السبت، 21 مايو 2022

كتاب عمر أبو ريشة عاشق المجد - شعره الإسلامي

شعره الإسلامي

أحبَّ الإسلام، وقال فيه أروع القصائد.

     نشأ عمر في بيئة توقر الدين وتعليه، وتعتز بالإسلام وما يتصل به اعتزاراً كبيراً، لذلك احتل الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم والتاريخ الإسلامي وأبطاله العظام مكانة عظيمة في نفسه، وقد عمق هذا التوجه عنده النشأة الصوفية الأولى التي عاشها في عكا في رحاب أخواله حيث كان يستمع ويشارك بلذة عظيمة في الأناشيد التي كانوا يرددونها في مجالسهم، وقد سكنت هذه الأناشيد سويداء قلبه لذلك وجدناه يتحدث عنها بشغف وسرور بالغين، وهو في أواخر عمره مع امتداد الزمان، وتطاول العهد واختلاف الظروف.

     وهكذا يصح القول: إن عمر نشأ على ولاء طيب للإسلام كان يزيد مرة ويضعف أخرى لكنه يظل ثابتاً. ويلاحظ أنه خلال دراسته في بريطانيا «1929 - 1932م» كتب مقالاً مشكوراً يدافع فيه عن الإسلام. لقد كان شاباً في مقتبل شبابه مشغولاً بدراسته من ناحية ومشغولاً بالحب والجمال من ناحية أخرى، ومع ذلك لم ينس ولاءه لدينه وغيرته عليه.

     كما يلاحظ أيضاً أن توجه عمر الديني ازداد في أواخر عمره، ولا غرابة في ذلك، فالإنسان مع السن والنضج والإحساس بالاقتراب من الموت يصحح من حياته بما يجعله أكثر التزاماً بدينه الذي آمن به وأحبه. ولقد كان في مقامه في جدة قريباً من الديار المقدسة مؤدياً للحج والعمرة بين الحين والآخر مشاركاً في الاحتفالات السنوية الكبيرة التي جرت العادة على إقامتها كل عام لوفود الحج ما زاد من التزامه هذا وعمقه، وأذكر أني رأيته مرة يسعى هو وزوجته الكريمة بين الصفا والمروة، وهو في سعيه يدعو وينظر ويتأمل ويختزن، فدنوت منه وسلمت عليه، وسألته عن ملحمته الموعودة عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فابتسم ووعد خيراً.

     كانت ثقافته الإسلامية أقل بكثير من حبه للإسلام، وكان في حواره مع نازك باسيلا في مجلة الأسبوع العربي الذي امتد عشر حلقات روى فيها كثيراً من ذكرياته، ما لا يقبله الإسلام في قليل أو كثير، كحديثه عن التقمص والحلول، وتفسيره لما سماه التطهر الروحي الذي يمكن الوصول إليه من خلال التأمل في التماثيل التي تصور مشاهد جنسية فاضحة، رآها في بعض المعابد الهندية إبان سفارته هناك، والمسافة كبيرة بين هذا الكلام الخاطىء المردود وبين ذلك الولاء القديم المحمود.

     أما التزام عمر السلوكي فكان فيه مثل بقية الشعراء المتساهلين، كان بشراً من البشر، وشاعراً من الشعراء، ففيه ضعف البشر العام، وفيه ضعف الشعراء الخاص، كان فيه الذي له وكان فيه الذي عليه، ولقد أنصف من نفسه إنصافاً يحمد له حين قال في مقابلته لنازك باسيلا: أنا في ظلال الله، دائماً في ظلاله، يخيل إلي أحياناً أني حدت عن طريق الله كلما تراكمت على نفسي الخطايا، أنا أحيا على كل حال في رحاب نفس نقية صافية مشبعة بالإيمان، ومثل كل بشر أضعف أحياناً مع أهواء الجسد. كما يحمد له أنه حين سئل عن الإيمان في المقابلة نفسها أجاب: أقول إنه الأقوى، يخيل إلي أنني أتغلب على كل شيء، وحده الإيمان يغلبني.

     وقد شمل هذا الإيمان العميق عمر بسكينة عميقة تغشته وملأته باليقين والصبر والرضا والنظر إلى الدار الآخرة، ولذلك أكد غير مرة أنه لم يعد يخاف الموت، وأكد أيضاً أنه كان كثيراً ما يذهب إلى المقابر يتخلص في جوها من همومه وغمومه.

     ويحسن هنا أن نورد ما قال عمر لنازك في هذا المجال، ففيه طرافة بالغة، وفيه أكثر من دلالة: نظرتي إلى القبور تنبع من نظرتي إلى الموت، الروح لا تفنى، لا تموت، الموت راحة الأجساد لا أكثر ولا أقل. ذكرت سابقاً أنني لا أخاف الموت. وأضيف الآن أنني لا أخاف القبور. أرى أنها لون من ألوان الراحة. كنت وأنا في حلب، أحمل كل ما ينتابني من هم لألقي به بين القبور. هناك، وبطريقة محسوسة كلياً يتجسد في نظري «أن كل شيء في الأرض باطل»، فلطالما ارتاحت نفسي إلى سكينة منازل الأموات، كلما أعياها الضجيج المنبعث من منازل الأحياء.

     تعودت الذهاب إلى القبور للترويح عن النفس، كما يذهب الناس لهذه الغاية إلى المقاهي ودور السينما. وكانت زوجتي ترافقني أحياناً رغم خوفها المكتوم، إلى هذه الخلوات التي طالما خيل إلي أنها نوع من الهروب إلى العالم الآخر. أجلس صامتاً لا أتكلم، وتجلس منيرة قربي تشاركني الصمت الطويل. أظن أنها كانت طوال هذه الجلسات تحاول التغلب على مشاعر الخوف. منذ زمن غير بعيد، اعترفت لي بحقيقة ما كان ينتابها يومئذ.

     عبثاً كان الأصدقاء يحاولون العثور علي، وأنا سابح في تلك الخلوات المشبعة بالصفاء. كنت أشعر بأنني في معزل عن كل ما يبلغ إليه البشر بدافع الفضول، حتى قدر لي ذات ليلة أن أقع في شرك الصدفة. لا أنسى ما حييت تلك الليلة المظلمة التي ذهبت فيها برفقة منيرة إلى مقابر الأنصاري الواقعة على طريق وعرة خارج حلب. جلسنا صامتين كالعادة ساعة، ساعتين أو أكثر، الوقت ينزلق عني، يتناثر حولي، لا أشعر به، لا أتحسسه على الإطلاق، أسترسل في شرود يشبه الذهول. وإذا بأضواء كشافة تسلط علينا، وتصحبها أصوات تنادي وتصرخ، وأخرى تصدر الأوامر. فانتفضنا واقفين، وكان رجال الشرطة قد أحاطوا بنا، كدنا نتعرض لنيران مسدساتهم، لو لم يلطف الله سبحانه وتعالى فيتعرف إلينا بعضهم. كان بإمكانهم أن يقتادونا مخفورين إلى التحقيق وربما إلى السجن، وسرعان ما اتضح لي أن هؤلاء الرجال يراقبون المنطقة، بإيعاز من رجال الجمارك الذين نصبوا هناك كميناً لشاحنة تحمل السجائر المهربة.

     ما زلت أشعر بأن المقابر، دون سواها تسري عني، تريحني كلما أرهقتني أثقال الحياة، أما مقبرة الأنصاري فلها عندي مكانة هامة. فيها ضريحا سعدالله الجابري وإبراهيم هنانو، وغيرهما من ذوي الطينة الخيرة المجبولة بماء الزهر ودماء الرجولة.
❊❊❊

     وأول ما ينبغي الإشارة إليه والإشادة به من شعر عمر الإسلامي أربع مطولات، هي «خالد» و«محمد» و«من ناداني» و«أنا في مكة». والأولى والثانية ترجعان إلى أيام شبابه، والثالثة والرابعة ترجعان إلى أيام كهولته ونضجه.

     ولنبدأ بالحديث عن المطولتين الأولى التي ترجع إلى عام 1938م ومطلعها:

لا تنامي يا راويات الزمان     فهو لولاك موجة من دخان

     والثانية التي ترجع إلى عام 1941م ومطلعها:

أيُّ نجوى مخضلة النعماء     رددتها حنـ،اجر الصحراء

     ويلاحظ أن الثانية منها حظيت بشهرة خاصة لأنه أنشدها كثيراً في المحافل الكبيرة، ولأنه أكد عدة مرات أنها جزء من ملحمة طويلة عن النبي صلى الله عليه وسلم أو مقدمة لها.

     وفي المطولتين أكثر من وشيجة تربطهما بشعر الملاحم لذلك اتسع الحديث عنهما هناك وطال، ولكن لابد من وقفة وجيزة إزاءهما لأنهما علامتان متميزتان في شعر عمر الإسلامي.

     في المطولة الأولى تصوير لسيرة الفاتح المسلم الشهير خالد بن الوليد، وما كان منه في معركة أحد قبل إسلامه من بلاء سبب الهزيمة للمسلمين، وما كان منه من جهاد مشكور بعد إسلامه في حياة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وفي حياة الخليفتين أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب، وهو جهاد نادر المثال كتب الله عز وجل له فيه انتصارات باهرة جعلته أحدوثة عصره، وأحدوثة كل عصر بعده.

     وفي الثانية تصوير لفجر الرسالة، وفرح الكون بها، وتأريخ غير سردي لحياة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم منذ مولده حتى وفاته، وتصوير لحركة الفتح الإسلامي التي تملأ الأرض عدلاً وهداية، وأملاً في أن تعود الأمة إلى سالف مجدها الذي بناه لها صاحب الرسالة العظيم.

     أما مطولتا عمر الثالثة «من ناداني» والرابعة «أنا في مكة» فهما من شعره الإسلامي في مرحلة كهولته ونضجه.

     تبدأ المطولة الثالثة التي تقع في ثلاثة وستين بيتاً بهذا المطلع:

رد لي ما استرد مني زماني     فأراني ما الحــلم كان أراني

     ثم تمضي في تصوير سعادة الشاعر الذي يجد نفسه في الرحاب الطاهرة حاجاً داعياً يجدد إيمانه ويرقب جموع الحجاج القادمة من كل مكان، ثم تبدأ باسترجاع ذكريات التاريخ من ولادة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وفرح ذويه به، وبشارة بحيرا، وبدء الوحي في حراء، والصراع بين الإسلام والوثنية، وفتح مكة المكرمة، وحجة الوداع، ووفاة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وحركة الفتح الإسلامي.

     يعود الشاعر بعد ذلك إلى مناجاة ربه عز وجل طالباً منه الرحمة والمغفرة لما فيه من أخطاء وتقصير، ثم ينتقل إلى تصوير حالة الأمة بعد أن هجرت دينها، وأخذت تخبط في التيه والجاهلية.

     وتنتهي أخيراً بمقطع من سبعة أبيات يوجهه الشاعر إلى الملك فيصل بن عبدالعزيز طالباً منه أن يهب لنجدة الأمة التي علقت آمالها عليه.

     وبهذا تشبه المطولة أختها التالية فلا حاجة لا ستقصائها بالتفصيل الذي ستحظى به هذه الأخت للتماثل الذي يكاد يصل حد التطابق أحياناً.

     والفرق بين المطولتين أن الرابعة بنيت على مقاطع يتلو بعضها بعضاً خلافاً للثالثة، هذا من حيث البناء الشعري. وهناك فرق آخر من حيث زمان كل منهما،. إن الفرق الزماني بينهما قليل لكنه مهم، فالمطولة الثالثة تعود إلى مناخ المرارة الذي كان سائداً بعد هزيمة 1967م، فقد قيلت عام 1972م والجرح لايزال غائراً، فكان حجم المرارة فيها أشد، أما المطولة الرابعة فقد قيلت بعد انتصار عام 1973م فكان حجم الأمل فيها أكبر.

     ويلاحظ أن المطولتين تنتهيان بخطاب الشاعر للملك فيصل، ومرد ذلك إلى أنه ألقاهما بين يديه في احتفال كبير، وإلى أن الملك مثل أحلام الشاعر وآماله حيث وجده الفارس المنشود لقيادة الأمة وريادتها.

     أما مطولة عمر الرابعة «أنا في مكة» فهي كما سبق القول من شعره الإسلامي في مرحلة كهولته ونضجه وتقع في مئة بيت وبيتين، وتتكون من ثلاثة عشر مقطعاً يركز الشاعر في كل واحد منها عدسته على مشهد متكامل، وتستحق وقفة طويلة.

     يبدأ المقطع الأول وتبدأ به القصيدة بمناجاة مكة المكرمة التي يجد الشاعر نفسه في رحابها مبتهلاً تائباً سعيداً بنفحات الإيمان:

لم تـــزالي على ممرّ الليـــالي     موئل الحق يا عروس الرمـال
أنا في خدرك الوضيء التفـاتا     ت ذهول وهيـــنمات ابتـــهال
طالعتني فيه الحيـــــاة بأسـنى     ما تجر الحيــــاة من أذيــــــال
فتلمّســـت في خشــوع مكـاني     ثم شيعــــت في هداه ضــلالي

     ثم تتوالى تسعة مقاطع، كل مقطع يبدأ بهذه الكلمات الثلاث «أنا في مكة» لتكون كأنها اللازمة الثابتة المتكررة على الأذن بالسماع، وعلى العين بالنظر، والمنطلق الذي تبحر منه عدسة الشاعر عبر القرون ليقدم لنا المشهد الذي يريد. والمشهد الذي يقدمه لنا المقطع الثاني هو نشأة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم يتيماً في ظروف صعبة:

أنا في مكة وتمضي رؤاي القهقرى في مواكب الأجيال
ما أرى إنه لربــع بن عبد الله، ربع الإعســـار والإقلال
عـــاد يأوي إليه ما أَوْجَعها! .. عودة اليتــــيم الغـــــالي

     ثم يمضي المشهد فنرى آمنة بنت وهب، وأبا طالب بن عبدالمطلب، وينتهي مع بحيرا وهو ينشر البشرى بنبوة اليتيم الكريم.

     المقطع الثالث يقدم لنا حكاية الحجر الأسود والفتنة التي كادت تنشب بين زعماء قريش لولا أن أطفأها محمد صلى الله عليه وسلم بحكمته:

أنــا في مكة وأسمع في الكعبة ضوضــــاء سادة أقيـــال
إنهم غاضبون والحجر الأســود ما بينهم قريب المنـــال

     وحين تحل المشكلة ينظر الجميع إلى محمد صلى الله عليه وسلم بالإكبار والإعجاب:

وحنـــوا للأمين زين الميامين رؤوس الإكبار والإجلال

     المقطع الرابع يصور لنا غار حراء، ونزول الوحي الأمين، وبدء النبوة المطهرة:

أنـــا في مكة وغار حراء كوكب في جبيــنها متـــــلالي
همسة في سماع أحمد قرت وهو ذاك الأمي ذاك المثالي
فــــإذا مشعل النبـــوة ما بين يديه ينيــــــر دهم الليـــالي

     في المقطع الخامس نلقى أنفسنا في دار أبي سفيان، وملأ قريش يأتمرون بالنبي الكريم صلى الله عليه وسلم، يريدون منعه من الهجرة وقتله:

أنـــا في مكة ودار أبي سفيــــان حبلى بالطغمة الجهــال

     لكنهم يخيبون وتكون الهجرة، ويطل على يثرب فجر السعادة، إذ تكون دار الإسلام الأولى:

وأفـــاقت على صبـــاح جديد ملء آفــــاقه أذان بـــــلال

     في المقطع السادس ترجع عدسة الشاعر إلى الوراء، ترجع خطوة إلى ما قبل الهجرة حيث الصراع على أشده بين الإسلام والوثنية، وهو صراع يشفق فيه أبو طالب على نفسه وعشيرته من أذى قريش فيسر للنبي صلى الله عليه وسلم بذلك فتكون إجابته الربانية العظيمة: «والله ياعم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه»:

أنــا في مكة وأحمد يبــــدو مثقــــل الخطـــو بالهـــموم الثقــــــــال
وأبـو طــــالب إلى جنـــــبه يســعى وفيــــه ما فيــــه من بلبــــــال
قـــال: أين انتهيت يا ابن أخي ال أغلى فخوفي عليك فوق احتمالي
قـــال: يا عــــم لست أطمع في صــــولة مُلكٍ ولا غوايـــــة مــــال
لو أقاموا شمس الضحى في يميني وأصاروا بدر الدجى في شمالي
لن يروني أطوي رســــالة ربي فامض ياعم وارو فحوى مقــــالي

     في المقطع السابع نجد أنفسنا يوم الفتح، فتح مكة المكرمة، وقريش غاضبة إذ ترى أصنامها محطمة:

أنـا في مكة وحقد قريش في اصطخاب وشملهم في انحلال
تلك أربــــابهم مبعثــرة الأشـــلاء؛ منثـــورة على الأطلال
وحماة الإسلام في الكعبة السمحة؛ شم الأنوف بيض الفعال

     والنبي الكريم صلى الله عليه وسلم يعالج الغضب بالتسامح ويأسو الجراح بالحب:

أحمد يكره الجراح وإن سا لت؛ بأدران كل داء عضال
جبلة الحب قلبه كل نبض فيه تسبيـــــح مكرمات غوال

     أما المقطع الثامن فيصور لنا حجة الوداع، وحزن المؤمنين وهم يحسون من خطبة نبيهم الكريم أنه الوداع، وأن الموت غاية كل حي، وأن البقاء للرسالة فقط:

أنا في مكة ورايات دين ال له؛ ملء الربى وملء الجبـــال
والمصلون مطرقون على ره بة؛ هجس مفجـــع الإعـوال
كلمات الوداع فجرها أحمد؛ بين أجفـــــــانهم دموع ابتهال
قاربت شمس عمره شفق العمر؛ ومالت وذيلها في اشتعال
كل حي إلى الزوال وتبـــقى آية الله فــوق طــــوق الزوال

     المقطع التاسع ينقل لنا مشاهد الفتوحات التي خرجت تنشر النور بين الناس:

أنــــا في مكة وتلك سرايا الفتــح فيها في زهوة واختيـــال
عقدت بالشموس هدب أمانيها؛ وسارت على رقاب الليالي
ومنــــار القرآن يهدي خطاها في الدياجي لصالح الأعمال

     في المقطع العاشر يضعنا الشاعر أمام صورة مناقضة لما جاء في المشهد التاسع حيث نجد الضعف يغشى الأمة، فتتقطع الأوصال، ويشيع الضلال، ويرضى الناس بالذل، وتعلو لليهود راية:

أنا في مكة وتنفضُّ رؤيا ي؛ وأصحو على عجيـــب المآل
وأرى ملكها المديد على الأرض؛ بديـداً مقطع الأوصـــال
بعضه هاجع على بدع الكفر؛ وبعض بالضيم غير مبـــال
أين إســــــلامهم ونجمة إسرائيل؛ فيه تدوس خدَّ الهــــلال

     في المقطع الحادي عشر يعود الشاعر لمناجاة مكة المكرمة التي سعد بها:

يا عروس الرمال طاب على نجواك؛ عمري وكل ما بي صفا لي
جئتـــك اليوم نافضـــــاً عن إهابي ما ترامى عـليـــه من أوحـــال
فـــأراني أهلاً لحبــــك لا طرْ فيَ؛ مغض ولا فـــؤادك ســـــــالي

     ثم ينتقل من السعادة الخاصة إلى السعادة العامة، فيصور لها فرح الأمة بانتصارها على اليهود في تشرين من عام 1973م انتصاراً محا عنها حزن هزيمتها في حزيران من عام 1967م:

فض تشرين ما أقام حزيرا ن؛ على دربنا من العـذال
أنا يا مكتي رجعت إلى مع ناك؛ حراً وبالجبين العالي
غضبة الكبرياء والعزة الشماء كانت كريمة الأهـوال
قد شفت مارد العروبة مما حز فيه من القيود الثقـــال

     ويعود الشاعر في المقطع الثاني عشر ليمجد المارد الذي خرج من رحم الأمة يجلو عنها عارها وشنارها، ويستعذب الموت من أجل غايته:

عاد من غيهب النوى ذلك المـــارد، والمجد طيع ومـــــوال
علمتــــه آلامه حرفــــة الموت، وفـــن الإيــــــلام والإذلال
حمل الحقد مارجاً في المهاوي وجلا الثأر نيزكاً في الأعالي
وروى بالدمــــا ثرى طبريا وبنى بالضلوع جسر القنــــــال

     أما المقطع الثالث عشر والأخير فيتجه فيه الشاعر إلى الملك فيصل بن عبد العزيز الذي كان يسمع منه القصيدة حين ألقاها في مهرجان كبير كان هو راعيه، وهو أطول مقاطع المطولة، إذ يتكون من ثلاثة عشر بيتاً. والأبيات كلها نداء حار يوجهه الشاعر إلى الملك الذي أحبه، والذي مثل في خلده صورة الفارس الذي طالما شغف به ومجده وغنى له، وبحث عنه طويلاً في عصرنا الحاضر فوجده فيه، لذلك يحمله مسؤولية قيادة الأمة لإخراجها من نكبتها وصناعة نصر جديد لها يشبه النصر الذي رفع رأسها في رمضان 1393هـ تشرين 1973م، والذي كان الملك أبرز صانعيه.

     ينادي الشاعر الملك الذي عرف بالحلم والأناة وقلة الكلام وإيثار العمل الصامت:

يا ابن عبد العزيز يا لنــــداء في مداه نــــاديت كل الرجــــــال
طـــال حــــلم الحليــــم طال على كيد العوادي تمرد الأنــــذال
عشت في صمتك المدل على الحرف، غريباً عن كل قيل وقال

     يناديه ليقول له: إنه على موعد مع التاريخ، موعد نادر يتيم المثال، لاخيار له فيه، موعد ينتظر واحدة من المفاجآت التي عرف بها، وهو بذلك جدير لأنه أهل للتحدي:

شئــت أم لم تشأ فأنت مع التاريخ؛ في موعد يتيم المثـــال
الفجاءات في مجالك في الساح؛ وفي راحتيك سر المجال
أنت رنحـت بالعبــــاءة عطفيه؛ وعصَّبت رأسه بعقـــــال
لم تهـــادن ولم تزل تتحدى كل بـــــاغ أو غادر ختــــــال

     وينتهي المقطع وتنتهي معه المطولة بهذا البيت الذي يطالب الشاعر فيه الملك بإنقاذ القدس والصلاة فيها، وهو الحلم النبيل الذي ملك عليه أقطار نفسه:

سر بنا صوبه وصلِّ بنا في القدس واضرب حرامه بالحلال

     والحقيقة أن مطولة الشاعر «أنا في مكة» من أجمل شعره الإسلامي، وقد أضفى عليها تعدد المقاطع والمشاهد جمالاً وحيوية دفعت عنها الرتابة والملل، مثلها مثل (الكاميرا) التي تنتقل بين المناظر المختلفة لتقدم لك الممتع الشائق، على أن هذا التنوع لم يفقد المطولة وحدتها واسترسالها، لقد بدأت بمناجاة مكة المكرمة، وتصوير سعادة الشاعر الذي يجدد إيمانه فيها، ثم توالت لتعرض علينا ظهور النبوة المشرفة وحياة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ودعوته وجهاده حتى وفاته، ثم صورت لنا حركة الفتوح الأولى، وأعقبت ذلك بالضعف الذي آلت إليه الأمة، ثم عادت للحديث عن المناخ الذي كان سائداً يوم ألقاها صاحبها، وهو مناخ فيه مرارة موجعة من هزيمة حزيران 1967م، ونشوة غامرة من انتصار تشرين 1973م، ومن بين المرارة والنشوة تنطلق صيحات الإعجاب بالمارد العربي المسلم الذي صنع ما صنع، ومن بينهما أيضاً يركز الشاعر في ختام مطولته على الملك الذي رآه جديراً بأن يكون فارس المرحلة وقائدها، ويركز بالذات على أمنيته الشهيرة وهي أن يصلي في القدس المحررة، فيكون ختاماً مؤدياً موفقاً.
❊❊❊

     ومن طريف الشعر الإسلامي عند عمر أننا نجده يقدم البعثة النبوية الشريفة في صورة أمنية عذراء اشتاق لها الكون وارتقبها، فلما شرفت بها مكة المكرمة كان عرس الكون وعرس الدعوة:

مرت طيوفاً على الدنيا فما غمست
               فيها جنــــاحاً ولا جرت بها قـــدما
حتى إذا طالعتـــها مكة اختــــلجت
               شوقاً وســــالت على أجوائها نعـما
فـــلاح أحمد في أعراس دعوتــــه
               يسـلسل الوحي إن صمتاً وإن كلما
ويسحب المرود الأسنى على مقـل
               ما زادها النـــور إلا ضِــلَّة وعمى
هنـــاءة شقيت هوج النفوس بهــــا
               فعربدت صلفاً واستــكبرت شــمما

     سعد الكون كله بالدعوة الجديدة، وسعد بها الناس، لكن الذين يصرون على الضلال يشقون بها ويستكبرون ويعادونها، فتقوم المعركة بين الحق والباطل، وينادي الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بالجهاد، فتكون الاستجابة التي تحطم الأصنام، وتصنع النصر وتنشر النور، ويقبل فرسان العرب وسادتهم مؤمنين مبايعين:

فأرسل الصرخة الزهراء فانطلقت
               كتــــائب الله ترعى البيت والحرما
فما هوى صــــارم إلا رمى عنقــاً
               ولا هوى معــــول إلا رمى صنما
ولا بــدت ســـدة إلا تســـــــنّمهــا
               مؤذن لم يـــدع في مسمع صــمما
فتــــاب من لم يكن بالله معتقـــــداً
               وثــــاب من لم يكن بالله معتصـما
فأقبــــلت سروات العـرب خاشعة
               تجـــلو بإيمانها عن دينــــها التهما

     ثم يكون الفتح المبارك الذي يحمل الدعوة الجديدة إلى العالمين:

والفتـــح يغــــمزها حتى إذا وثبـــت
               لم تبق في الشرك لا عرباً ولا عجما
فـــرف في كل مجلى للهدى عـــــلم
               يظل في كل مجــــلى للفــــدا علمــا
فــازينت بالبنـــــاة الزهر مملكة الـ
               ـعــــدل ما شادها والحق ما دعمـــا

     تصوير حي للبعثة النبوية الشريفة يفيض بالاعتزاز بها وبصاحبها عليه الصلاة والسلام هداية ونوراً وجهاداً وفتوحات، يجعل الأبيات من جوهر الشعر الإسلامي وخالصه.
❊❊❊

     وقد ظلت صورة الفارس العربي الذي أنجبته الصحراء ودفعته للدنيا بطلاً يتشح بالمروءة والنبل والإباء، ثم جاء الإسلام فإذا به يؤمن به أعمق الإيمان وينطلق من أجله مجاهداً يفتح القلوب قبل البلدان، تأسر عمر، وتستبد به، وتملك عليه أقطار نفسه، فمجدها كثيراً، وصورها كثيراً، وبحث عمن يتمثلها الآن ليخرج الأمة من عارها وعجزها، ويعيد لها مكانتها اللائقة بها أمة رسالة وغلبة، وفي شعره الكثير مما يتصل بهذا المعنى ويعبر عنه.

     في قصيدته «هذه أمتي» وهي قصيدة وطنية مجلجلة نجده يتذكر سيف الدولة الحمداني أمير حلب في زمانه، وقد مثل صورة الفارس العربي المسلم الذي أفنى عمره يجاهد الروم، ويذب عن ثغور المسلمين الذين ينظرون إليه بإكبار، ويرددون أناشيد الفخار التي قالها فيه أبو الطيب المتنبي، فيقدمه لنا في هذا المشهد الحي بطلاً مجاهداً شجاعاً يجمع غبار الحروب ليجعل منها وسادة له في قبره تشهد له عند الله عز وجل:

تــلك فتيانها أبـــاح لها المجد؛ ركوب الخطــوب في ميدانه
وأبو الطيـــب التفـــاتة إدلال؛ إلى الصيـد من بني حمــدانه
يخـــلع المجـــد زأرة وهديلاً من مزامير زهــوه وافتتـــانه
وعلى السرج سيف دولته الندب؛ يموج الجهاد في طيلسانه
وغبـــار الحروب تجبله الأيدي؛ وســــاداً يلف في أكفـــانه
هكذا العليـــة الرجـــال فلا صَفق؛ في موطن فؤاد جبــــانه

     ويطوي الشاعر القرون القهقرى، إذ يتذكر بسيف الدولة سلفه العظيم، الفاتح العربي الأول الذي بنى للأمة مجدها أيام الفتوح الأولى حاملاً رسالة القرآن الكريم للناس:

ما انتـهى إرثنا الرفيع ولا سلْ لَت؛ طيوف النبي من قرآنه
يــــا لذكرى تلفت المجـــد ما بين؛ يديها إلى ربيـــع زمانه
يوم هز البَـــدْوي معوله الصــلْدَ؛ وأهوى به على أوثـــانه
والمروءات وهج جبهته السمراء؛ والأمنيات فيض بنــانه
فتهـــاوت على عباءته الدنيا؛ ورفت على صهيل حصـانه
فإذا الشـــرق للعروبة طود تتشظى النجوم فوق رعـــــانه
كل صرح للحق في الأرض باق نحتته العلياء من صوانه

     وفي حرقة محزنة ينظر عمر إلى حال الأمة اليوم، فلا يجد لها من مجدها القديم شيئاً، ويحزن أشد الحزن، إذ ينظر فلا يرى في ساحتها أولئك الفرسان الأبطال بخيولهم وراياتهم وانتصاراتهم يصنعون لها مجدها كما كان يفعل أسلافهم، فيقول في أواخر قصيدته في المتنبي «شاعر وشاعر»:

أين ملك في ظله ترقص النعمى، وتشدو شبـــابة العلياء
أين لمع المنى وحمحمة الخيل، ووهج القنا وخفق اللواء

     وإذ يجد تساؤله الحزين يعود بالخيبة يدركه حزن مقيم، فيعتذر للمتنبي عن ذلك في هذين البيتين اللذين جعلهما ختام قصيدته:

فاعذرَنْ إن سرَتْ خلال نشيـــدي بحة من تفجع وعنـــــاء
كيف أهدي إليك بيض الأغاني وجراح الأيام خلف ردائي

     والحقيقة أن حديث عمر عن الفتح وما يتصل به من بطولة وفروسية ونجدة ووفاء، وعن ارتباط هذا الفتح بالإسلام الذي وهب الفاتحين هويتهم ورسالتهم ووهبوه ولاءهم وحياتهم، حديث كثير يشيع في شعره شيوعاً واسعاً منه هذا النموذج الذي اخترناه له من قصيدته «هذه أمتي»، وهو نموذج بديع من نماذج الشعر الإسلامي عنده وعند سواه.

     وإذا كنا نجد في وطنيات عمر أقباساً من الشعر الإسلامي، فإننا نجد في إسلامياته أقباساً من الشعر الوطني، ولا غرابة في ذلك، فالدين والوطنية يتداخلان ويتواصلان، والدين هو الذي منح الوطن مجده، والوطن هو الأرض التي بنى فيها الدين دولته، لقد قال عمر وصدق فيما قال:

أي فلسطين ما العروبة لولا     قبس من سنـــا النبوة هــــاد

     والأمثلة كثيرة في شعر عمر على هذا التداخل والتواصل.

     في قصيدته «هكذا» التي يصور فيها سفاهة مترف عربي أنفق على عشيقته الأجنبية مبلغاً كبيراً من المال في ليلة واحدة، يضعنا في البيت الأخير أمام هذه المفارقة الساخرة:

هكذا تقتـحم القدس على     غاصبيها هكذا تسترجع

     إن القصيدة من لب الشعر الوطني وجوهره، وهي إذ تصور حكاية السفيه المترف الذي يخالف كل ما يدعوه إليه وطنه تنتهي نهاية ذات طابع إسلامي واضح، فما عمله السفيه لن يؤدي بحال إلى تحرير القدس من غاصبيها، والقدس عند الشاعر قضية إسلامية قبل كل شيء.

     وجلاء الاستعمار الفرنسي عن سورية عمل وطني مجده الشاعر في قصيدته الذائعة «عرس المجد»، والوطن الذي تحرر جدير بكل تمجيد لأنه جزء من الأرض المباركة التي أشرقت فيها أنوار الهداية، وانطلقت مواكب الفاتحين:

من هنا شق الهدى أكمامه وتهادى موكباً في موكب
وأتى الدنيـا فرفت طرباً وانتشت من عبقه المنسكب
وتغنـت بالمروءات التي عرفتها في فتـــاها العربي
أصيد ضــــاقت به صحراؤه فأعـــدته لأفق أرحب
هب للفتح فأدمى تحته حــــافر المهر جبين الكوكب

     والبطل السوري سعيد العاص حين يهب للجهاد في فلسطين ويستشهد فيها، إنما يحمله على ذلك حب للدين وحب للوطن على السواء، لذلك يبصر ساعة استشهاده كتائب الفتح الأول التي حررتها من الرومان، ومنحتها هويتها الإسلامية. ويبصر بالذات كلاً من الفاتحين العظيمين خالد بن الوليد وأبي عبيدة بن الجراح، وهما من أبطال تلك الكتائب في فلسطين عامة وفي اليرموك خاصة، ويسمع هتاف الأجيال تدعو للجهاد، ويبصر المناديل التي احمرت من دماء الشهداء تلوح وتنادي، فينطلق كالعاصفة حتى يفوز بالشهادة:

وكـــأني أراك في زحــمة الهــــو     ل؛ على ســرج ضـــــامر طواح
وأخوك الجسور في القــــمم السو     د؛ مطل على الروابي الـفســــاح
لوحت كفه بمنــــديـله الأحـــــــــ     ـمر؛ شوقـــاً إلى اللقـــاء المتــاح
فحسبـــت الأجيــال تهتف يا خــا     لــد؛ جـــاهد في فيـــــلق الجراح
فتــرنحت واندفعــــت وهيــــــها     ت؛ يليــن الجواد بعد جـمـــــــاح
واقتحمت اللظى فكنت مع الصيـ     ـد، فراشـــاً على فـم المصبـــــاح

     والأبيات مشهد متكامل تشيع فيه الروح الإسلامية والروح الوطنية، وتعبقان في انسجام وتلاحم، وتمجدان الفروسية التي انتظمت صفات النبل والمروءة والبطولة والوفاء والإقدام، وهي الصفات التي يحتاجها كل غيور على دينه ووطنه، فهي ذخره وزاده، وكما كانت أخلاق الفرسان وراء بطولات الفاتح بالأمس فإنها وراء بطولات المجاهد اليوم.
❊❊❊

     ويفيض شعر عمر بالبكاء على الأمة والحزن عليها فيأسى أشد الأسى لما آلت إليه أحوالها بعد أن هجرت الإسلام، يقول في مطولته الثالثة:

أنـــا يا رب من بقايا سيوف ثلمتها مضــــارب الحدثـــان
أنـــا من أمة تجوس حمــــاها جاهليـــــاتها بلا استئـــذان
أسقطت مشعل النــــبوة في الليل؛ وأرخت للتيه كل عنان
لو مشت في سنا هداه لكانَ النجْـــمُ في ركبها من الندمان
مزقت شملها شعــــائر شتى وقيــــــادات طغمة عبـــدان
تلك أوثـــانها تعــــود ولكن ليس فيهــا بــــراءة الأوثــان
مرنتها على الهزيمة والجبن؛ وبعض الحياة بعض مران
فاستــكانت لا بارك الله في صب رِ ذليلٍ ولا بكاء جبــان

     لقد هجرت الأمة الإسلام الذي به عزت وسادت، فدفعت الثمن الباهظ لهذا الهجران، عصفت بها الحوادث، وجاست فيها الجاهليات، وسار الناس يضربون في التيه، مزقتهم الشعارات المتناقضة، وساد هم العبيد الأذلاء، وعادت الأوثان من جديد بسخفها وضلالها.

     وإذ استبد ذلك بالأمة كان لابد لها أن تهزم، وكان لابد لها أن تألف الجبن حتى مات فيها الشعور بالكرامة، وكان صبرها صبر الذليل الخانع لاصبر الحر الذي ينتظر الفرصة للثأر.

     وللأبيات قيمة فنية باهرة تليق بقيمتها الفكرية الغنية بالمضامين العالية.
❊❊❊

     ولما كانت العبادة في الإسلام ينبغي أن تترك آثارها الإيجابية على صاحبها من تطهر داخلي من أدران النفس يحرره من حبائل الشيطان، ومن عون خارجي يحرره من قيود الشح والأثرة فيساعد من يحتاجه من إخوانه المسلمين، فإن الشاعر يدرك هذه المعاني النبيلة فيتساءل عن نصيبه منها في مطولته الثالثة قائلاً:

أسأل النفس خاشعـــاً أترى طهرت بردي من لوثة الأدران
كم صلاةٍ صليـــت لم يتجاوز قدس آيــــاتها حدود لســـاني
كم صيـــامٍ عانيت جوعيَ فيه ونسيت الجيــاع من إخواني
كم رجمت الشيطان والقلب مني مرهق في حبائل الشيطان
ربِّ عفواً إن عشت ديني ألفا ظاً عجافاً ولم أعشه معــــاني

     والأبيات قطعة جميلة من الشعر الإسلامي الذي يواجه فيه الشاعر ذاته، ويستبطنها ويطلب منها أن تستشرف الآفاق الوضاء التي تليق بالمؤمن الحق حيث يكون عمله ترجمة صادقة لعبادته وظاهره صورة أمينة لباطنه.

     وهو إذ يلوم نفسه يندرج تحت ذلك المسمى الجميل «النفس اللوامة» الذي يشيع لدى المعنيين بأمور التزكية الروحية والأخلاقية، والنفس اللوامة منزلة محمودة عند المربين يصل إليها صاحبها بعد عناء ومكابدة في مواجهة النقائص وطلب الكمالات، فإذا تمكن منها طلبوا إليه أن يسعى إلى المنزلة الأعلى وهي منزلة «النفس المطمئنة». والأبيات تشي بروح إيمانية كريمة عند الشاعر، وتذكر بقصائد كثيرة مماثلة نجدها في شعر الخوارج، وشعر المتصوفة؛ تنحو هذا المنحى التربوي الإيجابي المحمود.

     وبعد:

     فلا يمكن أن يصنف عمر أبو ريشة في دائرة الشعراء الإسلاميين الذين جعلوا الإسلام همهم الأكبر في الحياة، ووظفوا شعرهم أو معظمه من أجله، كمحمد إقبال، ومحمد عاكف، وأحمد محرم، وعمر الأميري، ووليد الأعظمي، ويوسف العظم، ولكنه يمكن أن يصنف في دائرة أولئك الشعراء الذين كان الإسلام أحد همومهم وأخلصوا له وأحبوه كأحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، ومحمد عبدالمطلب، ومحمود حسن إسماعيل، وأنور العطار.

     ويحمد لعمر أنه كان في شعره الإسلامي صاحب عاطفة صادقة وصنعة فنية متقنة، واعتزاز بالغ، وأمل متجدد.

     ومما يحمد له أيضاً أن شعره خلا من الرموز الوثنية اليونانية تماماً، وخلا من الرموز الوثنية المسيحية إلا واحداً منها هو «الصلب» كان يطل على قلة.

     كما يحمد له أيضاً أنه لم يفتن بالمذاهب السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفنية والثقافية المعادية للإسلام، بل رفضها وعاداها وأدرك -كما قال مراراً- أنها جزء من مؤامرة عالمية كبرى ينبغي التصدي لها، ولا ريب أن روحه الإسلامية من أهم أسباب هذا الموقف المحمود إن لم يكن أهمها على الإطلاق.
❊❊❊

كتاب عمر أبو ريشة عاشق المجد - شعره الوطني

شعــره الوطـني

كان له في كل ميـدان قنبلة ..
وفي كل معركة غنيمة وانتصار.

     يحتلُّ الشعر الوطني في ديوان عمر حيزاً كبيراً، ويحتل عمر في سجل الشعر الوطني العربي الحديث مكاناً كبيراً، ولا غرابة في ذلك بل الغرابة في العكس.

     كان عمر ــ كما تكرر غير مرة ــ شاعراً جريئاً فيه إعجاب بدينه وأمته ووطنه وتاريخه، وفيه غيرة كبيرة على كل ما يمس ذلك، وكان معجباً بشخصية الفارس العربي مروءة ونجدة وبطولة، وكان يحاول أن يتمثل هذه الشخصية.

     كان فيه نزوع حاد إلى التمرد والحرية وكراهية للأغلال والقيود، وكانت جراح أمته جراحاً شخصية له، وشاعر من هذا النوع لا يمكن بحال أن يعيش لنفسه في ذاتية ضيقة مغلقة لا يعدوها بحال.

     فإذا أضفنا إلى ذلك أنه نشأ ووطنه الصغير سورية ووطنه العربي الكبير أيضاً تحت حكم الاستعمار وسيطرته، كان لابد لنا أن نظفر به شاعراً وطنياً ذائع الصيت عالي النبرة، وهذا الذي كان. والصفحة الوطنية في شعر عمر تقدمه لنا بحق شاعراً ذا رسالة وطنية أداها أحسن الأداء.

     يقول عمر: إن كلمة «وطنية» عنت دائماً بالنسبة لي أكثر من شعور، إنها مواقف سامية وأعمال كبيرة، حزنت لأحزان قومي وفرحت لأفراحهم إلى كل بلد من البلدان العربية انتموا، ولطالما رأيت في كلمة «وطنية» اللغة العربية وأعلامها، والأدباء الذين أحيوا هذه اللغة وجعلوها حية تخفق في القلوب والضمائر.

     ويقول أيضاً: يربطني بوطني حبي للأرض ورغبة جامحة في مبادلتها عطاء بعطاء، لم أشعر يوماً بأن أرض بلادي مجرد تراب وحجارة، بل طالما أحسست بأنها كائن حي ينبض بالحيــاة.

     وهذه الوطنية ذات الأبعاد العميقة تجعل عمر يقرر أن على الشعر أن يتحمل مسؤوليته فيقول: ليس ثمة ما يمنع الشعر من أن يتحمل المسؤوليات أو أن يحمل أنبل التصورات والعواطف، ولا حرج في أن يستغل تأثيره لبناء الإنسان، لبنــاء الوطن أو العائلة فيا لقدرته مندفعاً في هذه العطاءات والسبل!.

     فالوطنية عنده واسعة تشمل الأمة كلها، وتتجاوز الإقليميات الضيقة، وقد عمق فيه هذا الشعور إحساسه الحاد أنه صاحب رسالة لابد أن يؤديها. كيف لا..!؟ وهــو القائل: إن الأديب لا يمكنه أن يقف متفرجاً أو مكتوف اليدين حيال قضايا مصيرية تشهدها بلاده أو تضج بها الإنسانية جمعاء، فجراح بلدي هي أكبر ما حملت في نفسي من جراح، ولطالما خيل إلي أنني مسؤول في طليعة المسؤولين عن كل فساد، عن كل ظلم أو طغيان، عن أقل أذى يلحق بأصغر إنسان في آخر بقعة من الأرض.

     وازداد هذا الشعور حدة بسبب ما اطلع عليه عمر وهو السفير السياسي صاحب العلاقات الواسعة والمعرفة الكبيرة بخفايا السياسة من عنف الهجمة الصهيونية على العرب والمسلمين، وسعة مطامعها، وبعد تخطيطها وقسوتها ووحشيتها. قال عن الصهيونية: لقد تسللت إلى النخاع الشوكي والجملة العصبية في جسم البشرية، وهي تعمل فيها فتكاً وتخريباً خدمة لأهدافها البعيدة.

     وحين سئل ذات مرة عما يقلقه قال: يقلقني الخطر الصهيوني الحاقد، ولست أذكر أنني اعتليت منبراً بعد عودتي من بريطانيا عام ٢٣٩١م إلا وأشرت في كلامي إلى خطر الصهيونية وما تعده لأبناء الأمة العربية من دسائس ومؤامرات. ثم ازداد هذا الشعور حدة على حدة في أخريات عمره حين نظر فوجد الاستعمار قد زال، ولكنه وجد طغياناً أكبر يشيع ويذيع، وهو من القسوة بحيث لا يسمح له أن يقول بعض الذي كان يقوله بالأمس، فهتف بهذه الجملة الحزينة الرائعة التي تفيض حـــزناً ووطنية: كنا في الماضي البعيد نجرؤ على البوح حاملين الكلمة الحق إلى جانب الحديد والنار وفي مواجهتهما، أما اليوم فلا أجد مكاناً للكلمة بعد أن احتل الحديد والنار مساحة الوطن ومساحة الزمن.

     وأياً كان الأمر؛ فإن الشعر الوطني عند عمر شعر غزير الكمية، متنوع الجهات، متعدد الملامح، عالي النبرة، وهو يعبر عنه في قصائد خاصة تقال بمناسبة وطنية كما هو الشأن في نكبة فلسطين وعيد الجلاء، وربما عبر عنها من خلال إشادته بفدائي، أو رثائه لصديق، أو تمجيده لبطل، أو لومه لشعب أساء اختيار حكامه، أو حواره مع حسناء إسبانية تعتز بأصولها الأندلسية، أو سخريته من مترف سفيه يبعثر أمواله في الحرام، بل إن شعره الإسلامي لا يخلو من شعوره الوطني الذي يظل يلح عليه وهو ما نجده في قصائده الشهيرة «محمد» و«خالد» و«من ناداني» و«أنا في مكة» وأمثالها. ولا غرابة!.. فالدين والوطنية والعروبة عند عمر تتداخل وتتواصل، كيف لا..!؟ وهو القائل:

أي فلسطين ما العروبة لـولا     قبــس من سنـا النبــــوة هـاد

     وتتضافر شهادات الدارسين في الإشادة بوطنية عمر، فالدكتور سامي الدهان يقرر أنه بعد عودته من بريطانيا عام 1932م مال كل الميل إلى الشعر وحده ينظم لكل مفاجأة توحي إليه أو تهز كيانه، وكان أكثر ما يهزه موت الزعماء من قومه في السياسة والأدب، فيقف لرثائهم واحداً بعد واحد.

     وأما الأستاذ عبدالله يوركي حلاق فيقول: كانت سورية في ذلك الحين، تقارع الانتداب وتكافح المنتدبين ودعـــاة الاستعمار، وكان للشعر صوته المدوي، وتأثيره العظيم في إيقاظ الهمـم، وإلهاب المشاعر، ودفع الناس إلى المطالبة بالسيادة والاستقلال، وكان شعر عمر يعلو في كل مناسبة قومية، وفي كل حفلة وطنية، فتتلقفه الأسماع، وتحفظه الصدور، وتنشره الجماهير، وتتنافس في نشره كبرياتُ الصحفِ العربيةِ الروحُ والهدفُ.

     ويروي الأستاذ عبدالله بلخير وهو صديق قديم للشاعر أيضاً كيف التقى بعمر عام 1935م في منتديات جمعية العروة الوثقى في الجامعة الأمريكية في بيروت، فوجده شاباً أنيقاً في بداية تألقه وغشيانه المحافل يتجمع الشباب والشابات حوله، ويشارك في الشعر الوطني مع مجموعة من الشعراء تتأجج وطنية وعروبة وحداء للوحدة العربية، ويروي أيضاً أن الليالي التي كان يدعى فيها عمر لإلقاء شعره كان الزحام عليها منقطع النظير حيث يلهب الأكف بالتصفيق، والعواطف بالجيشان، والقلوب بالارتياح.

     ثم يصف الأستاذ عبدالله بلخير قصائد عمر الوطنية بأنها أهازيج وصواعق ورعود وبروق تدفقت كالبراكين على الشعوب العربية الجافة اليائسة، فألهبت عواطف أبنائها وهم يتلوَّوْن تحت نيران الاستعمار والصهيونية.

     كما يصفها بأنها هزت حالة الموات في الأمة العربية من محيطها إلى خليجها، وأشعلت نار الغضب فيها. ويصف صوت صاحبها بأنه «زئير شاعر جريح» يختلط بزئير سواه من الشعراء الذين شكلوا «سرب الصقور» من شعراء الوطنية، وأنه ظل على مدى خمسين عاماً وهو يهــز الأمة بشعره ويبارز شعراءها الأكفـاء وهم قـلة.

     ويتحدث الدكتور شاكر الفحام عن عمر فيقول عنه: شاعر عبقري من شعراء العرب الكبار أوتي موهبة الشعر، وتمكن من ناصية البيان، فغنى أجمل الأناشيد وأروع القصائد، أحب وطنه كل الحب، فكان يعبر في أشعاره عن عواطف أمته ويشدو بأفراحها، ويهتف بمطامحها، ويناصر مطالبها، ويندد بظالميها، ويأسى لجراحها، كل ذلك في اعتداد المعتز بأرضه المؤمن بغدها الواعــد.

     ويصف الأستاذ الشاعر فاروق شوشة قصائد عمر الوطنية بأنها بمثابة طلقات الرصاص التي تطلق على المستعمر وعلى التخلف العربي.

     ويشيد الأستاذ عرفان نظام الدين كثيراً بوطنية عمر في شعره ومواقفه، فـيرى أنـه: لم يكن مجرد شاعر يقرض الشعر، بل كان يمثل ضمير الأمة ووجدان الناس، ولهذا اعتبره من أعظم الشعراء العرب في العصر الحديث، ولم يكن الشعر سوى وسيلة من وسائل دفاعه عن الحق وتعبيره عن رأي الجماهير. ومن يستعرض قصائد عمر أبو ريشة يشعر وكأنه يقرأ تاريخ العرب الحديث، ويعيش همومهم ومآسيهم يوماً بيوم. وللوطنيات في شعر عمر أبو ريشة الصدارة والأولوية، فهو في شعره صاحب رسالة تجمع بين التوجيه والتوعية، وانتقاد الأوضاع السيئة، وإثارة الحماسة والدعوة إلى الجهاد والنفير والتحذير من الخنوع والتواكل وتأكيد دور الإيمان. كما أنه كان شجاعاً في الانتقــاد.

     أما الشاعر المهجري الكبير زكي قنصل، وكان صديقاً حميماً لعمر فيقـــول عنه: كان عمر شديد الإيمان بوحدة الوطن العربي سريع الانفعال لما يقع فيه أو يطرأ عليه من أحداث، وقد بدا ذلك جلياً في آثاره الشعرية.

     ونستطيع أن نقول بدون مغالاة: إن شعره يكاد يكون تاريخاً لحركة التحرير العربية منذ أوائل هذا القرن، وبخاصة لأحداث القطر السوري، ولايزال الكثيرون حتى الآن يرددون شعره في مقارعة الانتداب الفرنسي، وفي الدعوة إلى خلع نير الاستعمار واستعادة المجد العربي الداثر.

     ويتحدث الأستاذ أحمد الجندي عن صديقه عمر ليخبرنا أنه كان رجل صراع خاض لجة السياسة، فعادى وعودي من أجل مواقفة الجريئة وقصائده التي كانت تذيع بين الناس بسرعة، ويؤكد لنا أنه كان له في كل ميدان قنبلة، وفي كل معركة غنيمة وانتصار.

     وينظر الدكتور شوقي ضيف في ديوان عمر فيعجب أيما إعجاب بشعره الوطني الذي يثير العزائم ويحارب الاستعمار ويقارع الطغيان، فيبدو له وكأنه مجداف أهدي إلى سورية ليحرك سفينتها ويقودها في محنتها حين كانت تغوص أقدامها في ذل الاستعمار الفرنسي.

     أما الدكتور جميل علوش فله شهادة ثمينة في وطنيات عمر أبو ريشة يقول فيها: عرف عمر بشعره الوطني والقومي، ولعله بذ الشعراء المعاصرين في هذا الجانب، وبخاصة ما نظمه في القضية العربية عامة، وفي نضال سورية من أجل الاستقلال وفي قضية فلسطين خاصة.
❊❊❊

     كان حب الشاعر لوطنه حباً عميقاً ولا غرابة، فهو مهد الرسالة، وهو منطلق الفتح، وهو مثابة العز، وهو موئل الجود، وهو منبع البيان، لذلك ينظر إليه فيرى صحراءه منتهى حبه وغاية فتنته، ويراها بستانه وأنهاره:

نفحـــات النبي والفتــــــح والعــــلـ     ـيـــــاء، والعز والنــــدى والبيـــان
رعشات في أضلعي ماجت الصحـ     ــراء؛ فيهـــا ومــاج فيهــــا افتتاني
صــدق الحــب إن موطني الأجــــ     ــرد، روضـــي وجـدولي ودنــاني
ينبت المجــــد قبـــل أن ينبت الـوَرْ     دُ، ويعــطي الثمـــار قبــــل الأوان

وينظر مرة أخرى فيرى في بلاده الجمال والجلال والنعمة والخضرة، فيخشى أن يكون خيرها سبباً في ضياع الرجولة، والأوطان تبنى بالرجال، لذلك يفضلها قفراء مجدبة إذا أعطت الرجال فيناجي الله عز وجل في هذه القطعة الطريفة:

ربِّ طـوقـــت مغانينـــا جـــمالاً وجـــــلالا
ونثـــرت الخيـــر فيـــهنَّ يمينـــــاً وشمــالا
رب هذي جنـــة الدنيــــا عبيــــراً وظــلالا
كيف نمشي في رباها الخضر تيهاً واختيالا
وجراح الذل نخفـيها عـن العـــــز احتيــالا
ردهـا قفـراء إن شئــت وموِّجْهــــــا رمـالا
نحن نهواها على الجَدْبِ، إذا أعطت رجالا
❊❊❊

     والحديث عن وطنية عمر لا بد أن يقف عند قصيدته الشهيرة «بعد النكبة» التي مطلعها:

أمتي هــــل لــــك بــــين الأمم     منــــــبر للسيــــــف أو للقلـــم

     فهي قمة في الشعر الوطني، وهي من أذيعه وأسيره، وكانت لها حكاية مدوية اتصلت بها مبالغات وتزيدات، وقد سبق الحديث عنها مفصلاً في أثناء الحديث عن مواقفه الجريئة، وهي تجمع بين الجرح الفلسطيني بقيام إسرائيل، والجرح السوري بتفريط الحكام، والجرح الديني بسيطرة الصهاينة على أرض إسلامية.

     وحرقة عمر تجعله يقسو على أمته في هذه القصيدة ويوبخها ويسخر منها لأنها رضيت الذل والهوان وتخلت عن الثأر:

كيف أغضيت على الـــذل ولــم     تنفضي عنــــك غبـــــار التهــم
أوَما كنت إذا البـــغي اعتــــدى     موجـــة من لهــــب أو مـــن دم
فيم أقــــدمت وأحجمــــت ولـــم     يشــتف الثـــــــأر ولــم تنــتقمي
اسمعي نــوح الحزانى واطربي     وانظري دمع اليتامــى وابسـمي

     والقسوة هنا محمودة مبررة لأن عمر يرجو منها أن تكون دافعاً إيجابياً للأمة تتخطى به عجزها وسلبيتها، وهو لون من الوطنية صحيح وجريء. ومن هذه الوطنية الصحيحة والجريئة عند عمر أننا نجده يواجه الأمة بما تكره حين تشكو من قادة هي اختارتهم ومجدتهم فكانوا عليها وبالاً:

ودعي القـــــادة في أهوائهـــا     تتفانـى فـــــي خسيس المغـنم
رب وامعتصـــــاه انطـــلقـت     ملء أفــــــــواه البنــات اليتـم
لامست أسمــاعهـــــــم لكنهـا     لم تلامس نخـــوة المعتصـــم
أمتي كم صـنــــــم مجــــدتـه     لم يكن يحمـــل طـهر الصنـم
لا يلام الذئب في عـــــدوانــه     إن يكُ الراعي عـــدو الغنـــم
فاحبسي الشكــوى فلولاك لما     كان في الحكـم عبيد الدرهـــم

     وتتكرّر المواجهة مرة أخرى لتكون دواء شديـد المرارة محمود العاقبة فيما يوده عمر، وذلك حـين يخاطب الشعب ليحمله المسؤولية فيما أصابه من أذى حكامه الذين يشكو منهم:

يا شعب لا تشـــك الأذاة ولا تطــل فيهـا نواحك
لو لم تكن بيديــك مجروحــــاً لضمدنا جراحــك
أنت انتقيت رجال أمرك وارتقبت بهم صلاحـك
فإذا بهم يرخون فوق خسيس دنيـاهــم وشـاحـك
أيسيل صدرك من جراحتهم وتعطيهـم سـلاحك
لهفي عليـــك أهكـذا تطوي على ذل جنـاحك!؟
لو لم تبح لهـــواك عليـــاء الحياة لما استبــاحك

     والشاعر يوفق كل التوفيق في هذه المواجهة المرة الصريحة لعلها تكون حافزاً إلى اختيار صحيح يجلو آثار الاختيار السيئ، ودافعاً إلى الكف عـن البكاء والشكوى فذلك دأب العجزة والخاملين.
❊❊❊

     وإذا كانت وطنيات عمر قد امتدت آفاقها إلى الأمة كلها متجاوزة الإقليميات الضيقة فإنها لم تنسه وطنه الصغير سورية.

     فيوم أن جلا الاستعمار الفرنسي عن سورية وجد الشاعر في جلائه أمنية عزيزة تتحقــق، ونظر إلى الشعب الذي ظفر بأمله بعد جهاد طويل ومعاناة مريرة، وهو يغني للجلاء وللاستقلال، الزغاريد تنطلق، والأعلام ترفرف، والأناشيد تملأ الزمان والمكان، والنور في القلوب فضلاً عن الشوارع والميادين، إنه عرس بهيج، عرس الوطن وعرس المجد، فقال قصيدته الوطنية الذائعة التي سماها «عرس المجد» والتي يستهلها:

يا عروس المجد تيهــي واسحبي     في مغانينــــا ذيــــول الشـــــهب
لن تري حفنــة رمـــــل فوقهــــا     لم تعطـــــــر بدمـا حــــــــر أبي
درج الـبــــغي عليهــــا حقبـــــة      وهــــــوى دون بـلــــوغ الأرب
وارتمى كــبر الليــــالي دونهــــا     ليـن النــــاب كليــل المخـــــــلب
لا يموت الحـــق مهــمـــا لطمت     عارضيـــه قبضــة المغتصــــب

     ولا ينسى أن يمجد ميسلون وهي المعركة التي هزم فيها الجيش السوري أمام قوات الاستعمار الفرنسي، فشرف البطولة أن تدفع ثمـن المعالي وإن غُلبت:

كم لـنـــــا من ميســــلون نفضت     عن جناحيهــــــا غبـــــار التعب
كم نبت أسيـــافنـــــا في ملـــعب     وكــبت أجيـــــــــادنا في ملـعب
شــرف الوثبة أن ترضى العــلا     غلـــــــب الواثــب أو لم يغـــلب

ومن الشعر الوطني الطريف لعمـر هذه الأبيات التي قالهــا يسخر فيها بفرنسا ويشمت بهـا:

رحــم الله هـتـــــــلراً يا فرنســــــا     كنـــتِ أشهى إمائــــه وحســــــانه
أوَلَمْ تهتـــــــكي على قدميــــــه ما     هفـــــت كل غـــــادة لصيــــــــانه
كم تـلوّيـــت في ليـــاليه ســــكرى     بيــــن حــمى شفــــاهه ودنــــــانه
فدعي الزهــــو إنمـا الزهو للجــــا    نيه من حـــــد سيــــفه وسنــــــانـه
واغضضي الطرف أنت أم لشعب     ليس ديغـــوله ســــــوى بِيتــــــانِه

     وسخرية الشاعر مبررة تماماً، وشماتته مقبولة منطقية، ندرك ذلك حين نتذكر أن الشاعر قالها وبلاده تئن تحت وطأة المستعمر الفرنسي الذي يقسو عليها ويبطش بها ظلماً وعدواناً، في الوقت الذي ركع فيه تحت أقدام الغازي الألماني هتلر في الحرب العالمية الثانية في استسلام مهين لم تظهر له فيه بطولة، مما يدل على أن بطشه هو بطش الجبان إذا أمن العاقبة لا الشجاع الذي يتحمل الأخطار.

     أما ديغول وبيتان فكانا من جنرالات فرنسا يوم استسلمت للألمان، وكان ديغول رمزاً للمقاومة، وكان بيتان رمزاً للاستسلام، والشاعر يسوي بين الاثنين ازدراء لفرنسا كلها وسخرية بها، وللأبيات جمال فني وقيمة تاريخية، ويلاحظ أن الشاعر حذفها فيما حذف، وليته لم يفعـــل.

     والقصـائد الوطنية التي خـص بها عمـر وطنه الصغير سـورية كثيرة كقصيدته «بـلادي»:

هيكل الخلد لا عدتك الغـــــوادي     أنت إرث الأمجاد للأمـــــــــجاد

     وهي قصيدة وطنية زاخرة قالها في رثاء سعد الله الجابري، ومجد فيها وطنيته ووطنية إبراهيم هنانو، ومجد من خلالها البطولة أي تمجيد.

     وكقصيدته «هذه أمتي»:

ما صحا بعد من خمــار زمـانه     فليرفِّهْ بالشـــــدو عن أشجـــانه

     وهي قصيدة وطنية كأجمل ما يكون الشعر الوطني، يمتزج فيها الدين والوطنية والتاريخ والعروبة والفخار امتزاجاً بديعاً في قوة وصخب وعنفوان.

     وكقصيدته «قيــــود»:

وطــن عليه من الزمان وقـــار     النور ملء شعابـه والنـــــــــار

     وهي كأختها السابقة كثرة عناصر وجلجلة بيان.
❊❊❊

     وقد ظل الجرح الفلسطيني جرحاً غائراً في قلب الشاعر، وهماً ملازماً له طيلة عمره لذلك احتل مساحة كبيرة من شعره الوطني.

     فحين استشهد المجاهد السوري سعيد العاص في فلسطين اتخذ من ميتته الشجاعة، مناسبة غنية لتمجيد البطولة التي كانت وستظل سلاحاً وطنياً يذود عن البلاد ويحميها من المعتدين:

يا دمــاء النـسـور تجري سخــــاء     بغــــرام البطـــــولة الفضـــــــاح
أنبتي العـــــــز سرحـــــــة يتفـيــا     بأظالـيـلهــــا شتيـــــت الـنــواحي
أنت دمع الســــماء إن لهث الحقــ     ــل، وجفـــت سنـــــــابل وأقـاحي
يا شهيد الجهـــاد يا صرخة الهــو     ل؛ إذا الخيــل حمحمت في الساح
كلمــــا لاح للكفـــــاح صــــــريخ     صحت لبيـــك يا صـريخ الكفــاح
فترنحــــــت واندفعــــت وهيـهــا     ت؛ يلــــين الجـــواد بعــد جمــاح
واقتحمـت اللظى فكنت مع الصيـ     ــد؛ فراشـــاً على فــــم المصبــاح

     فالشهداء الذين يسقطون دفاعاً عن الوطن هم نسور تجود بدمائها غراماً منها بالبطولة فينبت العز شجرة وارفة الظلال كما تنبت سنابل الحقل وأقاحيه إذا سحت عليه الغمائم بعد الجــدب.

     والشهيد المرثي رجل بطولة ونجدة، آخذ بسيفه وفرسه يستجيب لكل مناد، لذلك ما إن يسمع الصريخ في فلسطين حتى يسارع إلى تلبيته لأن سورية وفلسطين في حسه الوطني أرض واحدة لها حق الولاء والوفاء، لقد لبى النداء في عزيمة لا تتراجع كأنه الجواد الجموح حتى ظفر بالشهادة أو ظفرت به.

     وحين استقلت سورية لم ينس الشاعر في فرحته الغامرة فلسطين العزيزة ونكبتها، فبكى أحزانها لكنه بشرها بنصر قادم يكاد يسمع رعوده ويرى بروقه.

يا روابي القـدس يا مجلـــى السنا     يا رؤى عيسى على جفـــن النبي
دون عليــائك في الرحب المــدى     صهــلة الخيــل ووهــج القضـب

     ولا يفوت الشاعر أن يهاجم الصهاينة الذين اعتدوا على القدس ويهــاجم من وراءهم من الغربيين الذين يدعون أنهم أحرار يقفون مع الحق ويحترمون المواثيق:

وسلوا القدس هل غفا الشرق عنها     أو طـــــــوى دونها شبـــا مــرانه
أهتــاف خلف البحـــــــار بصهيـو     ن، وحـــدب على بنـــــاء كيـــانه
ومن الهــــــاتف المــلـــــح أحـــر     أين صـــــدق الأحرار من بهتـانه
أيــن ميثـــــاقه أتنحســـــــر الرحْـ     ـمــــة؛ في دفتيــــــه عن عـدوانه

     وإذا كان الشاعر قد اكتفى في الأبيـــات السابقة بمهاجمة المستعمرين الغربيين، فإنه في الأبيات التالية يقف موقفاً أجرأ وأصرح، إذ يقرر أنهم لم ينسوا أحقادهم الصليبية القديمة التي حملتهم على دعم الصهاينة فمدوا إلى فلسطين أياديهم بالعدوان:

والقدس ما للقدس يخـــترق الدمـا     وشــــــراعه الآثــــــام والأوزار
عهــــد الصليبيين لم يــــبرح لــه     في مسمع الـدنيــا صـــــدى دوار
صلبوا على جشع الحياة وفـاءهم     ومشوا على أخشـــــابه وأغـاروا
مـــدوا الأكـــف إلى شـراذم أمـة     ضجت بنتن جسومهــا الأمصـار
ورموا بها البلد الحرام كما رمت     بالجيـفة الشط الحـــــرام بحــــار

     وحين يقتل الملك غازي بن فيصل عام 1939م في بغداد يشارك عمر في تأبينه بقصيدته التي مطلعها:

شهقـة في الدجـى وراء البــوادي     روعت خاطر الضحى المتهادي

     ولا ينسى الشاعر وهو ينظر إلى جرح بغداد جرح الأمة الآخر في فلسطين، وكانت فيها ثورة ضد المستعمر الإنجليزي الذي أطمع اليهــود في فلسطين ومكــن لهم، ولا ينسى ما صنعته الأمة الإنجليزية المعروفة بنقض العهود والمواثيق بالشريف حسين جد غازي. إذ أطمعته وأملته بأن يكون ملكاً على دولة عربية مستقلة إذا وقف معها في الحرب وثار على الأتراك، فلما استجاب لها وظفرت بالنــــصر غدرت به وتخلت عنــه:

من لمهد المسيح والمسجد الأقـ      ـصـى، وقد رددا صلاة الجهـاد
أتساقيهمــــا الشقــــــــــاء فلول     من ضــلال وعصبــة من فساد
لفظتها لفظ النـــــواة المعــــالي     ودعتهـــــا تهيــــم فــي كل واد
إيه أرض الميعاد لا تطمعيهـــا     فهــــي من حتفها على ميعــــاد
غرهــــا وعد أمة ما روى الرَّا     وُون عنها أسـطورة مـــن وداد
أوفت للحسـين زند العلى البكــ     ــر، وصــــوت العروبة الرداد
أولم تعتصم بعسكـــــره المجــ     ــر غداة الأهـوال في المرصاد
وتسر المـــــنى على كل جسـر     عـــــربي الأرواح والأجســـاد


     وتقفز إلى مخيلة الشاعر صورة الشريف حسين وهو في قبرص يعاني من أحزان الغدر والنفي فيستبد به الغضب على الأمة التي فعلت به ذلك:

اسألوها من ذلك الشيخ في الأســــ     ـر، مســـــجى على فراش قتـــــاد
يا جراح الوفـاء سيـــــلي وضجي     واستفزي كـــــــــوامن الأحــقـــاد
ما أرى الأنفــس الرحيمــــــــة إلَّا     نعجـــة تحـت خنجـــر الجــــــلاد

     ولعل من الطريف هنا أن نتذكر موقف شوقي من الشريف حسين لنجده يلتقي مع موقف عمر في ناحية ويفترق في ناحية. أما ناحية اللقاء فهي أن الشاعرين ينظران بعين التوجع للشريف المسكين الذي دفع ثمن ثقته بالإنجليز، فجاء يطلب الغنيمة فكان هو الغنيمة.

     يقول شوقي في رثائه للشريف حسين الذي مات عام ١٣٩١م:

كلنــــــا وارد الســــــراب وكـل     حمل في وليمة الذئـــــب طاعـم
قد رجـونا من المغانــــــم حظــاً     ووردنا الوغى فكنــــــا الغنــائم

     فالشريف المخدوع نعجة عند عمر، وحمل عند شوقي، وهو عند الاثنين مأكول مأكول.

     أما ناحية الافتراق فهي أن عمر لا يتجه إلى الشريف حسين بلوم أو تقريع خلافاً لشوقي الذي قال له وهو يرثيه:

لك في الأرض والسماء مـآتـــم     قام فيهــا أبو المـــلائك هاشـــم
قم تحــــــدث أبا عــــلي وخـبر     كيف غامرت في جوار الأراقم
لم تبال النيوب في الهـام خشنـاً     وتعلـــقت بالحـــواشي النواعـم
هات حدث عن العـوان وصفها     لا تــرع في الـتراب ما أنا لائم

     وشوقي في لومه للشريف حسين منسجم مع نفسه لأن ولاءه كان للخلافة العثمانية التي حاربها الشريف حسين. ومن لوازم هذا الولاء الإخلاص للخلافة والدفاع عنها، لذلك كان الشريف حسين عنده مخطئاً مرتين، مرة حين تخلى عن نصرتها، ومرة حين وضع يده في يد الإنجليز، وهم أعداء الدين والأمة والوطن وقاتلها معهم.

     ولذلك نجده قبل ذلك بسبع سنوات أي في عام 1924م يقف من الشريف حسين موقفاً أشد وكان لايزال إذ ذاك حياً، ففي ذلك العام ألغى أتاتورك الخلافة العثمانية فرثاها شوقي بقصيدة بديعة تفيض حزناً وتوجعاً مطلعها:

عادت أغاني العرس رجع نواح     ونعيت بين معــالـــــم الأفــراح

     وحـدث أن عدداً من كبار علماء المسلمين هاجموا أتاتورك وقرروا الاجتماع للبحث فيما فعل، وفكروا في نقل مقر الخلافة خارج تركيا والاجتماع على خليفة جديد، وكان هناك عدد من الطامعين في منصبها منهم الشريف حسين، فما كان من شوقي إلا أن حذر الناس منه أشد التحذير، وذكرهم بأنه عاجز ليس عنده مايدافع به عنها وعن عباءة النبي صلى الله عليه وسلم التي يرتديها الخليفة حين يبايع سوى راحتيه، وذكرهم أيضاً بتحالفه مع الإنجليز الذين جرحوا الأمة أيما جــراح:

لا تبـذلوا بُـْـرد الــنبي لعاجـــــز     عـــــزل يدافـــــع دونه بالــراح
بالأمس أوهـى المسلمين جراحة     واليــــوم مد لهم يـــــد الجــراح

     وعلى كل حال فإن شعر عمر يدل على أن الجرح الفلسطيني ظل مستولياً على قلبه، ترى ذلك في قصائده «حماة الضيم» و«حكاية سمار» و«بنات الشاعـر» و«ياعيد» و«بلادي» و«من ناداني» و«أمرك يارب» و«أنا في مكة» وغيرها، كما يدل على أن هذا الجرح رافقه طيلة عمره وجعله يهتف محزوناً في أواخره في قصيدته «عودة المغترب» خاصة حين رآه يستفحل ويزداد:

من للبقـــايا من تراث غـــاضب في القدس من يسعى إليه منجدا
درجت عليه الغاشيات ولم تـدع فيها بنــــاء للشمــوس مشيـــــدا
❊ ❊ ❊

     ويلاحظ على وطنيات عمر أنه كان يجد في الخطوب نفعاً وفائدة لأنها توقد العزائم، وتجمع الصف، وتدفع إلى الثأر، يقول والاستعمار الفرنسي جاثم على الصــــدور:

هذه أمتي وهـــــذي مغــــــانيـ     ـهـا؛ تجر السواد في الأعيــــاد
كلما لاح بارق في سمــــــــاها     أطفأته ريح الزمـان العـــــادي
جمعتها هوج الليالي على الجر     ح؛ كما تجمع الندامى شــوادي
والرزايا كـــم قربت بـين أشـتا     ت؛ بــــداد وأمنيـــــــات بــداد

     كما يقول في نكبة فلسطين:

لمـــــت الآلام منــــــــــا شملنـــا     ونمت ما بيننـــــا مـــــن ســـبب
فإذا مصـــــر أغـاني جـــــــــلق     وإذا بغـــــــداد نجـــــوى يــثرب
ذهبت أعلامها خافقـــــــــــــــــة     والتقى مشرقهــــــا بالمغـــــرب
كلما انقضَّ عليها عاصـــــــــف     دفنته في ضلــــــــوع الســــحب
بورك الخطب فكم لف علـــــــى     سهمه أشتــــات شعـب مغضــب

     ويقرر أن جرح الأمة في مكان هو جرح لها في بقية الأمكنة التي تهب للنجدة:

أي جرح ضج العــراق عليـــه     ما تلقى الأســــــــاة من لبنــانه

     وهو في هذا يحذو حذو من سبقه من الشعراء الذين طالما انتبهوا إلى هذا المعنى في جيله وغير جيله، كحافظ إبراهيم الذي هتف عام 1908م ببيتيـــه الذائعـين:

إذا ألمت بوادي النيـــــــل نازلــة     باتت لها راسيات الشام تضطرب
وإن دعا في ثرى الأهرام ذو ألـم     أجابه في ذرى لبنـــــــان منتحب

     وكشوقي الذي هتف يوم بويع بإمارة الشعر عام 1927م:

كان شعري الغناء في فرح الشر     ق؛ وكان العـزاء في أحــزانــه
قـــد قضى الله أن يؤلفنـــا الجــر     ح، وأن نلتــقي عـلى أشجــــانه
كـلمــا أنَّ بالعـــــــراق جـــريح     لمس الشـرق جنـبه فـي عمــانه

     كما يلاحظ على هذه الوطنيات أنها كانت دائماً تبث الأمل، وتبشر بالنصر، وترى النعمة في النقمة، والمنحة في المحنة، واليسر في العسر. في قصيدته «خالد» يلتمس الشاعر العذر للأمة التي مازالت قادرة على البذل والعطاء، ويلقي المسؤولية فيما أصابها على من قادها:

لا تقـــل ذلت الرجــــولة يا خـــا     لد واستسلمـــت إلى الأحـــــزان
حمحمات الخيول في ركبك الظا     فــر؛ مازلــــــن نـشــــوة الآذان
كم طوت هـــذه المرابـــــع أفـلا     ذ؛ قلـــــوب بدرية الخفقــــــــان
قـــم تلفت تر الجنــود كمـــا كــا     نـوا؛ منــار الإبـاء والعنفـــــوان
ما تخــلوا عن الجهــــــاد ولكـن     قادهــــم كل خـــائن وجبـــــــان

     وفي قصيدته الأخرى «محمد» ينظر فيجد الصحراء التي طلع منها المجد أول مرة قادرة على أن تجدد للأمة مجدها، فيجعل ختامها هذه الأبيات:

يا عروس الصحراء ما نبت المجد؛ على غير راحة الصحراء
كلما أغرقت لياليها في الصــــــمــت؛ قـامت عن نبـأة زهـراء
وروتها على الوجــــود كتـــاباً ذا مضـاء أو صـارماً ذا مضاء
فأعيدي مجد العــــروبة واســقي من سنــــاه محاجـــر الغبراء
قد ترفُّ الحيـــــــاة بعــد ذبـــول ويلـــين الزمــــان بعـد جفـاء

     ومثل هذا الختام نجده في آخر قصيدته الوطنية «حماة الضيم»:

مهلاً حمــــاة الضيم إن لليـــلنـــــا     فجراً سيطوي الضيم فــي أطماره
ما نام جفن الحقـــد عنـــك وإنمــا     هي هدأة الرئبـــــال قبـل نفـــــاره

     وإذا عثر المجاهد فإن الأمل يحمله على النهوض:

فكم عـثرنا ولم تعــــثر إباءتنــا     وكم نهضنا ولم يشمت بنا خور

     وهذا الأمل يجعله يجد في الأمـة مع فداحة خطوبهــا، كتائب الفــــتح المؤمنـــــة الغاضبـــة:

عــــزاؤه أن ملء الســـــاح فتيــته     إلى الردى والفدا أرواحهــم نذروا
كتائب الفتح في إعصـــار عاصفة     بالحقـد والغضب العــلــوي تنفجـر
من كل أمــرد ما أدمى مراشفـــــه     في رعشة الشوق إلا الوحل والمدر
وكل حسنــــاء ما باعت أساورهــا     إلا لتشري بـه ما المـــــوت يدخــر
كتائب بالنضال الحــــــق مؤمنـــة     إذا الطواغيت من إيمانها سخــروا

     كما يجعله عظيم اليقين في فجر قادم بالنصر المؤزر:

سينجلي ليلنـا عن فجـر معـتـرك     ونحن في فمـه المشبوب تغــريد

     وهو أمل موار يملأ الفدائي يقيناً عميقاً بأن دمه لن يذهب هدراً، فيقدم على الموت غير هياب وهو ينشد:

بيني وبين المـوت ميعـــاد أحــــــث له ركابي
عبــــق بأنفـــــاس النعيم السمح والمجد اللباب
عطر فداك العمر يا ميعـــاد من جرحي ترابي
فلسوف تركز فيـه أعلامي وتحـــرسها حرابي

     كما أنه أمـــــل يحمــل البشرى الجميلة بأن غد الأمة غد واعد مع كل جراحاتهـا:

يا رمل رجع حداء في مســامعــنا     هل حمل الركب بشراه وما عـلما
قيثارة الوحي لم تجرح لهـا وتــراً     أيدي الليــالي ولم تحبس لهـا نغما
أمن سنــــا أحمــــد حـر ستطلعـه     وتطلع المجد في برديه مضطرما
فيرجع الأرض ريا بعـدما يبسـت     ويمتطي الدهر غضـاً بعدما هرما

     وهو أمل يجعل الأمة تغالب الصعاب مثلها مثل الشراع الذي اعتاد أن يزدري الأنواء، ويشق طريقه في العباب حتى يصل شاطئ الأمان، ويلقي مرساته حيث يريد:

هذه أمتي فيــــــا لشـــــــراع     يتلقى العبــــاب في هيجــانـه
علمته الأنـواء أن يزدريهــــا     ويجـــر المرســاة في شطآنه
❊❊❊

     وبعد: فالحديث عن وطنية عمر حديث طويل، وهو في هذا الميدان يحمد ويشكر ويشار إليه بالبنان شاعراً وطنياً من الدرجة الأولى، كان في وطنياته ملء السمع والبصر، جريئاً مقداماً، صاحب رسالة أداها أحسن ما يكـــون الأداء، واحتل بها مكانة عالية عن جدارة واستحقاق.
***

الأكثر مشاهدة