السبت، 25 ديسمبر 2021

مع الحاج أمين الحسيني

مع الحاج أمين الحسيني

عبرة وذكرى

     مع كثرة ما كتب عن اليهود والصهيونية في العالم العربي، يمكن للمرء أن يقرر أن هذا العدو لا يزال مجهولاً لدى الكثيرين، نظراً لأن معظم ما كتب عنه كان كلاماً عاطفياً حماسياً يتبدد بسهولة بعد حين من الزمن، ومن هنا تبدو الحاجة ماسة إلى دراسات علمية موضوعية جادة مستقصية تكشف حقيقته ومخاطره ومطامعه.

     على أنك لا تخطئ أن تجد بعض العارفين معرفة دقيقة بهذا العدو، بحيث تصلح كتاباتهم وأقوالهم وآراؤهم أن تكون وثائق وشهادات ومراجع يمكن الاعتماد عليها، وينبغي إشاعتها ومن هؤلاء عبد الله التل والحاج أمين الحسيني في الجيل الماضي والدكتور عبد الوهاب المسيري هذه الأيام.

     والحاج أمين الحسيني شخصية غير عادية، فقد عاشت طويلاً، وشرّقت وغرّبت، وجعلت همها الأول التعريف بخطر اليهود والصهاينة، والدفاع عن فلسطين بكل ما تقدر عليه، حتى صار مع الزمن رمزاً للقضية الفلسطينية، وأباً للمجاهدين من أبنائها، نال ذلك بجدارة تامة، هي حصيلة مواقفه، وشجاعته، ومغامراته، ودأبه، ووعيه المتقدم، وسمته الديني، وإصراره على أن قضية فلسطين قضية إسلامية قبل كل شيء، وهو ما جعل له ولها حضوراً واسعاً في العالم كله، وبخاصة بين العرب والمسلمين.

     يقول المرحوم أمين الحسيني: لقد بلونا هذا العدو وخبرناه، وأدركنا مدى تصميمه على استئصال شأفتنا وإبادتنا، كما أدركنا مدى خطره على العرب والمسلمين جميعاً، ومن هنا جاء اعتقادنا أن لا حل لقضية فلسطين ولا درء لهذا الخطر الداهم إلا الجهاد، الجهاد الصادق، الطويل النفس، المنبثق عن العزم والتصميم وإرادة القتال، ونعتقد أن الأمة الإسلامية لن يكون لها مبرر أمام الله والتاريخ والأجيال القادمة إذا هي تقاعست أو فرطت لأنها تملك جميع أسباب القوة والمنعة وهي بالتالي قادرة على تحقيق النصر بإذن الله.

     ويمضي المرحوم أمين الحسيني، مفتي فلسطين ورمزها، أيام قيادته لحركة الجهاد ضد الصهاينة، يحشد الأدلة على صحة رأيه، فيقرر أن الأمة العربية تجاوز عددها 100 مليون، وأن زيادتها السنوية أكثر من ثلاثة ملايين، وأن الأمة المسلمة تجاوز عددها 700 مليون، وأن زيادتها السنوية أكثر من عشرين مليوناً، وهو ما يجعل قدرة العرب والمسلمين على القتال والتعويض والتجدد كبيرة جداً خلافاً للصهاينة المعتدين، وهو يذكر بطبيعة الحال الأرقام التي كانت في أيامه، أما الآن فهي أكبر بكثير، وهو ما يؤكد صدق نظرته، وصحة استشرافه للمستقبل.

     ثم يمضي الزعيم الفلسطيني - في سياق حشد أدلّته لإثبات وجهة نظره - فيتحدث عن إمكانيات الأمة فيقول: ومن حيث الإمكانيات فقد حبا الله تعالى أمتنا بموارد عظيمة وثروات هائلة، وجعلها من أغنى الأمم، وأعطاها بسطة في الرزق والأرض والموقع. وقد أثبتت حرب رمضان المبارك على قصرها صحة ما نقول، وأنزلت بالعدو من الهلع والجزع ما كشف لنا عن نقاط ضعفه الكبيرة، كما أثبتت الحرب أن لا جامع لهذه الأمة كالجهاد، ولا موحد لكلمتها كالقتال.

     ثم يؤكد بإلحاح على وجوب الحذر من الصهاينة المعتدين، فهم أهل مكر وغدر وخديعة فيقول: وإني أحذر من مكر اليهود وخداعهم، فليس في نيتهم سلام حقيقي، وحين يتظاهرون بالسلام، إنما يريدون كسب الوقت للتأهب لعدوان جديد.

     ويعود إلى التحذير منهم مجدداً فيقول: أحذر العرب والمسلمين من أن القبول بقرار مجلس الأمن 242 إنما هو ضياع لفلسطين وتفريط بالأمانة الغالية، لأن هذا القرار ينص على الاعتراف الكامل بدولة العدو، ويضفي عليها الشرعية، ويتنازل لها عن أكثر من أربعة أخماس فلسطين، ويعرض المسجد الأقصى للضياع، والبلاد العربية والإسلامية لأشد الأخطار، كما أحذر من أطماع اليهود في البحر الأحمر وهي شديدة الخطورة.

     في أواخر عمره، جاء الحاج أمين الحسيني إلى الرياض زائراً، وهرع إلى الفندق الذي يقيم فيه عدد من أبناء فلسطين الذين آلت إليهم قيادة الجهاد الفلسطيني، وطال الحديث وتشعب، واسترسل الضيف الكريم فيه، وحاول أن يضع في هذه الجلسة خلاصة خبرته، وعصارة تجربته، وكأنه يشعر أنها الوصية التي يقولها مَنْ يودع الحياة ليعيها مَنْ بعده. وقد حدثني بما كان في هذه الزيارة أحد شهودها، وروى لي أنها كانت جلسة ملأى بالعبر والمعلومات والإخلاص، وقد أثر الضيف الكريم في الحضور، حتى استولى عليهم، ثم بكى من فرط التأثر والإشفاق.

     وقد ركز - أكثر ما ركز - على أن اليهود أهل غدر، ولا يحفظون عهداً مع أحد، ولا يحفظون جميلاً حتى لمن عطف عليهم وأعانهم، وحذر من الصلح معهم، وأكد أن المستقبل في صراعنا معهم هو لنا بإذن الله، على أن نستمر في الصبر والمصابرة، واستفراغ الوسع وبذل الجهود.

     رحمك الله أيها المجاهد المؤمن الحاج أمين الحسيني.

     ترى هل ننتفع من كلماتك الثمينة، أم أنها ستمضي هباء خلال عَدْوِنا اللاهث خلف مكرة سامريين، وحواة ثعالب، وقردة حاقدين، ومقلّدين مضبوعين، ومستسلمين متخاذلين يريدون أن يقودوا أمتنا معصوبة العين نحو الهلاك ويقنعوها أن الذئب يمكن أن يخرج عن طبيعته الغادرة، وأن الأفعى يمكن لها أن تخرج من طبيعتها السامة.

     وبعد:

     فإن المشروع الصهيوني في فلسطين إلى زوال، لقد بلغ ذروته عام 1967م، حين انتزع نصراً مجانياً لم يكن يحلم به، بسبب قيادات سيئة كان في يدها القرار العربي يومذاك، ثم بدأ بالتجمد والتآكل ولعل الجيل التالي من أبناء الأمة يشهد نهايته.

     وأهم الأسباب التي تدعو إلى الإيمان بزوال هذا المشروع، أن الدولة العبرية مخالفة لسنن الله عز وجل في قيام الدول وسقوطها جملة وتفصيلاً، وأن الضعف العربي لن يدوم، وأن دعم أمريكا له لابد أن يتوقف ذات يوم، ثم إن إمكانات العرب والمسلمين، عقيدة، وتكاثراً، وثروة، وموقعاً، وتعويضاً إمكانات هائلة خلافاً لإمكانات هذه الدولة المصنوعة الممسوخة، وأخيراً - وليس آخراً - أن الشعب الفلسطيني امتلك زمام المبادرة، وعاد إلى هويته الحقيقية، وصدع بها، وتحمل أعباءها، وجعل مضمونها وشعارها "لا إله إلا الله محمد رسول الله".

* * *

يحدثونك عن النجاح

يحدّثونك عن النجاح

الإرادة أولاً

     كثر الحديث في السنوات الأخيرة عن النجاح في الحياة، وتنوع المتحدثون في هذا الأمر، وتنوع الحديث أيضاً، وهو أمر محمود ونافع ومطلوب، يمثل ظاهرة إيجابية جديرة بالعناية والاهتمام، للناس عامة وللشباب خاصة.

     ويدور الحديث في العادة على حَفْز الإنسان على الإبداع، والتجدد، وإدراك منطق الأولويات، فضلاً عن التقويم، والقراءة، والصحبة، والصبر، وتحديد الغاية، وضبط الوسيلة المناسبة المؤدية لها، وما إلى ذلك، وهذا كله صواب وخير، ينبغي لنا أن نفرح به ونستزيد منه.

     والذي أريد أن أقوله هو أن "الإرادة" هي أهم أسباب النجاح وأولها، ومن هنا جاء العنوان "الإرادة أولاً" فالإرادة هي الخطوة الأولى التي تجر ما وراءها من خطوات. وبين يدي أربع وقائع عملية تشهد بذلك، عرفت أصحابها معرفة شخصية من بداياتهم المتواضعة حتى وصلوا ذروة النجاح.

* * *

     عرفت الأول وهو "ح - ش" طالباً في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الرياض، قادماً إليها من بلد عربي شقيق وكان جاداً قليل الكلام، مستقيماً، يعيش عيشة أقرب إلى الكفاف كما هو شأن أكثر الطلاب، حدد هدفه بدقة، وحدد الوسيلة المؤدية إليه، وتسلّح بالإرادة، وثابر وصابر، فحصل على درجة البكالوريوس بتفوق، وهو ما هيأ له فرصة الدراسة العليا، فحصل على الماجستير بتفوق، ثم على الدكتوراه بتفوق، وأذكر أني حضرت جلسة المناقشة، وكنت أراه - وأنا في غاية السعادة - يقدم ملخص الرسالة ويجيب عن أسئلة اللجنة المناقشة لها، ثم عمل مدرساً للحديث الشريف - وهو تخصصه - في كل من ماليزيا وأمريكا، ثم عمل - بالتعاون مع سواه - على إنشاء جامعة إسلامية مفتوحة في أمريكا تعمل من خلال الانتساب، وتمنح طلبتها درجتي الماجستير والدكتوراه، وهو اليوم أحد من يستشارون في الأحاديث الشريفة، من حيث درجتها، وشرحها، ومظانها، وما إلى ذلك، وأذكر أنه تزوج وهو في سنواته الأولى من الدراسة ولعل له اليوم عدداً من الأولاد، وصل بعضهم إلى المرحلة الجامعية وعسى أن يسيروا على نهج أبيهم في الاستقامة والإرادة.

* * *

     أما الثاني وهو "ع - ب" فقد عرفته وهو في العقد الرابع من عمره يحمل درجة الليسانس في الحقوق من مصر، ويعمل مستشاراً قانونياً في إحدى دوائر الدولة في الرياض، وقد رأيته مرات كثيرة خلال سنوات عمله، وكان سلوكه وأدبه فضلاً عن لهجته، أدلّة تشير إلى بلده المجاور الذي قدم منه وهو بلد عرف أبناؤه بالاستقامة والتوفير، والهجرة وطول النفس، عاش على الكفاف، وعاش أحياناً على أقل من الكفاف، بحيث صار بعض زملائه يتندرون عليه ويتهمونه بالبخل، وكنت خلافاً لهم أكبر فيه همته وأقدر ظروفه وأحترم طموحه.

     جمع الرجل قدراً طيباً من المال، ثم ذهب إلى بريطانيا، حيث لبث فيها بضع سنوات عاد بعدها، خبيراً في الاقتصاد، مرجعاً في تخصصه، متقناً للغة الإنجليزية، وهو اليوم مستشار كبير في أحد البنوك، مكانه كبير ودخله وفير، ويمتلك بيتاً فاخراً في واحد من أحياء الرياض، وله >ديوانية< أسبوعية في بيته العامر، يلتقي فيها الناس فيتحدثون ويسمرون ويستمعون إلى محاضرة أسبوعية يديرها هو، أو يديرها أحد خلصائه، وله صلات واسعة مهمة، وله خدم وحشم. زرته في بيته العامر أكثر من مرة، وتذكرت حالته بين أمسه ويومه، وحمدت له إرادته ودعوت له.

* * *

     أما الثالث فهو الشيخ "م - أ" عرفته طالباً في المرحلة المتوسطة في المدينة المنورة، على منوِّرها أفضل الصلاة والسلام، حيث كنت مدرساً في إحدى مدارسها، وكان واحداً من طلابي. كنت أعطف عليه وأشجعه، لأدبه، ولاستقامته، ولفقره، ولغربته أيضاً، فقد كان أبوه من القادمين إلى المدينة المنورة من بلده النائي البعيد الواقع في جنوب شرق آسيا.

     والتحق إلى جانب المعهد الذي كان يدرس فيه، بإحدى مدارس تحفيظ القرآن الكريم واستمر على ما عهده الناس منه، من أدب وصبر واستقامة، فازداد حب الناس له خاصة أنه كان ذا خلق حسن وصوت حسن.

     ومرت الأيام، فأنهى المرحلتين المتوسطة والثانوية، ثم التحق بالجامعة فحصل على الليسانس فالماجستير فالدكتوراه، وهو اليوم أحد أئمة المسجد النبوي الشريف، وأحد القراء المشهورين الذين يذاع لهم في الإذاعات، وتباع أشرطتهم هنا وهناك، وأقبلت عليه الدنيا فكثر بين يديه المال، وصارت له منزلة وجاه، وتزوج ثلاث نسوة، وعرضت رابعة نفسها عليه، لقد أدرك نجاحاً كبيراً بإذن الله تعالى، وكانت الإرادة أول أسلحته فيما نال، لم ألقه منذ تلك الأيام قط، ولكني أسمع له في الإذاعة، وأتابع نجاحه المتواصل، وأفرح له، وأدعو له، وأرى فيه نموذجاً جديراً بالاحتذاء، وسمعت أنه لا يزال يذكرني بخير، وهذا من وفائه وطيب معدنه، ولعل لي بعض الجهد في نجاحه لأني كنت أحنو عليه وأشجعه، ولعل لي بعض الثواب في ذلك وهو خير وأبقى.

* * *

     أما الرابع فهو "م - ش - خ" وهو من مصر، وقصته أعجوبة من الأعاجيب، وهي جديرة بأن يحولها روائي مقتدر إلى قصة شيقة، ومخرج بارع إلى فلم سينمائي، كان عمره في حدود العشرين أو أقل قليلاً حين اعتقلته الشرطة المصرية عام 1954م إبان الصراع بين جماعة الإخوان المسلمين وبين الرئيس جمال عبد الناصر، فقد كان واحداً من أعضائها. وقد حكم عليه بالإعدام ثم خفف الحكم إلى المؤبد، وظل في السجن عشرين عاماً حتى أفرج عنه الرئيس أنور السادات خلال المصالحة التي تمت بينه وبين الإخوان في أواسط عهده.

     خرج من السجن قوي الإرادة، فاستعاد قيده في الجامعة فإذا به طالب في كلية الهندسة لا يخجل من زملائه الذين هم أصغر منه بكثير، وقد أعانه على مواصلة كفاحه بعد محنته الطويلة أنه كان هادئاً بشوشاً رياضياً.

     ثم شاء الله تعالى، وله حكمته البالغة أن يمتحنه امتحاناً قاسياً، فقد اختل توازنه ذات يوم فوقع على الأرض حيث يمر المترو، فجاء المترو فقطع ساقيه الاثنتين معاً. لم يستسلم للحزن ولم يركن إلى الشكوى، فسافر إلى ألمانيا لتركيب ساقين صناعيتين في جهة متخصصة. وتم تركيب الساقين، وأخذ المختصون يدربونه على المشي عليهما، وكان ممن يعنون به راهبة ألمانية نذرت نفسها للدين المسيحي والتبشير به، وقضت في الصين تمارس التبشير من خلال العناية بالمرضى مدة تقارب المدة التي قضاها صاحبنا في سجنه.

     ومع الزمن بدأت الراهبة تعجب بصاحبنا، أعجبت بصبره واستقامته ورضاه بالابتلاء، وجرت بينهما أحاديث متنوعة، ثم إنها استغربت كيف يسجن هذا الرجل وهو ذو استقامة نادرة، ثم فهمت أنه سجن لسبب سياسي، وحين استوعبت أمر صاحبنا تماماً وعرفته معرفة دقيقة، قادها إعجابها به إلى الإعجاب بدينه، فتركت الرهبنة، وأسلمت وتزوجته، وهي اليوم تعيش معه في مصر.

     عاد صاحبنا إلى مصر، ومعه زوجته الفاضلة، وصبره النادر، وقدماه الصناعيتان، ومعه سيارة ألمانية يتم تحريكها باليدين لا القدمين صنعت لأمثاله من المعاقين.

     وفي مصر بدأ يشتري قطعاً من الأرض، ويبني عليها عدداً من الشقق ويبيعها، وهنا أقبلت عليه الدنيا وتكاثر طالبو الشراء منه، لأنهم كانوا على يقين تام أنه يلتزم التزاماً تاماً بكل ما يعد به من إتقان ومواعيد، وكثر المال بين يديه فتوسع في مشروعاته المتصلة بالبناء، فأسس مصنعاً للبلاط، وآخر للرخام، وثالثاً للطوب وهكذا، ويعينه فيما ينشط فيه عمال ومهندسون وفنيون، يحبهم ويحبونه ويستفيد منهم ويستفيدون منه.

* * *

     لقد حرصت على أن أغفل ذكر أسماء هؤلاء الناجحين، خوفاً من إحراجهم، فقد يكون لهم رأي مخالف لما عندي، ولولا الخوف لذكرتها كاملة، مكللة بالثناء، معطرة بالشذا، لأني أرى ما فعلوه كرامة لهم، ووساماً على صدورهم، وشرفاً لهم في الدنيا والآخرة.

     بارك الله عليهم، وزادهم تفوقاً وتألقاً، ونفعهم ونفع بهم، ورفعهم ورفع بهم، واستعملهم فيما يرضيه، وجعلهم للشبان أسوة حسنة ونماذج تحتذى وتقتدى.

     هذه القصص الأربع لهؤلاء الفرسان النادرين، التي رأيتها رأي العين، وعرفت أصحابها معرفة شخصية، هي شواهد تقول بأفصح لسان وأقوى حجة: إن أسباب النجاح كثيرة، فإذا جئنا إلى ترتيبها فإن "الإرادة أولاً".

* * *

لون من المحاسبة

لون من المحاسبة

     قرأت لأحد المربين الحكماء نصيحة ثمينة، تدعو المسلم أن يخصص بضع دقائق كل يوم قبل نومه، يستعرض فيها ما مر به في يومه المنصرم، فما وجد من خير حمد الله عليه ونوى أن يستزيد منه، وما وجد من شر استغفر الله منه وعزم على هجره، ثم ينام على أحسن العزائم.

     سررت كثيراً بهذه النصيحة الذكية والعملية وحرصت كثيراً على التقيد بها، وأدركت من هذا الحرص مقداراً متفاوتاً من النجاح، أرجو أن يزيد ويصبح جزءاً ثابتاً فيّ حتى ألقى الله تعالى.

     جعلت من دأبي حين آوي إلى فراشي في الليل، أن أخلو بنفسي دقائق مباركة، أستعرض فيها ما مر بي في يومي، فأحاسبها حساباً دقيقاً، وقد أقسو عليها، ألومها لأن صوتي ارتفع حيث لا ينبغي له ذلك، وألومها لأنني اغتبت أحداً من الناس فأستغفر الله تعالى له ولي، وألومها لأنني في المجلس الذي سهرت فيه تحدثت بأكثر مما ينبغي، فوقعت في شهوة الكلام، وألومها لأن شوائب ذميمة من حب الظهور والرغبة في التعالم كدرت علي نيتي، وألومها لأني تقاعست عن خدمة صديق كريم وأنا قادر على خدمته، وألومها لأنني اشتريت أشياء لا أحتاجها مسوقاً برغبة الامتلاك والتكديس، وألومها لأنني بخلت حيث يدعوني الكرم، وألومها لأنني أسرفت حيث تمنعني الحكمة.

     إلى جانب ذلك كنت أهنئ نفسي على أي خير مر بي في يومي المنصرم، من مروءة تبذل، أو حاجة تقضى، أو نصيحة تسدى، أو نجاح يقع، أو فائدة تجبى، أو صلاة في مسجد، أو زيارة لجار، أو صلة لرحم.

     وكنت أختم ذلك - كما أوصى المربي الحكيم - بحمد الله تعالى على الخير مع العزم على مواصلته والاستمرار فيه ومحاولة الاستزادة منه، والعزم على ترك الشر والاستغفار عنه، وكنت أسأل الله تعالى دائماً أن يرزقني الإخلاص والصواب معاً لأن أحدهما لا يغني عن الآخر.

     ولقد وجدت في هذا اللون من المحاسبة فوائد جمة كانت تزداد مع استمراري فيه، وتقل مع نسياني له وإهمالي إياه.

     تعلمت أن أشتغل بعيوبي عن عيوب الناس، وتعلمت أنَّ التربية عملية مستمرة تظل حاجتنا إليها ماسة مهما امتد بنا العمر وازداد حظنا من الصلاح ذلك لأننا بشر لابد أن نخطئ. وتعلمت أن أعترف بالخطأ وأن أعتذر، وتعلمت أن أبدل وجهة نظري حيث تدعوني دواعٍ كريمة إلى ذلك وقلت لأحد رفاقي الذي لامني على ذلك: الذين لا يغيرون آراءهم إن وجدت الدواعي الكريمة لذلك صنفان هما الأنبياء والأغبياء، الأنبياء لأنهم لا يخطئون والأغبياء لأنهم يتوهمون أنهم لا يخطئون.

     واستفدت من هذه المحاسبة راحة في الضمير تتمشّى في كل كياني، حين أشعر أنني أنام وليس لمسلم علي حق وحقوق العباد مبنية على المشاحّة وحقوق الله مبنية على المسامحة، وحفظت من مأثور الدعاء: اللهم لا تجعل علي تباعة لأحد.

     استفدت أنني أنام وأنا سليم الصدر نقي السريرة أدعو لنفسي وللمسلمين أجمعين الأموات منهم والأحياء، فلا أبيّت أذى لأحد، ولا أنطوي على غش لمخلوق، وربما دعوت حتى لمن أساء إلي.

     شعرت مع الزمن أن هذه المحاسبة عون كبير للمسلم تأخذ بيده للتخلص من معاصي القلوب من حقد وحسد وكبر وغرور وشح ويأس وخوف وعجز وما إلى ذلك، ومعاصي القلوب أخطر من معاصي الجوارح والتخلص منها أعسر، ذلك أن المسلم حين يدمن هذه المحاسبة ترتقي مداركه وتتسع آفاقه وتصفو نيته وتعلو عزيمته وتزكو سريرته، ويصبح أقرب إلى أخلاق الكرام والنبلاء والصالحين.

     ووجدت في هذه المحاسبة عوناً حميداَ لي على دنياي أيضاً، إذ إنني بها أنام سعيداً وأقوم نشيطاً وأستقبل مسؤوليات يومي الجديد بأمل حي وإرادة فاعلة.

     ووجدت فيها أيضاً عوناً لي على التجدد حين أخفق في قضية، أو أخسر في صفقة، أو أبتلى بأذى من رئيس أو زميل أو جار أو قريب. والمرء الذي يفقد القدرة على التجدد ويبقى أسير أخطائه أو أخطاء الآخرين هو ميت وإن عده الناس من الأحياء.

     كما وجدت في هذه المحاسبة عوناً لي على التخلص بالتدريج من الشعور بالحزن والمرارة والإحباط، وفي ذلك خير كثير، لأن في تراكم هذا الشعور واستفحاله آثاراً مدمرة.

     إن الحديث عن فوائد هذا اللون البديع من المحاسبة كثير، وما قلته من هذه الفوائد يومئ لما لم أقله، وللقارئ الكريم أن يجيل بصيرته فيه ليجد الكثير.

     كانت مدة المحاسبة تستغرق مني سبع دقائق تزيد قليلاً، أو تنقص قليلاً، تعقبها أو تسبقها أدعية النوم المأثورة.

     في الليالي التي أحاسب نفسي فيها حساباً شاملاً، وأقرأ الأدعية المأثورة كاملة، كنت أشعر بسعادة لا حد لها، وكنت أشعر أنني خرجت من حمام "ساونا" نفسي نقِّاني أحسن النقاء وطهرني أحسن التطهير، وربط على قلبي، وجعلني في معية الله عز وجل.

     وحين كنت أنظر إلى ما مضى من العمر، وأشعر أني قد لا أقوم من نومي، تهون علي الدنيا هواناً كبيراً ويزداد تعلقي بالباقي القادم على حساب الفاني المنصرم.

     اعتاد الناس على محاسبة بعضهم: الزوجان يتحاسبان، والأب يحاسب الابن، والرئيس يحاسب المرؤوس، والشريك يحاسب شريكه... وقل مثل هذا ما شئت، وليس هذا الأمر عيباً، بل هو أمر محمود ومطلوب بآدابه وضوابطه، لأنه وسيلة لرقي الحياة تجعلنا نعرف الخطأ لنتجاوزه والصواب لنحتفظ به ونستزيد منه. ليت الناس يحرصون على هذا اللون البديع والراقي والشائق من المحاسبة، عندها سوف يتقدمون في دينهم ودنياهم ويكون حظهم من هذا التقدم مساوياً لحظهم من هذه المحاسبة.

     ورحم الله المربي الحكيم الذي تعلمت منه هذه النصيحة الثمينة، ورحم الله الخليفة العظيم عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي أوصانا فقال: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، والذي دعا الناس إلى
تعريفه بأخطائه وعدّ ذلك هدية منهم إليه فقال: رحم الله امرأ أهدى إلي عيوبي.

* * *

ساعتي الأثيرة

ساعتي الأثيرة

     قبل قرابة ثلاثين عاماً اشتريت ساعة رقمية، وكان هذا النوع من الساعات جديداً يومذاك، يتسامع الناس به ويحرصون عليه ويزينون معاصمهم به. ومع أني لا أبادر سريعاً إلى اقتناء الجديد الذي يتسابق الناس إليه ويقلدون بعضهم في امتلاكه إلا أنني قلدتهم يومذاك.

     ومع الزمن نشأت بيني وبين هذه الساعة ألفة ومودة حتى إنني استعملتها أكثر من عشرين عاماً بدون انقطاع، ومن العجيب أنني لم أحتج إلى تغيير بطاريتها قط، فقد ظلت تعمل بإخلاص وكفاءة كل هذه المدة الطويلة ببطاريتها الأولى.

     وأخذ الناس يتحولون عن هذا النوع من الساعات لكنني لم أتحول عن ساعتي الأثيرة، وأخذ أصدقائي وأبنائي يلحون علي في تغييرها فلم أستجب، وبدأ بعضهم يلومني على الاحتفاظ بها لخدوش أصابتها هنا وهناك فلم أستجب، ثم إن ثمنها صار رخيصاً جداً فقد وصل إلى حوالي خمسين ريالاً وهو ما حدا بمن حولي إلى مطالبتي بتغييرها بدعوى أنها لا تليق بي لرخصها وهوانها على الناس فلم أستجب أيضاً. وحدث أن انقطع حزامها وهو ما جعل المطالبين بالتغيير يجزمون أني سوف أفعل ولكنني لم أفعل واكتفيت بأن اشتريت حزاماً جديداً لها بعشرة ريالات.

     ومرة ألح علي واحد من خلّص رفاقي بأن أشتري ساعة جديدة أجمل وأغلى فأطعته لكنني تركت الساعة الجديدة في البيت وعدت إلى ساعتي الأثيرة.

     ومرة أخرى أهدتني ابنتي الأثيرة ساعة جديدة جميلة وثمينة فلم أستعملها وظللت على عهد الوفاء مع ساعتي الأثيرة.

     قال لي أحد أبنائي: إنها لا تليق بك، فقلت له: بل تليق، إنها تؤدي مهمتها بكفاءة وقيمة الإنسان فيما يفعل لا فيما يحمل.

     وقال لي آخر: إن كثيراً من الفقراء يلبسون ما هو أثمن من ساعتك، قلت: لهم أن يفعلوا ولي أن أفعل.

     وفي كل مرة كان يطول الجدل كنت أقول لهم: إن الساعة وسيلة لضبط الوقت وليست غاية في حد ذاتها، وساعتي الأثيرة تؤدي مهمتها بدقة تامة فلم التغيير؟

     وأخيراً تكاثرت الضغوط علي فوافقت مكرهاً على التخلص من ساعتي الأثيرة وليتني لم أوافق، ذلك أني أردت أن تصاحبني كل عمري. عندها سألت أبنائي ما الذي سوف نفعله بها، فقالوا: نعطيها لفقير، قلت لهم: وهل تجدون فقيراً يرضى بها؟ أتحبون الشجاعة؟ قالوا: نعم، قلت: شراء ساعة جديدة وثمينة وأنيقة و التزين بها لا يحتاج إلى شجاعة، إنما الشجاعة الحقيقية في احتفاظي بساعتي القديمة الأثيرة الوفية والتزين بها، وإن لامني من لام لأنني منسجم مع نفسي.

* * *

* كنت ولا أزال باستمرار أتذكر الحديث الشريف "إن الله كتب الإحسان في كل شيء" أتذكره مع ساعتي الأثيرة ومع سواها. لو أن كل واحد منا تعامل مع ساعته كما تعاملت لوفرنا أموالاً كثيرة، ثم لو أننا جعلنا هذا التعامل الذي يحثنا عليه الحديث الشريف قاعدة لنا في التعامل مع كل شيء في حياتنا من أثاث ولباس وأدوات وسيارات وطرق ومبان وأقلام وأوراق، وما إلى ذاك، لوفرنا أموالاً هائلة - فضلاً عن الجهد والوقت - لا أستطيع تخيل مقدارها لكنها ستكون بالمليارات.

* حين تتحول الوسائل إلى غايات نقع في الأوهام والتكاثر والتباهي، ونشتري ما لا نحتاج إليه فنقع في رذيلة التكدس، ثم نحتاج إلى أمكنة لحفظ ما كدسناه، وإلى جهد ووقت ومال لصيانته ثم نضيق به ذرعاً فنتخلص منه بعد أن يصير عبئاً ثقيلاً.

* نحن بحاجة إلى عادة الاستغناء لتكون بديلاً حميداً عن عادة الاستكثار، ومثل هذا التحول يحتاج إرادة جادة تقوم على عقل بصير ونفس غنية.

* رأيت أكثر الذين يشترون الساعات الثمينة هم أكثر الناس في إضاعة الوقت، مثلهم مثل الذين يقودون سياراتهم بسرعة بالغة تعرضهم وتعرض سواهم للخطر فإذا وصلوا حيث يريدون عكفوا على توافه الأمور.

* يقول الصحابي العظيم الداهية عمرو بن العاص رضي الله عنه: لا أطلق زوجتي ما أطاقت عشرتي، ولا أغير صديقي ما أحسن صحبتي، ولا أبدل دابتي ما حملتني، فإن الملل من كواذب الأخلاق. ترى لو نجونا من الملل وكواذب الأخلاق الأخرى في التعامل مع الأشياء من ساعات وسواها كم سوف نحسن إلى أنفسنا في ديننا ودنيانا على السواء؟

     إنّ حسن التعامل مع الأشياء نوع من الشكر، والشكر يحفظ النعمة ويستدعي المزيد، وصدق الله العظيم ﴿لئن شكرتم لأزيدنكم﴾.

* * *

الجمعة، 24 ديسمبر 2021

إنَّ لله جنوداً من عسل

إنَّ لله جنوداً من عسل

     حقق المسلمون في معركة القادسية نصراً كبيراً على الدولة الفارسية، لكن عدداً من قادة الجيش الفارسي تمكنوا من الفرار، وأخذوا يحشدون الناس لحرب المسلمين، ويثيرون فيهم الحمية، ويؤلبون ويستعدون ويدبرون، باذلين كل ما بوسعهم للإعداد للمعركة القادمة، وهي المعركة التي عرفت باسم "نهاوند" وكان قائد الفرس فيها هو "الفيرزان" وكان قائد المسلمين فيها هو "النعمان بن مقرن المزني".

     والتقى الجيشان وبذل كل منهما غاية وسعه، وأكرم الله تعالى المسلمين بنصر مؤزّر بعد جهود كبيرة ودماء كثيرة.

     وحين انتهت المعركة تنبه القائد المسلم "حذيفة بن اليمان" الذي خلف "النعمان بن مقرن المزني" الذي فاز بالشهادة، إلى أهمية السؤال عن مصير "الفيرزان" فلما تبيّن له أنه ليس في القتلى وأنه استطاع الفرار عزم على ملاحقته والظفر به، لأنه إذا نجا فسوف يحاول حشد الناس لمقاتلة المسلمين مجدداً، وتلك حصافة منه، ونظر حكيم بعيد، وتفكير إستراتيجي سديد. وتولت أمر مطاردة "الفيرزان" كوكبة من فرسان المسلمين يقودهم "القعقاع بن عمرو التميمي".

     كان الفيرزان ذكياً واسع الحيلة، فأسرع في الفرار، لكنه واجه مشكلة لا قبل له بها، لقد كان يعدو في أرض زراعية ضيقة السكك، وكانت هذه الأرض غنية بالعسل الذي عمد أصحابه إلى حمله على دوابهم حين فروا مع الفارين، وعندها صارت الدواب عبئاً على السكك، تعوق بكثرتها وبطئها خطة "الفيرزان" في الهرب، وهو ما جعل المسلمين يظفرون به ويقتلونه، فقال أحدهم يومها قولة جميلة ذهبت مثلاً: "إن لله جنوداً من عسل".

     إنَّ الله تعالى سيد الكون وصاحبه، وكل ما فيه طوع أمره، وقدرته لا حد لها، يسخّر ما يشاء كما يشاء، لقد قال جل شأنه في الآية 31 من سورة المدثر: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُو} وصدق فيما قال، وحسب المرء أن يتأمل في جند الله من ملائكة وشياطين، وإنس وجن، وليل ونهار، وصحة ومرض، ومطر وجدب، ورياح وأعاصير، وفقر وغنى، وبصل وعسل... وما إلى ذلك مما يطيق متابعته ومما لا يطيق، ليقف مأخوذاً مبهوراً وهو يتدبر الآفاق الواسعة لجزء من آية كريمة من الكتاب العزيز، الذي يظل غضاً طرياً لا تنقضي عجائبه ولا يخلق على كثرة الرد، والذي يجد فيه كل جيل جديداً من الأمر لم تجده الأجيال السابقة.

     ما أجمل أن يمضي المسلم وهو يضرب في شعاب الحياة، ناجحاً أو مخفقاً، فقيراً أو غنياً، غالباً أو مغلوباً، مريضاً أو صحيحاً، مستصحباً باستمرار عظمة الله وقدرته، مخلصاً له القول والعمل، حريصاً على الاستمساك بدينه والدعوة إليه، ثابتاً على عهده معه حتى يلقاه، طالباً منه العون والسداد، واثقاً أنه سيمده بجند من جنده من حيث يعلم ومن حيث لا يعلم، راجياً منه القبول، مستقصياً - ما استطاع - هؤلاء الجند عدداً وعدة وتنوعاً وقدرة.

     إنه حين يفعل ذلك سيجد في نفسه قوة في الجسد، وطلاقة في الروح، وفرحة في القلب، وبسمة في الوجه، ورسوخاً في اليقين، ومضاء في العزيمة. ولعله يمر ببائع العسل فيبتسم ويتذكر كيف كان العسل جندياً يقاتل مع المسلمين فيقتل. فيشكر للعسل جنديته، ويراها في كل شيء آخر، ولعله يقول لنفسه: إن كل شيء في الكون جندي من جنود الله، والعسل أحلى هذه الجنود مذاقاً.

* * *

الأربعاء، 22 ديسمبر 2021

هلا كنت الطائر المبصر

هلا كنت الطائر المبصر

     ودع التاجر الصالح أسرته وودع عماله وأوصاهم خيراً، ثم مضى إلى دار شيخه ليستأذنه في السفر ويودعه ويطلب الدعاء منه، فباركه الشيخ ودعا له، فانطلق بنفس راضية، وعزيمة متوقدة، يقود قافلة له إلى بلد آخر ليبيع بضاعته هناك.

     كان التاجر رجلاً صالحاً أميناً، يتحرى الحلال، ويكثر الصدقة، ويرضى بالقليل من الربح، سمحاً محبباً إلى جميع مَنْ يتعاملون معه، ففشت له بين الناس سمعة حميدة في دينه ودنياه، وكثر المال بين يديه فازداد سماحة ورضاً وصدقة، وصار علماً حيث يكون.

     مضت القافلة تضرب في الأرض يقودها صاحبها، مستعيناً على طول الطريق بالراحة حيناً، وبالدعاء حيناً، وبمحادثة أصحابه حيناً آخر، حتى إذا أخذ النوم بمعاقد الأجفان واشتد التعب بالأبدان، اختار التاجر شِعْباً هادئاً في الطريق فيه ظل وشجر وماء فأناخوا فيه ركابهم وقضوا فيه ليلتهم.

     استيقظ القوم في الصباح فأدوا الصلاة، وأخذوا يرقبون اليوم الجديد وهو يتنفس، فشعر التاجر الصالح بمتعة روحية، وآثر الخلوة بنفسه في الشِعْب الهادئ الجميل، وطفق يتلو أوراد الصباح المأثورة وهو يمشي هادئاً متأملاً مندمجاً مع أدعيته ونفسه والمكان والزمان، فشعر بنفسه يحلق ويسمو، وشعر أن الكون كله يسبح لله خالقه ومبدعه.

     فجأة لفتت انتباهه شجيرة صغيرة حسناء، فاقترب منها يتأمل صنع الله فيها، فإذا به يرى طائراً بديعاً جداً على أحد أغصانها فأخذ يدنو منه بهدوء وحذر حتى لا يخاف الطائر فيهرب. وما لبث أن أدركه شيء من التساؤل حين رأى الطائر لا يتحرك قط، وازداد التساؤل الذي أخذ يقترن بالحيرة والدهشة مع اقترابه من الطائر، وبقاء الطائر حيث هو، حتى كاد يلمسه بيده لكنه لم يفعل.

     مضت ساعة من الزمان والتاجر يتأمل في الطائر، فاستبان له أنه أعمى، فتحول التساؤل في نفسه إلى مزيد من الحيرة والدهشة إذ أخذ يقول لنفسه: كيف يأكل هذا الطائر وكيف يشرب، ثم انتحى مكاناً قريباً وجلس فيه في صمت مطبق وقد شغله أمر الطائر عن نفسه وصحبته وقافلته.

     بعد حين لمح طائراً آخر جاء إلى الطائر الأعمى فأخذ يضع في منقاره شيئاً من الحب يجمعه من هنا وهناك، ثم يسقيه شيئاً من الماء من الغدير المجاور حتى إذا أحس أنه أدى مهمته طار بعيداً واختفى.

     فرح التاجر الصالح كثيراً، وسجد شكراً لله، وأخذ يتساءل في نفسه: إذا كان الله تعالى لم ينس الطائر الأعمى فيسر له من يطعمه ويسقيه فلم العناء والتعب والضرب في الأرض؟ وحين تحول التساؤل عنده إلى قرار صارم توجه إلى القافلة فعاد بها إلى بلده، وفي نيته أن يعتكف في بيته، وسيرزقه الله تعالى كما رزق الطائر الأعمى.

     حين وصل إلى بلده، وجد من تمام الأدب أن يمر على شيخه ليسلم عليه ويحدثه بما رأى ففعل. قال الشيخ الذي كان يجمع العقل إلى الصلاح للتاجر العائد: لم عدت سريعاً يا بني؟ قال التاجر لشيخه: لي أسوة بالطائر الأعمى. قال الشيخ العاقل الحكيم لتلميذه التاجر الصالح: يا بني هلَّا كنت الطائر المبصر، يا بني عد إلى ماكنت عليه من الجد والدأب والتعب، واجعل يدك العليا بالإعطاء لا السفلى بالاستعطاء، وأغن نفسك ومَنْ معك فإن الله يحب معالي الأمور.

* * *

رأى ملابس الإحرام فتوهج

رأى ملابس الإحرام فتوهج

قصة واقعية

     حطّت الطائرة في جدة تحمل وفداً عربياً جاء يلتقي نظيره في إطار العلاقات المعتادة بين الدول، وتم استقبال الوفد استقبالاً حفياً، وكانت تحيات ومجاملات، ثم آل أمر الوفد إلى فندق جميل ليقيم فيه. وذات مساء جاء من يعرض على الوفد السفر إلى مكة المكرمة لأداء العمرة، وكانت الدعوة محفوفة بكل دواعي القبول والاستجابة، فالسيارات الجميلة جاهزة، والسائقون، والدليل، وملابس الإحرام، ونسخ من القرآن الكريم وكتب الأدعية المأثورة، كل ذلك جاهز أيضاً.

     فرح الضيوف فرحاً كبيراً، وشكروا من هيأ لهم هذه الفرصة العزيزة وأخذوا يستعدون، وأخذوا ينظرون إلى واحد منهم وهم بين إقدام وإحجام.

     أما الإقدام فمرده أنهم يريدون لزميلهم الخير الذي جاءهم على طبق من ود ويسر وصفاء، وأما الإحجام فمرده أنهم يعرفون زميلهم جيداً، إنه يساري عريق في يساريته، نشأ على كره الدين وأهله، وشبَّ على الفكر الثوري الإلحادي، وظل يعيش ومثله الأعلى لينين وستالين وتيتو وكاسترو ومن إليهم، ثم إنه لم يكن يسارياً يعيش في عزلة، بل كان يسارياً يعمل لما يؤمن به ويراه رسالة يحيا من أجلها ويموت كذلك.

     طالت فترة الترقب بين الإقدام والإحجام حتى كانت المفاجأة حين حسم صاحبنا الأمر بنفسه، وكان ذلك حين أبصر أحد زملائه يرتدي ملابس الإحرام، فطلب لنفسه مثلها وعيناه تدمعان.

      أما الزملاء ففرحوا لصاحبهم وعجبوا، وأدوا جميعاً العمرة وعادوا وقد لاحظوا التغير العميق الذي أصابه.

     كان يبكي منذ ارتدى ملابس الإحرام حتى خلعها، وطفق يبتهل بحرقة ويدعو بحرارة، وفي وجهه أمارات الندم والفرح والسكينة والرجاء.

     ويوم أن عاد إلى بلده كان من الواضح أنه إنسان جديد، حسم اختياره بجرأة وعزيمة، وخلع ماضيه المظلم واستقبل حاضره المضيء وكبر في عين الناس حين رأوه يتخلى عن منصبه الرفيع ودنياه الحافلة بالجاه والمال والنفوذ، ويتفرغ لحياته الجديدة من إيمان واستقامة، وتوبة صادقة، وفرحة لا ضفاف لها بالنقلة الرائعة التي فاز بها.

     ما الذي حدث لهذا المهتدي السعيد؟

     لقد استيقظ في قلبه الإيمان النائم، وكانت ملابس الإحرام هي الشرارة التي أيقظته، تذكر الأذان الذي كان يسمعه في مسجد الحي، ووجوه المصلين التي تغشاها السكينة، وفرحة الناس برمضان حين يأتي، وأحاديث أمه وأبيه في طفولته عن الله تعالى، وعن الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام، وحكايات الصحابة والصالحين، وأصوات البلابل التي تصدح بالقرآن الكريم كالمنشاوي وعبد الباسط.

     تذكر ذلك، وتذكر أمثال ذلك فتخلّى عن يساريته الزائفة وعاد إلى إيمانه الأصيل.

* * *

     إن في هذه القصة أكثر من درس وعبرة.

     فيها أن المسلم قد يضل ويفسد بسبب الشهوات أو الشبهات، أو كليهما، لكنه يندر أن يكفر، وبذلك تظل فرصة العودة متاحة.

     وفيها أن في كل مسلم مساحة من الخير تكبر أو تصغر، لكنها لا تمّحي تماماً إلا في حالات نادرة جداً، وعلى الدعاة أن يكتشفوا هذه المساحة، بالصبر، والأمل، والود الصادق، والبسمة الحانية، وحب الخير، والهدية الطيبة، وبذل المعروف، والكلمة الودود، والتبشير لا التنفير، والقدوة الحسنة، وحسن الخلق، وخفض الجناح، ومعرفة مفتاح الشخصية التي يتعاملون معها، فإذا تم لهم ذلك وسّعوا هذه المساحة، ونمّوها، وغذّوها، بانتظار ساعة التوهج، وهي آتية ذات يوم، في موقف ما، يعده الله تعالى برحمته وعنايته وحبه لخلقه، كما أتت صاحبنا اليساري الذي أيقظت فيه ملابس الإحرام إيمانه النائم، لقد رآها فتوهج فانتفض فاستقام.

* * *

     إن أدوات الداعية في عمله كثيرة، منها أن يبحث عن مساحة الخير في المدعو ويُعنى بها، وهذه المساحة هبة من الله ونور منه، تجدها في معظم خلق الله عامة وفي المسلمين منهم خاصة.

* * *

عرف عمر فتوهج



عرف عمر فتوهج
مستعرب إيطالي يقرأ عن عمر

     أحب اللغة العربية وآدابها، فترك موطنه في إيطاليا واتجه إلى مصر، لينهل منها ما يروي غليله، وهناك التحق بقسم اللغة العربية في كلية الآداب في جامعة القاهرة وحسناً فعل، فقد كانت في هذا القسم العريق كوكبة ممتازة من الأساتذة الأجلَّاء العظام، منهم أستاذ الأجيال الدكتور شوقي ضيف رحمه الله الذي سمعت منه هذه القصة الجميلة.

     بدأ هذا الإيطالي المستعرب يقرأ ويستمع، ونمت ثقافته، وازداد معرفة بالعربية وثقافتها، وبدأ يتصل بأهم مكونات هذه الثقافة وهو الإسلام.

     وشاء الله تعالى أن يقع في يده كتاب عن الخليفة العبقري العظيم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قرأ الكتاب فوجد شخصية نادرة من أندر شخصيات التاريخ ومن أقدرها، علم وحزم، وذكاء وأدب، وعفة وزهد، وشجاعة وبطولة، وإدارة وإرادة، وعمل دؤوب، ونظر ثاقب، ورؤية عسكرية، وتخطيط اقتصادي، ويقظة في القلب، وتوقد في العقل، وتوهج في الروح، واستشراف للمستقبل، وإحاطة ذكية بظروف المدى الواسع الذي يحكمه، والمدى الذي يجاوره، والمدى الذي يرسل إليه جيوش الفتح المظفرة... وما إلى ذلك.

     لو أن إنساناً تألق في واحد من هذه الميادين لعده التاريخ عظيماً، فكيف بعمر الذي تألق فيها جميعاً وفي سواها؟ ترى ألا يمكن أن يقول المرء: إن عمر كان مجموعة من الرجال العظام في رجل، ومجموعة من القدرات والعظمات والعبقريات والإبداعات تلاقت في شخصيته النادرة التي تربّت في مدرسة النبوة الطاهرة؟

     المهم أن صاحبنا الإيطالي حين قرأ عن عمر ما قرأ امتلكه الإعجاب وسيطر عليه وبهره، ويبدو أنه كان سوي النفس منصفاً، وأنه جمع إلى ذلك عقلاً ذكياً، ذلك أنه ذهب إلى الدكتور شوقي ضيف ليقول له: إن نبيكم إنسان صادق وأنا أجزم بذلك، فلما قال له الدكتور شوقي ضيف: إن هذا ما يؤمن به كل مسلم، ولكن كيف انتهيت أنت إلى ذلك؟ قال له الإيطالي: إن رجلاً بحجم عمر لا يمكن أن يلقي قياده لرجل كاذب.

     لقد اكتملت المعادلة الذكية المنصفة في عقل الرجل الإيطالي ووجدانه فقادته إلى هذا الاستنتاج الرائع والبديهي، والبسيط والعميق، فهتف بهذه العبارة الموفقة الوجيزة المسددة: إن نبيكم إنسان صادق، وأنا أجزم بذلك، لأن رجلاً بحجم عمر لا يمكن أن يلقي قياده لرجل كاذب.

     هذه القصة سمعتها من أستاذي وأستاذ الأجيال، الدكتور شوقي ضيف، وليتني سألته عن اسم هذا الإيطالي لأعرف بقية خبره.

     إن مما يستفاد من هذه القصة، أن نقدم عظماءنا للآخرين بأسلوب يجمع بين الدقة والأمانة والتشويق، فذلك مما يقودهم إلى الإعجاب بهؤلاء العظماء، وبالتالي إلى الدين الذي ينتمون إليه، وربما قادهم هذا الإعجاب إلى الإسلام.

     وعلى ذكر عمر، العبقري، الملهم، الموهوب، أنصح الآباء والأمهات والأساتذة وجميع المشغولين بالقضية التربوية أن يضعوا أمام أبنائهم كتاب "ملحمة عمر" للأديب القدير المرحوم علي أحمد باكثير، فهو عمل أدبي شيق جداً يقدم لقارئه مجموعة من حقائق التاريخ، ويضع أمامه قدوة نادرة، ويثير في نفسه أشرف المشاعر، ويزوده بزاد من المتع العقلية والثقافية والإيمانية والأدبية والنفسية، قل أن يجد لها المثيل.

* * *

أربعون صلاة

أربعون صلاة

     أن يظل المسلم مشتاقاً إلى المدينة المنورة هو الفطرة السوية لدى كل مسلم مست قلبه جمرة الإيمان، وسكنت قلبه طيوف حسان من هذه المدينة الطاهرة، الملأى بالبهجة والأنس، العامرة بالذكريات الوضاء، الفاتحة ذراعيها دائماً لاستقبال زائرها بكل الحب والجود والصدق.

     هذه المدينة السخية السنية الودود هي مقر أول دولة قامت للإسلام في العالم وما الدول الأخرى التي تلتها إلا امتداد لها.

     فيها المسجد النبوي الشريف، مثابة النور والهدى، وواحة العلم والمعرفة، ومنطلق الفتوح المظفرة التي خرجت منها لتنشر أنوار الإسلام في العالمين.

     وفيها القبر الشريف الطاهر، على صاحبه أفضل الصلاة والسلام، أكرم بشر كان ويكون، والنبي الخاتم الأمين، الذي كان آخر من تنزلت عليه كلمة السماء فبلغها أحسن بلاغ وأداها أحسن أداء. وبالقرب منه قبرا الصاحبين العظيمين الصديق والفاروق اللذين قدما أروع نموذج ممكن للكمال الإنساني، وسيبقيان المنارة الهادية لأجيال المسلمين حتى يوم الدين.

     وهناك البقيع حيث يرقد آل بيت النبوة والصحابة الكرام وعدد لا يحصيه إلا الله من الصالحين والزاهدين والعلماء والمجاهدين دفنوا في ثراه الطاهر، وهناك جبل أحد بكل ما يثيره في الذهن من معاني الفداء والبطولة التي شهدها خلال المعركة التي عرفت باسمه، وهناك موقعة الأحزاب أو الخندق التي كانت إيذاناً بانتهاء عهد تغزو فيه قوى الكفر دولة الإسلام الوليدة، وابتداء عهد آخر تقوم فيه هذه الدولة الوليدة المباركة بغزو الكفر وتطهير الجزيرة العربية من رجسه، وتضع القواعد المباركة لحضارة الإسلام الهادية البانية التي عطرت معاقلها ومناراتها وعواصمها وحواضرها ومساجدها في دمشق وبغداد والقاهرة وقرطبة ودلهي وإستامبول الدنيا كلها، وهناك مسجد قباء أول مسجد أسس في الإسلام يربض في مدخل المدينة المنورة من جهتها الجنوبية وسط غابة خضراء من النخيل تضفي على جلاله وجماله جلالاً وجمالاً.

     ظلت هذه الطيوف والخواطر والدواعي تسكن أعماقي كما تسكن أعماق كل المسلمين، وظللت لا أستجيب لها لكسل أو تسويف أو شواغل، حتى إذا كان موسم الحج عام "1418هـ - 1998م" استيقظت فأججت فيّ نار الشوق إلى طيبة الطيبة، خاصة أني تذكرت الهبة السخية التي تنتظر من استطاع أن يصلي في المسجد النبوي الشريف أربعين صلاة لا تفوته صلاة وهي براءة من النار وبراءة من      النفاق ونجاة من العذاب[1].

     وصلت إلى المدينة المنورة وقد غادرها الحجاج إلى مكة المكرمة فكانت فرصة ثمينة أن أستمتع بحرمها الشريف دون أن أزاحم أحداً أو يزاحمني أحد، وهو ما أعانني على العبادة والتلاوة والدعاء والخلوة والمكث في الروضة الشريفة طويلاً وزيارة القبر الشريف في هدوء ووقار يليقان بساكنه عليه أفضل الصلاة والسلام، ووقع في قلبي خاطر كريم هو الدعاء أن يتقبل الله تعالى من الحجاج حجهم وأن يهب لي ثواب حج مثلهم إذ كنت في شوق إلى الحج، لكنني استمعت إلى النصيحة الطيبة المنصفة التي تدعو من حج من قبل أن يترك الفرصة لسواه ممن لم يحج فيوسع على نفسه ويوسع على سواه وأن يتصدق بنفقة حجه فيما لو حج، فإن فعل فله أجر التوسعة على المسلمين وله أجر ما تصدق به، ثم إن كرم الله تعالى لا حد له فعسى أن يفوز بثواب حجة مبرورة.

     يسّر الله تعالى لي غرفة طيبة في فندق قريب من الحرم الشريف فسررت بها كثيراً ووضعت فيها متاعي القليل وأخذت أرتب نفسي بحيث أفوز بالصلوات الأربعين دون انقطاع. رتبت أمور الطعام والشراب بحيث أحافظ على وضوئي فأذهب إلى الحرم الشريف وأنا هادئ مطمئن، فقللت مما أطعم وقللت مما أشرب وجعلت لذلك مواعيد منضبطة، ورتبت مواعيد النوم واليقظة بالاعتماد على إدارة الفندق في تنبيهي قبل الأذان بوقت كاف وبالاعتماد على منبه كنت أضعه بجواري، وحرصت على ألا أبتعد عن الحرم لزيارة المشاهد أو قباء أو الأصدقاء إلا في الضحى أو بعد صلاة العشاء حيث في الوقت سعة، ثم إني توجهت إلى الله تعالى بقلب منكسر أن يعينني على الظفر بالصلوات الأربعين بعد أن أخذت بالأسباب.

     وبدأت في الصلوات، وشيئاً فشيئاً كان العدد يزداد، وكان يقترن مع هذه الزيادة شعوران متلازمان: شعور بالفرحة وشعور بالقلق.

     أما الفرحة فللزيادة المطردة وأما القلق فمرده إلى الخوف من إضاعة إحدى الصلوات وهو ما يعني انقطاع التسلسل وضرورة البدء بالعد من جديد. ولا أزال أذكر كيف كنت أستيقظ في الليل أحياناً عدة مرات متوهماً أن الوقت أزف وأن إدارة الفندق نسيت أن توقظني وأن المنبه قد خذلني. ولكن عون الله تعالى ظل يمدني بالقوة حتى ظفرت بالصلوات الأربعين، ولعله من الطربف أن أذكر أنني خلال أدائي للصلاة الأخيرة، وكانت صلاة عصر ظل فيّ شعورا الفرحة والقلق معاً حتى إذا سلم الإمام وسلمت معه ذهب القلق واتسعت الفرحة فوجدتني أسجد لله تعالى سجدة شكر بكل كياني على وافر فضله وكريم هباته، ولقد كان لهذه السجدة من السرور والرضوان واليقين والسكينة ما جعلها حالة متفردة لا تكاد تنسى.

     حين عزمت على مغادرة المدينة المنورة في اليوم التالي للفوز بالصلوات الأربعين ذهبت إلى الحرم الشريف مودعاً، فصليت فيه ركعتين تحية له، ثم ذهبت إلى القبر الشريف فزرته وزرت قبر الصاحبين، ثم انتحيت مكاناً هادئاً في الحرم فدعوت الله تعالى أن يتقبل مني ما فعلت وأن ييسر لي العود ثم العود بكرمه وفضله ووقع في قلبي أنني قد ظفرت بالقبول.

     خرجت من الحرم الشريف سعيداً نشيطاً، فلفحت وجهي نسمات حارة ما لبث أن أعقبها تيار من الهواء يسوق الغيم بأمر ربه، وإذا بهذا الغيم يرسل مطراً خفيفاً يلطف الجو ويغسل الطريق ويبلل الملابس وينعش النفس. ولقد زاد هذا المطر من سعادتي حيث وجدت فيه أمارة على الظفر بالقبول فالمطر رحمة والزمان شريف والمكان شريف والحال طيبة، عندها وجدت قلبي يهتف وهو عامر باليقين: إنها بشرى القبول، إنها بشرى القبول.

     لقد خرجت من هذه الصلوات الأربعين بفوائد كثيرة. تعلمت منها أن كثيراً مما يشغلنا إنما هو صوارف سلبية أو ضارة وأن بوسعنا أن نعيش بالأقل عيشة أفضل.

     وتعلمت منها فرحة السيطرة على الذات، فنحن في هذه الحياة أسرى الحقائق وأسرى الأوهام، وربما أسرتنا الأوهام أكثر من الحقائق، والنفس المتشهية الجموح تقود صاحبها، فطوبى لمن ملك زمام نفسه وقادها.

     وتعلمت منها فائدة الخلوة النافعة، التي ينقطع فيها الإنسان لذاته فيحاورها وجهاً لوجه ويحاسبها ويأمرها وينهاها، وينفي عنها صدأ الكسل وإلف العادة، ويجدد فيها التوبة، ويوقد فيها العزيمة، ويعيد ترتيب الأولويات إضافة وحذفاً وتعديلاً، في الأفكار والاهتمامات والأشياء والناس.

     وتعلمت منها أن للمتع المعنوية لذة أبقى، فالطعام اللذيذ ينسى، والشراب اللذيذ يفنى، والسياحة الجميلة تذوي، والثوب الأنيق يبلى، والمركب الفاره يشيخ، والبيت الرائع يتآكل، لكن مثل هذه المتعة الغالية تبقى، يحن إليها الإنسان، ويتمنى لو عاد إليها وإلى أمثالها مرة بعد مرة.

     وبعد: فعليك السلام أيتها المنوَّرة المنوِّرة، وأعادني الله عز وجل إليك في أربعينات أخرى، وهيأ لي مثل ذلك في الحرم المكي الشريف وفي المسجد الأقصى بعد تحريره الذي لابد أن يأتي بإذن الله، وتقبل مني نيتي وعملي، وصحح مني سري وعلني، وأكرمني بحسن الخاتمة.

--------------------
[1] قال صلى الله عليه وسلم: (من صلى في مسجدي هذا أربعين صلاة لا تفوته صلاة، كتبت له براءة من النار ونجاة من العذاب وبرئ من النفاق) رواه الإمام أحمد في مسنده.

ليلة لا تنسى

ليلة لا تنسى

     نصحني إخواني كثيراً أن أزور منطقة جبلية في ماليزيا اسمها "كاميرون هاي لاند" وتحدثوا عن جمالها وهدوئها بما شاقني ففعلت.

     ذهبت إلى قلب العاصمة كوالا لامبور، ومعي حقيبة صغيرة، وهناك ومن مجمع للسيارات وجدت نفسي في حافلة سياحية تأخذني مع الآخرين إلى المكان المقصود، يوم الأربعاء 11/ 10/ 1422هـ - 26/ 12/ 2001م.

     كنت وحدي، وهو ما أتاح لي فرصة محببة للخلوة بنفسي والتمتع بالمناظر الرائعة على جانبي الطريق الذي يتلوى مثل الأفعى. والمنظر أكثر من جميل، خضرة متصلة ومطر يتوقف ليبدأ وشمس تختفي لتطل واعتدال في المناخ يزداد برودة كلما اقتربنا من الغاية.

     يتحدث بعض الناس عن نجاح هذه الدولة أو تلك في تشجير مدنها بحيث تبدو بشوارعها وميادينها وقد تخللتها الأشجار الجميلة التي زرعت فيها ذاتَ جمال أخاذ لكثرة ما زرع من الشجر، الأمر في ماليزيا يختلف تماماً لأن ماليزيا كلها قطعة خضراء زرعت فيها بيوت وقرى وشوارع ومعامل، فالخضرة هي الأساس لأن المطر جزء من حياة الناس اليومية.

     لذلك ترى الخضرة اليانعة حيث نظرت، ولو أن جداراً لأحد الدور لم ينظفه أهله لكسته الخضرة بما ينبت عليه، ومن أطرف ما رأيت أن بعض الأشجار تنبت عليها متسلقات وشجيرات من غير نوعها، ذلك أن الماء والطيور والريح تتكفل بنقل البذور التي تجد من اللحاء الريان مكاناً لها.

     شعرت كأنني في معبد، وأن هذا الجمال كله يسبح لمبدعه، وسررت بالمنظر الذي لا يمل، وبالأدعية التي أفرح بتردادها خاصة حين أكون وحيداً، وشعرت بتواصل عميق مع هذه الطبيعة الخضراء الحسناء والشمس البازغة المحتجبة والريح البليلة والمطر الغزير أو الخفيف، والطيور التي تقفز هنا وهناك سعيدة جذلى، ألوانها أجمل من أصواتها، وأصواتها غناء بديع.

     لا أدري كيف قفز ذهني إلى الصحراء فهي أيضاً معبد تظهر فيه عظمة الله، وما بين الصحراء والخضراء تضاد وتكامل، ولكل منهما جماله. الخضراء تشعرك بالأنس والقرب والصحراء تشعرك بالهيبة والوحشة. والخضراء تنبت الليونة والصحراء تنبت الرجولة، والخضراء تحيطك بالجمال الذي يناديك ويبعث على الاسترخاء والصحراء تحيطك بالجلال الذي يتحداك ويستفز قواك الكامنة. وأياً كان فكل منهما معبد تظهر فيه عظمة الله وقدرته، وحين تكون وحيداً تستطيع التواصل معهما واستفراغ الوسع في التأمل والاستمتاع.

     بعد ساعات وصلت الحافلة إلى هدفها، فتركتنا في قرية صغيرة أنيقة نظيفة، فيها شارع رئيس فيه سوقها وفنادقها ومطاعمها، ثم بيوت وفنادق أخرى في هذا الطرف أو ذاك. لذلك استوعبت في دقائق قليلة القرية الجميلة الوادعة كلها.

     كان الوقت قبيل المغرب بقليل، وجعلت همي الأول أن أصلي المغرب والعشاء معاً، فأخذت أمشي تحت مطر يبللني وأنا به فرح سعيد وليست لي وجهة محددة. بعد قليل أخذت أسمع صوتاً لم أعرفه تماماً ولم أنكره تماماً، لكنه أخذ يشدني فاتجهت إليه، وكم كانت فرحتي كبيرة حين اتضح الصوت لي فإذا به قارئ يتلو آيات من كتاب الله, وأخذ الصوت يزداد اتضاحاً كلما اقتربت منه، ثم توقفت التلاوة ليعلو أذان المغرب، نظرت جيداً فإذا بي أرى مسجداً على رابية جميلة في القرية الوادعة ويممت وجهي نحوه حتى دخلته وقد غمرتني الفرحة وبللني المطر.

     صليت المغرب مع الجماعة، وقرأ الإمام بفصاحة وجمال ﴿ألم نشرح لك صدرك﴾ في الركعة الأولى، و﴿ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل﴾ في الركعة الثانية، ولما انتهت الصلاة صليت العشاء وحدي ثم جلست أدعو وأنظر في اللوحات المنتشرة في المسجد وكانت إحداهن تحدد مواعيد الصلاة.

     وحاولت أن أخلو بنفسي أقرأ بعض الآيات الكريمة في هذا المسجد الذي قد لا أراه ثانية، لكنني لم أستطع فقد لاحظ الناس في المسجد أني غريب على قريتهم، فنظروا إليَّ، وجاء أحدهم يسلم علي، ثم تتابع الآخرون، وهم بين فرحة واستغراب ونظر في هذا العربي المسلم الذي شاركهم الصلاة. كانت الوجوه تنطق بالود والترحيب حتى خشيت أن يتبركوا بي، وكانت الأخوة الإسلامية تزيل الحواجز، زال أولها مع التلاوة التي نقلها مكبر الصوت، وزال ثانيها مع الأذان الذي يلخص حقائق الإسلام الكبرى ويعلن الهوية والشعار، وزال ثالثها مع الصلاة المكتوبة في المسجد الهادئ الجميل، وزال رابعها مع التحية والسلام. وكان مسك الختام أن جاء إمام المسجد يعانقني ويحدثني بالعربية. قال لي: إن اسمه "عبد الله" وإنه درس علوم الدين والعربية في إحدى المدارس الشرعية، وسألني عن مجيئي وكرر الترحاب ثم دلني على فندق جميل واجهته تطل على جدول صغير، وظهره على جبل بديع، أما الخضرة والجمال والمطر والأشجار المصفوفة وأحواض الزهور البديعة والحديقة المكشوفة ونافورة الماء فإنها سيمفونية رائعة. وزاد الشيخ عبد الله من فرحي حيت أخبرني أن صاحب الفندق مسلم ودلني على مطاعم المسلمين في القرية. ولا أزال أذكر موظفة الاستقبال في الفندق وهي مسلمة ترتدي اللباس الشرعي وهي تريد أن تشعرني بنسب الإسلام والعربية فتقول لي بعربية تكسوها العجمة: "مَنْ اسمك" ثم تضحك.

     أويت إلى الغرفة وكانت واسعة جميلة نظيفة، لكني وجدتها كأنها سجن يحول بيني وبين حديقة الفندق المكشوفة الملأى بالحسن المتراكب الأخاذ، فخرجت إليها وأنا أتلو وأدع المطر يبلل جسمي وملابسي وأجمع شيئاً منه فأشربه، وأمسح الورود والأغصان، وأحاول أن أرشف أقصى ما أستطيعه من معزوفة الجمال وأن أندمج فيه بأقصى ما أستطيع، ذلك أني كنت أشعر أنني في جنة دنيوية، وأنني في معبد ينطق بعظمة الله وقدرته. كانت فرحتي تمتد، وكان الهواء النقي يصافح وجهي، فتلتقي فرحة الجسد بفرحة الروح التي تنقلها التلاوة والدعاء إلى أمداء واسعة بهيجة. ولولا أن النعاس غلبني لحاولت أن أبقى في حديقة الفندق حتى الصباح، لأعتصر هذه الليلة الشائقة النادرة حتى الثمالة، لكن للنوم سلطاناً لابد من الخضوع له.

     جاء الصباح وأشرقت الشمس تظهر وتغيب، وأقبل المطر يهمي ويتوقف وهبت الريح البليلة فيها شذا الروابي والزهور، ثم جاءني إمام القرية الشيخ عبد الله فطاف بي في جولة بديعة في قريته وفي القرى المجاورة. هنا جدول وهنا جبل، وهذه غابة وتلك مزرعة، وثمة بيت مختبئ في رابية منعزلة، ومزارع الشاي تمتد يانعة خضراء في دقة وإحكام، ومررنا على مصنع للشاي عرضوا لنا فيه المراحل التي يمر بها الشاي منذ أن يزرع إلى أن يشرب، ورأينا مساجد متفرقة، ووقفنا على ساحة فيها من الخضار والفواكه وغيرهما ما نعرفه وما لا نعرفه، وإن أنس لا أنس مروج الشاي الخضراء اليانعة يسقط عليها المطر ثم تشرق الشمس فتبدو قطرات الماء على أوراق الشاي وكأنها ملايين المرايا ترد إلى الشمس والغيم التحية بمثلها أو بأحسن منها.

     شكرَ الله لمن نصحني بهذه الرحلة التي دامت يوماً واحداً لا ينسى، وشكر الله للإمام الذي اصطحبني وأكرمني وكان الأخ والدليل والمترجم، وعسى أن أظفر برحلة أخرى إلى هذا المكان البديع، على أن أكون وحدي أو مع صحبة تعشق ما أعشقه من السياحة التي تجمع إلى متع الجسد متع الروح، والتي تحرص على التأمل فيما نراه من أشياء، وفيما يكمن وراء هذه الأشياء.

* * *

الأكثر مشاهدة