الجمعة، 4 يونيو 2021

حيدر الغدير الأب الناصح في قصيدة أبني كونوا - د.عبد الباسط بدر

حيدر الغدير الأب الناصح في قصيدة أبني كونوا

د.عبد الباسط بدر
المدينة المنورة - 1432ﻫ - 2011م

     الأدب تعبير قوي مؤثر عن مكنونات النفس وانفعالاتها، في الفرح والحزن، والغضب والرضا، وإشراقات اللحظات السعيدة، وبؤس أوقات الشدة، فهي الصفحة التي نقرأ فيها فيوض الوجدان في موقف هز الأديب، وأطلق عنان قريحته. والشعر من أكثر فنون الأدب احتضاناً لهذه الانفعالات، وأكثرها قدرة على التعبير؛ لأنه يملك الخيال المجنح، والأفق العاطفي الواسع، فيصوغ تلك الانفعالات في عبارات تمتاح من بحور اللغة ما تشاء بلا حدود ولا قيود؛ إلا السلامة والجمال.

     ولطالما عبر الشاعر الصادق عن انفعالاته في مواقف الحياة المختلفة؛ فرسم في شعره صورة فنية جذابة يجد فيها المتذوق سحر الكلمة، وهزة العاطفة، وخبرة التجربة الإنسانية.

     ولعل أصدق ما يعبر عنه الشاعر من تلك المواقف، وما يؤثر في الآخرين، هي تلك المواقف الحياتية التي تكون نموذجاً لما يعيشه أو يتمنى أن يعيشه كل إنسان، ولكنه لا يحس حلاوتها، ولا يحسن التعبير عنها، فإذا غاب عنها أو فقدها أحس بعظيم قيمتها، وندم أشد الندم على تفريطه فيها. ومن أمتع تلك المواقف وأكثرها ندرة في نتاج الشعراء مواقف الحياة العائلية الهانئة، التي تتألق فيها مشاعر المودة والمحبة، في أب حنون، وزوجة محبة، وأبناء يملكون نواصي القلوب، وإخوة وأقارب تجمعهم وشائج حميمة.

     ومن هذه المواقف النادرة في الشعر العربي المعاصر، موقف تصوره قصيدة الشاعر الصديق، الأستاذ حيدر الغدير، تعرض بشفافية عالية وعذوبة كبيرة جانباً من الحياة العائلية السعيدة للأسرة المسلمة، فيها الأب الذي يبذل كل غال ورخيص لإسعاد أبنائه، وينفق زهرة شبابه في تنشئتهم النشأة الصالحة، ويوفي الطفولة حقها في المرح والملاعبة، ويوفي الأبوة حقها في مسؤولية الرعاية، وغرس القيم الإيمانية في أبنائه، حتى إذا استوت قاماتهم، وارتوت نفوسهم بتلك القيم نعمت نفسه بالرضا والطمأنينة بما زرع وما حصد، وأصبحت مواقف الحياة العائلية ذكرى ماتعة، ونموذجاً يحتذى، ودرساً لكل أب ومن سيصبح أباً.

     يقول الشاعر مخاطباً أبناءه في بوح عذب:

أعطيـــتكم عمري وذوب شبابي
               وجعـــــلتكم في القلب والأهدابِ
وجعـــلتكم في النوم حلمي شائقاً
               وإذا صحوت ففرحتي ورغــابي
أحلى لديّ من الشهــــــاد لقاؤكم
               ومن الـنعـيـــم النضر والأكواب
أنشــــأتكم أن الهداية دربـــــــكم
               وبأنها شـــرف وعز جنــــــــاب
وسقيــــتكم نسغ الرجولة والندى
               ومروءة عربيــــة الأنخــــــــاب
فجمعـتــــم الدين القويم وعــــزة
               من طاهر الأخـــــلاق والأنساب

     وبعد هذه الخلاصة المركزة لعطاء الأبوة في رحلة الحياة الأسرية السوية ينتقل الشاعر إلى مشاهد تفصيلية لجوانب من تلك الحياة الهانئة، ونرى فيها الطفولة في عبثها البريء، والأبوة في تفهمها لحاجات الطفولة من الحب والحنان والمصاحبة، ونرى معايشة الأب لانفعالات الأطفال، ومشاحناتهم، ودموعهم، وضحكاتهم، يقول:

وتعـــود بي الذكرى لأيـــام خلت
               كنتــم بها عطر الربيع الســـــابي
كنـــتم بها الزغب الصغار أحبّهم
               في هدأة ندرت وفي التصخــــاب
في ودهم وعنادهم وخصـــــامهم
               ورسومهم في الأرض والأبواب
وسبــــاقهم نحوي وفي قبـــلاتهم
               ويديّ تمتــــدّان بــالألعـــــــــاب
وأكون فيـــهم قــاضياً ومحاميــاً
               وأكون خصــماً دونما أسبـــــاب
أقضي وأنقــض ما قضيت فإنني
               أخشى هياج مشــــمّرين غضاب
ولربما اجتمعـــوا عليّ عصــابة
               تفتـــنُّ في كيـــدي وهم أحبـــابي
وأنـــا السعيــــد بمكرهم ودلالهم
               وتخــــابث يمضي بدون عقـــاب

     ويكشف الشاعر حقيقة انفعالات الأب عندما يغضب من تصرف طائش، فقد يتظاهر بالقسوة وملء قلبه الرحمة، ويلوح بالعقاب وفي نفسه العفو، كي يوجههم لتجنب السلوك الطائش والتصرف الخطأ، وما يلبث أن ينسى ما فعلوه، ويعود إلى ملاعبتهم، وهذا شأن الأبوة الراعية والحانية، يقول:

ولـربمــــا أقـســــو وقـلبي راحـم
               وأليـــن حتى ما يبيــــن عتــــابي
ولربما كنــــت النصـــوح وربما
               أغضيت ثم مضيت كالمتغــــابي
ولربما طمعــــــوا فكنـــت مطية
               تعــــدو كما شـــاؤوا وهم ركّابي
ولربما طال التشــــاتم بيننــــــــا
               ما بين إغضــــاب وبين دُعـــاب

     ويسترسل الشاعر في عرض صور جميلة لحياة أسرة مسلمة سعيدة، ينهض الأب فيها بمسؤوليات الرعاية من كل جوانبها: الدينية والتربوية والنفسية، ثم يشحنها بمشاعر الأبوة الحانية وعواطفها الجياشة، وتطلعاتها المتواضعة؛ بأن ينشأ الأبناء على ما اجتهد الأب في غرسه في نفوسهم: الإيمان العميق، والهمة العالية، والشخصية السوية الناجحة، التي تبني مستقبلها الزاهر، وتعكف مخبتة لله في محراب عباداتها، فتجمع خيري الدنيا والآخرة، يقول:

أبَنِيَّ أنتــم مَنْ أقـــــــــام بمهجتي
               ودمي وفي خلدي وفي أعصـابي
أحببـــتكم حبــاً كأنفـــاس الربـــا
               والطيب يعبق من فتـــــيق مَلاب
وجعلتكم أنـّى مضيت مشـــاغلي
               وذخائري في الحل والتجــــواب
أدعو لكم منذ اكتحــلتُ بنـــوركم
               في خلوتي وبصبـــــوتي ومتابي
وألحّ إذ أدعـــو وأرجو أن أرى
               فيكم معـــــالي همة وصــــواب
وتفوقــــاً يمضي فيستبق المدى
               فالمجــد للمقــدام لا الهيـــــــاب
إني خطبت لكم ذؤابــــات العلا
               ومفــــاخر الأعمـــــال والآداب
كونوا لها أهلاً فقد رضيــتْ بكم
               والمَهْر صبـــر العــازم الأواب
فصبـــاحه دأب يــــراه هنـــاءةً
               ومساؤه الإخبــات في المحراب

وبعد:

فما أجمل أن يرسم الشعر صور الحياة الهانئة للعائلة المسلمة، وما أحسن أن يكشف لنا بالكلمة الحلوة والصور الخلابة والإيقاع العذب عن مشاعر الأبوة التي يملؤها الإيمان، وعن إحساسها بمسؤولياتها في تنشئة أبنائها نشأة صالحة، لبناء شخصية سوية مبدعة؛ متفوقة، ولعل هذه القصيدة وأمثالها تكون صورها نموذجاً لكل أب وهبه الله نعمة الأبناء، وسيسائله عن مسؤوليته ورعايتها، وتكون في الوقت نفسه صفحة من صفحات الأدب الاسلامي في واقعيته وشفافيته وجماله تملأ نفوسنا بالمتعة والفائدة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة