الاثنين، 7 يونيو 2021

المدينة المنورة في أدب حيدر الغدير - أ.شمس الدين درمش

المدينة المنورة في أدب حيدر الغدير

أ.شمس الدين درمش

     للمدينة المنورة شأن كبير عند الشاعر حيدر الغدير، وهو مثل كل مسلم يكن لهذه المدينة الحب، ويشعر إليها بالشوق، ويمتاز عن غيره بقدرته على التعبير عن مشاعره المرهفة، وقد حدثنا بطرف من ذلك في مقاله الذي جعل عنوانه: (أربعون صلاة)[1]، فيقول: "أن يظل المسلم مشتاقاً إلى المدينة المنورة هو الفطرة السوية لدى كل مسلم مست قلبه جمرة الإيمان، وسكنت قلبه طيوف حسان من هذه المدينة الطاهرة، الملأى بالبهجة والأنس، العامرة بالذكريات الوضاء، الفاتحة ذراعيها دائماً لاستقبال زائرها بكل الحب والجود والصدق."

     ويعدد دواعي هذا الحب لدى المسلم فيقول: "هذه المدينة السخية السنية الودود هي مقر أول دولة قامت للإسلام في العالم وما الدول الأخرى التي تلتها إلا امتداد لها." ويعدد بعد ذلك من هذه الأسباب: المسجد النبوي الشريف،والقبر الشريف الطاهر، والبقيع حيث يرقد آل بيت النبوة والصحابة الكرام وعدد لا يحصيه إلا الله من الصالحين، وجبل أحد بكل ما يثيره في الذهن من معاني الفداء والبطولة التي شهدها خلال المعركة التي عرفت باسمه، وموقعة الأحزاب أو الخندق التي كانت إيذاناً بانتهاء عهد تغزو فيه قوى الكفر دولة الإسلام الوليدة، وغيرها من الأماكن والذكريات ظلت تعمل عملها في قلب الشاعر ونفسه حتى جاء ذلك اليوم من موسم الحج عام 1418هـ - 1998م، الذي تأججت فيه نار الشوق إلى طيبة الطيبة، خاصة أنه تذكر الهبة السخية التي تنتظر من استطاع أن يصلي في المسجد النبوي الشريف أربعين صلاة لا تفوته صلاة وهي براءة من النار، وبراءة من النفاق، ونجاة من العذاب[2]، فيقول:

     "وصلت إلى المدينة المنورة وقد غادرها الحجاج إلى مكة المكرمة، فكانت فرصة ثمينة أن أستمتع بحرمها الشريف دون أن أزاحم أحداً أو يزاحمني أحد، وهو ما أعانني على العبادة والتلاوة والدعاء والخلوة والمكث في الروضة الشريفة طويلاً، وزيارة القبر الشريف في هدوء ووقار يليقان بساكنه عليه أفضل الصلاة والسلام." ويحكي لنا الشاعر قصة إقامته هذه في المدينة المنورة فيقول:

     "يسّر الله تعالى لي غرفة طيبة في فندق قريب من الحرم الشريف فسررت بها كثيراً، ووضعت فيها متاعي القليل، وأخذت أرتب نفسي بحيث أفوز بالصلوات الأربعين دون انقطاع. رتبت أمور الطعام والشراب بحيث أحافظ على وضوئي فأذهب إلى الحرم الشريف وأنا هادئ مطمئن، فقللت مما أطعم، وقللت مما أشرب، وجعلت لذلك مواعيد منضبطة، ورتبت مواعيد النوم واليقظة بالاعتماد على إدارة الفندق في تنبيهي قبل الأذان بوقت كاف، وبالاعتماد على منبه كنت أضعه بجواري، وحرصت على ألا أبتعد عن الحرم لزيارة المشاهد أو قباء أو الأصدقاء إلا في الضحى أو بعد صلاة العشاء حيث في الوقت سعة، ثم إني توجهت إلى الله تعالى بقلب منكسر أن يعينني على الظفر بالصلوات الأربعين بعد أن أخذت بالأسباب".

     ولحرصه على عدم الانقطاع، وخشيته أن يقع ذلك منه سهواً أو نسياناً كان دائم القلق حتى إنه كان يتوهم أحياناً فوات الوقت، ويحدثنا عن ذلك قائلاً: "ولا أزال أذكر كيف كنت أستيقظ في الليل أحياناً عدة مرات متوهماً أن الوقت أزف، وأن إدارة الفندق نسيت أن توقظني، وأن المنبه قد خذلني. ولكن عون الله تعالى ظل يمدني بالقوة حتى ظفرت بالصلوات الأربعين".

     ويبلغ منه القلق ذروته في الصلاة الأخيرة التي وافقت صلاة العصر، فيقول: "ولعله من الطريف أن أذكر أنني خلال أدائي للصلاة الأخيرة، وكانت صلاة عصر ظل فيّ شعورا الفرحة والقلق معاً حتى إذا سلم الإمام وسلمت معه ذهب القلق واتسعت الفرحة فوجدتني أسجد لله تعالى سجدة شكر بكل كياني على وافر فضله وكريم هباته، ولقد كان لهذه السجدة من السرور والرضوان واليقين والسكينة ما جعلها حالة متفردة لا تكاد تنسى".

     وحيدر الغدير في حبه للمدينة النبوية يصل درجة من الاندماج بالطبيعة من حوله، فيشركها معه في مشاعره شأن الرومانسيين، ويصف لنا تلك اللحظات السامية من ساعة الوداع في لحظة مناجاة بينه وبين ربه فيقول: "حين عزمت على مغادرة المدينة المنورة في اليوم التالي للفوز بالصلوات الأربعين ذهبت إلى الحرم الشريف مودعاً، فصليت فيه ركعتين تحية له، ثم ذهبت إلى القبر الشريف فزرته وزرت قبر الصاحبين، ثم انتحيت مكاناً هادئاً في الحرم فدعوت الله تعالى أن يتقبل مني ما فعلت وأن ييسر لي العود، ثم العود بكرمه وفضله، ووقع في قلبي أنني قد ظفرت بالقبول."

     ويصور لنا إرهاصات هذا القبول من الطبيعة حوله، فيقول: "خرجت من الحرم الشريف سعيداً نشيطاً، فلفحت وجهي نسمات حارة ما لبث أن أعقبها تيار من الهواء يسوق الغيم بأمر ربه، وإذا بهذا الغيم يرسل مطراً خفيفاً يلطف الجو، ويغسل الطريق، ويبلل الملابس، وينعش النفس. ولقد زاد هذا المطر من سعادتي حيث وجدت فيه أمارة على الظفر بالقبول؛ فالمطر رحمة، والزمان شريف، والمكان شريف، والحال طيبة، عندها وجدت قلبي يهتف وهو عامر باليقين: إنها بشرى القبول، إنها بشرى القبول!!".

     وها هو ذا في ختام مقاله (أربعون صلاة) يعبر عن لحظات الوداع تلك فيقول:

     "فعليك السلام أيتها المنوَّرة المنوِّرة، وأعادني الله عز وجل إليك في أربعينات أخرى، وهيأ لي مثل ذلك في الحرم المكي الشريف وفي المسجد الأقصى بعد تحريره الذي لابد أن يأتي بإذن الله، وتقبل مني نيتي وعملي، وصحح مني سري وعلني، وأكرمني بحسن الخاتمة"[3].

     هل كان للمدينة المنورة أن تنال مكانتها في قلوب المسلمين بغير رسول الله صلى الله عليه وسلم!؟ سؤال لا يحتاج جوابا لبداهته، فلولا هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إليها، وكونها عاصمة الإسلام الأولى لكانت مدينة كسائر مدن العالم الأخرى، من هنا فإن أي حديث عن المدينة يستدعي بالضرورة الحديث عن ساكنها وساكنيها من الرسول وصحبه الكرام رضي الله عنهم، وآثارهم وذكرياتهم، وأثر ذلك في نفس الشاعر حيدر الغدير الذي آلمه أن يتعرض الرسول الأعظم لأذى الكفار والمشركين المعاصرين كما تعرض لأذاهم من قبل، وإذا كان حسان وكعب وابن رواحة وغيرهم من شعراء المدينة آنذاك دافعوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد انبرى شعراء المسلمين في مختلف البلاد الإسلامية يدافعون عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ويدفعون عنه أذى سفهاء الدانمارك[4] وغيرها، وشاعرنا حيدر الغدير من هؤلاء الشعراء الذين فدوا رسول الله بالنفيس والغالي، فلنستمع إليه يقول: من قصيدته أبا الزَّهراء[5]:

فداؤك قبل قافيتي الجَنانُ ... وقبل السيف روحي والبيانُ

     ويرى في الرسول النور الباقي مدى الدهر فيقول:

ستبقى النورَ ما بقي الزمانُ ... وما زان الرياضَ الأقحوانُ
وما طلعت على الآفاق شمسٌ ... وما صدح المؤذنُ والأذانُ

     أما شانئو الرسول فإنهم إلى زوال، ولن يبقى لهم ولظلامهم من أثر إذا طلع الصباح، فيقول:

وأما شــــانئوك فهم بغـــــــاثٌ ... وفريـــة أحمقٍ هانت وهـــانوا
ستــطويهم ضــلالتهم ليغــدوا ... نفايــــاتٍ يطــــاردهـا اللِّعـانُ
إذا طلع الصبــــاح فلن يراهم ... فهــــمْ وهمٌ تبـــــدد أو دخــانُ
وإن سأل الأنـــامُ الدهرَ عنهم ... أجاب شرذم كانوا فحانوا[6]

     ويخاطب الشاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم مكنيا إياه (أبا الزهراء) مضمنا قصيدته شطرا من بائية أحمد شوقي، ويرى نفسه أقل من يقوم بنصرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي لفتة تأخذنا إلى أعماق الشاعر وإحساسه نحو عظمة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتواضعه في ذات نفسه، وأن الوقوف في صف نصرته صلى الله عليه وسلم واجب بكل ما يمكن للمسلم القيام به، وهو يقتدي بذلك بسلفه الصالح من الأمة الإسلامية، فيقول:

(أبا الزهراء قد جاوزت قـدري)
               غداة دعتنيَ الحرب العَـــــــوانُ
لنصرك فانتضيتُ دمي وروحي
               وطرتُ أقول: لا عاش الجبـــانُ
وقبـــلي معشر كرُموا وجـــــلّوا
               هــم الخيــــل العِرابُ ولا حِرانُ
وأمتــــــك الولود وأفتــــــديهـــا
               يسيـــــــر بها إلى السبق الرهانُ
ومن كانت حميـــــتهم مَضــــاءً
               فزانتـــــهم وزانـــــــوها فكانـوا

     ويعود إلى نفسه مرة أخرى ليرى أن ما قدمه من كلمات في نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم هي دون ما يأمله، وأنى تبلغ كلماته مقام الرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا أصاب بها الأمُنْيَة فإن لآلئها هبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلولا جيشان قلبه وروحه بالمعاني السامية التي نبعت من معنى النبوة والرسالة المحمدية ما انتظمت تلك الكلمات الحسان في سلك القبول والاستحسان، يقول حيدر الغدير:

أبا الزهراء دونك كل قولٍ
               فلي عذري إذا عجز البيانُ
وإن حسُن القصيد فأنت مُهدٍ
               لآلئه وهن مُنىً حِسانُ
كتبتُ قصيدتي بدمي وروحي
               وكان القلب يملي لا اللسانُ
وكان مدادها غضبي وحبي
               ودمعي، والوفاء ليَ امتحانُ
وكنتُ بها معنَّىً مستهاماً
               شغوفاً وهي عني الترجمانُ
عساي أنا لها في الحشر ذخراً
               يكون ليَ الشفيعَ فلا أدانُ

     ويكشف الشاعر عن مادة قصيدته ومدادها التي صاغها منها فإذا هي: دمه وروحه وقلبه، وغضبه وحبه، ودمعه ووفاؤه، وشوقه وشغفه، وهو إذ يبذل وسعه فإنه ينظر من عالم الشهادة إلى عالم الغيب، يرجو بذلك شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في يوم هو أحوج ما يكون فيه إلى عمل صالح ذخر له في صحيفة أعماله.

     ومثل أربعين صلاة التي سبق الحديث عنها يزور الشاعر المدينة فيقيم فيها أياما همه الأول فيها ألا تفوته صلاة في المسجد النبوي يقول عن هذه الزيارة في تقديم قصيدته التي بعنوان (بقيت مُنْيَة)[7]: "أكرمني الله تعالى بعشرة أيام في المدينة المنورة، لم تفتني فيها صلاة واحدة في حرمها الشريف. إنها نعمة لا تقدر بثمن." ويترجم مشاعره وأحاسيسه الإيمانية وحبه العميق فيقول:

سكنت طيبة فؤادي فأضحى
               حيث ولّى بحبها مُسْتهاما
فهي فيه أشواقه زاهياتٍ
               يرتدين العفاف والإسلاما
جئتها ألبس الخشوع المصفّى
               مثلما يلبس الفتى الإحراما

     هذا الاندماج الروحي بين الشاعر وطيبة يشاركه الطبيعة حوله، فها هو الغمام يسكب غيثه قرى للشاعر، ويا له من قرى! فيقول:
جئتها للقِرى فكان قراها
               ديمةً بلّت الثرى والأُواما
أغرقتني بجودها جعلتني
               فرحة جابت المدى والغماما
فهي تسقي أكوابها تتوالى
               يتنافسن روعة وانتظاما
وخوان النبيل يبقى نبيلاً
               وعطايا الكرام تبقى كراما

     وكما يندمج الشاعر والطبيعة من حوله تندمج المعاني، فيكاد يختلط الأمر علينا بين القرى الحسي المادي، والقرى الروحي، فما هي تلك الأكواب التي تتوالى؟ وما ذلك الخوان الذي مده له النبيل الكريم!؟ إنه الإحساس بالشبع الروحي، والري الوجداني العميق، يقول:

أتراني أنسى لها ما حبتني
               وهو سَيْبٌ أفضاله تتنامى
لا وربي فـــإن فيّ وفاءً
               أُشْرِبته الضلوع جاماً فجاما

     وهذا منه شكر النبيل الكريم الذي أكرمه، وحباه بسيب أفضاله. ويبدو أن هذه الأيام العشرة هي التي صلى فيها أربعين صلاة في المسجد النبوي، وكتب عنها مقالته: أربعون صلاة في كتابه: "صلاة في الحمراء: التي أشرنا إليها في بداية هذا المقال.

     لكن الشاعر حيدر الغدير الذي زار المدينة مرة بعد أخرى، وأقام فيها مدة من الزمن بقي متعلقا بطيبة بأمُنْيَة أخيرة يرجو تحققها، ولعلها أمُنْيَة كثير من المؤمنين المحبين لطيبة لأجل من طابت به صلى الله عليه وسلم، إنه يتمنى أن تكون مقامه الدائم في رحلته الكبرى، أن يضم البقيع جسده، ملفعا بعفو الله سبحانه وتعالى، فيقول:

بقيت منية تجول بصدري
               أن يكون البقيع فيها مقاما
حينما أنطوي فيغدو ثراه
               شارةً للرضا ويغدو وساما
وأرى العفو سابغاً يتهادى
               والبشارات تسبق الإكراما

     أما إن فاتته هذه الأمُنْيَة الغالية الأخيرة، إذ لا تدري نفس ماذا تكسب غدا، ولا تدري نفس بأي أرض تموت! فإن عزاءه أن روحه ساكنه هناك في البقيع وإن غدا جسده رماما، فيقول:

وإذا فاتني البقيع فروحي
               في سناه وإن غدوت رِماما

     إن تلك الأمُنْيَة التي بقي الشاعر الغدير متعلقا بها، تجعلنا ننظر إليه رجلا قد شمر للرحيل فأسرج فرسه، وجمع شتاته، وهذا يبدو لنا في قصيدته الأخرى التي عنوانها: (جل المتاب)[8] فنجده يقدم لها بما يؤكد هذا الشعور لدى قارئ قصائده هذه، يقول: "أكرمتني المدينة المنورة وهي دار الهجرة، ومأرز الإيمان، وموئل الجود، ومثوى الرسول الأعظم e، فاستضافتني أياماً لا تنسى، اجتهدت فيها أن أفوز بتوبة نصوح، وعساي ظفرت!" ونقول معه: عساه ظفر، وعسانا ظفرنا بمثل ما ظفر به!

     ونجده في هذه القصيدة يعبر عن حبه للمدينة بطريقة جديدة، ففرحته فرحة طفل في العيد، وهو يتغنى بحبه لمدينة غناء يخرج بها عن المعتاد، فإذا كل ما حوله يتجاوب بغنائه وتغريده وإنشاده، فتزهر أغاريده مثل الربا، فيقول:

غنيت في حبها أحلى أناشيــــدي
               وأزهرت كالربـــا فيها أغاريدي
أتيــــتها خطوتي قلبي وباصرتي
               وفرحتي فرحة الأطفال في العيد

      وتشتد فرحته عندما يدخل الروضة الشريفة، فيرى جموع المتعبدين كل قد علم صلاته وتسبيحه، فتأخذه نشوة الشعور الإيماني، ويهتز وجداً وفرحاً فيعبر عن شدة فرحته بأسلوب التعجب من نفسه، فيقول واصفاً هذا المشهد الإيماني:


يا فرحتي حينما عاينت روضتها
               تختــال في بردة الإيمان والجود
النـــاس فيها من النعــماء كوكبة
               تدور ما بين تهليـــــل وتمجيـــد
وللتراتيــــــل أصـــــداء مطيبة
               كأنها بيـــــنهم مزمــــار داوود
وللأذان امتـــــــدادات منـــورة
               وديمة في الجبــــال الشم والبيد

     ويدخل الشاعر حيدر الغدير بين جموع المؤمنين المبتهلين إلى الله الغفور الرحيم في الروضة الشريفة، ويقبل على ربه راجياً أن يقبله ويتوب عليه، ويتملكه الإحساس بالقرب والقبول من الرضا النفسي، والسمو الروحي، والطمأنينة الإيمانية، فيصف لنا بعض ما استطاع وصفه منها فيقول:

جل المتـــــــاب وجل الله قــــــــابله
               وجل منه عطـــــاء غير محـــــدود
أبدلت بالخوف أمنــاً والأسى فرحاً
               والعسر يسراً إذ الرحمن مقصودي
جعــــلته غــــايتي أسعى لها كـلفـاً
               فعـــــدت منه برضوان وتســــديد
حتى الخطايــــا التي ناءت بكلكلها
               عليّ مثــــل أفـــــــاع فوق مزؤود
غدون بالعفـــــو إحســـاناً وتكرمة
               فهن أوسمة للفـــــوز في جيــــدي

     إنها لحظات إيمانية ترتسم في أقدس بقعة على الأرض في قلب المسجد النبوي في الروضة الشريفة التي هي روضة من رياض الجنة.

     ولكن حيدر الغدير وقد انتهت مدة زيارته إلى المدينة يغادرها بجسمه ويترك فيها روحه ومشاعره وأحاسيسه ويعبر عن ذلك في مقدمة قصيدته: (حان الوداع)[9] فيقول: "أمضيت في طيبة أياماً كأنها الجنة، ثم ودعتها وأنا ظامئ." فكيف يودع الجنة من دخلها!؟ فيقول مصوراً لحظة الورود أولاً:

أتيــــتُ طيبةَ مثل الطائر الغـــــرِد
               أرجو البراءة من إثمي ومن كمدي
وأغســـل العمر مما شـــان رحلته
               من حمأة السوء أو من صولة اللدد
أومتْ إليّ فأغرتني فطرتُ لهـــــا
               على جنــاحين من توق ومن رشـد
عُلِّقتُها فغــــــدوتُ المرءَ ذا ظفـــر
               لمّـــــا رآها تمنّى فارتقى فَهُــــدِي

     هذا الشاعر الذي أتى طيبة طائراً غرداً، راجياً البراءة والطهارة والعفو من الله سبحانه، وجد فيه بغيته، أو جل بغيته، فتعلق بها تعلق الظافر بما أراد، وحق له ذلك! فقد أقام كما قال عشرة أيام حافلة بكل ما يستمتع به المؤمن العابد المتبتل من الطمأنينة بذكر الله من صلاة ودعاء وقراءة قرآن، وتفكر وتدبر، ثم حان الوداع، حان وقت الخروج من هذا الجنة الروحية، فكيف خرج حيدر الغدير، وماذا قال في لحظة الوداع!؟

حان الوداع فكنت المرءَ تسكنه
               بلابل الحزن من دانٍ ومبتـــعد
يلمنني قائـــــلاتٍ فِيمَ تتـــركها
               وطيبةُ المــاءُ سيّالاً وأنت صَد
وأنت كالطير كان المـاءُ بغيتَه
               حتى إذا جــاءه عجلانَ لم يَرد
أطلْ بطيبةَ مكثــــاً فهي حانية
               والعمر يلهث بين السعد والنكد
وقد تعــود، وقدْ لا، والدنا سفر
               سمعتهن ففتّ القولُ في عضدي

     فقد دخل في صراع مع نفسه، بين إقدام وإحجام، يوازن فيهما بين الربح والخسارة، فقد كان يبحث عن هذه السعادة فوجدها، فكيف يتركها؟ وخصوصاً أن ما مضى من العمر أكثر مما بقي، ثم إنه قد يعود مرة أخرى، وقد لا يستطيع، وخيم عليه الحزن العميق في لحظة الفراق، يغالب عينه أن تسكب أمام الصحب ما يكشف سره، فيستعصم بحبل الصبر، ولو بكى لم يلمه أحد، فيقول واصفاً حالته في تلك اللحظات:

أطرقت في خجــــلٍ مفضٍ إلى وجل
               وكدت أبكي، ولمْ، فالصبْر لي سندي
وللمـــــدامع أســــــــواط ورب فتىً
               جَــــــلْدٍ ويبكي وإن عــانى ولم يُرد
وربما ابتســـم المحــزون وهو شَجٍ
               وربما انهـــل دمع الفـــارس الحرد

     وعاش لحظات من التناقض بين الظاهر المبتسم، والباطن الذي يتأجج بنار الحزن ولوعة الفراق لأحب مكان، يسكن فيه أحب الناس طرًّا إليه، على أمل العودة، فيخاطب طيبة خطاب الراجي الآمل، ويأخذ منه الجواب أن من صدق النية تحققت له الأمُنْيَة، يقول:

يا طيــبة الخير هل لي العَوْدُ ثانيةً
               قالت - وصدّقتها - كن صادقاً تَعُد

     أما قصيدته (وساد)[10] فهي رجع صدى لقصيدته (بقيت مُنْيَة) التي عبر فيها أنه وقد حقق كل أو جل ما كان يأمله من زيارة المدينة المنورة، فإنه يتمنى أن يكون موته فيها، وهي أمُنْيَة مشروعة للمؤمن، وعنوان قصيدته (وساد) يشي بمجرد قراءته في هذا السياق: المدينة المنورة، وطيبة، وتوبة، والبقيع، أنه يرمي إلى تلك الأمُنْيَة التي بقيت..! يقول في مقدمة القصيدة: "زرت البقيع مرات لا أحصيها، لكن هذه القصيدة جاءت في الرياض، والبقيع بعيد مني مكاناً، قريب شعوراً."

     وبتصريح الشاعر أن القصيدة قيلت في الرياض بعد رجوعه من تلك الرحلة الموفقة المليئة بالهبات والعطايا الربانية الروحية في أعماقه، بهذا التصريح يؤكد ما قلته أنها رجع الصدى لقصيدة (بقيت مُنْيَة)، وما قاله في المقطع الأخير من قصيدته (حان الوداع) من تعلقه الشديد بطيبة، وعزمه على العودة، فلنستمع إليه وهو يحاور ثرى البقيع في عالمه الروحي الإيماني:

سألتُ ثــرى البقيع وقد أتينا
               حماه وهَـشَّ في صمتٍ إلينا
نسيــــرُ إليه خاشعـةً خطانا
               كأنــا للمســـــــاجد قد أوينا
وقد طابتْ مرابعـه اللواتي
               هي الأم التي تحنـــو علينا
نحـــدّثها فتفهمنـا ونصغي
               لهـــا فتبوح إيماء وعيـــنا
وما فاهت وما فهنـا بشيء
               ولكنــــا فهمنــــا وارتوينا

     إذا كان الشاعر الغدير وثرى البقيع قد فهم كل منهما ما قاله الآخر إيماءً وعيناً، من دون أن ينبس أحدهما بكلمة، فهل يا ترى فهمنا نحن من هذين الحكيمين ما أرادا، وهل استطعنا مشاركتهما في مشاعرهما؟ أغلب الظن أنْ نعم! لقد طلب الشاعر من ثرى البقيع موضعاً يكون وسادة لرأسه في مستقره الأخير في هذه الحياة! وأجاب ثرى البقيع أنه لا ما نع لديه في استقبال محب مثله، غير أن الأمر فيه ليس إليه، فما تدري نفس بأي أرض تموت!.

     ولنستمع إلى ما قاله الشاعر لنعرف أننا لم نبعد الفهم عنهما، يقول معبراً على لسان ثرى البقيع:

لقـد سكنتْ كرامُ الخــلق عندي
               ومَنْ مثـــل الصحابة قلْ وأينـا
تبـــارتْ في مودتهم رحـــابي
               وقـد أبصرنهـا شرفـاً ودَيْنــــا
ترابي المسك بل أعلى وأغلى
               يقـــول الساكنــون به اكتفينــا
فقبّـــــله وأسكنـــــه المــــآقي
               ودع ليلى الحصان ودع بثيـنا
ترابي فـــــاتحٌ عفٌ وتــــــالٍ
               ومَنْ أنجبــــن سعداً والحسينا
أنا الأرض الطهور فكن حفيًّا
               إذا ما جئـــتها وامش الهوينى
لقــــد أهدى المكـارم لي نبيٌ
               سحــائبَ ما ونين وما انتهينا

     فقال الشاعر مجيباً:

فقلت له وعمري في انقضاء
               وقد أبصرتُ بي وهنــاً وأينا
غداً آتيك هبْ لي فيــك ركناً
               فـــإن لنا وإن لم نرض حَيْنا

     أما ثرى البقيع:

فقال بلغتَ سؤلك يا صديقي
               تخيّـــرْ ما تشاء إذا التقيــــنا

     ويبلغ الشاعر في قصيدته هذه ذروة الحميمية مع تلك الأمُنْيَة التي يهرب منها كثير من الناس، ويقلقون من لحظات استقبالها وحلولها، بينما نرى في هذا الموقف الشاعر حيدر الغدير يحاور صديقاً عزيزاً محبوباً لديه، يتخاطب بالإشارة تارةً وبالعبارة أخرى، وينصرف وقد أخذ وعداً أن ينال موضعاً يتوسده في نومته الطويلة! فهل يا ترى إذا تجرأنا وطلبنا إليه أن يشفع لنا عند صديقه بأن يعطينا وعداً مثل الذي أعطاه إياه، هل يفعل!؟

     ونقف مع أنشودته عن طيبة بعنوان: (يا شذا طيبة)[11]، والتي قدم لها قائلاً: "إذا جئت طيبة حيّاك شذاها، وهو سكينة راضية، وأفراح من نور، وصفاء ممتد، ولا غرابة! ففيها سيد البشر، وكرام الصحابة، ومعالم التاريخ المجيد."

     ويتغنى فيها بطيبة ومعالمها ومآثرها، في ثماني مقاطع يتألف كل مقطع من خمسة أشطر، يقول في مطلعها:

يا شــــذا طيبة يا أغلى شــــــــذا ... حبــــذا ريّـــــــاك فينـــــا حبــذا
أنت للمســـــــلم نعــــــــــماه إذا ... جاء يرجو الرفد أو يشكو الأذى
والأمــاني موعـــــــد في ذا وذا

     ويذكر بعض الأماكن المشهورة في المدينة فيقول:

فيــــك سلع عز جـاراً والعقيقْ ... بين شطيــــه صـديق وصديقْ
يغنـمان الأنس والأنس رحيق ... وَهْو بالخــــلوة والطهر خليق
وهو للأسرار كالبحـر العميق

     ويختم أنشودته بالإشارة إلى ما سبق أن عبر عنه من أمُنْيَة فيقول:

يا شذا طيبة إن جئـت الحمى ... طالباً منه ومنــــك المغنـــما
أجزلا لي الرفـــد يأتيني كما ... يفعل الأجواد كي أحظى بما
عشت أرجوه مشوقاً مسـلما

     وفي رأيي أن لدى الشاعر سببين يدعوانه للإلحاح في بلوغ أمنيته أن يوسد في ثرى البقيع، الأول - كما قال هو- أن كل مسلم لديه هذا الحب للمدينة، وهذه الرغبة في أن يموت ويدفن في البقيع، وهذه عقيدة لدى المسلمين عامة وخاصة، وإن كانوا يعلمون أن هذا لن يتحقق لكل أحد، لكن هذا العلم لا يمنع الدعاء بذلك وطلبه.

     والثاني خاص إذ رأى الشاعر عدداً من أحبابه وأصدقائه وأحبابه يدفنون في البقيع من دون أن يسبق ذلك إرهاصات، أو إصرار وسعي منهم، ومن هؤلاء الشاعر الكبير عمر بهاء الدين الأميري الذي ولد في حلب، وعاش في بلاد متباعدة من جدة في السعودية، إلى كراتشي في باكستان، إلى الرباط وشاطئ الهرهورة في المغرب، إلى تنويمه في المستشفى بالرياض، ثم إذا به يدفن في البقيع حيث يتمنى شاعرنا موضعاً لوساده!! وهو قريب من الأميري، ولا أشك أن مثل هذا الحدث قد عمل عمله في نفسه فبات يلح على تحقق هذه الأمُنْيَة.

     وقد سجل وفاة الأميري ودفنه في البقيع في قصيدة الرثاء التي حملت عنوانا دالا لما نحن فيه من البحث عن عوامل تأجج هذه الرغبة لديه، وهو (نم في البقيع)[12]، ويقول فيها مخاطباً الشاعر عمر بهاء الدين الأميري

أأبا البراء وأنت رائد عصبـــة
               وحداء قــــــافلة تغذّ وتعنـــــق
سارت على حد السيوف كتائباً
               للحق ترنو والأصــــالة تعشق
نم في جوار الأكرمين يحفــهم
               ويحفك الرضوان والإستبـرق

     فقوله: (نم في جوار الأكرمين..) يبين لنا نظرة الشاعر إلى هذه البقعة المباركة، وهي ترشحه أن يغبط أستاذه وحبيبه في هذه النومة بجانب الأكرمين محفوفاً بالرضوان والإستبرق إن شاء الله.

     ويصرح باسم البقيع في آخر القصيدة قائلاً في معنى البيت السابق نفسه:

نم في البقيع جوار جدك هانئاً
               وإزاءك الأبــــرار فيه تحلقوا

     ولو نظرنا إلى تواريخ هذه القصائد لوجدنا دلالة أكبر لصحة هذا الرأي، فإن قصيدة (نم في البقيع) في رثاء عمر الأميري، قالها في عام 1412هـ/ 1992م، وبعدها حديثه عن أربعين صلاة في عام 1418هـ/ 1998م، وتأتي قصيدة (بقيت مُنْيَة) في 18/ 10/ 1423هـ، الموافق 22/ 12/ 2002م، وبعدها بشهر كتب قصيدته (جل المتاب) في 19/ 11/ 1423هـ، الموافق 22/ 1/ 2003م، وتأتي قصيدة (حان الوداع) في 6/ 5/ 1425هـ، الموافق 20/ 9/ 2004م، وبعدها بسبعة أشهر تقريباً كتب قصيدته (وساد) في 13/ 1/ 1426هـ، الموافق 23/ 2/ 2005م، ويكتب بعد خمسة أشهر تقريباً أنشودته (يا شذا طيبة) في 20/ 6/ 1426هـ، الموافق 26/ 7/ 2005م، وبعد ستة أشهر أخرى أيضا كتب قصيدته (أبا الزهراء) في الدفاع والمنافحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

     ويتأكد لي من هذا التتبع الرأيُ الذي ذهبت إليه في تأثره بدفن الشاعر عمر بهاء الدين الأميري في ثرى البقيع في المدينة، فكان إذا زار المدينة تحرك لديه هذا الشعور الخاص المبني على اللهفة لدى كل مسلم في أن يكون بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحبه والصالحين من ساكني (جنة البقيع) كما هو شائع في كثير من بلاد المسلمين، ونلاحظ تقارب الإحساس بهذا الشعور، وارتفاع وتيرة التعبير عنها نثراً وشعراً بشكل مطّرد لتأخذ في المرحلة الأخيرة قصيدة كل ستة أشهر، وأحيانا كل شهر! ولا شك أن عامل تقدم السن له تأثيره في هذا الاتجاه أيضاً.

     ويبقى لدي السؤال: لماذا لم يكتب حيدر الغدير قصائد في مدة إقامته بالمدينة المنورة؟ ولماذا غابت كثير من المعالم المهمة عن شعره رغم هذا الارتباط الروحي العميق، وهذه المعايشة النفسية إلى درجة التماهي!؟

     أحد وما فيه وما حوله وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم عن أحد: "هذا جبل يحبنا ونحبه"[13]؛ ألا يستحق قصيدة؟

     قباء وذكرياته وزيارة الرسول إياه راكباً وماشياً[14] ألا يستحق قصيدة؟

     مسجد القبلتين ودلالته في ارتباط المسجد الأقصى بالمسجد الحرام، وأثر ذلك في حياتنا المعاصرة؛ ألا يستحق قصيدة؟

     سلع المعلم الذي لا يغيب عن قصيدة من قصائد المديح القديمة وارتباطه بالخندق؛ ألا يستحق قصيدة؟

إن في المدينة المنورة ذكرياتٍ كثيرةً مثيرةً لمشاعر المسلم وأشواقه وحنينه، فما بالك بشاعر مرهف الإحساس، دقيق الرصد، لما يعتلج في فؤاده من الحب العميق للرسول صلى الله عليه وصحبه من المهاجرين والأنصار ولطيبة التي طابت بهم[15]!؟

------------------------------------

[1] كتاب صلاة في الحمراء، ص 62، حيدر الغدير، نشر مكتبة التوبة، ط1، الرياض، 1432هـ -2011م.
[2] قال صلى الله عليه وسلم: "من صلى في مسجدي هذا أربعين صلاة لا تفوته صلاة، كتبت له براءة من النار ونجاة من العذاب وبرئ من النفاق". رواه الإمام أحمد في مسنده.
[3] كتاب صلاة في الحمراء، مقال: أربعون صلاة، ص66.
[4] الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم: هي رسوم قامت صحيفة يولاندس بوستن الدانماركية بنشرها في 30 سبتمبر 2005 ، حيث نشرت 12 صورة كاريكاتيرية، وفي 10 يناير 2006 قامت الصحيفة النرويجية Magazinet، والصحيفة الألمانية دي فيلت، والصحيفة الفرنسية France Soir ، وصحف أخرى في أوروبا بإعادة نشر تلك الصور الكاريكاتيرية. واستنكر العالم الإسلامي ذلك، ومنهم شاعرنا. انظر:. https://ar.wikipedia.org/wiki/
[5] ديوان من يطفئ الشمس؟ ص159. حيدر الغدير، ط1، دار المؤيد، الرياض، 1427ه-2006م.
[6] هلكوا.
[7] ديوان من يطفئ الشمس؟ ص 103.
[8] ديوان من يطفئ الشمس؟ ص110.
[9] ديوان من يطفئ الشمس؟ ص137.
[10] ديوان من يطفئ الشمس؟ ص 145.
[11] ديوان غداً نأتيك يا أقصى، ص160، حيدر الغدير، ط1، مكتبة البستان، عمّان، 1427ه-2007م.
[12] ديوان غداً نأتيك يا أقصى، ص19.
[13] صحيح البخاري رقم الحديث (3855)، باب أحد يحبنا ونحبه، والحديث عن أنسٍ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هذا جبل يحبنا ونحبه".
[14] في صحيح البخاري أن ابن عمر رضي الله عنهما: ... كان يأتيه كل سبت، فإذا دخل المسجد كره أن يخرج منه حتى يصلي فيه، قال: وكان يحدث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزوره راكبا وماشياً.
[15] نشرت في مجلة الأدب الإسلامي، ص (44)، العدد (80) خاص بالمدينة المنورة، المجلد (20)، مجلة فصلية، ذو الحجة 1434-صفر 1435ه، الموافق تشرين الأول-كانون الأول 2013م.

مكة المكرمة في شعر حيدر الغدير - أ.شمس الدين درمش

مكة المكرمة في شعر حيدر الغدير

أ.شمس الدين درمش

     تعد مكة المكرمة المدينة المقدسة الأولى لدى المسلمين، لكونها تحتضن البيت الحرام [أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا]. والكعبة المشرفة قبلة المسلمين التي رضيها الله سبحانه لهم، قال تعالى: [قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام] الآية. لذلك من الطبيعي أن يصوغ شاعر مسلم مرهف الحس مشاعره الإيمانية شعرا متلألئا يعبر فيه عن حبه لهذه المدينة المقدسة التي يتوجه نحوها بصلواته في فرائضها، وسننها ونوافلها التي يتقرب بها إلى الله سبحانه، ثم هو يحج ويعتمر إليها، وإن لم يستطع فقلبه متعلق بذلك مادام حيا.

     ففي (ص 114، من ديوان غدا نأتيك يا أقصى) نجد قصيدة بعنوان: حللت على نعماك يقول فيها مقدما بكلمة نثرية: " إلى أكرم المدائن وأجلها، مكة المكرمة، حرسها الله." ويبدأ القصيدة معبرا عن استجابته للدعوة المباركة التي انطلقت من إبراهيم عليه السلام بأمر الله سبحانه في عالم الغيب، إذ أذن في الناس بالحج، فإذا هم يأتون رجالا وركبانا وعلى كل ضامر من كل فج عميق، ولكن لشاعرنا مطية مختلفة عن مطايا الناس، فهو يمتطي آماله، وركائبه هذه أمضى من ركائب القوافل، فيقول:

أتيـــتك آمــالي إليـــك ركـــائبي
               وهنّ -وقيت السوء- أمضى نجائبي
رحلن بقلبي والسُــرى ما ألفنه
               بلوعة مشتاق وعــزم محارب
وما كنت وحدي فالأنـام قوافل
               إليــك توالى عَبْرَ أَفْيَــحَ لاحب
مشى فيه جيل إثر جيل وأسمعت
               أنــاشيدهم فيـــه قصي الكواكب

     وهذه في الحقيقة رحلة الروح، التي تسبق رحلة الجسد، وتصاحبه، فآماله رحلت بقلبه بلوعة المشتاق، وعزم المحارب، وليس هو بدعا في هذه الرحلة، بل الأنام تسير عبر الأمكنة والأزمنة قوافل تتوالى ولا تتوانى، جيلا بعد جيل، وأناشيدهم التي تحدوهم (لبيك اللهم لبيك) تبلغ قصي الكواكب مرتفعة إلى السماء.

     فالشاعر في هذا المطلع يضع نفسه في سياق مواكب الحجيج منذ ذلك النداء المبارك، فيقول:

مشى فيه إبراهيم والناس بعده
               غداة دعاهم تائبــــاً إثر تائب
وسار عليه سيد الخـلق أحمد
               فجلّ بنور منه أزهر ثـــاقب

     ونجد في هذه الأبيات استمرارية الزمان من الماضي، إلى الحاضر، إلى المستقبل، فقد بدأ بإبراهيم عليه السلام باني البيت الحرام، والداعي الأول إليه، حتى وصل إلى سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، فجدد معالم دعوة إبراهيم، ثم ها هو ذا شاعرنا ينضم إلى مواكب المؤمنين المستجيبين لله ولرسوله، ويؤكد بقاء تلك الدعوة:

وباقٍ ويبقى والزمان امتداده
               على بيض أيام وسود نوائب

     ويمتلئ الشاعر بمشاعر الأمن الذي وعد به الله سبحانه لمن زار بيته الكريم، إذ جعله مثابة للناس وأمنا، فيعبر عن هذا الاطمئنان بالهدى والأمن والسعد والشذا:

وكان الهدى والسعد والأمن والشذا
               تــزاحم فيه طيبات المنـــاقب

     ويزيد من سعادته واطمئنانه الرفقة المباركة حوله، حيث الأخوة الإيمانية التي تشعر المؤمن بشعور الجسد الواحد، فالورى رفاقه وأهله، والخطوات بريئة خالية من الريبة، فما أطيبها من رحلة! وما أعظمها من آمال وأمنيات!:

مشيت عليه يا لسعدي أرى الورى
               رفـــاقي وأهلي بين غادٍ وآيب
وأما الخطا فَهْيَ البراءة والتقى
               وأما المنى فالعفو من خير واهب
فيا طيبه دربـــاً ويا طيبها خطا
               ويا طيب آمال سرت ومواكب

     وينتقل بنا حيدر الغدير إلى مشهد بصري سمعي، فيصور الحجيج وهم في ملابس الإحرام البيضاء، وترتفع أصواتهم ملبين لربهم، راجين فضله ورحمته، تغمرهم مشاعر الفرحة إذ بلغوا هذا الموقف العظيم، كالظمآن الذي يبلغ الماء فيروى! وباتت آمالهم قريبة المنال، ولم لا.. وهم يدعون رحمانا رحيما كريما غنيا لا يرد سائله!؟

يلبّـــون، يدعون الكريم، أهلةً
               بإصرار محرومٍ ودأب مواظب
وفرحة ظمآن رأى الماء جارياً
               فراتاً يناديه قريب المشارب
وأردية بيضاء سوّت حشودهم
               فكانوا سواء من سعيد وناصب
مواكب شتىّ شائقات جوائب
               على إثر أخرى شائقات جوائب
تكبِّر للرحمن ترجو نواله
               وآمالها في كفّها والمناكب

     فمن هنا ندرك مدى الحب الذي يكنه قلب الشاعر لمكة المكرمة، وشدة شوقه إليها، فذكرها لا يفارقه في ليل أو نهار، وهي قد سكنت كل موضع من جسمه: عينه وحشاه وكفه وترائبه، فهي جليسه مع الجلساء، بل أكثر من ذلك هي فوق أهله الذين يغيب عنهم، وهي معه مصاحبة له، فيقول:

وأنت ويدري الله في العين والحشا
               وفي كفِّيَ اليمنى وفوق ترائبي
وخِدْنيَ إذ أخلو وخدنيَ،إن أكن
               جليس صحابي من بشوش وقاطب
أغيب عن الأهلين والدار والحمى
               وحبــــك يا حسناء ليس بغائب
يلازمني إما توجهـــت مَشْرقاً
               وإن أنا ألقيت العصا في المغارب
وأكرمْ به خلاًّ صفياً ومورداً
               هنيئاً مريئاً لم يكدَّر بشــــائب

     وإنصافا لنفسه وللآخرين من إخوانه المؤمنين يعترف الشاعر أنه ليس المحب الوحيد، وليس المشوق الذي لا ثاني له، بل هاهم أولاء كل الناس المؤمنين يهفون إلى مكة من كل وجهة استجابة للدعوة المباركة التي أمر الله سبحانه بها:

فيهفو إليه الناس من كل وجهة
               وتحيا به حتى قفار الأجادب
وأهفو مع الهافين تعدو بنا المنى
               بهم فرحة تمتـــد آفاقها وبي
أهيم به حباً وأشتــــار شهده
               وما من حسود أتقيه وحاجب
فأرنو لها حباً وأهتـــز بهجة
               وأقسم أني ظافر غير خائب

     فمكة بلد الأمن والسلام، والرحمة والعفو والغفران، والخيرات والبركات، وخيرها في ازدياد لا ينضب، فهي كريمة سخية لضيوفها بكل ما يؤملون، ويتمنون. وليس ذلك بعجب، لأنه عطاء الله الكريم الجواد:

ولا عجب فالله جــــل جلاله
               يجود عليه بالغيوث السواكب
فيحلو ويسخو والحِداقُ نواظر
               وقد طرفت من سيبه المتراكب
ولله إحســـان يليق بجـــوده
               وليس بذي منٍّ وليس بناضب

     ومن هنا عد الشاعر نفسه ضيفا عزيزا على مكة، فاقترى من خيرات أم القرى المادية والمعنوية، فارتوت روحه مثلما شبع جسمه، فيثني عليها شأن الشعراء الذين يمدحون مكرميهم، وليس أكرم من بلدة جعلها الله سبحانه أم القرى، وجعل فيها بيته العتيق، بناه خليله إبراهيم وابنه إسماعيل، وجدد معالمه أكرم رسله وسيد خلقه محمد صلى الله عليهم وسلم، فيقول:

حللتُ على نعماك طيفاً معزّزاً
               يسابقني شوقي وتعدو رغائبي
فكنتِ التي لم ألق والله مثــلها
               وكنت الشذا في جبهتي وذوائبي
ترابك لا المسك المصفى ولا الندى
               ولا دل مخضوب ولا صبغ خاضب

     فمن هذا الشوق العارم الذي يدفعه، يجد تراب مكة أعلى وأغلى من المسك المصفى، ومن الندى المنعش في نسائم الصباح، ولا يدانيه ولا يقاربه دلال فتاة مخضوب، ولا صبغة خاضب! وهو هنا يجمع نعائم مادية ومعنوية، ويفضل تراب مكة عليها جميعا، ويبني على ذلك كله حبه وشوقه العميقين لمكة، ومقدار الفرحة التي تسكنه، والأنس الذي يملأ جوانحه فيقول:

وأشواق روحي حين آتيك فرحة
               ترش عليّ الصفو رش السحائب
وتملؤُني أنساً وتملؤُني رضا
               فتورق أحلامي وتدنو مطالبي

     ونرى نتائج ذلك عليه في سجود روحه وجسمه شكرا، ودموع الفرح التي تنهل في جوانحه قبل عينيه، فيقول:

وتسجد روحي قبل جسمي وجبهتي
               وتخضرّ أيامي وتحلو مضاربي
وينهلّ دمع الشكر بين جوانحي
               وفي مهجتي من قبل كفي وغاربي

     ويختم قصيدته (حللت على نعماك) بنظرة إيمانية مستقبلية بأن أم القرى ستبقى كما أرادها الله سبحانه مثابة للناس وأمنا، مهما دالت الدول والحضارات، وتحولت الأحوال وتبدلت، شامخة الذرى، حصنا للإسلام، فيقول:

ستبقين يا أم القرى الأمن للورى
               ونورَ هداهمْ بين داجي الغياهب
تزول حضارات وتفنى مبادئ
               ويهلك طاغ إثر عاد وغاصب
وتبقين بعد الكل شامخة الذرا
               يفيء إليك الناس من كل جانب
وتبقين للإسلام دوماً حصونه
               مدى الدهر ما حنّ اليراع لكاتب

     وأن أمة الإسلام تفديها بكل ما تملك حفاظا عليها، فيقول:

أيا مكتي تحميك ما عشت أمتي
               بأرواحها قبــــل القنا والكتائب

     ونعيش مع الشاعر في قصيدة أخرى بعنوان (في الحرم المكي، ص 135، من ديوان سنأتيك يا أقصى) جوا آخر، في روحانية محلقة، إذ تتمتع هذه القصيدة بخصوصية العنوان أولا، وبالجو النفسي الذي كان يكتنف الشاعر إذ ذاك من خلال عتبة النص النثري الذي جعله بين يدي القصيدة، فيقول: "مرتبة الصّديقين مرتبة عزيزة لا ينالها إلا ذوو العزم من المؤمنين، رجوتها فوجدت نفسي دونها فحزنت، ثم تذكرت أن رحمة الله الواسعة فتحت بابها لأصحاب الرخص والمقتصدين، ليصلوا إليها، وذلك من خلال ((الصدق))، فعزمت على التحلي به، وعساي فعلت."

     إذن الشاعر يبحث عن السمو الروحي، ويطمح إلى مرتبة عليا تتقطع دونها الأعناق، وتهلك المطي، وتتيه القوافل في البيداء! ولكنها كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم لمعاذ إذ سأله: "لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير لمن يسر الله له". وحيدر الغدير يستشعر هذا، وما يتمناه ليس أمنية العاجز الذي يتبع النفس هواها ويتمنى على الله الأماني! لذلك يعترف أنه دونها، ويحزن! ولكن الشيطان لا يستحوذ عليه فيدفعه إلى اليأس، فيتذكر رحمة الله الواسعة، فتبطل نزغة الشيطان، ويعيش في عالم الرجاء المتحقق بإذن الله تعالى، وعساه وعسانا..!

     وقبل أن ندخل مع الشاعر في عالم قصيدته في الحرم المكي نقف عند بيت من القصيدة السابقة (حللت على نعماك) حيث يقول:

وصلَّيت ما بين الحطيم وزمزم
               صلاة منيب من خطاياه هارب

     هذه الصلاة أظنها ركعتي الطواف التي يصليهما الطائف خلف المقام، أو حيث تتيسر له، وأظن أن الشاعر احتاج إلى الراحة قليلا فاتخذ ركنا من المسجد الحرام، وأسند ظهره ورأسه على جدار المسجد فأخذته سنة من النوم، فرأى ما يحكيه لنا في هذه القصيدة، يقول حيدر الغدير:

وفي خلوةٍ حسناءَ في الحرم المكي
               ألذَّ من النعمى وأزكى من المسكِ
أتانيَ طيفٌ وجهه الطيب والسنا 
               وإشراق ذي تقوى وإغضاء ذي نسك
صموتٌ وأسرار البلاغة صمته 
               وفيه بيان الأفصحيــن إذا يحكي
بشوشٌ كأن الحبَ محضُ فؤاده 
               جوادٌ كما يهمي الغمام على الأيك 
وكفّاه ما يرجو اللحوح من القرى
               وأجود ما كانا لدى العسر والضنك

     وكان لابد من الشاعر أن يهب لاستقبال ضيفه الذي بدا عليه كل مخايل الشرف والمروءة من التقوى والبشاشة والجود والفصاحة، فيحدثنا عما حصل قائلا:

هششتُ فحيّا وابتــدرتُ فراقني 
               لقائيه حتى شِئْتُهُ غَيْــــرَ منفــك 
رأيت الصفا والدفء فيه ونيــــةً 
               هي الخير في الإقدام واللبث والترك
توالى عليه الفـــضل أوسمةً له
               مطهرة الأردان مصقولة السبك

     وإذ زادنا الشاعر بأوصاف أخرى لضيفه، أشعرنا بالاطمئنان أيضا كما اطمأن هو لهذا الزائر، فابتدره بالكلام، وجرى بينهما الحديث:

وساءلته: من أنت؟ إنك رعتــني
               بما شاقني من معجب مطـرب مُذْك
فقال: أنا الصدق الذي عِشْتَ تشتهي
               محاسنَه وَهْيَ اللآلئُ في الســـلك
وأستغفر الرحمن بل هو فوقهــا 
               وفوق مدى الإدراك والظن والشك
به يبــلغ الإنسانُ فوق رغــــابه
               وهنّ العوالي في المعاني وفي السَمْك
وفيه جلالٌ زانه الحســـن والهدى
               وفيه نجاة المرء في اليسر والهُلْك

     وهنا علمنا أن الزائر القادم على الشاعر في الحرم المكي، وهو في خلوته تلك هو (الصدق)! ولم يدع الصدق الشاعر في حيرة من أمره، بل عرف نفسه تعريفا وافيا، وأفصح عن مزاياه العديدة، والتي تتلخص نتائجها في قول الزائر الصادق:

أنا الصدق كُنْهُ تبلغِ القــــمةَ التي
               بلغتُ وزكّ النفس من شَوْبِها زك
فإن أنت تفعلْ زِدْتَ فضلاً وهيبةً
               وإلاّ رماك العجز في أسفل الدرك

     وإذ كان الشاعر يبحث بلوغ تلك القمة فقد سأله بمزيد من اللهفة:

وقلت له: زدني رأيتك نـاصحاً
               وأنت أخو نبل وذو نخوة يُشْكي 

     فقال له مجيبا:

فقال:اعتصم بالصدق فالصدق رُقْية
               وأنجى وِقاء من أذاةِ ومن سفــــك 
تشـــبثْ به تبــــلغْ منـاك دوانيـــاً
               وغاب كما قد جاء في الحرم المكي

     وهنا ينقطع حديث الصدق الصادق الناصح، ويغيب فجأة كما ظهر: " وغاب كما قد جاء في الحرم المكي"

     ويبقى الشاعر مع نفسه، وقد تنبه من السِّنَة الخفيفة العابرة، فبدأ يفكر فيما رأى، وفيما سمع، وفيما كان يفكر به، وكان عليه ألا تمر رؤياه مرورا عابرا، وكان عليه أن يتقين أنها ليست أضغاث أحلام، في ذلك المكان المبارك، وفي تلك اللحظات التي تتنزل فيها الرحمات، فيكشف عن سر تجربته تلك، فيقول:

خـــــلوتُ إلى نفسي فقلتُ: نصيـــــــــحةٌ
               هي الخيــــــر إذ يدنــو بآلائـــــــه منــــك
خذيهــــا فصونيها تنــــــــــالي وعودهــا
               إذا سرتِ في روض وإن سرت في شوك

   وهل أصدق من نصيحة الصدق نفسه!؟

     ومازلنا مع الشاعر داخل الحرم المكي، ولعله لم يخرج من الحرم بعدما رأى في خلوته تلك، فتنبهت أحاسيسه، وغير مجلسه، فجلس في مكان يرى منه الكعبة المشرفة ببصر جسمه، وبصيرة قلبه، فيحدثنا في (ص 163، عن الكعبة الزهراء). ويستهلها بمقدمة نثرية، ترتبط بما سبق من رؤيا، وما دار من حديث بينه وبين الصدق الذي زاره.

     وهو بالتأكيد قد استجمع أفكاره، وعاد من حديث النوم إلى حديث اليقظة، وتواردت الخواطر على ذهنه، فأراد أن ينقل تجربته إلى غيره، وجعل قصيدته الجديدة إهداء فقال: "أهدي هذه القصيدة إلى كل من أراد الحج فاستطاع، وإلى كل من أراده فلم يستطع، وعساه ينال بصدق نيته ثواب حجة مبرورة، وأهديها بشكل خاص إلى الشاعر الكبير بدوي الجبل، الذي راعتني قصيدته ((الكعبة الزهراء)) فحاكيتها بهذه القصيدة."

     والرابط الحاضر في المقدمة هو (الصدق) وقوله: (عساه ينال بصدق نيته ثواب حجة مبرورة)، وهذه هي آخر ثلاث جمل تحدث بها الصادق مع الشاعر، وغاب، ووعد الشاعر نفسه أن يلتزم به، ومن علامات الصدق أن تنصح غيرك بصدق.

     فماذا قال الشاعر في قصيدته التي عارض بها قصيدة بدوي الجبل بالعنوان نفسه؟ وهو ملمح آخر للصدق عند الشاعر، لأن بدوي الجبل بقصيدته عن الكعبة تحدث بجواهر الحكمة، ودعا إلى العودة للكتاب والسنة وسماهما النورين.

     فحيدر الغدير يعبر في المقطع الأول عن دواعي رحلته إلى الكعبة الزهراء التي هي وسط المسجد الحرام، والمسجد وسط مكة المكرمة. وأهم هذه الدواعي الشوق اللحوح، وتعلقه بها يافعا وشابا وكهلا وشيبا، وكونها أمامه في صلاته، وفي خلوته وجلوته، يقول:

على لهفة من صبوة ووجيب
               وشوق لحوح ظامئ ورحيب
رحلتُ إليها قبل جسميَ بالمنى
               وهنّ حسان من هدى وطيوب
ولمْ لا وقد عُلّقتها مُذْ يفا عتي
               وحين استوى عودي وحين مشيبي 
وأسكنتها قبلَ الجوارح مهجتي 
               فكانت شذا عمري ونور دروبي 
وكانت أمامي في صلاتي وخلوتي
               وفي الربع إن أمكث وحين ركوبي 

     ويجلس الشاعر أمام الكعبة، ويتملى فيها ويملأ ناظريه منها، ويرصد عطاءاتها الجمة فيقول:

هي الكعبة الزهراء جمٌّ عطاؤها 
               لدانٍ إلى نعمــــــائها وغريب
أنختُ بها بعد العناء ركائبي 
               فبادرني سيبٌ لهــــا بهبوب

     ويصلي فيركع ويسجد، ويفعل ما يفعله العشاق على أعتاب محبوبيهم، فيكحل عينه بتراب المسجد الحرام مبالغة في التعبير عن محبته وتعلقه بالكعبة الزهراء، ويرى أن ما هو فيه هو الفوز الذي ليس وراءه مطلب، فيقول:

سجدت فكحلت المآقي بتربها 
               وقبّلته سبعاً فأتــــرع كوبي 
وقال هنا الفوز الذي عشتَ تبتغي 
               فخذه كما ترجو بـدون رقيـــب 

     وفي هذه اللحظات الروحانية السامية يلهج المؤمن بالتوبة والاستغفار من كل ذنب، ويأوي إلى كنف ربه طالبا منه الصفح والغفران فتمتلئ نفسه بالأمل برحمة الله، وقد قال سبحانه: (ادعوني أستجب لكم)، فيقول الشاعر:

دعوتُ بروحي والفؤاد ومقلتي
               وقبل لساني خالقي وحسيبي
وقلت وآمالي إليـــه نواظر:
               أأدعو وإن الرملُ عَدُّ ذنوبي
أناختْ على عقلي وقلبي وأعظمي
               وعرّت لصحبي والعداة عيوبي
هرِعت إلى نعماك منها فإنها
               فواقر غالت جيئتي وذُهوبي

     ويتجاوز الشاعر لحظات الذروة النفسية، فيهدأ قليلا، ويصيخ إلى صوت قلبه ومشاعره الداخلية، فيسمع ما يسمعه النائم بأذن قلبه، فيقول:

ومرتْ ثوانٍ قمت جذلان بعدها 
               وثمة صوت كالملاك مجيبي 
يقول: لك البشرى فربك قابل 
               متاب فتى مهما أساء منيب 
فأبصرت آمالي حساناً روانياً 
               كأيك ضحوك المقلتين قشيب 
لأن رجائي فيه فوق مخاوفي 
               وأكرمْ به من قاد ر ووهوب
فأورق عودي بعد طول جفافه 
               وأشرق وجهي بعد طول شحوب
وجاءت ليَ النعمى ودانت ليَ المنى 
               فعدت إلى نجواي عود طروب
أردد حمد الله دون ملالـــــة
               بفرحة محبور وبوح أديــب

     ينطلق الشاعر بعد شعوره بالفوز بعيدا في الزمان والمكان، فيعود إلى بداية بناء البيت العتيق، ويستعرض في ذاكرته، ويستحضر إبراهيم عليه السلام وهو يؤذن في الناس بالحج امتثالا لأمر الله سبحانه، فإذا قافلة الحج تبدأ ولا تتوقف أبدا، فيقول:

هو الحج باق كالزمان وأهله 
               جديداً قديماً دون أي مغيـــب 
ويمتد في يومٍ من السلم باسمٍ
               وآخر مثل الغاشيات عصيب 
لقد قام إبراهيم يدعو له الدنا 
               فكان صداه الضخم زحف شعوب
قوافل شتى وحّد الله بيــــنها
               فكانت حبيباً يحتفي بحبيب 
قوافل كالتاريخ تمضي ولا تني 
               وليس بها من حسرة ولغوب 
تسير ترجّ الأرض رجاً كأنها 
               كتائب جيش حافل ولجيب 

     ويصور مسير قافلة من تلك القوافل وهي تحث السير، وتلبي بصدق، حتى إذا رأت البيت الحرام خرت ساجدة شاكرة لله سبحانه، ويزول عنها كل ما كابدته من مشقات الطريق ومخاطره، فيقول:

مضت وهي لا تأْلو تسير بها المنى 
               تلّبي بصدق شف غير مشوب
إلى ربها ترجو نداه ورحمة 
               مداها سهوب تنتهي بسهوب
فلما رأى البيتَ الحرامَ دليلُها 
               وبشرها هبت هبوب كَسُوب
لتسجد للرحمن شكراً وفرحة 
               بإقبـــال أوّاب ولمح أريـــب
وزال العنا منها سريعاً وغردت
               هنــــاءتها تختال ملء قلوب

     وفي هذه الرحلة الذهنية التي يخرج إليها الشاعر وهو جالس أمام الكعبة الزهراء، يعود إلى حاضر الأمة الإسلامية ليجدها على غير ما يسر من الضعف والهوان والتنازع كالغريق الذي يصارع الموت ولا يمد يده إلى طوق النجاة الذي بين يديه، فلا يجد ملجأ إلا الله سبحانه وهو في رحاب بيته، فيدعوه قائلا:

دعوتك ربي قبل نفسي لأمتي 
               فكن لهما يا رب خير مجيب 

     ونقتحم خلوة الشاعر، ونتسور محرابه مرة أخرى لنجده هذه المرة طائرا مع حمامة من حمامات الحرم، يتحدث إليها، وتتحدث إليه، في جو من الأنس والأمن والطمأنينة، وقد افتتح قصيدته (أنا أدرى، ص 88، من ديوانه عادت لنا الخنساء) قائلا: "في خلوة ساجية لقيت حمامة في الحرم المكي الشريف فقلت لها وقالت لي."

     وحمامات الحرم لافتة لنظر مرتادي الحرم، فهي تقترب من الناس، وتسير بين أرجلهم لشعورها بالأمن، ولإقبال الناس على رمي الطعام لها، وكثيرا ما يجلس الإنسان داخل الحرم فيتأمل في فضاء الساحة المفتوحة في المطاف يتأمل الحمامات التي تطير محلقة فوق الكعبة المشرفة وحولها وكأنها تطوف مع الطائفين فتمتلئ النفس بهجة وراحة لهذا المنظر، وتشارك الطيور الأخرى الحمام في هذا التجوال، بل ترتفع تغاريدها وضجيجها في المساءات جاذبة أسماع رواد الحرم وأنظارهم. ولأن الحمام وحده يقترب من الناس، وينزل على الأرض فقد اختار شاعرنا حمامة ليتحدث إليها، فماذا قال لها، وماذا قالت له!؟

     شاعرنا يستوقف الحمامة كما كان الشعراء قديما يقفون ويستوقفون، ويسألون ويستجوبون، فيقول:

قفي قد لُحْتِ لي سِحْرا ... وكنتِ الحُسْنَ والبِشْرا
قـفي إني أخــو شوق ... سيحبوك الثنــــا درا

     ويبدأ يبث إليها مشاعره التي يحملها نحوها، ومحبته لها في جولة واسعة في فضاءات الزمان والمكان والمشاعر الإنسانية، فيقول:

هديلك في دمي نجوى ... يبث الحـــب والخيرا
وأحـــلام مرفـــــرفة ... سَكَنَّ بخـــافقي عمرا
أتيتِ بهـــــا فما أحلى ... وجدت بها وما أحرى
ملأنَ العمرَ أفـــراحاً ... فما أسنى وما أثــرى
رضيتُ بها فأعلتـني ... وكان عطاؤها نهــرا
ورحت وراءها غرداً ... أجـوب البر والبحرا
إلى دنيـــــــا مكرّمة ... حبتني الصفو والطهرا

     ويعود الشاعر من هذا التجوال بالربح الوفير، والغنائم الخيرة، فيقول:

وعـــدتُ المـرءَ يمنـــاه ... تهنئ أختـــــها اليسرى
وهـذي رفّــــــة النعمى ... وهذي ضَوْعة البشرى
وأعطتـــني سحـــــائبه ... سرايا العزم لا الكبــرا
أرتني جنــــــة الدنيـــا ... وبعـض الجنة الأخرى 

     والشاعر هنا يطيل الحديث إلى الحمامة، ولا شك أنها كانت صبورا جدا إذ أصغت منه إلى هذه المعلقة التي انزلق إليها الشاعر من كلمة المطلع: قفي!

     وتجيبه الحمامة بعد لأي، وبعد إعادة السؤال "قفي من أنت!؟" فتجيبه: "أنا يا سائلي أدرى"

بما قـــــــــالوه من قدم ... فَقَرَّ بمهجــــتي ذكـرى 
وما غنّى به الحــــادي ... يؤمّ الكعبــــة الزهــرا 
ويجعـل عشــــقه نثـراً ... ويجعل عشــــقه شعرا 
ويبصر وَهْوَ جـــذلان ... طيوف الفرحة الكبرى 
تطوف البيـت في وَلَهٍ ... لتروي القلب والصدرا 
ويبصر زمزماً تسخو ... على الورّاد والحِـجْرا 
وسجدة تــــائب يمحو ... بحرقة صدره الوِزْرا 
وأدعيـــــــــة تـردّدها ... حشود لم تزل تتــرى 

     وتعود الحمامة هنا رمز التاريخ، وشاهد العيان لهذا السجل الحافل بالأنبياء والأتقياء والصالحين من الطائفين والركع السجود في حرم بيت الله العتيق، منذ بناه إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام إلى هذا اليوم الذي جعل شاعرنا فيه الحمامة صفية خلوته الساجية، كما قال.

     تقول الحمامة:

أنــــا يا شاعري أدرى ... وعلمي لم يكـــن نزرا 
فقــد عاينتـــــه حدثـــاً  ... وقــــد كابـــــدته دهـرا
أنـا أم القــــرى بلـــدي ... وحسبـــك مكة فخـــرا
ولي في الفضـل تاريخ ... وسَلْ عرفات سلْ ثورا 
وسل من أذّنوا صبحــاً ... وسل من أذّنـوا ظهــرا 
فهذا زانَ منــــــــزلتي ... وزاد مكـــــانتي قَــدْرا 
وأني كنـــــت عـــاكفة ... أرتّل ســــورة الإسـرا 
وأركع أبتــــغي أمنـــاً ... وأسجــد أبتغي الأجرا 
أنا أبصـــرت إبراهـيــ ... ـم يبـني الكعبة الزهرا 
وأحمد يــــوم أن نــادى ... فغيّر في الدنى المجرى
ويوم الفتـــح منصــوراً ... وفي بدر وفي المسرى 
أنـا الــتـــاريخ إذ يروي ... وكنــت وكان لي ذخرا 
فســـــلني إنني كنـــــز ... من العبــر التي تُشْرَى 

     وإذ تقدم الحمامة نفسها حكيمة الدهر، التي صاحبت الصفوة الكريمة من عباد الله، يبادر الشاعر حيدر الغدير بسؤالها: "بما توصين؟" فقالت: "حاذر الشرا"، ثم أتبعت ذلك بجملة من النصائح القيمة من عدم الاغترار بالدنيا، ومن الاعتصام بالله لينال النهاية السعيدة في الدنيا والأخرى

وتقطع رحـلة الدنيــا ... سعيـــــداً محسناً برّا
وتحيا سيــــــداً حراً ... وتقضي سيـــداً حرا
وتدخل جنة المـأوى ... وقد حفـلت بما سـرّا
 
     وفي ديوانه عادت لنا الخنساء قصيدة أخرى بعنوان (تلبية، ص 107) تدخل في صميم موضوعنا في الحديث عن مكة لدى الشاعر حيد الغدير. ويكشف لنا سر العنوان وأنها معايشة متطلبات التلبية بعد العودة من رحلة الحج أو العمرة إلى بيت الله الحرام، وألا ينتكس المرء المسلم في حياته، وأن يحافظ على رقيه الروحي ونقائه، فيقول: "من أمارات التوفيق أن يحتفظ الإنسان بروح التلبية وصداها، بعد أن يعود من البيت الحرام."

     ويكشف الشاعر هنا طرفا من معاناته في الصراع مع النفس الأمارة بالسوء، وفتون الدنيا وغيرهما من الإغراءات والإغواءات التي تدفع بالإنسان إلى الهلكة بعد إذ نجا، وإلى التلوث بعد إذ تطهر وعاد كيوم ولدته أمه، فيقول في المقطع الأول:

لبيـــك يا رباه في السّــراء
               لبيـــك يا رباه في الضرّاء
لبيـــك إني هارب من غفلة
               تجتــــاحني وكأنـها أعدائي
وأماميَ الدنيــا فتون لم تزل
               شوهاء تبدو في حلى حسناء
وأنا إزاء جمالها وضــلالها
               في وقـفـــة من حيـرة وبلاء
أخشى وأرغب والدواعي جمة
               فأنا لها الداني ومنها النـــــائي
وأطيـــــعها حيناً وآبى مرة
               وأعود بعد الطهر للأخطاء

والشاعر يلوم نفسه في هذا التردد والخور أمام المغريات، غير أنه يلجأ إلى ربه يطلب منه العون على نفسه، فيقول:


ومن الملوم؟ أنا الملوم لأنني
               لم أغلب الأهواء وَهْيَ إزائي
أأحبها وأنــا الذي قد رازها
               فإذا بها كالحيــــة الرقطاء؟
يـــا رب فانصرني عليها إنني
               ما زلــت أرغبها وأنت رجائي
أطلق إساري من خوادع زيفها
               وامنن عليّ بنيّــــة بيضاء
وعزيمة عمريــــة وبتوبة
               هي محض إيمان ومحض نقاء
ليكون صبحي بالهـداية عامراً
               ويكون خيراً من هــداه مسائي

     فالتلبية هنا إذا ليست وصفا لحالة الحجاج أو المعتمرين وهم يؤدون مناسكهم، وإنما هي وقفة مع النفس التي لبت نداء الله، واستجابت لأوامره سبحانه؛ لتحافظ على معانيها من الوفاء بالتوحيد، والطاعة لله تعالى، ولرسوله صلى الله عليه وسلم، بعد عودته من حمى البيت الحرام، أو بعد خروجه من عالم النسك والشعائر والمشاعر ليكون فيه بوعيه العميق بمعاني التلبية العظيمة.

     وفي ديوان عادت لنا الخنساء نقف مع قصيدة أخرى بعنوان (أترع الكأس، ص 111) لنشارك الشاعر في كأسه المترعة إذا سمح لنا بذلك. يقول في تقديم القصيدة: "طاف بالبيت الحرام، وصلى، وشرب من زمزم كأساً دهاقاً وضع فيها كل أشواقه وآماله."

     فقاصدو المسجد الحرام يبادرون إلى الشرب من ماء زمزم، غير أن الحجاج والمعتمرين يتضلعون من زمزم بعد الطواف، أو الانتهاء من السعي، ويشربون خلال ذلك أيضا، وهاهو الشاعر يقبل على الشرب بوعيه الكامل، فطلب كأسا مترعة، كأسا ليست كعامة الكؤوس، بل مترعة باليقين والهداية، فيقول:

أترع الكــأس باليقين رحيقا
               وملابـــاً ســكباً ومسكاً فتيقا
وطيوباً من الهـــداية حسنى
               لا تمل الســـــمو والتحليـقـا
إنهن المنى حســــاناً وضاء
               رُعْنَ رأدَ الضحى نقاء أنيقا
فهي كـــأس لا كالكؤوس، ففيها
               يزهر الخيـــــر نـاضراً ووريقا
وهي تحبوك من نــداها جداها
               دونــــه الأفــــق في مداه طليقا
كيف لا؟ والهدى سراج وزيت
               ملء مشــــكاتها أضاء الطريقا

     فكأس الشاعر هنا زمزم يشرب، لكنها ممزوجة بكل معاني الخير والهداية التي يمتلئ بها زائر بيت الله الحرام، والذي يخطئ كأس الهداية إلى غيرها فقد ضل الطريق:

فاز من يجعل الهـــداية كأساً
               يصطفيها دون البرايا صديقا
والذي كأسه هوى أو ضلال
               هــــالك ضل نفسه والطريقا

     ويلتقي الشاعر حيدر الغدير بصديق له قد حج وهو يتهيأ للعودة إلى أهله بشراء الهدايا، ومستلزمات العودة، فإذا به يقدم له هدية من خاص ليصطحبه معه إلى أهله، فلنقرأ معا المقدمة النثرية لأنشودته (أيها العائد، ص 138، من ديوان غدا نأتيك يا أقصى)، يقول: "قال لي والوجه منه نور، والفرحة نشيد، والبسمة شكر: لقد أكرمني الله عز وجل بالحج، ففزت بحجة بعد انتظار طويل، أرجو أن تكون مبرورة، إنها حجتي الأولى، وقد تكون الأخيرة، ولن أنساها ما حييت.

     قلت له: ماذا تفعل في هذا السوق؟ قال: أختار هدايا من الأرض المباركة تكون أجمل قنية، وأغلى تذكار. قلت له: إليك هذه الهدية، قال: وما هي؟ قلت: قصيدة تلتقي مع ما تود، قرأها فقال: إنها هدية جميلة لي، ولكنْ أهدها أيضاً إلى محمد إقبال، فهي تصلح أن تكون مع روائعه الحسان في ديوانه: أرمغان حجاز".

     وهذه القصيدة الأنشودة مقاطع خماسية من حيث الشكل، يبدأ فيها الشاعر بمخاطبة الحاج العائد إلى أهله، وقد وفقه الله سبحانه لأداء النسك، راجيا له القبول، ومهنئا إياه بالفوز بثواب الله من العفو والمغفرة، فيقول:

جــــاءك العفوُ فخذه باليدينْ ... وفــــؤاد وامق والمقــلتـينْ
نلتـــه ينهلّ نوراً كاللجيــنْ ... أيها الزائر أرض الحرمينْ
إنه الفــوز المرجّى قد همى

قد قبستَ النورَ من غار حراءْ ... فَهْو هاديك صباحاً والمســاءْ 
وَهْو أفراح ومســـــك ودعــــــاء ... وَهْو في القبر وفي البعث النجاء 
فاز من فـــــاء إليه وانتمى

     ويصرح الشاعر بقصيدته بذكر فريضة الحج، مؤكدا شخصية القصيدة لأن عبارة (أيها الزائر أرض الحرمين) ذات دلالات مفتوحة تعني الحج والعمرة والزيارة العادية، مصورا حالة قاصدي البيت الحرام للحج والاستعداد له ومشاعرهم فيقول:

موعدُ الحج دنـــا فاستبقتْ ... أنفسٌ من كل حـدب أيقنتْ
أنه الفوز فلبّت واشتـــكت ...شوقها وابتسمت إذ أنشدت
إننا الآتون نبغي الحـــرما

     وهذه استعدادات كل حاج في بلدته، ثم تنطلق الوفود من كل فج عميق يحدوهم ذلك الشوق إلى بيت الله سبحانه، فيقول:

أمةٌ جــــاءت تليــــها أممُ ... بين عينيها يـلـــوح الحرمُ
أنت فيهم ظامئ محتــــدم ... بشّرته حين قـــالت زمزم
قطرة مني فلا يبــقى ظما

     فإذا وصلوا رووا ظمأ أجسامهم بالشرب من ماء زمزم المبارك، ورووا أرواحهم بالإقبال على الله سبحانه ساجدين بين يديه في رحاب بيته العتيق، فترتقي نفوسهم وتسمو، يقول الشاعر:

سجدةٌ منك على الأرض الطهورْ ... ســوف يبقى كَسْبُها حتى النشورْ 
منحةً تربو على مـر الدهور ... وَهْي أكواب من النعمى تدور
فاتخـــــذها للمراقي ســلّما

     أما وقد أدوا المناسك، وصلوا وشربوا وزاروا وبدأت رحلة العودة فها هي ذي علائم الفرحة بالتوفيق والأمل بالقبول تملأ وجوههم، فليحملوا معهم أفضل ما يمكن حمله ليس من متاع الدنيا، ولكن من الشكر الذي يوفق الله عباده الصالحين إليه، فيقول:

أيها العائد من أرض الحجـازْ ... تضحك الفرحة فيه حيث جازْ
بالذي نال من الغنم وحـــاز ... أنت بالشكر ستزداد مفـــاز
فاصطحبه تَلـقَهُ خيراً نمــا

     ومن تمام الشكر يقول الشاعر للحاج العائد أن يعرف غيره من المسلمين ما حصل عليه من نعمة التوفيق لأداء فريضة الحج:

من تمام الشكر أن تدعو الأنامْ ... للذي أهداكه البيــــــــتُ الحرامْ
حين أسقاك الهدى جاماً فجام ... فَامْحُ بالنور عن الناس الظلام
يهتدي الناس ويخضّر الحمى

     ويؤكد نصيحته للحاج العائد الذي حصل له اليقين التام برحمة الله سبحانه، وتحصن بيقينه بالله، أن يهمل على نشر الخير، والوعي بالإسلام بين أناس محرومين من هذه النعمة لجهلهم بها، فعمله هذا هو أفضل ما يقدمه من هدايا للبرايا:

أيها العـــــائد قد حاز اليقيـــنْ ... فهْو في حصن من الله حصينْ
محنة الإنسان دنيا دون دين     فَاهْدِ للإسلام أقواماً عَمِيــن
تصبح الأهدى وتغدو الأكرما

     وبذلك يكمل الشاعر هديته لصاحبه العائد من زيارة بيت الله الحرام حاجا، يحمل معه هدايا لأهله من السوق يدفع أثمانها، فأهداه الشاعر هدية ثمينة بغير ثمن، ولكن صاحبه الذكي ألمح إلى قصده حينما قرأ القصيدة وطلب منه أن يجعلها في ديوان الشاعر ىالمسلم العظيم محمد إقبال: أرمغان حجاز، وأرمغان باللغات الفارسية والأردية والتركية تعني الهدية، وخصوصا هدية الفاكهة!.

     قال الشاعر حيدر الغدير في ختام قصيدته حللت على نعماك:

أيا مكتي تحميك ما عشت أمتي
               بأرواحها قبــــل القنا والكتائب

     وهذا الفداء من أمة الإسلام للكعبة المشرفة، وللمسجد الحرام، ولمكة كلها؛ مبعثه اليقين بأن هذه البقعة المباركة تمثل أساس الإسلام، ومنبعث الهدى، ورمزا لوحدة الأمة الإسلامية، فالاعتداء عليها لا يمكن قبوله مهما كانت النتائج.

     وقد تعرضت مكة والمسجد الحرام لاعتداءات متكررة عبر التاريخ القديم والحديث، ولعل أبرهة الحبشي واعتداءه مصطحبا فيله الضخم أبرز عدوان، ولكن الله سبحانه حمى بيته منه، وبدد شمل جيشه ودمره فكان عبرة لكل من يريد البيت بالعدوان، وهو ما سجله القرآن الكريم في سورة الفيل.

     والشاعر يتخذ من أبرهة نموذجا لمآل كل عدوان، فيعبر عن مشاعره العميقة الممزوجة بالقلق والاطمئنان بآن واحد، قلق من العدوان على البيت، واطمئنان بنصرة الله سبحانه لدينه، وهذا لا يلغي الواجب الملقاة على الأمة الإسلامية لحماية رمز دينها فيهيب بها أن تقوم بواجبها في حماية مكة والمسجد الحرام والكعبة المشرفة. فيقول في مقدمة قصيدته بعنوان (أبرهة، ص86، من ديوان عادت لنا الخنساء): "هلك أبرهة حين استبدت به الحماقة وركبه الجنون فحاول المستحيل فقصمه الله تعالى وأنزل فيه قرآناً يتلى إلى آخر الدهر، ومصير أبرهة مصير كل من يريد السوء بالإسلام والمسلمين والعرب عامة، وبهذه البلاد المباركة خاصة، ذلك أنها أرض الحرمين الشريفين ومأرز الإيمان، ورايتها الخضراء تحمل أغلى الغوالي «لا إله إلا الله محمد رسول الله» لتقول للدنيا كلها: هذا أنا وهذه هويتي"

     وينطلق في قصيدته بكلمة "محروسة" يكررها تأكيدا منه على هذا الشعور، الذي يكتنفه بحراسة الله سبحانه لبيته والبلدة التي فيها وهي مكة، فيقول:

محروسةٌ يا ديــــــار البيت والحرم
               محروسة يا مــلاذ المجــــد والكرم
محروســة بقـــــلوب المسلمين فهم
               أجنادُكِ الصيدُ من عرب ومن عجم
محــروسة بصدور لم تهـبْ أحـــداً
               تتيه بالراية الخضـــــرا على الأُمَمِ
محروســـة بدعاء ما يــــزال شــذاً
               وديمة في السهول الفيــــــح والقمم
محـــروسة، أمةُ الملـيـــــار عدتـها
               من ظامئات إلى صون الحمى وظم
ممن يـــرون الأذى في الله مكـرمةً
               والموتَ أوســـمةً قد سطرت بـــدم

     ثم يوجه خطابه لكل أبرهة في كل عصر، فيقول:

وأنت يا أيهـــا المغــــرور عاصفة
               هو جاء تمضي كما هبـت ومن أَمَمِ
إن كنت أبرهـــــة فاذكر نهــــــايته
               والطيــــر من فوقه ترميه بالحـــمم
حتى غدا مثل عصف بـــائد مزقـــاً
               يقتــــاته الذرّ بعد الـــدود والغنـــــم
إن الأبابيـــل حـــرّاس كأسيـفنــــــا
               ونحــــن والخــــلد أترابٌ من القـدم
فارقب مصيـــــرك إن البغي مهلكة
               واجعلْ ضريحك من بؤس ومن ندم

     ويؤكد على أبدية هذا البيت الحرام، وأهله ودينه، فيقول:

غــداً ستفـــنى ونبقى نحـــن أمنيــةً
               تجـــول في هذه الدنيـــــا بكل فــــم
تبني وتهدي وتحبو الناس ما رغبوا
               كأنهــــا الغيــث بعد الجدب للنَّسَـــمِ

     وهكذا رأينا حيدر الغدير يحب مكة حب مجنون لليلى، ولكن حبه حب غير مجنون، حب واع مبناه على الهدى، جذوره ممتدة في التاريخ الماضي، وباقية في المستقبل الآتي، يفديها بالروح قبل المال، يحملها معه أنى ذهب، قد ينسى أقرب الناس إليه من أهله وولده، ولكنه لا ينسى مكة.

الجمعة، 4 يونيو 2021

حيدر الغدير الأب الناصح في قصيدة أبني كونوا - د.عبد الباسط بدر

حيدر الغدير الأب الناصح في قصيدة أبني كونوا

د.عبد الباسط بدر
المدينة المنورة - 1432ﻫ - 2011م

     الأدب تعبير قوي مؤثر عن مكنونات النفس وانفعالاتها، في الفرح والحزن، والغضب والرضا، وإشراقات اللحظات السعيدة، وبؤس أوقات الشدة، فهي الصفحة التي نقرأ فيها فيوض الوجدان في موقف هز الأديب، وأطلق عنان قريحته. والشعر من أكثر فنون الأدب احتضاناً لهذه الانفعالات، وأكثرها قدرة على التعبير؛ لأنه يملك الخيال المجنح، والأفق العاطفي الواسع، فيصوغ تلك الانفعالات في عبارات تمتاح من بحور اللغة ما تشاء بلا حدود ولا قيود؛ إلا السلامة والجمال.

     ولطالما عبر الشاعر الصادق عن انفعالاته في مواقف الحياة المختلفة؛ فرسم في شعره صورة فنية جذابة يجد فيها المتذوق سحر الكلمة، وهزة العاطفة، وخبرة التجربة الإنسانية.

     ولعل أصدق ما يعبر عنه الشاعر من تلك المواقف، وما يؤثر في الآخرين، هي تلك المواقف الحياتية التي تكون نموذجاً لما يعيشه أو يتمنى أن يعيشه كل إنسان، ولكنه لا يحس حلاوتها، ولا يحسن التعبير عنها، فإذا غاب عنها أو فقدها أحس بعظيم قيمتها، وندم أشد الندم على تفريطه فيها. ومن أمتع تلك المواقف وأكثرها ندرة في نتاج الشعراء مواقف الحياة العائلية الهانئة، التي تتألق فيها مشاعر المودة والمحبة، في أب حنون، وزوجة محبة، وأبناء يملكون نواصي القلوب، وإخوة وأقارب تجمعهم وشائج حميمة.

     ومن هذه المواقف النادرة في الشعر العربي المعاصر، موقف تصوره قصيدة الشاعر الصديق، الأستاذ حيدر الغدير، تعرض بشفافية عالية وعذوبة كبيرة جانباً من الحياة العائلية السعيدة للأسرة المسلمة، فيها الأب الذي يبذل كل غال ورخيص لإسعاد أبنائه، وينفق زهرة شبابه في تنشئتهم النشأة الصالحة، ويوفي الطفولة حقها في المرح والملاعبة، ويوفي الأبوة حقها في مسؤولية الرعاية، وغرس القيم الإيمانية في أبنائه، حتى إذا استوت قاماتهم، وارتوت نفوسهم بتلك القيم نعمت نفسه بالرضا والطمأنينة بما زرع وما حصد، وأصبحت مواقف الحياة العائلية ذكرى ماتعة، ونموذجاً يحتذى، ودرساً لكل أب ومن سيصبح أباً.

     يقول الشاعر مخاطباً أبناءه في بوح عذب:

أعطيـــتكم عمري وذوب شبابي
               وجعـــــلتكم في القلب والأهدابِ
وجعـــلتكم في النوم حلمي شائقاً
               وإذا صحوت ففرحتي ورغــابي
أحلى لديّ من الشهــــــاد لقاؤكم
               ومن الـنعـيـــم النضر والأكواب
أنشــــأتكم أن الهداية دربـــــــكم
               وبأنها شـــرف وعز جنــــــــاب
وسقيــــتكم نسغ الرجولة والندى
               ومروءة عربيــــة الأنخــــــــاب
فجمعـتــــم الدين القويم وعــــزة
               من طاهر الأخـــــلاق والأنساب

     وبعد هذه الخلاصة المركزة لعطاء الأبوة في رحلة الحياة الأسرية السوية ينتقل الشاعر إلى مشاهد تفصيلية لجوانب من تلك الحياة الهانئة، ونرى فيها الطفولة في عبثها البريء، والأبوة في تفهمها لحاجات الطفولة من الحب والحنان والمصاحبة، ونرى معايشة الأب لانفعالات الأطفال، ومشاحناتهم، ودموعهم، وضحكاتهم، يقول:

وتعـــود بي الذكرى لأيـــام خلت
               كنتــم بها عطر الربيع الســـــابي
كنـــتم بها الزغب الصغار أحبّهم
               في هدأة ندرت وفي التصخــــاب
في ودهم وعنادهم وخصـــــامهم
               ورسومهم في الأرض والأبواب
وسبــــاقهم نحوي وفي قبـــلاتهم
               ويديّ تمتــــدّان بــالألعـــــــــاب
وأكون فيـــهم قــاضياً ومحاميــاً
               وأكون خصــماً دونما أسبـــــاب
أقضي وأنقــض ما قضيت فإنني
               أخشى هياج مشــــمّرين غضاب
ولربما اجتمعـــوا عليّ عصــابة
               تفتـــنُّ في كيـــدي وهم أحبـــابي
وأنـــا السعيــــد بمكرهم ودلالهم
               وتخــــابث يمضي بدون عقـــاب

     ويكشف الشاعر حقيقة انفعالات الأب عندما يغضب من تصرف طائش، فقد يتظاهر بالقسوة وملء قلبه الرحمة، ويلوح بالعقاب وفي نفسه العفو، كي يوجههم لتجنب السلوك الطائش والتصرف الخطأ، وما يلبث أن ينسى ما فعلوه، ويعود إلى ملاعبتهم، وهذا شأن الأبوة الراعية والحانية، يقول:

ولـربمــــا أقـســــو وقـلبي راحـم
               وأليـــن حتى ما يبيــــن عتــــابي
ولربما كنــــت النصـــوح وربما
               أغضيت ثم مضيت كالمتغــــابي
ولربما طمعــــــوا فكنـــت مطية
               تعــــدو كما شـــاؤوا وهم ركّابي
ولربما طال التشــــاتم بيننــــــــا
               ما بين إغضــــاب وبين دُعـــاب

     ويسترسل الشاعر في عرض صور جميلة لحياة أسرة مسلمة سعيدة، ينهض الأب فيها بمسؤوليات الرعاية من كل جوانبها: الدينية والتربوية والنفسية، ثم يشحنها بمشاعر الأبوة الحانية وعواطفها الجياشة، وتطلعاتها المتواضعة؛ بأن ينشأ الأبناء على ما اجتهد الأب في غرسه في نفوسهم: الإيمان العميق، والهمة العالية، والشخصية السوية الناجحة، التي تبني مستقبلها الزاهر، وتعكف مخبتة لله في محراب عباداتها، فتجمع خيري الدنيا والآخرة، يقول:

أبَنِيَّ أنتــم مَنْ أقـــــــــام بمهجتي
               ودمي وفي خلدي وفي أعصـابي
أحببـــتكم حبــاً كأنفـــاس الربـــا
               والطيب يعبق من فتـــــيق مَلاب
وجعلتكم أنـّى مضيت مشـــاغلي
               وذخائري في الحل والتجــــواب
أدعو لكم منذ اكتحــلتُ بنـــوركم
               في خلوتي وبصبـــــوتي ومتابي
وألحّ إذ أدعـــو وأرجو أن أرى
               فيكم معـــــالي همة وصــــواب
وتفوقــــاً يمضي فيستبق المدى
               فالمجــد للمقــدام لا الهيـــــــاب
إني خطبت لكم ذؤابــــات العلا
               ومفــــاخر الأعمـــــال والآداب
كونوا لها أهلاً فقد رضيــتْ بكم
               والمَهْر صبـــر العــازم الأواب
فصبـــاحه دأب يــــراه هنـــاءةً
               ومساؤه الإخبــات في المحراب

وبعد:

فما أجمل أن يرسم الشعر صور الحياة الهانئة للعائلة المسلمة، وما أحسن أن يكشف لنا بالكلمة الحلوة والصور الخلابة والإيقاع العذب عن مشاعر الأبوة التي يملؤها الإيمان، وعن إحساسها بمسؤولياتها في تنشئة أبنائها نشأة صالحة، لبناء شخصية سوية مبدعة؛ متفوقة، ولعل هذه القصيدة وأمثالها تكون صورها نموذجاً لكل أب وهبه الله نعمة الأبناء، وسيسائله عن مسؤوليته ورعايتها، وتكون في الوقت نفسه صفحة من صفحات الأدب الاسلامي في واقعيته وشفافيته وجماله تملأ نفوسنا بالمتعة والفائدة.

الأكثر مشاهدة