السبت، 25 ديسمبر 2021

لون من المحاسبة

لون من المحاسبة

     قرأت لأحد المربين الحكماء نصيحة ثمينة، تدعو المسلم أن يخصص بضع دقائق كل يوم قبل نومه، يستعرض فيها ما مر به في يومه المنصرم، فما وجد من خير حمد الله عليه ونوى أن يستزيد منه، وما وجد من شر استغفر الله منه وعزم على هجره، ثم ينام على أحسن العزائم.

     سررت كثيراً بهذه النصيحة الذكية والعملية وحرصت كثيراً على التقيد بها، وأدركت من هذا الحرص مقداراً متفاوتاً من النجاح، أرجو أن يزيد ويصبح جزءاً ثابتاً فيّ حتى ألقى الله تعالى.

     جعلت من دأبي حين آوي إلى فراشي في الليل، أن أخلو بنفسي دقائق مباركة، أستعرض فيها ما مر بي في يومي، فأحاسبها حساباً دقيقاً، وقد أقسو عليها، ألومها لأن صوتي ارتفع حيث لا ينبغي له ذلك، وألومها لأنني اغتبت أحداً من الناس فأستغفر الله تعالى له ولي، وألومها لأنني في المجلس الذي سهرت فيه تحدثت بأكثر مما ينبغي، فوقعت في شهوة الكلام، وألومها لأن شوائب ذميمة من حب الظهور والرغبة في التعالم كدرت علي نيتي، وألومها لأني تقاعست عن خدمة صديق كريم وأنا قادر على خدمته، وألومها لأنني اشتريت أشياء لا أحتاجها مسوقاً برغبة الامتلاك والتكديس، وألومها لأنني بخلت حيث يدعوني الكرم، وألومها لأنني أسرفت حيث تمنعني الحكمة.

     إلى جانب ذلك كنت أهنئ نفسي على أي خير مر بي في يومي المنصرم، من مروءة تبذل، أو حاجة تقضى، أو نصيحة تسدى، أو نجاح يقع، أو فائدة تجبى، أو صلاة في مسجد، أو زيارة لجار، أو صلة لرحم.

     وكنت أختم ذلك - كما أوصى المربي الحكيم - بحمد الله تعالى على الخير مع العزم على مواصلته والاستمرار فيه ومحاولة الاستزادة منه، والعزم على ترك الشر والاستغفار عنه، وكنت أسأل الله تعالى دائماً أن يرزقني الإخلاص والصواب معاً لأن أحدهما لا يغني عن الآخر.

     ولقد وجدت في هذا اللون من المحاسبة فوائد جمة كانت تزداد مع استمراري فيه، وتقل مع نسياني له وإهمالي إياه.

     تعلمت أن أشتغل بعيوبي عن عيوب الناس، وتعلمت أنَّ التربية عملية مستمرة تظل حاجتنا إليها ماسة مهما امتد بنا العمر وازداد حظنا من الصلاح ذلك لأننا بشر لابد أن نخطئ. وتعلمت أن أعترف بالخطأ وأن أعتذر، وتعلمت أن أبدل وجهة نظري حيث تدعوني دواعٍ كريمة إلى ذلك وقلت لأحد رفاقي الذي لامني على ذلك: الذين لا يغيرون آراءهم إن وجدت الدواعي الكريمة لذلك صنفان هما الأنبياء والأغبياء، الأنبياء لأنهم لا يخطئون والأغبياء لأنهم يتوهمون أنهم لا يخطئون.

     واستفدت من هذه المحاسبة راحة في الضمير تتمشّى في كل كياني، حين أشعر أنني أنام وليس لمسلم علي حق وحقوق العباد مبنية على المشاحّة وحقوق الله مبنية على المسامحة، وحفظت من مأثور الدعاء: اللهم لا تجعل علي تباعة لأحد.

     استفدت أنني أنام وأنا سليم الصدر نقي السريرة أدعو لنفسي وللمسلمين أجمعين الأموات منهم والأحياء، فلا أبيّت أذى لأحد، ولا أنطوي على غش لمخلوق، وربما دعوت حتى لمن أساء إلي.

     شعرت مع الزمن أن هذه المحاسبة عون كبير للمسلم تأخذ بيده للتخلص من معاصي القلوب من حقد وحسد وكبر وغرور وشح ويأس وخوف وعجز وما إلى ذلك، ومعاصي القلوب أخطر من معاصي الجوارح والتخلص منها أعسر، ذلك أن المسلم حين يدمن هذه المحاسبة ترتقي مداركه وتتسع آفاقه وتصفو نيته وتعلو عزيمته وتزكو سريرته، ويصبح أقرب إلى أخلاق الكرام والنبلاء والصالحين.

     ووجدت في هذه المحاسبة عوناً حميداَ لي على دنياي أيضاً، إذ إنني بها أنام سعيداً وأقوم نشيطاً وأستقبل مسؤوليات يومي الجديد بأمل حي وإرادة فاعلة.

     ووجدت فيها أيضاً عوناً لي على التجدد حين أخفق في قضية، أو أخسر في صفقة، أو أبتلى بأذى من رئيس أو زميل أو جار أو قريب. والمرء الذي يفقد القدرة على التجدد ويبقى أسير أخطائه أو أخطاء الآخرين هو ميت وإن عده الناس من الأحياء.

     كما وجدت في هذه المحاسبة عوناً لي على التخلص بالتدريج من الشعور بالحزن والمرارة والإحباط، وفي ذلك خير كثير، لأن في تراكم هذا الشعور واستفحاله آثاراً مدمرة.

     إن الحديث عن فوائد هذا اللون البديع من المحاسبة كثير، وما قلته من هذه الفوائد يومئ لما لم أقله، وللقارئ الكريم أن يجيل بصيرته فيه ليجد الكثير.

     كانت مدة المحاسبة تستغرق مني سبع دقائق تزيد قليلاً، أو تنقص قليلاً، تعقبها أو تسبقها أدعية النوم المأثورة.

     في الليالي التي أحاسب نفسي فيها حساباً شاملاً، وأقرأ الأدعية المأثورة كاملة، كنت أشعر بسعادة لا حد لها، وكنت أشعر أنني خرجت من حمام "ساونا" نفسي نقِّاني أحسن النقاء وطهرني أحسن التطهير، وربط على قلبي، وجعلني في معية الله عز وجل.

     وحين كنت أنظر إلى ما مضى من العمر، وأشعر أني قد لا أقوم من نومي، تهون علي الدنيا هواناً كبيراً ويزداد تعلقي بالباقي القادم على حساب الفاني المنصرم.

     اعتاد الناس على محاسبة بعضهم: الزوجان يتحاسبان، والأب يحاسب الابن، والرئيس يحاسب المرؤوس، والشريك يحاسب شريكه... وقل مثل هذا ما شئت، وليس هذا الأمر عيباً، بل هو أمر محمود ومطلوب بآدابه وضوابطه، لأنه وسيلة لرقي الحياة تجعلنا نعرف الخطأ لنتجاوزه والصواب لنحتفظ به ونستزيد منه. ليت الناس يحرصون على هذا اللون البديع والراقي والشائق من المحاسبة، عندها سوف يتقدمون في دينهم ودنياهم ويكون حظهم من هذا التقدم مساوياً لحظهم من هذه المحاسبة.

     ورحم الله المربي الحكيم الذي تعلمت منه هذه النصيحة الثمينة، ورحم الله الخليفة العظيم عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي أوصانا فقال: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، والذي دعا الناس إلى
تعريفه بأخطائه وعدّ ذلك هدية منهم إليه فقال: رحم الله امرأ أهدى إلي عيوبي.

* * *

ساعتي الأثيرة

ساعتي الأثيرة

     قبل قرابة ثلاثين عاماً اشتريت ساعة رقمية، وكان هذا النوع من الساعات جديداً يومذاك، يتسامع الناس به ويحرصون عليه ويزينون معاصمهم به. ومع أني لا أبادر سريعاً إلى اقتناء الجديد الذي يتسابق الناس إليه ويقلدون بعضهم في امتلاكه إلا أنني قلدتهم يومذاك.

     ومع الزمن نشأت بيني وبين هذه الساعة ألفة ومودة حتى إنني استعملتها أكثر من عشرين عاماً بدون انقطاع، ومن العجيب أنني لم أحتج إلى تغيير بطاريتها قط، فقد ظلت تعمل بإخلاص وكفاءة كل هذه المدة الطويلة ببطاريتها الأولى.

     وأخذ الناس يتحولون عن هذا النوع من الساعات لكنني لم أتحول عن ساعتي الأثيرة، وأخذ أصدقائي وأبنائي يلحون علي في تغييرها فلم أستجب، وبدأ بعضهم يلومني على الاحتفاظ بها لخدوش أصابتها هنا وهناك فلم أستجب، ثم إن ثمنها صار رخيصاً جداً فقد وصل إلى حوالي خمسين ريالاً وهو ما حدا بمن حولي إلى مطالبتي بتغييرها بدعوى أنها لا تليق بي لرخصها وهوانها على الناس فلم أستجب أيضاً. وحدث أن انقطع حزامها وهو ما جعل المطالبين بالتغيير يجزمون أني سوف أفعل ولكنني لم أفعل واكتفيت بأن اشتريت حزاماً جديداً لها بعشرة ريالات.

     ومرة ألح علي واحد من خلّص رفاقي بأن أشتري ساعة جديدة أجمل وأغلى فأطعته لكنني تركت الساعة الجديدة في البيت وعدت إلى ساعتي الأثيرة.

     ومرة أخرى أهدتني ابنتي الأثيرة ساعة جديدة جميلة وثمينة فلم أستعملها وظللت على عهد الوفاء مع ساعتي الأثيرة.

     قال لي أحد أبنائي: إنها لا تليق بك، فقلت له: بل تليق، إنها تؤدي مهمتها بكفاءة وقيمة الإنسان فيما يفعل لا فيما يحمل.

     وقال لي آخر: إن كثيراً من الفقراء يلبسون ما هو أثمن من ساعتك، قلت: لهم أن يفعلوا ولي أن أفعل.

     وفي كل مرة كان يطول الجدل كنت أقول لهم: إن الساعة وسيلة لضبط الوقت وليست غاية في حد ذاتها، وساعتي الأثيرة تؤدي مهمتها بدقة تامة فلم التغيير؟

     وأخيراً تكاثرت الضغوط علي فوافقت مكرهاً على التخلص من ساعتي الأثيرة وليتني لم أوافق، ذلك أني أردت أن تصاحبني كل عمري. عندها سألت أبنائي ما الذي سوف نفعله بها، فقالوا: نعطيها لفقير، قلت لهم: وهل تجدون فقيراً يرضى بها؟ أتحبون الشجاعة؟ قالوا: نعم، قلت: شراء ساعة جديدة وثمينة وأنيقة و التزين بها لا يحتاج إلى شجاعة، إنما الشجاعة الحقيقية في احتفاظي بساعتي القديمة الأثيرة الوفية والتزين بها، وإن لامني من لام لأنني منسجم مع نفسي.

* * *

* كنت ولا أزال باستمرار أتذكر الحديث الشريف "إن الله كتب الإحسان في كل شيء" أتذكره مع ساعتي الأثيرة ومع سواها. لو أن كل واحد منا تعامل مع ساعته كما تعاملت لوفرنا أموالاً كثيرة، ثم لو أننا جعلنا هذا التعامل الذي يحثنا عليه الحديث الشريف قاعدة لنا في التعامل مع كل شيء في حياتنا من أثاث ولباس وأدوات وسيارات وطرق ومبان وأقلام وأوراق، وما إلى ذاك، لوفرنا أموالاً هائلة - فضلاً عن الجهد والوقت - لا أستطيع تخيل مقدارها لكنها ستكون بالمليارات.

* حين تتحول الوسائل إلى غايات نقع في الأوهام والتكاثر والتباهي، ونشتري ما لا نحتاج إليه فنقع في رذيلة التكدس، ثم نحتاج إلى أمكنة لحفظ ما كدسناه، وإلى جهد ووقت ومال لصيانته ثم نضيق به ذرعاً فنتخلص منه بعد أن يصير عبئاً ثقيلاً.

* نحن بحاجة إلى عادة الاستغناء لتكون بديلاً حميداً عن عادة الاستكثار، ومثل هذا التحول يحتاج إرادة جادة تقوم على عقل بصير ونفس غنية.

* رأيت أكثر الذين يشترون الساعات الثمينة هم أكثر الناس في إضاعة الوقت، مثلهم مثل الذين يقودون سياراتهم بسرعة بالغة تعرضهم وتعرض سواهم للخطر فإذا وصلوا حيث يريدون عكفوا على توافه الأمور.

* يقول الصحابي العظيم الداهية عمرو بن العاص رضي الله عنه: لا أطلق زوجتي ما أطاقت عشرتي، ولا أغير صديقي ما أحسن صحبتي، ولا أبدل دابتي ما حملتني، فإن الملل من كواذب الأخلاق. ترى لو نجونا من الملل وكواذب الأخلاق الأخرى في التعامل مع الأشياء من ساعات وسواها كم سوف نحسن إلى أنفسنا في ديننا ودنيانا على السواء؟

     إنّ حسن التعامل مع الأشياء نوع من الشكر، والشكر يحفظ النعمة ويستدعي المزيد، وصدق الله العظيم ﴿لئن شكرتم لأزيدنكم﴾.

* * *

الجمعة، 24 ديسمبر 2021

إنَّ لله جنوداً من عسل

إنَّ لله جنوداً من عسل

     حقق المسلمون في معركة القادسية نصراً كبيراً على الدولة الفارسية، لكن عدداً من قادة الجيش الفارسي تمكنوا من الفرار، وأخذوا يحشدون الناس لحرب المسلمين، ويثيرون فيهم الحمية، ويؤلبون ويستعدون ويدبرون، باذلين كل ما بوسعهم للإعداد للمعركة القادمة، وهي المعركة التي عرفت باسم "نهاوند" وكان قائد الفرس فيها هو "الفيرزان" وكان قائد المسلمين فيها هو "النعمان بن مقرن المزني".

     والتقى الجيشان وبذل كل منهما غاية وسعه، وأكرم الله تعالى المسلمين بنصر مؤزّر بعد جهود كبيرة ودماء كثيرة.

     وحين انتهت المعركة تنبه القائد المسلم "حذيفة بن اليمان" الذي خلف "النعمان بن مقرن المزني" الذي فاز بالشهادة، إلى أهمية السؤال عن مصير "الفيرزان" فلما تبيّن له أنه ليس في القتلى وأنه استطاع الفرار عزم على ملاحقته والظفر به، لأنه إذا نجا فسوف يحاول حشد الناس لمقاتلة المسلمين مجدداً، وتلك حصافة منه، ونظر حكيم بعيد، وتفكير إستراتيجي سديد. وتولت أمر مطاردة "الفيرزان" كوكبة من فرسان المسلمين يقودهم "القعقاع بن عمرو التميمي".

     كان الفيرزان ذكياً واسع الحيلة، فأسرع في الفرار، لكنه واجه مشكلة لا قبل له بها، لقد كان يعدو في أرض زراعية ضيقة السكك، وكانت هذه الأرض غنية بالعسل الذي عمد أصحابه إلى حمله على دوابهم حين فروا مع الفارين، وعندها صارت الدواب عبئاً على السكك، تعوق بكثرتها وبطئها خطة "الفيرزان" في الهرب، وهو ما جعل المسلمين يظفرون به ويقتلونه، فقال أحدهم يومها قولة جميلة ذهبت مثلاً: "إن لله جنوداً من عسل".

     إنَّ الله تعالى سيد الكون وصاحبه، وكل ما فيه طوع أمره، وقدرته لا حد لها، يسخّر ما يشاء كما يشاء، لقد قال جل شأنه في الآية 31 من سورة المدثر: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُو} وصدق فيما قال، وحسب المرء أن يتأمل في جند الله من ملائكة وشياطين، وإنس وجن، وليل ونهار، وصحة ومرض، ومطر وجدب، ورياح وأعاصير، وفقر وغنى، وبصل وعسل... وما إلى ذلك مما يطيق متابعته ومما لا يطيق، ليقف مأخوذاً مبهوراً وهو يتدبر الآفاق الواسعة لجزء من آية كريمة من الكتاب العزيز، الذي يظل غضاً طرياً لا تنقضي عجائبه ولا يخلق على كثرة الرد، والذي يجد فيه كل جيل جديداً من الأمر لم تجده الأجيال السابقة.

     ما أجمل أن يمضي المسلم وهو يضرب في شعاب الحياة، ناجحاً أو مخفقاً، فقيراً أو غنياً، غالباً أو مغلوباً، مريضاً أو صحيحاً، مستصحباً باستمرار عظمة الله وقدرته، مخلصاً له القول والعمل، حريصاً على الاستمساك بدينه والدعوة إليه، ثابتاً على عهده معه حتى يلقاه، طالباً منه العون والسداد، واثقاً أنه سيمده بجند من جنده من حيث يعلم ومن حيث لا يعلم، راجياً منه القبول، مستقصياً - ما استطاع - هؤلاء الجند عدداً وعدة وتنوعاً وقدرة.

     إنه حين يفعل ذلك سيجد في نفسه قوة في الجسد، وطلاقة في الروح، وفرحة في القلب، وبسمة في الوجه، ورسوخاً في اليقين، ومضاء في العزيمة. ولعله يمر ببائع العسل فيبتسم ويتذكر كيف كان العسل جندياً يقاتل مع المسلمين فيقتل. فيشكر للعسل جنديته، ويراها في كل شيء آخر، ولعله يقول لنفسه: إن كل شيء في الكون جندي من جنود الله، والعسل أحلى هذه الجنود مذاقاً.

* * *

الأربعاء، 22 ديسمبر 2021

هلا كنت الطائر المبصر

هلا كنت الطائر المبصر

     ودع التاجر الصالح أسرته وودع عماله وأوصاهم خيراً، ثم مضى إلى دار شيخه ليستأذنه في السفر ويودعه ويطلب الدعاء منه، فباركه الشيخ ودعا له، فانطلق بنفس راضية، وعزيمة متوقدة، يقود قافلة له إلى بلد آخر ليبيع بضاعته هناك.

     كان التاجر رجلاً صالحاً أميناً، يتحرى الحلال، ويكثر الصدقة، ويرضى بالقليل من الربح، سمحاً محبباً إلى جميع مَنْ يتعاملون معه، ففشت له بين الناس سمعة حميدة في دينه ودنياه، وكثر المال بين يديه فازداد سماحة ورضاً وصدقة، وصار علماً حيث يكون.

     مضت القافلة تضرب في الأرض يقودها صاحبها، مستعيناً على طول الطريق بالراحة حيناً، وبالدعاء حيناً، وبمحادثة أصحابه حيناً آخر، حتى إذا أخذ النوم بمعاقد الأجفان واشتد التعب بالأبدان، اختار التاجر شِعْباً هادئاً في الطريق فيه ظل وشجر وماء فأناخوا فيه ركابهم وقضوا فيه ليلتهم.

     استيقظ القوم في الصباح فأدوا الصلاة، وأخذوا يرقبون اليوم الجديد وهو يتنفس، فشعر التاجر الصالح بمتعة روحية، وآثر الخلوة بنفسه في الشِعْب الهادئ الجميل، وطفق يتلو أوراد الصباح المأثورة وهو يمشي هادئاً متأملاً مندمجاً مع أدعيته ونفسه والمكان والزمان، فشعر بنفسه يحلق ويسمو، وشعر أن الكون كله يسبح لله خالقه ومبدعه.

     فجأة لفتت انتباهه شجيرة صغيرة حسناء، فاقترب منها يتأمل صنع الله فيها، فإذا به يرى طائراً بديعاً جداً على أحد أغصانها فأخذ يدنو منه بهدوء وحذر حتى لا يخاف الطائر فيهرب. وما لبث أن أدركه شيء من التساؤل حين رأى الطائر لا يتحرك قط، وازداد التساؤل الذي أخذ يقترن بالحيرة والدهشة مع اقترابه من الطائر، وبقاء الطائر حيث هو، حتى كاد يلمسه بيده لكنه لم يفعل.

     مضت ساعة من الزمان والتاجر يتأمل في الطائر، فاستبان له أنه أعمى، فتحول التساؤل في نفسه إلى مزيد من الحيرة والدهشة إذ أخذ يقول لنفسه: كيف يأكل هذا الطائر وكيف يشرب، ثم انتحى مكاناً قريباً وجلس فيه في صمت مطبق وقد شغله أمر الطائر عن نفسه وصحبته وقافلته.

     بعد حين لمح طائراً آخر جاء إلى الطائر الأعمى فأخذ يضع في منقاره شيئاً من الحب يجمعه من هنا وهناك، ثم يسقيه شيئاً من الماء من الغدير المجاور حتى إذا أحس أنه أدى مهمته طار بعيداً واختفى.

     فرح التاجر الصالح كثيراً، وسجد شكراً لله، وأخذ يتساءل في نفسه: إذا كان الله تعالى لم ينس الطائر الأعمى فيسر له من يطعمه ويسقيه فلم العناء والتعب والضرب في الأرض؟ وحين تحول التساؤل عنده إلى قرار صارم توجه إلى القافلة فعاد بها إلى بلده، وفي نيته أن يعتكف في بيته، وسيرزقه الله تعالى كما رزق الطائر الأعمى.

     حين وصل إلى بلده، وجد من تمام الأدب أن يمر على شيخه ليسلم عليه ويحدثه بما رأى ففعل. قال الشيخ الذي كان يجمع العقل إلى الصلاح للتاجر العائد: لم عدت سريعاً يا بني؟ قال التاجر لشيخه: لي أسوة بالطائر الأعمى. قال الشيخ العاقل الحكيم لتلميذه التاجر الصالح: يا بني هلَّا كنت الطائر المبصر، يا بني عد إلى ماكنت عليه من الجد والدأب والتعب، واجعل يدك العليا بالإعطاء لا السفلى بالاستعطاء، وأغن نفسك ومَنْ معك فإن الله يحب معالي الأمور.

* * *

رأى ملابس الإحرام فتوهج

رأى ملابس الإحرام فتوهج

قصة واقعية

     حطّت الطائرة في جدة تحمل وفداً عربياً جاء يلتقي نظيره في إطار العلاقات المعتادة بين الدول، وتم استقبال الوفد استقبالاً حفياً، وكانت تحيات ومجاملات، ثم آل أمر الوفد إلى فندق جميل ليقيم فيه. وذات مساء جاء من يعرض على الوفد السفر إلى مكة المكرمة لأداء العمرة، وكانت الدعوة محفوفة بكل دواعي القبول والاستجابة، فالسيارات الجميلة جاهزة، والسائقون، والدليل، وملابس الإحرام، ونسخ من القرآن الكريم وكتب الأدعية المأثورة، كل ذلك جاهز أيضاً.

     فرح الضيوف فرحاً كبيراً، وشكروا من هيأ لهم هذه الفرصة العزيزة وأخذوا يستعدون، وأخذوا ينظرون إلى واحد منهم وهم بين إقدام وإحجام.

     أما الإقدام فمرده أنهم يريدون لزميلهم الخير الذي جاءهم على طبق من ود ويسر وصفاء، وأما الإحجام فمرده أنهم يعرفون زميلهم جيداً، إنه يساري عريق في يساريته، نشأ على كره الدين وأهله، وشبَّ على الفكر الثوري الإلحادي، وظل يعيش ومثله الأعلى لينين وستالين وتيتو وكاسترو ومن إليهم، ثم إنه لم يكن يسارياً يعيش في عزلة، بل كان يسارياً يعمل لما يؤمن به ويراه رسالة يحيا من أجلها ويموت كذلك.

     طالت فترة الترقب بين الإقدام والإحجام حتى كانت المفاجأة حين حسم صاحبنا الأمر بنفسه، وكان ذلك حين أبصر أحد زملائه يرتدي ملابس الإحرام، فطلب لنفسه مثلها وعيناه تدمعان.

      أما الزملاء ففرحوا لصاحبهم وعجبوا، وأدوا جميعاً العمرة وعادوا وقد لاحظوا التغير العميق الذي أصابه.

     كان يبكي منذ ارتدى ملابس الإحرام حتى خلعها، وطفق يبتهل بحرقة ويدعو بحرارة، وفي وجهه أمارات الندم والفرح والسكينة والرجاء.

     ويوم أن عاد إلى بلده كان من الواضح أنه إنسان جديد، حسم اختياره بجرأة وعزيمة، وخلع ماضيه المظلم واستقبل حاضره المضيء وكبر في عين الناس حين رأوه يتخلى عن منصبه الرفيع ودنياه الحافلة بالجاه والمال والنفوذ، ويتفرغ لحياته الجديدة من إيمان واستقامة، وتوبة صادقة، وفرحة لا ضفاف لها بالنقلة الرائعة التي فاز بها.

     ما الذي حدث لهذا المهتدي السعيد؟

     لقد استيقظ في قلبه الإيمان النائم، وكانت ملابس الإحرام هي الشرارة التي أيقظته، تذكر الأذان الذي كان يسمعه في مسجد الحي، ووجوه المصلين التي تغشاها السكينة، وفرحة الناس برمضان حين يأتي، وأحاديث أمه وأبيه في طفولته عن الله تعالى، وعن الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام، وحكايات الصحابة والصالحين، وأصوات البلابل التي تصدح بالقرآن الكريم كالمنشاوي وعبد الباسط.

     تذكر ذلك، وتذكر أمثال ذلك فتخلّى عن يساريته الزائفة وعاد إلى إيمانه الأصيل.

* * *

     إن في هذه القصة أكثر من درس وعبرة.

     فيها أن المسلم قد يضل ويفسد بسبب الشهوات أو الشبهات، أو كليهما، لكنه يندر أن يكفر، وبذلك تظل فرصة العودة متاحة.

     وفيها أن في كل مسلم مساحة من الخير تكبر أو تصغر، لكنها لا تمّحي تماماً إلا في حالات نادرة جداً، وعلى الدعاة أن يكتشفوا هذه المساحة، بالصبر، والأمل، والود الصادق، والبسمة الحانية، وحب الخير، والهدية الطيبة، وبذل المعروف، والكلمة الودود، والتبشير لا التنفير، والقدوة الحسنة، وحسن الخلق، وخفض الجناح، ومعرفة مفتاح الشخصية التي يتعاملون معها، فإذا تم لهم ذلك وسّعوا هذه المساحة، ونمّوها، وغذّوها، بانتظار ساعة التوهج، وهي آتية ذات يوم، في موقف ما، يعده الله تعالى برحمته وعنايته وحبه لخلقه، كما أتت صاحبنا اليساري الذي أيقظت فيه ملابس الإحرام إيمانه النائم، لقد رآها فتوهج فانتفض فاستقام.

* * *

     إن أدوات الداعية في عمله كثيرة، منها أن يبحث عن مساحة الخير في المدعو ويُعنى بها، وهذه المساحة هبة من الله ونور منه، تجدها في معظم خلق الله عامة وفي المسلمين منهم خاصة.

* * *

عرف عمر فتوهج



عرف عمر فتوهج
مستعرب إيطالي يقرأ عن عمر

     أحب اللغة العربية وآدابها، فترك موطنه في إيطاليا واتجه إلى مصر، لينهل منها ما يروي غليله، وهناك التحق بقسم اللغة العربية في كلية الآداب في جامعة القاهرة وحسناً فعل، فقد كانت في هذا القسم العريق كوكبة ممتازة من الأساتذة الأجلَّاء العظام، منهم أستاذ الأجيال الدكتور شوقي ضيف رحمه الله الذي سمعت منه هذه القصة الجميلة.

     بدأ هذا الإيطالي المستعرب يقرأ ويستمع، ونمت ثقافته، وازداد معرفة بالعربية وثقافتها، وبدأ يتصل بأهم مكونات هذه الثقافة وهو الإسلام.

     وشاء الله تعالى أن يقع في يده كتاب عن الخليفة العبقري العظيم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قرأ الكتاب فوجد شخصية نادرة من أندر شخصيات التاريخ ومن أقدرها، علم وحزم، وذكاء وأدب، وعفة وزهد، وشجاعة وبطولة، وإدارة وإرادة، وعمل دؤوب، ونظر ثاقب، ورؤية عسكرية، وتخطيط اقتصادي، ويقظة في القلب، وتوقد في العقل، وتوهج في الروح، واستشراف للمستقبل، وإحاطة ذكية بظروف المدى الواسع الذي يحكمه، والمدى الذي يجاوره، والمدى الذي يرسل إليه جيوش الفتح المظفرة... وما إلى ذلك.

     لو أن إنساناً تألق في واحد من هذه الميادين لعده التاريخ عظيماً، فكيف بعمر الذي تألق فيها جميعاً وفي سواها؟ ترى ألا يمكن أن يقول المرء: إن عمر كان مجموعة من الرجال العظام في رجل، ومجموعة من القدرات والعظمات والعبقريات والإبداعات تلاقت في شخصيته النادرة التي تربّت في مدرسة النبوة الطاهرة؟

     المهم أن صاحبنا الإيطالي حين قرأ عن عمر ما قرأ امتلكه الإعجاب وسيطر عليه وبهره، ويبدو أنه كان سوي النفس منصفاً، وأنه جمع إلى ذلك عقلاً ذكياً، ذلك أنه ذهب إلى الدكتور شوقي ضيف ليقول له: إن نبيكم إنسان صادق وأنا أجزم بذلك، فلما قال له الدكتور شوقي ضيف: إن هذا ما يؤمن به كل مسلم، ولكن كيف انتهيت أنت إلى ذلك؟ قال له الإيطالي: إن رجلاً بحجم عمر لا يمكن أن يلقي قياده لرجل كاذب.

     لقد اكتملت المعادلة الذكية المنصفة في عقل الرجل الإيطالي ووجدانه فقادته إلى هذا الاستنتاج الرائع والبديهي، والبسيط والعميق، فهتف بهذه العبارة الموفقة الوجيزة المسددة: إن نبيكم إنسان صادق، وأنا أجزم بذلك، لأن رجلاً بحجم عمر لا يمكن أن يلقي قياده لرجل كاذب.

     هذه القصة سمعتها من أستاذي وأستاذ الأجيال، الدكتور شوقي ضيف، وليتني سألته عن اسم هذا الإيطالي لأعرف بقية خبره.

     إن مما يستفاد من هذه القصة، أن نقدم عظماءنا للآخرين بأسلوب يجمع بين الدقة والأمانة والتشويق، فذلك مما يقودهم إلى الإعجاب بهؤلاء العظماء، وبالتالي إلى الدين الذي ينتمون إليه، وربما قادهم هذا الإعجاب إلى الإسلام.

     وعلى ذكر عمر، العبقري، الملهم، الموهوب، أنصح الآباء والأمهات والأساتذة وجميع المشغولين بالقضية التربوية أن يضعوا أمام أبنائهم كتاب "ملحمة عمر" للأديب القدير المرحوم علي أحمد باكثير، فهو عمل أدبي شيق جداً يقدم لقارئه مجموعة من حقائق التاريخ، ويضع أمامه قدوة نادرة، ويثير في نفسه أشرف المشاعر، ويزوده بزاد من المتع العقلية والثقافية والإيمانية والأدبية والنفسية، قل أن يجد لها المثيل.

* * *

أربعون صلاة

أربعون صلاة

     أن يظل المسلم مشتاقاً إلى المدينة المنورة هو الفطرة السوية لدى كل مسلم مست قلبه جمرة الإيمان، وسكنت قلبه طيوف حسان من هذه المدينة الطاهرة، الملأى بالبهجة والأنس، العامرة بالذكريات الوضاء، الفاتحة ذراعيها دائماً لاستقبال زائرها بكل الحب والجود والصدق.

     هذه المدينة السخية السنية الودود هي مقر أول دولة قامت للإسلام في العالم وما الدول الأخرى التي تلتها إلا امتداد لها.

     فيها المسجد النبوي الشريف، مثابة النور والهدى، وواحة العلم والمعرفة، ومنطلق الفتوح المظفرة التي خرجت منها لتنشر أنوار الإسلام في العالمين.

     وفيها القبر الشريف الطاهر، على صاحبه أفضل الصلاة والسلام، أكرم بشر كان ويكون، والنبي الخاتم الأمين، الذي كان آخر من تنزلت عليه كلمة السماء فبلغها أحسن بلاغ وأداها أحسن أداء. وبالقرب منه قبرا الصاحبين العظيمين الصديق والفاروق اللذين قدما أروع نموذج ممكن للكمال الإنساني، وسيبقيان المنارة الهادية لأجيال المسلمين حتى يوم الدين.

     وهناك البقيع حيث يرقد آل بيت النبوة والصحابة الكرام وعدد لا يحصيه إلا الله من الصالحين والزاهدين والعلماء والمجاهدين دفنوا في ثراه الطاهر، وهناك جبل أحد بكل ما يثيره في الذهن من معاني الفداء والبطولة التي شهدها خلال المعركة التي عرفت باسمه، وهناك موقعة الأحزاب أو الخندق التي كانت إيذاناً بانتهاء عهد تغزو فيه قوى الكفر دولة الإسلام الوليدة، وابتداء عهد آخر تقوم فيه هذه الدولة الوليدة المباركة بغزو الكفر وتطهير الجزيرة العربية من رجسه، وتضع القواعد المباركة لحضارة الإسلام الهادية البانية التي عطرت معاقلها ومناراتها وعواصمها وحواضرها ومساجدها في دمشق وبغداد والقاهرة وقرطبة ودلهي وإستامبول الدنيا كلها، وهناك مسجد قباء أول مسجد أسس في الإسلام يربض في مدخل المدينة المنورة من جهتها الجنوبية وسط غابة خضراء من النخيل تضفي على جلاله وجماله جلالاً وجمالاً.

     ظلت هذه الطيوف والخواطر والدواعي تسكن أعماقي كما تسكن أعماق كل المسلمين، وظللت لا أستجيب لها لكسل أو تسويف أو شواغل، حتى إذا كان موسم الحج عام "1418هـ - 1998م" استيقظت فأججت فيّ نار الشوق إلى طيبة الطيبة، خاصة أني تذكرت الهبة السخية التي تنتظر من استطاع أن يصلي في المسجد النبوي الشريف أربعين صلاة لا تفوته صلاة وهي براءة من النار وبراءة من      النفاق ونجاة من العذاب[1].

     وصلت إلى المدينة المنورة وقد غادرها الحجاج إلى مكة المكرمة فكانت فرصة ثمينة أن أستمتع بحرمها الشريف دون أن أزاحم أحداً أو يزاحمني أحد، وهو ما أعانني على العبادة والتلاوة والدعاء والخلوة والمكث في الروضة الشريفة طويلاً وزيارة القبر الشريف في هدوء ووقار يليقان بساكنه عليه أفضل الصلاة والسلام، ووقع في قلبي خاطر كريم هو الدعاء أن يتقبل الله تعالى من الحجاج حجهم وأن يهب لي ثواب حج مثلهم إذ كنت في شوق إلى الحج، لكنني استمعت إلى النصيحة الطيبة المنصفة التي تدعو من حج من قبل أن يترك الفرصة لسواه ممن لم يحج فيوسع على نفسه ويوسع على سواه وأن يتصدق بنفقة حجه فيما لو حج، فإن فعل فله أجر التوسعة على المسلمين وله أجر ما تصدق به، ثم إن كرم الله تعالى لا حد له فعسى أن يفوز بثواب حجة مبرورة.

     يسّر الله تعالى لي غرفة طيبة في فندق قريب من الحرم الشريف فسررت بها كثيراً ووضعت فيها متاعي القليل وأخذت أرتب نفسي بحيث أفوز بالصلوات الأربعين دون انقطاع. رتبت أمور الطعام والشراب بحيث أحافظ على وضوئي فأذهب إلى الحرم الشريف وأنا هادئ مطمئن، فقللت مما أطعم وقللت مما أشرب وجعلت لذلك مواعيد منضبطة، ورتبت مواعيد النوم واليقظة بالاعتماد على إدارة الفندق في تنبيهي قبل الأذان بوقت كاف وبالاعتماد على منبه كنت أضعه بجواري، وحرصت على ألا أبتعد عن الحرم لزيارة المشاهد أو قباء أو الأصدقاء إلا في الضحى أو بعد صلاة العشاء حيث في الوقت سعة، ثم إني توجهت إلى الله تعالى بقلب منكسر أن يعينني على الظفر بالصلوات الأربعين بعد أن أخذت بالأسباب.

     وبدأت في الصلوات، وشيئاً فشيئاً كان العدد يزداد، وكان يقترن مع هذه الزيادة شعوران متلازمان: شعور بالفرحة وشعور بالقلق.

     أما الفرحة فللزيادة المطردة وأما القلق فمرده إلى الخوف من إضاعة إحدى الصلوات وهو ما يعني انقطاع التسلسل وضرورة البدء بالعد من جديد. ولا أزال أذكر كيف كنت أستيقظ في الليل أحياناً عدة مرات متوهماً أن الوقت أزف وأن إدارة الفندق نسيت أن توقظني وأن المنبه قد خذلني. ولكن عون الله تعالى ظل يمدني بالقوة حتى ظفرت بالصلوات الأربعين، ولعله من الطربف أن أذكر أنني خلال أدائي للصلاة الأخيرة، وكانت صلاة عصر ظل فيّ شعورا الفرحة والقلق معاً حتى إذا سلم الإمام وسلمت معه ذهب القلق واتسعت الفرحة فوجدتني أسجد لله تعالى سجدة شكر بكل كياني على وافر فضله وكريم هباته، ولقد كان لهذه السجدة من السرور والرضوان واليقين والسكينة ما جعلها حالة متفردة لا تكاد تنسى.

     حين عزمت على مغادرة المدينة المنورة في اليوم التالي للفوز بالصلوات الأربعين ذهبت إلى الحرم الشريف مودعاً، فصليت فيه ركعتين تحية له، ثم ذهبت إلى القبر الشريف فزرته وزرت قبر الصاحبين، ثم انتحيت مكاناً هادئاً في الحرم فدعوت الله تعالى أن يتقبل مني ما فعلت وأن ييسر لي العود ثم العود بكرمه وفضله ووقع في قلبي أنني قد ظفرت بالقبول.

     خرجت من الحرم الشريف سعيداً نشيطاً، فلفحت وجهي نسمات حارة ما لبث أن أعقبها تيار من الهواء يسوق الغيم بأمر ربه، وإذا بهذا الغيم يرسل مطراً خفيفاً يلطف الجو ويغسل الطريق ويبلل الملابس وينعش النفس. ولقد زاد هذا المطر من سعادتي حيث وجدت فيه أمارة على الظفر بالقبول فالمطر رحمة والزمان شريف والمكان شريف والحال طيبة، عندها وجدت قلبي يهتف وهو عامر باليقين: إنها بشرى القبول، إنها بشرى القبول.

     لقد خرجت من هذه الصلوات الأربعين بفوائد كثيرة. تعلمت منها أن كثيراً مما يشغلنا إنما هو صوارف سلبية أو ضارة وأن بوسعنا أن نعيش بالأقل عيشة أفضل.

     وتعلمت منها فرحة السيطرة على الذات، فنحن في هذه الحياة أسرى الحقائق وأسرى الأوهام، وربما أسرتنا الأوهام أكثر من الحقائق، والنفس المتشهية الجموح تقود صاحبها، فطوبى لمن ملك زمام نفسه وقادها.

     وتعلمت منها فائدة الخلوة النافعة، التي ينقطع فيها الإنسان لذاته فيحاورها وجهاً لوجه ويحاسبها ويأمرها وينهاها، وينفي عنها صدأ الكسل وإلف العادة، ويجدد فيها التوبة، ويوقد فيها العزيمة، ويعيد ترتيب الأولويات إضافة وحذفاً وتعديلاً، في الأفكار والاهتمامات والأشياء والناس.

     وتعلمت منها أن للمتع المعنوية لذة أبقى، فالطعام اللذيذ ينسى، والشراب اللذيذ يفنى، والسياحة الجميلة تذوي، والثوب الأنيق يبلى، والمركب الفاره يشيخ، والبيت الرائع يتآكل، لكن مثل هذه المتعة الغالية تبقى، يحن إليها الإنسان، ويتمنى لو عاد إليها وإلى أمثالها مرة بعد مرة.

     وبعد: فعليك السلام أيتها المنوَّرة المنوِّرة، وأعادني الله عز وجل إليك في أربعينات أخرى، وهيأ لي مثل ذلك في الحرم المكي الشريف وفي المسجد الأقصى بعد تحريره الذي لابد أن يأتي بإذن الله، وتقبل مني نيتي وعملي، وصحح مني سري وعلني، وأكرمني بحسن الخاتمة.

--------------------
[1] قال صلى الله عليه وسلم: (من صلى في مسجدي هذا أربعين صلاة لا تفوته صلاة، كتبت له براءة من النار ونجاة من العذاب وبرئ من النفاق) رواه الإمام أحمد في مسنده.

ليلة لا تنسى

ليلة لا تنسى

     نصحني إخواني كثيراً أن أزور منطقة جبلية في ماليزيا اسمها "كاميرون هاي لاند" وتحدثوا عن جمالها وهدوئها بما شاقني ففعلت.

     ذهبت إلى قلب العاصمة كوالا لامبور، ومعي حقيبة صغيرة، وهناك ومن مجمع للسيارات وجدت نفسي في حافلة سياحية تأخذني مع الآخرين إلى المكان المقصود، يوم الأربعاء 11/ 10/ 1422هـ - 26/ 12/ 2001م.

     كنت وحدي، وهو ما أتاح لي فرصة محببة للخلوة بنفسي والتمتع بالمناظر الرائعة على جانبي الطريق الذي يتلوى مثل الأفعى. والمنظر أكثر من جميل، خضرة متصلة ومطر يتوقف ليبدأ وشمس تختفي لتطل واعتدال في المناخ يزداد برودة كلما اقتربنا من الغاية.

     يتحدث بعض الناس عن نجاح هذه الدولة أو تلك في تشجير مدنها بحيث تبدو بشوارعها وميادينها وقد تخللتها الأشجار الجميلة التي زرعت فيها ذاتَ جمال أخاذ لكثرة ما زرع من الشجر، الأمر في ماليزيا يختلف تماماً لأن ماليزيا كلها قطعة خضراء زرعت فيها بيوت وقرى وشوارع ومعامل، فالخضرة هي الأساس لأن المطر جزء من حياة الناس اليومية.

     لذلك ترى الخضرة اليانعة حيث نظرت، ولو أن جداراً لأحد الدور لم ينظفه أهله لكسته الخضرة بما ينبت عليه، ومن أطرف ما رأيت أن بعض الأشجار تنبت عليها متسلقات وشجيرات من غير نوعها، ذلك أن الماء والطيور والريح تتكفل بنقل البذور التي تجد من اللحاء الريان مكاناً لها.

     شعرت كأنني في معبد، وأن هذا الجمال كله يسبح لمبدعه، وسررت بالمنظر الذي لا يمل، وبالأدعية التي أفرح بتردادها خاصة حين أكون وحيداً، وشعرت بتواصل عميق مع هذه الطبيعة الخضراء الحسناء والشمس البازغة المحتجبة والريح البليلة والمطر الغزير أو الخفيف، والطيور التي تقفز هنا وهناك سعيدة جذلى، ألوانها أجمل من أصواتها، وأصواتها غناء بديع.

     لا أدري كيف قفز ذهني إلى الصحراء فهي أيضاً معبد تظهر فيه عظمة الله، وما بين الصحراء والخضراء تضاد وتكامل، ولكل منهما جماله. الخضراء تشعرك بالأنس والقرب والصحراء تشعرك بالهيبة والوحشة. والخضراء تنبت الليونة والصحراء تنبت الرجولة، والخضراء تحيطك بالجمال الذي يناديك ويبعث على الاسترخاء والصحراء تحيطك بالجلال الذي يتحداك ويستفز قواك الكامنة. وأياً كان فكل منهما معبد تظهر فيه عظمة الله وقدرته، وحين تكون وحيداً تستطيع التواصل معهما واستفراغ الوسع في التأمل والاستمتاع.

     بعد ساعات وصلت الحافلة إلى هدفها، فتركتنا في قرية صغيرة أنيقة نظيفة، فيها شارع رئيس فيه سوقها وفنادقها ومطاعمها، ثم بيوت وفنادق أخرى في هذا الطرف أو ذاك. لذلك استوعبت في دقائق قليلة القرية الجميلة الوادعة كلها.

     كان الوقت قبيل المغرب بقليل، وجعلت همي الأول أن أصلي المغرب والعشاء معاً، فأخذت أمشي تحت مطر يبللني وأنا به فرح سعيد وليست لي وجهة محددة. بعد قليل أخذت أسمع صوتاً لم أعرفه تماماً ولم أنكره تماماً، لكنه أخذ يشدني فاتجهت إليه، وكم كانت فرحتي كبيرة حين اتضح الصوت لي فإذا به قارئ يتلو آيات من كتاب الله, وأخذ الصوت يزداد اتضاحاً كلما اقتربت منه، ثم توقفت التلاوة ليعلو أذان المغرب، نظرت جيداً فإذا بي أرى مسجداً على رابية جميلة في القرية الوادعة ويممت وجهي نحوه حتى دخلته وقد غمرتني الفرحة وبللني المطر.

     صليت المغرب مع الجماعة، وقرأ الإمام بفصاحة وجمال ﴿ألم نشرح لك صدرك﴾ في الركعة الأولى، و﴿ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل﴾ في الركعة الثانية، ولما انتهت الصلاة صليت العشاء وحدي ثم جلست أدعو وأنظر في اللوحات المنتشرة في المسجد وكانت إحداهن تحدد مواعيد الصلاة.

     وحاولت أن أخلو بنفسي أقرأ بعض الآيات الكريمة في هذا المسجد الذي قد لا أراه ثانية، لكنني لم أستطع فقد لاحظ الناس في المسجد أني غريب على قريتهم، فنظروا إليَّ، وجاء أحدهم يسلم علي، ثم تتابع الآخرون، وهم بين فرحة واستغراب ونظر في هذا العربي المسلم الذي شاركهم الصلاة. كانت الوجوه تنطق بالود والترحيب حتى خشيت أن يتبركوا بي، وكانت الأخوة الإسلامية تزيل الحواجز، زال أولها مع التلاوة التي نقلها مكبر الصوت، وزال ثانيها مع الأذان الذي يلخص حقائق الإسلام الكبرى ويعلن الهوية والشعار، وزال ثالثها مع الصلاة المكتوبة في المسجد الهادئ الجميل، وزال رابعها مع التحية والسلام. وكان مسك الختام أن جاء إمام المسجد يعانقني ويحدثني بالعربية. قال لي: إن اسمه "عبد الله" وإنه درس علوم الدين والعربية في إحدى المدارس الشرعية، وسألني عن مجيئي وكرر الترحاب ثم دلني على فندق جميل واجهته تطل على جدول صغير، وظهره على جبل بديع، أما الخضرة والجمال والمطر والأشجار المصفوفة وأحواض الزهور البديعة والحديقة المكشوفة ونافورة الماء فإنها سيمفونية رائعة. وزاد الشيخ عبد الله من فرحي حيت أخبرني أن صاحب الفندق مسلم ودلني على مطاعم المسلمين في القرية. ولا أزال أذكر موظفة الاستقبال في الفندق وهي مسلمة ترتدي اللباس الشرعي وهي تريد أن تشعرني بنسب الإسلام والعربية فتقول لي بعربية تكسوها العجمة: "مَنْ اسمك" ثم تضحك.

     أويت إلى الغرفة وكانت واسعة جميلة نظيفة، لكني وجدتها كأنها سجن يحول بيني وبين حديقة الفندق المكشوفة الملأى بالحسن المتراكب الأخاذ، فخرجت إليها وأنا أتلو وأدع المطر يبلل جسمي وملابسي وأجمع شيئاً منه فأشربه، وأمسح الورود والأغصان، وأحاول أن أرشف أقصى ما أستطيعه من معزوفة الجمال وأن أندمج فيه بأقصى ما أستطيع، ذلك أني كنت أشعر أنني في جنة دنيوية، وأنني في معبد ينطق بعظمة الله وقدرته. كانت فرحتي تمتد، وكان الهواء النقي يصافح وجهي، فتلتقي فرحة الجسد بفرحة الروح التي تنقلها التلاوة والدعاء إلى أمداء واسعة بهيجة. ولولا أن النعاس غلبني لحاولت أن أبقى في حديقة الفندق حتى الصباح، لأعتصر هذه الليلة الشائقة النادرة حتى الثمالة، لكن للنوم سلطاناً لابد من الخضوع له.

     جاء الصباح وأشرقت الشمس تظهر وتغيب، وأقبل المطر يهمي ويتوقف وهبت الريح البليلة فيها شذا الروابي والزهور، ثم جاءني إمام القرية الشيخ عبد الله فطاف بي في جولة بديعة في قريته وفي القرى المجاورة. هنا جدول وهنا جبل، وهذه غابة وتلك مزرعة، وثمة بيت مختبئ في رابية منعزلة، ومزارع الشاي تمتد يانعة خضراء في دقة وإحكام، ومررنا على مصنع للشاي عرضوا لنا فيه المراحل التي يمر بها الشاي منذ أن يزرع إلى أن يشرب، ورأينا مساجد متفرقة، ووقفنا على ساحة فيها من الخضار والفواكه وغيرهما ما نعرفه وما لا نعرفه، وإن أنس لا أنس مروج الشاي الخضراء اليانعة يسقط عليها المطر ثم تشرق الشمس فتبدو قطرات الماء على أوراق الشاي وكأنها ملايين المرايا ترد إلى الشمس والغيم التحية بمثلها أو بأحسن منها.

     شكرَ الله لمن نصحني بهذه الرحلة التي دامت يوماً واحداً لا ينسى، وشكر الله للإمام الذي اصطحبني وأكرمني وكان الأخ والدليل والمترجم، وعسى أن أظفر برحلة أخرى إلى هذا المكان البديع، على أن أكون وحدي أو مع صحبة تعشق ما أعشقه من السياحة التي تجمع إلى متع الجسد متع الروح، والتي تحرص على التأمل فيما نراه من أشياء، وفيما يكمن وراء هذه الأشياء.

* * *

أندلسيات حسناوات جداً

أندلسيات حسناوات جداً

     "الأندلس" في الاصطلاح الإداري الإسباني، هي مجموعة المحافظات الجنوبية في إسبانيا، أما في الاصطلاح الإسلامي فإنها تطلق على كل ما وصل إليه سلطان المسلمين من شبه جزيرة إيبريا.

     وللأندلس وقع عميق في وجدان كل عربي ومسلم، يثير فيه مشاعر متنوعة، وعبراً كثيرة، مردها إلى الإيحاء الموسيقي الجميل لهذا الاسم، ولما اقترن به من تاريخ حافل بالعجائب والغرائب والمتناقضات، عبر ثمانية قرون، وقرن آخر عاشته بقايا المسلمين بعد سقوط غرناطة، بين خضوع واستسلام، وثورة وتمرد، حتى تم طردها خارج إسبانيا في مأساة مروعة.

     لقد سكنت الأندلس في الوجدان العربي والمسلم كما لم تسكنه منطقة أخرى في العالم باستثناء الحرمين الشريفين والمسجد الأقصى، ذلك أن هذه البلاد النائية ارتبطت في هذا الوجدان بالفتح الإسلامي في عنفوانه، وبالحضارة الهادية البانية في ازدهارها، وبالفداء والبطولة والتضحية من رجال كرام ونسوة حرائر، وبالخيانة والترف والعجز والأثرة من قاعدين وقواعد، ثم بالسقوط الذي لا مثيل له في تاريخ الدول والحضارات، حيث تهاوت دولة المسلمين بعد قرون طويلة ملأى بالأمجاد والمخازي، والتهم الإسبان هذه الدولة التي كانت صفحة مشرقة في تاريخ الحضارة عامة، وفي الحضارة الأوربية خاصة، قطعة قطعة، كان آخرها غرناطة التي سلّمها آخر ملوك بني الأحمر أبو عبد الله الصغير للمنتصرين الإسبانيين فرديناند وإيزابيلا في يوم حزين بارد هو الثاني من يناير "897 هـ - 1492م". ثم خرج من حمرائها الجميلة المشرفة على المدينة المستسلمة، حتى إذا بلغ تلة صغيرة لا تزال تعرف حتى اليوم باسم "حسرة العربي" التفت وراءه ونظر إلى غرناطة المكلومة وحمرائها المحزونة، فبكى، فقالت له أمه الحرة العربية "عائشة": ابك مثل النساء ملكاً لم تحافظ عليه مثل الرجال، وقد وقفت على هذا المكان متذكراً معتبراً، وكتبت قصيدة سميتها باسمه "حسرة العربي".

     والنهاية الحزينة التي انتهت إليها دولة المسلمين في الأندلس زادت من تعلق العرب والمسلمين بها، ذلك أن الملكين الكاثوليكيين المنتصرين فرديناند وإيزابيلا نقضا كل العهود التي أبرماها مع أبي عبد الله الصغير، وفعلا بالمسلمين الأهوال، وتبعهما على الخط نفسه أغلب الملوك والأمراء والأحبار الإسبان، ولاحقوا المسلمين أشد الملاحقة في دينهم وأزيائهم وعاداتهم وأفراحهم وأحزانهم وأملاكهم، حتى اضطر المسلمون إلى الثورة أكثر من مرة، فحاربتهم الدولة حرباً ضارية، وأنشأت ديوان التحقيق الذي عرف باسم "محاكم التفتيش" ليتعقبهم ويعاقبهم، وهو من الوحشية والهمجية والقسوة بحيث يعد وصمة عار في تاريخ البشرية كلها، وقد أدى الديوان مهمته الذميمة على أشنع وجه، ولم ينج من فظاعته حتى المسلمون الذين تنصروا حقيقة أو خوفاً. ثم أجمع أهل القرار في إسبانيا على طرد البقية الباقية من هؤلاء المساكين، فرحلوا إلى أماكن مختلفة من العالم الإسلامي، واتجه أكثرهم إلى المغرب، ولا يزال بعضهم يتوارث مفاتيح بيوت أجدادهم التي تركوها عند ترحيلهم، بل إن بعض هؤلاء المهاجرين، شيدوا مدنهم وبيوتهم على طراز ما عاشوا عليه في الأندلس، تجد ذلك مثلاً في تطوان وفي شفشاون في المغرب، وفي سيدي بو سعيد في تونس.

* * *

     في قصيدة شوقي السينية الشهيرة ، التي يعارض فيها سينية البحتري الأشهر منها، بيت عجيب، بيت بقصيدة، بل بقصائد، يصور فيه كيف خرج المسلمون من إسبانيا مطرودين تحملهم السفن، وهم في أسر الذل والضعف والهوان، على النقيض من أجدادهم الذين جاؤوا إلى إسبانيا فاتحين يركبون السفن وهم في جلال العز والفخر والغلبة. الأجداد الفاتحون كانوا كأنهم الملوك على العروش، والأحفاد المطرودون كانوا كأنهم الموتى في النعوش:

ركبوا بالبحار نعشـــاً وكانت     تحت آبائهم هي العرش أمس

     لله در الشاعر العبقري شوقي، الذي استطاع في بيت واحد أن يصور القرون الثمانية بل التسعة، التي امتدت فيها حياة المسلمين في إسبانيا بما لها وما عليها.

     وهناك بيت آخر لشوقي في السينية نفسها، لا يصل إلى قامة البيت السابق، لكنه يقاربها. وهو أعجوبة من أعاجيب شوقي، وما أكثر أعاجيبه، إنه في هذا البيت يصور كيف كانت قرطبة قبل المسلمين قرية منسية، وكيف صارت بحضارتهم المشرّفة المجيدة، بلدة تمسك أطراف الأرض حتى لا تميد، إنه قوله عنها:

قريــة لا تعد في الأرض كانت     تمسك الأرض أن تميد وترسي

     وليته اختار كلمة "صارت" بدلاً من كلمة "كانت" ففي ذلك ما يجعل المعنى أغنى والإيحاء أوسع.

* * *

     خرجت الأندلس من أيدي المسلمين بعد ثمانية قرون هي المدى بين انتصار طارق بن زياد وموسى بن نصير وبين سقوط غرناطة، يضاف إليه قرن أو أكثر هو المدى بين سقوط غرناطة والطرد النهائي، وشهد التاريخ أن المسلمين أيام غلبتهم كانوا بناة حضارة، وأهل علم، ورادة ثقافة، وأنهم كانوا أهل عدل وشرف وحفاظ على العهود وتسامح مع المخالفين، وأن وجودهم في الأندلس نقلها نقلة رائعة إلى الأمام في كل الميادين، هكذا كانوا أيام غلبتهم، أما أيام ظفر عدوهم بهم فقد كانت الصورة مضادة تماماً، لقد غدر عدوهم بهم ونقض العهد وصادر الدين واللغة والأرض والعرض والزي والعادة، فكان التناقض بين الصورتين تناقضاً حاداً، مثل المسلمون فيه أخلاق الفرسان، ومثل غالبوهم فيه أخلاق القراصنة.

     وأياً كان فقد زادت النهاية المأساوية للإسلام وحضارته في الأندلس من حب العرب والمسلمين لها، وامضِ حيث شئت في بلادهم فسوف تجد أسماء مدنها الشهيرة وعلمائها وشعرائها وأبطالها في كل مكان، تطلق على المدارس والمقاهي والمطاعم والشوارع والفنادق والمحلات والمكتبات، وسوف تجد الموشحات الأندلسية الجميلة تشنف الآذان في كل مكان، وبخاصة موشحها الشهير الذي أبدعه واحد من أذكى أبنائها هو لسان الدين بن الخطيب، والذي نظمت على غراره موشحات كثيرة تصلح أن تكون موضوعاً طريفاً لرسالة ماجستير أو دكتوراه، وهو الذي يقول مطلعه:

جادك الغيث إذا الغيث همى     يا زمان الوصــــل بالأندلس

     وأشهر من عارض هذا الموشح في عصرنا الحديث هو شوقي في موشحه الجميل الذي سماه "صقر قريش" ومطلعه:

مَنْ لِنِضْـــوٍ يتـنــــــزَّى ألمـا     بـــرّح الشــوق به في الغلس
حنّ للبـــان ونـــــاجى العلما     أين شرق الأرض من أندلس

     وإذن لا غرابة أن تظل الأندلس ساكنة في الوجدان العربي والمسلم، مرتبطة بنوازع متآلفة ومتخالفة من الفخر والاعتزاز، والحسرة والأسى، والإشادة واللوم، والجمال والترف، والبطولة والعجز، والإفراط والتفريط، والتضحية والخيانة، وما شئت من أمثال ذلك.

* * *

     وأنا أحد العرب المسلمين الذين سكنت فيهم الأندلس منذ قرأت عنها أيام دراستي الجامعية وقبلها وبعدها، سكنت فيّ إلى درجة العشق، ثم ازداد هذا العشق حين شاء الله تعالى أن أزور إسبانيا مرات كثيرة أولاها عام 1399هـ - 1979م وآخرها عام 1416 هـ - 1996م، وفيّ كل دواعي العشق والشوق، ومعي عناوين وخرائط ورفقة تدلني وتشرح لي، ومعي كتابان يلازماني دائماً هما "رحلة الأندلس" لحسين مؤنس و"الآثار الأندلسية الباقية في إسبانيا والبرتغال" لمحمد عبد الله عنان، أقرأ فيهما عن المواقع التي أزورها قبل الزيارة وأثناءها، وأتجول وأتامل وأتذكر وأتمنى وأنشد، في السهل والوعر، والشجر والطلل، والقصور والمتاحف، والحدائق والجبال، وبقايا القلاع والأسوار، والمآذن التي لا تزال باقية، والأزقة القديمة في الأحياء القديمة من غرناطة وقرطبة وإشبيلية وطليطلة، وهي أزقة تذكرك بأمثالها في دمشق والقاهرة وفاس وتطوان وتونس وإستانبول يتم تجديدها وتجديد بيوتها التي تقع فيها وفق ما كانت عليه، لأهداف تتعلق بحفظ التراث وكسب السياح.

     وكنت أيضاً أبحث عن مواقع المعارك وأقرأ عنها حيث دارت وأتخيل وأتصور، وذهبت مرة إلى قرية "لوشا" وهي من أعمال غرناطة لا لشيء إلا لأنها أنجبت لسان الدين بن الخطيب، وأنا أعيد المرة بعد المرة موشحه الشهير "جادك الغيث" وأتذكر ذكاءه وألمعيته، وأمجاده، ونهايته المروعة، وأتخيل أنه مشى في هذا المكان وذاك من بلدته أيام طفولته وصباه.

     ولطول صحبتي لأبي البقاء الرندي، ومعايشتي لقصيدته الشهيرة التي رثى فيها الأندلس، رثاء حزيناً، والتي مطلعها:

لكل شيء إذا ما تم نقصــان     فلا يغر بطيب العيش إنسان

     خيّل إلي أني تلقيت دعوة منه لزيارة مدينته "رندة" فذهبت إليها في رحلة شاقة متعبة، لكنها طريفة وشائقة، وقد كتبت عنها مقالاً ضافياً اسمه "لعينيك يارندة".

     وذهبت أيضاً إلى أقصى الشمال الإسباني، مسوقاً بداعي العبرة التاريخية، باحثاً عن المغارة التي لجأ إليها نفر من الإسبان الشجعان في بداية الفتح الإسلامي لأنهم أبوا الخضوع له، فأهملهم المسلمون، فكانوا النواة الأولى للمقاومة التي انطلقت منها جموع الإسبان في كر وفر طويلين حتى استطاعت أن تظفر بالمسلمين جميعاً، ثم تطرد بقاياهم من إسبانيا نهائياً وقد كتبت عن المغارة وقصتها، مقالاً ضافياً اسمه "صخور وعزائم".

     وذهبت مرة أبحث عن القرية التي كان يعيش فيها أمير الشعراء أحمد شوقي أيام منفاه، ووصلت إليها وتجولت فيها، وهي قرية جبلية وادعة جميلة، قريبة من برشلونة اسمها "ﭬﻠﭭﺪﻳﺮا"، كنت قد قرأت عنها في كتاب الدكتور شوقي ضيف الشهير "شوقي شاعر العصر الحديث".

     أما الأمير العظيم، الصبور، الجسور، المرزأ من ناحية والمظفر من أخرى، عبد الرحمن بن معاوية، الذي عرف في التاريخ باسم "عبد الرحمن الداخل" والذي لقبه خصمه العظيم أيضاً، الخليفة أبو جعفر المنصور "صقر قريش" فقد وصلتُ إلى قرية "المنكّب" التي تحمل اسم "ALMUNECAR"، والتي تقع على الساحل الجنوبي لإسبانيا مقابل المغرب، وتذكرت كيف وصلها بعد رحلة شاقة ملأى بالمخاطر عام 138هـ، ليبدأ منها ملحمة سيطرته على إسبانيا، فأعاد لبني أمية شيئاً من مجدهم في الغرب بعد خسارتهم إياه في الشرق، ورأيت كيف نصب له الإسبان تمثالاً ضخماً ونقشوا عليه أبياته مترجمة إلى اللغة الإسبانية، وتذكرت قوله:

أيهــــا الراكب الميــــــمم أرضي
                    أَقْـــرِ من بعضيَ الســـلام لبعـض
إنَّ جسمي كمـــا تــراه بـــــأرض
                    وفــــؤادي ومالكيــــه بــــــأرض
قـــدّر البيــــن بيننــــا فافترقنـــــا
                    وطوى البين عن جفوني غمضي
قـــد قضى الله بالفــــراق علينــــا
                    فعسى باجتـــماعنا ســوف يقضي

     وكما تذكرت هذا الأمير المغامر الداهية في "المنكب" تذكرته في مسجد قرطبة الذي كان أول من بدأ البناء فيه، ثم تتابع أمراء البيت الأموي على توسعته وتحسينه حتى صار من أخلد الآثار الإسلامية في العالم، وأجملها، وأشهرها، وأمتنها، وأقدرها على البقاء.

     وتذكرته أيضاً حين مرّ في "منية الرُصافة" وهي من ضواحي قرطبة، بنخلة مفردة، فهاجت أحزانه وتذكر بها بلاده الأولى وهي أرض النخل، فقال:

بـدت لنــــا وسط الرصــــافة نخــــلة
                    تنـــاءت بأرض الغرب عن بلد النخل
فقـــلت شبيـــهي في التغرب والنــوى
                    وطول الـتنــــائي عن بنيّ وعن أهـلي
نشـــأت بأرض أنت فيـــها غريبـــــة
                    فمثـــلك في الإقصاء والمنتـــأى مثلي
سقتك غوادي المزن في صوبها الذي
                    يســـحّ ويستمري الســـــماكين بالوبل

     وتذكرت أنه مات، فدفن في قرطبة، فأضاعت الفتن التي اشتعلت قبره فلم يعرف، لكن خلوده في الضمائر والأسفار والألسنة، أغناه عن قبره الضائع، وشتان بين قبر من تراب وقبر من إعجاب، وقد وفق شوقي غاية التوفيق حين التقط هذا المعنى النادر فضمّنه في موشحه "صقر قريش" فقال مخاطباً عبد الرحمن الداخل:

قصـــرك المنيةُ من قرطبــةِ     فيــه واروك ولله المصيـــــرْ
صدف خُـــطّ على جوهـــرةِ     بيـــد أن الدهر نباش بصيــرْ
لم يـــدع ظلاً لقصر المنيـــةِ     وكــذا عمر الأمانيّ قصيـــرْ
كنت صقـــراً قرشيــــاً علما     ما على الصقر إذا لم يرمسِ
إن تســــلْ أين قبور العظـما     فعــلى الأفواه أو في الأنفـس

     يبدو للمرء أن عبد الرحمن الداخل كان مجموعة عظماء في شخص واحد، يشهد لذلك أنه حكم خمسة وثلاثين عاماً، كان فيها راجح العلم، ثاقب الفهم، لا يخلد إلى الراحة، شجاعاً مقداماً مظفراً، عظيم الهمة حتى روى التاريخ عنه أن نفسه حدثته أن يخرج إلى بلاد الشام ليستعيد الحكم الأموي من بني العباس لكن الشواغل صرفته عن ذلك.

وفي موقع معركة "العقاب" التي جرت بين الموحّدين والإسبان عام "609هـ - 1212م" وقفت حزيناً أتذكر الهزيمة الفادحة التي مني بها الموحدون، والتي كان ظفر الإسبان فيها قوة دافعة لهم إلى المزيد من مطاردة المسلمين ومحاصرتهم حتى أخرجوهم من إسبانيا كلها، وفي مدينة "برغش" في شمال إسبانيا وهي بالإسبانية "BURGOS" يوجد علم الجيش الموحدي المهزوم، معروضاً في أحد المتاحف، وهي إشارة تدل على اعتزاز الإسبان بظفرهم يومذاك.

     وقد استشعر ابن الدباغ الإشبيلي الخسارة الفادحة، التي أصابت المسلمين في معركة "العقاب" ورأى فيها نذيراً يومئ إلى أن المسلمين سوف يخسرون إسبانيا كلها، فقال:

وقـــــــائلة أراك تطيل فكراً     كأنك قد وقفت على الحساب
فقــــلت لها أفكر في عقــاب     غدا سببـــاً لمعركة العقــاب
فما في أرض أندلس مقــــام     وقد دخل البلا من كل بـــاب

     وهذا الإحساس الحاد بالخطر، دفع شاعراً آخر هو ابن العسّال إلى أن يقول هذه الأبيات الحزينة التي تلتقي في تشاؤمها مع أبيات ابن الدباغ:

يــا أهل أندلس حثــــوا مطيــــكم     فما المقــــام بها إلا من الغـلـــــط
الثــوب ينســل من أطرافه وأرى     ثوب الجزيرة منسولاً من الوسط
ونحــن بين عدو لا يفــــــــارقنــا     كيف الحياة مع الحيّـات في سفط

     هذا، وتروى هذه الأبيات منسوبة إلى المؤرخ الأندلسي ابن حيان مع اختلاف يسير.

* * *

     ويبدو لي أني لو توسعت في الحديث عن ذكرياتي في إسبانيا، وتداعياتها وامتداداتها وما كتبته عنها وفيها، وما بقي في ذاكرتي مما قرأته عنها لطال الحديث وطال، وربما تحول إلى كتاب كامل.

     ولا غرابة، ففي مسجد قرطبة اعتراني شعور عميق بالحزن، المقترن بالإعجاب والإكبار فوجدت نفسي أتلو، وأبكي، ثم وجدت فمي يصدح بالأذان وأنا قرب المحراب البديع، الذي لا يزال كما تركه المسلمون بالأمس، ثم أتخطى السلسلة التي تحجزه عن الزوار وأصلي ركعتين فيه، وقد دونت ذلك في مقال طريف سميته "المسجد المحزون" ويومها غلبني الوجد، فقلت: سوف أؤذن في منارة المسجد كما أذنت في محرابه، فصعدت المنارة التي صارت ملأى بالنواقيس، فأذنت لإبهاج المنارة وإغاظة النواقيس.

     وفي أطراف قرطبة زرت ضاحية الزهراء التي بناها الصقر القرشي، والتي كانت يومها من أعاجيب البناء والهندسة في الدنيا كلها، وتجولت في أطلالها، وخيّل إلي وأنا بين هذه الأطلال أني أسمع ابن زيدون يقول لولادة:

إني ذكــرتك بالزهــــراء مشتـــاقـا
               والأفق طلق ووجه الأرض قد راقا

     ولما كان الشجا يبعث الشجا كما يقول الشاعر العربي القديم، فقد وجدت نفسي في الزهراء أسترجع ما بقي في ذاكرتي من قصيدة شوقي الرائعة، التي قالها في دمشق إبان زيارته لها، ومطلعها:

قم ناج جلق وانشد رسم من بانوا
               مشت على الرسم أحداث وأزمان

     ووجدت ذاكرتي وأحزاني تتوقف بإلحاح، أمام بيته الرائع الحزين فيها، وهو قوله الذي يشير فيه إلى أن مجد بني أمية في دمشق ذكّره بمجدهم الآخر في الأندلس:

بـالأمس قمت على الزهراء أندبهم     واليوم دمعي على الفيحاء هتـــــان

     أما إشبيلية فقد استرجعت فيها كل ما قرأته عن فارسها المعتمد بن عباد، وتذكرت أشعاره، وبطره، وترفه، وشجاعته يوم قاتل مع يوسف بن تاشفين في معركة "الزلاقة" في بسالة نادرة، ثم أسره ونفيه إلى أغمات في المغرب، وحين وقفت على نهر "الوادي الكبير" الذي يخترق إشبيلية، تذكرت كيف أسعفت بديهة فتاة كانت تغسل الملابس في النهر، بنصف بيت من الشعر، انتقلت فيه نقلة عجيبة، صارت به زوجة للمعتمد وملكة على إشبيلية، ذلك أن المعتمد كان مع صديقه وشاعره ابن عمار، على الشاطئ، فهبت الريح عكس مجرى النهر، فارتجل المعتمد هذا الشطر: "صنع الريح من الماء زرد" وطلب من صديقه أن يأتي بالشطر الثاني فلم يوفق، فقالت الفتاة: "أي درع لقتال لو جمد" فنالت بنصف البيت هذا ما نالت، وشاركت المعتمد أمجاده أولاً، ونهايته الحزينة ثانياً، ودفنت معه ومع ابنته في أغمات بالمغرب، ولا تزال قبورهم معروفة يزورها الناسُ من كل مكان، وحين زرتها مررت بغرفة ملحقة بالمدفن، فيها سجل طويل مليء بما يدونه الزوار، وهو كثير جداً، منوع جداً، يدل على حب العرب للتاريخ، وحزنهم على النهاية الحزينة للمعتمد وزوجته الرميكية.

     وقد تذكرت - فيما تذكرت - أن ملوك الطوائف حين استشعروا الخطر المحدق بهم، عقب سقوط طليطلة في يد ألفونسو السادس عام 478هـ - 1085م، اتفقوا على استدعاء البطل المرابطي الشجاع الزاهد يوسف بن تاشفين من المغرب لنجدتهم، ولكنّ أحدهم تخوف من ابن تاشفين لأنه قد يعزلهم بسبب اختلافهم وتفريطهم، ويضم إماراتهم إلى دولته المرابطية، فقال له المعتمد "لأن أكون راعي جمال عند ابن تاشفين خير من أن أكون راعي خنازير عند ألفونسو" وهي كلمة بديعة ملأى بالرجولة والإيمان والنبل، وإيثار العام على الخاص، والآجل على العاجل.

     وفي إشبيلية التي لم يبق من مسجدها الشهير شيء، إلا المنارة الموحدية التي تسمى في إسبانيا اليوم >الخيرالدا< وهي شاهقة جداً وفي حالة ممتازة جداً، تذكرت ما رواه التاريخ أن المؤذن ربما كان يصعد إليها على حصان، فقد جعل المهندس الذي بناها طريق الصعود يعتمد على الميل الخفيف لا على الدرج المعتاد في المآذن، وقد صعدت المنارة، ورأيت من فوقها مدينة إشبيلية باتساعها وجمالها وحدائقها، ووجدت أن عليّ أن أسمع المنارة الأذان فأذنت.

     وفي مدينة "سالم" الواقعة على الطريق الذي يربط بين مدريد وسرقسطة، وقفت أمام قوس حجري، في منطقة متهدمة مهجورة، يغلب عليها الخراب، يروى أنها كانت المدفن الذي حظي بجسد المنصور بن أبي عامر، وهو من أهم الشخصيات الأندلسية الفاعلة الجبارة، والمثيرة للجدل بين قادح ومادح، وهو كما يقول عنه الدكتور حسين مؤنس: "ثاني اثنين دانت لهما هذه الجزيرة من أول التاريخ حتى مطلع العصر الحديث أولهما عبد الرحمن الناصر".

     وإذا كان المرء يغلب عليه الجلال والوقار والحزن في مسجد قرطبة، فإنه في حمراء غرناطة يغلب عليه الأنس والفرح والطلاقة، خاصة في حدائقها الرائعة الأنيقة التي تعرف باسم "جنة العريف"، ومن أطرف ذكرياتي فيها أن الصلاة أدركتني خلال تجوالي فيها، فانتحيت ركناً بعيداً فصليت، ورآني أطفال كانوا في رحلة طلابية مدرسية، فأخذوا ينظرون إلي ويعجبون ويضحكون. وكأنهم يتساءلون: "ماذا يفعل هذا الكهل العربي الأسمر" وقد سجلت ذلك في مقال طريف سميته "صلاة في الحمراء" وهناك صلاة أخرى لا يزال أثرها فيّ حياً حتى الآن، ذلك أني رأيت مجموعة من الشبان المغاربة، يتجولون في حدائق جنة العريف، بملابسهم المغربية الجميلة المميزة، أدركتهم الصلاة، فأذّن أحدهم، ثم أدوا الصلاة جماعة في مشهد بديع مؤثر، كتبت عنه قصيدة مطولة سميتها "أشواق أندلسية"، وفي جبال "البشرات" تذكرت الثورة التي قام بها المسلمون في شعابها، بعد أن اضطهدهم الإسبان وتنكروا لعهود الصلح ومواثيق التسليم، وفي جبل طارق تذكرت القائد العبقري طارق بن زياد الذي يحمل الجبل اسمه، وتذكرت خطبته الشهيرة التي نحفظها جميعاً، وخيّل إلي أن هذا الجبل يربض على مدخل إسبانيا الجنوبي وكأنه أسد يحرسها، وفي متحف مدريد الحربي رأيت وثيقة التسليم التي وقعها أبو عبد الله الصغير، وسيفاً هنا، وعباءة هناك، ويماثل ذلك أو يقاربه ما غمر نفسي من أفراح وأحزان في سرقسطة، وطليطلة، وبلنسية، ومرسية، وشاطبة، وطريف، وبنبلونة، وسنتياغو، وسهيل، وجيان.

* * *

     هل يستحق المسلمون الأندلسيون اللوم؟ نعم إنهم يستحقون لأنهم وقعوا، أو وقع كثير منهم في الترف، والترف حمض أكَّال يأكل الرجولة والجدية والفضائل، ولأنهم وقعوا في الخلاف، والخلاف بوابة واسعة للشرور بل والفناء.

     لكن هذا اللوم ينبغي ألا يحملنا على نسيان عدة حقائق مهمة جداً:

     الأولى: أن المسلمين في الأندلس قاتلوا طويلاً، وضحوا كثيراً، وجدوا وصابروا، ويكفيهم شرفاً أن الأندلس التي فتحوها في سنتين فقط لم يستطع الإسبان أن يخرجوهم منها إلا في ثمانية قرون، وهي مفارقة مهمة ينبغي للدارس المنصف أن يشهد بها ويشيد بدلالتها المشرفة.

     الثانية: أنّ أوربا كلها - بدرجات متفاوتة - وقفت خلف الإسبان في حروبهم ضد المسلمين، بالمال والعتاد والمقاتلين، ذلك أنها رأت في الأندلس المسلمة جسماً غريباً نشازاً مختلفاً عن بقية ديارها المسيحية، لابد أن يزال، وقد كان. لقد كانت حرب الإسبان ومن ورائهم أوربا ضد المسلمين حرباً صليبية بكل معنى الكلمة، بدأت قبل الحرب الصليبية التي غزت مشرقنا العربي واستمرت بعدها، بل كانت أشرس وأفتك.

     الثالثة: أن المسلمين عمروا إسبانيا، ونقلوها نقلة واسعة إلى الأحسن في كل شيء وأنهم جعلوا من عاصمتهم "قرطبة" أيام المجد الأموي أعظم مدينة في أوربا على الإطلاق في السياسة، والعسكرية، والهندسة، والإدارة، والغنى، والعلم، ويشهد التاريخ أن اثنين من بابوات روما درسا في قرطبة، وأن أحد ملوك بريطانيا أرسل عدداً من بناته الأميرات ليتعلمن فيها، وإذن فإن المسلمين الأندلسيين لهم وعليهم، ولعل الذي لهم أكبر بكثير من الذي عليهم. وفي إسبانيا اليوم نفر من العلماء والأدباء المنصفين يشيدون بحضارة المسلمين في الأندلس وينصفونها غاية الإنصاف، ويعدون طرد المسلمين المورسكيين ظلماً كبيراً وجناية فادحة، ويعدون محاكم التفتيش وصمة عار، ووحشية بالغة.

     الرابعة: أن غرناطة التي كانت آخر معاقل الأندلس سقوطاً، سقطت والدولة العثمانية في أوج قوتها، وكانت أوربا تخاف منها خوفاً شديداً، ولابد أن مسلمي غرناطة استنجدوا بها، وكانت الدولة العثمانية مؤهلة جداً للنجدة المأمولة، لأنها في ذروة القوة، ولأن خلفاء بني عثمان يومذاك كانوا يجمعون بين الشجاعة وبين الولاء التام للإسلام، إن هذا الأمر لغز غير مفهوم من ألغاز التاريخ ليت أحد الدارسين يجلّيه.

     الخامسة: بذل المسلمون الأندلسيون الذين ظلوا في إسبانيا، بعد سقوط آخر معاقلهم بيد الإسبان وهي غرناطة جهوداً كبيرة للاحتفاظ بهويتهم الدينية، واللغوية، والاجتماعية، والثقافية، وقد توهموا في البداية أن معاهدة التسليم التي وقعها عنهم أبو عبد الله الصغير، وعن الإسبان الملكان الكاثوليكيان فرديناند وإيزابيلا، سوف تمكنهم من الاحتفاظ بهذه الهوية، وكانت جديرة أن تحقق لهم ذلك لو طبقت لأنها في الجملة معاهدة جيدة ومنصفة، لكن الملكين الظافرين، ومن ورائهما أحبار أشداء متحمسون، نقضوا هذه المعاهدة جملة وتفصيلاً، وفعلوا بالمسلمين الأهوال، وهو ما دفعهم إلى مزيد من التمسك بهويتهم، بل دفعهم إلى الثورة في جبال البشرات، ولكن دون جدوى، فقد هزموا هزيمة منكرة، فلم يجدوا بداً من الاستسلام، لكن الحكومة الإسبانية لم تأمن حتى لمن تنصر منهم حقيقة أو خوفاً، فلجأت إلى طردهم من إسبانيا طرداً جماعياً نهائياً، ولم تبق منهم إلا أعداد قليلة جداً في أمكنة متفرقة ذابت مع الزمن.

     ومن أطرف ما فعله المسلمون في تلك الفترة العصيبة أنهم ألفوا كتباً باللغة العربية، لكنها تكتب بالحروف اللاتينية، سموها "الألخميادو" أي "الأعجمية" في محاولة لإخفاء ما يكتبون عن عيون القساوسة ورقابة الأمن، وفي هذه الكتب أحكام شرعية، وآداب أخلاقية، ووصايا ونصائح، يراد منها تذكير الناس عامة والناشئة خاصة بدينهم ليتمسكوا به سراً ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.

* * *

     لقد كان هذا التطواف الذي استطعت أن أسرد بعضه، مزاجاً جميلاً متناغماً من الفرح والحزن، والأدب والتاريخ، والحقيقة والخيال، والأحلام والآمال، ينتظمه إطار أخاذ سميته ذات مرة "العشق الأندلسي".

     وكان يواكب هذا العشق الذي يسكنني، فرح غامر يذكيه فيزداد، سببه أن لي معرفة بنخبة من العرب الذين هاجروا إلى إسبانيا واستوطنوها فكانوا لي المضيف والصديق والدليل، ولا أزال أتذكر أحدهم وهو يقول لي: لقد أمللتنا بكثرة أسئلتك عن المواقع ورغبتك أن نأخذك إليها، وأتذكر ثانياً وهو يقول لي: سوف أسرق منك هذين الكتابين اللذين تحملهما دائماً حتى تكف عن السؤال والتجوال، وأتذكر ثالثاً وهو يقول لي: إنك الآن قد رأيت مما يشغل أمثالنا أكثر بكثير مما رأيناه نحن المهاجرين المستوطنين.

     وثمة فرح آخر كان يغمرني، وهو فرح أنقى وأصفى وأبقى، إنه فرحي بالتعرف إلى البدايات الأولى لانتشار الإسلام مجدداً في إسبانيا، حيث كنت ألقى عدداً من المهتدين الجدد في مسجد أو بيت أو رحلة أو مخيم، ذلك أن إسبانيا أصدرت قانون حرية الأديان، وبموجبه صار من حق الإسباني وللمرة الأولى منذ سقوط غرناطة أن يعتنق غير الكاثوليكية. وفرحة المسلم حين يلقى مهتدياً جديداً ويحاوره ويعاونه فرحة ذات أفق روحي ونفسي وفكري بديع.

* * *

     ولأولادي الذين كانوا صغاراً يومذاك، والذين رافقوني في معظم هذا التطواف الجميل، ذكريات حلوة لما فيها من طفولة وبراءة وعفوية، كانت لكل منهم مهمة حين نمتطي السيارة، أحدهم يتأكد أن عددنا كامل، والثاني يتأكد أن الأبواب مقفلة، والثالث يتأكد أن معنا زادنا ومتاعنا، والرابع يذكرنا بأن نبدأ رحلتنا بدعاء السفر طلباً لحفظ الله ورعايته.

     وكانت أمامة لأنها الأكبر بينهم - ترى لنفسها موقعاً قيادياً، وكانت تجادلني كثيراً حتى ترضى عن مكان المبيت، نظافة وجمالاً ومستوى، وكنت أداريها أكثر من سواها، وقد أخبرتني فيما بعد، أنها أرادت أن تسخر من زميلة لها في المدرسة، كانت تدعي أنها زارت قصر الحمراء، وأعجبت ببهو السباع خاصة، فصارت تحدثها عن جمال هذه السباع, ودقة صناعتها، وقدرة النحَّات الذي وضع فوق كل سبعٍ تمثالاً لخروف، وفوق كل خروف تمثالاً لدجاجة، وفوق كل دجاجة تمثالاً لطائرٍ، والزميلة المسكينة تؤكد أنها رأت ذلك كله وأعجبت به، وحين انكشفت الحيلة، شكتها الزميلة إلى مديرة المدرسة التي أنهت الموضوع بهدوء وهي تكتم ضحكتها.

     أما معاذ فقد خطر له أن نسترد إسبانيا لأنها بهرته جداً، لكثرة ما تجول فيها، وكثرة ما حدثته عنها، فلما سألته عن كيفية الاسترداد كان جوابه جاهزاً، وهو: الغربيون ومنهم الإسبان مقلّون في الإنجاب، خلافاً لنا نحن المسلمين الذين نحب الإكثار منه، ليقيننا أن الأبناء قوة، وأن الله تعالى هو الرازق، وأن الأبناء الصالحين مما ينفع الإنسان في حياته وبعد موته، لذلك نهاجر إلى إسبانيا بالتدريج، ونتزوج مبكرين، وننجب الكثيرين، ومع الزمان نزداد شيئاً فشيئاً حتى نصبح الأكثرية، وتعود إسبانيا لنا.

     أما أحمد فقد أعجبته منطقة جبلية جميلة في شمال إسبانيا توقفنا فيها بعض الوقت، فلما دعوته لركوب السيارة مع إخوته حتى نكمل التطواف أبى، حاولت إقناعه فازداد عناداً، فأجبرته على الركوب وهو يبكي، وقد ظللت دهراً طويلاً أداعبه وأقول له: لو ظللت هناك لصرت إسبانياً، وربما انضممت إلى عصابات الباسك المتمردة على الدولة لأنها تريد الانفصال عنها.

     أما محمد فكان يحرص على أن يأخذ معه من الرياض، طاقية فيها ثقوب، مما يلبسه الناس على رؤوسهم، حتى إذا تجول في حدائق الحمراء في غرناطة، وقف عند بركة >البرطل< الملأى بالسمك الملون، وأدخل الطاقية في الماء تحت بعض الأسماك ثم رفعها بسرعة ليتسرب الماء، وتبقى الأسماك، ولكنه لم يظفر من ذلك بشيء.

* * *

     النفس تعشق الحسن في النساء وغيرهن، وقد طاب لي أيها القراء الكرام أن أقدم لكم حديثاً عن حسناوات إسبانيات لا أزال أتذكرهن وأشتاق إليهن وأتمنى لو جددت الصلة بهن، وهؤلاء الحسناوات هن - مع الأسف - من الذكريات لا من النساء، فلا تظنوا بي سوءاً، ولا تخبروا بذلك أم معاذ حتى لا تظن أني جهلت بعد أن شبت، وربما كان الحسن في الذكريات، من صور ومعان وأمان ومواقع وعبر وتجارب وخبرات ومعلومات وحوارات وما إلى ذلك، أبقى في النفس وأكثر لذة وإمتاعاً من سواه، خاصة لمثلي ممن يحب الإسلام حباً ملك عليه شغافه، ويحب الأندلس وشعرها وموشحاتها، والطبيعة والترحال، وقراءة التاريخ، حباً عميقاً، وأرجو من القارئ الكريم أن يلتمس لي العذر، وينظر إلى هذه الذكريات الحسناوات على أنها مزيج متسق من الدين والشوق، والأدب والشعر، والتطواف والتاريخ، واستبطان الماضي، واستشراف المستقبل، وليس للنساء الحسان منها نصيب قط.

* * *

رعب في قلب مدريد

رعب في قلب مدريد

     زرت إسبانيا عدداً من المرات، وتجولت فيها كثيراً، ووقفت متأملاً على عدد من آثار المسلمين وغير المسلمين فيها، حتى صارت لي معرفة طيبة بها، تعينني على أن أحسن التصرف فيها إذا كنت وحيداً، خاصة في غرناطة التي لبثت فيها مدة أطول بسبب حمرائها الباهرة، ومدريد التي طال مكثي فيها لأنها العاصمة، منها نبدأ، ومنها نعود.

     ومع أني شرّقت وغرّبت، ووصلت أقصى الشمال ووقفت في أقصى الجنوب، ومررت بالعامر والمقفر، والقريب والنائي، فإنني – بفضل الله عز وجل – لم أتعرض إلا لمشكلة واحدة، وقعت لي في قلب مدريد، وأمام الناس المزدحمين، وذلك في عام 1416هـ - 1996م.

     في هذه الزيارة كنت حريصاً على أن أمشي كثيراً، ذلك لأنني وقفت مراراً على الآثار والمتاحف والحدائق في زياراتي السابقة، لذلك أعطيت المشي وقتي الأطول وجهدي الأكبر في هذه الزيارة، وكنت أمشي ليلاً ونهاراً، منفرداً أو مع صديق، فإذا تعبت أعطيت أول سائق لسيارة أجرة أراه ورقة فيها عنوان البيت وهو بيت الدكتور بهيج الذي كنت ضيفاً عليه، فيذهب بي إليه، فإذا استرحت عدت للمشي من جديد.

     وقد أوصاني الدكتور بهيج وغيره من الأصدقاء بعدة وصايا، علي أن آخذ بها، بسبب مشيي وحيداً، وجهلي باللغة الإسبانية، وهي أن أمشي في الطرق المأهولة وأتجنب الطرق الخالية، وأن أمشي في النهار وفي أوائل الليل فقط، وأن يكون معي قدر من المال لا هو كثير ولا هو قليل، وذلك حتى إذا تعرضت لتهديد من مدمن أو لص، أدفع له المال دون جدل، فلا آسف لأن المال المدفوع كثير، ولا يغضب المدمن أو اللص لأن المال قليل، وقد يكون مستعداً لإيذائي إذا قاومته، ومستعداً أيضاً إذا كانت غنيمته قليلة.

     ومضت الأمور على ما يرام بفضل الله، وصرت أزيد من مسافة المشي بالتدريج، وفرحت فقد وجدت الوزن ينقص، والنشاط يزداد، وظللت كذلك حتى وقعت لي القصة الطريفة التالية.

     كنت أمشي وفي نفسي كل الوصايا السابقة، وكان الليل في أوله، وكان المشي في قلب مدريد، في شارع "جران بيا" والزحام على أشده، ولم يكن هناك ما ينذر بالسوء حتى رأيت على الطرف المقابل من الشارع امرأة تنظر إلي بإمعان فتخوفت.

     كان الشارع يفصل بيننا، وكنا ننتظر أن تخضرّ الإشارة لنا نحن المشاة حتى يذهب كل منا في سبيله، ولما أطالت النظر إلي انسللت بهدوء من المكان الذي نقف فيه متواجهين حتى أغيب عنها، لكنها لم تلبث أن تحركت فوجدتها تقف إزائي تماماً في موقفي الجديد، وتنظر إلي بإمعان شديد، كانت تلبس بدلة رياضية بيضاء ولكنها ملطخة بالوحل، إذ يبدو أنها وقعت في أرض موحلة بسبب جرعة زائدة من الخمر أو المخدرات، بدليل أنها كانت تترنح وهي تنظر إلي شزراً وغيظاً وكأنها تتوعدني.

     وحينما اخضرّت الإشارة مشيت بسرعة حتى أتلافاها، ولكنها أسرعت فأمسكت بي من عنقي، وأخذت تنادي البوليس. عندها أدركني رعب شديد وحياء أشد، وتخيلت نفسي وقد رآني بعض معارفي في مدريد فظنوا بي الظنون، أو أن البوليس جاء إلينا واصطحبنا إلى المخفر، وأخذ يسمع لها وهي تقول ما تشاء، وأنا لا أفهم ما تقول، ولا أستطيع إقناع المحقق ببراءتي لجهلي باللغة الإسبانية.

     وأسعفتني البديهة الفورية التي تغني الإنسان في بعض الأحوال، بحل عاجل لم يكن في حسبانه، فإذا بي أدفعها فتقع على الأرض، وإذا بي أعدو في الاتجاه المضاد والرعب والحياء يعدوان معي ويعدوان بي. كنت قد نسيت العدو لكنّ الموقف أمدني بطاقة مدّخرة كانت عوناً لي، فإذا بي أركض وكأنني أرنب مذعور، وما زلت كذلك حتى وصلت ناصية الشارع حيث تقف مجموعة من سيارات الأجرة، فركبت في أولها، وأقفلت الباب، وأعطيت العنوان للسائق الذي أوصلني إلى بيت الدكتور بهيج. وحين وصلت البيت أحسست بالأمان، وشكرت الله عز وجل شكراً عميقاً أن أنجاني من هذا المأزق المخجل، وهدأت، وصليت، وقرأت، وحين استأنفت المشي في اليوم التالي، كنت أكثر حذراً وانتباهاً، ثم إني رويت القصة بتفاصيلها لذويّ وأصدقائي، وما تزال هذه الواقعة ماثلة في ذهني تماماً، وما زالت صورة بطلتها في ذهني تماماً، وما زلت حتى الآن أتساءل لماذا فعلت بي هذه الحمقاء ما فعلت؟

الأكثر مشاهدة