السبت، 29 يناير 2022

عُمَيْر بن أبي وقاص الغلام الشهيد

عُمَيْر بن أبي وقاص الغلام الشهيد

(1)
سعد – عُمَيْر

"صوت عُمَيْر أدق من صوت أخيه سعد لأنه أصغر منه"

سعد: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم "عُمَيْر يكرر الصلاة" قد دعانا إلى الخروج معه سريعاً يا عُمَيْر.

عُمَيْر: وما الأمر يا سعد؟

سعد: بَلَغَهُ أنَّ عِيراً قادمةً لقريش من الشام إلى مكة المكرمة، فهو يريد السرعة في الخروج عسى أن تكونَ غنيمةً للمسلمين.

عُمَيْر: إنَّ قريشاً تستحق ذلك يا سعد، وتستحقُّ أكثر من ذلك، لقد عَدَت على أموالنا ودُورِنا، وظلمت القريب، وبطشت بالبعيد.. فإنْ نَغنَمْ هذه القافلة فهو بعض ما تستحقه قريش.

سعد: صدقتَ يا أخي.. بارك الله فيك.

عُمَيْر: تُرى من قائد قافلة قريشٍ يا سعد؟

سعد: إنه أبو سفيان.

عُمَيْر: أبو سفيان!.. إنه لَقائدٌ فَطِنٌ داهية، أحسبُهُ سيفعلُ كل شيء حتى لا يقع هو وقافلتُه بأيدينا.

سعد: إنه داهيةٌ حقاً.. لكنَّ قضاءَ الله ما منهُ مهرب، إنَّهُ إن وقع بين أيدينا فأنَّى له النجاة من سيوف المسلمين.

عُمَيْر: يا أخي سعد.. متى يكون الخروجُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ "سعد يكرر الصلاة"

سعد: ما أحسبُ الوقتَ إلّا قد أَزِف، هَلُمَّ بنا يا أخي نحمل سلاحَنا وزادَنا، هَلُمَّ يا عُمَيْر.

عُمَيْر: هَلُمَّ يا سعد.

(2)
سعد – عُمَيْر – رجل من المسلمين

الرجل المسلم "بصوتٍ عال": يا معشر المسلمين، ابرزوا جميعاً ينظر إليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم "سعد وعُمَيْر يكرران الصلاة" قبل خروجنا في طلبِ قافلةِ قريش.

عُمَيْر "في صوت خائف بعض الشيء": يا أخي سعد..

سعد: نعم يا عُمَيْر.

عُمَيْر: دَعْني وراءك في الصف يا سعد.. وسِّعْ لي مكاناً لأقفَ فيه خلفك.

سعد: ولِمَ يا أخي؟ قِفْ في الصف مثل الآخرين.

عُمَيْر "في صوت هامس خائف": أخاف إن رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم "سعد يكرر الصلاة" يمنعني من الخروج.

سعد: وما عليكَ من ذلك يا عُمَيْر!؟

عُمَيْر: كيف لا أخاف يا سعد!؟ أحسبُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "سعد يكرر الصلاة" سيستصغِرُني ويأمرُ بِرَدِّي.

سعد: وهل تطيقُ القتال إنْ جرى بيننا وبين المشركين؟

عُمَيْر: إني ابنُ ست عشرة سنة يا أخي.. "في صوت هامس فيه رقة ودعاء" وأنا أحِبُّ الخروجَ، لعل الله أنْ يرزقني الشهادة. باللّه عليك إلا ما تركتني أتوارى خلفك يا سعد.

سعد: فأنتَ وما تريد يا أخي. "صوت جلبة وحركة".

الرجل: أنت يا عُمَيْر بن أبي وقاص!..

عُمَيْر "في صوتٍ مضطرب": أيَّ شيءٍ تريد؟

الرجل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم "عُمَيْر وسعد يكرران الصلاة" يأمرُكَ بالعودة إلى المدينة المنورة، فأنت صغيرٌ لا تقوى على القتالِ إنْ نشَبَ بيننا وبين القوم.

عُمَيْر "يبكي": أرأيتَ يا سعد!؟ ها قد مُنِعتُ من الخروج.

سعد: هوِّن عليك يا أخي، فأنت صغيرٌ بعد، وقد لا تطيقُ القتال.

عُمَيْر "في صوتٍ يخالطه البكاء": بل إني لَأُطِيقُه.. وإني لَأرجو أن أُرْزَقَ الشهادة يا سعد.

سعد: إنك حريصٌ على الخروج، صادقُ الرغبة في الجهاد.. وأنتَ بذلك مأجورٌ يا أخي عُمَيْر، فلا يغلِبْكَ الحزن.

عُمَيْر "في صوت يخالطه البكاء": باللّه عليك يا سعد أخبِرْ رسول الله صلى الله عليه وسلم "سعد يكرر الصلاة" أني أوَدُّ الخروج، وأني أطِيقُ القتال.. افعل ذلك يا أخي.. فمَن يدري قد أفوز بالجنة يا سعد!؟.. ولا تنسَ يا أخي، أنتَ لستَ أكبرَ مني بكثير، وإنَّ الشعرَ لم ينبُت في وجهكَ بعد.

سعد "ضاحكاً": لكنَّ في وجهي شعرةً واحدة هي هذه التي تراها.. "يضحك" وها أنذا أمسحُها.. أما أنت "يضحك" فما في وجهك شعرةٌ قط.

عُمَيْر "في صوته الباكي": باللّه عليك يا سعد.. اعملْ على خروجي معك.. باللّه عليك!..

سعد "في صوتٍ يدل على العطف والمواساة": هوِّنْ عليك يا عُمَيْر.. سأعمل على خروجك معنا.. وما يُدرِيكَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "عُمَيْر يكرر الصلاة" سوف يجيزك للخروج حين يعلمُ صِدقَ نيَّتِكَ في الجهاد وقدرتك على القتال.. وإنْ كنتَ صغيراً "يضحك" لم تنبُت في وجهك شعرةٌ واحدةٌ بعد.

(3)
سعد – عُمَيْر – رجل من المسلمين

الرجل "بأعلى صوته": يا معشر المسلمين!.. إنكم اليوم بإزاءِ عدوكم فاصدقوا الله في الجهاد ينصركم ويكتب لكم الفوز المبين.

يا معشر المسلمين إنها أول معركةٍ بين الكفر والإسلام، فليكنْ منكم في يومِ بدرٍ هذا الصبر والثبات.

"صهيل خيل – جلَبَة وضوضاء – خطى على الأرض"

عُمَيْر: الحمد لله يا سعد، لقد أجازني رسول الله صلى الله عليه وسلم "سعد يكرر الصلاة" فخرجت. الحمدُ لله، الحمدُ لله.. إنَّي والله لَسعيد!..

سعد: إن المعركة تكاد تبدأ يا عُمَيْر فكُنْ قويَّ النفسِ، ثبْتَ الجَنان.

عُمَيْر "متحمساً": لَأكونَنَّ والله كذلك.. لأرمينَّ بنفسي في قلبِ المعركة.. عسى.. عسى "في صوت متقطع منه بكاء ودعاء" أن أُرزَقَ الشهادةَ فأفوزَ بالجنة. "في صوتٍ ضارع".. اللَّهمَّ إني أسألكَ ألّا أعودَ من معركةِ بدر.. اللَّهمَّ انصرِ الإسلامَ في هذا اليومِ المشهود.. واجعلني شهيداً فيهِ على إظهارِ دينك وإعزازِ رسالتك. "يبكي" في صوت كأنه حالم يناجي فيه نفسه" مَن يدري فقد أفوز.. مَن يدري فقد أفوز.. مَن يدري فقد أفوز!..

الرجل "بأعلى صوته": يا معشر المسلمين، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم ألّا تُقاتلوا العدو حتى يُؤذِنَكم، وإن اكتنفوكم فارموهم، ولا تَسُلُّوا السيوف حتى يغشَوْكم.

يا معشر المسلمين الثباتَ الثباتَ!.. فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لكم: والذي نفسُ محمدٍ بيدِه لا يقاتلهمُ اليومَ رجلٌ فيُقتَلُ صابراً مُحتسِباً مُقبِلاً غيرَ مدبِر إلّا أدخله الله الجنة.

عُمَيْر "فرِحاً متحمساً": الجنة يا أخي سعد، الجنة يا أخي سعد.. إني والله لَأشم ريحها اليوم..

سعد: دعني أعْقِدُ لك حمائِل سيفكَ يا أخي عُمَيْر.

عُمَيْر: دونَكَ فافعلْ "صوت حركة خفيفة".

سعد: ها هي الحمائلُ وقد عُقِدَتْ..

عُمَيْر: إني ابنُ ستَّ عشرةَ سنة.. وأرجو أن يكونَ خِتامُ حياتي في هذا اليوم، فقد كفاني ما عِشْتُ يا سعد!..

الرجل "بأعلى صوته": يا معشر المسلمين.. إنَّ المعركة قد بدأت الآن فقاتلوا عن دينكم يرحمكم الله.. "صوت المعركة يشتد"

(4)
راوٍ يتحدث في صوت هادئ عميق

الراوي: واحتدمت معركةُ بدر.. وانطلقَ الفتى المؤمنُ عُمَيْر بن أبي وقاص يجاهد في الله بصدقٍ وثبات.. وهو الفتى الذي لم تنبت في وجهه شعرةٌ واحدةٌ قط.. مضى سيفه يجوب أرض المعركة غير خائفٍ ولا وجِل.. لقد كان يرجو أن يُرزَقَ الشهادة.. ولقد كان يكره القعود مع الصغار.. بكى حين رَدَّهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بادئَ ذي بَدْء، وحين أجازهُ استبدَّ به الفرحُ والشوقُ والحنان.. والرغبة العارمة في ميتةٍ كريمةٍ نبيلة.. عقد له أخوه سعد بن أبي وقاص حمائلَ سيفِه لأنه صغيرٌ لا يُحسِنُ فِعلَ ذلك.. لكنَّ إيمانه كان كالجبال الراسيات امتداداً وثباتاً وعظَمَة.. مضى في معركة بدرٍ يقاتلُ عن دينِ الله حتى استشهد ففاز بما كان يرجو، وأصاب ما كان يؤمِّل.
*****

إسلام كبير أساقفة الروم "ضغاطر"

إسلام كبير أساقفة الروم "ضغاطر"

(1)
دِحْيَة الكلبي – هِرَقْل ملك الروم – الحاجب

الحاجب: مولايَ هِرَقْل، بالباب رجلٌ من العربِ يحملُ كتاباً لك.

هِرَقْل: أعرفتَ ماذا في كتاب الرجل؟

الحاجب: لا.. يا مولاي، غيرَ أني علمتُ أنه مبعوثٌ من قِبَل الرجل الذي ظهر بدينٍ جديدٍ في أرض العرب.

هِرَقْل: فليدخل الرجل.

الحاجب "وقع خطاه على الأرض": أمرُ مولاي. "باب يُفتح" ادخلْ أيها الرجل لمقابلة هِرَقْل ملك الروم.

دِحْيَة: شكراً لك. "وقع خطاهما على الأرض".

دِحْيَة: أيها الملك، هذا كتابٌ بعث به نبينا محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم.. إليك، يدعوك فيه لاتباع دين الإسلام.

هِرَقْل: هات الكتاب!.. "صوت شيء تتناوله الأيدي" اقرأهُ أيها الحاجب.

الحاجب: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمدٍ عبدالله ورسوله إلى هِرَقْل عظيم الروم، سلامٌ على من اتَّبعَ الهدى، أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام. أسلِمْ تَسلَمْ يُؤتِكَ الله أجركَ مرتين، فإن تَوَليتَ فإنَّ عليك إثمَ الأرِيسيينَ، ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾، [آل عمران: 64]. "صمت قصير"

هِرَقْل: ما اسمُكَ أيها الرجل؟

دِحْيَة: اسمي دِحْيَة الكلبي.

هِرَقْل: اسمع يا دِحْيَة، إني سوف أستشيرُ الأُسْقُفَ في أمرِ كتابِكَ هذا قبلَ أن أعزمَ على رأي.

دِحْيَة: كما تحب أيها الملك. إني مُنتظِر.

(2)
هِرَقْل – الأسقُف – دِحْيَة

هِرَقْل: أيها الأسقف الجليل، نحن الآن في انتظار الذي تقول بعد أن سمعت الكتاب الذي جاء به هذا الرجل.

الأسقف "في صوت رزين": أيها الملك العظيم!.. إن الكتاب الذي جاء يحمله هذا الرجل كتابُ حقٍّ وصدق.

دِحْيَة "فرِحاً": شكراً لك أيها الأسقف!.. والله الذي لا إله إلا هو إن نبينا صادقٌ أمين، وإنه مبعوثٌ إلى الناس جميعاً بآخر الرسالات.

هِرَقْل: أيها الأسقف، أهذا حقاً هو النبيُّ الذي كُنّا ننتظر؟

الأسقف "في صوته الرزين": إي واللهِ أيها الملك.. إنه الوقت الذي أخبرَنا عيسى عليه السلام أنه زمانُه.. وإن المكانَ هو مكانه فقد بُعِثَ في فاران[1].. وإن الشخصَ واللهِ هو الشخص.

هِرَقْل: إذن فهو النبي الذي كنا ننتظر، والذي بشَّرنا به عيسى عليه السلام.

الأسقف: هو ذاك تماماً كما جاء في كُتُبِنا.

هِرَقْل: فكيف تأمرُني أيها الأسقف؟

الأسقف: أما أنا فمُتَّبِعُه ومُصدِّقُه.

هِرَقْل "بعد صمت قصير": أما أنا فإن فعلتُ ذهبَ مُلكي.

الأسقف: أيها الملك العظيم، إنك على معرفةٍ بالدين المسيحي، وإنك لَتعلمُ كما نعلم أن محمداً صلى الله عليه وسلم آخِرُ الأنبياء.. وأنه مبعوثٌ بآخِر الرسالات، وأنه الذي بشَّرنا به عيسى عليه السلام، فاتّبِعْهُ تغنمْ، اتّبِعْهُ تغنمْ!..

هِرَقْل: صدقتَ والله أيها الأسقف الجليل، لكنني أخشى إن اتبعتُه أنْ يذهبَ مُلكي، فإن الرومَ لن تقبلني على رأس الحُكْم إن خرجْتُ من النصرانية.

الأسقف "في صوتٍ هادئ": أمّا أنا فإني مُصدِّقٌ هذا النبي الكريم، وإني مُتَّبِعٌ له شاءت الروم أم كَرِهَت.

هِرَقْل: أخشى عليك الروم إن علِمَت بإسلامِك.

الأسقف: إني عالِمُ النصرانية فيها.. أأرضى لنفسي أن تُحْمَلَ على الباطل وقد استبان الحق؟ "في صوت هادئ كأنه يناجي نفسه" إنه والله النبيُّ الذي كنا ننتظر، إنه والله النبيُّ الذي بشرنا به عيسى عليه السلام. "صمت" يا دِحْيَة..

دِحْيَة: نعم أيها الأسقف.

الأسقف: تعالَ معي فحدِّثني كثيراً عن محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، وعمّا جاء به، فإني لستُ أدري ماذا ستفعلُ الرومُ بي إنْ علِمَتْ بإسلامي.

(3)
الأسقُف – دِحْيَة – عدد من رجال الروم

رجال الروم "يتحدثون بصوتٍ يدل على الغضب والشر":

- إن الأسقف قد تغير أمرُه منذ جاء هذا الرجل العربي.

- كأنه قد كره ديننا ومالَ إلى دين ذلك الذي يدّعي أنه مبعوثٌ بآخر الرسالات.

- ويحك أيها الأسقف! أتُسارِع إلى الخروج من النصرانية وأنتَ عالِمُنا الكبير!؟

- هذا ثالثُ أَحَدٍ على التوالي لا يخرجُ إلينا مُتعلِّلاً بالمرض.

- "أحدهم بصوتٍ عالٍ غاضب" أيها الأسقف!.. لتَخرُجَنَّ إلينا أو لَنَدخُلَنَّ عليك فنقتلك!.. فإنا قد أنكرناك منذ قَدِمَ هذا العربي. "يخفت اللغط شيئاً فشيئاً"

الأسقف: اسمع يا أخي دِحْيَة.. إنك ترى وتسمعُ الرومَ يأتَمِرون بي.. وربَّما قتلوني. "صمت" لقد استمعتُ إليك كثيراً في هذه الفترة.. فازددتُ يقيناً بصدقِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم.. إنه واللهِ النبي الذي كنا ننتظر، نعرفه باسمِه وصِفتِه. خذ هذا الكتاب مني إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.

دِحْيَة: هاته يا أخي "صوت شيءٍ بينهما".

الأسقف "في صوت رقيق حزين": إني قد ألقيتُ ثيابي الكهنوتية، ولبستُ هذه الثياب البيض التي تراها عليَّ، وإني خارجٌ إلى هؤلاء الروم فَشاهِدٌ شهادة الحق، فانظر ما الذي يجري فبَلِّغهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، "دِحْيَة يكرر الصلاة"، وبَلِّغهُ أني أشهدُ أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإني قد آمنتُ به وصَدَّقتُه واتَّبعتُه. "في صوت هادئ حزين هامس" هيّا بِنا نَخرُج يا دِحْيَة، فما أراها إلا الشهادةَ أفوزُ بها الساعة. أستودعكَ الله يا دِحْيَة.

دِحْيَة: أستودعكَ الله.

صوت روميٍّ "غاضب عال": أيها الأسقف اخرج إلينا، وإلّا دخلنا عليك فقتلناك.

الأسقف "بأعلى صوته": بل إني خارجٌ إليكم. "صوتُ بابٍ يُفتَح، وحركة، ووقع أقدام على الأرض"

روميٌّ لآخر "متعجِّباً": انظر إلى الأسقف، لقد ألقى ثيابَه الأسقفية، ولبسَ هذه الثياب البيضاء.

الأسقف "بأعلى صوته": يا معشر الروم!.. والله إن محمداً صلى الله عليه وسلم لصادقٌ فاتَّبِعوه تفوزوا في الدنيا والآخرة، وإنه النبي الذي كنا ننتظر بعثه.

أصوات رومية غاضبة:

- خسئت أيها الأسقف!..

- اقتلوا هذا الذي ترَكَ دينه..

- ارجموه بالحجارة..

- اضربوه حتى يموت..

"ضجيج وجَلَبَة وضوضاء"

الأسقف "في صوت حزين ضعيف": يا ويحَ قومي!.. لقد قتلوني وأنا أدعوهم إلى النجاة.. أشهدُ أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله.
*****
---------------
[1] فاران: اسم جبل بمكة، أو جبال مكة، ورد في التوراة في البشارة ببعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

عبّاد بن بِشر شهيد اليمامة

عبّاد بن بِشر شهيد اليمامة

(1)
عبّاد بن بِشر – أبو سعيد الخدري

أبو سعيد: والله إن أمر هؤلاء المرتدين لعجيبٌ حقاً يا عبّاد.

عبّاد: ولِمَ يا أبا سعيد؟

أبو سعيد: ما كاد رسول الله صلى الله عليه وسلم "عبّاد يكرر الصلاة مع أبي سعيد" يتوفاه الله حتى سارعوا إلى الردة..

عبّاد: صدقتَ والله يا أبا سعيد "صمت قصير" تبّاً لهم.. لكأنما توهّموا أن الإسلام سيزول بموت محمد صلى الله عليه وسلم. "أبو سعيد يكرر الصلاة".

أبو سعيد: ما أكذبَ ما توهَّموا!..

عبّاد: هم اختاروا الردة، لكنَّ عليهم أن يدفعوا ثمن هذا الاختيار.

أبو سعيد: إي والله يا عبّاد!.. ما كان دين الله عز وجل لعبة يتلهّون بها، يسلمون يوماً، ويكفرون يوماً آخر.

عبّاد: معاذ الله يا أبا سعيد!.. دين الله أعظم وأجلُّ من ذلك.

أبو سعيد "في صوتٍ خافت كأنه يناجي نفسه": إني لأرجو يا عبّاد أن يكرمنا الله عز وجل، فنرى جزيرة العرب جميعاً وقد خلصت للإسلام.

عبّاد: إن ذلك لكائنٌ بإذن الله.

أبو سعيد "في صوت خافت": وبعد ذلك تنطلق جيوش المسلمين شرقاً وغرباً تحمل دين الله للناس لتُخرِجهم من الظلمات إلى النور.

عبّاد: وإن ذلك لكائنٌ بإذن الله أيضاً.

أبو سعيد: تبّاً لهؤلاء المرتدين، يريدون أن يعودوا إلى ظلام الجاهلية وأوهامها وقد أكرمهم الله بالإسلام.

عبّاد: هوِّن عليك يا أبا سعيد، أما ترى جيوش الصِّدِّيق وقد هزمت المرتدين في كل مكان؟ ولم يبقَ أمامها سوى عدو الله مسيلمة.. وإنه سيُهْزَم هزيمة مُنكَرة إن شاء الله.

أبو سعيد: إن شاء الله.

عبّاد: يا أبا سعيد..

أبو سعيد: نعم يا عبّاد.

عبّاد: لقد رأيتُ والله رؤيا أنا بها سعيد.

أبو سعيد: خيراً يا عبّاد؟

عبّاد: رأيتُ الليلة كأن السماء قد فُرِجت لي، ثم أطبقَت عليَّ.

أبو سعيد: وما تأويلك لما رأيتَ يا عبّاد؟

عبّاد "في صوت هادئٍ رقيق": هي الشهادة إن شاء الله، هي الشهادة إن شاء الله.. "يبكي".

أبو سعيد: خيراً والله رأيتَ يا عبّاد.. هنيئاً لمن يُرزَق الشهادة.. "في صوت هادئ رقيق" هنيئاً والله له.. هنيئاً والله له.

(2)
أبو سعيد وحده

أمَا إن رؤيا عبّاد بن بِشر رؤيا حق.. وما أحسبه إلا سيفوز غداً بالشهادة، وإنه بها لجدير.. إي والله إنه بها لجدير!.. لأنظرنَّ إليه غداً ماذا سيفعل.. وما أراه إلا سيكون من فرسان المعركة الأبطال.. هنيئاً لك والله.. ترى أتكون هذه آخر ليلة لك في دنيانا هذه؟ غداً نرى ذلك إن شاء الله أكائنٌ هو أم لا؟

(3)
عبّاد بن بِشر – مُنادٍ من المسلمين – رجل من المسلمين - صوت

الصوت: يا معشر المسلمين الثباتَ الثباتَ!.. لا يهولنَّكم ما ترون من جيش مسيلمة!.. فوالله ليكونَنَّ لنا النصر المبين.

"يعود صوت المعركة فيعلو"

الصوت: يا معشر المسلمين لقد كشَفَنا جنودُ مسيلمةَ عن مواقفنا ثلاث مرات فاثبتوا يرحمكم الله!.. فإن النصر اليوم لِأثبَتِ الفريقين.

"يعود صوت المعركة فيعلو"

عبّاد "في صوت متحمس": كشَفَنا جنودُ مسيلمةَ ثلاث مرات، والله ما يليق بنا هذا.

الرجل: إنه آخِرُ ما لديهم يا عبّاد، ولتكونَنَّ لنا الكَرَّةُ الآن بإذن الله.

عبّاد "متحمساً": لا والله يا أخي.. ما ينبغي لنا إلا أن نقتحم على مسيلمة حديقته.

الرجل: لكنَّ في ذلك خطراً بالغاً ومشقةً كبيرةً يا عبّاد.

عبّاد "متحمساً": وهل جئنا نجاهد في سبيل الله إلا لنركب متون الخطر؟ اسمع يا أخي..

الرجل: قُل يا عبّاد.

عبّاد: إني امرؤ أنصاري.. ولطالما كان الأنصار حُماةَ هذا الدين. سأصرخ الآن بالأنصار لنتميز عن جميع الناس ما يخالطنا أحد.

الرجل: ولِمَ ذلك يرحمك الله؟

عبّاد: عسى أن يظهر منا بلاءٌ بَيِّنٌ، فيقتدي بنا بقية المسلمين فيكون النصر..

الرجل: بارك الله فيك.. إنه لَنِعمَ الرأي.

"يعلو صوت المعركة"

عبّاد "بصوتٍ عالٍ متحمسٍ مؤثر": يا للأنصار!.. يا للأنصار!.. احطموا جفون السيوف حتى لا ترجع إليها وتمَيَّزوا من الناس.. يا معشر المسلمين أخلصونا.. أخلصونا!..

"يعلو صوت المعركة مجدداً"

الرجل "متحمساً": بارك الله فيك يا عبّاد.. ها هم الأنصار يتميزون عن الناس ما يخالطهم أحد.

عبّاد "في صوت هادئ حنون": بارك الله فيهم يا أخي.. إنهم حقاً جند الإسلام.

"صوت المعركة يعلو"

الرجل "متحمساً": أربعمئة من الأنصار ما يخالطهم أحد استجابوا لندائك يا عبّاد على رأسهم أبو دجانة، والبراء بن مالك.

عبّاد: "متحمساً" وأنا مع أبي دجانة والبراء بن مالك.

الرجل "متحمساً": لنقاتلنَّ أشد القتال، ولنقتحمنَّ على مسيلمة حديقته عسى أن نفوز بالنصر "ثم في صوتٍ هادئٍ رقيق" وأفوز أنا بالشهادة في سبيل الله مصداقاً لِما كنت رأيتُ في النوم.

(4)
راوٍ يتحدث

الراوي: وانطلقت كتيبة الأنصار، فجاهدت في الله حق الجهاد، وبذلت نفوسها صادقة في سبيل الله، يحدوها حنين نبيل إلى نصر للمسلمين كريمٍ عزيز.. ويحث خطاها رجاءٌ كبيرٌ في الشهادة في سبيل الله طاهرةً وضيئة.

ومضى عبّاد بن بشر وأبو دجانة والبراء بن مالك على رأس الكتيبة المؤمنة الوفيّة يقاتلون أشد القتال.. حتى اقتحموا على مسيلمة الكذاب حديقته.. وانتهت المعركة عن نصرٍ كريم للمؤمنين.

أما عبّاد فقد تحققت الرؤيا التي فسّرها بالشهادة.. سقط شهيداً بعد أن أبلى أشد البلاء، وكثُرَت عليه الجراح، حتى إن وجهه النبيل غابت ملامحه لكثرة ما أصيب.. وحين مضى أبو سعيد الخدري يلتمس صاحبه عبّاد بن بشر لم يستطع أن يتعرف إلى جثمانه الطاهر إلا من علامةٍ كانت في جسده. اللَّهمَّ ارحم عبّاد بن بشر، وأجزل له المثوبة والرضوان.
*****

الفقير وخالد بن عبد الله القسري

الفقير وخالد بن عبد الله القسري

(1)
رجل – زوجته

الزوجة "في صوت حزين": إن الصغار قد فتك بهم الجوع.. والله إنه ليتقطع قلبي حزناً كلما نظرتُ إليهم.

الرجل "في صوت يبدو عليه الضجر": أفٍّ أفٍّ.. ويحك يا امرأة!.. أقادرٌ على شيء أنا ثم أبخل به؟

المرأة: لا.. ما قلتُ ذلك.. لكن أَمَا تجد لك حيلة؟

الرجل: لو وجدت لي حيلة لسارعت إلى إنفاذها فوراً..

المرأة: وهل ستسعى الحيلة إليك يا رجل؟.. "في صوتٍ حادٍّ سريع" اخرج، فكِّر، امضِ إلى الأسواق، اطرق أبواب الموسرين.

الرجل: لا تُكثِري عليَّ اللوم يا امرأة!.. "غاضباً" هل آثرتُ نفسي بشيء دونك أو دون الصغار؟

المرأة: اللَّهمَّ لا..

الرجل: هل عندي مالٌ مُدَّخر؟

المرأة: اللَّهمَّ لا..

الرجل: هل وجدتُ من أستدينُ منه فأبَيتُ؟

المرأة: اللَّهمَّ لا..

الرجل: إذن فَلِمَ اللوم!؟

المرأة "المرأة في صوت عتابٍ وحنان": إني لا ألومك يا رجل.. وما أنت بمُقصِّرٍ أو مُتَّهم..

الرجل: بورك فيكِ، وجُزِيتِ خيراً.

المرأة: لكن هذا القعود لا ينفع، إن مع العسر يسراً، فاخرج عسى أن تُوَفَّقَ إلى رزق طيب حلال.

الرجل "في صوتٍ هادئ": لقد مللتُ والله من الخروج.. ولكن هو أحسن من القعود. لأخرُجَنَّ وعسى أن أعود غير خائب.

المرأة: وفقك الله ورعاك.. وأكثرَ بين يديك الخير.

الرجل: تدبري أمر الصِّبية الصغار حتى أعود.. السلام عليكم. "يسمع صوت خطاه مُنصرفاً"

الزوجة: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. اللَّهمَّ فرِّج عنا هذا الضيق يا أرحم الراحمين.

(2)
الرجل – صديق له

الصديق: لقد أحزنني والله أمرك.. لكنَّ الذي بين يدي قليل، وأنت أدرى بحالتي..

الرجل: صدقت والله.

الصديق: ومع هذا فلأبعثنَّ إلى دارك الساعة بشيء من الطعام للصغار وأمهم.

الرجل: جزيت خيراً.

الصديق: عزيزٌ عليَّ والله ما تَلقَى يا أخي.. وددت لو أني أقدر على مدِّك بمالٍ يطيب به حالك.

الرجل "في حزن وبصوت فيه شيء من التأفف": بارك الله فيك.. أخشى أن تكون أنت الآخر بحاجة إلى غوث.

الصديق "بعد صمت": أما فكرتَ بالشخوصِ إلى الأمير؟

الرجل: أي أمير تريد؟

الصديق: خالد بن عبد الله القسري.

الرجل: أوَ تنصحني بالذهاب إليه؟

الصديق: والله ما أدري حقيقة حاله.. لكنني سمعت الناس يمتدحونه ويصفونه بالجود.

الرجل: لأذهبنَّ إليه، ولأعرضنَّ له شكاتي بما يفجؤه ويدهشه.

الصديق: وكيف ذلك؟

الرجل: خاطِرٌ ألقِيَ في خَلَدي أنه لي نافع.

الصديق: على بركة الله!.. لكن لا تنسَ أن تعود إليَّ لتحدِّثني بشأنك مع خالد.

الرجل: سآتيك إن شاء الله.

الصديق: إن شاء الله.

(3)
الرجل – خالد بن عبد الله القسري – خادم – غلام

الخادم "في حِدَّة": لماذا لم تنصرف أيها الرجل.. أما قلتُ لك: انصرف؟

الرجل "في عناد": وأنا ألم أقل لك: لن أنصرف؟

الخادم: يا لك من لجوجٍ مُعانِد.. أما تخشى أن يرتاب بك الحرس إذ يرونك تطيل اللبث إزاء دار الأمير خالد بن عبد الله القسري؟

الرجل "في عناد": لا.. ما أخشى ذلك.. لقد طلبتُ أن تأذنوا لي بالدخول على الأمير فأبيتم.. وسأبقى هنا حتى إذا خرج عدَوْتُ إليه، عندها افعلوا ما تريدون.

الخادم "في ضجر": لا حول ولا قوة إلا باللّه.. اللَّهمَّ أمضِ هذا اليوم في سلامةٍ وعافية.

لغط وضجة – باب يُفتح – وقع أقدام..

الخادم "في صوت متعجل مضطرب": انصرف أيها الرجل، لا تعرضن نفسك لمكروه، فقد خرج الأمير من داره. "صوت خطى"

الرجل: أوَقَدْ خرج حقاً؟

الخادم: أي والله.. أما تراه؟ إنه ذلك الذي يهمُّ بوضع رجله في ركاب دابته.

الرجل "صوت ركض سريع": أيها الأمير!.. أيها الأمير!.. أطال الله بقاءك.. إنَّ لي عندك حاجة.

خالد "في صوتٍ رزين": قل ولا تخف.

الرجل "في صوت مضطرب": أيها الأمير ناشدتكَ الله إلّا ضربتَ عنقي.

خالد: ولِمَ ويحك!؟ أكُفرٌ بعد إيمان؟

الرجل: لا..

خالد: أفترغبُ عن طاعة الرحمن!؟

الرجل: لا..

خالد: أفقتلتَ نفساً!؟

الرجل: لا..

خالد: فما سبب ذلك إذن!؟

الرجل: لي خصم لجوج قد علق بي ولزمني وقهرني.

خالد: من هو خصمك يا ترى!؟

الرجل: الفقر أيها الأمير!..

خالد: فكم يكفيك لدفعه!؟

الرجل: أربعة آلاف درهم.

خالد: إني مُمِدُّكَ بأربعة آلاف درهم. "صوته عالياً" يا غلام.. يا غلام!..

الغلام: أمرُ مولاي.

خالد: ادفع له أربعة آلاف درهم في الحال.

الغلام: أمرُ مولاي.

خالد "بعد صمت": أيها الرجل هل رأيتَ أحداً من التجار ربح مثل ربحي هذا اليوم؟

الرجل: وكيف ذاك!؟ أطال الله عمرك..

خالد: لقد عزمتُ على أن أدفع لك ثلاثين ألف درهم، فلمّا طلبت أربعة آلاف وفَّرتَ عليَّ ستة وعشرين ألف درهم.

الرجل: حاشاك وأعيذك أن تربح على مُؤمِّلِكَ أيها الأمير، فإنك بالجود معروف مشهور.

خالد: أما إنك لذو بيانٍ ولسان!.. "في صوتٍ عالٍ" يا غلام!..

الغلام: أمرُ مولاي.

خالد: أعطِ هذا الرجل ثلاثين ألف درهم.
*****

كرم العبد الفقير فوق كرم الغني الأمير

كرم العبد الفقير فوق كرم الغني الأمير

(1)
المنصور – رجل

الرجل: بارك الله فيك يا أمير المؤمنين.. لقد هدأت في عهدك الفتن، وسكنت الأمور، وطاب عيش الناس.

المنصور: لله الحمد على ما أولى وأنعم.

الرجل: إن عهدك يا أمير المؤمنين عهد خير وبركة، فقد قصمتَ ظهور الأعداء، وأذعَت العدل والأمن في الناس حتى اطمأنوا وفرحوا، وباتوا وهم يقولون: اللَّهمَّ احفظ علينا أمير المؤمنين أبا جعفر المنصور.

المنصور: اللَّهمَّ لك الحمد، اللَّهمَّ لك الحمد، أنت تعلم كم سهرتُ وقاسيتُ حتى هدأتِ البلاد، وطاب عيش العباد..

الرجل: إنك لمأجورٌ مشكورٌ إن شاء الله على ذلك.

المنصور: اللَّهمَّ مكِّن لي في الأرض أحكم بشرعك، وأجاهد في سبيلك.

الرجل: إن نعمة الله عليك يا أمير المؤمنين ضافية سابغة، فإنه قد مكَّن لك، وبسطَ سلطانك.

المنصور: صدقت أيها الرجل!.. لكنني لا يزال الأرق يعاودني ليلةً بعد ليلة.

الرجل: ولِمَ يا أمير المؤمنين!؟ حفظك الله ورعاك، هل من خارج!؟ هل من صاحب فتنة!؟ هل من عدو!؟

المنصور: لا.. ولله الحمد والشكر، لكن نفراً ممن كانوا لنا معادين معاندين وحاربونا أشد الحرب لا يزالون مختفين عن الأنظار.

الرجل "في لهجة متسائلة": فذاك الذي يقلقك يا أمير المؤمنين!؟

المنصور: إي والله.. ذاك الذي يقلقني.

الرجل: ما كان الأمر يستحق هذا كله.. قومٌ لا حول لهم ولا طَول متوارون خائفون.

المنصور: "في لهجة حازمة" لا.. غيرك يقولها.. إنَّ من ألقت إليه الأمة مقاليدها لا ينبغي له أن يستهين بخصم، فذلك ليس من الحزم في شيء.

الرجل: أما والله إن أمير المؤمنين لحازمٌ حقاً. "صمت قصير" ترى هل لي أن أعرف من هو الذي يشغل بالك؟

المنصور: إنه معن بن زائدة الشيباني. "صمت قصير" ذلك الذي كان سيفاً لبني أمية، وقاتَلنا أشد القتال.

الرجل: فإن الناس يعرفون يا أمير المؤمنين أنك طالب له، وما أرى إلا أن الظفر به قريب إن شاء الله.

المنصور: إن شاء الله. "في صوتٍ آمرٍ حازم" أعلِنْ عن جائزة كبيرة لمن يأتي بمعن.. وليكن رجالك طالبين له حتى يظفروا به.

الرجل: أمرُ مولاي.. في الحال أنفذ طلبك.. والله هو المسؤول أن يوفقنا إلى العثور عليه.

(2)
معن بن زائدة – مولى له

معن: كيف ترى الأمر أيها المولى الأمين؟

المولى: إن المسالك تنسدُّ في وجوهنا يا معن واحداً إثر الآخر.

معن: ولِمَ يا تُرى؟

المولى: إن الأمر قد توطد لأبي جعفر المنصور.

معن: صدقت.

المولى: وأنت تعلم ذكاءه ودهاءه، وحزمه ويقظته.

معن: إنه من ذلك على حظ كبير.

المولى: وقد أعلن عن جائزة كبيرة لمن يأتي بك أو يدل عليك.

معن: الله خيرٌ حافظاً وهو أرحم الراحمين. "صمت" بِمَ تشير عليَّ!؟ فإني أراك ناصحاً أميناً.

المولى: عسى أن أكون كذلك.

معن: بل أنت حقاً كذلك، لقد لازمتني ووفيت لي في أيام رخائي وأيام شدتي.

المولى: أرى أن تعجِّل في الخروج إلى البادية، فكثير من الناس يبحثون عنك طمعاً في الجائزة.

معن: هو ما عزمنا عليه من قبل.. ولعلي في هيئتي الجديدة أقرب إلى النجاة.

المولى: ولِمَ لا!؟.. وقد لبست جُبَّةَ صوفٍ غليظة، وخففتَ لحيتكَ وعارضَيْك، ومكثتَ في الشمس أياماً حتى تغير لونك؟

معن: إنما هي أسبابٌ نأخذ بها، وإنما النجاة من الله.

المولى: امض الآن إلى البادية حتى يَخِفَّ عنك الطلب.. واعلم أني باقٍ على الوفاء لك حيث تعلم.

معن: بارك الله فيك، وجزاك خيراً.. والله لئن رُزِقتُ الأمن والعافية من جديد ليكونَنَّ لك شأن عندي.. أي شأن!.

المولى: حفظك الله في حِلِّكَ وترحالك، ووفقك ورعاك.. اخرج إلى البادية راشداً محفوظاً.

معن: إني خارجٌ الآن.. السلام عليكم.

المولى "في صوتٍ هادئٍ حزين": وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. اللَّهمَّ احفظ معن بن زائدة، وارزقه الأمن والسلامة.

(2)
معن – رجل من شرطة المنصور أسود اللون

معن "في صوت هادئ": الحمد لله رب العالمين.. أحسب أني الآن في نجوة وأمن في هذه البادية إن لم يكن الرجل الأسود الذي ركب ناقته ورائي من جند المنصور أو عيونه.

"وقع خطى هادئة تبدأ خافتة، ثم تتضح شيئاً فشيئاً"

معن "في صوت هادئ": من هذا الذي يقترب مني يا ترى؟ "يسمع صوت الخطى".. أهو رجل لا شأن له بي أم واحد من عيون المنصور؟ "يسمع صوت الخطى" إن يكن نظري صادقاً فإنه الرجل الأسود نفسه. "وقع الخطى واضح"

الأسود "في لهجة هادئة حازمة": معن بن زائدة الشيباني.. أليس كذلك؟

معن "في صوت متردد": أوَما تلقي السلام أولاً يا رجل؟

الأسود: بلى.. بلى.. أصبت يا معن، وكيف لا ألقي السلام على معن بن زائدة الشيباني؟

معن "في صوت هادئ": اتق الله يا رجل، وأين أنا من معن؟

الأسود: بل أنت معن، أنت بُغيةُ أمير المؤمنين.

معن: لقد أخطأتَ يا رجل.. ومن أنا حتى يطلبني أمير المؤمنين؟

الأسود: دع عنك هذا يا معن، فأنا والله أعرف بك.. أنت معن بن زائدة الذي يطلبه أمير المؤمنين.

معن "بعد صمت قصير وفي لهجة إغراء": اسمع يا هذا.. إن كانت القصة كما تذكر فهذا جوهر حملته معي بأضعاف ما بذله المنصور لمن جاءه بي، فخذه ولا تسفك دمي.

الأسود: هاته أنظر إليه.

معن: خذه.. "صوت حركة شيء" ها هو بين يديك.

الأسود "بعد صمت قصير": لقد صدقت يا معن.. إنه لجوهر نفيس!.. ولست قابله حتى أسألك عن شيء فإن صدقتني أطلقتك.

معن "مسرعاً": قل..

الأسود: إن الناس وصفوك بالجود، فأخبرني هل وهبتَ مالك كله قط؟

معن: لا.

الأسود: فالنصف؟

معن: لا.

الأسود: فالثلث؟

معن: لا.

الأسود "بعد صمت": فما أكثر شيء وهبتَه من مالك!؟

معن: أظن أني وهبت العُشرَ منه.

الأسود: ما ذاك بعظيم، أنا والله راجل، ورزقي من المنصور عشرون درهماً، وهذا الجوهر قيمته ألف دينار وقد وهبته لك.

معن "مندهشاً": ها..

الأسود: ووهبتك لنفسك ولجودك المأثور بين الناس..

معن "مندهشاً": إنك والله لرجل.

الأسود: لتعلم أن في الدنيا من هو أجود منك، فلا تعجبك نفسك، ولتظل على جودك وكرمك بين الناس. انصرف راشداً محفوظاً، وكن شديد الحذر، فإن المنصور جادٌّ في طلبك.

معن "في صوتٍ مندهش ومُعجب معاً": يا هذا لقد فضحتني، ولسَفْكُ دمي أهونُ عليَّ مما فعلت، فخذ ما دفعتُه إليك فإني في غنى عنه.

الأسود "ضاحكاً": أردت أن تكذبني في مقامي هذا، فوالله لا آخذه، ولا آخذ لمعروفٍ ثمناً أبداً.. أستودعك الله يا معن.. احفظ وصاتي جيداً، وكن على حذر.
*****

السجين والموت والنجاة

السجين والموت والنجاة

(1)
مرداس في السجن – سجين آخر

"حديث مرداس تبدو عليه الرزانة والثقة، وحديث الآخر تظهر فيه الحدة والعصبية والقلق"

مرداس: اللَّهمَّ إننا نحمدك حَمْدَ الشاكرين في السراء والضراء.

الآخر "في صوت يبدو عليه الضيق": اللَّهمَّ عجّل لنا بالفرج، وخلصنا من هذا السجن، وأعِدنا إلى أهلنا سالمين.

مرداس: لا تقلق يا أخي، فوِّض الأمر لله، فهو أرحمُ بنا.

الآخر "في صوته القلق": إنني مفوضٌ أمري لله يا مرداس.. وإنما أنا أدعو وأجتهد في الدعاء.. "في عصبية" فهل في ذلك بأس؟

مرداس: لا.. ليس في ذلك بأسٌ قط.

الآخر: أما عرفنا أن الدعاءَ مُخُّ العبادة؟

مرداس: بلى يا أخي!.. فَلْأَدْعُ أنا.. وَلْتَدْعُ أنت أيضاً.. فذلك مما يرفع درجاتنا، لكنني أوصيك بالصبر.

الآخر "في ضيقٍ وعصبية": الصبر، الصبر، نحن في السجن على اجتهادِنا في العبادة، وحرصِنا على الطاعة، وعُبَيْدُ الله بن زياد وهو ظالمٌ آثم يفتكُ بنا كيفَ يشاء.

مرداس: إن الأمرَ لله يضعُه حيث يشاء.

الآخر: الأمرُ كلُّه حقاً لله يا مرداس!.. لكن هذا لا ينبغي أن يقودَنا إلى العجز والقعود.

مرداس: يَغفِرُ الله لك يا أخي.. لو كُنّا ممن آثرَ القعودَ لَما قُتِلَ مِنّا مَن قُتِلَ، وسُجِنَ مَن سُجِن.

الآخر "في حِدَّة وعصبية": لكن أليس مما يبعث على الحزن أن تنتهي الأمور إلى هذا الذي نحن فيه؟ أصحابُنا بين قتلٍ ومطاردة، وبين سجنٍ طويل الله يعلمُ نهاية هذا الذي نحن فيه.

مرداس: إنما علينا أن نصبر ونَثبُتَ على الحق.. وثباتنا هذا نصرٌ غير قليل، ثم لا تنسَ أن الله عز وجل جعلَ الابتلاء من نصيبِ من يحبُّهم الأمثلَ فالأمثل.

الآخر "في ضيق": إنني إنما أسأل الله العافية.

مرداس: لا تثريب عليك قط في هذا!.. فالرسول صلى الله عليه وسلم علَّمَ عمَّه العبّاس أن يسأله العافية، لكن إذا كان ابتلاءٌ فعلينا الصبر والثبات.

الآخر: اللَّهمَّ عجِّل بالفرج، اللَّهمَّ رُدَّنا إلى أهلينا ومساكنِنا، اللَّهمَّ فُكَّ عنا هذه القيود والأغلال.

مرداس: ما أحسن ما دعوت!.. لكن حذارِ أن يؤولَ أمرُكَ إلى اليأسِ يا أخي، وعليك بتلاوةِ القرآن، ومداومةِ الذكر.. وإن الله تعالى جاعلٌ للذي تراه فرجاً ومخلصاً.

(2)
مرداس – السجّان

"خطوات ثقيلة على الأرض.. أقفال تُقفَل.. أبواب حديدية تُغلَق.."

السجان "كأنه يناجي نفسه": واللهِ ما طابت لي هذه الوسيلةُ في الرزق، صباحي مع المساجين، ومسائي مع المساجين، والويلُ لي إن هرب مني أحد. عليَّ أن أتفقدَهم واحداً واحداً، وأنفذ وصايا الأمير في كلٍّ منهم كما طلب.. اللَّهمَّ هيِّئ لي عملاً كريماً سوى عملي هذا.

مرداس: "صوت مرداس يتلو القرآن الكريم في خشوعٍ ورقةٍ وحنان":

﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ* وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ* وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ [الزمر: 53-55].

"صوت مرداس يدعو في خشوع مؤثر":

اللَّهمَّ اغفر لي ذنوبي وخطاياي، وأسبِغ عليَّ ثوب رحمتك. اللَّهمَّ اجعلني من المنيبين إليك، الصادقين الخاشعين. اللَّهمَّ طهِّرني من الكذب والنفاق والرياء، واجعلني مُخْلَصاً لك، واجعل أمري كلَّه، دقيقَه وجليلَه خالصاً لوجهك الكريم يا الله يا أرحم الراحمين.

السجان "في صوت هادئ": إن مرداساً قد فتَّت قلبي، أدهشني والله اجتهاده في العبادة، وصبره وثباته.. "وقع خطى السجان يمشي على الأرض بهدوء".

السجان: كيف أنت اليوم يا مرداس؟

مرداس: الحمد لله رب العالمين، عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، إن أصابه خيرٌ شكر فكان خيراً له.. وإن أصابه شرٌّ صبر فكان خيراً له. اللَّهمَّ اجعلني مؤمناً شاكراً في السراء، صابراً في الضراء.

السجان: ها قد هدأ الليل، وخَلَتِ الشوارع، فاذهب إلى بيتك، وعُدْ إليَّ قبل الفجر، وحذار أن يراك أحد.

مرداس: بورك فيك، إنك واللهِ رجلٌ صالح.. شهورٌ مضت وأنت تُخرِجني من السجن وأنا أعود إليك.. أسأل الله جل شأنه أن يجزيك عني خير الجزاء.

السجان: أنت رجلٌ وفيٌّ، وأنا واثقٌ بك، ولو أنك أردتَ الهرب لكان ذلك بوسعك، لكنك تعود دائماً.

مرداس: ما كان للمسلم أن يَغدُر، إني عائدٌ إليك أياً كان الأمر.

السجان: اخرج، اخرج مُصاحَباً محفوظاً. دعني أفتح الباب، "بابٌ يفتح"، وأفك هذه القيود "قعقعة" امضِ يا مرداس.. واذكرني باللّه عليك في صالح دعائك.. عجِّل فما ثَمَّةَ عينٌ ترانا الآن.

(3)
مرداس – زوجته

"مرداس يتحدث هادئاً ثابتاً رزيناً، والزوجة حديثها مضطرب منفعل يختلط أحياناً بالبكاء"

الزوجة "بصوت غاضب منفعل": وكيف تعود إلى سجنك يا مرداس؟

مرداس: إن الفجر قد اقترب، ولا بد لي من الرجوع.

الزوجة: لكن الأمر هذا اليوم مختلف.. إن عُبَيْدَ الله بن زياد قد أمر بقتلكم جميعاً صباح هذا اليوم.

مرداس: ما كان المسلمُ لِيَغدُرَ أو يخون.

الزوجة: أتلقي بنفسك إلى الموت؟

مرداس: يقضي الله ما يشاء.. لقد أحسن السجان لي، فمنذُ زمنٍ وهو يتركني آتي إلى داري وأعودُ إليه قبل الفجر، فهل أقابلُ ذلك بالغدر؟

الزوجة "باكية": لكن الحال الآن مختلفٌ يا مرداس، كنتَ تعودُ كل يومٍ إلى السجن، أما اليوم فأنت عائدٌ إلى القتل.

مرداس: لن أغدُرَ قط.

الزوجة "باكية": أما قلت لك: إن ابن زياد قد أمر بقتلكم جميعاً هذا الصباح؟

مرداس: بلى.

الزوجة: فكيف تعودُ إلى السجن؟

مرداس: لن أغدُرَ برجلٍ لا أعرفُه، فكيف بهذا السجّانِ الذي أحسنَ إلي؟

الزوجة: "تبكي"..

مرداس: أنا الكَمِيُّ وتأبى الغُرُّ من شِيَمِي نُكْرانَ نعمةَ مَن أسدى إليَّ يدا.

الزوجة: "تجهش بالبكاء"

مرداس: ما كنتُ لأغدر!.. ما كنتُ لأغدر!.. إني عائدٌ إلى السجن، والله يقضي ما يشاء.

(4)
مرداس – السجّان

السجان: واللهِ إنكَ لرجلٌ كريم يا مرداس.. عُدْتَ إليَّ لأضعَ في يدك القيود وأنت تعلم أن ابن زياد قد أمر بقتلكم.

مرداس: ما كان المسلمُ ليخون.. يقضي اللهُ ما يشاء.. وإني راضٍ بقضائه.. حسبيَ الله ونعمَ الوكيل.

السجان: لقد أدهشني أمركَ يا مرداس!.. والله لَأفضِيَنَّ بما كان منكَ لابن زياد.

مرداس: أما تَحْذرُهُ على نفسِك؟

السجان: بلى والله.. إنه لظلومٌ غشوم.. لكني واللهِ قد أعجبني ما فعلت، ولأبذلنَّ جَهدي كلَّه لاستنقاذِك، وعسى أن يُعْجِبَهُ ما فعلتَ فيعفوَ عنك.

(5)
ابن زياد – السجّان

السجان "يتحدث بحماسةٍ وقلقٍ ورجاء": هذه قصة مرداسٍ معي أطال الله بقاءك أيها الأمير!.. لقد كان وفياً معي إذ عادَ وهو يعلمُ أنه القتل.. ولقد كنتُ وفياً معك إذ جَلَوْتُ لك حقيقة الأمر.. وأنت حفِظك الله أجدرُ مِنّا بالمكرُماتِ فَهَبْ مرداساً لي، واعفُ عنه جزاك الله خير الجزاء.

ابن زياد: واللهِ إن أمر مرداسٍ لعجيب!.. وإنَّ صِدْقَكَ معي لمكرمة، ولن أكونَ ألْأَمَ الثلاثة. اذهبْ فقد وهبتُ مرداساً لك.. ولكن حذارِ أن تعودَ في قابلِ الأيام إلى مِثلِ ما فعلت.
*****

معروف قتيبة ووفاء الأسير

معروف قتيبة ووفاء الأسير

(1)
الحَجّاج – قتيبة – رجل

الحجاج: ما رأيت شيئاً كالسيف يطفئ نار الفتن، ويقمع العُصاة.

قتيبة: لقد كنتَ دواء العراق.. لقد أصاب أميرُ المؤمنين حين اختارك لأرض الفتن والعصيان.

رجل: لقد ذاع صيتك بين الناس.. حتى إن ذُكِر بينهم اسم الحجاج دخلتهم الرهبة والخوف.

الحجاج "في قوة واعتزاز": أنا أمضى سهم في كنانة أمير المؤمنين.. لقد وطّأتُ له العراق فهو هادئ آمن..

الرجل: وضعتَ لقومك بني ثقيف مجداً مؤثلاً حتى إن الواحد منهم ليشمخ بأنفه، ويدّعي أنه قريب لك وإن بَعُد.

الحجاج "يضحك ويتحدث في غرور وقوة": إنني الحجاج بن يوسف الثقفي، أعظم ولاة بني أمية، ليس فوقي سوى أمير المؤمنين.

"بعد صمت قصير وفي صوت آمِر"

الحجاج: ما فعلتم بالعصاة الذين أسرناهم؟

الرجل: أنفذنا فيهم أمرك أيها الأمير.. قتلناهم.

الحجاج "آمراً": جميعاً؟

الرجل: بقي منهم واحد حين أقيمت صلاة المغرب.

الحجاج: يا قتيبة..

قتيبة: خيراً أيها الأمير؟

الحجاج: انصرف بهذا الرجل حتى تغدو به عليَّ في الصباح.. ليلحق إذ ذاك بغيره من العصاة والمتمردين.

قتيبة: كما تحب أيها الأمير.

(2)
قتيبة – الأسير

قتيبة: ويحك أيها الرجل!.. كيف خرجت على الحجاج وأنت تعرف صرامته وقوته!؟

الأسير "في صوت مستعطف": يا أيها الأمير!.. يا قتيبة بن مسلم!.. والله لأصدقنك، إني والله ما خرجت على المسلمين، ولا استحللت قتالكم، ولكن ابتُليتُ بما ترى.

قتيبة: أين تفرُّ من سيف الحجاج وقد وقعت بين يديه؟

الأسير: أطال الله بقاءك.. والله ما كذبتك قط.

قتيبة: غداً ألقِ بعذرك بين يدي الحجاج.

الأسير "حزيناً": سيكون السيف أسبق إليَّ. "صمت" هل لك في معروف؟

قتيبة: قل ما تشاء.

الأسير "مستعطفاً": عندي ودائع وأموال.. فهل لك أن تخلي سبيلي، وتأذن لي حتى آتي أهلي وأرد على كل ذي حق حقه وأوصي، ولك عليَّ أن أرجع حتى أضع يدي في يدك.

قتيبة "ضاحكاً": أتريد مخادعتي أيها الرجل!؟.. امضِ معي، وغداً أذهب بك إلى الحجاج، وإني من أمرك لبريء.

الأسير: "يبقى صامتاً".

"وقع خطى على الطريق"

الأسير "في لهجة استعطاف": أيها الأمير، إنني أعاهدك باللّه القوي العظيم أن أعود إليك قبل الفجر.

قتيبة "في صوت هادئ": تعاهدني باللّه القوي العظيم، تعاهدني باللّه القوي العظيم.. ماذا أنت فاعل إن ذهبت؟

الأسير: أذهب إلى أهلي فأوصي وأردُّ الودائع.

قتيبة "في صوت هادئ": فاذهب أيها الرجل، ولا تنسَ أنك عاهدتني باللّه.

الأسير "فرِحاً": بارك الله فيك وجزاك خيراً.. والله لأعودنَّ إليك ولن أخون.

(3)
قتيبة – زوجته – الأسير

"الحديث بين قتيبة وزوجته، يظهر عليه الحزن والندم"

الزوجة: ويحك يا قتيبة! أمِثلُك يفعل هذه الفِعلة!؟

قتيبة: دعيني من لومك يا امرأة!.. والله ما ملكتُ نفسي إذ قلتُ له: اذهب، وإنه قد عاهدني باللّه القوي العظيم.

الزوجة: وهل له عهدٌ إن كان خائناً؟ "تتحسر" آه.. إن زَلَّة الأريبِ كبيرةٌ حقاً.

قتيبة: سبق السيفُ العذل.. "في صوتٍ ضارع": اللَّهمَّ رد لي هذا الأسير فإنما تركته لأنه عاهدني بك يا رب.

الزوجة: ها قد كاد الفجرُ ينبلِج وصاحبك لم يأتِ بعدُ يا قتيبة.

قتيبة: فوّضتُ أمري لله..

الزوجة: أنت تعلم كم أحسن الحجاج إليك.. كيف تفعل معه هذه الفِعلة!؟ كم حاسدٍ لك وشانئٍ ومُبغضٍ سوف ينتهِزُها ليُغيِّر قلب الحجاج عليك!..

قتيبة: اللَّهمَّ لا تخيِّب فراستي في هذا الأسير.

الزوجة "في ضجر وحزن": يا لها من ليلة طويلة!.. ويا له من هَمٍّ ثقيل! تُرى كيف ستغدو إلى الحجاج وحدك في الصباح وقد تركتَ الأسيرَ يُفلِت من بين يديك!؟

"الباب يُطرَق بشدة"

قتيبة "بسرعة": ترى أيكون هو؟ "وقع خطاه على الأرض"

الزوجة "ضارعة": اللَّهمَّ اجعله أسير قتيبة.. "الطَّرْق يتوالى"

قتيبة: "وقع خطاه على الأرض، ثم صوت الباب يفتح"..

الأسير: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

قتيبة "فرِحاً": وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.. والله إنك لرجل شريف، وإن فيك لموضعاً للصنيعة والإحسان، وإنني غير تاركٍ إياك، يقتلك الحجاج دون أن أكلمه فيك.

الأسير: جزاك الله خير الجزاء.. ودَّعتُ أهلي، وأدَّيتُ الودائع، وأوصيتُ وصلَّيتُ واستغفرت، وها أنذا الآن معك.

قتيبة: إنك رجل حُر، وإن فيك موضعاً للصنيعة، الحمد لله الذي لم يخيِّب فراستي فيك.

(3)
الحجاج – قتيبة

قتيبة: وهكذا أيها الأمير -أطال الله بقاءك- عاد الرجل إليَّ، وكان بوسعه أن يهرب.

الحجاج: إن أسيرك يا قتيبة رجلٌ حُرٌّ والله!..

قتيبة: إي والله أيها الأمير، لقد قال لي حين عاد: لقد جعلت لك عهد الله عليَّ، أفأخونك ولا أرجع؟

الحجاج: ما كان الحرُّ ليغدر أو يخون.. أتريد أن أهبه لك يا قتيبة؟

قتيبة: إي والله أيها الأمير، إنك أهل للعفو، وإنه أهل للصنيعة والإحسان..

الحجاج: هو لك فانصرف به معك.

قتيبة: بارك الله فيك، وأطال بقاءك.. كانت ليلةً ما أطولها!.. أعقبت صباحاً ما أحسنه!.. الحمد لله الذي وفَّقنا نحن الثلاثة إلى هذا الخير العظيم.
*****

المسلم الأسير ورستم قائد الفرس

المسلم الأسير ورستم قائد الفرس

رستم – جالينوس – حاجب – رجل مسلم

رستم: إن يزدجرد رجل قليل التجربة والخبرة.. "في ضيق وتأفف" أقسمُ بالنار أنه ليس أهلاً لحكم فارس.

جالينوس: صدقت يا رستم.

رستم "في ضِيق": آه.. آه.. لو لم يكن هؤلاء المسلمون في حربٍ معنا لكان لي مع يزدجرد هذا شأن آخر.

جالينوس: هوّن عليك يا رستم.. أنت بطل فارس، وأنت فارسها المؤمل، وبلادنا اليوم يكاد يجتاحها هؤلاء المسلمون الغزاة.. فدع عنك يزدجرد فأمامنا اليوم ما هو أخطر.

رستم: ويحك يا جالينوس.. إنني اليوم بين نارين. يزدجرد وَلّاني قتال هؤلاء المسلمين.. لكنه ما زال يلاحقني برسائله وأوامره.

جالينوس: إنه يود الإسراع في مقابلة المسلمين في معركة فاصلة.

رستم: هو رجل لا علم له بالحرب.. وأنا أريد أن أطاول هؤلاء، فليس من صالحنا لقاؤهم الآن.

جالينوس "في لهجة متسائلة": فذلك الذي أهمّك يا رستم؟

رستم: هو ذاك يا جالينوس، نار يزدجرد من ورائي، ونار المسلمين يقودهم سعد بن أبي وقاص من أمامي.

جالينوس: أنت أمل فارس في محنتها اليوم، فدع عنك ما يؤذيك، فثمة معركة ضارية تنتظرنا في القادسية.

رستم "محزوناً": يزدجرد أكل قلبي، فهو يلاحقني بأوامره من المدائن.. وعُمر أكل قلبي هو الآخر.. إنه مقيم في المدينة ويسرب إليّ هؤلاء المقاتلين الشجعان.

جالينوس "في احتقار": أهؤلاء مقاتلون؟ أهؤلاء شجعان؟ لا يا رستم!.. نحن أبناء فارس أقوى منهم وأعظم.

رستم: ليس حكيماً يا جالينوس من استهان بقوة أعدائه.

جالينوس: أما تذكر شأن هؤلاء يا رستم قبل سنوات قلائل؟ لقد كانوا أشقى الأمم حظاً.

رستم: صدقت.. لقد كانوا كذلك.

جالينوس: كان الذي يُوفَّقُ للقدوم إلى بلادنا في تجارة أو زيارة يعدُّ نفسه صاحب حظ عظيم.

رستم "في ضيق": صدقت.. صدقت.. كانوا.. كانوا.. كانوا.. انظر إليهم اليوم يا جالينوس.. أما اقتحموا على هِرَقْل ديار الشام!؟

جالينوس: بلى.

رستم: أما هزموا جيوشه الجرارة وهو الإمبراطور المظفر الذي هزمنا قبل سنوات قليلة وكاد يقتلع فارس من أصولها!؟

جالينوس: بلى.

رستم: أما مضت عليهم ثلاث سنوات وهم يجوسون خلال ديارنا يقتلون ويأسرون؟

جالينوس: بلى.

رستم: إنَّ لهؤلاء شأنا جديداً في يومنا هذا..

جالينوس "في ازدراء": لا تعظِّم شأنهم يا رستم.

رستم "في صوت هادئ حزين": بل أنت لا تُحقِّر من شأنهم يا جالينوس.. وددتُ لو عرفتُ كيف حدث في هؤلاء مثل هذا التغيير الكبير..

جالينوس "في صوتٍ متردد": أأصارحكَ يا رستم؟

رستم: أجل.. الصراحة خيرٌ لي ولك.. وأنت عندي محل ثقة يا جالينوس من بين قادة جيشي هذا.. فقل ما شئت.

جالينوس: إن يسمع جيشك هذا الذي تقول، ينكل عن القتال.. لأنه سيزدري نفسه، ويهول من أمر المسلمين.

رستم "في صوته الهادئ الحزين": لقد نصحتني فصدقتني يا جالينوس.. وأنا سوف أصدقك كذلك.

جالينوس: شكراً لك.. أرجو أن أكون عند حسن ظنك.

رستم: لقد ألقِيَ في خلدي أن الهزيمة سوف تحل بنا..

جالينوس "في استنكار": لا.. يا رستم.. لا.. غيرك يقول ذلك.

رستم: إنَّ لهؤلاء المسلمين نيةً في القتال صادقة أمضى من عَددنا، وأقوى من عُددنا.

جالينوس: ما أراك إلا قد بالغت يا رستم.

رستم: لماذا نحن نتجادل هكذا؟ فلنحضر الأسير المسلم الذي طلبت منك ومن آزاذ مرد أن تأتياني به ولنتحدث معه.

جالينوس "في صوتٍ عالٍ": أيها الحاجب.. أيها الحاجب!..

"باب يُفتَح – وقع خطى"

الحاجب: أمر مولاي..

جالينوس: سيدك رستم يريد إحضار الأسير المسلم الذي من الغرفة المجاورة.

الحاجب: في الحال يا مولاي.. "خطاه ينصرف.. الباب يُغلَق"

جالينوس: حين طلبتَ أن نأتيك برجل من جند سعد ركبت بنفسي ومعي آزاذ مرد في مئة رجل.. حتى انتهينا إلى القادسية فوجدنا واحداً من جند المسلمين منفرداً فاختطفناه وعُدنا به سريعاً، ولم يتمكن الأعداء من اللحاق بنا.

رستم: أنت عندي يا جالينوس أحب قوّادي إليَّ، وإني لأضع بين يديك ما أقتنع به ما لا أضعه لدى الآخرين..

"الباب يُفتح.. خطى رجلين وصوت سلاسل"

الحاجب: هذا هو الأسير يا مولاي..

رستم: فك قيوده أيها الحاجب وانصرف..

الحاجب: أمر مولاي.. "قعقعة القيود وهي تُفَكُّ.. خطى الحاجب.. الباب يُفتح ويُغلَق"

رستم "في همس": نحن وحدنا مع هذا الأسير يا جالينوس.. وسنحاول معرفة ما الذي في نفوس جيش سعد من حديثنا معه.

رستم: من أنت أيها الرجل؟

المسلم "في صوت تظهر عليه القوة والثقة خلال الحديث كله، وحتى نهاية المشهد": رجلٌ من عامة المسلمين.

رستم: أتدري أين أنت الآن؟

المسلم: أسيرٌ بين أيديكم.

رستم: أنت الآن تُحدِّث "يفخم الكلام" رستم بطل فارس..

المسلم: أنت رستم إذن قائد جيش الفرس..

رستم: اسمع أيها الرجل.. واصدقني في الحديث.

المسلم: لأصدُقنَّك في الحديث كائناً ما كان الأمر.

رستم: ما جاء بكم؟.. وماذا تطلبون؟

المسلم: جئنا نطلب موعود الله.

رستم: وما هو.. "في هزء" هذا الموعود الذي جئتم تطلبون؟

المسلم: أرضكم وأبناءكم ودماءكم إن أبيتم أن تسلموا.

رستم "في هزء وبلهجة متسائلة": فإن أسلمنا؟

المسلم: إن أسلمتم فنحن منكم وأنتم منا.. لكم ما لنا وعليكم ما علينا.

رستم "في هزء": وإن أبينا؟

المسلم: أنتم عندها بين أمرين، إما القتال وإما الجزية.

رستم: وما الجزية؟

المسلم: مالٌ تدفعونه لنا، وتأمنون على دياركم وأموالكم.

رستم "غاضباً": نحن ندفع لكم مالاً؟! "يقهقه ساخراً" ها.. ها.. ها.. "بعد صمت قصير" فإن أبينا؟

المسلم: ليس أمامكم سوى القتال.

رستم: فإن قُتِلتم؟

المسلم: في موعود الله أن من قُتِل منا أدخله الله الجنة، وأنجز لمن بقي منا ما قلت لك.

رستم "ساخراً": هكذا إذن..

المسلم: أجل نحن على يقين.

رستم "ساخراً": قد وُضِعنا في أيديكم إذن؟

المسلم: ويحك يا رستم.. إن أعمالكم وضعتكم فأسلمكم الله بها، فلا يغرنك ما ترى حولك.. فإنك لست تجاول الإنس، وإنما تجاول القضاء والقدر..

رستم "غاضباً صارخاً: القضاء والقدر.. القضاء والقدر.. لأدفننَّكم في القادسية غداً.

المسلم: بل نحن سوف نفعل إن شاء الله.. وما أحسبك ستعود حيّاً إلى بلادك يا رستم.

رستم "صارخاً غاضباً": أيها الحرس اقتلوا هذا الرجل.. اقتلوه..

المسلم: لك الحمد يا رب رزقتني الشهادة في سبيلك.

"ضجّة.. وقع خطى كثيرة.. قعقعة سلاح.."

رستم: خذوا هذا الرجل فاقتلوه..

الحاجب: أمر مولاي.. "يخرج ويخرج المسلم وتهدأ الضجة"

رستم "بعد صمت، وفي صوت حزين": أرأيت يا جالينوس إلى هذا الرجل وهو من عامة جندهم!؟

جالينوس: أجل رأيت يا رستم..

رستم: إن الهزيمة ستحل بنا في القادسية.. سأدخل هذه المعركة كارهاً يا جالينوس طاعةً ليزدجرد الذي أكل قلبي بأوامره..

جالينوس: نحن أكثر عدداً، وأقوى عُدة يا رستم.

رستم "في هدوء حزين": لكن هل فينا مثل هذا الرجل الذي هو من عامة جيش سعد؟.. عمر أكل قلبي بهذا الجيش الذي أرسله.. وما أحسب إلّا أن شمس فارس قد آذنت بالغروب، وبدأ فجر هؤلاء المسلمين.
*****

الجمعة، 28 يناير 2022

العفو عن أبي دلف العجلي

العفو عن أبي دلف العجلي

(1)
الأفْشِين – تابع له

الأفشين "في صوت ينم عن الحقد والتشفي": أخيراً وقعَ أبو دُلَف بين يدي.. هيه.. ما أصغَرك في الحديد.. وأحقرك يا أبا دلف!.

التابع1: أطال الله عمرَ مولاي الأفشين، ما زلتَ تسعى بأبي دُلفٍ عند المعتصم حتى وقعَ بين يديك جزاءً لسوء صُنعه.

الأفشين: ذلك ليعلمَ أنه ليس لي بِنِدٍّ. "في صوتٍ عالٍ" تباً له! لقد كان يحسبُ نفسه كُفْؤاً لي، وكان يساوِرُني ويغالبني، وما درى أنه ليس اليوم من هو أعظمُ مني سوى المعتصمِ أمير المؤمنين.

التابع1: إن وقوع أبي دلف بين يديك سيزيد من قوَّتِكَ وسطوتِكَ يا مولاي.

الأفشين: وكيف؟

التابع1: سيزولُ من طريقك أكبرُ منافسيك وأشدُّهم قوة.

الأفشين: صدقت.

التابع1: وسوف يُفكرُ كبارُ القادةِ والولاةِ عشراتِ المراتِ قبل أن تطمحَ أنفُسُهم إلى مُساماتِكَ ومنافستِك.

الأفشين "فرِحاً": صدقت، صدقت.

التابع2: وسيعلمُ الناسُ كلُّهم منزلتك عند أمير المؤمنين فيخافونك ويهابونك.

الأفشين: صدقت، صدقت. "في صوت الحاقد" سأمتعُ نظري بك يا أبا دلف.. "يهدأ صوته ويصبح يصرّ على مخارج الحروف ويخرج الجُمل بهدوء كأنه يتلذذ بها" منظرُكَ في القيود، والحرّاس يسوقونك، مِشْيَتُك وأنت زائغُ البصر، وقوفُكَ بين يديّ وأنت ذليل صاغر، رأسك وقد أطاحَ به الجلّاد، دمُك وقد سال على النِّطْع. "صمت قصير يضحك بعده ضحكاً غليظاً".

التابع1: إن هذا اليومَ من أيامِ سعادتك يا مولاي، جعلَ الله أيامك كلَّها سروراً وبهجة.

الأفشين: هل كل شيء مُعَد؟

التابع1: أجل. أبو دُلَف أسيرٌ مقيَّد، والسيَّافُ ينتظرُ إشارتك.

الأفشين: أحسنتم صنعاً. هيَّا بنا الآن لنشهدَ نهاية هذا المنافس العنيد.
***

(2)
أبو دُلَف – الأفشين – التابع – أحمد بن أبي دُؤَاد

الأفشين "في صوت عالٍ ساخر": كيف أنتَ اليوم يا أبا دلف؟ لعلك سعيدٌ مرتاح البال.

أبو دُلَف "في صوت هادئ": الحمدُ لله تعالى، له الحمدُ في السرَّاء والضرَّاء.

الأفشين: أرأيت عاقبةَ أفعالك؟ أرأيت أين انتهى بك كيدُكَ لي ومنافستكَ إياي؟

أبو دُلَف: لِصَوْتِكَ أن يعلو على صوتي، فأنا مقيَّد أنتظرُ القتل، وأمري الآن بينَ يديك.

الأفشين: ألستَ بنادمٍ على سوءِ صنيعك؟

أبو دُلَف: ما فعلتُ ما أندمُ عليه، وأعمالي كلُّها بيضاءُ نقية.

الأفشين "ساخراً": لعلك صدَّقتَ أقوالَ الشعراء فيك، فَخِلْتَ نفسَك كما يزعمون.

أبو دُلَف: أنا أدرى بنفسي منك ومنهم.

الأفشين "ينشد في سخرية":

إنما الدنيــا أبو دُلَــف بينَ باديهِ ومُحْتَضَرِهْ
               فإذا ولَّى أبو دُلَف ولّت الدنيا على أثَرِهْ[1]

الأفشين: هكذا كانوا يُنْشِدونك ويقولون فيك، أليس كذلك!؟

أبو دُلَف: مهما تسخر مني فلن تضرّني، الناس يعرفون من هو أبو دُلَف.

الأفشين: أيها المغرور!.. أيها السفيه!.. انظر نظرةَ وداعٍ إلى الدنيا قبل أن يهوي عليك السيف، ليرتاحَ الناس من ظلمِكَ وأذاكْ.

"الباب يقرع ثم يدخل التابع"

التابع3: السلامُ على مولاي الأفشين.

الأفشين: وعليكم السلام أيها التابعُ الأمين.

التابع3: بالبابِ أحمدُ بن أبي دُؤَاد يريدُ الدخول

الأفشين: قل له: إني الآن مشغولٌ، فليعدْ فيما بعد.

التابع3: قلت له ذلك فأبى يريد أن يدخل.

الأفشين "في صوتٍ عالٍ غاضب": لن يدخل.

أحمد "الباب يفتح ويغلق، صوت خطاه، يتحدث بصوت عالٍ": بل لَأدْخُلَنْ.. "صوت خطاه".

أحمد: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أَمِثْلي يُمْنَعُ من الدخول يا أفشين؟

الأفشين: لا.. لا.. لكني أردت أن أَفْرُغَ من أمر أبي دلف.

أحمد: اسمع أيها القائد الشجاع، إنه لا شيء كالعفوِ يُكْتَسَبُ به الثواب، وتُمْحَى به الأحقاد، وتُنَالُ به حُسْنُ الأحدوثة.

الأفشين "غاضباً": لا.. لا.. ليس ثمةَ سبيلٌ للعفو عن أبي دلف.

أحمد "في صوت هادئ": يا أفشين!.. لا يحمِلنَّك الغضب على أمرٍ ربما ندمتَ عليه.. ومثلُكَ على عداوته لأبي دلف لا يخفى عليه فضلُ الرجلِ وشجاعته وجودُه.

الأفشين: مضى وقت العفو يا أحمد، ولا بدَّ من القتل.

أحمد "في صوت هادئ يحاول به استرضاء الأفشين": ليس هناك وقتٌ للعفو يمضي، إنه من مكارم الأخلاق، وبوسعك أن تعفوَ الآن يا أفشين لتنطلقَ ألْسُنٌ بالدعاء لك، سوف تنطلق بالدعاء عليك إنْ كانت الأخرى.

الأفشين: لا.. لا.. لا بدَّ من قتل أبي دلف، ليكونَ في ذلك عظةٌ لكل شانئ.

أحمد "في هدوئه": اسمع يا أفشين، اعفُ عن أبي دلف، ولتكُنْ لك قِلادةٌ في عنقي أكافئك عنها في قابل الأيام.

الأفشين "صارخاً": لا.. لا.. لن أعفو.

أحمد "صارخاً": بل لتَعفُوَنَّ وأنت كاره.

الأفشين "غاضباً": ويحكَ أتعلم ما تقول!؟

أحمد "غاضباً": أعلم جيداً. اسمع يا أفشين، إلى متى أستعطفُكَ وأسألُكَ وأنت تأبى؟ إني رسولُ المعتصم إليك، يأمرُك ألّا تُحْدِثَ بأبي دلف حدثاً، وإن مسَّه سوءٌ أو قُتِل فإنه قاتِلُكَ به.

الأفشين: "وقد هدأ صوته" ماذا.. ماذا تقول؟

أحمد: الذي سمعت. اشهدوا أيها الحضور أني قد بلَّغتُه رسالةَ أمير المؤمنين، وأبو دُلَف حيٌّ معافى. "غاضباً": إني منصرفٌ الساعةَ إلى أميرِ المؤمنين. "صوت خطاه على الأرض بسرعة، الباب يفتح ويغلق في عنف"

رجال "همهمة": نعم.. نعم.. نشهد.

(3)
أحمد – المعتصم

أحمد: يا أميرَ المؤمنين، حفظك الله ورعاك، لقد أقدمتُ على أمرٍ عظيم، عسى أن يَسَعَهُ حِلْمُكَ وجودُك أطالَ اللهُ بقاءك.

المعتصم: وما ذاك يا ابنَ أبي دؤاد؟

أحمد: دخلت على الأفشين وهو يقرِّعُ أبا دلف ويشتمُه، وأبو دُلَف مقيّد، والسيّافُ ينتظر الأمر ليقتلَه، فاستعطفتُ الأفشين لعله يعفو فأبى، فلما رأيتُ عنادَه زعمتُ له أني رسولٌ من عندك..

المعتصم "في لهجة متسائلة": رسولٌ من عندي؟

أحمد: أجل!.. قلت له: إني رسولُ أمير المؤمنين إليك، وهو يأمرُكَ ألّا تُحْدِثَ بأبي دلف حدثاً، وإن مسَّه سوءٌ أو قُتِل فإنه قاتِلُكَ به.

المعتصم: ويحك! وما حملَكَ على ذاك؟

أحمد: حملني ما عرفتهُ من حلمِكَ يا أمير المؤمنين، فأطمعني ذلك، فزعمت للأفشين ما زعمت لأنقذَ أبا دلفٍ من القتل. وإني لعظيمُ الرجاء ألّا تردَّني، وأن تقبل شفاعتي في أبي دلف.

المعتصم: والله إن ما فعلتَ لعظيم، زعمتَ أنك رسولي إلى الأفشين.. إنها جرأةٌ كبيرة عليّ، أليس كذلك؟

أحمد: أجل، هو كذلك، لكنَّ حلمَكَ أعظمُ منه يا مولاي.

المعتصم: فقد قبلتُ شفاعتك يا أحمد، وسوف أرسل الساعةَ إلى الأفشينِ مَنْ يكفُّ يدَه عن أبي دلف.
*****
--------------
[1] ينسب إلى الشاعر أبي الحسن بن علي بن جبلة الخراساني، ويلقب: بالعكوك.

الاثنين، 24 يناير 2022

جود عرابة الأوسي

جود عرابة الأوسي

     كان الرجل يتحدث عن جودٍ قَلَّ أن وُجِدَ له مثيل، جودٌ يدل على صفاءِ نفس، ومضاءِ عزيمة، وثقةٍ باللّه عز وجل لا تشوبها شائبة.

     كان يتحدث وهو واثق أنَّ قصة ما عرفه من كرم عرابة الأوسي إنما هي حادثة نادرة، ستشد إليها الأعناق، وتجذب إليها الأسماع، وتنتزع الإعجاب الكبير المثير.

     ولم يكن الرجل يصول في غير ميدان، أو يحارب إذ لا فرسان، بل كان في حلبة سبقه إلى الحديث فيها صاحبان له، واحد يروي قصة كرم عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وواحد يروي قصة كرم قيس بن سعد بن عبادة. وقد وقف هذا الصاحبان فجاء كل منهما في حديثه بالرائع المعجب. وإذن.. فإن الأمر خطير، وإذن.. فإن التنافس جدي، فالفرسان كرام، والسباق حاد عنيف.

     وقف الرجل يتحدث عن كرم عرابة الأوسي، بعد أن سبقه إلى الحديث صاحباه.. لكنَّ علائم الثقة كانت بارزة عليه.. وقف وقال:

     مضيت إلى عرابة، فوجدته قد خرج من داره إلى الصلاة، وإذا هو كفيف لا يبصر.. وإذا هو يتوكأ على عبدين له.. هما جناحاه يستعين بهما حيث يذهب، وحيث يعود.

     وحين شاهدت هذا المنظر، اشتدت بي الدهشة، وتملكني إحساس حار بالعطف والرثاء على هذا الرجل النبيل الذي لم تكد الأيام تُبقي له ما يستعين به.

     كادت قواي تتلاشى، وكاد وعيي يزول، ذلك أن الحزن استبد بي لمنظر عرابة، وهو متعب مهزول مكفوف. تمشت في مفاصلي رعدة قوية، واجتاح فؤادي تيار حزنٍ جارف، وهممت أن أعود من حيث أتيت.. لكنني كنتُ مندفعاً في أعماقي لأثبت للجميع أن عرابة الأوسي هو حقاً أسخى الناس.

     وتقدمتُ من هذا الضرير المتعَب فألقيت عليه السلام. وسارع إلى رده مسروراً حفياً، ووقف ينتظر.. لكأنه قد أحسّ أنني صاحب حاجة، جئت إليه أطلب منه العون والرفد.. لكنني وقد أحزنني المنظر، وجدت لساني حبيساً في فمي فما أنا بقادرٍ على الكلام.. ووقفت وأنا ساكت، ووقف عرابة وهو منتظر.

     وكأن ما اعتاده عرابة من جود قديم عُرِف به واشتُهِر، جعل له حاسة خاصة يعرف بها حوائج العفاة المعوزين.. لذا سارع إليَّ يقول: مَنْ.. وماذا تريد؟

     وسكت ينتظر.. ووجدتُ أنه لا بد لي من الكلام.. فقلت له: إني ابن سبيل، ومنقطع. ورأيت أسارير عرابة يعلوها الحزن الشديد، فقدّرت في نفسي عذراً لهذا الرجل النبيل، وأحسست أن ظني قد صدق حين قال لي: والله ما تركت الحقوق مالاً لعرابة، وهممت أن أعتذر منه، وأن أطيب خاطره، وأن أنطلق من فوري دفعاً لإحراج الشيخ الجليل النبيل الكفيف.

     وكِدت أحث خطاي، وأجمعت على النجاء مِن هذا الموقف الثقيل.. لكنَّ صوت عرابة جمَّد حركتي، ذلك أنه هتف بي قائلاً: خذ العبدين.

     وتساءلتُ في نفسي كيف آخذ العبدين وهما جناحاه؟ إني إنْ فعلتُ ظالمٌ ظالمٌ ظالم. لقد عرفتُ جوده وكفى!.. وقد فزتُ في السباق حيث أكدت أن عرابة الأوسي هو أسخى الناس.. وإذن فلْيَبْقَ للرجل الكفيف جناحاه، ولأذهب من فوري فقد كفاني ما شهدت من عرابة، حزناً وشفقة، وجوداً وإيثاراً وكرم نفس.

     جئتُ لعرابة فقلت له: بورك فيك، وجزيت خيراً، ما كنتُ لأقطع جناحيك.

     وحسبتُ أني أدليتُ عند عرابة بالحجة البيّنة التي لا تنقطع، والبرهان الناصع الذي لا يُرَد.. على أني قد كرمت عطاءه بالقبول في الوقت الذي هيّأت فيه كل أسباب الاعتذار.

     حسبت ذلك وأكدت له قولتي: "ما كنتُ لأقطع جناحيك"، لكنَّ الرجل فاجأني بما لم أكن أحسب.

     لقد قال لي: إنْ لم تأخذهما فهما حُرّان.. فإن شئت فخُذ، وإن شئت فأعتق.

     وأذهلتني المفاجأة التي لم أكن أتوقع، وعقد لساني الدهشة التي سيطرت على الموقف، وتركتني لا أملك شيئاً إلّا أن أعتصم بالسكوت.

     لكنَّ عرابة كان يتصرف بأسرع مما كنت أقدر.. لقد نفّذ في الحال أمره في العبدين.. فقد تركهما، وأخذ يتلمس الحائط في طريقه إلى المسجد.

     وكان منظراً لا يُنسى، منظرُ شيخٍ كفيفٍ مُتعب، يعتمد في طريقه إلى الصلاة على حائطٍ يتلمّسه بيديه، يحاول بذلك أن يدفع عن نفسه عثار الطريق.

     ومضى عرابة، ومضيت أنا، وقد أيقنت أنَّ عرابة أسخى الناس، ذلك أنه أعطى إذ أعطى عن ضيقٍ وقلة، حين أعطى الآخرون عن فضلٍ وسعة.
*****

الأكثر مشاهدة