تســــرب في منـكبي مصـطفى     كأمس وبين ذراعي فريد[10]

     ويستدعي شوقي في رثائه لمحمد فريد أسطورة نسور لقمان السبعة وآخرها لبد، ليخلص من ذلك إلى غلبة الموت للناس وتمكنه منهم وإن طال المدى:

لبد صاده الردى وأظن النســــ     ــر من سهمه على ميعاد [11]

     كما يستفيد من اسم الطبيب اليوناني الشهير بقراط ليختم قصيدته ببيت مؤداه أن الروح إذا غابت فلا أمل يرجى، وطب بقراط عندها كنافخ في الرماد يريد ناراً وهيهات:

وإذا الروح لم تنفس عن الجسـ     ـــم فبقــــراط نــــافخ في رماد

     وقصيدة شوقي في اللورد كتشنر تحفل بالحس التاريخي، فالدنيا دولاب يفني كل شيء، نقض إيوان كسرى وهجم على الأهرام، وفتك بحمراء الأندلس، ولم يبق روما ولا قيصرها، ووادي الطلح في إشبيلية الذي كان يطيب للمعتمد بن عباد أن يكثر الذهاب إليه، ولا نابليون صاحب الأمجاد الحربية الشهيرة:

منـــع اللبـــث وإن طال المـــدى     فلـــك ما لعصــــاه مســــــتقــــر
دائـــر الـدولاب بالنــــاس عــلى     جانبيـــه المرتـقى والمنـحــــــدر
نقــض الإيــوان من آســــــــاسه     وأتى الأهــرام من أم الحجـــــــر
ومحـــا الحمـــــــراء إلا عـمـــداً     نـزعهـــا من عضد الدهر عســر
أيـــن روميــــة ما قيصـــــــرهـا     ما ليــــاليها المرنـــــات الوتــــر
أيـــــن وادي الطـــلح واللائي به     من دمى يسحبن في المسك الحبر
أيــن نــابليــــــــون ما غــــاراته     شنــها الدهر عليه من غير[12]

     ولما خشي شوقي من أن يتهم في ولائه لبلده لإشادته بأحد قادة العدو سارع ينفي عن نفسه التهمة، متخذاً من التاريخ ملاذاً له:

لا تقولـوا شاعر الوادي غـوى     من يغـــــالط نفسه لا يعتـــــبر
موقف التاريخ من فوق الهوى     ومقـــــام الموت من فوق الهذر

     وقصيدة شوقي في ذكرى الخديوي إسماعيل، يستدعي فيها واقعة فتك الرشيد بالبرامكة ليجعل مصابهم كمصاب الخديوي الذي نكب بعد الملك والغنى والجاه:

ومن العجائب أن نفسك أقصـــرت     والـدهـر في إحراجها لم يقصـــــر
ما زال يخــلي منــــك كل محــــلة     حتى دفعـــت إلى المكان الأقـفــــر
نظر الزمـــــان إلى ديــــارك كلها     نظر الرشيد إلى منازل جعفر[13]

     ويطلب شوقي من قاسم أمين أن يقوم من الموت ليخبرنا بما شاهد، وليكون فيما يخبر أفصح من لازار الذي أحياه المسيح عليه السلام:

يا من تفـــرد بالقضــــــاء وعـلمه     إلا قضـــاء الواحـــــد القهــــــــار
ما زلت ترجـــوه وتخشى سهــمه     حتى رمى فأحطــــــت بالأســرار
هلا بعثــــت فكنت أفصح مخبـــر     عما وراء الموت من لازار[14]

     كما يطلب من الناس أن يأتوا بقس بن ساعدة الإيادي ليؤبن الفقيد، وببشار ليقول فيه قصيدة عصماء:

هاتوا ابن ساعدة يؤبن قاسماً     وخـذوا المراثي فيه من بشار
من كل لائقــة لبــــاذخ قدره     عصماء بين قلائـــد الأشعار

     والموت لا يفر منه أحد، وهو يصل إلى كل حي كما وصل إلى لبد آخر نسور لقمان، يقول شوقي في رثاء عبده الحامولي:

غــــاله نافــــذ الجنــاحين مـــاض     لا تفر الـنســــور من أظفــــــــاره
يطرق الفرخ في الغصون ويغشى     لبداً في الطويل من أعـــماره[15]

     ويحسن شوقي الانتفاع من مزمار داود عليه السلام، لأن الفقيد كان مغنياً له سحر كسحر مزمار داود:

كان مزماره فأصبـــح داو     د كئيباً يبكي على مزماره

     والنار التي أحرق بها القائد الفرنسي دمشق تشبه نار روما يوم أحرقها نيرون، فهنا نار وهناك نار، وهنا مجنون فرنسي وهناك مجنون روماني، يقول شوقي في رثاء فوزي الغزي مخاطباً دمشق:

أنسيــــــت نــــــار الباطشين وهـــزة
أيــن نــابليــــــــون ما غــــاراتهعرت الزمـــان كأن رومــــــا تحرق
رعنـــــاء أرســـلها ودس شــــواظها
أيــن نــابليــــــــون ما غــــاراتهفي حجرة التاريخ أرعن أحمق[16]

     وحديد الفرنسيين المهاجمين، يلقى حمية أموية صلبة لا يعروها صدأ:

لقي الحديــــد حميـــة أمويـــة     لا تكتسي صدأ ولا هي تطرق

     والطياران العثمانيان يأويان إلى قبر عجيب يليق بهما، هو السماء بعرضها وطولها، يحييهما فيه الأنبياء:

أي الغـــزاة أولي الشهادة قبــــلكم     عرض السماء ضريحهم والطول
يغــــدو عليـــكم بالتحيـــة أهـلهــا     ويرفـــرف التســـبيح والتهليـــــل
إدريس فوق يميــــنه ريحـــــــانة     ويســـوع فوق يميــنه إكليل[17]

     ويخشى الشاعر على السماء من الطيران الذي يهدد صفاءها ونقاءها بالحروب، فتتكرر فيها قصة قابيل وهابيل، ويراق فيها الدم من بعد كما أريق من قبل:

إني أخاف على السماء من الأذى     في يوم يفســـد في السماء الجيـل
كانت مطهــــرة الأديم نقيــــــــة     لا آدم فيــــــــــــها ولا قــــــابيـل

     والمصيبة في الطيارين كبيرة، تجعل المسجد الأموي بكل جلاله يهوي:

وكأنما نعيــــــت أمية كلها     للمسجد الأموي فهو طلول

     والطياران يدفنان إلى جوار صلاح الدين الأيوبي، حيث الكرم والهدى والبطولة، وهو استدعاء جميل من الشاعر لأن العمل من أجل الإسلام هو الذي يجمع الطيارين الشهيدين إلى صلاح الدين، جهاداً في الحياة ودفناً بعد الموت:

حتى نزلتـــم بقـــعة فيــها الهـــدى
               من قبـــل ثـــــاو والسماح نزيــــل
عظمت وجل ضريح يوسف فوقها
               حتى كــــأن الميـــت فيه رســــول

     وعلي أبو الفتوح تعظم به المصيبة على أهله وتشتد فكأنهم آل الحسين يوم كربلاء، يستبد بهم الحزن لمكان الفقيد الكبير، وكأن الفقيد هو الحسين بكل عظمته:

فكـــــأن آلك من شـــــج     ومتيــــــم ومرمـــــــــل
آل الحســــيـن بكربــــلا     في كربـــة لا تنجــــــلي
فاذهب كما ذهب الحسيـ     ـن إلى الجوار الأفضـل
فكلاهما زين الشبــــــــا     ب بجنـة الله العلي[18]

     وحين يرثي شوقي شهداء العلم والغربة يطالب أبناء مصر أن يرتفعوا فوق المصيبة، ويكونوا شجعاناً صابرين، وأن يجعلوا من يوم الشهداء يوماً للبطولة يترنمون به، فالفداء هو الذي حمل آل البيت على التضحية على مدار التاريخ، وحمل الحواريين على التلذذ بالأذى، ثم إن المصريين القدامى هم الذين احتملوا النوازل السماوية التي صبها الله عز وجل على فرعون أيام موسى عليه السلام، فينبغي لأحفادهم أن يأخذوا منها درساً في الصبر والاحتمال:

إذا جزع الفتيـــان في وقع حـــــــادث
               فمن لجليـــل الأمر أو معضل الحــال
ولولا معـــــان في الفـــــدا لم تعـــانه
               نفـــوس الحـواريين أو مهـــــــج الآل
فغنـــــوا بهـاتيــــك المصارع بينـــكم
               ترنــم أبطــــال بأيــــــام أبطـــــــــال
ألســــتـم بني القــــوم الذين تكبـــــروا
               على الضربات السبع في الأبد الخالي
رددتــم إلى فـرعـــــــــون جداً وربما
               رجعــتم لعم في القبائل أو خــال[19]

     وموت الملك حسين حادث جلل، تقام له المآتم في الأرض وفي السماء، ويقعد له هاشم جد النبي × للعزاء، كما يقعد له آل بيت النبوة الطاهرة، وتبكي عليه الفواطم الطاهرات:

لـك في الأرض والســـــماء مــــآتم
               قــــــام فيها أبو الملائك هـاشـــــــم
قعـــــد الآل للعــــزاء وقـــــــــامت
               باكيات على الحسين الفواطم [20]

     والمناحات على الفقيد كالمناحات على شهداء بدر، لأنه في منزلته وسابقته مثل شهداء بدر في منزلتهم وسابقتهم:

المناحات في ممالك أبنا     ئك بدرية العــزاء قوائم

     ويحسن شوقي استدعاء التاريخ في رثائه لوالدته، إذ يبين أنه استعد لصروف الزمان التي لا تفاجئه بمايكره، لأنه موقن أن الدنيا إذا سرته مرة ساءته أخرى، فحاله معها كحال ضيوف النعمان بن المنذر ملك الحيرة الذي كان له يومان يوم بؤس ويوم نعيم:

زجــرت تصــــاريف الزمــان فـما يقــــــع
               لي الـيـــوم منـــها كان بالأمس لي وهمــــا
وقــــدرت للنعـــــــمان يومـــاً وضــــــــده
               فما اغترت البؤسى ولا غرت النعمى[21]

     ويتذكر الفيلسوف اليوناني سقراط الذي شرب السم طائعاً مختاراً، فيجد نفسه في موقف مماثل لموقفه:

فأترع ونـــــاول يا زمان فإنما     نديمك سقراط الذي ابتلع السما

     وفي ذكرى دنشواي يستدعي شوقي واقعة نيرون في حرق روما، ليجعل جريمة كرومر في دنشواي مثيلة لها:

نيــرون لو أدركت عهد كرومر     لعرفت كيف تنفذ الأحكام[22]

     والمصيبة بابن إمام اليمن الذي غرق في البحر كبيرة تجعل الحسين يقوم ليعزي الحسن، وتجعل سيف بن ذي يزن يشارك في المأتم:

مضى الدهر بابــن إمام اليــــمن     وأودى بزين شبــــاب الزمـــــن
وبــاتت بصنعــــاء تبكي السيـــو     ف عليه وتبــكي القنـــا في عدن
وأعول نجــــد وضج الحجـــــــا     ز ومال الحسـين فعزى الحســن
وغصت منـــــاحاته في الخيـــــا     م وغصــت مــــآتمه في المـدن
ولو أن ميتــــــاً مشى للعــــــــزا     ء مشى في مآتمه ذو يزن[23]

     ويذكِّر شوقي نابليون بموقفه يوم خطب بجنوده عند سفح الهرم قائلاً لهم: إن أربعين قرناً تنظر من هذا المكان، فيلومه على عمله، ويذكره أنه كان ينبغي عليه وهو إزاء هذا المكان التاريخي النادر أن يكون خاشعاً بعيداً عن الزهو والكبرياء، فالأهرام لها مهابة التاريخ وقداسة المحراب:

قــــم إلى الأهرام واخشـــع واطرح
               خيـــــلة الصيــــد وزهو الفـــاتحين
وتمـــــــــــــــهل إنــــما تمـشي إلى
               حرم الدهر ومحـــــراب القـــــرون
هو كالصخــــرة عنـــــد القبــــط أو
               كالحطيــــــم الطهر عند المســلمين
وتســــنم منبـــــراً من حجـــــــــــر
               لم يكـــن قبـــــلك حظ الخـــــاطبين
وادع أجـيـــــالاً تولـــت يســــمعـوا
               لك وابعـــــث في الأوالي حاشــرين
وأعـــــــدها كلمــــات أربعـــــــــــاً
               قد أحاطت بالقرون الأربعين [24]

     ونابليون إذ يستعرض جنوده إزاء الأهرام ويخطب فيهم، إنما يستعرض التاريخ القديم والجنود الحاضرين معاً، فجمع بذلك الأحياء إلى الأموات:

قد عرضت الدهر والجيش معـاً     غايــــة قصر عنها الفاتحــــون
ما علمنـــــا قائـــــداً في موطـن     صفـــح الدهر وصف الدارعين
فترى الأحيـــــــــاء في معترك     وترى الموتى عليـــهم مشرفين
عظــــة قومي بهـــــا أولى وإن     بعــد العهــــد فهل يعتبــــــرون

     ويتمنى شوقي في رثائه لسعد زغلول أن يكون له يوم وفاته، سر يوشع بن نون ليرد شمس الفقيد الغاربة، كما رد يوشع الشمس يوم قتاله لأعدائه:

ليتـــني في الركب لما أفـــــلت     يوشع همت فنادى فثناها[25]

     والقدر الذي أودى بسعد زغلول أودى بالمدن والقرى قبله، وأودى بالعالم الفرنسي باستور ومن معه:

قــــدر بالمدن ألوى والقـرى     ودهى الأجبـال منه ما دهاها
غال بسطوراً وأردى عصبة     لمست جرثومة الموت يداها

     والأعواد التي حملت سعداً، أعواد قديمة تدفن الموتى من لدن آدم عليه السلام، مروراً بخوفو ومينا وانتهاء بكل الناس:

هذه الأعــــــواد من آدم لـــــم     يهد خفــــاها ولم يعــر مطاها
نقــــلت خوفــــو ومالت بمنــا     لم يفت حياً نصيب من خطاها

     وفي رثاء شوقي لعلي بهجت يستدعي أسطورة من أساطير العرب، مفادها أن من سمع نعيق البوم فقلب حذاءه نجا من شرها:

أرقــت وما نسيــــت بنــات بوم     على المطريـــــة اندفعت بكيـــا
بكت وتــــأوهت فوهمت شـــراً     وقـبـــــلي داخــل الوهم الذكيـــا
قـلبــــت لهـــا الحذي وكان مني     ضلالاً أن قلبت لها الحذيا[26]

     والذين يؤمنون بالآثار المزعومة لنعيق البوم، هم أسرى الخرافة التي كانت تشيع لدى العرب، يقول بها سطيح كاهن بني ذئب، وأفعى الجرهمي كاهن اليمن:

أصاب الغيب عند الطير قوم     وصــــار البوم بينهم نبيــــــا
إذا غنـــــاهم وجدوا سطيـحاً     على فمه وأفعــــى الجرهميا

     ويجعل شوقي للمعلم مكانة كبيرة في نفعه إذا صلح وفي خطره إذا فسد فهو كموسى عليه السلام إن رشد، وهو كالسامري إن ضل، وهو توظيف تاريخي ذكي منه:

إذا رشد المعـلم كان موسى     وإن هو ضل كان السامريا

     وهكذا تكثر الرموز والإشارات والاستدعاءات التاريخية في مراثي شوقي وتشيع وتتنوع، فتتصل مرة بعرب الجاهلية وتاريخهم كقس بن ساعدة والكاهن سطيح والكاهن أفعى الجرهمي وذي يزن وعبد شمس وهاشم، وتتصل أخرى بتاريخ المسلمين كالإشارة إلى أهل بدر والحسين وكربلاء وبني أمية وصلاح الدين الأيوبي والمعتمد بن عباد، وتتصل ثالثة بالرموز الفرعونية كالأهرام والنكبات السبع التي عاقب بها الله جل جلاله فرعون ومن معه، وتتصل رابعة بالدين المسيحي فترد الإشارة إلى عيسى عليه السلام ولازار والإنجيل والحواريين، وخامسة بالدين اليهودي فترد الإشارة إلى موسى عليه السلام والسامري ومزامير داود، وتتصل سادسة باليونان وسقراط وبقراط، وسابعة بالرومان وروما وقيصر ونيرون، وربما أوغلت في القدم فاتصلت بآدم عليه السلام وابنه قابيل. وهكذا يظل التاريخ قطباً دائراً في مراثي شوقي يكثر من استدعائه بصور وأشكال شتى ليضفي على الموقف جلالاً أو يستنبط عبرة أو يوظف واقعة ماضية ليقرنها إلى واقعة حاضرة، في سياق يغلب عليه التوفيق والجمال.

     وكل هذه الإشارات والإسقاطات لشوقي توضح سعة ثقافته التاريخية من ناحية، ومن ناحية أخرى توضح مدى قدرته الفنية على توظيف كل هذه الإشارات والإسقاطات توظيفاً فنياً جميلاً في مراثيه. إن التاريخ ساكن في أعمق أعماق شوقي، وهذا الأمر يظهر في مراثيه وفي كل شعره، ولو أن الدارس استقصى صلة شوقي بالتاريخ في شعره لاتسع لديه مجال القول، ولظفر من ذلك بحصيلة واسعة تشكل كتاباً كاملاً. وهذه الصلة تحسب له فيما يحسب من مزايا، ولاشك أنها من أهم أسباب تفوقه الشعري.

-------------------
[1] حياة شوقي، ص 95 – 96.
[2] شوقي شاعر العصر الحديث، ص 54 – 57.
[3] الديوان 1/154.
[4] الديوان 2/344.
[5] الديوان 2/369.
[6] الديوان 2/377.
[7]) الديوان 2/383.
[8] الديوان 2/389.
[9] الديوان 2/395.
[10] الديوان 2/408.
[11] الديوان 2/434.
[12] الديوان 2/441.
[13] الديوان 2/467.
[14] الديوان 2/468.
[15] الديوان 2/472.
[16] الديوان 2/492.
[17] الديوان 2/503.
[18] الديوان 2/508.
[19] الديوان 2/516.
[20] الديوان 2/526.
[21] الديوان 2/532.
[22] الديوان 2/545.
[23] الديوان 2/555.
[24] الديوان 2/564.
[25] الديوان 2/578.
[26] الديوان 2/594.

كتاب الرثاء في شعر البارودي وشوقي وحافظ - الفصل الأول - 07 - أبعاد وطنية

الفصل الأول
(الرثاء في شعر شوقي)

7- أبعاد وطنية: 

     يحمد لشوقي أنه كان يتخذ من المراثي سبيلاً إلى إيقاد العزائم واجتماع الكلمة ومناوأة المحتل وبناء الوطن ونشر العلم، وما إلى ذلك من معان كريمة حميدة، وكان يفعل ذلك حيث يكون الموقف مناسباً، وأنسب المواقف لذلك حين يكون المرثي شخصية عامة.

     في رثائه لعبد الحميد أبي هيف، أشاد بأعمال الفقيد ودوره الوطني، ثم انتقل ليصور تصويراً موفقاً اجتماع كلمة الأمة، وائتلاف الأحزاب والزعماء وموت الأحقاد. يقول شوقي مخاطباً الفقيد:

قم من صفوف الحـــق تلق كتيبة
               ملمومة وتر الصفــــــوف سواء
وتر الكنـــــانة شيبها وشبــــابها
               دون القضيـــة عرضة وفـــــداء
في كل وجــــدان وكل سريـــرة
               خـــلف الوداد الحقــد والبغضـاء
وغـــدا إلى دين العشيــرة ينتهي
               من خــــالف الأعمام والآبــــــاء
قــــلبي يحدثـــني وليس بخـائني
               أن العقـــــول ستقهر الأهـــــواء
الفلك بعد العـــسر يســــر أمرها
               واستقبلت ريح الأمور رخاء[1]

     وفي رثائه لعبد الحليم العلايلي، يخاطب الفقيد ليخبره وهو فرح بأن الأحزاب سارت وراء جنازته صفاً واحداً فألف بينهم حال مماته، كما كان يؤلف بينهم حال حياته:

وســـارت خلفك الأحزاب صفاً
               وسرت فكنت في الصف اللواء
تؤلف بيـــــنهم ميـــــــتاً وتبـني
               كعهدك في الحياة لهم ولاء[2]

     ويتخذ شوقي من رثائه لعمر المختار مناسبة حميدة لدعوة الأجيال الجديدة للأخذ بثأر الزعيم الشهيد، جاعلاً من رفاته لواء يستنهض الهمم ومناراً من دم يدعو للثأر:

ركزوا رفاتك في الرمـــــال لواء
               يستنهض الوادي صبـــــاح مساء
يا ويحهم نصبوا منــــــاراً من دم
               يوحي إلى جيل الغد البغضاء[3]

     والفقيد جرح صائح، وضحية تدعو إلى تحقيق الحرية بالجهاد الدامي:

جرح يصيح على المدى وضحية
               تتــــــلمس الحرية الحمـــــــــراء

     ويختتم قصيدته بدعوته الشعب أن يختبر رجاله ليختار زعماء جدداً له، وأن يستفيد من قوة الشباب فيحملهم أعباءه:

ذهب الزعيـــم وأنت باق خــــالد
               فانقـــد رجـــالك واختر الزعمـاء
وأرح شيوخك من تكاليف الوغى
               واحمل على فتيــــانك الأعبـــــاء

     ويختتم شوقي قصيدته في رياض باشا بثلاثة أبيات، يهيب فيها بأبناء الوطن أن يهبوا من النوم وأن ينشطوا للجد، فليس لهم البطء حين يسرع الآخرون نحو المجد، وليس لهم أن تكون عدتهم الأماني الكاذبة حين تكون عدة الآخرين القوة براً وبحراً:

بني الأوطان هبــوا ثم هبــوا     فبعض الموت يجلبه السبـات
مشى للمجد خلف البرق قـوم     ونحن إذا مشينـــا السلحفـــاة
يعـــدون القوى براً وبحـــراً     وعدتنا الأماني الكاذبات[4]

     وفي رثاء شوقي لعثمان غالب، يبشر الفقيد أن مصر تعيش مرحلة حياة وجهاد في مطالبتها بحقوقها الوطنية، يجتمع فيها الشاب والفتاة، والصغير والكبير، والمسلم والقبطي:

عثــمان قـــم تـــــــر آية     الله أحيــــا الموميـــــات
خرجت بنين من الثـرى     وتحــركت منــه بنـــات
واســمع بمصر الهـاتفيـ     ـن بمجــــدها والهاتفات
والطـــالبين لحـقــــــهـا     بين الســـكيـنة والـثبات
والجـاعليــــهـا قبــــــلة     عند الترنم والصلاة[5]

     وفي رثاء شوقي لعبد الخالق ثروت يشيد الشاعر بالتصريح الذي حصل عليه الفقيد، ويجعله خطوة كبرى على طريق الاستقلال التام:

تصريحك الخطوة الكبرى ومرحلة
               يدنو على مثـــلها أو يبعد الأمد[6]

     ويشيد بجهود الفقيد المضنية في الحصول على التصريح، حتى ينتهي إلى الفرح بزوال حماية المحتل عن البلد الذي صار يفيء إلى حماية الله:

طوى حمايته المحتل وانبسطت
               حماية الله فاستــــــذرى بها البلد

     ويختتم شوقي قصيدته في محمد فريد، بأن يجعل الفقيد تمثالاً للحق تبني الأمة مجدها على هديه ويتعلم منه الشباب كيف يحبون أوطانهم ويدافعون عنها:

فلا زلت تمثــالاً من الحق خالصاً
               على ســـره نبني العـــلا ونشيــــد
يعلم نشء الحي كيف هوى الحمى
               وكيـف يحـــــامي دونه ويذود[7]

     وفي قصيدته الأخرى في محمد فريد، يطلب من المرثي أن يقوم من نعشه ليرى اجتماع كلمة الأمة على المطالبة بحقها، مستعدة لمواجهة الدهر خيراً أو شراً:

قم إن اسطعت من سريرك وانظـر
               ســـر ذاك اللواء في الأجنـــــــــاد
هــل تــراهم وأنــت موف عليــهم
               غيــــر بنيـــــــان ألفة واتحـــــــاد
أمة هيئــــــت وقوم لخيــــــر الــدَّ
               هْر أو شـــره على استعــــداد[8]

     وقصيدته في مصطفى كامل، يختمها بنداء المرثي أن يقوم ليرى الناس أمة واحدة تطلب حقها دون خلاف أو نزاع، كأنها الليث يزأر دون عرينه:

قم تــر القوم كتــــلة     مثل ملمومة الصخر
جــددوا ألفة الهــوى     والإخــاء الذي شطر
ليـــس للخلف بينـهم     أو لأسبــــــابه أثـــر
نســــمع الليث عنده     دون آجامه زأر[9]

     وتنتهي القصيدة ببيت يطلب فيه الشاعر من المرثي أن يطالب الناس بالنهوض بواجبهم إزاء مصر التي تنتظر منهم ذلك:

قــــل لهم في نديهم     مصر بالباب تنتظر

     وفي قصيدته الأخرى في مصطفى كامل، يجعل من الفقيد قدوة لشباب مصر، ينبغي لهم أن يسيروا على هديها:

علمت شبـــــان المدائن والقــــرى
               كيف الحياة تكون في الشبان[10]

     وفي رثائه لفوزي الغزي، يطلب من دمشق الصبر على المصيبة، ويذكرها بموقفها من عدوان فرنسا عليها يوم أصلتها ناراً محرقة، لكن شجاعة أبنائها التي تكاد تكون جنوناً غلبت الحماقة الفرنسية، فهو يطلب منها أن تغلب مصيبة اليوم كما غلبت مصيبة الأمس:

صبــــراً لبـــاة الشرق كل مصيبـــة
               تبـــلى على الصبـر الجميل وتخــلق
أنسيـــت نـــار الباطشيــــن وهـــزة
               عـرت الزمــان كأن روما تحــــرق
رعنـــاء أرســـلها ودس شــواظهــا
               في حجــرة التـــــاريخ أرعن أحمق
جنـت فضعضـعها وراض جمـاحها
               من نشئـــك الحمس الجنون المطبق
لقـي الحديــــــد حميـــــة أمويــــــة
               لا تكتسي صدأ ولا هي تطرق[11]

     وينادي الشاعر في نهاية القصيدة شباب دمشق ليستحلفهم بالله عز وجل، وبحرمة النبيين الكريمين محمد صلى الله عليه وسلم وعيسى عليه السلام، وبحرمة الفقيد أن يكونوا يداً واحدة:

من مبــــلغ عني شبولة جـــلق     قولاً يبر على الزمان ويصـدق
بالله جـــل جلاله، بمحــــــــمد     بيســــوع، بالغزي، لا تتفرقوا
قد تفسد المرعى على أخواتها     شـــاة تند من القطيع وتمـــرق

     وفي رثاء شوقي لشهداء العلم والغربة، يوصي شباب مصر بالحرص على العلم، وأن يخلفوا زملاءهم الشهداء في دفع عجلة العلم إلى الأمام ولا يصلح الشباب بدون علم، ولا يصلحون بنصف علم:

عليــــكم لواء العـــــلم فالفــــوز تحتـــه
               ولـيـس إذا الأعـــــلام خانت بخــــــذال
إذا مـــــال صــــف فاخـلـفـــــوه بآخــر
               وصــول مســــــــاع لا ملـــــول ولا آل
ولا يصــــلح الـفتيـــان لا علم عنــــدهم
               ولا يجمعــــون الأمر أنصـــاف جهــال
وليـــس لهــــم زاد إذا مـــا تـــــــزودوا
               بياناً جزاف القول كالحشف البالي[12]

     ويذكرهم أن الشباب خلقوا لتحمل الصعاب والنهوض بالأعباء، وأن في الفداء معاني عالية، جعلت الحواريين وآل البيت ومن اختار طريقهم يحبونه، ذلك أنهم أقدموا عليه عن تصميم وإصرار:

إذا جزع الفتيــــان في وقع حادث
               فمن لجليل الأمر أو معضل الحال
ولولا معــــان في الفدا لم تعـــانه
               نفـوس الحوارييــــن أو مهج الآل

     ويطلب منهم أن يكونوا أبطالاً ينشدون في المكاره أناشيد البطولة حيث أصيب زملاؤهم الأبطال:

فغنوا بهاتيك المصارع بينكم     ترنــــم أبطال بأيـــــام أبطال

     وفي قصيدته في ذكرى مصطفى كامل وهي قصيدة جيدة جديرة بوقفة فيها أناة، يلوم المصريين على التناحر والنزاع، والعداوة والكيد، في الوقت الذي ينبغي أن يكونوا فيه يداً واحدة من أجل مصر والسودان وحقوقهما:

إلام الخـــــــلف بيــــــنـكم إلاما
               وهــذي الضجة الكبرى علامــا
وفيم يكيـــد بعضــــكم لبعـــض
               وتبـــدون العداوة والخصــــاما
وأين الفـوز لا مصر استقــرت
               على حـال ولا الســــودان داما
وأين ذهبــــــتم بالحــــــــق لما
               ركبتم في قضيته الظلاما[13]

     وقد أدى هذا النزاع إلى اشتعال النار في مصر، وهي نار أحرقت البلد وكانت سلاماً على المحتل، وهي نار لا تلبث أن تشتعل بهوى قوم كلما أطفأها قوم عقلاء:

شببـــتم بينكم في القطر نــاراً     على محتــــله كانت ســــلاما
إذا ما راضها بالعقـــل قــــوم     أجـــد لهــا هوى قوم ضـراما
وكانت مصـر أول من أصبتم     فلم تحص الجراح ولا الكلاما

     ويخاطب الفقيد ليذكره بالدور الوطني الذي أدته جريدته، والدور الوطني الذي أداه شعره، ويقرر أن الدورين قد تعاونا معاً في غرس شجرة الوطنية:

لواؤك كان يســـقيهم بجـــام     وكان الشعر بين يدي جـاما
من الوطنية استبقوا رحيــقاً     فضضنا عن معتقها الختاما
غرسنا كرمها فزكا أصـولاً     بكـــل قرارة وزكــــا مداما

     ويشير إلى خطب الزعيم الفقيد، وأثرها في تحريك الهمم والعزائم الميتة، فكانت على الأعداء ناراً وعلى أبناء مصر برداً وسلاماً:

جمعتـــهم على نبرات صــوت     كنفـــخ الصور حركت الرجاما
لك الخطب التي غص الأعادي     بســــورتها وســـاغت للنـدامى
فكــــانت في مرارتها زئـيــــراً     وكــانت في حلاوتها بغــــــاما

     ويقرر أن الشعور الوطني صار بجهود الفقيد حقيقة واقعة، وصار الجلاء مطلب الناس:

بك الوطنية اعتدلت وكانت     حديثـــاً من خرافة أو مناما
بنيت قضيــة الأوطان منها     وصيرت الجلاء لها دعاما

     ويتجه شوقي في آخر القصيدة بالخطاب إلى الملك فؤاد ليطالبه بتدارك جراح مصر:

أبــا الفاروق أدركها جراحاً     أبــت إلا على يدك التئـــاما
فإنـــك أنت مرهم كل جرح     وإن بلغ المفاصل والعظاما

     ويطلب منه أن يفعل كما فعل أبوه إسماعيل من قبل في بناء مصر:

هلم مثال إسماعيل وانسج     على منواله الهمم الجساما

     ويشيد بجهود المصلحين من قبل في تاريخ مصر، ويذكره بأنه سوف يجد في كل مكرمة يصنعها إماماً ورائداً سبقه، لكنه ينفرد بالدستور فهو به أعلى شأناً وأعز مقاماً:

كبـــار المصلحين بمصر عدوا     فـــلم يعدوا أبوتــــك العظــــاما
فخذ ماشئت في الإصلاح عنهم     تجــــد في كل مأثرة إمــــــــاما
وأنت أعـــز بالدستـــــور شـأناً     وأرفـــع خـــلف هامته مقــــاما

     ويتخذ شوقي من رثائه لبطرس غالي مناسبة حميدة ليدعو إلى ترك التعصب المذموم بين المسلمين والأقباط، وتوقير كل فريق للآخر، ونبذ الأوهام، والعيش الكريم بين الفريقين:

أعهـــدتنـــا والقـبــــــــــط إلا أمــــــــة
               للأرض واحـــــدة تـــــــروم مرامـــــا
نعــــلي تعـــاليم المسيـــح لأجــــــــلهم
               ويوقـــــرون لأجلنــــــا الإســـــــــلاما
يـــا قوم بان الرشد فاقصوا ما جــــرى
               وخـــــذوا الحقــــيقة وانبذوا الأوهــاما
فبحـــــرمة الموتى وواجـــــب حقـــهم
               عيشوا كما يقضي الجوار كراما [14]

     وفي رثاء شوقي لسعد زغلول يلتفت التفاتة موفقة، فيجعل يوم دفن الفقيد يوم بعث ونشور للأمة، فإذا بها تصرخ تحاول أن تسترد زعيمها من مخلب الموت، وإذا بالناس كالسيل الطاغي، وإذا بهم تنتقل إليهم النزاهة والوطنية من نعش الفقيد لما لمسته أيديهم:

ما درت مصــــــر بدفن صبحـــت
               أم عـــلى البعــث أفـاقت من كراها
صرخـــت تحسبها بنت الشـــــرى
               طلبــــت من مخــــلب الموت أباها
وكــــأن النـــــاس لمــا نســـــــلـوا
               شعب السيــــل طغت في ملتقـــاها
وضعــــــوا الراح على النعش كما
               يلمسون الركن فارتدت نزاها[15]

     ويلتفت شوقي إلى أمجاد سعد، فيجدها كثيرة، فيعدد منها أنه أوقد الثورة ضد الإنجليز، وحسبه ذلك شرفاً وإنجازاً:

ولــد الـثـــــورة سعـــد حرة
               بحيــــاتي ماجد حر نمــــاها
ما تمنى غيـــرها نسـلاً ومن
               يلد الزهراء يزهد في سواها

     ويطلب شوقي من محمد تيمور أن ينظر من عليائه إلى قومه ليراهم أمة واحدة كالأسود، تطالب بحقوق مصر ويطلب منه أن يسأل الله عز وجل لمصر التوفيق والنجاح:

لا تبـعـــــــــدن فهــــــــذه     آمــال قومك في اقتـــراب
أشــــرف بروحك فوقــهم     ملكاً يرفرف في السحــاب
وانظـــــر بعيـــــن نزهت     عن زخرف الدنيا الكـذاب
تــر من لـداتــــــك أمـــــة     كست الديـــار جلال غاب
جعـــلوا الثبات سلاحهـــم     نعــم السلاح مع الصواب
فـــــإذا ملــــكـت توجهـــاً     لله في قـــــدس الرحـــاب
سل فــــاتح الأبــــواب يفـ     ـتح للكنانة خير باب[16]

     فشوقي يتخذ من موت الفقيد فرصة مشكورة لصالح الوطن، الذي طفقت آماله تقترب إثر ثورة عام 1919م، ويفرح إذ يرى الشعب المصري مجتمع الكلمة ثابت العزم، مصراً على نيل حقوقه وكرامته.

     ولا ريب أن شوقي حين يصنع هذا في مراثيه يقف موقفاً محموداً، يعطي قصائده بعداً وطنياً يتسع بدائرتها ويخرج بها من حيز الرثاء الشخصي ليوظفها توظيفاً إيجابياً لصالح الوطن، في الدعوة إلى الجلاء، أو الإشادة بالعلم، أو الحث على جمع الكلمة، أو التحلي بالأخلاق التي تبني البلاد، أو ضرورة إقرار الدستور والعمل به حيث يدعو الملك فؤاد إلى هذا، أو التحذير من التعصب الديني المذموم، وما إلى ذلك.

     على أن هذا البعد الوطني المحمود في مراثي شوقي، ينبغي ألا يجعلنا نغفل عن أمرين لابد من تجليتهما في هذا المقام، الأمر الأول هو الزلل الذي وقع فيه في ثنائه على الإنجليز، والثاني هو موقفه من الزعيم الوطني مصطفى كامل في رثائه له.

     أما ثناء شوقي على الإنجليز فقد وقع فيه مرتين في رثائه، الأولى في قصيدته في شكسبير، والثانية في قصيدته في اللورد كتشنر، فعل ذلك في الوقت الذي كانت فيه إنجلترا تحكم مصر وتظلمها وتمنعها حقوقها، ومما يزيد الأمر غرابة واستنكاراً لموقف شوقي أنه نظم القصيدتين عام 1916م والحرب العالمية الأولى تدور، وشوقي نفسه منفي من بلده بأمر الإنجليز.

     لا غرابة أن يمجد الشاعر في قصيدته الأولى عبقرية شكسبير، فللعبقرية حقها الذي يفرض نفسه، وعظمة شكسبير تتجاوز بلاده لتجعل منه أديباً عالمياً يقر بسبقه الدارسون، لكن الغريب أن يجمع الشاعر إلى ذلك إشادة بالإنجليز أنفسهم، الذين لهم:

ملك يطـــــاول ملك الشمس، عزته
               في الغرب باذخة في الشرق قعساء
تـــــأوي الحقيقة منه والحقـوق إلى
               ركن بنـــــاه من الأخلاق بنـــــــاء
أعـــــلاه بالنظر العـــــالي ونطـقه
               بحــــائط الرأي أشياخ أجلاء[17]

     وهذا الملك الواسع الذي لا تغيب عنه الشمس والذي يمجده شوقي، يحميه فتيان الإنجليز وهم فتيان شجعان في الحرب، زينة في السلم، يرجو الناس منهم النجدة إن احتاجوا إلى ذلك كأنهم عرب عرباء:

وحـــــاطه بالقنـــــا فـتيــــان مملكة
               في السلم زهر ربا في الروع أرزاء
يستصرخون ويرجى فضل نجدتهم
               كأنهـــم عرب في الدهر عربــــــاء

     ودولة الإنجليز دولة عالية واسعة، موصولة بالله عز وجل، توصل فيها الرحم فلا تقطع:

ودولـــة لا يراها الظن من سعــة
               ولا وراء مداهــــا فيه عـليــــــاء
عصماء لا سبب الرحمن مطرح
               فيـــها ولا رحم الإنسان قطعـــاء

     وأعجب من ذلك كله أن الإنجليز يودون المسلمين وينصرونهم وينصرون خليفتهم:

وكان ودهم الصافي ونصرتهم
               للمسـلمين وراعيهم كما شاؤوا

     إذا أمكن التماس العذر لشوقي في تمجيده لعبقرية شكسبير، فهل يمكن التماس العذر له في تمجيده اللورد كتشنر في قصيدة طويلة مطلعها:

قف بهذا البحـــــر وانظر ما غمر
               مظهر الشمس وإقبال القمر[18]

     إن شكسبير شاعر عالمي عبقري جدير بالإشادة، لكن كتشنر قائد عسكري من قواد إنجلترا التي تحتل مصر، وهو ليس قائداً قديماً مضى به الدهر، بل قائد معاصر حكم مصر نفسها، وقد أوقع كتشنر وقومه الإنجليز بمصر ما يعرفه شوقي جيداً من ظلم، كان هو أحد المصابين به شخصياً إذ كان منفياً حين نظمه للقصيدة.

     يجعل شوقي من كتشنر الذي مات غريقاً ليثاً مضى في هوى المجد، ويعزيه بأن الموت إذا حضر لا يبقي ولا يذر، ويطلب منه أن ينظر إلى السفينة الغارقة دون أثر باق منها:

قـــــل لليــــث خسـف الغـيـــــل به
               بيــــــن طـــم وظـــــلام معتــــــكر
انـظـــر الـفـــلك أمنـــــها أثـــــــــر
               هكـــذا الدنيـــــا إذا الموت حضـــر
هـــذه منـــــــزلة لو زدتـهـــــــــــا
               ضــــاق عنك السعد أو ضاق العمر
فامض شيخاً في هوى المجد قضى
               رحــــمة المجـــــد ورفـقــاً بالكبـــر

     ويجعل الميتة المفاجئة التي قضى بها كتشنر ميتة مناسبة له تليق بوقاره، كما يليق بوقار الليث ألا يحتضر:

ميــــتة لم تلق منها عـــلزاً     من وقار الليث ألا يحتضر

     ولا يكتفي شوقي بذلك، بل يمضي إلى تمجيد الإنجليز قوم اللورد الغريق، فهم ذوو عزة وغلبة جعلتهم يحكمون البحار التي صارت أوطاناً لهم:

أنتــم القوم حمى المـاء لكم     يرجع الورد إليكم والصدر
لجــج الدأماء أوطــان لـكم     ومن الأوطـان دور وحفـر

     لقد كانت إشادة شوقي باللورد كتشنر الغريق وبقومه الإنجليز زلة يصعب التماس العذر له فيها بحال، وكأنه أحس بذلك فدافع عن نفسه وخاطب شباب النيل ليؤكد لهم أنه لم يغو، وأن التاريخ فوق الأهواء وجلال الموت فوق الهذيان:

لا تقــولوا شاعر الوادي غوى     من يغـــــالط نفسه لا يعتــــــبر
موقف التاريخ من فوق الهوى     ومقــــام الموت من فوق الهـذر

     لكن دفاع شوقي هذا عن نفسه يظل مردوداً، فأياً كانت عظمة اللورد الغريق فإن الوطنية تأبى هذا الدفاع وتنكره، ولا تجد له عذراً منطقياً، وعلى كل حال قد يكون موقف شوقي في هاتين القصيدتين نابعاً من ضعف بشري ألم به، إذ كان في منفاه مطروداً محزوناً، وربما توهم أن ثناءه على الإنجليز الذين نفوه قد يحملهم على السماح له بالعودة إلى بلده.

     أما موقف شوقي من مصطفى كامل فهو يستحق وقفة متأنية، لأنه يدلنا على نفسيته وعلى ارتباطه بالخديوي وعلى التطور الذي حول فيه بعض التحويل بعد النفي. كان شوقي على صلة وثيقة بمصطفى كامل منذ الصبا، ويروى أنه كان معه حين اختار شعاراً له وهو ((لا حياة مع اليأس ولا يأس مع الحياة)) وكان مصطفى كامل قد وجد الجزء الأول منها، فأشار عليه شوقي بالجزء الثاني[19].

     لقد جمعهما تماثل السن، وكراهية المحتل، والتعاون المشترك مع الخديوي عباس في فترة حكمه الأولى ضد الإنجليز. وقد أشار شوقي إلى شيء من هذا حين رثى مصطفى كامل في قصيدته التي قالها في ذكراه عام 1925م حيث قال يخاطبه:

أتذكر قبــل هذا الجيل جيـلاً     سهرنــا عن معلمهم ونــــاما
مهـــار الحق بغضنــــا إليهم     شــكيم القيصرية واللجــــاما
لواؤك كان يسقيــــهم بجــام     وكان الشعــر بين يدي جاما
من الوطنية استبقوا رحيـــقاً     فضضنا عن معتقها الختــاما
غرسنــا كرمها فزكا أصولاً     بكل قرارة وزكا مداما[20]

     وفي قصيدة شوقي النونية في مصطفى كامل، أشار الشاعر إلى إعجاب الزعيم الفقيد بشعره:

قد كنت تهتف في الورى بقصائدي
               وتجـل فوق النيــــرات مكاني[21]

     وفي قصيدته الرائية فيه، أشار إلى المودة العميقة بينهما منذ الصبا، وهي مودة نقية صافية لم تكدر أبداً:

يــا أخــا النفس في الصبـــا     لـــــذة الروح في الصغـــــر
وخلـيـــــــلاً ذخـرتــــــــــه     لــم يـقـــــــــوم بمدخـــــــر
حـــــال بيــــني وبيــــــــنه     في فجــــــــاءاتــه الـقــــدر
كيــــف أجــــــــــزي مودة     لم يشب صفـوها كدر[22]

     وقد بقيت هذه المودة على حالها، حتى إذا جنح الخديوي إلى سياسة الوفاق مع السير غورست الذي خلف اللورد كرومر، غضب الحزب الوطني على الخديوي وهو ما جعل شوقي في موقف حرج بين أميره وبين صديقه، فلما مات مصطفى كامل سنة 1908م ظهر أثر هذا الحرج واضحاً جلياً، في رثائه الأول له وهو قصيدته النونية التي تأخرت بعض الشيء وهو ما جعل الشاعر نفسه يحس بذلك فيقول وكأنه يلتمس لنفسه العذر فيها:

ماذا دهــــاني يوم بنت فعقني     فيك القريض وخانني إمكاني

     وقد علل الدكتور شوقي ضيف تلكؤ شوقي في رثاء مصطفى كامل بأنه يعود إلى غضب الخديوي على الفقيد، بسبب ما نشب بينهما من خلاف إثر سياسة الوفاق التي اختارها، وعلل نظمه للقصيدة النونية فيه بأنه يريد أن يرضي الجمهور، فهو إذن بين الرهبة والرغبة، وقد خرج من هذا الموقف الدقيق بأن تلكأ بعض الشيء في الرثاء، ثم حين رثى الفقيد، رثى فيه الصديق الفقيد لا الزعيم الوطني. يقول الدكتور شوقي ضيف: ((لم يكن شوقي يعيش حينئذ حراً لنفسه، وإنما كان يعيش عبداً لأميره، وربما كان من أبلغ الدلالة على ذلك موقفه من صديقه مصطفى كامل حين توفي، فإنه لم يسارع إلى رثائه، لأن مصطفى كان قد قطع علاقته بعباس حين وجده يتبع سياسة وفاق مع السيرغورست معتمد إنجلترا، ووجه إليه على صفحات الصحف كتاباً مفتوحاً، فلما هصر القدر غصن مصطفى المورق الفينان، صديق شوقي ورفيقه، وقلب الوطن الخافق وفؤاده النابض، تلكأ شوقي قليلاً في بكائه، ثم ثاب إلى صوابه ولعل أجمل مراثيه فيه قصيدته:

المشرقــان عليك ينتحبان     قاصيهما في مأتم والداني

     والقصيدة رائعة من حيث الصور والصياغة، وما يتخللها من عظات وحكم، يطل فيها شوقي من برجه العاجي أو الذهبي على الدنيا من حوله، وكأن شوقي لا يبكي مصطفى كامل روح الوطن وشعلته الملتهبة، وإنما يبكي مصطفى كامل الشخص، وخلقه ودعوته إلى العلم الشريف، ويتسلل من ذلك إلى شؤون الحياة والموت وينظم مثل هذا البيت:

دقات قلب المرء قائلة له     إن الحياة دقــائق وثواني

     وكل ذلك لأن شوقي كان يخاف الخديوي ويخشى سخطه، وهو في الوقت نفسه يريد أن يرضي الجمهور، وأن يرضي الشعب الذي يقرؤه، فيحاوره ويداوره، وتخرج القصيدة على هذه الشاكلة من الحديث في فلسفة الحياة والموت، وإن تركهما فإلى الأخلاق وما يتصل بالأخلاق. أما سيرة مصطفى كامل، وأما خدماته الوطنية، وأما تعلق المصريين به، فكل ذلك يوضع عليه ستار ويغشاه ضباب))[23].

     أما الدكتور أحمد محمد الحوفي فإنه يرد على من يرى أن شوقي نشر رثاءه في مصطفى كامل بعد عام كامل، ويقرر أنه قرأه بنفسه في جريدة اللواء بتاريخ 23/2/1908م أي بعد وفاة الفقيد باثني عشر يوماً، وينفي عن شوقي فكرة الخوف من الخديوي، ويرى أن السبب هو أن عاطفة الحزن أحياناً تغل الشاعرية وتشل التفكير وتطغى على الإبانة، فيضطر الشاعر إلى مهلة من الزمن يستجم فيها، ويستعيد صوابه فيرثي أحبابه([24])، على أنه ما يلبث أن يعود ليلتقي مع الدكتور شوقي ضيف حيث يقرر أن الصبغة العامة لمرثية شوقي أنها زفرات ملتهبة، وليس فيها من الإشادة بجهاد مصطفى كامل في السياسة والوطنية إلا لمحات.

     والأستاذ عمر الدسوقي يرى الأمر نفسه، يقول: ((ولكن شوقي رثاه عقب وفاته بقصيدة صور فيها في دقة تامة إحساسه المتفجع في فقد صديق الصبا والشباب، وصور آخر لقاء كان بينهما تصوير الأخ المفجوع في أخ عزيز، وبعد عن السياسة كل البعد ولم يتطرق إليها إلا بحذر بالغ، رثى شوقي في هذه القصيدة صديقاً حميماً ولم يرث زعيماً عظيماً ووطنياً وإماماً من أئمة الجهاد))[25].

     وأياً كان تاريخ نشر المرثية، فمن الواضح أن شوقي كان فيها بين مخافتين، مخافة الخديوي الذي لا يريد أن يغضبه، ومخافة الشعب الذي لا يريد أن يخسره، فوجد المخرج في توجيه المرثية على النحو الذي سبقت الإشارة إليه، وفي هذا دليل على حذر شوقي وكياسته ولباقته، وفيه الدليل أيضاً على قوة القيود التي كانت تكبل مواقفه لارتباطه بالخديوي.

     وقصيدة شوقي الميمية في مصطفى كامل تؤيد هذه النتيجة، فقد قالها عام 1925م، والخديوي عباس منفي معزول، وهو نفسه تجرع غصص النفي، ثم عاد إلى بلده الأثير ليجد مداً وطنياً قوياً، وليجد نفسه وقد خسر موقعه مع السيد الجديد في عابدين، فحول في حياته بعض التحويل وصار أدنى إلى الشعب وصار أكثر جرأة في القول، بعد أن تحطمت بعض السلاسل التي كانت تربطه بالقصر سواء بإرادته أو بعزوف القصر عنه. ولذلك كانت قصيدته الثانية في مصطفى كامل وهي الميمية تتوهج حماسة واشتعالاً ووطنية. يقول الأستاذ عمر الدسوقي: ((على أن شوقي تدارك ما فاته، بعد أن زالت الأسباب التي كانت تلجم لسانه وتشل بيانه، إذ انتهز فرصة مرور سبعة عشر عاماً على وفاة مصطفى كامل فقال قصيدة ربما كانت أحسن ما قيل حتى اليوم في مصطفى كامل وفي جهاده، وهي من أروع الشعر العربي الحديث، قيلت بعد أن عاد شوقي من منفاه ورأى أن الدنيا تغيرت وسدت دونه أبواب القصر، والثورة المصرية قد تأجج سعيرها))[26].

     وبهذا يمكن لنا أن نقول: إن موقف شوقي من صديقه مصطفى كامل، يدل دلالة تامة على حذره ورغبته ورهبته، كما يدل أيضاً على التطور الذي أصاب نفسه وشعره عقب عودته من المنفى وهو تطور إيجابي ومحمود. يقول الدكتور محمد مندور: (( وعلى أية حال فإن المتتبع لإنتاج أحمد شوقي الشعري بعد عودته من المنفى يحس في وضوح بتطوره المستمر نحو الاقتراب من الشعب ومن قضاياه الوطنية والاجتماعية. ثم تطوره مع الشعب أيضاً نحو الإحساس القوي بالتضامن والقومية العربية، فشوقي يتابع المد الوطني والثوري والقومي لشعبه ولأمته العربية كلها، ويحزن عندما يدب الخلاف بين صفوف الزعماء الذين قاموا متحدين بثورة 1919م، وعندما يصل هذا الخلاف إلى حد تهديد قضية الوطن ذاتها يصيح شوقي بهؤلاء الزعماء صيحته الخالدة سنة 1924م في القصيدة التي نظمها عندئذ بمناسبة الذكرى السابعة عشرة لوفاء المرحوم مصطفى كامل باشا وسماها شهيد الحق واستهلها بقوله:

إلام الخـــــلف بيـــــنكم إلاما     وهذي الضجة الكبرى علاما

     وظل شوقي يحرس بشعره المشاعر الوطنية ويرعى وحدة الوطن))[27].

     ومما يلام عليه شوقي في وطنيته لوماً شديداً، في غير مراثيه، قصيدته التي قالها عام 1915م، والتي تبدأ بقوله:

الملك فيكم آل إســـــــماعيـــــلا     لا زال بيـــتكم يظل الـنـــــــيلا
لطف القضـــــاء فلم يمل لوليكم     ركناً ولم يشـــف الحسود غليلا
هذي أصــــولكم وتلك فروعـكم     جاء الصميــم من الصميم بديلا
أنتم بنو المجــــد المؤثل والنـدى     لكم السيادة صبية وكهولا[28]

     وقد قال هذه القصيدة في تهنئة السلطان حسين كامل، الذي تولى عرش مصر بعد عزل الخديوي عباس، ذلك أن الإنجليز لم يطمئنوا لعباس، الذي كان خارج مصر يوم أعلنت الحرب العالمية الأولى، فمنعوه من العودة إلى مصر، وعزلوه، وأتوا بعمه حسين كامل مكانه.

     ربما يقبل من شوقي أن يهنئ السلطان الجديد، مع أنه جاء بأمر الإنجليز، ومع أنه أخذ مكان ابن أخيه عباس صديق شوقي وممدوحه وولي نعمته، لكن لا يمكن أبداً أن يقبل منه أن يمدح الإنجليز فيقول عنهم:

حلفـاؤنــــــا الأحـــــــرار إلا أنهـم
               أرقى الشعـــــوب عواطفاً وميــولا
أعلى من الرومان ذكراً في الورى
               وأعـــز سلطانــــاً وأمنع غيـــــــلا
لما خلا وجــــه البـــــلاد لسيـــفهم
               ســـاروا سماحاً في البـــلاد عدولا
وأتــوا بكابــــرها وشيــــخ ملوكها
               ملكاً عليــــــها صـــــــالحاً مأمولا
تاجـــــان زانهما المشيب بثــــالث
               وجــد الهدى والحـــــق فيه مقيــلا

     غفر الله لشوقي هذه السقطة الشائنة، التي ربما كان دافعه إليها أن يبقى في مصر آمناً، سواء في معية السلطان الجديد أو بدونها، لكنه لم يظفر بذلك فنفي إلى إسبانيا. وأياً كان الأمر، فإن الإنصاف يقتضي منا أن نشيد بالبعد الوطني في مراثي شوقي، فهو بعد حميد، أحسن فيه الشاعر توظيف المواقف توظيفاً إيجابياً لصالح الوطن، وبالتالي تجاوزت مراثيه دائرة الأحزان والآلام الشخصية، ووصلت إلى دائرة أوسع منها وأشمل، الأمر الذي يحمد للشاعر من ناحية، ويدل على تطور إيجابي في فهم وظيفة الشعر من ناحية أخرى.

------------------
[1] الديوان 2/337.
[2] الديوان 2/341.
[3] الديوان 2/344.
[4] الديوان 2/386.
[5] الديوان 2/395.
[6] الديوان 2/427.
[7] الديوان 2/432.
[8] الديوان 2/434.
[9] الديوان 2/449.
[10] الديوان 2/574.
[11] الديوان 2/492.
[12] الديوان 2/516.
[13] الديوان 2/538.
[14] الديوان 2/543.
[15] الديوان 2/578.
[16] الديوان 2/369.
[17] الديوان 2/350.
[18] الديوان 2/441.
[19] حسين شوقي: أبي شوقي، مطبعة مصر، 1947م، ص 133.
[20] الديوان 2/538.
[21] الديوان 2/574.
[22] الديوان 2/449.
[23] شوقي شاعر العصر الحديث، ص 22 – 23.
[24] وطنية شوقي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط4، 1978م، ص 134 – 137.
[25] في الأدب الحديث، دار الفكر العربي، القاهرة، ط2، 1955م، ص 92.
[26] المرجع السابق، ص 94.
[27] محمد مندور، عبدالعزيز الدسوقي، أديب مروة: أعلام الشعر العربي الحديث، المكتب التجاري للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، ط1، 1970م، ص 66 -67.
[28] الديوان 1/375.

كتاب الرثاء في شعر البارودي وشوقي وحافظ - الفصل الأول - 06 - حضور الذات

الفصل الأول
(الرثاء في شعر شوقي)

6- حضور الذات:

     مما يلاحظ على شوقي في مراثيه، أنه يتحدث عن نفسه فيها، فخراً بشعره، أو إشادة بوفائه، أو تمجيداً لنفسه، بصورة يبدو الموقف فيها غريباً في بعض الأحيان، لا يجد له الدارس موقعاً منطقياً مستساغاً، وفي أحيان أخرى يكون الموقف منطقياً بل مقبولاً ومطلوباً حين يجعل من رثائه لأصدقائه واجباً ينبغي أن ينهض به.

     يقول في رثائه ليعقوب صروف، وكأنه يرد على من اتهمه في مراثيه:

يقولـــون يرثي كل خل وصــــاحب
               أجل إنما أقضي حقـــوق صحـــابي
جزيتـــهم دمعي فلما جـــرى المدى
               جعلت عيون الشعر حسن ثوابي[1]

     وفي رثائه لرياض باشا، يعتذر شوقي منه لما كان أخذه عليه في حياته من مواقف، ويطلب منه الصفح، ويشبه نفسه بعيسى عليه السلام من حيث طهارة الوجدان من الأحقاد، والعفو عن الإساءة، ويقرر أنه يعرف أقدار الناس ومنازلهم حتى لو وقع بينهم وبينه جفاء:

أخذتك في الحياة على هنــــات     وأي النـــاس ليس له هنـــــات
فصفحاً في التراب إذا التقينـــا     ولُوشِيَــــتِ العداوة والتـــرات
خلقـــت كأنني عيسى حــــرام     على قلبي الضغينة والشــمات
يســــاء إلي أحيــــانـاً فأمضي     كريماً لا أقــوت كما أقــــــات
وعندي للرجال وإن تجــــافوا     منازل في الحفاوة لا تفات[2]

     وفي رثاء شوقي لجدته، يجعل من مزاياها أنها أنجبته، ويمضي بعد ذلك ليصف نفسه بأنه فخر القبائل واللغات، وأبلغ الشعراء، ويشيد بنقاء قلبه من العداوة، وترفعه عن الشماتة، وحفظه لعهود لداته وإخوانه، وخبرته العميقة بالدهر، وصبره على النازلات، وهو موقف غريب ومبالغة تذكرنا بما فعله المتنبي في رثاء جدته. يقول شوقي:

ولو لم تظهري في العـرب إلا     بأحمد كنت خير الوالــــــدات
تجــــاوزت الولائـد فاخــرات     إلى فخر القبـــــائل واللغــات
وأحكم من تحــــــكم في يراع     وأبـــلغ من تبـــــــلغ من دواة
وأبــــرأ من تبرأ من عـــــداء     وأنـزه من تنــــزه من شمـات
وأصون صائن لأخيـه عرضاً     وأحفظ حافــــــظ عهد اللدات
وأقتــــل قاتــــــل للدهـر خبراً     وأصبر صابر للغاشيـات[3]

     وفي رثائه لعمر لطفي يخبر صديقه الفقيد، أنه سيرثيه بشعر كالجواهر تجعله الدنيا قلادة لها، ويصوغ محاسنه ومحامده في كتاب من شعره، فيعرف الناس بذلك فضله ويتقدم به عليهم:

اليوم أصعــــد دون قبــــرك منبرا
               وأقــــلـد الدنيا رثـــــــاءك جوهرا
وأقص من شعري كتـاب محـاسن
               تتقـــــدم العــــلماء فيه مســــطرا
ذكراً لفضــــلك عند مصر وأهلها
               والفضل من حرماته أن يذكرا[4]

     وبعد أن يتحدث شوقي عن الفقيد، ويطري أعماله، يعود في آخر القصيدة ليفخر بشعره وبنفسه وبوفائه:

لمـــا دعيــــت أتيت أنثـــــر مدمعي
               ولو استطعت نثرت جفني في الثرى
لم أعط عنـــك تصبــراً وأنــــا الذي
               عزيت فيـــك عن الأميــــر المعشرا
أزن الرجــــال ولي يــــــراع طالما
               خــــلع الثنــــــاء على الكرام محبرا
بالأمس أرســلت الرثـــــاء ممســكاً
               واليــــوم أهتـــف بالـثنـــاء معنبــرا
غيــرتني حزنــــاً وغيـــرك البـــلى
               وهــواك يــــأبى في الفؤاد تغيـــــرا
فعـــلي حفـــظ العهــــد حتى نلتــقي
               وعليــــك أن ترعــــاه حتى نحشــرا

     وفي رثائه لجورجي زيدان، يمجد شعره وخلقه، ويبالغ في ذلك فيجعل دولة الشعر راجعة إليه دون الآخرين، ويشيد بنفسه إلى درجة مستغربة، فهو لا يمشي إلى خير أو شر إلا بحساب دقيق، ويستصغر صنيعه للناس في جنب صنع الله له، وإن أحسن إليه أحد شكر له سراً وعلناً، وهو يترك الغيب لله عز وجل فلا يتابع سرائر الناس، لذلك يخف عليهم إن أكثر أو أقل، وهو من وفائه يحزن لأصحابه الذين يرثيهم حزناً شديداً يجعله في موقف يرثى له فيه:

زيــــدان إني مع الدنيا كعهــــــــدك لي
               رضـــا الصديق مقيل الحاسد القـــــالي
لي دولة الشعــــر دون العصر وائـــلة
               مفــــاخري حـــكمي فيـــها وأمثـــــالي
إن تمش للخيـــــر أو للشــــر بي قـــدم
               أشــــمر الذيـــل أو أعثـــر بأذيــــــــال
وإن لقيـــت ابن انــثى لي عليـــه يـــــد
               جحــدت في جنب فضل الله أفضــــالي
وأشــكر الصنــع في ســري وفي علني
               إن الصنـــــائع تـزكـو عنــد أمثــــــالي
وأتـرك الغيــــــب لله العليــــــم بـــــــه
               إن الغيــــوب صنــــــــاديـق بـأقفـــــال
كأرغـــن الديـــر إكثــــاري وموقــــعه
               وكالأذان على الأســــماع إقـــــــــلالي
رثيـــت قبــــلك أحبــــاباً فجــــعت بهم
               ورحت من فرقة الأحباب يرثى لي[5]

     وربما أحس شوقي حين رثى سعيد زغلول، أن هناك من يتهمه بأنه رثى الفقيد إكراماً لخاله سعد زغلول، فراح يذكر عفة نفسه وانحيازه إلى الحق، وراح يشيد بسعد زغلول ومكانته التي يجله بسببها، ويشيد بشعره الذي يقوله في الأحرار، وهو شعر بالغ الأهمية يعجز الناحتون المهرة عن صناعة مثيل له:

سيقولون مارثاه على الفضـــ     ـل ولكن رثاه زلفى لخــــــاله
ليس بيــني وبين خـــــالك إلا     أنني ما حييـــت في إجـــلاله
لست أرجوه كالرجــال لصيد     من حرام انتخـــابهم أو حلاله
كيف أرجو أبــــا سعيد لشيء     كـان يقضي بكـفــره وضلاله
هـو أهـل لأن يرد لـقـــــومي     أمرهـم في حقيــــقة استقـلاله
وأنـــا المرء لم أر الحـــق إلا     كنت من حزبــــه ومن عماله
رب حر صنعـــت فيه ثنــــاء     عجز الناحتون عن تمثاله[6]

     هنا نحس أنه ترك المرثي جانباً، ومضى يدافع عن نفسه، بل يمجدها وانتقل إلى الإشادة بسعد زغلول وآمال الأمة المنعقدة عليه.

     وفي رثائه لوالدته، وهو رثاء تظهر عليه بصمات المتنبي واضحة جلية، يختم قصيدته بالثناء على نفسه وتمجيدها، ففي الشعر ليس له مثيل، وأخلاقه تنتظم كل خلق كريم، ولو أن السماء والأرض مخضتا معاً لكان هو أفضل ما تجيئان به كرماً ونفاسة وشعراً:

أتيــــت به لم ينـــظم الشـــــعـر مثــــــــله
               وجئــــت لأخــــلاق الــكـرام به نظــــــما
ولو نهضـــــت عنه الســــماء ومخضــت
               به الأرض كان المزن والتبر والكرما[7]

     وفي رثائه لمصطفى كامل يتحدث شوقي عن شعره، فلولا الحزن المستبد بقلبه لنظم في الفقيد يتيمة الأزمان كلها، وهو إذا رثى علماً هوى عاد برثائه شمساً تدور في فلكها، وشوقي يعرف قدر الفقيد كما كان الفقيد يعرف قدره شعراً ومكانة، يقول شوقي مخاطباً الفقيد.

وجعـــلت تسألني الرثاء فهـــــــاكه
               من أدمعي وسرائــــري وجنــــاني
لولا مغــــالبة الشجــــون لخاطري
               لنظــــمت فيــــك يتــــيمة الأزمان
وأنا الذي يرثي الشـموس إذا هوت
               فتعــــود سيــــرتها إلى الــــدوران
قد كنت تهتف في الورى بقصائدي
               وتجـــل فوق النيـــرات مكاني[8]

     وفي رثائه لإسماعيل أباظة، يلوم الذين يهاجمون مراثيه، ويجعل ذلك من الحسد المذموم، ويدفع عن نفسه تهمة الانتفاع فأنى للراحلين أن يجازوا من يرثيهم، ويقرر أنه إنما يريد من رثائه أن يجعل من محاسن المرثي قدوة حسنة يحتذيها الأحياء، وأن يقوم بواجب الوفاء للأموات لأن الذي لا يرعى عهود الموتى لن يرعى عهود الأحياء:

يقولون يرثي الراحليــــن فويحهم
               أأملت عند الراحــــلين الجوازيــا
أبوا حسداً أن أجعل الحي أســـوة
               لهم ومثـــالاً قد يصادف حــــاذيا
فـــلما رثيت الميت أقضي حقوقه
               وجدت حسوداً للرفات وشـــــانيا
إذا أنت لم ترع العهــــود لهــالك
               فلســت لحي حافظ العهد راعيــا
فلا يطوين الموت عهدك من أخ
               وهبـــه بــواد غير واديك نائيـــا
رثيــــت حياة بالثنـــء خليــــــقة
               وحليت عهداً بالمفاخر حاليا[9]

     وفي هذه الأبيات يربط شوقي – من حيث يدري أولا يدري – بين مدائحه وبين مراثيه، لأنه وجد من يتقول عليه في الاثنين معاً، وهو ما جعله في موقف دفاعي يريد أن يلتمس فيه العذر لنفسه، أما مدائحه فعلل نظمه لها بأنه كان يريد الإشادة بأناس أحياء لهم مزايا عالية يستحقون معها أن يكونوا قدوة للناس ومثالاً، ومن هنا كان الثناء عليهم دعوة للسير على خطاهم، أما مراثيه فقد نظمها بدافع الوفاء لمن سبق للموت من كرام الرجال، وهو وفاء خالص لأن الأموات لن يقدموا الجوائز لمن يثني عليهم بسبب موتهم، فأمر المصلحة غير وارد في هذا الموقف أبداً.

     وفي رثاء شوقي لفتحي زغلول، يخاطب المرثي ليخبره أنه رثاه بقصيدة خالدة سبق فيها الجميع، فكانت درة الإنشاد، وكانت عظة وإرشاداً يلقيان على العظماء والأفراد:

فتحي رثيتــــك للبـــــــلاد وأهلها
               ولرائــح فــوق التــراب وغـــــاد
وسبقـــت فيـــك القـــائلين لمنبــر
               عـــال عليهم خــــــــــالد الأعواد
ما زلــت تســـمع منه كل بديهــة
               حتى سمعـــت يتـــــيمة الإنشـــاد
وحيــــاة مثلك للرجـــــال نموذج
               وممــاتك المثـــل القويم الهـــادي
ورثـــاؤك الإرشــاد والعظة التي
               تلقى على العظماء والأفراد[10]

     وفي رثاء شوقي لعبد الحميد أبي هيف، يصف نفسه بالوفاء، ويذكر أن الوفاء دفعه إلى الرثاء فاستجاب له:

هز الشباب إلى رثــــــائك خاطري
               فوجدت في وفي الشباب وفاء[11]

     وحين مات حافظ إبراهيم قال فيه شوقي قصيدة تعد من أجود شعره، ويشكر شوقي لحافظ في هذه القصيدة قصيدته التي بايعه فيها في حفل الإمارة عام 1927م، ويصف هذه القصيدة بأنها جديرة أن تحفظ، وأنها رفعت مكان شوقي عالياً وهو ما أوقد جذوة الأمل في نفسه، ولا ينسى شوقي أن يثني على نفسه كما أثنى على حافظ، فيصف نفسه بأنه شاكر هذا الصنيع، قائم بحقوق المودة والإخاء والوفاء:

بالأمس قــــد حليتــــني بقصيـــدة     غراء تحفـــظ كاليـــد البيضـــــاء
غيظ الحسود لها وقمت بشـــكرها     وكما عـلمـــــت مودتي ووفـــائي
في محفـــل بشـــرت آمــالي بـــه     لما رفعت إلى السماء لوائي[12]

     ويشير شوقي إلى الذين كانوا يحاولون الإيقاع بينه وبين حافظ، فيصفهم بأنهم ذوو أحقاد، وأنهم لا يرعون حرمة للموت، والموت يطفئ الضغائن وينهي الصراع والتنافس، وأنهم يريدون بناء أمجادهم من خلال هدم أمجاد الكرام، لكنهم لن يستطيعوا إلى ذلك سبيلاً، فالمجد العظيم لا يحطم، وإنما يحطم من يحاول هدمه، وكأن شوقي في ذلك كله، يدفع عن حافظ ويعلي منزلته وفي الوقت نفسه يدفع عن نفسه ويعلي منزلتها:

ووددت لو أني فـــداك من الردى
               والكاذبون المرجفـــون فــــــدائي
الناطقون عن الضغينـــة والهوى
               الموغـــرو الموتى على الأحيــاء
من كل هـــدام ويبـــني مجــــــده
               بكرائم الأنـقـــــــاض والأشـــلاء
ما حطموك وإنمـــا بك حطـــموا
               من ذا يحطــــم رفرف الجــوزاء
انظر فأنت كأمس شأنك بـــــاذخ
               في الشرق واسمك أرفع الأسماء

     وفي رثاء شوقي لعبد الخالق ثروت يحييه أحسن تحية، ويبعث له بواحدة من قصائده التي كان الفقيد يهتم بها ويحتشد لها، وهي قصيدة يتذكر فيها الشاعر الماضي، ويشير إلى الود الصافي الذي كان بينهما وهو ود باق في قلب الشاعر لم يتغير، بل هو كخلية النحل تموج بالحياة، وبالعسل المصفى، وهو ثناء من شوقي على نفسه، لم تفته الإشارة إليه وهو يرثي صديقه الفقيد:

أبـــا عزيـــز ســــــلام الله لا رســل
               إليــــك تحـــمل تســـليمي ولا بــرد
ونفحة من قوافي الشعر كنت لهــــا
               في مجلس الراح والريحان تحتشــد
أرســـلتها وبعثــــت الدمع يكنـــفها
               كما تحـــدر حول الســـــوسن البرد
عطفت فيك إلى الماضي وراجعني
               ود من الصغـــر المعسول منعقــــد
صـــاف على الدهر لم تقفر خليــته
               ولا تغيــر في أبيــــاتها الشهد[13]

     وفي رثائه لأمين الرافعي، يختم قصيدته ببيتين يقرر فيهما أن مكانته الشعرية هي من العلو والرفعة بحيث لا تزول، وأن الدهر وحده هو الذي يمتلك جدارة إلقاء شعره على الناس، جيلاً فجيلاً ليترنموا به ويتعظوا به:

إن يفت فيك منبر الأمس شعــري    إن لي المنبـــر الذي لـــــن يزولا
جل عن منشد سوى الدهر يلقيــــ     ـه على الغابرين جيلاً فجيلا[14]

     ويلوم شوقي نفسه في رثائه لسعد زغلول لأنه لم يرثه يوم وفاته إذ خانه بيانه وهو الذي كان يستجيب له إذا دعاه لأي رثاء:

أيــــــن مني قــــــلم كنــــــت إذا     سمته أن يرثي الشمس رثــــــاها
خــــانني في يوم سعـــــد وجرى     في المراثي فكبا دون مداها[15]

     وهكذا كانت ذات شوقي الشاعرة حاضرة في مراثيه، حضوراً تختلف درجته بين موقف وآخر، بسبب إحساسه بشخصيته وأهميتها، وبسبب إعجابه بشعره وفنه وهو حضور عجيب يصل إلى درجة الاستغراب أحياناً، خاصة حين يشتد في الإشادة بنفسه وبشعره بحيث لابد للدارس أن يتساءل عما إذا كان شوقي صادقاً في رثائه. ومن هنا كان لنا أن نقول: إن إشادته بنفسه وبشعره هي إحدى نقاط الهروب الواعية أو غير الواعية التي يستر بها وهن عاطفته، وربما كان أوضح مثال لذلك هو التماسه لنفسه العذر في رثاء سعيد زغلول وهو التماس جعله يتحول عن الرثاء إلى الثناء على نفسه. وأيضاً يمكن أن يقال: إن ذات شوقي المتضخمة الحاضرة تمت بسبب قوي إلى المتنبي الذي كان قدوة شوقي وأحد أستاذيه الأكبرين (المتنبي والبحتري) مع أن الخلاف جذري في تكوين الشاعرين ونفسيتهما ومواقفهما، ذلك أن إعجابه بالمتنبي جعله من حيث يدري أو لا يدري يقع في تقليده، فظهر ذلك في حضور ذاته بهذا الشكل الذي يبلغ أحياناً درجة غير مقبولة.

--------------------------
[1] الديوان 2/373.
[2] الديوان 2/386.
[3] الديوان 2/398.
[4] الديوان 2/454.
[5] الديوان 2/512.
[6] الديوان 2/523.
[7] الديوان 2/532.
[8] الديوان 2/574.
[9] الديوان 2/588.
[10] الشوقيات المجهولة 2/151.
[11] الديوان 2/337.
[12] الديوان 2/359.
[13] الديوان 2/427.
[14] الديوان 2/496.
[15] الديوان 2/578.

الأكثر مشاهدة