الخميس، 3 يونيو 2021

الشاعر الدكتور حيدر الغدير ومجموعة "عادت لنا الخنساء" - د.أحمد الخراط

الشاعر الدكتور حيدر الغدير ومجموعة "عادت لنا الخنساء"

قصيـــدة "مأتم الشعر" نموذجـــاً

د.أحمد الخراط - سورية


     قضيت وقتاً ماتعاً في تَذَوُّق مجموعة شعرية للدكتور حيدر الغدير بعنوان (عادت لنا الخنساء)(1)، وقد عبَّرت المجموعة عن التزام الشاعر بقضايا أمته التي عاش حياته يذكر آمالها وآلامها، ويستجلي تاريخها السالف مقتبساً منه ما فيه من عِبرة واستذكار، كما تشير المجموعة إلى بعض الأحداث التي عاصرها، بالإضافة إلى مداعباته لإخوانه، وقد عُرف عنه الوفاء بهم وتفقُّده لهم.

     وتنبئ المجموعة عن فصاحة الشاعر وامتلاكه ناصية التراث اللغوي وتمكُّنه منه. ولن تقف في قصائده على تكلُّف لا تأنس به النفس في المعاني والقوافي، ولا غرابة فقد عرفنا حيدراً شاعراً مطبوعاً موهوباً.

     تبوأت قصيدته (مأتم الشعر)(2) في رثاء عمر أبي ريشة منزلة لديَّ، وأحسست أن صاحبها حاز كثيراً من خيوط الفن الذي يمنحك فضاء رحباً من متعة التذوق وروعة الإبداع. ويبدو لي أن ثمة أسباباً جعلته يحتفي بشاعره على نحو يتجاوز حدود الموهبة الفريدة التي كانت لأبي ريشة، إلى عوامل أضيفت إلى الموهبة، منها الدفاع عن الأمة، ونصرة الفصحى، والشخصية التي تميز بها أبو ريشة، وشعور الغدير أن الفصحى قد فقدت فارسها وأنيسها، فهل ثمة من أحد يتبوَّأ مقعده؟ ومن هنا فإن حيدراً لم يكن يرثي الموهبة التي رحلت فحسب، وإنما كان يتأمل في قامة مديدة ترجمت في فضاء الفن الشعري ما يعتقده حيدر من قيم والتزام. ومن هذا الواقع الذي نفذ إلى شغاف فؤاده أحس حيدر أن أبا ريشة موهوب صاغ بشعره ملحمة كبرى تبشر بتحول قادم سوف يشمل المة أأمة كلها، وينتهي بها إلى النصر على البغي وأعوانه:

غـد العروبة والإسلام ملحمة ... بالنصر زاحفة والبغي مندحر

     لقد لمس حيدر في حروف أبي ريشة خدمة لقضايا الأمة، إذ كان يواجه المخاطر في سبيلها:

وما على المرء إن كــــــانت منيتــه
               آماله فهـــــو يرجــــــــوهـا وينتـظر
الحق غــــــايته ما انفــــــــك يطلبـه
               هتافه الحسنيــــــان المـوت والظفـر
وملء أضـــــلاعه الإيمان يحرسـه
               والمؤمنون ومن باعوا ومن صبروا

     وكان الفقيد يعتدُّ بالقرآن الذي كان سبباً في نشأة الحقد عند الخصوم:

على الكتاب الذي ترنو القرون له
               وقد أضاءت ديـــاجي ليلها السور
خاب الحقود وخابت منه أمنيــــة
               والحقد ينحر من ضلوا وينتحــــر

     كما كان مدافعاً صلباً عن جناب الفصحى، ومضى يحميها من أذى العابثين:

حميـت فصحاك من باغٍ، يمزّقه
               حقـد عليها فمـــا يبقي ومـــا يذر
وصُنتها عن خؤون في جوانحه
               تغـلي السخائم والبغضاء والقذر

     لقد قرأ أبو معاذ في كثير من قصائد أبي ريشة ما هو ماثل في ذاته من التزام بالأمة أحزانها وآمالها، وما هو بوح بالمشاعر الكامنة، بالإضافة إلى الفن الأصيل المترامي الأطراف الذي كان يصوغه الفقيد، ومن هنا كان إعجابه به ليس أمراً عابراً، فليس غريباً أنه اختاره ليكون موضوعاً لأطروحته في رسالة الدكتوراه من جامعة عين شمس، بعد أن خَبِر شعره، ونفذ تفاعله معه إلى الشغاف، وظل حيدر يترنم بأشعار عمر إلى أن لقي الأخير ربه، فنهض يؤبِّنه في قصيدة أعدُّها من عيون الشعر الحديث.

     صحيح أنها ترجمت إعجابه العميق بالمقومات الفنية لدى أبي ريشة، بيدَ أنها تعبير صادق عن تأثره في هذا المأتم الحزين، بعد أن ثوى أبو شافع ورحل إلى ربه. وفي تقدير حيدر أن أبا ريشة أسهم في توجيه أمته نحو النهوض من سباتها، وتبصيرها بالمحدقات الجسام من حولها، وهو يأمل في أن تتخذ أسباب العدّة ما استطاعت من قوة ومن رباط الخيل:

عفواً أبـــــا شافع الفجــر موعــدنــا
               والشعر والنصر والرايات والشـرر
والخيل تصهل والتكبير عاصفـــــة
               على البغاة وملء الساح من صبروا
من كل أروع مثــــل السيف مهجته
               وحــــــرة قلبهــا بالعــــــــزم يأتزر

     ولسنا بعيدين عن المقولة التي تعدّ الشعر لبنة من لبنات المؤرخ أو الناقد الذي صح عزمه على استهداف مرحلة من مراحل الزمن ليصوغ معالمها بإحكام، أو يتأمل في ديوان شاعر ليستجلي حياته ودوره.

     وهذه القصيدة التي بين أيدينا تسهم في هذه الصياغة لحقبة احتدم فيها الخصام بين دعاة الفصحى ودعاة الانسلاخ عنها، فتتحدث عن ثبات أبي ريشة أمام الرياح التي جابهت الفصحى. وليس غريباً أن ننطلق من هذه القصيدة لنرصد شخصية أبي ريشة فهو رحّالة في فضاء فسيح بين الدول والمناصب المتعددة:

ونفســــــك القمة الشماء باذخة
               ما شانها قط في ترحالك الخور

     وهو ثابت في قول الحق، لا يهاب الأخطاء والمنايا:

فمـا حنى هـــامة إلا لخالقــــــــه
               ولم يزلـــزله في طوفـانه الخطر
والحر يلقى المنـــايا وهو مقتحم
               تموت وهي على أقدامها الشجر

     خَبِرَ حيدر كل ما نظمه أبو ريشة في السراء والضراء أو يكاد يبلغ ذلك، فتراه يقطف من رياض ديوانه بعض أزاهيره ليدفع بها إلى مرثيته، فأبو ريشة يقول في قصيدته المشهورة:

يا عروس المجد تيهي واسحبي
               في مغانيـــــك ذيول الشهـــــب

     فيردد حيدر:

وموكب الشعـــــــر تـيّــــــــاه بسيده
               والمبدعون ومن غابوا ومن حضروا

     وللفقيد قصيدة عنوانها (النسر) فيستذكرها شاعرنا ويقول:

كنت الإباء وكنت النسر شامخةً
               راياتـــــه وأعاديــــه قد ائتمروا

     وله مجموعة شعرية بعنوان (غنيت في مأتمي) فيشير إليها حيدر بقوله:

وأنت غنيتها شعــــــــــــرا بمأتمها
               بعض الطيــور تغني وهي تحتضر

     وأبو معاذ قارئ مدمن للتراث اللغوي السالف. ويظهر أثر هذه القراءة المديدة في كلمات قصيدة (مأتم الشعر)، فلا ترى فيها لفظة مُوَلّدة أو دخيلة، وأبياتها مصداق شاهد على ذلك:

وغرة أنت في سفـر الخلود لها
               سبق المجلِّي ووجه بالسنا نضر

والمجلِّي في اللغة: هو الفرس يسبق في الحلبة. وها هم القوم يلهجون بذكر المبدع المَرْثي:

قالوا وصدَّقهم مجـــــد ظفرت به
               وصَدَّق الخُبْــرُ ما قالوه والخَبَـــرُ

     والخُبْر في اللغة: العِلم.

     ويكاد شاعرنا يذوب في مصادر اللغة العالية، وكأني به مُوَكّل بفضائها ليذرعه، وفي (مأتم الشعر) بصمات قرآنية غزيرة فكان يقتبس من الكتاب المعجز. يقول عن شاعره:

وغرة أنت في سفر الخـلود لها
               سبق المجلِّي ووجه بالسنا نضر

     فيستقي التعبير من قوله تعالى: "وجوه يومئذ ناضرة"،

     ويقول:

الحق غايتــــــه ما انفك يطلبــه
               هتافه الحسنيان الموت والظفـر

     فيستوحي قوله تعالى: "هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين"،

     ويقول عن أعداء الفصحى:

وتغلب الكارهين الضاد من نفر
               هم العدو وإن أخفوا وإن جهروا

     وقال تعالى: "هم العدو فاحذرهم".

     وإذا كان غير المؤمنين كما في الآية "لا وزر لهم"؛ فإن المؤمنين عند أبي ريشة كما يقول حيدر:

يمـوت كل جبان من مخاوفــــه
               والمؤمنون لهم إيمانـــــهم وَزَرُ

     كما يقتبس من الحديث الشريف في قوله صلى الله عليه وسلم: "إن من البيان لسحرا"، فيتحدث عن شاعره بقوله:

بيانه السحر والإبداع ديدنـــه
               أصخ بسمعك هذي آيه الغرر

     والتأثر بشعراء العربية وارد في القصيدة، فقد أفاد من قول الحماسي:

بغاث الطيـر أكثرها فراخاً
               وأم الصقـر مقلات نـــزور

     فيقول عن موهبة أبي ريشة:

رفت أمجاده فوق الســماك فما
               يرقى إليها بغاث الشعر والهذر

     ويفيد من قول الحماسي الآخر:

عشية قام النائحات وشُقِّقت
               جيوب بأيدي مأتم وخــدود

     فيقول:

أنا الوفيُّ لها أبكي لمأتمــــها
               فملء أجفني الأحزان والكدر

     ويقطف من قصيدة الفرزدق في زين العابدين:

بِكَفّهِ خَيْـزُرَانٌ رِيحُـــــــهُ عَبِـقٌ
               من كفٍّ أروع في عِرْنينه شممُ

     فيقول:

من كل أروع مثل السيف مهجته
               وحـــــرةٍ قلبها بالعــزم يأتـــــزر

     وإذا أردنا أن ندلف إلى عمق هذه الرائعة يلفت نظرنا العديد من المرتكزات الفنية التي أبدع فيها حيدر، فقد أفاد حيدر من ثمرات الإمام عبد القاهر الذي تحدث عما تمنحه الجملة الفعلية من آفاق التجدد والحدوث، في حين أن الجملة الاسمية تمنح الثبوت والدوام، ونلمس صدى هذا الفرق بين الجملتين في شعر أبي معاذ، حين يقول عن فقيده:

يغشى شعاب المنايا وهي كالحة
               يسعى إليـها ويصلاها ويصطبر

     فشعاب المنايا مغلِّفة نفسها بعباءة الموت الثابتة، فجاءت جملة الحال منها على صيغة الثبوت، أما أبو ريشة فهو يسعى نحوها ويصلى ويصطبر، لأنه طوال حياته ذو عزيمة نافذة، وهذا يناسبه التعبير بالمضارع، يقول حيدر:

وما على الحر إن كانت منيته
               آمالـــه فهو يرجوهـــا وينتظر

     ويقول في مهيع الثبوت:

كنت الإباء وكنت النسر شامخة
               راياتــــه وأعاديـــــه قد ائتمروا

     فراياته خفاقة دوماً. وإن مبايعة من يذود عن الأمة وفصحاها ليس هو الفارس فحسب، وإنما سيف الفارس له مشاركة في هذه البيعة:

وسيفـــــــــه بيعــــــة لله رابحة
               وحصنه بين أشداق الردى القدر

     فيضيف حيدر شحنة جديدة لهذه البيعة، فيصوغها بمصدر المرة الثابت.

     وتزدحم القصيدة المأتمية بالصور ذوات الجناح الخفّاق وتتلاحق، وما أكثر أن نمر بالتشبيه البليغ الذي يدع خواطرك يغتلي فيها ارتيابك حتى تتقرّاها يداك بلمس!. إنه يمسك بيدك لتعيش هذه الصور:

وشعرك الشعر أطياف مجنحة
               هن العرائس، والأبكار والدرر
ونفسك القمة الشماء باذخـــــة
               ما شانها قط في ترحالك الخور
وكنت بلبله الصـــــداح منشده
               في كل رابيــــــة من شدوه أثر

     ويمضي بك تجاه الاستعارة المكنية:

إذا ترنمت قال الناس في ولهٍ
               اليوم يسكرنا في شــدوه عمر

من كل أروع مثل السيف مهجته
               وحـــــرةٍ قلبها بالعـــــــزم يأتزر
خاب الحقود وخابت منه أمنيـــة
               والحقد ينحر من ضـــلوا وينتحر
زفّته للمجد والدنيـــــا تباركـــها
               ومهرجان العلا والسمع والبصر

     ويجعلك تتذوق الاستعارة التصريحية على طبق من ذهب:

رفعت أمجـــاده فوق السمــاك فـما
               يرقى إليهـا بغــاث الشعــر والهـذر
بـاق على الدهر لا يخبو له وهـــج
               "ولم يغـب عن حواشي ليله سمر"
غنيـته بالقـــوافي الزهر ملحمــــة
               طابت وجاءت عروساً وهي تفتخر

     وذكر النحاة لـ(أل) التعريف معنى الكمال في الصفة، ويبدو أن حيدراً مولع بالاعتداد بهذا المعنى في مقام شاعره؛ لأن تقديره له استقر في فؤاده فصار فيه قامة علياء:

كنت الإباء، وكنت النسر شـــــامخة
               راياتــــه وأعاديــــــــــه قد ائتـمروا
أنت الأصالة، والفصحى إذا طربت
               وجـــــــــــذوة بالبيـــان الثر تستــعر
هذا الأمير، أمير الشعر فارســــــــه
               قـــلده في عرسه التاج الذي ظــفروا
وشعرك الشعر، أطياف مجنحــــــة
               هن العـــــــــرائس والأبكـار والدرر
عفواً أبـــــــا شـافع ما كنت أحسبني
               أبكي عليك فأنت المجـــد ياعمــــــر

     وفي عرف الناس أن المرء يشتاق إلى بلوغ المعالي وذرا القمم، أما أبو ريشة فإن مرتبته السامقة يتطلع الكوكب زحل نفسه إلى الوصول إليها على الرغم من أنه معروف بعلوه:

فكان في غاية يشتاقها زحـــــــل
               وحين تشتاق طول العمر يا عمر

     وقد يطوي شاعرنا ذِكر الموصوف، ويكتفي بإيراد الصفة ليخطر بالبال في تعيين الموصوف المطوي كل خاطر:

مرحى أبا شافع يا شاعراً غرداً
               المترفـــــــات على بستانه زمر

     فالمترفات صفة لموصوف محذوف هو الخيال والتصوير، أو هو البلاغة الخصبة، أو هو العاطفة الجياشة، أو هو الفن الأصيل.

     وللمبالغة المأنوسة التي تحرك الشجون، ويقبلها الذوق, نصيب في القصيدة؛ لأن فيها ريشة فنان مبدع، وهذا يعزز ما ينشده حيدر من التأثير في المتلقين الذين يتذوَّقون شعر أبي شافع، فالناس يطربون لقصائده، والأطيار ترددها في تغريداتها، والشجر تهتاج أوراقه وتنمو خضرته:

شعـــــــر وكُبر وإنشـــاد وأغنية
               يهفو لها الناس والأطيار والشجر
إذا ترنّمتَ قــــال النـاس في وَلَهٍ:
               اليــــــوم يُسكِرنا في شدوه عمــر

     ومن وجوه المبالغة المأنوسة استعماله لما يسمّيه النحاة أبنية مبالغة اسم الفاعل فيُوردها في قوله: تيّاه، خوَّان، حقود.

     ويلتمس حيدر من سامعه أن يشاركه في حكمه على شاعره، فيطلب إليه أن يصيخ بسمعه:

بيــانه السحر والإبداع ديدنه
               أصخ بسمعك هذي آيه الغرر

     وكأنه يقول للمتذوق: أدعوك لتستمتع معي بهذه الرياض المونقة، وهذا الخيال المجنح.

     ومخزون اللغة وآفاقها في فن حيدر مخزون ثر؛ لأنه يدرك ماذا يقتطع منه، وكيف يصوغ أبنيته، ومتى يستعمل الفعل الثلاثي المجرد، ومتى يضيف إلى مبناه بعض الحروف لتتسع معانيه على مقولة: زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى؟ يقول:

يغشى شعاب المنايا وهي كالحة
               يسعى إليها ويصــلاها ويصطبر

     ولم يقل: "ويصبر"، فزاد في المبنى تاء الافتعال التي أبدلت طاء. ويقول:

ويقتـل الموت من خافوه وادَّرعوا
               بالجبن ضلوا وضل الجبن والخور

     فزاد في المبنى الألف والتشديد.

     ويستقي من أسلوب التقديم والتأخير ما ينشده من الاهتمام بالمتقدم، يقول:

يمناك في موكب التاريخ ظافرة
               وملء يسراك ما العليـــاء تفتخر

     وأصل التركيب: ما العلياء تفتخر به ملء يسراك.

     وقدّم الخبر لأنه المقصود المعنيّ في قوله:

وغُرةٌ أنت في سفر الخلود لهـا
               سبق المجلي ووجه بالسنا نضر

     فهو يريد أن يجمع الشرف والسيادة والكرم في لفظ الغرة، فلذلك قدّمها. وتعدّي الأفعال ولزومها من الصناعة النحوية التي أتقنها حيدر، فلا نجد لديه قصوراً في ذلك؛ نظراً لتمكنه من ناصية اللغة، يقول: يشتاقها زحل.

     وفي اللغة: اشتاقه واشتاق إليه، وكأنه اختار التعدي ليعبر عن سرعة الاتصال والتناغم بين الفعل وفاعله، في حين أن الجارّ إذا توسط بينهما فقال : يشتاق إليها زحل، فقد وضعنا فاصلاً بين الفعل والفاعل مما يؤدي إلى بطء تَوَهُّج الصورة الشعرية.

     وثمة وقفات نقدية قد تتباين فيها وجهات النظر، على أننا لا نرى بأساً من الإشارة إليها، فشاعرنا اضطر إلى لفظة "القذر" في قوله:

وصُنتها عن خؤون في جوانحه
               تغلي السخائم والبغضـاء والقذر

     من أجل الروي المضموم: الراء، وهي لعمري لفظة مباشرة ينأى عن استعمالها فن الشعر الذي يحلق بنا فيُودع مكانها لفظة أخرى.

     وقد لا نقبل دلالة فعل الأمر التي أوردها في قوله:

فغنِّها غنِّها في الخلـــــــد قـــافيـة
               واطربْ ورنِّحْ بها التاريخ يا عمر

     لأن الرَّنْح في اللغة هو الدُّوار والاختلاط، ورُنِّح به إذا أُدير به كالمغشيِّ عليه، أو اعتراه وهن في عظامه وضعف في جسده، عند ضَرْب أو فزع أو سُكر، وحيدر لا يتوخى هذه المعاني، وإنما يريد: سِرْ أيها التاريخ مزهواً لثرائها وقِيَمها، وهو خلاف ما تشي به لفظة الرنح.

     ويمم حيدر شطر الاستعمال النحوي القليل في قوله:

وملء يسراك ما العلياء تفتخر

     وهذا مصطلح النحاة؛ لأنه حذف العائد المجرور بالحرف في باب الموصول، والكثير فيه أن يصرّح بالعائد فيقول: تفتخر به، ويبدو أن القافية لم تُسعفه. ونقرأ في القصيدة:

ويقتلُ الخائفون الموتَ أنفسَهم
               وإن علت لهم الأسوار والجدر

     فيتوالى المعمولان المنصوبان "الموت أنفسهم" ولكل منهما عامل، فعامل الموت: الخائفون، وعامل أنفسهم: يقتل، وهذا التوالي للمعمولين وبُعد (يقتل) عن معموله (أنفسهم) أضعف تدفُّق المعنى وجلاءه، فجعل استيعاب الصورة بطيئاً.

     وإذا كان الأصل أن أبا ريشة قد حمى الفصحى، وأن خصومه لم يتمكنوا منها بدليل قوله:

خاب الحقود وخابت منه أمنية
والحقد ينحر من ضلوا وينتحر

     فما آلت إليه الخصومة هو الخيبة والنحر. إذاً ما وجه قوله عن أعداء الفصحى:

حميت فصحاك من باغ يمزقه
               حقــــد عليها فما يبقي وما يذر

     كيف نوفق بين الكِفَّتين؟ كِفًّة تقرر نهاية الحاقدين، وكِفَّة تقرر نهاية المحقود عليهم؛ لأن الفريق الآخر لا يُبقي ولا يذر.

     ويعبر الشاعر عن تفاؤله بالفتية المؤمنين وهم على خيولهم، وقد علا تكبيرهم فيقول:

والخيل تصهل والتكبير عاصـــــفةً
               على البغاة وملء الساح من صبروا

     بيدَ أن العطف بالتكبير المذكور فيه نظر، لأن فيه فصلاً بين الحال المؤنثة وعاملها وصاحبها بهذا المعطوف ؛ مما جعل جذوة التدفق تضعف وتتعثر رشاقة المشهد.

     وبعد، فهذه قراءة ماتعة شائقة كانت لي، وكان فارسها أبا معاذ. ويقيناً فقد غرّد هذا الشاعر داخل سرب أمته وهمومها بأسلوب الفن الموَّار الأصيل، وآمل أن يكون دائماً من الموفقين في رسالته التي شاب عليها بعد ما شبَّ في غمارها.

--------------------------------
(*) أستاذ جامعي، متخصص في النحو والصرف، وفي تحقيق كتب التراث، عمل عدد من الجاممعات السعودية، وفي مجمع املك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة.
(1) ديوان عادت لنا الخنساء، شعر حيدر الغدير، نشر دار المؤيد بالرياض، الطبعة الأولى، 1430هـ - 2009م. عدد الصفحات 171، مقاس 21×14.
(2) قصيدة مأتم الشعر، ديوان عادت لنا الخنساء، ص 9-13. والقصيدة في (ديوان حيدر الغدير)، الجزء الأول، ص122-126، نشر مكتبة التوبة، الرياض، الطبعة الأولى، 1436هـ/ 2015م.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة