الأحد، 23 يناير 2022

سعد بن معاذ مشيراً بالروحاء في الطريق إلى بدر

سعد بن معاذ مشيراً بالروحاء في الطريق إلى بدر

     خرج المسلمون إلى بَدرٍ في السنة الثانية للهجرة يقودهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، مُؤَمِّلِينَ أن يَغنموا قافلةً لقريش كانت عائدةً من الشام يقودها أبو سفيان.. خرج المسلمون، وما كان في حُسبانهم أنه ربما دارت معركة بينهم وبين قريش.. لقد ظنوا الأمر أيسرَ من ذلك، حَسِبوه قافلةً معها عددٌ قليل من الحُرّاسِ ليس بوسعهم أن يُقاوِموا هَجْمَتَهُم.. وإذن فالأمر لا يعدو جولةً أو جولتين تكونُ القافلةُ بعدها غنيمةً لهم.

     لكن الله عز وجل.. وهو العليم الخبير.. أراد للمسلمين شيئاً آخر.. أرادَ لهم أن تنجوَ القافلة.. وأراد لهم أن يلتقوا مع جيشِ قريشٍ الذي يبلغ ثلاثة أضعاف جيشهم لِيصنَعَ بهم ما هو به عليم.

     ساروا يوماً أو يومين.. وعلموا بنجاة القافلة، وعلموا بخروجِ قريشٍ للقتال.. إن الموقف قد اختلفَ وتبدّل.. ولا بد إذن من إعادة النظر فيه. واستشار الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم مَنْ معه في القتال.. فقامَ أبو بكرٍ وأشارَ فأحسن.. ومِثلَهُ فعل عمرُ والمقداد، قاما فأشادا فأحسَنا.. لكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان لا يزالُ ينتظرُ رأيَ آخرين هم الأنصارُ رضوان الله عليهم ذلك أن البيعةَ بينهم وبينه كانت أن يُدافِعوا عنه في المدينة المنورة ولم يكن فيها شيءٌ عن القتالِ خارجَها.. فلو أنهم لَم يقاتلوا استناداً إلى حَرْفِيَّةِ البَيعَةِ لَما كانوا لها ناقضين.. لكن الأنصارَ كانوا أكبرَ من ذلك وأعظم.

     أدركَ سعدُ بن معاذ رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما يريدُ أن يسمعَ رأيَ الأنصار فقال له: "لَكأنَّكَ تُرِيدُنا يا رسولَ الله؟" قال صلى الله عليه وسلم: "نعم"..

     عندها قال سعدٌ رضي الله عنه، ما يشهد له بعظيم إيمانِه وعميقِ يقينِه، ويكشفُ عن نفسه الصافيةِ الشجاعةِ الصادقة، نقاءً وبطولة، وفِداءً ورجولة، وأصالةَ نفسٍ ونصاعةَ وجدان.

     ما كان سعد بن معاذ يعرف الطريق التي يسيرُ فيها جيش رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن ذلك لم يكن شيئاً ذا بالٍ عنده.. فهو يتبعُ نبيَّه وقائدَه، وهو سائِرٌ معه، مُدافِعٌ عنه، مُقاتِلٌ دونه مهما امتد السفرُ وتطاول، قال سعد: "والذي أكرمك وأنزل عليك الكتاب ما سلكتها قط.. ولا لي بها علم، ولَئِن سِرتَ حتى تأتي بَرْكَ الغِماد من ذي يَمَنٍ لنسيرنَّ معك".

     إن سعداً مُجمِعٌ على الخروج وراء نبيه الكريم ولو انتهى السفرُ إلى اليمن.. وإن سعداً لَيَعلَمُ أن الرسول صلى الله عليه وسلم مبعوثٌ بالحق، وأنَّ عليهم تأييدَهُ حتى يُبَلِّغَ رسالة السماءِ إلى أهل الأرض.. وإذن فلا بد من القتال، وإذن فلا محلَّ للتراجعِ والنكوص.. كما فعلَ بنو إسرائيل مع موسى عليه السلام حين جَبُنوا وتراجعوا وقالوا: "اذهب أنت وربك فقاتِلا، إنا هاهنا قاعدون".. لا، ليس لسعدٍ ولا للأنصار ولا للمهاجرين أن يتخذوا مثلَ هذا الموقف، إنَّ لهم موقفاً آخر على النقيض من موقفِ بني إسرائيل، هو موقف التضحيةِ والطاعةِ والجهاد.. وهو ما عبَّرَ عنه سعدُ بن معاذ حينَ قال للرسول صلى الله عليه وسلم: "ولا نكونُ كالذين قالوا لموسى عليه السلام، اذهب أنتَ وربُّكَ فقاتِلا إنّا هاهنا قاعدون، ولكن.. اذهب أنتَ وربُّكَ فقاتِلا إنّا معكما مُتَّبِعون"..

     لقد كان سعدُ بن معاذ طِرازاً فريداً بين الناس.. كان من النُّدرةِ التي تحتملُ المسؤوليةَ مهما عظُمَت ومهما كانت باهظةَ التكاليف. إنه يعلمُ أن الرسول صلى الله عليه وسلم خرجَ بادئَ ذي بدءٍ لأمر القافلة التي نَجَتْ، وهاهو الآن إزاءَ موقفٍ جديدٍ يستشيرُ فيهِ مَن معه، فإنَّ قريشاً قد خرجَت للقتال، لذا لَمْ يَفُتْ سعداً أن يقول للرسول صلى الله عليه وسلم وهو يُدلي بمشورته: "ولَعلَّ أن تكونَ قد خرجتَ لِأمر، وأحدثَ الله إليكَ غيرَه، فانظرِ الذي أحدثَ الله إليك، فامْضِ، فَصِلْ حِبالَ من شِئت، واقطعْ حبالَ من شِئت، وخُذ مِن أموالنا ما شِئت، وأعطِنا ما شِئت، وما أخذتَ منا كان أحبَّ إلينا ممَّا تركت".. قولةٌ تستوقفُ الانتباه، وتستدعي التأمل، فيها ثِقةٌ رائعة، وإيمانٌ مكين، وصدقٌ وتصديق، وإيثارٌ لِما يَخلُدُ ويبقى على ما يَنفَدُ ويفنى.

     إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مبعوث بالحق، وإذن فإنَّ لهُ أن يفعلَ ما يشاء، يصلُ حبالَ مَن يشاء، ويقطعُ حبالَ من يشاء.. يأخذُ من أموالِ المسلمين ما يشاء، ويَدَعُ من أموالِهم ما يشاء.

     وهذا ما أدركَهُ سعد بن معاذ، فسارعَ يقولُه بثقةٍ هائلة واطمئنانٍ مكين. وإنه لَمِنَ الظُّلمِ للحقيقةِ ولِأنفسِنا كذلك أن يغيبَ عنّا قولُ سعد: "وما أخذتَ منا كان أحبَّ إلينا ممَّا تركت".. أسَمِعتَ هذه القولة!؟ أوَعَيتَها!؟ تُرى أيُّ مستوىً نادرٍ تكشفُ عنه.. دفعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابَه إليه!؟ ألَا بُورِكتَ يا سعد! وبورِكتْ كلِمةٌ أنتَ قائِلُها! وبوركَ الدِّينُ الذي صاغَك! وبورِكَ النبيُّ الذي ربَّاك!.. لقد آمنتَ وصدَّقت، وسَمَوْتَ وارتفعت، وكنتَ جديراً بالمكانة التي تبَوَّأت، إنك واللهِ بها جدير، إنك واللهِ بها جدير.

     منزلةٌ رائعةٌ نادرة بلَغها سعدُ بن معاذ.. لذا لم يكُن بِدعاً أن يَقِفَ ليقولَ لرسوله صلى الله عليه وسلم: "فَقَد آمنّا بِك وصدّقناك، وشهدنا أنَّ ما جئتَ به هو الحق، وأعطيناكَ على ذلك عهودَنا ومواثيقَنا على السمعِ والطاعة، فامضِ يا رسول الله لِما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضتَ بنا البَحرَ فَخُضتَهُ لَخُضناهُ معك، ما تَخَلَّف منا رجلٌ واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدوَّنا غداً. إنّا لَصُبُرٌ في الحرب، وصُدُقٌ عند اللقاء، لعلَّ الله يريكَ منّا ما تَقَرُّ به عينُك، فَسِرْ على بركةِ الله".

     وتتحدثُ كتبُ السيرة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سُرَّ بِمقالةِ سعدٍ هذه، ونَشِطَ وقال: "سيروا وأبشِروا، فإن الله وعدني إحدى الطائفتين، والله لَكأنّي أنظُرُ إلى مصارعِ القوم".

     رحمك الله يا سعد! فَلَنِعمَ الموقفُ كان ذلك الذي وقفتَهُ يومَ أشرتَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أشرتَ في الرَّوْحاء وأنتم في الطريقِ إلى بدر. لقد سَرَّ قولُكَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ونّشَّطَه.. ولِمَ لا!؟ وأنتَ والأنصارُ صُبُرٌ في الحرب، صُدُقٌ عند اللقاء، أعِفَّةٌ كرام، تَقِلُّون عند الطمع.. وتكثرون عند الفزع، وتبيعونَ أنفسَكم رخيصةً في سبيل الله، ابتغاءَ جنةِ الخلدِ التي لا تَبْلى.
*****

المقداد بن الأسود في الطريق إلى بدر

المقداد بن الأسود في الطريق إلى بدر

     هو المقدادُ بن الأسود، البطل المؤمن المجاهد الذي وصفه أصحابه فقالوا: "أولُ من عدا به فرسُه في سبيل الله المقدادُ بن الأسود" وهو واحد من المبكرين بالإسلام وسابعُ سبعة جَهَروا باعتناقهم له متحمِّلين كلَّ الأذى الذي تفننت قريشٌ في صبّه على ذلك الرعيل الأول، في شجاعة الرجال، وصبر الكرام، واحتمال الأوفياء، وبشاشةِ من أخلصوا أنفسَهُم لله عز وجل.

     وسوف يظل موقفه الذي تألق فيه قبل معركة بدر صورةً رائعة أمينةً تكشفُ عظمةَ هذا الرجل الشهم، وعظمةَ المستوى الذي قادَ أصحابَه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتساعَ النُّقلَةِ الجليلة التي أحدثها في حياتهم.

     هو موقف شامخ جليل، فيه أصالةُ النفوسِ المؤمنة، وفيه ألَقُ السرائر النقية، وفيه احتمالُ الرجال لمسؤولياتِهمُ الكاملة مهما تكنِ الصعاب.

     هو موقف يكفي للإعراب عن شموخه واستعلائه أن عبد الله بنَ مسعود صاحبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيه: "لقد شهدتُ من المقداد مشهداً، لَأنْ أكونَ صاحبَه أحبُّ إليَّ مما في الأرضِ جميعاً".

     ففي ذلك اليوم الذي بدأ صعباً شاقاً، وانتهى نصراً خالداً، حين أقبلت قريش في غرورها وكبريائها، وإصرارها وعنادها، وحين كان المسلمون قلةً لم يخوضوا بعد أي معركة حربية... راح رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أشيروا عليَّ أيها الناس". وهي قولة وجيزة لكنها عميقة الإيحاءات والدلالات، شاسعة المرامي والأبعاد. هي قولة تَعْجِمُ إيمان الذين معه، وتبلو عزائمهم، وتكشفُ حقيقة رغائبهم الدفينة في وقت صعب عصيب.. ينفع فيه الصدق ليكون القائد على معرفة حقيقية عميقة بالقوة التي بين يديه، فيقدرَ من بعد ماذا هو فاعل بها؟

     ووقف الصِّدِّيق العظيم فقال وأحسن، وتلاه عمرُ العظيم فقال وأحسن، ثم نهض المقداد، فإذا به يلقي بهذه الكلمات الوضاءِ العِذاب، المتدفقةِ بالنور، الممتلئةِ بالإيمان، المزدحمة بمشاعر البطولة والفداء والجهاد التي كانت تَعْمُرُ فؤادَ المقداد، وأفئدة الصحابة الكرام الآخرين من مهاجرين وأنصار.

     وقف المقداد يقول: "يا رسول الله، اِمْضِ لما أراك اللهُ فحن معك، واللهِ لا نقولُ لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، بل نقول لك: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون. والذي بعثك بالحق، لو سرتَ بنا إلى بَرْكِ الغِمادِ لجالدنا معك من دونه حتى تبلغَه، ولَنُقاتلنَّ عن يمينك، وعن يسارك، وبين يديك، ومن خلفك، حتى يفتحَ الله عليك".
* * *

     تلكم كانت الكلماتُ التي هتف بها المقدادُ قبل بدر، وهي كلماتٌ وجيزةٌ بسيطة، لكنها في العمق على الغاية منه، وفي الصدق على الغاية منه، وفي الإيمان على يقين منه عجيب، وفي تقدير جدية الموقف وصعوبة المسؤولية على أنقى وأمضى وأوعى ما يكون الرجال الصادقون، الأوفياء للطريق الذي اختاروه في حياتهم.

     قد يظن ظان أنها قولة أملتها الحماسة، وحقاً إن فيها لحماسة، وإن الحماسة الرشيدة البصيرة مكرمة وفضل، وما أشقى الحياة إن خلت من عواطف الخير والحق، الحارّة المتقدة المشبوبة! فإنها وقود صادق عظيم النفع كبير الغَناء، في تحريك المسيرة الخيّرة إلى الأمام صوب هدفها الجليل النبيل.

     إن بوسع المرء أن يقول: إن الدعوات التي لا عاطفة فيها تولد ميتة، ولا تحقق أي شيء ذي بال، وخذ الفلسفة دليلاً على ذلك، وقل لي: ما الذي استطاعت أن تُحدِثه بالفعل في حياة الناس!؟ من أجل ذلك كان الإيمان عقلاً وعاطفة، فكراً ووجداناً، وهو لذلك ذو نفع عظيم، إذ هو خطاب للفطرة البشرية كلها.

     إن في قولة المقداد حماسة، ولكنها حماسة رشيدة بصيرة، ترتكز من وضوح الرؤية على فهم ذكي وتقدير دقيق، وتعتمد من سلامة الفكر على حكمة راجحة ونظر عميق، ثم هي فوق ذلك إعلان حارٌّ متقد، وهتاف عنيف جيّاش بالمستوى المطلوب من أصحاب الدعوات أن يكونوا عليه.

     موقف المقداد، هذا الذي غبطه عليه ابن مسعود الصحابي الجليل، يكشف لنا شجاعته الفائقة، وحكمته الراجحة، ونظره العميق.
* * *

     ومن غير ريب تركت كلمات المقداد أثراً كريماً في الحشد المؤمن الصالح الذي كان يقوده رسول الله صلى الله عليه وسلم.

     فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أشرق وجهه الطاهر الشريف وتهلل، وخرجت من فمه العاطر الكريم دعوة صالحة للمقداد.

     وأما الجيش المؤمن الذي كان لا يتجاوز ثلاثمئة إلا بقليل؛ فقد سرى فيه روح دفّاق بلغ مكانَه من أفئدة المؤمنين فقوى عزمهم، وشدّ أزرهم، فإذا بهم عزيمة أثبت من الصخر، وهمّة أسمى من الجبال الشُّم، ورغبة مُلِحَّة عنيفة أن يلتقوا بجيش البغي والوثنية، والخرافة والضلال، والجاهلية والغباء، ليصدقوا اللهَ ما عاهدوه عليه.

     وربما كانت الكلمةُ الجليلةُ النبيلة المفعمةُ بالخير، الضاجَّةُ بالمكرمات؛ كلمة الصحابي العظيم سعد بن معاذ التي جاءت بعد قولة المقداد، إنما كانت أثراً لها، وامتداداً لما بلغته في أعماق المؤمنين.

     أيها البطلُ العظيمُ المؤمن! أيها المقداد!..

     إذا كان موقفك هذا قد أُعْجِبَ به ابنُ مسعود إعجاباً جعله يُؤْثِرُهُ على ما في الأرض جميعاً لو كان هو صاحبَهُ، وابن مسعود هو من هو في الإيمان والأسبقية، تُرى ألا يَعْدِلُ وحدَهُ حياتنا نحن جميعاً، وهي الكليلةُ الكابيةُ العاجزةُ التي لو اجتمعت كُلُّها في جيلنا كلِّه لما صاغت بعض هذا الذي وقفت قبل معركة بدر، فكيف بموقفك كُلِّهِ!؟
*****

أبو عبيدة بن الجراح ووالده في بدر

أبو عبيدة بن الجراح ووالده في بدر

     برز ثلاثة من قادة قريش وزعمائها يوم بدر قبل نشوب المعركة، وبرز لهم ثلاثة من المهاجرين الكرام عليهم رضوان الله تعالى.. ولم تطل المبارزة، ذلك أن السيوف المؤمنة ما لبثت أن قضت على المشركين الثلاثة، فإذا بهم أثر بعد عين.

     عندها نشبت المعركة عنيفة ضارية، والتقى ثلاثمئة وثلاثة عشر رجلاً من المسلمين يقودهم الرسول صلى الله عليه وسلم بألف من المشركين على رأسهم مجموعة من زعماء الوثنية والضلال يحاولون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، والله متم نوره ولو كره الكافرون.

     وفي الجيش المسلم وقف بطل نقي الفؤاد، طاهر السريرة، هيّن ليّن، حسن المعشر، يحبه من يعاشره لما أودع الله فيه من حسن الخلق، وسهولة الصحبة.. وكان البطل إلى جانب هذا كله شجاعاً مقداماً، صوّالاً جوّالاً، جسوراً لا يخاف، ماضياً لا يتردد، أبيّ النفس، قوي العزيمة، ثبت الجنان. وطوال تاريخه كانت مواقفه تدل على هذا كله.. وتدل كذلك على شفافية في النفس، ورقة في الطبع، وزهادة في الحياة، واستعلاءٌ نبيلٌ أبيٌّ على زخرفها وباطلها.

     وقف البطل المسلم يُجيل عينيه اللتين تتقدان بالعزم والمضاء في أرجاء المعركة، وطفق من بعد ذلك يلقي بنفسه حيث تعنف وتضطرم وتشتد، لا يبالي أعاد من هجمته سالماً معافى أم رُزِقَ الشهادة التي هو عليها حريص!؟.

     وفي الجهة المقابلة، وقف أبو البطل المسلم يقاتل مع المشركين، صادّاً عن الحق، محارباً للهدى، مناوئاً للخير محالفاً للشر.. وقف الأب المشرك يُجيل عينيه في ميدان المعركة.. باحثاً عن ابنه، ذلك أنه قد عزم على قتله!.. يا سبحان الله! هكذا شاءت إرادته أن يكون الأمر يوم بدر بين الولد والوالد.. وإن في الدنيا لعجائب وغرائب!.. وإن الهداية والضلال لَسِرّان من أسرار الله جل جلاله!.

     عينا الوالد مُتقدتان بالحقد، مضطرمتان بالغضب.. لقد عصفت بها رياح الجنون عاتية مدمرة، وهبّت عليها نكباء ثائرة.. كان في حقد عنيف عنيف، وغضب مدمّر مجنون، وعتوٍّ وجبروت، وظلم وطغيان، وكان ذلك كله بسبب عدائه للدين الجديد، وإصراره على باطل الأوثان،.. وإلى جانب هذا كله كان فيه أسى لما فعله محمد صلى الله عليه وسلم بقريش، لقد رأى أنه سفّه أحلامها، ومزَّق وحدتها، وجعلها حديث الناس..

     إذن؛ فهو كاره للرسالة الجديدة، حاقد على رسولها.. لكنه آخر الأمر ركّز كل أحقاده، وجمع كل جنونه، ووجّه ذلك كله نحو ولده الذي كان يقف في الجيش المسلم. نظر إليه على أنه عاق جاحد، ظالم آثم، منكر للجميل، خرج على طاعته، وتمرد على رغبته، واختار لنفسه ديناً جديداً، وسخِر بما عليه الأب من قناعة بأصنام يؤمن بها، وأوثان يتقرّب إليها.

     كذلك كان الوالد يفكر، وتلكم كانت عواطفه في أثناء المعركة، وإلى تلك الوجهة انصبّت آثار ذلك.. فإذا بها تلتقي أخيراً لتتجه صوب الولد الذي عزم الوالد أن يقتله. يقتله!؟ ولكن لماذا!؟ لأنه رأى أن صدره لا يهدأ، وقلبه لا يسكن، وغضبه لا يفثأ، وحزنه لا يزول إلا إذا قتل ولده الذي خرج على طاعته، وتمرد عليه ليكون قتلُه درساً لكل ولد عاق وابن متمرد.

     العينان جوّالتان جوّابتان، تطوفان في ميدان المعركة باحثة عن الولد، والسيف مشهور منصلت، واليد ممتدة متشنجة، والصدر يغلي بالحقد المجنون المدمر.. هكذا مضى الأب يبحث عن ولده حتى التقى به.. فأحسّ عندها أن ساعة الثأر والانتقام قد جاءت.. واقترب الوالد من ولده وكانت لحظة مثيرة!.

     التقى الخصمان العنيدان، وتقابل السيفان المنصلتان، ووقف الرجلان أحدهما إزاء الآخر. وأدركَ الولدَ شيءٌ من الرقة والحنان، فهذا أبوه الذي طالما عُنِيَ به ودلَّـله، ورعاه ورباه، وحمله بين ذراعيه، وناغاه بأجمل الألحان، وأصدق العواطف.. وكاد الأمر يستحيل إلى ذكريات جميلة شفافة لدى الولد، لولا أن تذكر أن أباه كافر، وأنه مُصر على الكفر والضلال، وأنه محارب للحق، وأنه صادٌّ عن دين الله.

     هنا كانت مفاصلة حازمة، وقف الولد على أثرها وقد عرف أنه لا شيء يربطه بهذا الأب الظالم سوى العداوة.. وتحركت في نفسه عواطف البطش والفتك بهذا المعادي لدين الله أن يمتدّ وتعلو راياته لتُخرِج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.

     لكنه ما لبث أن فضّل أن يمضي إلى مكان آخر من ميدان المعركة يقاتل فيه، تاركاً أباه لسيف مؤمن آخر يقضي عليه.. وهكذا كان!. حوّل الولد وجهه عن أبيه، ومضى نحو كوكبة أخرى كافرة يجاهدها ويفتك بها.

     لكن الوالد المجنون غضب لذلك، ومضى يبحث عن ولده حتى ظفر به وهجم عليه هجمة ضارية، لولا أن الولد سارع يبتعد عن والده صوب كوكبة أخرى من المشركين يجاهدها.

     ومرة ثالثة لحق الوالد المجنون بولده، ومضى يبحث عنه في كل مكان حتى التقى به، وتوجّه إليه.. وانصرمت لحظة من الزمن ثقيلة بطيئة، وحمل الأب سيفه البتّار يهوي به على ولده ليشفي قلبه الجريح، ويطفئ ناره المتقدة. لكن الولد تحوّل عن الضربة بخِفّة وتجنّبها بمهارة.. ونظر إلى أبيه في هدوء.. إنه ليس أباه الذي كان يعرفه أيام صغره، إنه الآن رجل آخر، رجل ليست بينه وبينه صلة.

     رجل ينأى عن الحق، بل يحاربه جاهداً، يريد إطفاء شعلته الوهاجة. وإذن؛ فالصراع الآن بين اتجاهين في الحياة، وطريقتين في التفكير، ومنهجين في السلوك، ومعيارين للفضائل والأخلاق، وتصويرين متناقضين أشدّ التناقض للحياة كلها، ولوظيفة الإنسان فيها. إذن فليبطش الولد بالوالد.. لتكون الغلَبَة للخير على الشر، والحق على الباطل، وفجر الإسلام الصادق الكريم على ليل الجاهلية الخرافي الكاذب.

     وهكذا كان!.. أهوى الولد بسيفه المؤمن على والده الظالم الآثم، فمزّقه شرَّ مُمزَّق، ووقع على الأرض يتخبّط بدمه الحاقد المجنون، لقد قتل الولدُ أباه، ضارباً بذلك أروع مثال للفداء في سبيل الله، والتفاني دون دِينه أن يقف في طريقه الحاقدون.

     موقف نادر مشرّف، لا يكاد يعرف التاريخ مثيلاً له، موقف نبيل سيظل أعجوبة شامخة من أعاجيب الإيمان.

- ترى، من هو هذا البطل المؤمن العظيم الذي صرع أباه يوم بدر؟

- إنه الصحابي العظيم الجليل أبو عبيدة عامر بن الجرّاح، بطل الإسلام، وفاتح الشام، وأعجوبة الإيمان النادرة.
*****

الخليفة والنصراني والقاضي

الخليفة والنصراني والقاضي

     خرج علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى السوق وهو أمير للمؤمنين.. وبينما كانت عيناه تجوبان هنا وهناك أبصر رجلاً يحمل دِرعاً بيده يبيعها.

     نظر أمير المؤمنين ودقّق في نظره.. فإذا به يعرف هذه الدرع.. إنها درعُه هو افتقدها ذات يوم، وهو الآن يراها بين يدي رجلٍ غريبٍ يبيعها في السوق. واقترب من الرجل حامل الدرع.. وقال له في هدوء دون أن يخيفَه أو يبطش به: "هذه دِرعي".

     لكن الرجل لم يضطرب لمرأى أمير المؤمنين وهو يقول له "هذه درعي".. لم يضطرب ولم يخشَ شيئاً، ذلك أنه عرف من عدالة الإسلام الشيء الكثير.. لذا لَم يدفعِ الدرع إلى أمير المؤمنين، فقد ظل بها متمسكاً، مُصِرّاً على أنها له ولو كان خصمه أمير المؤمنين.

     وإذ أصر الرجل على موقفه.. وإذا كان أمير المؤمنين متأكداً أن الدرع درعه أحيلت المشكلة للقضاء ليحكم فيها. ومَثُلَ أمير المؤمنين، ومَثُلَ حامل الدرع أمام القاضي شُريْح الذي كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قد عيّنه على القضاء.

     لم يضطرب شريح قط، ولم يقلق ولم يَخَف، فقد كان يعلم أي منصب خطير هو فيه.. كما كان يعلم كذلك أي رجل عظيم هو علي بن أبي طالب!.

     ومضت المحاكمة على غاية اليسر والهدوء والبساطة.. سأل شريح القاضي أمير المؤمنين الذي عيّنه في القضاء: "ما تقول؟"

     قال أمير المؤمنين: "هذه درعي وقعت مني منذ زمان"..

     ثم التفت القاضي إلى الرجل الآخر وسأله: "ما تقول؟"

     قال الرجل: "ما أكذِّبُ أمير المؤمنين، والدرع درعي.."،

     وأدار القاضي المشكلة في ذهنه.. هذا الرجل يُصِر على أن الدرع له.. وأمير المؤمنين يؤكد أنها له.. إذن فعلى أمير المؤمنين أن يُقدِّم البيّنة على ذلك باعتباره هو المُدّعي؛ لذا توجّه إليه بهذا السؤال: "هل مِن بيّنة؟"

     وأعجِبَ أمير المؤمنين بما فعل شريح.. إذ سأله عن البيّنة على صحة دعواه أن الدرع له.. لذا سارع يقول: "صدَقَ شريح"، وانتهت المحاكمة!.. وحكم شريح بأن تبقى الدرع عند الرجل لأن صاحب الدعوى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب لم يقدم ما يثبت أن الدرع له.

     انتهت المحاكمة، وأمير المؤمنين مُعجَبٌ بالقاضي شريح، الذي لم يضطرب ولم يَخَفْ، ولم يتجاوز قواعد العدل خلال المحاكمة.. وقضى بالدرع للرجل الآخر.

     وشريح نفسُه كان مُعجباً بأمير المؤمنين الذي لم يسارع إلى الدرع يستردها من حاملها.. ويعاقبه على أخذ مال الآخرين، وإنما مضى إليه يتقاضى مع خصمه في يُسْرٍ وهدوء.. وحين جاء الحُكمُ لصالح الرجل الآخر، فرح كثيراً لأن القاضي لم يتجاوز قواعد العدل فيما فعل.

     لكن إعجاباً آخر كان يعتمل في فؤاد الرجل حامل الدرع الذي جاء الحكم لصالحه.. كان هذا الرجل عادياً لا حول له ولا طَول.. مع ذلك فقد كسب الحكم ضد أمير المؤمنين، عند قاضٍ عيّنه أمير المؤمنين.

     ولم يكن الأمر عند ذلك المستوى فحسب.. إنه أروع وأعجب! لقد كان الرجل نصرانياً، ومع ذلك جاء الحكمُ لصالحه ضد أمير المؤمنين. وإذن فقد حَكَمَ قاضٍ مسلم لرجلٍ نصراني ضد أمير المؤمنين، الذي عيّن القاضي في مكانه. عدالة نادرة، وخُلُقٌ عظيم، وأمانةٌ في احتمال المسؤولية وأدائها قَلَّ أنْ وُجِدَ لها نظير.

     إعجابٌ صادق كان يعتمل في فؤاد الرجل النصراني بسبب هذا كله.. إعجابٌ حرّك فيه الفطرة الخيّرة، فإذا به يقول: "أما أنا فأشهد أن هذه أحكام الأنبياء، أمير المؤمنين يجيء إلى قاضيه، وقاضيه يقضي عليه، هي والله يا أمير المؤمنين درعك، اتبعتك وقد زالت عن جملك الأورق فأخذتها، إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله".

     هكذا هتَفَت فطرة الرجل، بعد أن فجَّرَ فيها مكامنَ الخيرِ موقفُ أمير المؤمنين، وموقف قاضيه، فاعترف بأن الدرعَ لأمير المؤمنين.. وازداد معين الخير في نفسه عطاءً غنياً ثرّاً.. فإذا بوجدانه يصفو، وإذا بروحه تسمو، وإذا بالنور يملأ كيانه، وإذا به يرى الحق واضحاً جليّاً كالشمس، وإذا بهِ يُسلِم.

     عندها قال أمير المؤمنين للنصراني الذي أسلم: "أما إذ أسلمت فهي لك". لقد أهداه الدرع، بل حمله على فرس كذلك.

     صفحة في تاريخ القضاء مشرقة وضيئة، وقصة عن أمير المؤمنين طاهرة نقية، وموقف للقاضي شريح عادل نبيل.

     ترى أما يُعطّر الأريج حنايا الزمان بسبب هذه الرواية؟ بلى.. إنه ليَفعَلُ ذلك، ويتقدّمُ شاهدَ صدقٍ أن أعظم جيلٍ شهد الزمان هو ذاك الذي ربّاه الرسول صلى الله عليه وسلم، فصاغَ أكرمَ حضارةٍ عرفها الإنسان.
*****

جود عثمان بن عفان

جود عثمان بن عفان

     اشتدت الضائقة بالمسلمين في المدينة المنورة، فقد شحّت الأقوات، وندر الزاد حتى صار لدى بعضهم كالسراب يتوهمه هنا وهناك ماءً عذباً فراتاً حتى إذا جاءه غلبه الهم والحزن، واستبد به القلق والضيق.

     ثمة رجال يسيرون في الطرقات ذاهلين مرهقين، كل منهم يبحث عن شيء من القوت يُسكت به صراخ بطنه المتواصل، وهبْ أنه قادر على الاحتمال إلى حين.. كيف الأمر للصغار الجياع الذين لا يحتملون مثل الذي يحتمل من جهد وشدة ونصب!؟ كأن على ظهره سوطاً حاداً يلهبه ويشتد عليه، سوط الزوجة إذ تطلب الطعام، وسوط الأطفال إذ يتلقونه على باب المنزل وقد أضرّ بهم الجوع المتواصل العنيف.

     لولا أن فيه رجولة تمنعه من البكاء لسارع إلى البكاء. إنه أبٌ مسؤول، لكنه لا يقدر على أداء حق هذه المسؤولية، وأنّى له ذلك وليس ثمة طعامٌ يشتريه مهما غلا الثمن وتضاعف. ولا بد أن بعض هؤلاء الجياع شكوا أمرهم إلى الخليفة أبي بكر، ولا بد أنه بذل صادق جهده كي يتدبره.. ولا بد أنه كذلك نصح هؤلاء بالصبر وانتظار الرحمة والفرج.
* * *

     وتعاظم الأمر وتفاقم، وكانت أيام جدباء، شاقة مضنية، عجاف صعاب.. رأى الناس هولها بالعين، وكابدوه في حركة الأمعاء، وضجيج البطون الخاوية.

     وطفق حديث المجاعة يفشو وينتشر هنا وهناك.. الأرض داكنة غبراء.. والقوت نادر عزيز، والبطون ترهق أصحابها، والطعام صار أمنية غريبة بعيدة، كأنها شبح يظهر ثم يختفي.. حتى بات كأنه قد اختفى من دنيا الناس، فلا يكاد يظفر به أحد. ويبحث الناس ثم يبحثون، ويدورون في ذهاب وإياب.. ويحتملون من العناء نصيباً مفروضاً صار حمله ثقيلاً ثقيلاً.. ويعودون آخر المطاف ليعتصموا بالصبر الذي نصحهم به والد شفوق ومسؤول وفيٌّ حنون.

     والتجأ الناس إلى الرحمة التي لا تنقطع، والعون الذي لا يغيب، فكان دعاءٌ حارٌّ مخبِت، وكانت إنابة صادقة كريمة، وكانت ضراعة خاشعة مبتهلة. واجتاح الطمع المؤذي المهلك طائفة من التجار ذوي النفوس المرضى، فإذا بهم يُغالون في الأسعار، وإذا بالجشع يصل فيهم غايته، يريدون الثراء العاجل الظالم، ثراء من لا يبالي كيف يجتمع لديه المال، ولبئس ما اختار هؤلاء الطامعون لأنفسهم! ولبئس ما صنعوا!.

     وذات يوم سرى في الناس نبأ حلو بهيج، كالحلم الذي يعطر قلب المحروم، كالطل يسقي النبات الظمآن، كالنسيم العليل يغدو بعد نهار صيف محرق، كالصحة توافي بعد مرض مزمن عضال، كالدفء يسري بعد صقيع طويل قاتل. قافلة كبيرة تحمل الأقوات على ألف بعير وصلت، فيها الزيت والزبيب، والسمن والحنطة.. وشتى أنواع المآكل التي صارت مثل ذكرى باهتة لدى بعض الناس.
* * *

     وتساءل الناس: لمن هذه القافلة الضخمة الكبيرة!؟ وعلموا أنها لعثمان بن عفان رضي الله عنه، فاطمأنت بذلك القلوب، وسعدت النفوس، فعثمان رجلٌ طيب، هينٌ ليّن، سمحٌ جواد، وتراكض التجار إلى عثمان في سرعة ونشاط، ولعلهم كانوا بالقافلة أشد فرحاً من الفقراء المعوزين، ذلك أن لكل مِنهم حساباته التي طفق يديرها في ذهنه، ويتخيل الأرباح التي يمكن أن تعود عليه من وراء صفقة كبيرة كهذه، في ظرف خاص كهذا، ودخلوا على عثمان، يحدوهم ربح كبير، ويسوقهم حساب مالي ضخم.. ووقفوا بين يدي ذي النورين يريدون شراء بضاعته التي وصلت في الحال.

     ورحّب ذو النورين بهم، وانبسطت أساريره فدفعوا له في كل درهم درهمين.. وانتظروا، يا للعجب! إنه لم يبادر إلى القبول، على الرغم من هذا الكسب الوفير، لكنّ انتظارهم لم يطل فقد سارعوا يدفعون له بالدرهم الواحد أربعة دراهم.

     وامتلكهم العجب!.. إنه لم يقبل، بل قال لهم كما قال في المرة الأولى: "أُعطِيتُ أكثر".

     وكأن ألسنتهم انعقدت من الدهشة!.. إنهم يعرفونه صادقاً لا يكذب، لكنهم يعرفون أنه لا يوجد تاجر متغيّب فكيف الأمر!؟ إنها لحيرة بالغة.. لكنها لن تدوم.

     فإن حرص التجار على إنجاز الصفقة كان أكبر؛ لذا سارعوا يدفعون له بالدرهم خمسة دراهم.. وابتسم ذو النورين في هدوء.. وهو يقول: "أُعطِيتُ أكثر!". وسكت التجار وتلاحقت بهم الأنفاس، وسكتوا عن الزيادة وذو النورين هادئ ساكت، حتى إذا عَلِم أنه ليست لديهم زيادة يدفعونها قال في تواضعٍ وهدوءٍ وحياء: "فإني أشهِد الله أني جعلتُ ما حملَتْ هذه العيرُ صدقة على المساكين وفقراء المسلمين".

     ومضى عثمان يوزع البضاعة، وهو فرحٌ سعيدٌ هانئ، والتجار صامتون واجمون.. لقد آثر الباقية الخالدة على الفانية العاجلة، وهزم دواعي الشح والحرص في نفسه، لتكون وديعته تلك قرضاً ينمو ويتضاعف عند رب العالمين.
*****

السبت، 22 يناير 2022

صهيب الرومي شاري نفسه

صهيب الرومي شاري نفسه

     وُلِدَ في أحضان النعيم، ومات في أحضانِ النعيم كذلك، لكن شتّانَ بين هذين النعيمين شتّان.. ألَا إنّ البَوْنَ بينهما بعيدٌ ممتدٌ شاسع.

     فالنعيم الذي وُلِدَ في أحضانه نعيم الجسد شبعاً ورِيّاً وزينة، ومركباً فارهاً، وظلاً ظليلاً، وماءً عذباً جارياً، ومسكناً كبيراً يزدحم بالفاخر من الأثاث، ثم لا شيءَ بعد ذلك.

     أما النعيمُ الذي ماتَ في أحضانِه فهو نعيم القلب يرتوي بعدَ ظمأ والنفسُ تهدأُ بعد أن عرفَ الحق، واستيقنَ من وضوح السبيل، سبيل الحقِّ بيِّنةً شامخةً كريمة، ذلك أن صاحبنا شهد بزوغ شمس الإسلام في أيامِه الأولى في مكة المكرمة فما عَتَمَ أنْ أسلم، فكان من إسلامه في نعيمٍ يتجددُ ولا ينفد، يسمو ولا يقصُر، يعلو ولا يخبو، يمتدُّ ولا ينحسر.. ظَلَّ في بستانه الوارِفِ الفَيْنان حتى لقِيَ وجهَ ربِّه.

     كان أبوه والياً لكسرى وفي قصره على شاطئ الفرات الحالمِ مما يلي الجزيرة والموصل عاشَ الفتى هانئاً سعيداً في ظِلالٍ من النعيم، نعيم الجسد، ثم لا شيءَ بعدَ ذلك.

     واجتاحتِ المنطقة هجمة شديدة من قِبَلِ الروم، ما لبِثت أن تكشّفت فإذا بالفتى المُنعَّمِ أسيرٌ في بلاد الروم.. ويتنقل على أيدي تُجّار الرقيق فإذا به آخر الأمر في مكة المكرمة.. وقد لحقَ باسمِه وَصْفٌ يعودُ إلى البلد الذي أسَرَهُ أول مرة.. وإذا به يُعرَفُ بهذا الاسم الشامخ في تاريخ الإسلام "صُهَيْبُ الرومي".
* * *

     والتقى ذات يومٍ بعمار بن ياسر على باب الدار التي لها في قلوب المسلمين ذكرى باهرةٌ عاطرة، دار الأرقمِ بن أبي الأرقم قُرْبَ الصفا حيث يستخفي المسلمون بدينهم من بطشِ قريش، ويجتمعون إلى رسولهم صلى الله عليه وسلم، يتعلمونَ منهُ دينَهم، ويتواصَونَ بِنَشرِ رسالته بين الناس، ويتواصونَ كذلك بالحق والصبر.

     ولم يكن اجتياز عَتَبَةِ الدارِ الكريمة التي كانت مَحْضناً للحق والخير، والعفة والصدق، والفضيلة والإيمان أمراً ميسورَ التكاليف.. لا، كان أمراً شاقاً ثقيلاً لا يقوى عليه إلا نُدرةٌ من عظامِ الرجال.

     كان اجتياز عَتَبَةِ الدارِ الكريمة إيذاناً بعهدٍ زاخِرٍ من المسؤوليات الصِّعابِ الجِسام، سخريةً وأذى، وبطشاً وتنكيلاً، وحرباً خسيسةً ضارية، يشُنُّها قومٌ يكرهون مَقدِمَ الخير، ويُصِرُّون على البقاءِ في ليلِ الجاهليةِ والآثام.

     ولم يكن صهيبٌ يجهلُ ذلك، بل كان له علمٌ به واسعٌ بصير، ومع ذلك أقدمَ غيرَ هَيّابٍ ولا وَجِل، ذلك أنَّ نداء الإيمانِ لا يُقاوَم وشذى الحقِّ لا يُحبَس، وعبير الدين الجديد يملأ أفئدة الأبرار فضلاً وصِدقاً، وتضحيةً وهداية.

     أسلمَ صهيبٌ وأسلمَ عمار، ومنذُ لقائهما ذاك على باب الدار الكريمة.. كان لهما في تاريخ الإسلام دورٌ كبير.
* * *

     أخذ صهيبٌ مكانهُ في قافلة المُعذَّبينَ في سبيل الله، واحتملَ نتائجَ اختيارِه برجولةٍ كاملة، وشجاعةٍ بالغة، وعزمٍ لا يلين. وكشفتِ الأيامُ عن نقاءِ معدنه، وصفاءِ سريرته، وأصالة شخصيته؛ فإذا هو في مقدمةِ صفوفِ الباذلين والمجاهدين.

     اسمع حديثَه هذا لترى أيَّ رجلٍ كان، يقول صُهيب "لَمْ يشهَدْ رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهداً قط إلا كنتُ حاضرَه، ولم يُبايِع بيعةً قط إلا كنتُ حاضِرَها، ولم يَسِرْ سَريَّةً قط إلا كنتُ حاضِرَها، ولا غزا غَزاةً قط أوّلَ الزمانِ وآخرَه إلا كنتُ فيها عن يمينه أو شماله، وما خافَ المسلمون أمامهم قط إلا كنتُ أمامهم، ولا خافوا وراءَهم إلا كنتُ وراءَهم، وما جعلتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبينَ العدو أبداً حتى لقِيَ ربَّه".

     كلماتٌ وِضاءٌ عِذابٌ تكشف بصدقٍ وجلاء عن عظَمةِ هذا البطلِ المجاهدِ الكريم. ألَا بورِكتَ يا صهيب! وبُورِكَ الدِّينُ الذي أنجبك! وبُورِكَ النبي الذي على يديهِ اهتديت!.
* * *

     وذات يومٍ هاجرَ المسلمون إلى المدينة المنورة، وكان مِمَّن هاجر صهيبٌ الرومي.. لقد مضى يقطعُ الصحراء صَوبَ مَأرِزِ الإيمان ليكون لَبِنةً قويةً في بناءِ المجتمعِ الجديد. لكنَّ عدداً من سُفهاءِ قريش لحقوا به فأدركوه يريدون أن يَرْجِعوا به إلى مكة المكرمة.. فسارَع إلى الأرضِ ونَثَرَ سهامه بين يديه، وصاحَ بالمُطارِدين: "يا معشر قريش! لقد علمتم أنّي من أرْماكم رَجُلاً، وايْمُ اللهِ لا تَصِلون إليَّ حتى أرميَ بكل سهمٍ معي في كِنانتي، ثم أضربكم بسيفي حتى لا يبقى في يدي منهُ شيء، فأقدِموا إنْ شِئتُم.. وإن شِئتُم دَلَلْتُكُمْ على مالي وتتركوني وشأني!".

     وأدركَ القومَ خوفٌ وطمع.. خوفٌ من تهديدِ صهيب، وطمعٌ بِمالِه.. فتركوه وشأنَه وعادوا يأخذون ماله بعد أن دَلّهم عليه. ينبغي ألا يفوتَنا أنَّ القومَ صدَّقوا قوله مُسارعين، ولم يسألوهُ بيِّنةً أو علامة، ولم يستحلِفوه على ما قال.. وذلك أنه كان وهو المؤمن، وهم الكفار فوقَ مستوى الظنون.

     ولقيَ صهيبٌ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في قُباء فإذا به يُبشِّرُه بقولِه: "ربحَ البيعُ أبا يحيى، ربحَ البيعُ أبا يحيى!".. وحقاً لقد ربحَ بيعُ صهيب أبي يحيى، فقد أعطى ما يَفنى ليكسبَ ما يبقى، وحَسبُكَ أنه نزلَ فيه قولُه تعالى: "ومِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ، وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ".
*****

أسعد بن زرارة يوم العقبة

أسعد بن زرارة يوم العقبة

     مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة المكرمة عشر سنوات يدعو قومه إلى الإسلام، وهم يأبون عليه ويقابلونه بما يكره، إلا نفراً قليلاً أضاءت لهم نفوسهم حالك الظلام بما فيها من خير رشيد، وفطرة كريمة، فإذا بهم يُسلِمون على الرغم من كراهية قريش، وعلى الرغم من عدوانها، وعلى الرغم من فجورها وبذاءتها في الخصومة.

     ولم يتوقف عليه الصلاة والسلام عند قريشٍ وحدها، بل مضى يَتْبَعُ الناسَ في أسواقهم، في عكاظ، وفي مَجَنَّة، وفي المواسم، وهو يقول "من يُؤويني!؟ من ينصرني حتى أبلغ رسالة ربي!؟" فلا يجد أحداً ينصره؛ ذلك أن قريشاً لم ترضَ بما هي عليه من العداوة والبغضاء للإسلام حتى طفقت تفتري على رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وتخترع الأكاذيب وتلصقها به، فمرّةً هو –على زعمها– ساحر، ومرة شاعر، ومرة كاذب، وهكذا..،

     لقد شاع ما أطلقته من أكاذيب وانتشر، فشرّق في جزيرة العرب وغرّب، وتناقلته القبائل المختلفة، فتأثرَت بهذه الأكاذيب؛ حتى إن الرجل لَيَخرُج من اليمن أو مُضَر فيأتيه قومه وذوو رَحِمه، فيقولون له: "احذر غلام قريش لا يفتنك!"..

     وعلى الرغم من حملة الأكاذيب هذه الضارية الشديدة لَم يتوانَ صلى الله عليه وسلم قط في إبلاغ الدعوة، والطوف على الناس أفراداً وجماعات، يدعوهم للخروج من الظلمات إلى النور.. كان احتماله قوياً جداً.. وكان صبره فريداً جداً، وكان إيمانه بالحق الذي بُعِث به وثيقاً مكيناً لا حدود له.. وحسبك أن تعلم أنه إذ كان يطوف على القبائل في مواسم العرب يدعوها إلى الإسلام، كان يمشي وراءه عمه أبو لهب -لعنه الله- يحذِّرُ الناسَ منه .. فكانوا يصغون إليه وهم يقولون: أهل الرجل وذووه أعرف به مِنّا.. لكن هذا كله لم يفتَّ في عضده عليه الصلاة والسلام يطوف على الناس إذ يجتمعون في أيام الحج.. أو أسواق العرب وهو يقول "من يُؤويني!؟ من ينصرني حتى أبلغ رسالة ربي!؟".

     وشاء الله عز وجل –وهو العليم الحكيم– أن يتراخى الزمن ويمتد قبل أن ينهض حيٌّ من العرب يعلن للرسول صلى الله عليه وسلم أنه سيحميه وسيؤويه وسينصره حتى يبلّغ رسالة ربه إلى الناس. هذا الحي الذي انفرد بهذه المكرمة، واكتسب بها شرفاً ورِفعة حتى يوم الدين قوم من المدينة المنورة، هم الأنصار، رضي الله عنهم، وأجزل لهم الثواب.

     وأسلمَ عددٌ من الأنصار على يدي الرسول صلى الله عليه وسلم.. وعادوا إلى المدينة المنورة يدعون قومهم إلى الحق، ويُحذرونهم من الشرك، ويُخلِصون لهم في النصح. وفشا الإسلام في المدينة المباركة وانتشر.. وحين حَلَّ موسم الحج كان هناك سبعون رجلاً منهم قد واعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم شعب العقبة.. ليسألوه قائلين: "يا رسول الله علامَ نبايعك؟"..

     قال صلى الله عليه وسلم: "تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة".

     كلمات قلائل تلك التي قالها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.. لكنها في غاية الخطورة حين يمعن الإنسان فيها النظر، إنها التزام جدّي خطير بالغ الأهمية.. لما تحتاجه الدعوة الجديدة من عونٍ وقوة، وبذلٍ وتأييد، ونصرةٍ وعطاء.. ترى أأدركَ الأنصار الكرام خطورة هذه البيعة؟ ترى أكان وفاؤهم من بعد على مستوى إدراكهم؟ إن تلاحق الوقائع، وتدافع الحوادث.. ونمو حركة الإسلام فيما بعد.. هذا كله كشف عن عظمة الأنصار وبطولتهم، كشف عن إدراكهم العميق لخطورة البيعة، وكشف التضحيات.. وحين تُمعن النظر في السيرة النبوية الشريفة ترى الوفاء النادر الذي كان عليه الأنصار للرسول صلى الله عليه وسلم ودعوته الكريمة.

     لكن قد يتساءل أحد: أكان الأنصار ساعة البيعة مُدركين خطورتها وجدّيتها وعِظمَ ثمنها وضخامة أبعادها!؟ الجواب: أجل؛ كانوا كذلك. يكشفُ عن ذلك موقف أسعد بن زُرارة رضي الله عنه الذي كان واحداً من السبعين، وكان أصغر القوم جميعاً إلا واحداً. وقف أسعد بن زرارة ليقول لقومه: "رويداً يا أهل يثرب! فإنا لم نضرب إليه أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله، وإنَّ إخراجهُ مناوأة للعرب كافة، وقتل خياركم، وتعضكم السيوف، فإما أنتم قومٌ تصبرون على ذلك فخذوه وأجركم على الله، وإما أنتم قومٌ تخافون من أنفسكم خيفة فذروه وبَيِّنوا ذلك، فهو أعذر لكم عند الله"..

     أيُّ قولة رائعة هذه التي نطق بها أسعد!؟ أيُّ إدراكٍ عميق لضخامة ما هو مُقدِمٌ عليه هو وقومه!؟ أيُّ شعور نبيلٍ بشرف الكلمة ينطق بها الإنسان فيلتزم بها وإن عَظُمَت!؟ أي إحساس بجدية ما دعاهم صلى الله عليه وسلم إليه من أمر!؟

     لا شك أن أسعد بن زرارة كان له نصيب من ذلك يدل على عمق فَهْم من ناحية، وعلى أصالة نفس من ناحية أخرى. كان حريصاً أن ينظر قومُه فيما هم مُقدِمون عليه، لأنه يعلم يقيناً أنهم مُقدِمون على أمر عظيم.. إن هذه البيعة ذات نتائج كبيرة، منها حروب ضارية شديدة سيُقتل فيها أشراف القوم، وترميهم العرب عن قوس واحدة.. ستبذَلُ الأموال، وتُفقَدُ الأرواح، إنه لثمن باهظ ثقيل لولا أنه في مقابل الجنة!..

     وضَع أسعد بن زرارة الأمر جلياً واضحاً أمام قومه، ليختاروا عن بيِّنةٍ ووعيٍ وإدراك حتى لا يندموا ذات يوم. وهاهم الآن بعد أن أدركوا عِظَمَ المسؤولية، وفداحة الأمانة، وخطورة البيعة، مطالبون باتخاذ الموقف الذي يريدون. واختار القوم، فكان اختيارهم شاهد صِدقٍ على أصالة نفوسهم، وعميق إيمانهم، وصدق نيّتهم. لقد قال قائلهم لأسعد فيما يُشبِه اللوم: "أمط عنا يا أسعد، فوالله لا ندع هذه البيعة ولا نسلبها".

     لقد بايعوا من بعد موقف أسعد، وكانوا على مثل الشمس في رابعة النهار مما هم عليه مُقدِمون.

     رجالٌ كرامٌ أوفياء، سادةٌ نُجُب، موقفهم نبيل، وموقف أسعد نبيل وأكثر من نبيل! لقد جمع صدق الفهم والإدراك، إلى جدية الإحساس بالمسؤولية، إلى الشعور العميق بجدية ما يصنع هو، وما يصنع قومه. ولقد كانت الأحداث التي تلت فيما بعد أعظمَ شاهدٍ على نُبلِ الأنصار ووفائهم، وخير دليلٍ على عظمة ما صنع أسعد بن زرارة يوم بيعة العقبة، رحمه الله، ورحم قومه الأنصار، وجزاهم خير الجزاء.

*****

عذاب بلال الحبشي

عذابُ بلال الحبشي

     هو بلال بن رباح، ذلك الرجل الذي حوَّلهُ الإسلامُ تحويلاً عجيباً، وأحدثَ في حياته نقلةً هائلةً واسعة، فإذا به من بعد أن كان عبداً مغموراً يصبحُ رجلاً خالداً في دنيا المسلمين حتى يوم الدين.

     كان عمر بن الخطاب إذا ذَكَر أبا بكر قال عنه: "أبو بكرٍ سيدُنا، وأعتقَ سيدَنا"، يعني بِلالاً، وحسبك أن يصفه عمر بهذا الوصف العظيم لتعرف أي رجلٍ كان!.

     كان بلال شديد السمرة، ناحلاً نحيفاً، مُفرط الطول، كثَّ الشعر، خفيف العارضَين.. وكان إذا سمع كلمات الثناء حنى رأسه، وغضَّ طَرْفَهُ، وقال: "إنّما أنا حبشي كنتُ بالأمسِ عبداً".

     لقد صدق بلال فيما قال.. لكنَّ الحال لم يَثبُت على ما قال، فإنَّ بلالاً صار إحدى معجزاتِ الصدقِ والإيمان، إحدى معجزات الإسلام العظيم في صياغة الرِّجال.

     لم يكن مِن قبل –كما قال عن نفسه– سوى عبد رقيق يرعى إبل سيده لقاء شيء يسير من مال وطعام.. ولولا الإسلامُ لظلَّ هكذا ضائعاً في الناس وهو حي، مجهولاً مِنهم وهو ميت. لكنَّ بلالاً أخلف هاتيك الظنون كلَّها حين اختار الإسلام، ودفع ثمن اختياره هذا عذاباً وتعباً ومشقة.

     كان عبداً من الناحية الجسدية، لكنَّ روحَه كانت حرةً طليقةً كبيرة. لذا ما عَتَّمَتْ أن سارعَت تؤمِن بالإسلام حين اقتنعَت بصدقه، على الرغم من فداحة الثمن الذي اضطرت إلى دفعه.

     دُعِيَتْ روحه الحُرة الطليقة إلى الإسلام فأسلمت، ودُعِيَتْ مِن بعد ذلك إلى مواجهة نتائج إسلامها فما تردّدت ولا تراجعت، بل مضَت صوب غايتها الشريفة السامية كالسهم ينطلق من قوسه، دون هلعٍ أو جزَع، دون تردّدٍ أو اضطراب، دونَ ضعفٍ أو خوَر. وهذا الذي فعله بلال هو الذي منحه تلك المكانة العظمى في تاريخ الإسلام بطلاً من أبطاله الكبار العظام.

     إنَّ الرجل كان أسود البشرة، متواضع الحسب والنسب، غريب الأصل هيّناً على الناس، عبداً فقيراً مُستضعَفاً، لكن ذلك كله لم يمنعه قط من أن يتبوأ المكان الرفيع الذي يليق به، إذ يُؤهله إليه صدقه وصفاؤه، وطُهره ونصاعته، ويقينه وتفانيه.

     لقد هدم الإسلام كل المعايير الفاسدة التي يتفاضل الناس وفق اعتباراتها، دون أن تقعد بهم إذ يتفاضلون عوائق من نسب أو حسب، أو جنس أو قبيلة، أو لغة أو أرض. وتلك –والله- هي المعايير العادلة التي تتيح للناس جميعاً أن يستبِقوا، وتهيئ الفرصة الكاملة لأي صَدوق سَبَّاقٍ أن يحتل مكانه الذي يستحقه دون حيف أو عدوان.

     وذات يوم علم بلال بن رباح أن محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم طفق يدعو لدين جديد، وما كان الرجل ليجهل محمداً عليه الصلاة والسلام، فقد كانت سيرته الطاهرة تملأ مكة المكرمة بأريجها العطِر، وكان سلوكه مضرب المثل في الشرف والصدق والأمانة وفي الفضائل كلها. لقد بلغ الأربعين ولم تُعرَف عنه كذبة قط.. إنه لصادق صادق.. وغدا بلالٌ وراح.. ولم يحتج إلى جهد كبير ليعلم صدق الدعوة الجديدة وصحتها، فما عتم أن أسلم.

     وجُنَّ جنون أمية بن خلف سيد بلال!.. أيُسلم العبد الحبشي ويتحدى جبروته وطغيانه!؟ ألِهذا العبد أن يفكِّرَ ويُقدِّرَ ويختار!؟ ومَن هو حتى يعرف الحقَّ من الباطل، والخطأ من الصواب!؟ مثل تلك التساؤلات الحمقاء كانت تدور في خلد أمية بن خلف.. الذي ما أبطأ أن وضع بلالاً أمام الامتحان، وامتُحِنَ الرجل، فازداد صلابةً ومَضاءً وتضحية. كان كالتِّبْرِ إذ يُعرض على النار يزداد تألقاً ونقاءً وأصالة، وكالمطواة على الشحذ قَطْعاً وحِدّة.

     وُضِع بلال وهو عريان على أرض مكة التي ألهبتها الشمس المتقدة، فما وهَن ولا استكان، لعلك قد عرفت حرَّ مكة المكرمة إذ تسقط الشمس حادة حادة، فيلتهب التراب والحصى.. هناك كان بلال يُطرَحُ على الأرض.. وتوضَع على صدره الحجرة الكبيرة الصمّاء.. وهو لا يزيد على أن يقول: أحَدٌ أحَد.

     واشتدوا عليه في العذاب حتى ملُّوا.. وحتى أرادوا أن يستروا زيفهم وهزيمتهم أمام هذا العبد الحُر بكلمة واحدة يقولها، يذكر فيها آلهتهم المزعومة بخير ليحفظوا ماء وجوههم أمام قريش حتى لا تتحدث عنهم ساخرة عاتبة أنهم قد عادوا صاغرين أمام صمود عبد حبشي ضعيف. لكنَّ هذه الكلمة الواحدة لم تخرج من فم البطل الصابر كان لا يفتأ يردّد: أحَدٌ أحَد.

     كانوا يغضبون ويشتدون في الغضب، فيعذبونه ويشتدون في العذاب، لكنه كان يرد عليهم بقوله: أحَدٌ أحَد.

     وكانوا يملون ويتعبون فيرجونه أن يذكر اللات والعزى بخير، لكنه كان يرد عليهم بقوله: أحَدٌ أحَد.

     ويظل البطل الصابر سحابة نهارهِ في هذا العذاب المتصل حتى إذا انكسرت حِدة الشمس، وحان وقت الأصيل أقاموه عن الأرض، ووضعوا في عنقه حبلاً، ثم أمروا صبيانهم وسفهاءهم أن يطوفوا به في مكة المكرمة، في شوارعها وجبالها، وهو صابر محتسب، يردِّد فقط قولته الخالدة الرائعة: أحَدٌ أحَد.

     أحَدٌ أحَد.. تلكم كانت إجابته الحاسمة القاطعة على جميع الصعاب التي صُبَّت عليه، على جميع أنواع العذاب، على جميع أنواع الإغراء كذلك. موقف لا يُنسى لبلال قط. موقف من سخِر بإيمانه من الطغيان كله، وثبت ثبات الجبال على الحق هازئاً بالطغاة الذين حسبوا أنهم إذ امتلكوه عبداً رقيقاً قد امتلكوا روحه، فهي لديهم أسيرة لا اختيار لها.

     موقف بلال ذاك، درس بليغ في عصره، وفي عصرنا، وفي كل عصر، أن حرية الإنسان الداخلية لا تُباع بكل المال ولو كثر، ولا بكل العذاب ولو اشتد.

     قد يفتك الطاغي بالجسد لكن لا سبيل له إلى الروح، قد يكبل المعذب بالقيود، ويقطعه بالسكاكين، ويرميه مزقاً مزقاً، لكنه لن يتسلط على نفس المعذب وقلبه ما دام ذلك المعذب لم ينهزم من داخل نفسه. درسك يا بلال عبرة للناس حتى يوم الدين، خاصةً إن كانوا من المعذبين.

*****

الصدِّيق وابن الدغنّة

الصِّدِّيق وابن الدُّغُنَّة

     ثقُلَ المقام على الصِّدِّيق في مكة المكرمة بعد أن رأى أهلها لا يكتفون بأن يمتنعوا عن الدخول في الإسلام، بل يعمدون إلى إلحاق الأذى بمن يُسلِم، ويسخرون منه، ويسفّهون رأيه ويشتمونه، وربما أوسعوه من العذاب ألواناً يدفعهم إليها تعصب جاهل، وحقد ذميم، وحسد وسفاهة.

     ثقل المقام على الصِّدِّيق بسبب هذا الذي تفعله قريش، وكدّه الأمر وأحزنه، وأرّق ليله وأرهق نهاره، فهو محزون مكدود. إذا شاء جاهل أحمق أن يشرب من الماء الكدِر القذر ويدع الماء العذب الفرات، فلماذا يغضب إن فعل عاقل لبيب عكس ذلك؟ ولماذا يتجاوز الأمر عنده درجة الغضب ليصل إلى درجة السفاهة والجنون، فيعمد إلى تعذيب من ينأى عن المنهل الآسن الآجن، ويسارع إلى المنهل السائغ النمير!؟

     لماذا يغضب أقوامٌ إن سارع آخرون إلى حيث الربيع المخصب الممرع نأياً عن الأرض المجدبة المقفرة!؟ لماذا يستاؤون مِن مشهد مَن يكره الرائحة القذرة العفنة، ويحب الأريج العطر، والنشر الممسك!؟

     يا ويح هؤلاء الناس!.. إنهم لا يكتفون بأن يختاروا الأدنى دون الأحسن، بل يصرّون على منع كل لبيب عاقل يفضّل الأحسن والأطيب، والأنقى والأنظف، والأصح والأكرم، على الأسوأ والأخبث، والأقذر والأدنس، والأحقر والأسفه.. يصرّون على الوقوف في وجه كل عاقل يفعل ذلك، بل يضربونه ويظلمونه ويضطهدونه.

     كذلك كان حال قادة الوثنية والضلال في مكة المكرمة، إنهم اختاروا البقاء على سفاهة الجاهلية ودناستها وتفاهتها أولاً، وصدّوا عن سبيل الله ثانياً، وسلطوا فنون العذاب على من اهتدوا ثالثاً. وإنه لموقف منهم مُخْزٍ نذلٌ لئيم.. إذن فلم يكن غريباً أن تضيق مكة المكرمة على الصِّدِّيق، وأن يثقل بها المقام عليه.

     أخذت مدينته الغالية تبدو له في صورة أخرى تختلف عما كانت عليه من قبل حتى تقف على طرف مناقض، دروبها موحشة، وبيوتها كئيبة، ومرابعها باهتة، وأضواؤها خافتة، وأجواؤها خانقة، ومغانيها مُجدِبة، وأسواقها مُقفِرة، وحاراتها شاحبة، البسمة فيها كابية، والنظرة فيها حائرة، والمشية فيها مضطربة، والنفوس فيها متوترة، والأفكار حاقدة سوداء، والأماني غبية حمقاء، والأشواق كليلة رعناء.

     لا تبدو الحياة فيها طلقة بهيجة، ولا تظهر حلوة وضيئة، وإنما هي ائتمار حاقد، وجنون مدمر، وسفاهة وطيش ورعونة.

     ملَّ الصِّدِّيق حياته في مكة المكرمة وهي على تلك الحال، فمضى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الهجرة منها، فأذن له صلى الله عليه وسلم. وركب الرجل راحلته وانطلق بها مهموماً حزيناً.. ترفعه رافعة، وتخفضه خافضة، وتتابع الساعات، والرحلة شاقة، والطريق طويل، حتى إذا صار على بُعدِ يوم أو يومين من مكة المكرمة لقيه رجل من سادة مكة هو "ابن الدُّغُنَّة"، ويُلقَّبُ سيد الأحابيش.

     نظر السيد المسافر إلى السيد المهاجر، فقال له في عجب: أين تريد أبا بكر؟

     قال الصِّدِّيق وفي صوته رنّة الحزن والأسف: أخرجني قومي وآذوني وضيقوا عليّ، فأريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي.

     وسمع سيد الأحابيش قولة الصِّدِّيق، وتواردت إلى خَلَدِه عشرات الخواطر كلها تُذَكِّرُ بالصديق ومواقفه النبيلة الشامخة، وحياته مع قومه حيث يعين على النوائب، ويفعل المعروف، ويكسب المعدوم، ويزين العشيرة، كيف لا وهو السيد الأريحي الشهم المعطاء!؟

     عندها لم يملك نفسه أن قال للصدّيق: "إن مثلك يا أبا بكر لا يَخْرُج، ولا يُخْرَجُ مِثلُه، إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتَقْري الضيف، وتعين على نوائب الحق، وأنا لك جارٌ، فارجع فاعبد ربك ببلدك".

     وعاد السيدان إلى مكة المكرمة، ووقف سيد الأحابيش يقول: يا معشر قريش إني أجرت ابن أبي قحافة، فلا يعرض له أحد إلا بخير. عندها كَنَّ الناس عنهم أذاه.

     ولبث الصِّدِّيق يعبد الله في داره في أمن وعافية، ومرّت الأيام على ذلك، ثم بدا له أن يبني مسجداً صغيراً بفناء داره يصلي فيه، ويقرأ القرآن، وبنى المسجد، وطفق يعبد الله عز وجل فيه، وكان رضي الله عنه رجلاً رقيق القلب، سريع التأثر، فكان إذا وقف يقرأ القرآن بكى وانهمرت دموعه، وانساب صوته شجياً مؤثراً في رقة وحنان، وكان كثير من صبيان الحي وعبيده ونسائه يقفون حوله ينظرون إليه، وهم متعجبون متأثرون، مما جعل بعض قادة الوثنية في قريش يخشون من ذلك، إذ توقعوا أن تكون صلاة الصِّدِّيق وقراءته سبباً قد يؤدي بهؤلاء إلى الإسلام. لذا سارعوا إلى سيد الأحابيش قائلين: إنك لم تُجِرْ هذا الرجل ليؤذينا، إنه إذا صلى وقرأ ما جاء به محمد يرِقُّ ويبكي، وكانت له هيئة ونحو، فنحن نتخوف على صبياننا ونسائنا وضعفائنا أن يفتنهم، فائته فمُره أن يدخل بيته، فليصنع فيه ما يشاء.

     واقتنع الرجل بما قاله القوم فسارع يقول للصدّيق: يا أبا بكر، إني لم أجِركَ لتؤذي قومك، إنهم قد كرهوا مكانك الذي أنت به، وتأذوا بذلك منك، فادخل بيتك فاصنع فيه ما أحببت.

     وسمع الصِّدِّيق ذلك، وأحس أنه بحاجةٍ إلى جوار مَن هو أعظم وأقوى من جوار سيد الأحابيش، ومن جوار الناس جميعاً، فالتفت إلى مُحدِّثِه وقال له: فإني أرد عليك جوارك، وأرضى بجوار الله عز وجل. ورد الصِّدِّيق جوار ابن الدغنة الذي هتف بقريش يقول: "يا معشر قريش إن ابن أبي قحافة قد ردّ عليّ جواري".

     وقام الصِّدِّيق يمشي إلى الكعبة، فلقيه سفيه من سفهاء قريش فحثا على رأسه التراب، ومرّ في ذلك الوقت أحد سادة قريش، فقال له الصِّدِّيق: ألا ترى ما يصنع هذا السفيه؟

     قال السيد القرشي: أنت فعلت هذا بنفسك يا أبا بكر.

     واتَّقدت عينا الصِّدِّيق بالعزم والمضاء، وبدت على مخايل وجهه النبيل علامات الثبات والصبر، ورفع إلى السماء عينين مؤمنتين.. وضّاءتين طاهرتين، وهو يقول: أيْ ربِّ ما أحلمك! أيْ ربِّ ما أحلمك! أيْ ربِّ ما أحلمك!.

     وأحسّ إبليسُ بسوءِ ما أصابَ الصِّدِّيق فانتشى وزها وفرح، لكنه إذ تملَّى ما كان عليه من إيمانٍ مكين وثقة باللّه قوية، وعزمٍ على الثباتِ وثيق، خسِئَ وخَنَس، وتجمَّعَ وانكمَش، وأصابَه حزنٌ مُقْعِدٌ ثقيل.

*****

أبو بكر الصديق .. الخطوة الأولى

أبو بكر الصديق .. الخطوة الأولى

     عاد الرجل إلى مكة المكرمة بعد واحدة من رحلاته التجارية الموفقة بين الشام واليمن ليجدَ الناسَ يتحدثون بأمر جديد لم يُعْرَف له من قبلُ سابقة.. وإذ كان التاجر العائد محل ثقة واحترام، وموضع تقدير وإجلال، بما عُرِف عنه من حسنِ المعشر، ولين الجانب، وخفض الجناح، إلى شهامة وأريحية وكرم نفس، فقد سارع إليه بعضُ المكّيين يحدثونه بما جاء من الرجل الهادئ الرزين الذي لقّبوه بالأمين.. سارعوا يحدثونه عن ذلك لأنه واحدٌ من سادة مكة وأهلِ الرأي والنظر فيها، ولأنه كذلك الصديقُ الحميمُ للأمينِ الكريمِ الذي هُم بما جاء به ضائقون.

     جاءَ عددٌ من صناديد قريش، قادة الكفر والوثنية إلى التاجرِ العائد، منهم عقبةُ بنُ أبي مُعَيْط، وأبو جهل بنُ هشام، ليقولوا له: يا أبا بكر، أعْظِمِ بالخَطْبِ!، يتيمُ أبي طالب يزعمُ أنه نبي مرسل، ولولا أنتَ ما انتظرنا به، فإذ قد جئتَ فأنت الغايةُ والكفاية.

     ونظر أبو بكر إليهم في صمت، وصرفهم عنه في هدوء، ثم مضى إلى بيتِ خديجةَ رضي الله عنها ليقابلَ صاحبَه الصادق الأمين الذي بلغَ أربعين عاماً ولم يُعْرَفْ عنه إلا الخيرُ والفضيلة، والشرف والعفاف.

     ولم تَطُلِ المقابلة كثيراً، فقد كان أبو بكر يعلمُ صدق محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، فما كان منه إلّا أن أسلمَ سريعاً دونَ ترددٍ أو رَيْثٍ ليصيرَ من بعد ذلك أعظمَ رجلٍ في تاريخ الإسلام بعدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم.

     هو موقفٌ قد يحسبه بعضُ الناس تسرُّعاً غيرَ حميد، لكن الأمرَ أبسطُ من ذلك وأعمق، وقد تكون البساطةُ حليفةً للعمق.. إن أبا بكر كان قد عرف أخلاق محمد بن عبد الله دهراً طويلاً، وعرف أنه الفضائلُ كلُّها، والمكارمُ كلها، وعرف كذلك أنه الصدقُ كلُّه.. وإنَّ مَنْ يأبى أن يكذبَ على الناس حَرِيٌّ به ألّا يكذبَ على ربِّ الناس.

     مثلُ تلك المحاكمة العقلية البسيطة العميقة معاً كانت كافيةً لإيمانِ رجلٍ عاقل لبيب، قد بَلا الحياةَ حتى عرفَها، وحلبَ الدهرَ أشْطُرَه، وبلغَ سنَّ النضج والاكتمال، سنَّ الأربعين.. لذا سارع يصدِّقُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويؤمنُ بصحةِ ما يقول، ويبدأُ رحلة الجهادِ الشاق المتواصل تأييداً لدينِ الله عز وجل، وحرباً على عالمِ الوثنيةِ والشرك والخرافةِ والجهالة.

     من أجل ذلك استحق أبو بكر الصديق رضي الله عنه تلك الشهادةَ العظمى من فمِ النبوَّةِ الطهور حيث يقول صلى الله عليه وسلم: "ما دعوتُ أحداً إلى الإسلام إلا كانت له كَبْوَةٌ وترددٌ ونظر إلا أبا بكر".

* * *

     هو موقف كبير نبيل ذلك الذي وقفه الصديق، التاجرُ الهيِّنُ الليّن المحبوب يوم أن بادر إلى الإسلام دونَ ريث أو إبطاء.

     وهو موقفٌ يُضاف إلى مواقفَ كثيرةٍ جداً كلها تشهد بعظَمةِ هذا الرجل، وصدقهِ وعبقريته، ومبادرته إلى سوابقِ الفضائل والمكرمات.

     كان إيمانُ الصِّدِّيق إيماناً جيّاشاً، حاراً دافقاً، يريد أن يعبرَ عن نفسه، ويستفرغَ أقصى إمكاناته في البذل والعطاء. وإذا كانت الدعوة لا تزالُ حتى ذلك الحين في طورها السري، وجد الصِّدِّيق أن ثَمّةَ عوائقَ تقفُ في طريقهِ وعقابيل.

     هو يريد أن يجهرَ بالدعوة ويهتف بها، ويقول كلمة الحق على مسامعِ سادةِ قريش أياً كانت النتائج.. لكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان ما يزال ينتظر.

     وظلَّ الأمر يَعْظُمُ على الصِّدِّيق، وظلت رغبتُه الحارةُ الجياشة تملأ كيانَه، وتستبدُّ به ليلَ نهار.. وكان أنْ ألَحَّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج لإظهار الدعوة حتى استجابَ له.. وخرج المسلمون إلى بيت الله الحرام حيثُ يجتمع سدنةُ الكفر والضلال والوثنية، وكان في حياة الصِّدِّيق يومٌ شهمٌ كبيرٌ عظيم.

     وقفَ الصِّدِّيق إلى جوار القوم خطيباً يدعوهم إلى عبادة الله عز وجل، وخلعِ تلك الأوثان الكالحةِ المقيتة، ومضى في خطبته، كالفرسِ المجلِّي.. كالسيل الأتِيّ.. كالمطر ينصبُّ مثل أفواه القرب.. كالصقرِ يشتد.. كالنمرِ ينقض.. كالبحر يهدر.. ذلك أن في صدره إيماناً أثبتَ وأرسى من الجبال، وفي قلبه حنيناً عنيفاً لا يهدأ لإبلاغِ الدعوة، والهُتافِ بكلمةِ الحق مهما تكنِ الصعاب.

     وكانت خطبةُ الصِّدِّيق تلك أولَ خطبةٍ جهرَ بها مسلمٌ يدعو فيها إلى الله ورسوله، لذا فالصِّدِّيق جديرٌ بهذا اللقب الجليل "الخطيب الأول". وكانت كلمةُ الخطيبِ الأول التي ألقاها على مسامع قريش تحدياً صريحاً لشيوخ قريش وسادتها، وسخريةً عنيفة بما يعبدون، لذا ما كادوا يرونه واقفاً حتى قاموا إليه ونزلوا به وبمن معه من المسلمين ضرباً مؤذياً، ولكماً حاقداً، وبطشاً مجنوناً.. أنما يريدون إسكاتَ هذا الصوت إلى الأبد، وبلغ من شدة الحقد أن رجلاً كعتبةَ بن ربيعة وهو من سادة قريش الموصوفين بالعقل والحلم خلع نعليه ونزل بهما ضرباً على وجه الصِّدِّيق.. ذلك الوجه الكريم النبيل الذي ما عُرِفَ صاحبُه إلا بالمروءات والمكارم. وظلّ عتبة يضربه في سفهٍ وجنون حتى سال الدم من وجهه الأبِيّ، وظلت المعركةُ دائرةً بين القومين حتى أقبلَ بنو تَيْم وهم قبيلة الصِّدِّيق فحملوه إلى داره، وهُم لا يشكّون أنه قد مات.
* * *

     وتعاهد بنو تيم أن يقتلوا عتبة بن ربيعة إن مات أبو بكر، وخيّمَ على مكة المكرمة جوٌّ ثقيل، وصار الناس في توجّسٍ وانتظار.. ولبثَ الصديقُ يومه لا يعي حتى إذا ما حرّكَ شفتيه كان أولُ ما نطق به أن سأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرسل أمه للبحث عنه والسؤال عن حاله.

     وعادت الأم تحمل إليه النبأ السار.. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير وعافية.. وحاولت أن تفعلَ ما تفعله كلُّ أمٍّ في مثل حالها.. قدّمت له شيئاً من اللبن ليتقوّى به، لكن الصِّدِّيق أبى ذلك، وأقسم ألا يذوق شراباً أو طعاماً حتى يأتيَ رسولَ الله.. وانتظرَ القومُ حتى إذا جاء الليل ذهبوا به إلى دار الأرقم.

     وفرحَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفرح المسلمون معه برؤيتهم أبا بكر وهو حيٌّ يُرزق، وقد جاء إلى حيثُ كتيبة الإسلام الأولى، وأول كوكبةٍ من جنوده الأوفياء.

     وحين سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حالِه قال رضي الله عنه: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ليس بي إلا ما نال الفاسقُ من وجهي.

* * *

     أوعيتَ موقف الصديق هذا!؟ أنظرتَ فيه فاحصاً مدققاً معتبراً!؟ أما استوقفك ما فيه من بطولةٍ وتضحية وفداء!؟

· حين أفاق من غيبوبته كان أولُ ما فعل أن سأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يهتم بأمر نفسه لا في قليل، ولا في كثير.
· وحين قُدِّمَ له ما يتقوّى به أبى ذلك، وأقسم ألا يذوق شيئاً حتى يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
· وحين وقف في منتدى قريش عند الكعبة المشرفة لم يكن يجهلُ الأذى الذي سوف يحلُّ به.

     أنْعِمْ بموقفِكَ أيها الخطيبُ الأول يوم أسلمتَ دون تردد! ويوم ألقيتَ أول خطبة دون وجل!.

     أنْعِمْ بذلك!.. وأنْعِمْ بمواقفك كلها! فهي لَعَمْري في خَلَدِ الزمان ملحمةُ صدقٍ وطُهر، وتضحيةٍ وجهاد، وثقةٍ واستعلاء، وإيمانٍ أثبتَ وأرسى من الجبال.

*****

الأكثر مشاهدة