الأربعاء، 28 ديسمبر 2022

رحلة شليفر من اليهودية والشيوعية إلى الإسلام

رحلة شليفر من اليهودية والشيوعية إلى الإسلام

     سليمان عبد الله شليفر، اسم لا يخلو من شيء من الغرابة، ولعله يستوقفك ويستأثر بقدر من اهتمامك وتساؤلك، ذلك أن الجزء الأول منه إسلامي واضح، والأخير يهودي صرف، وسليمان عبد الله شليفر يهودي أمريكي، اعتنق الإسلام مع زوجته وطفلته، وهو ينتمي إلى عائلة معروفة في بلده، وله تاريخ غني حافل يدل على شخصية حية فاعلة.

     تمرّد الرجل على مجتمعه الأمريكي، وكوّن مع أصدقائه الشعراء حركة عُرِفت باسم "حركة البيت"، وكانوا النواة الأولى للحركة الهيبية، ثم سافر إلى كوبا عقب انتصار كاسترو فيها وسيطرته عليها واعتنق الشيوعية، ونظم الشعر في تمجيدها، حتى إن الشاعر الروسي المعروف "إيفتشنكو" كان يترجم قصائده إلى اللغة الروسية، على أساس أنهما ينتميان إلى مذهب سياسي واحد.

     كثيرة هي الأمور التي تستوقف الإنسان خلال إمعانه في هذه الكلمات الوجيزة عن صاحبنا "سليمان عبد الله شليفر".

     إنه يبدو لنا من خلالها رجلاً فيه ذكاء ونشاط وفاعلية. فيه حركة عقلية نشيطة، وجَيَشان نفسي موّار، ثم هو، كما تدل مواقف حياته المتوالية يمتلك حداً من الشجاعة الأدبية يجعله يعلن ما هو مقتنع به، وقدراً من الفكر الحي المتحرك والوجدان الدفّاق، يجعله يتفحص مواقع قدميه ليرى الخلل والقصور ونقاط الضعف، ثم يستشرف آفاقاً جديدة يؤمّل أن يلقى فيها الصحة والسلامة والنجاة، حتى إذا جاءها ولم يجد عندها ما كان يرجو سارع يتحوّل عنها من جديد حتى انتهى الأمر به إلى الإسلام، فطاب له المقام، ووجد الراحة والسعادة، وهدأ وجدانه الدفّاق، واستراح عقله الجوّاب، وهدأت منه الجوارح، وركن إلى قناعة عميقة، وسكينة هانئة، وأيقن بعد قلق، وسعد بعد مشقة ولأي، وآمن بعد ضلال، واهتدى بعد حيرة، وألقى عصا الترحال في رحاب الإسلام العظيم:

فألقت عصاها واستقر بها النوى     كما قرّ عيـــناً بالإيـــاب المسافرُ

     وعلى الرغم من أنّ سليمان عبد الله شليفر رجل أمريكي، وأمريكا اليوم هي قمة التفوّق المادي، غنى وصناعة وإدارة وكثرة في الأشياء وتنوّعاً فيها، فإنّ ذلك كله لم يخدعه، لم يخلب عينيه البريق الذي في بلاده، ولم يغفل عن الضلال الذي يغرق القوم فيه هناك، بل أبصر جوانب الضعف في حضارة ذويه، فإذا بعناصر الرفض فيه تتحرك وتنشط، وإذا به يسعى مع عدد من أصدقائه الشعراء إلى تكوين حركة عرفت باسم "حركة البيت"، لا ندري عنها شيئاً، لكننا نرى في مبادرته إليها دليلاً على حيوية وفاعلية، ورغبة في التماس أبواب النجاة، وسعي حثيث نحو منافذ الأمل.

     وربما كان في تسمية الحركة باسم "حركة البيت"، شيء من البحث الواعي أو الباطن عن العلاقات الإنسانية الدافئة، والمودة والسكينة والحنان مما يكون البيت في العادة مثابةً له ومأوى ومحضناً، وهي وشائج نفيسة رائعة افتقدتها الحياة الغربية إلى حد كبير. ولعل شليفر إبّان اضطرابه وتخبّطه وتحوّله كان يسعى للحصول عليها والتشبث بها.

     وحين أخفق صاحبنا في الوصول إلى ما يهدأ به ويقنع ويستريح في "حركة البيت" التي أسهم في إنشائها، خاصة بعد أن تدافعت فيها عوامل الرفض الهستيري الأهوج الذي يعجز عن تقديم أي بديل مقترح، ويكتفي بمجرّد الرفض العشوائي الأرعن، وذلك بتحوّلها إلى الحركة الهيبية، شعر أنه بحاجة إلى تحول جديد، لأنه لم يجد في الهيبية ما كان يَنشده من هدى وسلام، وسكينة نفسيّة، وقناعة فكرية يحس المرء بها أنه على صواب تام، وأنّى له أن يجد في الهيبية شيئاً من ذلك، وهي مجرد تشنّجات يائسة بائسة يقوم بها قوم حيارى ضائعون غارقون في مستنقع الحضارة الغربية.

     اقتنع شليفر أنه بحاجة إلى تحوّل جديد حين يئس من الهيبية، فولى وجهه صوب الشيوعية يتوهم فيها الأمل ويحسبها طوق النجاة.

     وفي مرحلة الشيوعية من حياته المثيرة نرى صاحبنا شليفر يسافر إلى كوبا حين ينتصر فيها كاسترو، ويأخذ في كتابة القصائد التي تمجّد الشيوعية. إننا نلحظ لديه في هذه المرحلة رحلتين: رحلة مادية جسدية يرتحل فيها شليفر إلى بلد تسيطر عليه الشيوعية، ظناً منه أنه سيشهد فيه نموذج الحياة الشيوعية التي اقتنع بها، ورحلة فكرية معنوية، يودع فيها شليفر الهيبية وحركة البيت ليقتنع بفكرة جديدة.

     ويبدو أن شليفر في هذه الفترة كان يتدفق بالحماسة للشيوعية، وكانت أعماقه وخلاياه وكل شيء فيه، فرِحاً طروباً شديد الاقتناع بها، لذلك أخذ ينظم الشعر في تمجيد الشيوعية، ويبدو أن شعره هذا لقي إعجاب رفاقه الآخرين، فأخذوا يتناقلونه حتى وصل إلى شاعر روسي معروف هو "إيفتشنكو" فترجم له قصائده إلى اللغة الروسية.

     لكن شليفر أخذ بالتدريج يكتشف قصور الشيوعية وأخطاءها، وجهالتها وضلالها، وما لبث أن بدت له على حقيقتها، فإذا بها مجموعة من الدعاوى الضخمة العريضة، لكنها أكذب ما تكون الدعاوى وأكثرها تبجّحاً وادعاءً وانتفاخاً وخديعة، والناس فيها بائسون مظلومون مسحوقون.

     وماتت الشيوعية في نفس شليفر، فأخذت روحه ترتحل من جديد بحثاً عن قناعة تملؤه باليقين العقلي والسكينة النفسيّة، وظلت هذه الروح جوّابة جوّالة حتى قُدِّر له أن يعيش في بعض ديار المسلمين، فإذا به يتعرف إلى عالم جديد من الأفكار والمشاعر السلوك، وإذا بهذا العالم يستأثر باهتمامه، ويستحوذ على انتباهه، وإذا بصِلته بهذا العالم تنمو وتزداد وإذا به آخر المطاف يُسلِم، ويفوز بالهداية والحق، وترسو سفينته، من بعد ظروف متمردة عاصفة، في شاطئ الأمان والسلام، شاطئ الإسلام الخالد العظيم.

فألقت عصاها واستقر بها النوى     كما قرّ عيـــناً بالإيـــاب المسافرُ

     سليمان عبد الله شليفر، الرجل اليهودي الذي أسلم بعد معاناة طويلة وتجوال وارتحال، هو نموذج حي من نماذج الروح الإيجابية المتقدة، التي ظلت تشعر بالفراغ والحيرة، وتكابد الإحساس المرّ بأنها على غير الحق، وأن ثمّة مجهولاً عليها أن تصل إليه، فأخذت تحرّك صاحبها، وتسعى به، وتخرجه من حال إلى حال، بحثاً عن الهداية والسكينة والحق والسلام واليقين، فجرّبت الرفض الهيبي، وجرّبت الرفض الماركسي، لكنها لم تجد عندهما شيئاً مما كانت ترجو، حتى أدركتها رحمة الله عز وجل فإذا بها تسعد بالإسلام وتلقي في رحابه عصا الترحال.

     إنّ ما مرّ بالرجل، يمثل صورة من صور الحياة العنيفة العاصفة، وذلك بما فيها من تقلب مستمر، وتنقل مفاجئ، ورحيل مثير غريب، وهي حياة تدل على إفلاس قوم الرجل، وإخفاق الحضارة الغربية بشقّيها، الغرب الرأسمالي، والشرق الشيوعي في هداية الإنسان، حيث جرّب شليفر الحياة في عالمَي الرأسمالية والشيوعية فلم يجد في أي منهما سعادته المفقودة.

     يقول شليفر عن نفسه:

     في عام 1963م (أي 1383هـ) قررتُ زيارة شمال أفريقيا، كنت قد نفذت من القاع خارجاً من الحضارة الغربية بكل قيمها، جرّبتها كمواطنٍ مُنتَمٍ فلم أقبض إلا الضياع، جرّبتها كرافض معتنق للماركسية فلم أقبض إلا الصراع الطبقي، إنها لا تحقق الأخوّة بين البشر، ولا تقدم حلاً لمشكلة الإنسان المعاصر.

     إن شليفر ها هنا يدين الحضارة الغربية بشقيها، الشق الرأسمالي والشق الشيوعي، لقد جرّب الشقّ الأول فما قبض سوى الضياع كما يقول هو، ويعبّر بالضبط على الرغم من أنه جربها مواطناً منتمياً إليها مشاركاً في حياة مجتمعها، وحين جرّب الشقّ الثاني لم يقبض إلا الصراع الطبقي؛ كما يعبّر ويقول. ذلك العداء المحموم الأهوج الذي تثيره الشيوعية وتُذكيه، ومتى كان الحقد الحضاري، والكراهية العنيفة، والبغض المدمر، والسخائم والعداوات وسيلة لتحقيق الأخوّة بين الناس!؟

     لقد آمن شليفر –بعد أن جرّب الشيوعية– أنّ الأخوّة الإنسانية لا يمكن أن تتحقق في ظلالها قط، بل يتحقق في ظلالها العداء والاقتتال، والصراع والأحقاد. وآمن شليفر كذلك أن الشيوعية لا يمكن أن تقدم حلاً إنسانياً لمشكلة الإنسان المعاصر، وهكذا يئس الرجل من الحضارة الغربية بشقيها، وكفر بقيمها جميعاً، وسافر إلى أفريقيا عام 1383هـ= 1963م، غير مُنتَمٍ إلى شيء قط.

     وفي شمال أفريقيا عاش الرجل في القسم القديم من مدينة مراكش، حيث لا يزال كثير من مظاهر الحياة الإسلامية، يظهر بشكل واضح جلي، تاركاً سماته وطابعه وملامحه وخصائصه، في تقاليد كريمة محفوظة، وأنماط حيوية جميلة، تتجلى فيها جوانب أصيلة وضيئة من قيم الإسلام العظيم وعقائده وآدابه وأخلاقه.

     يقول شليفر: لقد بدت لي قيم الإسلام واضحة التألق، ففي العائلة الواحدة تجد الأشقاء مختلفي اللون بين الأشقر والأسمر والأسود، لماذا لم يحدث ذلك في أمريكا؟ إن المعركة فيها تدور حول منع الطلبة البيض والسود، من ركوب حافلة واحدة.

     إن شليفر قد استأثر باهتمامه واحد من معالم الإسلام الأساسية تبدّى له في مراكش، هو احتقار الإسلام لكل ما يفرّق الناس ويمزّقهم بسبب ألوانهم، وإصراره على أنهم إخوة متساوون، وأن الاختلاف الظاهري بسبب اللون أو اللغة أو الجنس أو الأرض، أو ما شكل ذلك، لا يجوز قط أن يكون سبباً للعداوة والتمايز والصراعات والأحقاد.

     وهذا أمر قد يبدو لنا عادياً جداً بحيث لا يستحق أن يتوقف عنده شليفر، ولكن ذلك بسبب إلْفِنا له، ومعايشتنا إياه، أما شليفر اليهودي الأمريكي فقد توقف عنده وأُعجِبَ به، لأنه يرى ما يسببه اختلاف اللون في بلده من مآسٍ ومتاعب كأنْ ينشب سُعار مجنون من الغضب، ربما يؤدي إلى عراك وقتال، حتى لا يركب السود والبيض في حافلة واحدة.

     ومما استوقف شليفر وأُعجِبَ به روح التضامن والتعاون الإسلاميين بين الناس مما لا مثيل له في الغرب. فإذا توقفت سيّارة لعطلٍ ما، بادر الناس إلى دفعها، وإذا سقط رجل في الطريق تسابقوا يعاونونه على النهوض. والأمر قد يبدو هيّناً، فما قيمة دفع سيارة تعطلت أو معاونة رجل سقط على النهوض؟

     لكنّ الحقيقة هي أكبر من ذلك وأعظم، إنها تكمن في قيمة الروح الكريمة المتعاونة، التي تدفع إلى مثل هذين العملين، لأن جانب الخير فيها سيجعلها تقوم بهذين العملين وتقوم بسواهما كذلك، إذ إنّ فيها دافعاً أصيلاً ثابتاً من النبل والأريحية هو الحافز إلى مثل هذه التصرفات. وهذا عكس ما يجري في الغرب، فمن يقع لا يكاد يهتم به أحد، والناس غرباء بعضهم عن بعض، والشبان مسحوقون في وطأة الحياة القاسية، أما الكبار فهم مسحوقون من الإهمال، وهم بين منتحر، وآخر يُمضي أيامه في الملجأ.

     يقول شليفر: وهذا لا يحدث في الغرب، فإن من يسقط يُسحق تحت الأقدام. إن المجتمع الغربي هو مجتمع الغرباء، لا مكان فيه إلا للشباب الذين ما زال فيهم شيء، لتعتصره الحياة الجهنمية التي لا ترتوي أبداً، أما الكبار، فَيُلْقَوْنَ إلى الخلف أو إلى الملاجئ أو إلى الانتحار.

     وبعد؛.. فنحن إذ نرحب بالأخ المهتدي سليمان عبد الله شليفر، أخاً كريماً، في أسرة الإسلام العالمية، لا يفوتنا أن نقول:

     إنّ كلماته وثيقة اتهام وإدانة للحضارة الغربية بقسميها، الرأسمالي والشيوعي على السواء، كما لا يفوتنا أن نهيب بالمسلمين أن ينشطوا في تبليغ دعوة الإسلام وإيصالها للحيارى والضائعين ممن يزدحم بهم العالم اليوم، وفيهم من يحسن الاستماع إلى كلمة الحق، ويؤمن بها مثل سليمان عبد الله شليفر.
*****

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة