الجمعة، 4 يونيو 2021

الشاعر حيدر غدير وقصيدته: نحن لا نفنى - أ.محمد علي شاهين

الشاعر حيدر غدير وقصيدته: نحن لا نفنى

أ. محمد علي شاهين

     ولد الشاعر الإسلامي الدكتور حيدر غدير عام 1939م، في مدينة دير الزور عاصمة الجزيرة الفراتيّة، وترعرع على ضفاف الفرات بين المروج الخضر وبحر الرمال، واتصل بفصحاء الأعراب، فكانت شاعريّته نسيج البادية والحاضرة، ومن هنا جاء شعره رقيق الكلمات، فصيح العبارة، نشأ على قيم الإسلام، والتحق بالمدارس الحكوميّة، ونال الشهادة الثانويّة عام 1959، ودفعه طموحه وحبّه للعلم لارتياد المعالي، والتوجّه إلى مصر للتزوّد من معارفها في وقت كانت جماهير المثقفين تتطلّع فيه إلى أرض الكنانة، وكانت سوريّة تمثّل الإقليم الشمالي من الجمهوريّة العربيّة المتحدة، فالتحق بكليّة الآداب، جامعة القاهرة، وتتلمذ على أساتذتها ولقي مفكّريها، عاد إلى سوريّة بعد تخرجه عام 1963م، ونال درجة الدبلوم في التربية من جامعة دمشق عام 1964م، ثمّ حنّ إلى مناهل العلم في القاهرة لإتمام دراسته العليا وحصل على درجة الماجستير في اللغة العربيّة من جامعة القاهرة عام 1990م، والدكتوراه من جامعة عين شمس عام 1994م.

     عمل في ميدان التعليم الثانوي والجامعي، وعكف على التأليف والتصنيف، ونظم الشعر الإسلامي الراقي بفنيّة عالية، ودبّج المقالات الأدبيّة والنقديّة بأسلوب رشيق، وهو في شعره مسكون بالهم الإسلامي العام، لا ينفكّ عن ذكر مآسي أمته وأوجاعها ونكباتها، ولكنّه لا يعرف القنوط، فهو يتطلّع بشوق إلى أبطال الإسلام القادمين من وراء الأفق لإنقاذ مسرى النبي من الغاصبين، ويرى فيهم الأمل الذي سيتحوّل إلى حقيقة تزحم الشمس في رابعة النهار.

     وهو شاعر حكيم يستلهم الحكمة ويبثّها في شعره، ولا ينفك عن ذكر الشيب الذي اتخذه صديقاً، ويحن إلى أحبّائه وإخوانه الذين خطفتهم يد المنون، على عادة الأوفياء كلّما تراخت الأيّام والليالي وتحرّكت قريحة الشعر عنده والنثر الجميل.

     ومن إنتاجه القيّم: (عاشق المجد عمر أبو ريشة شاعراً وإنساناً) وديوان (من يطفئ الشمس) وديوان (غداً نأتيك يا أقصى).

     وتمثل قصيدته (نحن لا نفنى) نموذجاً من شعره المتألّم الشاكي الحزين، والمتشائم المتفائل معا، ففي كل بيت منها أمل بغد مشرق لأمّة كانت تقف في ذرى المجد، ورجاء بعودة حميدة إلى مجد غابر ضيّعه الجهل والعقوق.

-------------------

نحن لا نفنى

د. حيدر غدير

مرحباً يا عام إنا ها هنا
               تسكن الآلام فينا والمنى
كلها تومي لنا إيماءة
               ربما كانت علينا أو لنا
يومنا كالأمس حزن وأسى
               ليت شعري كيف نلقى غدنا
أمة الإسلام وا لهفي لها
               منذ قرن وهي تجتر العنا
أدمنت أوجاعها حتى غدا
               شأنها فيها وفينا معلنا
عـــادة نقتاتها تقتـــــاتنا
               تعس الذل الذي قد غالنا
فحســــوناه دهاقاً حنظلاً
               وسدرنا في متاهات الونى
شاه ساقيه وحاسيه ومن
               لم يقل كلا ومن أغرى بنا
بيد أنا أيها العام الذي
               جاءنا يعدو بما حيرنا
لم يزل فينا رجاء واعد
               أن تواتينا وقد أفرحتنا
       *****
أيها العـــام الذي نرنو له
               مثـــــلما جاء إلينا ورنـــا
قـــل لمن ظن بأنا أمة
               أوشكت تغرق في لجّ الفنا
نحن لا نفنى فإنـــــا أمة
               لم تزل جذوتها ملء الدنى
إننا والنــــاس تدري أمة
               هي سيف وسناء وسنا
أمة بــــانية قد ســـابقت
               أمم الأرض جميعاً في البنا
وانجلى الأمر فكانت في الذرى
               في يديها السبق يزهو والثنا
       *****
رب صنها رب واجعل يومها
               محسناً يومي ليوم أحسنـــا
واجعل العام الذي أرسلته
               عام نصر وسلام وهنا

الخميس، 3 يونيو 2021

الشاعر الدكتور حيدر الغدير ومجموعة "عادت لنا الخنساء" - د.أحمد الخراط

الشاعر الدكتور حيدر الغدير ومجموعة "عادت لنا الخنساء"

قصيـــدة "مأتم الشعر" نموذجـــاً

د.أحمد الخراط - سورية


     قضيت وقتاً ماتعاً في تَذَوُّق مجموعة شعرية للدكتور حيدر الغدير بعنوان (عادت لنا الخنساء)(1)، وقد عبَّرت المجموعة عن التزام الشاعر بقضايا أمته التي عاش حياته يذكر آمالها وآلامها، ويستجلي تاريخها السالف مقتبساً منه ما فيه من عِبرة واستذكار، كما تشير المجموعة إلى بعض الأحداث التي عاصرها، بالإضافة إلى مداعباته لإخوانه، وقد عُرف عنه الوفاء بهم وتفقُّده لهم.

     وتنبئ المجموعة عن فصاحة الشاعر وامتلاكه ناصية التراث اللغوي وتمكُّنه منه. ولن تقف في قصائده على تكلُّف لا تأنس به النفس في المعاني والقوافي، ولا غرابة فقد عرفنا حيدراً شاعراً مطبوعاً موهوباً.

     تبوأت قصيدته (مأتم الشعر)(2) في رثاء عمر أبي ريشة منزلة لديَّ، وأحسست أن صاحبها حاز كثيراً من خيوط الفن الذي يمنحك فضاء رحباً من متعة التذوق وروعة الإبداع. ويبدو لي أن ثمة أسباباً جعلته يحتفي بشاعره على نحو يتجاوز حدود الموهبة الفريدة التي كانت لأبي ريشة، إلى عوامل أضيفت إلى الموهبة، منها الدفاع عن الأمة، ونصرة الفصحى، والشخصية التي تميز بها أبو ريشة، وشعور الغدير أن الفصحى قد فقدت فارسها وأنيسها، فهل ثمة من أحد يتبوَّأ مقعده؟ ومن هنا فإن حيدراً لم يكن يرثي الموهبة التي رحلت فحسب، وإنما كان يتأمل في قامة مديدة ترجمت في فضاء الفن الشعري ما يعتقده حيدر من قيم والتزام. ومن هذا الواقع الذي نفذ إلى شغاف فؤاده أحس حيدر أن أبا ريشة موهوب صاغ بشعره ملحمة كبرى تبشر بتحول قادم سوف يشمل المة أأمة كلها، وينتهي بها إلى النصر على البغي وأعوانه:

غـد العروبة والإسلام ملحمة ... بالنصر زاحفة والبغي مندحر

     لقد لمس حيدر في حروف أبي ريشة خدمة لقضايا الأمة، إذ كان يواجه المخاطر في سبيلها:

وما على المرء إن كــــــانت منيتــه
               آماله فهـــــو يرجــــــــوهـا وينتـظر
الحق غــــــايته ما انفــــــــك يطلبـه
               هتافه الحسنيــــــان المـوت والظفـر
وملء أضـــــلاعه الإيمان يحرسـه
               والمؤمنون ومن باعوا ومن صبروا

     وكان الفقيد يعتدُّ بالقرآن الذي كان سبباً في نشأة الحقد عند الخصوم:

على الكتاب الذي ترنو القرون له
               وقد أضاءت ديـــاجي ليلها السور
خاب الحقود وخابت منه أمنيــــة
               والحقد ينحر من ضلوا وينتحــــر

     كما كان مدافعاً صلباً عن جناب الفصحى، ومضى يحميها من أذى العابثين:

حميـت فصحاك من باغٍ، يمزّقه
               حقـد عليها فمـــا يبقي ومـــا يذر
وصُنتها عن خؤون في جوانحه
               تغـلي السخائم والبغضاء والقذر

     لقد قرأ أبو معاذ في كثير من قصائد أبي ريشة ما هو ماثل في ذاته من التزام بالأمة أحزانها وآمالها، وما هو بوح بالمشاعر الكامنة، بالإضافة إلى الفن الأصيل المترامي الأطراف الذي كان يصوغه الفقيد، ومن هنا كان إعجابه به ليس أمراً عابراً، فليس غريباً أنه اختاره ليكون موضوعاً لأطروحته في رسالة الدكتوراه من جامعة عين شمس، بعد أن خَبِر شعره، ونفذ تفاعله معه إلى الشغاف، وظل حيدر يترنم بأشعار عمر إلى أن لقي الأخير ربه، فنهض يؤبِّنه في قصيدة أعدُّها من عيون الشعر الحديث.

     صحيح أنها ترجمت إعجابه العميق بالمقومات الفنية لدى أبي ريشة، بيدَ أنها تعبير صادق عن تأثره في هذا المأتم الحزين، بعد أن ثوى أبو شافع ورحل إلى ربه. وفي تقدير حيدر أن أبا ريشة أسهم في توجيه أمته نحو النهوض من سباتها، وتبصيرها بالمحدقات الجسام من حولها، وهو يأمل في أن تتخذ أسباب العدّة ما استطاعت من قوة ومن رباط الخيل:

عفواً أبـــــا شافع الفجــر موعــدنــا
               والشعر والنصر والرايات والشـرر
والخيل تصهل والتكبير عاصفـــــة
               على البغاة وملء الساح من صبروا
من كل أروع مثــــل السيف مهجته
               وحــــــرة قلبهــا بالعــــــــزم يأتزر

     ولسنا بعيدين عن المقولة التي تعدّ الشعر لبنة من لبنات المؤرخ أو الناقد الذي صح عزمه على استهداف مرحلة من مراحل الزمن ليصوغ معالمها بإحكام، أو يتأمل في ديوان شاعر ليستجلي حياته ودوره.

     وهذه القصيدة التي بين أيدينا تسهم في هذه الصياغة لحقبة احتدم فيها الخصام بين دعاة الفصحى ودعاة الانسلاخ عنها، فتتحدث عن ثبات أبي ريشة أمام الرياح التي جابهت الفصحى. وليس غريباً أن ننطلق من هذه القصيدة لنرصد شخصية أبي ريشة فهو رحّالة في فضاء فسيح بين الدول والمناصب المتعددة:

ونفســــــك القمة الشماء باذخة
               ما شانها قط في ترحالك الخور

     وهو ثابت في قول الحق، لا يهاب الأخطاء والمنايا:

فمـا حنى هـــامة إلا لخالقــــــــه
               ولم يزلـــزله في طوفـانه الخطر
والحر يلقى المنـــايا وهو مقتحم
               تموت وهي على أقدامها الشجر

     خَبِرَ حيدر كل ما نظمه أبو ريشة في السراء والضراء أو يكاد يبلغ ذلك، فتراه يقطف من رياض ديوانه بعض أزاهيره ليدفع بها إلى مرثيته، فأبو ريشة يقول في قصيدته المشهورة:

يا عروس المجد تيهي واسحبي
               في مغانيـــــك ذيول الشهـــــب

     فيردد حيدر:

وموكب الشعـــــــر تـيّــــــــاه بسيده
               والمبدعون ومن غابوا ومن حضروا

     وللفقيد قصيدة عنوانها (النسر) فيستذكرها شاعرنا ويقول:

كنت الإباء وكنت النسر شامخةً
               راياتـــــه وأعاديــــه قد ائتمروا

     وله مجموعة شعرية بعنوان (غنيت في مأتمي) فيشير إليها حيدر بقوله:

وأنت غنيتها شعــــــــــــرا بمأتمها
               بعض الطيــور تغني وهي تحتضر

     وأبو معاذ قارئ مدمن للتراث اللغوي السالف. ويظهر أثر هذه القراءة المديدة في كلمات قصيدة (مأتم الشعر)، فلا ترى فيها لفظة مُوَلّدة أو دخيلة، وأبياتها مصداق شاهد على ذلك:

وغرة أنت في سفـر الخلود لها
               سبق المجلِّي ووجه بالسنا نضر

والمجلِّي في اللغة: هو الفرس يسبق في الحلبة. وها هم القوم يلهجون بذكر المبدع المَرْثي:

قالوا وصدَّقهم مجـــــد ظفرت به
               وصَدَّق الخُبْــرُ ما قالوه والخَبَـــرُ

     والخُبْر في اللغة: العِلم.

     ويكاد شاعرنا يذوب في مصادر اللغة العالية، وكأني به مُوَكّل بفضائها ليذرعه، وفي (مأتم الشعر) بصمات قرآنية غزيرة فكان يقتبس من الكتاب المعجز. يقول عن شاعره:

وغرة أنت في سفر الخـلود لها
               سبق المجلِّي ووجه بالسنا نضر

     فيستقي التعبير من قوله تعالى: "وجوه يومئذ ناضرة"،

     ويقول:

الحق غايتــــــه ما انفك يطلبــه
               هتافه الحسنيان الموت والظفـر

     فيستوحي قوله تعالى: "هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين"،

     ويقول عن أعداء الفصحى:

وتغلب الكارهين الضاد من نفر
               هم العدو وإن أخفوا وإن جهروا

     وقال تعالى: "هم العدو فاحذرهم".

     وإذا كان غير المؤمنين كما في الآية "لا وزر لهم"؛ فإن المؤمنين عند أبي ريشة كما يقول حيدر:

يمـوت كل جبان من مخاوفــــه
               والمؤمنون لهم إيمانـــــهم وَزَرُ

     كما يقتبس من الحديث الشريف في قوله صلى الله عليه وسلم: "إن من البيان لسحرا"، فيتحدث عن شاعره بقوله:

بيانه السحر والإبداع ديدنـــه
               أصخ بسمعك هذي آيه الغرر

     والتأثر بشعراء العربية وارد في القصيدة، فقد أفاد من قول الحماسي:

بغاث الطيـر أكثرها فراخاً
               وأم الصقـر مقلات نـــزور

     فيقول عن موهبة أبي ريشة:

رفت أمجاده فوق الســماك فما
               يرقى إليها بغاث الشعر والهذر

     ويفيد من قول الحماسي الآخر:

عشية قام النائحات وشُقِّقت
               جيوب بأيدي مأتم وخــدود

     فيقول:

أنا الوفيُّ لها أبكي لمأتمــــها
               فملء أجفني الأحزان والكدر

     ويقطف من قصيدة الفرزدق في زين العابدين:

بِكَفّهِ خَيْـزُرَانٌ رِيحُـــــــهُ عَبِـقٌ
               من كفٍّ أروع في عِرْنينه شممُ

     فيقول:

من كل أروع مثل السيف مهجته
               وحـــــرةٍ قلبها بالعــزم يأتـــــزر

     وإذا أردنا أن ندلف إلى عمق هذه الرائعة يلفت نظرنا العديد من المرتكزات الفنية التي أبدع فيها حيدر، فقد أفاد حيدر من ثمرات الإمام عبد القاهر الذي تحدث عما تمنحه الجملة الفعلية من آفاق التجدد والحدوث، في حين أن الجملة الاسمية تمنح الثبوت والدوام، ونلمس صدى هذا الفرق بين الجملتين في شعر أبي معاذ، حين يقول عن فقيده:

يغشى شعاب المنايا وهي كالحة
               يسعى إليـها ويصلاها ويصطبر

     فشعاب المنايا مغلِّفة نفسها بعباءة الموت الثابتة، فجاءت جملة الحال منها على صيغة الثبوت، أما أبو ريشة فهو يسعى نحوها ويصلى ويصطبر، لأنه طوال حياته ذو عزيمة نافذة، وهذا يناسبه التعبير بالمضارع، يقول حيدر:

وما على الحر إن كانت منيته
               آمالـــه فهو يرجوهـــا وينتظر

     ويقول في مهيع الثبوت:

كنت الإباء وكنت النسر شامخة
               راياتــــه وأعاديـــــه قد ائتمروا

     فراياته خفاقة دوماً. وإن مبايعة من يذود عن الأمة وفصحاها ليس هو الفارس فحسب، وإنما سيف الفارس له مشاركة في هذه البيعة:

وسيفـــــــــه بيعــــــة لله رابحة
               وحصنه بين أشداق الردى القدر

     فيضيف حيدر شحنة جديدة لهذه البيعة، فيصوغها بمصدر المرة الثابت.

     وتزدحم القصيدة المأتمية بالصور ذوات الجناح الخفّاق وتتلاحق، وما أكثر أن نمر بالتشبيه البليغ الذي يدع خواطرك يغتلي فيها ارتيابك حتى تتقرّاها يداك بلمس!. إنه يمسك بيدك لتعيش هذه الصور:

وشعرك الشعر أطياف مجنحة
               هن العرائس، والأبكار والدرر
ونفسك القمة الشماء باذخـــــة
               ما شانها قط في ترحالك الخور
وكنت بلبله الصـــــداح منشده
               في كل رابيــــــة من شدوه أثر

     ويمضي بك تجاه الاستعارة المكنية:

إذا ترنمت قال الناس في ولهٍ
               اليوم يسكرنا في شــدوه عمر

من كل أروع مثل السيف مهجته
               وحـــــرةٍ قلبها بالعـــــــزم يأتزر
خاب الحقود وخابت منه أمنيـــة
               والحقد ينحر من ضـــلوا وينتحر
زفّته للمجد والدنيـــــا تباركـــها
               ومهرجان العلا والسمع والبصر

     ويجعلك تتذوق الاستعارة التصريحية على طبق من ذهب:

رفعت أمجـــاده فوق السمــاك فـما
               يرقى إليهـا بغــاث الشعــر والهـذر
بـاق على الدهر لا يخبو له وهـــج
               "ولم يغـب عن حواشي ليله سمر"
غنيـته بالقـــوافي الزهر ملحمــــة
               طابت وجاءت عروساً وهي تفتخر

     وذكر النحاة لـ(أل) التعريف معنى الكمال في الصفة، ويبدو أن حيدراً مولع بالاعتداد بهذا المعنى في مقام شاعره؛ لأن تقديره له استقر في فؤاده فصار فيه قامة علياء:

كنت الإباء، وكنت النسر شـــــامخة
               راياتــــه وأعاديــــــــــه قد ائتـمروا
أنت الأصالة، والفصحى إذا طربت
               وجـــــــــــذوة بالبيـــان الثر تستــعر
هذا الأمير، أمير الشعر فارســــــــه
               قـــلده في عرسه التاج الذي ظــفروا
وشعرك الشعر، أطياف مجنحــــــة
               هن العـــــــــرائس والأبكـار والدرر
عفواً أبـــــــا شـافع ما كنت أحسبني
               أبكي عليك فأنت المجـــد ياعمــــــر

     وفي عرف الناس أن المرء يشتاق إلى بلوغ المعالي وذرا القمم، أما أبو ريشة فإن مرتبته السامقة يتطلع الكوكب زحل نفسه إلى الوصول إليها على الرغم من أنه معروف بعلوه:

فكان في غاية يشتاقها زحـــــــل
               وحين تشتاق طول العمر يا عمر

     وقد يطوي شاعرنا ذِكر الموصوف، ويكتفي بإيراد الصفة ليخطر بالبال في تعيين الموصوف المطوي كل خاطر:

مرحى أبا شافع يا شاعراً غرداً
               المترفـــــــات على بستانه زمر

     فالمترفات صفة لموصوف محذوف هو الخيال والتصوير، أو هو البلاغة الخصبة، أو هو العاطفة الجياشة، أو هو الفن الأصيل.

     وللمبالغة المأنوسة التي تحرك الشجون، ويقبلها الذوق, نصيب في القصيدة؛ لأن فيها ريشة فنان مبدع، وهذا يعزز ما ينشده حيدر من التأثير في المتلقين الذين يتذوَّقون شعر أبي شافع، فالناس يطربون لقصائده، والأطيار ترددها في تغريداتها، والشجر تهتاج أوراقه وتنمو خضرته:

شعـــــــر وكُبر وإنشـــاد وأغنية
               يهفو لها الناس والأطيار والشجر
إذا ترنّمتَ قــــال النـاس في وَلَهٍ:
               اليــــــوم يُسكِرنا في شدوه عمــر

     ومن وجوه المبالغة المأنوسة استعماله لما يسمّيه النحاة أبنية مبالغة اسم الفاعل فيُوردها في قوله: تيّاه، خوَّان، حقود.

     ويلتمس حيدر من سامعه أن يشاركه في حكمه على شاعره، فيطلب إليه أن يصيخ بسمعه:

بيــانه السحر والإبداع ديدنه
               أصخ بسمعك هذي آيه الغرر

     وكأنه يقول للمتذوق: أدعوك لتستمتع معي بهذه الرياض المونقة، وهذا الخيال المجنح.

     ومخزون اللغة وآفاقها في فن حيدر مخزون ثر؛ لأنه يدرك ماذا يقتطع منه، وكيف يصوغ أبنيته، ومتى يستعمل الفعل الثلاثي المجرد، ومتى يضيف إلى مبناه بعض الحروف لتتسع معانيه على مقولة: زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى؟ يقول:

يغشى شعاب المنايا وهي كالحة
               يسعى إليها ويصــلاها ويصطبر

     ولم يقل: "ويصبر"، فزاد في المبنى تاء الافتعال التي أبدلت طاء. ويقول:

ويقتـل الموت من خافوه وادَّرعوا
               بالجبن ضلوا وضل الجبن والخور

     فزاد في المبنى الألف والتشديد.

     ويستقي من أسلوب التقديم والتأخير ما ينشده من الاهتمام بالمتقدم، يقول:

يمناك في موكب التاريخ ظافرة
               وملء يسراك ما العليـــاء تفتخر

     وأصل التركيب: ما العلياء تفتخر به ملء يسراك.

     وقدّم الخبر لأنه المقصود المعنيّ في قوله:

وغُرةٌ أنت في سفر الخلود لهـا
               سبق المجلي ووجه بالسنا نضر

     فهو يريد أن يجمع الشرف والسيادة والكرم في لفظ الغرة، فلذلك قدّمها. وتعدّي الأفعال ولزومها من الصناعة النحوية التي أتقنها حيدر، فلا نجد لديه قصوراً في ذلك؛ نظراً لتمكنه من ناصية اللغة، يقول: يشتاقها زحل.

     وفي اللغة: اشتاقه واشتاق إليه، وكأنه اختار التعدي ليعبر عن سرعة الاتصال والتناغم بين الفعل وفاعله، في حين أن الجارّ إذا توسط بينهما فقال : يشتاق إليها زحل، فقد وضعنا فاصلاً بين الفعل والفاعل مما يؤدي إلى بطء تَوَهُّج الصورة الشعرية.

     وثمة وقفات نقدية قد تتباين فيها وجهات النظر، على أننا لا نرى بأساً من الإشارة إليها، فشاعرنا اضطر إلى لفظة "القذر" في قوله:

وصُنتها عن خؤون في جوانحه
               تغلي السخائم والبغضـاء والقذر

     من أجل الروي المضموم: الراء، وهي لعمري لفظة مباشرة ينأى عن استعمالها فن الشعر الذي يحلق بنا فيُودع مكانها لفظة أخرى.

     وقد لا نقبل دلالة فعل الأمر التي أوردها في قوله:

فغنِّها غنِّها في الخلـــــــد قـــافيـة
               واطربْ ورنِّحْ بها التاريخ يا عمر

     لأن الرَّنْح في اللغة هو الدُّوار والاختلاط، ورُنِّح به إذا أُدير به كالمغشيِّ عليه، أو اعتراه وهن في عظامه وضعف في جسده، عند ضَرْب أو فزع أو سُكر، وحيدر لا يتوخى هذه المعاني، وإنما يريد: سِرْ أيها التاريخ مزهواً لثرائها وقِيَمها، وهو خلاف ما تشي به لفظة الرنح.

     ويمم حيدر شطر الاستعمال النحوي القليل في قوله:

وملء يسراك ما العلياء تفتخر

     وهذا مصطلح النحاة؛ لأنه حذف العائد المجرور بالحرف في باب الموصول، والكثير فيه أن يصرّح بالعائد فيقول: تفتخر به، ويبدو أن القافية لم تُسعفه. ونقرأ في القصيدة:

ويقتلُ الخائفون الموتَ أنفسَهم
               وإن علت لهم الأسوار والجدر

     فيتوالى المعمولان المنصوبان "الموت أنفسهم" ولكل منهما عامل، فعامل الموت: الخائفون، وعامل أنفسهم: يقتل، وهذا التوالي للمعمولين وبُعد (يقتل) عن معموله (أنفسهم) أضعف تدفُّق المعنى وجلاءه، فجعل استيعاب الصورة بطيئاً.

     وإذا كان الأصل أن أبا ريشة قد حمى الفصحى، وأن خصومه لم يتمكنوا منها بدليل قوله:

خاب الحقود وخابت منه أمنية
والحقد ينحر من ضلوا وينتحر

     فما آلت إليه الخصومة هو الخيبة والنحر. إذاً ما وجه قوله عن أعداء الفصحى:

حميت فصحاك من باغ يمزقه
               حقــــد عليها فما يبقي وما يذر

     كيف نوفق بين الكِفَّتين؟ كِفًّة تقرر نهاية الحاقدين، وكِفَّة تقرر نهاية المحقود عليهم؛ لأن الفريق الآخر لا يُبقي ولا يذر.

     ويعبر الشاعر عن تفاؤله بالفتية المؤمنين وهم على خيولهم، وقد علا تكبيرهم فيقول:

والخيل تصهل والتكبير عاصـــــفةً
               على البغاة وملء الساح من صبروا

     بيدَ أن العطف بالتكبير المذكور فيه نظر، لأن فيه فصلاً بين الحال المؤنثة وعاملها وصاحبها بهذا المعطوف ؛ مما جعل جذوة التدفق تضعف وتتعثر رشاقة المشهد.

     وبعد، فهذه قراءة ماتعة شائقة كانت لي، وكان فارسها أبا معاذ. ويقيناً فقد غرّد هذا الشاعر داخل سرب أمته وهمومها بأسلوب الفن الموَّار الأصيل، وآمل أن يكون دائماً من الموفقين في رسالته التي شاب عليها بعد ما شبَّ في غمارها.

--------------------------------
(*) أستاذ جامعي، متخصص في النحو والصرف، وفي تحقيق كتب التراث، عمل عدد من الجاممعات السعودية، وفي مجمع املك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة.
(1) ديوان عادت لنا الخنساء، شعر حيدر الغدير، نشر دار المؤيد بالرياض، الطبعة الأولى، 1430هـ - 2009م. عدد الصفحات 171، مقاس 21×14.
(2) قصيدة مأتم الشعر، ديوان عادت لنا الخنساء، ص 9-13. والقصيدة في (ديوان حيدر الغدير)، الجزء الأول، ص122-126، نشر مكتبة التوبة، الرياض، الطبعة الأولى، 1436هـ/ 2015م.

القدس في شعر د.حيدر الغدير - أ.صدقي البيك

القدس في شعر د.حيدر الغدير

أ. صدقي البيك
الرياض- الأحد
13/11/1430هـ - 
1/11/2009م

     للأمكنة والبلاد مكانة مرموقة لدى الشعراء، فهي تحدد لنا في شعرهم ارتباطهم بهذه المواقع، ارتباطًا قلبيًا وعقليًا وروحيًا ونفسيًا، هذا إذا كانت هذه المواقع ذات خصوصية في وجدانهم؛ وقد ينفرد كل شاعر بمواقع ومنازل لا يشاركه فيها غيره، يكون قد درج فيها، أو ارتبط فيها بروابط عاطفية مع آخرين.

     وأما إذا كانت هذه المواقع ذات ارتباط عام يشترك فيه مع آخرين، من شعبه أو أمته أو الإنسانية كلها فسيكون لها في شعره وجود ومكانة تتسع وتسمو وتتعمق مع عمق وسعة وسمو هذه الروابط التي تشده إليها. وأهم هذه الروابط الرابطة الدينية التي تضفي على بعض الأمكنة هالة من القداسة تنص عليها الكتب الدينية المعتمدة، وإذا كانت هذه الكتب مما أوحاه رب البشر إلى من اختارهم من عباده، فإن هذه الروابط تكون أقوى وأمتن، وإذا ضُمّت إلى هذه الروابط روابط التاريخ والأمجاد ازدادت رسوخًا وتجذرًا.

     وهذا هو شأن مدينة القدس، فقد حباها الله منزلة لا تطاولها فيها مدينة أو أرض أخرى، غير مكة المكرمة، فهي الأرض المباركة، والمبارك فيها، والأرض المقدسة، والمبارك حول مسجدها و...، وهذه القداسة والمباركة تمتد مع امتداد الإسلام، دين الله الذي اختاره لأنبيائه ورضيه لعباده.

     وإذا كانت هذه الرابطة الروحية تمتّن علاقات المسلمين بالقدس التي فيها أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين، فمن الأولى أن تكون مهوى أفئدة الشعراء المسلمين، وأن تهفو إليها نفوسهم، وتلهج يذكرها ألسنتهم فتتردد في أشعارهم، ويزيدها تغلغلًا في طيات وجدانهم أنها، هي وما ترمز إليه، كانت وتكون وستكون ميدانًا لصراعات وحروب طويلة ومعارك حاسمة مع أعداء أقوياء وكثيرين، من فتحها على يدي الخليفة الثاني أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وتحطيم القوى الصليبية في حطين، وكسر المد التتري المغولي في عين جالوت... إلى معارك علامات الساعة المرتقبة.

     إن القدس والأقصى وقبة الصخرة وبيت المقدس وفلسطين، وما تضمه من مدن ومواقع، وما تمتلكه من تاريخ مجيد وبطولات رائعة وانتصارات حددت مسارات التاريخ، كلها رموز تترادف في دلالتها العامة، وإن كان لكل منها دلالة خاصة.

     وإذا تخطينا ما حفلت به دواوين شعرائنا القدامى من حديث عن هذه المدينة وما حولها، فلن نجد نهاية للحديث عنها في دواوين شعرائنا المعاصرين، فما أكثرهم، وما أوسع تناولهم لها ولقداستها ولمعاركها الماثلة في حاضرنا وفي وجداننا، ولكننا نجتزئ من هذا الاهتمام بها ما قدمه لنا شاعرنا الدكتور حيدر الغدير.

     فقد اختار شاعرنا عنوان ديوانه الثاني (غدًا نأتيك يا أقصى) ليعبر به عن مدى تعلّقه بهذا المسجد المبارك والمدينة المقدسة وأرض المحشر والمنشر، وقد كان هذا هو عنوان قصيدته الأولى في هذا الديوان.

     فهو يحز في نفسه ما أصاب القدس من احتلال العدو الصهيوني لها، وإهاناته التي ألحقها بمسجدها ففجرت انتفاضتها الثانية، وتطاولُ الزمن على تقاعس العرب والمسلمين عن تحريرها يوقد فيه حمية الإيمان، فيجأر بمعاهدة الأقصى على عدم نسيانه، وعلى تحريره:

لعهدك أيها الأقصى ... وعهــدك جمرة فينا
وحـلـم في مآقينـــــا ... ينــــــادينا فلا ننسى
وكل خليـــة فينـــــا ... هي الأخرى تنادينا
إلى الأقصى إلى الأقصى

     وهو في تلبية هذا النداء، وفي الوفاء بهذا العهد لن يكتفي بالكلام، بل سيكون حربًا على العدو تقضي على علوّه وجبروته:

سنـــــأتي في غد نارًا
وبركــــانًا وإعصـارًا
لنصنـــع مرة أخــرى
وقد لاحت لنا البشرى
بعــون الله حطينا

     ويجمع بين رمز حطين التي كانت مفتاح تحرير القدس من الصليبين ورمز خيبر التي قضي فيها على الوجود اليهودي الكياني في الجزيرة العربية:

ونغضب غضبة كبرى
ونصنع خيبرًا أخرى
ونحمي الأرض والدينا

     وإذا كانت حطين تحطيمًا للقوى الصليبية قديمًا فستكون حطيننا الحديثة وخيبرنا الجديدة تحطيمًا للكيان اليهودي الصهيوني في فلسطين:

نتبّر كل ما شدتم
وما قلتم وما خنتم
ونمحوكم ونجعلكم حديثًا مر كالهمس
وآلًا لاح بالأمس
طوته أشعة الشمس

     فهو متفائل بالنصر، ولم توئسه الهزائم التي ارتكبها المتخاذلون، فلا يطيل البكاء على ما فات ولا الندب على المصاب، ويحدد عوامل النصر التي نحملها قيمًا ومبادئ:

غدًا نأتيك يا أقصى
كتاب الله في يدنا ينادينا لموعدنا
وموعدنا صباح ظافر ضاحكْ
وموعدهم مساء خاسر حالك
وإن الصبح آتينا وآتيكم
ليرديكم ويبقينا
فنمضي نعمر الدنيا
ونمضي نحرس الدينا

     ولن تمنع هؤلاء الصهاينة حصونهم التي يختبئون وراءها، ولا دباباتهم التي يحبسون فيها أنفسهم، ولا جُدرهم الواقية التي يحيطون بها مستوطناتهم:

سنأتيكم مع الفجر
لنجعل صرحكم بددا، ولا نبقي به أحدا
ولن يحميْكمُ سور، ولا شجر ولا حجر، ولا نفق ولا حصن
ولا إنس ولا جن، ولا حقل من الغرقدْ
ظننتم فيه مخبأكم ومثواكم وملجأكم
فإن صباحكم أنكدْ
وإن مساءكم أربدْ
فموتوا حيثما كنتم، وموتوا في حمى الغرقدْ

     فوعود الله للمؤمنين بالنصر ووعيده لبني إسرائيل بالهزيمة وإساءة الوجوه والتتبير... في طريقها إلى التحقق:

لنا عهد سننجزه، ووعد سوف نحرزه
بأن النصر آتينا

     وهو واثق تمامًا بأن النصر قادم يتمثل بالمآذن التي تصدح بالشهادتين، وبكل المعالم والمدن الفلسطينية:

سنلقى نصرنا طلقا
يعانق حسنه الحقا
ويقفو رعده البرقا
على أهداب مئذنةٍ
وفي أوراق سوسنة
وفي أحلام رابية، وفي ماء وساقيةٍ
وفي يافا وفي عكا وفي صفد وفي الرملةْ
وفي النارنج والليمون والتفاح والفل
سقاها الطل في الليلِ
وفي الخيل التي تعدو
وفي الطير التي تشدو

     فكل هذه المعالم والمرابع تحتفل بالنصر الذي تتلاقى فيه رايات الفتوحات والانتصارات السابقة واللاحقة:

فنلقى الفاتح الأولْ
أبا حفص بهيبتهِ
ونلقى الفاتح الثاني
صلاحًا في وضاءتهِ
ونلقى الفاتح الثالثْ
فنعرفه بطلعته، وقامته التي شمختْ، وسطوته ورحمتهِ

     هذا الفاتح الثالث الذي ما زلنا ننتظره ونرقبه؛ لنسجد حينئذ شكرًا لله الذي يهب كتائبنا وزحوفنا نصره المؤزّر.

     وإذا كانت قصيدته هذه قد استوعبت كل ما في القدس وحاضرها، ومصابها، والآمال المعقودة على تحريرها وتطهيرها من دنس المحتلين، فإن قصائده الأخرى التي نظمها في مناسبات عربية وإسلامية، احتلت فيها القدس والأقصى وفلسطين أماكنها، فهي شغله الشاغل ومحركه الدائم وحافزه إلى التفاؤل الواثق الذي يظهر في كل قصائده.

     فهو في قصيدته (لن نخذلك) التي خاطب فيها شعب البوسنة والهرسك في أيام ثورته للتحرر من سيطرة الصرب واحتلالهم لبلاده، لا ينسى أن يبعث له بتحيات المسلمين والمجاهدين ومشاركتهم لهم بالآلام والآمال:

يا أيها الشعب الذي احتمل الخطوب وما استكان
حيّتك مكة والمدينة والمنابر والأذان
والمسجد الأقصى وفرسان لهم في المجد شان
قالوا وقد صدقوا، فزانوا قولهم والفعل زان
المجد للأبطال والخذلان توأمه الجبان

     وفي قصيدته (أمـل) يتحدث عن أحلامه السابقة، التي صارت واقعًا حيًا، وعن آماله وأمانيه التي يتفاءل ويستبشر بتحققها قريبًا:

أحلامـنا بالأمس واقـع يومنــا ... وغـدًا أماني يومنـــا تتــــحقّق
أملي الذي ملأ الجوانـح بهجة ... ومشى بما أرجو وأزهو يغدق

     وأمله هذا أن تثأر فيالق المجاهدين وقادتهم ذوو الهمم القعساء، فتقضي على الصهاينة حديثًا كما قضي على وجودهم السياسي في عهد الرسالة، فيقول:

إني سمعت الثـأر يدعــــــو أمتي
               فإذا صداه، وقد تهــــــادى الفيلق
يمضي به ويقوده ذو هـــــــــمـّة
               للنصر فيه أو الممــــــات تشوّق
يطوي اليهود كما طوتهم خيـــبر
               وطوى قريظةَ يوم خانوا الخندق

     وكل ذلك كائن في ميعاد قريب ومكان موعود محدّد، يتمثلّ فيه استكبار إسرائيل، ونشرها الفساد والظلم والطغيان والعلوّ على من حولها، ولا بد أن تكون الراية حينئذ ترفع كلمة التوحيد وتدعو إلى الأخذ بتعاليمه:

والموعد "الأقصى" وراية أحمد
               ستجوز آفـــــاق السماء وتَخفــق

     وهذا القائد ذو الهمة يحقّق الله على يديه النصر المبين، وتعنو وجوه الصهاينة لأمره وتخضع لحكمه فيهم، وهو متواضع بعيد عن التكبر، وبذلك ترتفع على مآذن الأقصى نداءات (الله أكبر) معلنة دخول المسلمين للمسجد كما دخلوه أول مرة:

ولسوف يعـــلو فوق منبره ضـحى
               للنــــــاس فيه تشـــوّف وتعلُّــــــق
والمسلمــــون بكل أرض سُـــــجّد
               والله يحفـــــظ أمرهم ويوفّـــــــــق
والفـــاتـح المنصــور بيـن جنـوده
               بالنصر زاه، بالوقــــــــار مـطوّق
عنتِ اليهـــــود لأمـــره، وجبينـه
               لله عـان مستــــكين مطــــــــــرق
وعلا على الأقصى الأذان مظفرًا
               فــإذا العيــون بدمعها تغـــرورق

     وتتراءى له القدس في كل ميدان، وفي كل مشهد يدل على القوة والفروسية، فها هو يرى في قصيدته (صباح مؤمن) فارسًا على صهوة جواده، فيشغله هذا المشهد من مشاهد القوة والفروسية، فيرى في هذا الفارسِ أحدَ قادة المسلمين الفاتحين، فينسى آلامه وأحزانه التي تلفه وتلف القدس والديار المحيطة بها، ويجري معه حوارًا عن هويته والآمال المعلقة عليه، فيقول:

أطرقت في أسف حزينًا مَوهنـــــــا
               والليــل يمضي مثل حــــالي مُوهَنا
والقدس أحزان تطــــــــول ثقــــيلة
               تغشى الديار وأهـــــلها والأعينـــــا
ولمحت في الظلماء صهوة فــارس
               يعدو فيسبق نفســــــــه حتى دنــــا
من أنت؟" قلت: أخالد أم طـــارق؟
               أم سعـــد أم عمرٌو؟ أجبني، إنــــنا
نهفو لمثلك، نحن حولك أمـــــــــة
               طالت مواجعها وطال بها الـــــعنا
والقدس ترقب مثل سيفك ظـــافرًا
               والناس، والتاريخ يرقب والدنـــــا
ماذا؟ ومن؟ ومتى؟ وأين الملتقى؟
               فأجــاب: حيث المسـلمون، وههنا

     وشاعرنا يرى أن القدس يحررها بالسيف شهم مثل هذا الفارس، يتحدى الخطوب فيثخنها جراحًا، ويجعلها مثل خيبر، ويستأصل جذور الفساد فيها والاغتصاب والعدوان:

القـدس للشهم الـذي يــــــأتي لها
               وبها كما يأتي من الليـل السنــــا
القدس للشهم الذي يـأتي لــــــها
               بطلًا يفـدّيـها بأنفس ما اقتـــــنى
قصدتْه غاشيــة الخطوب فردها
               مكلومة ترجو رضاه، وما انثنى
يزداد عزمًا كلما عصـف الأذى
               فإذا تـحــــداه تحـــــدى الممكنـا
والمستحيل وجاز صعب عقـابه
               وشعـــــــابه متبســــماً متكفنـــا
للقدس يوم مثل خـيبـر ظافـــــر
               يـأتي به شـهم شـجاع ما انحنى
إلا لمن برأ الوجـــود وصاغـه
               إن رام صمم فاستقــــــام فأتقنا
وعنا لوجـــه الله جـــل جلالــه
               أما الدعيّ فللأعـــــادي قد عنا
يا قدس، موعدنا صباح مؤمن
               يأتي به الأنجاد نضرًا مؤمنـــا

     وهو دائمًا يرى أن هذا الفتح والتحرير لن يتما إلا بالقوة التي تقضي على الاحتلال، وتعمل لإعلاء كلمة الله، وبالإيمان الذي يصنع العجائب في نفوس حملته فيكونون جديرين بنصر الله تعالى لهم، بعد أن يكونوا قد نصروا دينه، وأعلوا كلمته، فهم قد أتوا بهذا الصباح المؤمن:

صنعوه من نصــــر تـزيّن بالتّـقى
               وتزيّـنــــــــــــوا للقـــائه وتزيّنــا
هم مؤمنون ومحسنون، فهل ترى
               نصـــــرًا لهم إلا نبيلًا محســــنًا؟

     وهو هكذا دائمًا متفائل، لا تقنطه قوة عدو، ولا يوهنه ضعف حاكم مسلم، ولا تخاذل من يثبّط الهمم، فالمسلمون إلى خير، وإلى نصر، وإلى عودة إلى المجد، فيقول في قصيدته (وسل الزمان):

ما زلت رغم غــــوائل الظلمـــات
               والبغي، أُقســـم إن صبــــحي آتي
آت، وإن جار العداة وأســـــرفـت
               أنيابهم في الأهــــــــل والحرمات
المسلمون هم الخـــلود وسـل بهم
               مر الزمـــــان قـــــــديمه والآتـي
المسلمــــــــــــون كتيبـــة أبديـّــة
               ميمـونـة الغدوات والروحــــــات
وثـّابـة بعـد العثـــــــــار عنيــــدة
               مـحمية مـن هلكة وشتـــــــــــات
هم يضعفون عن المعالي مـــــرة
               أو يهزمون لدى الوغى مــــرات
يـتجــــــددون ويـولــــدون أعـزة
               بين الصعاب وفي لظى الغمرات

     ومن يقينه بتفاؤله يقسم الأيمان على طلوع فجر أمته:

فظللت أقسم إن صبحي قــادم
               وجذاه زيت الحق في المشكاة

     وفي قصيدته (إلى الثالث الميمون) التي تناهز مئة بيت يضع مقدمة نثرية يتحدث فيها عن "الذي سينقذ القدس من الاحتلال اليهودي"، ويكرر فيها اسم القدس ورموزها فلسطين والأقصى... ثلاث عشرة مرة، ويستعرض ما قدمه الفاتح الأول عمر، وما صنعه الفاتح الثاني صلاح الدين، ويبحث عن ثالثهما:

وثالثهم لم أبصر اليوم وجهــــــــه
               ولكنــــــــــه بـدر السمـاء إذا تمّــا
من الثـالث الميمون؟ اَلله وحـــــده
               سيأتي به نعمى ويأتي به رغمــــا
أناديه: أقدم، إن حولك أمــــــــــة
               رأتك الأب المقدام والخال والعمّا
فيــا أمّتي تيهي، ويا مجـــد كن له
               سوارًا، ويا أعراس كوني له يوما

     ولا يقتصر تناول شاعرنا لقضية القدس على ما ورد في ديوانه هذا، فهو في قصائد ديوانه الأول (من يطفئ الشمس؟) أيضًا لا يغفل الحديث عن فلسطين، على رغم غلبة الإخوانيات والروحانيات على قصائد هذا الديوان، فهو في قصيدته) أين المفر؟) يتحدث عن انسحاب الصهاينة من غزة عام 2005 م، تحت ضربات المقاومة، وتخريبهم بيوتهم بأيديهم قبل أن تصل إليها أيدي المؤمنين، وبكاء شارون والصهاينة على انسحابهم، فبقول:

يا من بكى دمعة خرساء حمراء
               غدًا ستبكي دمًا صبحًا وإمســاء
فأنت من جــاء للأقصى فدنَّـسه
               وأوسع النـاسَ تنكيـــــلاً وإيـذاء

     وهو يبدي تفاؤله واستبشاره بالتحرير القادم عاجلًا بدءًا من غزة، التي تحررت، وقد جاءت الأحداث في بداية عام 2009 تؤكد أن قوة الجيش الصهيوني تحطمت على صخرة صمود المقاومة والشعب في غزة، فيقول:

في غزة بدأ التحرير رحلتـــــــه
               مواكبـًا لا ترى فيهن إبطـــــــاء
حتى يحرر كل الأرض منطـلقًا
               كالرعد محتدمًا، والبرق وضّاء
فأين تهرب منه؟ إنـــــــــه قــدر
               والله مـرسـله للبغي إفنــــــــــاء
فاحمل لقومك نعشًا، إنهم خُشُب
               ظلّـت مسنّـدة عجفاء جـوفـــــاء

     وكذلك يتحدث طويلًا عن القدس في قصيدته (صلاح الدين) وهي من شعره الذي لم ينشر بعد، وهل يمكن أن يجري الحديث عن صلاح الدين وبطولته من غير أن يتطرّق إلى تاريخ فلسطين والاحتلال الصليبي للقدس الذي استمر تسعين عامًا، ولبعض أجزاء من فلسطين مئتي عام؟ وهل يمكن أن يمر الحديث عن صلاح الدين من غير أن يُربط بتحريره للقدس من أيدي الصليبين الأملُ في تحريرها حديثًا من أيدي الصهاينة بنفس الطريقة (القتال)، وبنفس الروح والعقيدة (الإسلام)، وبنفس الإعداد والاستعداد؟!

     وبعد أن يستعرض مجريات الأحداث في فترة الاحتلال الصليبي، ثم وصول الاستعمار البريطاني على يدي الجنرال أللنبي إلى القدس، يقول:

ومضت فترة وزدنا انتكاسًــا
               فإذا باليهود ملء الســـــــــاح
أخذوا القدس غدرة لا اقتدارًا
               في سعـــار من حقدهم لفّــاح

     ويلتفت إلى صلاح الدين يخاطبه:

سوف نقفـو خطاك مهما بذلنـــا
               واعتـدى ظالـم وخـــــذّل لاحي
لنـعيد الأقصى العزيز عزيـــزًا
               وهو ضاح ونصرنا فيه ضاحي
عـوّدتنـا رحابــــــــــه أن فيهــا
               مصـرع المستبــد والسـفـــــاح

     ويعود إلى أمله وحلمه وتفاؤله:

في غد ينطـوي اليهود، ونبقى
               إن حكم الأقــدار مـُبق وماحي

     وأخيرًا، إذا كان بعض أصحاب القرار وبعض حملة الأقلام يرون أن تحرير القدس بعيد أو لا يتم إلا بالتفاوض أو التنازل، فإن شاعرنا الدكتور حيدر الغدير لا يرى غير القتل للمحتلين الصهاينة حلًا لتحرير القدس، فيقول من قصيدة وجهها لشارون:

أيها الراكضون في القدس تيهًا
               أنتـــم الـواهمون والأغـبيــــاء
أيها المعتــدون، ما دام ظلــــم
               يولــــد الظلـم وهـو داء عيــاء
فاحـذروا إننا طلائـع زحــــف
               جنـده الأروعـون والأتقـيــــاء
وارحـلوا قبل موتكم أو فموتوا
               حيـث شئتـم فسيفـنـــــا المحّاء

       ***
-----------------
* نشر في موقع الألوكة الإلكتروني.
* ونشر كذلك في موقع رابطة الأدب الإسلامي العالمية، المجلة الإلكترونية، العدد الرابع، بتاريخ 5/2/2011م.

الأربعاء، 2 يونيو 2021

قراءة في ديوان غداً نأتيك يا أقصى - د. أمين الستيتي

قراءة في ديوان غداً نأتيك يا أقصى

لحيــــدر الغديــــر

د. أمين الستيتي – الرياض
نشرت في مجلة الدعوة، العدد 2129
29 محرم 1429هـ - 7 فبراير 2008م


     يلوح على بساط تتقاذفه ظلمة الأمواج، ملتحفاً بظلمة ليل تائه، وتختلس من بين عتماته شمس خجول، نظرة تعبر عن أمل تكسرت أعطافه بين دياجير الظلام، هكذا بدت لوحة الغلاف، متوجة بعنوان اختاره الشاعر حيدر الغدير ليعبر عن المعاني التي عاشت في صدره، وفار بها فؤاده. وبعدها ولجنا إلى الإهداء، وفيه حلقة متينة من العواطف في سلسلة المشاعر التي أورقت في شغاف القلوب، وقد وجهها الشاعر إلى أبطال المسلمين الذين يزرعون النصر، ويحصدونه في يوم الأمل الذي يراه شاعرنا حقيقة تزحم وجه الشمس في رابعة النهار.

     ثم وضع جدول المحتويات في الصفحة الخامسة، وزرع فيها ثماني وأربعين قصيدة، وأولها أم الديوان: (غداً نأتيك يا أقصى)، وقد بناها على (مفاعلتن) مكررة مرتين أو ثلاثاً، أو أربعاً، وقد ساعده هذا الوزن الحُدائي النغمات على صنع ألحان متماوجة كهضاب نجد، بل كما خبَّت الصحراء بالإبل، تغذ السير إلى ساح الوغى، وقد اعتلاها الغاضبون لربهم، حين تجبر الطاغون وبغوا، فيقول:

عهدك أيها الأقصى، وعهدك جمرة فينا، وحلم في مآقينا
ينادينا، فلا ننسى، وكل خلية فينا هي الأخرى .. تنادينا
إلى الأقصى، إلى الأقصى

     هكذا بدت موجة عالية من صخب العواطف، تحمل إعصاراً من زفرات الأمة، لتصبح نصر حطين مرة أخرى، وتكرر فتح خيبر، وكأن الشاعر يربط بين النصرين، ذلك أن العدوين في المعركتين عبر التاريخ قد وحدوا خبائثهم، ومكرهم ضد الإسلام والمسلمين.

     وتتدافع الألفاظ القرآنية على شفتي الشاعر لتشغل حيزاً من اللوحة الشعرية التي رسمها الشاعر ببساطة العربي البدوي، لتمثل غضبة الأمة على أعداء الله، في قوله:

وقد تبت أياديكم
وقد بادت صياصيكم
نتبر كل ما شدتم

     معتمداً على ما أخبر به الرسول صل الله عليه وسلم بقوله:

لنا عهد سننجزه، ووعد سوف نحرزه، بأن النصر آتينا،
كذلك قال سيدنا، وهادينا، محمدنا..

     ولا ينسى شاعرنا حيدر الغدير أن شرط النصر هو التمسك بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، كما فعل أجدادنا الأولون، وبثقة المؤمن، الذي يرى ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم رأي العين، فهو في يافا، وفي عكا، وفي صفد، والرملة، يزرع ويسقي ويسوس الخيل، ويذكر هيبة ابن الخطاب رضي الله عنه، وهو الفاتح الأول، وصلاح الدين، بوجهه الوضاء، وبينهما قائد جموع المسلمين الزاحفة، الذي سيرفع علم الجهاد ثانية، ويخوض معركة الإسلام، والتي سيكرمنا الله فيها بالنصر المؤزر.

     ويكاد الشاعر يرسم صورة هذا البطل المسلم القائد، بل يكاد يسميه، ويناديه حين يقول:

ونلقى الفاتح الأول، أبا حفص بهيبته،
ونلقى الفاتح الثاني صلاحاً في وضاءته،
ونلقى الفاتح الثالث فنعرفه بطلعته،
وقامته التي شمخت، وسطوته ورحمته،
ونسجد كلنا شكراً، لواهب زحفنا النصرا،
سيبقى مجد أمتنا هو الأعلى هو الأنضر،
وتبقى شمسها الأحلى، ويبقى حقلها الأخضر،
لأن الله حافظها، ولله الدنا تعنو، ويبقى أمره الأكبر

     لقد انسابت كلمات الشاعر سلسة، لا تكلف فيها، يظنها القارئ نثراً، لولا وزنها الذي غلفها بألحان شعرية، في قوافيها المتلاحقة، مع موجات ملتهبة من العواطف في حروف منسابة، يسيرة المعنى، واضحة الصورة، بينة الدلالة، تذكرنا بأبي العتاهية، الذي لم يكن يتميز شعره عن النثر بغير الوزن والقافية. ومع أن الشاعر بهذه القصيدة وأبياتها يعلن مواكبته لعصره، والتحاقه، أو موافقته المجددين، غير أنه لم يبارح الشعر العمودي، ولا المعاني المألوفة عند العربي، محتفظاً بذاتيته، ووضوح صورته، وقرب معانيه، وخطابية التعبير المباشر، وبعده عن الإيغال في المعاني، أو الغوص في أعماق الصور، واللوحات الشعرية المتكاملة الناطقة في الشعر المعاصر، والتي اتخذت عنوان العصرية، والتطور في هذا الزمن.

     حتى في إحالاته وجدناه قريباً، واضحاً جلياً، ولو كان لقارئ الديوان أن يرسم صورة صاحبه لظهرت أمامنا صورة رجل واضح المعالم، يتحرك تحت الضوء، ويعيش الحياة اليسيرة، السهلة، بكل ما تعني هذه الكلمات.

     وإذا كانت أحزان الأقصى حاضرة أمام الناظرين اليوم، فإن أحزان الأندلس لم تغب عن قلوب المسلمين، بل كأنها لن تغيب حتى يغسل الآتون بنصر الله سبحانه هزائم الغابرين، الذين فرطوا بأسباب النصر التي بينتها شريعته الخالدة، ففرط بهم النصر.

     لقد رسم شاعرنا حيدر الغدير صورة غرناطة الأندلس، وأحداث هزيمة (أبي عبدالله الصغير) وما حل به، في القصيدة الثانية من ديوانه، وجعل عنوانها (حسرة العربيّ)، وهو اسم المكان الذي وقف فيه ذلك الصغير يودع مدينة ملكه، واختار شاعرنا لهذه القصيدة ألحان بحر الطويل: (فعولن مفاعلين)، تلك الألحان المتزنة، واسعة المدى، وعزف عليها كل الأحزان، والدموع والآلام الماضية والحاضرة، والتي عاشت في قلبه وقلوب الأمة عبر الزمن، وبشر بما يبشر به الرسول صل الله عليه وسلم إذا أخذ المسلمون بأسباب النصر.

     ورأيناه ينطلق من بكاء أبي عبد الله الصغير، ليصف الدماء التي صبغت تلك المدينة، وأجراس الكنائس التي طغت وكتمت أصوات المؤذنين، والأستار التي هتكت، والخيول التي خلت صهواتها.. ونواح المحصنات اللواتي لم يأسفن على الذين قتلوا مستسلمين، ولا على الفارين، بل ذكرنهم بما كان ينبغي، من الإقدام، والقتال، للفوز بإحدى الحسنيين، لأن ذلك طريق الخلود التي سلكها المنتصرون. وقد شكلت كلمات أم عبد الله الصغير عمود القصيدة، ومحور الفكر الإسلامي، فصاغها الشاعر مطراً يغلي بقوله:

ألا فابك مثل الغيــــد ملكا أضعتــــــــه
               وما صنته عن عـفـــة وتكــــــــــــــرم
ألا كنت مثل الليــــث في حومة الوغى
               يصـــول إذا يرمي، ويحــــدو إذا رُمِي
وخضت إلى الفردوس بحراً من اللظى
               وكنت الأبي الحر والـفــــــارس الكمي
ولو مت مقـدامــــــاً لعشت مخلـــــــــداً
               وصرت نشـــــيداً كالأغاريد في الــــفم
وخلدت بين المسلميـــــــــــن كحمـــزة
               وكفنــــت في برد من المجــــــــد والدم

     وقد أحسن الشاعر حين انسل من مرارة الواقع الممتد من (حسرة العربي) أرضاً وزماناً، حتى أيامنا هذه، نحو مجد غابر صنعه السابقون بقلوب ملأها الإيمان، وفاضت بها آمال النصر. فعاشت تتهادى بين إيمانها وآمالها، وأحلامها، وعقدت عزائمها لتجسد ذلك انتصارات بلغت أقاصي الشرق والغرب، وجلجلت سيوفهم، وخفقت راياتهم، وعلت بهم منارات صدحوا من فوقها بأصوات الأذان، ونشروا دين الله، وطهروا الأرض من دنس الكافرين وظلمهم، يتساءل شاعرنا عن كل ذلك فيقول:

أين الأذان يزف النـــــور مؤتزراً
               بالطيب ينهل مثل الهاطل الهضب
والمسلمون سرايـا بالهدى انطلقت
               يحفها مهرجان الفتح والغلــــــــب
تطهر الأرض من كفر ومن دنـس
               وتنقذ الناس من بغي ومن حـــرب

     لم يلبث الشاعر أن مزج حلمه بأحلام موسى بن نصير، وشكل جيوش الفتح القادمة، وجعل في نفسه رفيقاً لطارق في جند الفتح، وكأنه يراهم رأي العين: فيقول:

إني لأبصرهم زحفاً له زجــــــــــل
               إلى الديــــار التي عزت على أربي
غداً يحقــق حلمي سيـــد نجـــــــــد
               يمضي إليه (على جسر من التعب)
أنا وطارق جنـــد في كتائبـــــــــــه
               فأسرجوا خيلكم يا أمة العــــــــرب

     لم يغادر شاعرنا ألفاظه السلسة، ومعانيه القريبة، وصوره اليسيرة المنال، المألوفة عبر الزمن، وكان تأثره بالألفاظ القرآنية والنبوية المشرفة جلياً، وفي كل أنحاء القصيدة، وظهرت صورته وهو يمزج بين حمراء قرطبة، وأقصى فلسطين، وكأنه يؤاخي بين حسرات المسجدين!! وقد التحف الشاعر أشواقاً حارة، معبراً عن أشجان أمة الإسلام قاطبة.

     أما اللون الثالث في هذا الديوان فكان الشعر الإخواني، وشعر المناسبات، وذاتية الشاعر، الذي ضم كثيراً من قصائده، ولا عجب فالشاعر متفرغ للقراءة والكتابة، وممارسة العلاقات الاجتماعية، والندوات الثقافية، ومن هذه القصائد ذات العنوان الإسلامي: (نم في البقيع) التي رثى فيها الشاعر الكبير عمر بهاء الدين الأميري.

     ولم يخرج شاعرنا في هذه القصيدة عن نهجه، وظل متمسكاً بعمود الشعر، ومعاني الأولين من الشعراء، فذكر محامد الفقيد الكثيرة، وأشاد بمواقفه، وجهاده بالكلمة والنفس والمال، والآمال، التي تجلت في أن يمكن الله سبحانه للمسلمين، ثم زف إليه أنباء انتصارات المسلمين في بعض البلاد، وتمنى لو كان حياً ليتغنى بها، لكنه واسى نفسه بالملائكة الذين سيزفون له أنباء تلك الانتصارات، فقال:

نصر كما تهوى فأين يتيمـــــة
               من حر شعـرك للأسود تصفق
أترى الملائكة الكرام سعت به
               نبأ إليك وبسمــــــــــة تترقرق

     ولا ينسى أن يبارك له نومه في البقيع، إلى جوار جده، ويبشره بأن مسلسل الانتصارات الذي بدأت شموسه تسطع بجلاء، لابد أن يصل القدس، وتشرق فيها شموسه.

     لقد كان الشاعر ملتزماً بدينه، منافحاً عنه، في كل إبداعه الشعري، وعلى كل صوره، مشيداً بالمتمسكين بشرع الله، كتاباً وسنة، واقفاً معهم في كل خنادقهم، وهو بذلك يؤكد نفسه في مسيرة الأدب الإسلامي، وتسخير الشعر والإبداع لخدمة هذا الدين الحنيف.

***

الأكثر مشاهدة