الاثنين، 7 يونيو 2021

المدينة المنورة في أدب حيدر الغدير - أ.شمس الدين درمش

المدينة المنورة في أدب حيدر الغدير

أ.شمس الدين درمش

     للمدينة المنورة شأن كبير عند الشاعر حيدر الغدير، وهو مثل كل مسلم يكن لهذه المدينة الحب، ويشعر إليها بالشوق، ويمتاز عن غيره بقدرته على التعبير عن مشاعره المرهفة، وقد حدثنا بطرف من ذلك في مقاله الذي جعل عنوانه: (أربعون صلاة)[1]، فيقول: "أن يظل المسلم مشتاقاً إلى المدينة المنورة هو الفطرة السوية لدى كل مسلم مست قلبه جمرة الإيمان، وسكنت قلبه طيوف حسان من هذه المدينة الطاهرة، الملأى بالبهجة والأنس، العامرة بالذكريات الوضاء، الفاتحة ذراعيها دائماً لاستقبال زائرها بكل الحب والجود والصدق."

     ويعدد دواعي هذا الحب لدى المسلم فيقول: "هذه المدينة السخية السنية الودود هي مقر أول دولة قامت للإسلام في العالم وما الدول الأخرى التي تلتها إلا امتداد لها." ويعدد بعد ذلك من هذه الأسباب: المسجد النبوي الشريف،والقبر الشريف الطاهر، والبقيع حيث يرقد آل بيت النبوة والصحابة الكرام وعدد لا يحصيه إلا الله من الصالحين، وجبل أحد بكل ما يثيره في الذهن من معاني الفداء والبطولة التي شهدها خلال المعركة التي عرفت باسمه، وموقعة الأحزاب أو الخندق التي كانت إيذاناً بانتهاء عهد تغزو فيه قوى الكفر دولة الإسلام الوليدة، وغيرها من الأماكن والذكريات ظلت تعمل عملها في قلب الشاعر ونفسه حتى جاء ذلك اليوم من موسم الحج عام 1418هـ - 1998م، الذي تأججت فيه نار الشوق إلى طيبة الطيبة، خاصة أنه تذكر الهبة السخية التي تنتظر من استطاع أن يصلي في المسجد النبوي الشريف أربعين صلاة لا تفوته صلاة وهي براءة من النار، وبراءة من النفاق، ونجاة من العذاب[2]، فيقول:

     "وصلت إلى المدينة المنورة وقد غادرها الحجاج إلى مكة المكرمة، فكانت فرصة ثمينة أن أستمتع بحرمها الشريف دون أن أزاحم أحداً أو يزاحمني أحد، وهو ما أعانني على العبادة والتلاوة والدعاء والخلوة والمكث في الروضة الشريفة طويلاً، وزيارة القبر الشريف في هدوء ووقار يليقان بساكنه عليه أفضل الصلاة والسلام." ويحكي لنا الشاعر قصة إقامته هذه في المدينة المنورة فيقول:

     "يسّر الله تعالى لي غرفة طيبة في فندق قريب من الحرم الشريف فسررت بها كثيراً، ووضعت فيها متاعي القليل، وأخذت أرتب نفسي بحيث أفوز بالصلوات الأربعين دون انقطاع. رتبت أمور الطعام والشراب بحيث أحافظ على وضوئي فأذهب إلى الحرم الشريف وأنا هادئ مطمئن، فقللت مما أطعم، وقللت مما أشرب، وجعلت لذلك مواعيد منضبطة، ورتبت مواعيد النوم واليقظة بالاعتماد على إدارة الفندق في تنبيهي قبل الأذان بوقت كاف، وبالاعتماد على منبه كنت أضعه بجواري، وحرصت على ألا أبتعد عن الحرم لزيارة المشاهد أو قباء أو الأصدقاء إلا في الضحى أو بعد صلاة العشاء حيث في الوقت سعة، ثم إني توجهت إلى الله تعالى بقلب منكسر أن يعينني على الظفر بالصلوات الأربعين بعد أن أخذت بالأسباب".

     ولحرصه على عدم الانقطاع، وخشيته أن يقع ذلك منه سهواً أو نسياناً كان دائم القلق حتى إنه كان يتوهم أحياناً فوات الوقت، ويحدثنا عن ذلك قائلاً: "ولا أزال أذكر كيف كنت أستيقظ في الليل أحياناً عدة مرات متوهماً أن الوقت أزف، وأن إدارة الفندق نسيت أن توقظني، وأن المنبه قد خذلني. ولكن عون الله تعالى ظل يمدني بالقوة حتى ظفرت بالصلوات الأربعين".

     ويبلغ منه القلق ذروته في الصلاة الأخيرة التي وافقت صلاة العصر، فيقول: "ولعله من الطريف أن أذكر أنني خلال أدائي للصلاة الأخيرة، وكانت صلاة عصر ظل فيّ شعورا الفرحة والقلق معاً حتى إذا سلم الإمام وسلمت معه ذهب القلق واتسعت الفرحة فوجدتني أسجد لله تعالى سجدة شكر بكل كياني على وافر فضله وكريم هباته، ولقد كان لهذه السجدة من السرور والرضوان واليقين والسكينة ما جعلها حالة متفردة لا تكاد تنسى".

     وحيدر الغدير في حبه للمدينة النبوية يصل درجة من الاندماج بالطبيعة من حوله، فيشركها معه في مشاعره شأن الرومانسيين، ويصف لنا تلك اللحظات السامية من ساعة الوداع في لحظة مناجاة بينه وبين ربه فيقول: "حين عزمت على مغادرة المدينة المنورة في اليوم التالي للفوز بالصلوات الأربعين ذهبت إلى الحرم الشريف مودعاً، فصليت فيه ركعتين تحية له، ثم ذهبت إلى القبر الشريف فزرته وزرت قبر الصاحبين، ثم انتحيت مكاناً هادئاً في الحرم فدعوت الله تعالى أن يتقبل مني ما فعلت وأن ييسر لي العود، ثم العود بكرمه وفضله، ووقع في قلبي أنني قد ظفرت بالقبول."

     ويصور لنا إرهاصات هذا القبول من الطبيعة حوله، فيقول: "خرجت من الحرم الشريف سعيداً نشيطاً، فلفحت وجهي نسمات حارة ما لبث أن أعقبها تيار من الهواء يسوق الغيم بأمر ربه، وإذا بهذا الغيم يرسل مطراً خفيفاً يلطف الجو، ويغسل الطريق، ويبلل الملابس، وينعش النفس. ولقد زاد هذا المطر من سعادتي حيث وجدت فيه أمارة على الظفر بالقبول؛ فالمطر رحمة، والزمان شريف، والمكان شريف، والحال طيبة، عندها وجدت قلبي يهتف وهو عامر باليقين: إنها بشرى القبول، إنها بشرى القبول!!".

     وها هو ذا في ختام مقاله (أربعون صلاة) يعبر عن لحظات الوداع تلك فيقول:

     "فعليك السلام أيتها المنوَّرة المنوِّرة، وأعادني الله عز وجل إليك في أربعينات أخرى، وهيأ لي مثل ذلك في الحرم المكي الشريف وفي المسجد الأقصى بعد تحريره الذي لابد أن يأتي بإذن الله، وتقبل مني نيتي وعملي، وصحح مني سري وعلني، وأكرمني بحسن الخاتمة"[3].

     هل كان للمدينة المنورة أن تنال مكانتها في قلوب المسلمين بغير رسول الله صلى الله عليه وسلم!؟ سؤال لا يحتاج جوابا لبداهته، فلولا هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إليها، وكونها عاصمة الإسلام الأولى لكانت مدينة كسائر مدن العالم الأخرى، من هنا فإن أي حديث عن المدينة يستدعي بالضرورة الحديث عن ساكنها وساكنيها من الرسول وصحبه الكرام رضي الله عنهم، وآثارهم وذكرياتهم، وأثر ذلك في نفس الشاعر حيدر الغدير الذي آلمه أن يتعرض الرسول الأعظم لأذى الكفار والمشركين المعاصرين كما تعرض لأذاهم من قبل، وإذا كان حسان وكعب وابن رواحة وغيرهم من شعراء المدينة آنذاك دافعوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد انبرى شعراء المسلمين في مختلف البلاد الإسلامية يدافعون عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ويدفعون عنه أذى سفهاء الدانمارك[4] وغيرها، وشاعرنا حيدر الغدير من هؤلاء الشعراء الذين فدوا رسول الله بالنفيس والغالي، فلنستمع إليه يقول: من قصيدته أبا الزَّهراء[5]:

فداؤك قبل قافيتي الجَنانُ ... وقبل السيف روحي والبيانُ

     ويرى في الرسول النور الباقي مدى الدهر فيقول:

ستبقى النورَ ما بقي الزمانُ ... وما زان الرياضَ الأقحوانُ
وما طلعت على الآفاق شمسٌ ... وما صدح المؤذنُ والأذانُ

     أما شانئو الرسول فإنهم إلى زوال، ولن يبقى لهم ولظلامهم من أثر إذا طلع الصباح، فيقول:

وأما شــــانئوك فهم بغـــــــاثٌ ... وفريـــة أحمقٍ هانت وهـــانوا
ستــطويهم ضــلالتهم ليغــدوا ... نفايــــاتٍ يطــــاردهـا اللِّعـانُ
إذا طلع الصبــــاح فلن يراهم ... فهــــمْ وهمٌ تبـــــدد أو دخــانُ
وإن سأل الأنـــامُ الدهرَ عنهم ... أجاب شرذم كانوا فحانوا[6]

     ويخاطب الشاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم مكنيا إياه (أبا الزهراء) مضمنا قصيدته شطرا من بائية أحمد شوقي، ويرى نفسه أقل من يقوم بنصرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي لفتة تأخذنا إلى أعماق الشاعر وإحساسه نحو عظمة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتواضعه في ذات نفسه، وأن الوقوف في صف نصرته صلى الله عليه وسلم واجب بكل ما يمكن للمسلم القيام به، وهو يقتدي بذلك بسلفه الصالح من الأمة الإسلامية، فيقول:

(أبا الزهراء قد جاوزت قـدري)
               غداة دعتنيَ الحرب العَـــــــوانُ
لنصرك فانتضيتُ دمي وروحي
               وطرتُ أقول: لا عاش الجبـــانُ
وقبـــلي معشر كرُموا وجـــــلّوا
               هــم الخيــــل العِرابُ ولا حِرانُ
وأمتــــــك الولود وأفتــــــديهـــا
               يسيـــــــر بها إلى السبق الرهانُ
ومن كانت حميـــــتهم مَضــــاءً
               فزانتـــــهم وزانـــــــوها فكانـوا

     ويعود إلى نفسه مرة أخرى ليرى أن ما قدمه من كلمات في نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم هي دون ما يأمله، وأنى تبلغ كلماته مقام الرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا أصاب بها الأمُنْيَة فإن لآلئها هبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلولا جيشان قلبه وروحه بالمعاني السامية التي نبعت من معنى النبوة والرسالة المحمدية ما انتظمت تلك الكلمات الحسان في سلك القبول والاستحسان، يقول حيدر الغدير:

أبا الزهراء دونك كل قولٍ
               فلي عذري إذا عجز البيانُ
وإن حسُن القصيد فأنت مُهدٍ
               لآلئه وهن مُنىً حِسانُ
كتبتُ قصيدتي بدمي وروحي
               وكان القلب يملي لا اللسانُ
وكان مدادها غضبي وحبي
               ودمعي، والوفاء ليَ امتحانُ
وكنتُ بها معنَّىً مستهاماً
               شغوفاً وهي عني الترجمانُ
عساي أنا لها في الحشر ذخراً
               يكون ليَ الشفيعَ فلا أدانُ

     ويكشف الشاعر عن مادة قصيدته ومدادها التي صاغها منها فإذا هي: دمه وروحه وقلبه، وغضبه وحبه، ودمعه ووفاؤه، وشوقه وشغفه، وهو إذ يبذل وسعه فإنه ينظر من عالم الشهادة إلى عالم الغيب، يرجو بذلك شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في يوم هو أحوج ما يكون فيه إلى عمل صالح ذخر له في صحيفة أعماله.

     ومثل أربعين صلاة التي سبق الحديث عنها يزور الشاعر المدينة فيقيم فيها أياما همه الأول فيها ألا تفوته صلاة في المسجد النبوي يقول عن هذه الزيارة في تقديم قصيدته التي بعنوان (بقيت مُنْيَة)[7]: "أكرمني الله تعالى بعشرة أيام في المدينة المنورة، لم تفتني فيها صلاة واحدة في حرمها الشريف. إنها نعمة لا تقدر بثمن." ويترجم مشاعره وأحاسيسه الإيمانية وحبه العميق فيقول:

سكنت طيبة فؤادي فأضحى
               حيث ولّى بحبها مُسْتهاما
فهي فيه أشواقه زاهياتٍ
               يرتدين العفاف والإسلاما
جئتها ألبس الخشوع المصفّى
               مثلما يلبس الفتى الإحراما

     هذا الاندماج الروحي بين الشاعر وطيبة يشاركه الطبيعة حوله، فها هو الغمام يسكب غيثه قرى للشاعر، ويا له من قرى! فيقول:
جئتها للقِرى فكان قراها
               ديمةً بلّت الثرى والأُواما
أغرقتني بجودها جعلتني
               فرحة جابت المدى والغماما
فهي تسقي أكوابها تتوالى
               يتنافسن روعة وانتظاما
وخوان النبيل يبقى نبيلاً
               وعطايا الكرام تبقى كراما

     وكما يندمج الشاعر والطبيعة من حوله تندمج المعاني، فيكاد يختلط الأمر علينا بين القرى الحسي المادي، والقرى الروحي، فما هي تلك الأكواب التي تتوالى؟ وما ذلك الخوان الذي مده له النبيل الكريم!؟ إنه الإحساس بالشبع الروحي، والري الوجداني العميق، يقول:

أتراني أنسى لها ما حبتني
               وهو سَيْبٌ أفضاله تتنامى
لا وربي فـــإن فيّ وفاءً
               أُشْرِبته الضلوع جاماً فجاما

     وهذا منه شكر النبيل الكريم الذي أكرمه، وحباه بسيب أفضاله. ويبدو أن هذه الأيام العشرة هي التي صلى فيها أربعين صلاة في المسجد النبوي، وكتب عنها مقالته: أربعون صلاة في كتابه: "صلاة في الحمراء: التي أشرنا إليها في بداية هذا المقال.

     لكن الشاعر حيدر الغدير الذي زار المدينة مرة بعد أخرى، وأقام فيها مدة من الزمن بقي متعلقا بطيبة بأمُنْيَة أخيرة يرجو تحققها، ولعلها أمُنْيَة كثير من المؤمنين المحبين لطيبة لأجل من طابت به صلى الله عليه وسلم، إنه يتمنى أن تكون مقامه الدائم في رحلته الكبرى، أن يضم البقيع جسده، ملفعا بعفو الله سبحانه وتعالى، فيقول:

بقيت منية تجول بصدري
               أن يكون البقيع فيها مقاما
حينما أنطوي فيغدو ثراه
               شارةً للرضا ويغدو وساما
وأرى العفو سابغاً يتهادى
               والبشارات تسبق الإكراما

     أما إن فاتته هذه الأمُنْيَة الغالية الأخيرة، إذ لا تدري نفس ماذا تكسب غدا، ولا تدري نفس بأي أرض تموت! فإن عزاءه أن روحه ساكنه هناك في البقيع وإن غدا جسده رماما، فيقول:

وإذا فاتني البقيع فروحي
               في سناه وإن غدوت رِماما

     إن تلك الأمُنْيَة التي بقي الشاعر الغدير متعلقا بها، تجعلنا ننظر إليه رجلا قد شمر للرحيل فأسرج فرسه، وجمع شتاته، وهذا يبدو لنا في قصيدته الأخرى التي عنوانها: (جل المتاب)[8] فنجده يقدم لها بما يؤكد هذا الشعور لدى قارئ قصائده هذه، يقول: "أكرمتني المدينة المنورة وهي دار الهجرة، ومأرز الإيمان، وموئل الجود، ومثوى الرسول الأعظم e، فاستضافتني أياماً لا تنسى، اجتهدت فيها أن أفوز بتوبة نصوح، وعساي ظفرت!" ونقول معه: عساه ظفر، وعسانا ظفرنا بمثل ما ظفر به!

     ونجده في هذه القصيدة يعبر عن حبه للمدينة بطريقة جديدة، ففرحته فرحة طفل في العيد، وهو يتغنى بحبه لمدينة غناء يخرج بها عن المعتاد، فإذا كل ما حوله يتجاوب بغنائه وتغريده وإنشاده، فتزهر أغاريده مثل الربا، فيقول:

غنيت في حبها أحلى أناشيــــدي
               وأزهرت كالربـــا فيها أغاريدي
أتيــــتها خطوتي قلبي وباصرتي
               وفرحتي فرحة الأطفال في العيد

      وتشتد فرحته عندما يدخل الروضة الشريفة، فيرى جموع المتعبدين كل قد علم صلاته وتسبيحه، فتأخذه نشوة الشعور الإيماني، ويهتز وجداً وفرحاً فيعبر عن شدة فرحته بأسلوب التعجب من نفسه، فيقول واصفاً هذا المشهد الإيماني:


يا فرحتي حينما عاينت روضتها
               تختــال في بردة الإيمان والجود
النـــاس فيها من النعــماء كوكبة
               تدور ما بين تهليـــــل وتمجيـــد
وللتراتيــــــل أصـــــداء مطيبة
               كأنها بيـــــنهم مزمــــار داوود
وللأذان امتـــــــدادات منـــورة
               وديمة في الجبــــال الشم والبيد

     ويدخل الشاعر حيدر الغدير بين جموع المؤمنين المبتهلين إلى الله الغفور الرحيم في الروضة الشريفة، ويقبل على ربه راجياً أن يقبله ويتوب عليه، ويتملكه الإحساس بالقرب والقبول من الرضا النفسي، والسمو الروحي، والطمأنينة الإيمانية، فيصف لنا بعض ما استطاع وصفه منها فيقول:

جل المتـــــــاب وجل الله قــــــــابله
               وجل منه عطـــــاء غير محـــــدود
أبدلت بالخوف أمنــاً والأسى فرحاً
               والعسر يسراً إذ الرحمن مقصودي
جعــــلته غــــايتي أسعى لها كـلفـاً
               فعـــــدت منه برضوان وتســــديد
حتى الخطايــــا التي ناءت بكلكلها
               عليّ مثــــل أفـــــــاع فوق مزؤود
غدون بالعفـــــو إحســـاناً وتكرمة
               فهن أوسمة للفـــــوز في جيــــدي

     إنها لحظات إيمانية ترتسم في أقدس بقعة على الأرض في قلب المسجد النبوي في الروضة الشريفة التي هي روضة من رياض الجنة.

     ولكن حيدر الغدير وقد انتهت مدة زيارته إلى المدينة يغادرها بجسمه ويترك فيها روحه ومشاعره وأحاسيسه ويعبر عن ذلك في مقدمة قصيدته: (حان الوداع)[9] فيقول: "أمضيت في طيبة أياماً كأنها الجنة، ثم ودعتها وأنا ظامئ." فكيف يودع الجنة من دخلها!؟ فيقول مصوراً لحظة الورود أولاً:

أتيــــتُ طيبةَ مثل الطائر الغـــــرِد
               أرجو البراءة من إثمي ومن كمدي
وأغســـل العمر مما شـــان رحلته
               من حمأة السوء أو من صولة اللدد
أومتْ إليّ فأغرتني فطرتُ لهـــــا
               على جنــاحين من توق ومن رشـد
عُلِّقتُها فغــــــدوتُ المرءَ ذا ظفـــر
               لمّـــــا رآها تمنّى فارتقى فَهُــــدِي

     هذا الشاعر الذي أتى طيبة طائراً غرداً، راجياً البراءة والطهارة والعفو من الله سبحانه، وجد فيه بغيته، أو جل بغيته، فتعلق بها تعلق الظافر بما أراد، وحق له ذلك! فقد أقام كما قال عشرة أيام حافلة بكل ما يستمتع به المؤمن العابد المتبتل من الطمأنينة بذكر الله من صلاة ودعاء وقراءة قرآن، وتفكر وتدبر، ثم حان الوداع، حان وقت الخروج من هذا الجنة الروحية، فكيف خرج حيدر الغدير، وماذا قال في لحظة الوداع!؟

حان الوداع فكنت المرءَ تسكنه
               بلابل الحزن من دانٍ ومبتـــعد
يلمنني قائـــــلاتٍ فِيمَ تتـــركها
               وطيبةُ المــاءُ سيّالاً وأنت صَد
وأنت كالطير كان المـاءُ بغيتَه
               حتى إذا جــاءه عجلانَ لم يَرد
أطلْ بطيبةَ مكثــــاً فهي حانية
               والعمر يلهث بين السعد والنكد
وقد تعــود، وقدْ لا، والدنا سفر
               سمعتهن ففتّ القولُ في عضدي

     فقد دخل في صراع مع نفسه، بين إقدام وإحجام، يوازن فيهما بين الربح والخسارة، فقد كان يبحث عن هذه السعادة فوجدها، فكيف يتركها؟ وخصوصاً أن ما مضى من العمر أكثر مما بقي، ثم إنه قد يعود مرة أخرى، وقد لا يستطيع، وخيم عليه الحزن العميق في لحظة الفراق، يغالب عينه أن تسكب أمام الصحب ما يكشف سره، فيستعصم بحبل الصبر، ولو بكى لم يلمه أحد، فيقول واصفاً حالته في تلك اللحظات:

أطرقت في خجــــلٍ مفضٍ إلى وجل
               وكدت أبكي، ولمْ، فالصبْر لي سندي
وللمـــــدامع أســــــــواط ورب فتىً
               جَــــــلْدٍ ويبكي وإن عــانى ولم يُرد
وربما ابتســـم المحــزون وهو شَجٍ
               وربما انهـــل دمع الفـــارس الحرد

     وعاش لحظات من التناقض بين الظاهر المبتسم، والباطن الذي يتأجج بنار الحزن ولوعة الفراق لأحب مكان، يسكن فيه أحب الناس طرًّا إليه، على أمل العودة، فيخاطب طيبة خطاب الراجي الآمل، ويأخذ منه الجواب أن من صدق النية تحققت له الأمُنْيَة، يقول:

يا طيــبة الخير هل لي العَوْدُ ثانيةً
               قالت - وصدّقتها - كن صادقاً تَعُد

     أما قصيدته (وساد)[10] فهي رجع صدى لقصيدته (بقيت مُنْيَة) التي عبر فيها أنه وقد حقق كل أو جل ما كان يأمله من زيارة المدينة المنورة، فإنه يتمنى أن يكون موته فيها، وهي أمُنْيَة مشروعة للمؤمن، وعنوان قصيدته (وساد) يشي بمجرد قراءته في هذا السياق: المدينة المنورة، وطيبة، وتوبة، والبقيع، أنه يرمي إلى تلك الأمُنْيَة التي بقيت..! يقول في مقدمة القصيدة: "زرت البقيع مرات لا أحصيها، لكن هذه القصيدة جاءت في الرياض، والبقيع بعيد مني مكاناً، قريب شعوراً."

     وبتصريح الشاعر أن القصيدة قيلت في الرياض بعد رجوعه من تلك الرحلة الموفقة المليئة بالهبات والعطايا الربانية الروحية في أعماقه، بهذا التصريح يؤكد ما قلته أنها رجع الصدى لقصيدة (بقيت مُنْيَة)، وما قاله في المقطع الأخير من قصيدته (حان الوداع) من تعلقه الشديد بطيبة، وعزمه على العودة، فلنستمع إليه وهو يحاور ثرى البقيع في عالمه الروحي الإيماني:

سألتُ ثــرى البقيع وقد أتينا
               حماه وهَـشَّ في صمتٍ إلينا
نسيــــرُ إليه خاشعـةً خطانا
               كأنــا للمســـــــاجد قد أوينا
وقد طابتْ مرابعـه اللواتي
               هي الأم التي تحنـــو علينا
نحـــدّثها فتفهمنـا ونصغي
               لهـــا فتبوح إيماء وعيـــنا
وما فاهت وما فهنـا بشيء
               ولكنــــا فهمنــــا وارتوينا

     إذا كان الشاعر الغدير وثرى البقيع قد فهم كل منهما ما قاله الآخر إيماءً وعيناً، من دون أن ينبس أحدهما بكلمة، فهل يا ترى فهمنا نحن من هذين الحكيمين ما أرادا، وهل استطعنا مشاركتهما في مشاعرهما؟ أغلب الظن أنْ نعم! لقد طلب الشاعر من ثرى البقيع موضعاً يكون وسادة لرأسه في مستقره الأخير في هذه الحياة! وأجاب ثرى البقيع أنه لا ما نع لديه في استقبال محب مثله، غير أن الأمر فيه ليس إليه، فما تدري نفس بأي أرض تموت!.

     ولنستمع إلى ما قاله الشاعر لنعرف أننا لم نبعد الفهم عنهما، يقول معبراً على لسان ثرى البقيع:

لقـد سكنتْ كرامُ الخــلق عندي
               ومَنْ مثـــل الصحابة قلْ وأينـا
تبـــارتْ في مودتهم رحـــابي
               وقـد أبصرنهـا شرفـاً ودَيْنــــا
ترابي المسك بل أعلى وأغلى
               يقـــول الساكنــون به اكتفينــا
فقبّـــــله وأسكنـــــه المــــآقي
               ودع ليلى الحصان ودع بثيـنا
ترابي فـــــاتحٌ عفٌ وتــــــالٍ
               ومَنْ أنجبــــن سعداً والحسينا
أنا الأرض الطهور فكن حفيًّا
               إذا ما جئـــتها وامش الهوينى
لقــــد أهدى المكـارم لي نبيٌ
               سحــائبَ ما ونين وما انتهينا

     فقال الشاعر مجيباً:

فقلت له وعمري في انقضاء
               وقد أبصرتُ بي وهنــاً وأينا
غداً آتيك هبْ لي فيــك ركناً
               فـــإن لنا وإن لم نرض حَيْنا

     أما ثرى البقيع:

فقال بلغتَ سؤلك يا صديقي
               تخيّـــرْ ما تشاء إذا التقيــــنا

     ويبلغ الشاعر في قصيدته هذه ذروة الحميمية مع تلك الأمُنْيَة التي يهرب منها كثير من الناس، ويقلقون من لحظات استقبالها وحلولها، بينما نرى في هذا الموقف الشاعر حيدر الغدير يحاور صديقاً عزيزاً محبوباً لديه، يتخاطب بالإشارة تارةً وبالعبارة أخرى، وينصرف وقد أخذ وعداً أن ينال موضعاً يتوسده في نومته الطويلة! فهل يا ترى إذا تجرأنا وطلبنا إليه أن يشفع لنا عند صديقه بأن يعطينا وعداً مثل الذي أعطاه إياه، هل يفعل!؟

     ونقف مع أنشودته عن طيبة بعنوان: (يا شذا طيبة)[11]، والتي قدم لها قائلاً: "إذا جئت طيبة حيّاك شذاها، وهو سكينة راضية، وأفراح من نور، وصفاء ممتد، ولا غرابة! ففيها سيد البشر، وكرام الصحابة، ومعالم التاريخ المجيد."

     ويتغنى فيها بطيبة ومعالمها ومآثرها، في ثماني مقاطع يتألف كل مقطع من خمسة أشطر، يقول في مطلعها:

يا شــــذا طيبة يا أغلى شــــــــذا ... حبــــذا ريّـــــــاك فينـــــا حبــذا
أنت للمســـــــلم نعــــــــــماه إذا ... جاء يرجو الرفد أو يشكو الأذى
والأمــاني موعـــــــد في ذا وذا

     ويذكر بعض الأماكن المشهورة في المدينة فيقول:

فيــــك سلع عز جـاراً والعقيقْ ... بين شطيــــه صـديق وصديقْ
يغنـمان الأنس والأنس رحيق ... وَهْو بالخــــلوة والطهر خليق
وهو للأسرار كالبحـر العميق

     ويختم أنشودته بالإشارة إلى ما سبق أن عبر عنه من أمُنْيَة فيقول:

يا شذا طيبة إن جئـت الحمى ... طالباً منه ومنــــك المغنـــما
أجزلا لي الرفـــد يأتيني كما ... يفعل الأجواد كي أحظى بما
عشت أرجوه مشوقاً مسـلما

     وفي رأيي أن لدى الشاعر سببين يدعوانه للإلحاح في بلوغ أمنيته أن يوسد في ثرى البقيع، الأول - كما قال هو- أن كل مسلم لديه هذا الحب للمدينة، وهذه الرغبة في أن يموت ويدفن في البقيع، وهذه عقيدة لدى المسلمين عامة وخاصة، وإن كانوا يعلمون أن هذا لن يتحقق لكل أحد، لكن هذا العلم لا يمنع الدعاء بذلك وطلبه.

     والثاني خاص إذ رأى الشاعر عدداً من أحبابه وأصدقائه وأحبابه يدفنون في البقيع من دون أن يسبق ذلك إرهاصات، أو إصرار وسعي منهم، ومن هؤلاء الشاعر الكبير عمر بهاء الدين الأميري الذي ولد في حلب، وعاش في بلاد متباعدة من جدة في السعودية، إلى كراتشي في باكستان، إلى الرباط وشاطئ الهرهورة في المغرب، إلى تنويمه في المستشفى بالرياض، ثم إذا به يدفن في البقيع حيث يتمنى شاعرنا موضعاً لوساده!! وهو قريب من الأميري، ولا أشك أن مثل هذا الحدث قد عمل عمله في نفسه فبات يلح على تحقق هذه الأمُنْيَة.

     وقد سجل وفاة الأميري ودفنه في البقيع في قصيدة الرثاء التي حملت عنوانا دالا لما نحن فيه من البحث عن عوامل تأجج هذه الرغبة لديه، وهو (نم في البقيع)[12]، ويقول فيها مخاطباً الشاعر عمر بهاء الدين الأميري

أأبا البراء وأنت رائد عصبـــة
               وحداء قــــــافلة تغذّ وتعنـــــق
سارت على حد السيوف كتائباً
               للحق ترنو والأصــــالة تعشق
نم في جوار الأكرمين يحفــهم
               ويحفك الرضوان والإستبـرق

     فقوله: (نم في جوار الأكرمين..) يبين لنا نظرة الشاعر إلى هذه البقعة المباركة، وهي ترشحه أن يغبط أستاذه وحبيبه في هذه النومة بجانب الأكرمين محفوفاً بالرضوان والإستبرق إن شاء الله.

     ويصرح باسم البقيع في آخر القصيدة قائلاً في معنى البيت السابق نفسه:

نم في البقيع جوار جدك هانئاً
               وإزاءك الأبــــرار فيه تحلقوا

     ولو نظرنا إلى تواريخ هذه القصائد لوجدنا دلالة أكبر لصحة هذا الرأي، فإن قصيدة (نم في البقيع) في رثاء عمر الأميري، قالها في عام 1412هـ/ 1992م، وبعدها حديثه عن أربعين صلاة في عام 1418هـ/ 1998م، وتأتي قصيدة (بقيت مُنْيَة) في 18/ 10/ 1423هـ، الموافق 22/ 12/ 2002م، وبعدها بشهر كتب قصيدته (جل المتاب) في 19/ 11/ 1423هـ، الموافق 22/ 1/ 2003م، وتأتي قصيدة (حان الوداع) في 6/ 5/ 1425هـ، الموافق 20/ 9/ 2004م، وبعدها بسبعة أشهر تقريباً كتب قصيدته (وساد) في 13/ 1/ 1426هـ، الموافق 23/ 2/ 2005م، ويكتب بعد خمسة أشهر تقريباً أنشودته (يا شذا طيبة) في 20/ 6/ 1426هـ، الموافق 26/ 7/ 2005م، وبعد ستة أشهر أخرى أيضا كتب قصيدته (أبا الزهراء) في الدفاع والمنافحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

     ويتأكد لي من هذا التتبع الرأيُ الذي ذهبت إليه في تأثره بدفن الشاعر عمر بهاء الدين الأميري في ثرى البقيع في المدينة، فكان إذا زار المدينة تحرك لديه هذا الشعور الخاص المبني على اللهفة لدى كل مسلم في أن يكون بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحبه والصالحين من ساكني (جنة البقيع) كما هو شائع في كثير من بلاد المسلمين، ونلاحظ تقارب الإحساس بهذا الشعور، وارتفاع وتيرة التعبير عنها نثراً وشعراً بشكل مطّرد لتأخذ في المرحلة الأخيرة قصيدة كل ستة أشهر، وأحيانا كل شهر! ولا شك أن عامل تقدم السن له تأثيره في هذا الاتجاه أيضاً.

     ويبقى لدي السؤال: لماذا لم يكتب حيدر الغدير قصائد في مدة إقامته بالمدينة المنورة؟ ولماذا غابت كثير من المعالم المهمة عن شعره رغم هذا الارتباط الروحي العميق، وهذه المعايشة النفسية إلى درجة التماهي!؟

     أحد وما فيه وما حوله وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم عن أحد: "هذا جبل يحبنا ونحبه"[13]؛ ألا يستحق قصيدة؟

     قباء وذكرياته وزيارة الرسول إياه راكباً وماشياً[14] ألا يستحق قصيدة؟

     مسجد القبلتين ودلالته في ارتباط المسجد الأقصى بالمسجد الحرام، وأثر ذلك في حياتنا المعاصرة؛ ألا يستحق قصيدة؟

     سلع المعلم الذي لا يغيب عن قصيدة من قصائد المديح القديمة وارتباطه بالخندق؛ ألا يستحق قصيدة؟

إن في المدينة المنورة ذكرياتٍ كثيرةً مثيرةً لمشاعر المسلم وأشواقه وحنينه، فما بالك بشاعر مرهف الإحساس، دقيق الرصد، لما يعتلج في فؤاده من الحب العميق للرسول صلى الله عليه وصحبه من المهاجرين والأنصار ولطيبة التي طابت بهم[15]!؟

------------------------------------

[1] كتاب صلاة في الحمراء، ص 62، حيدر الغدير، نشر مكتبة التوبة، ط1، الرياض، 1432هـ -2011م.
[2] قال صلى الله عليه وسلم: "من صلى في مسجدي هذا أربعين صلاة لا تفوته صلاة، كتبت له براءة من النار ونجاة من العذاب وبرئ من النفاق". رواه الإمام أحمد في مسنده.
[3] كتاب صلاة في الحمراء، مقال: أربعون صلاة، ص66.
[4] الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم: هي رسوم قامت صحيفة يولاندس بوستن الدانماركية بنشرها في 30 سبتمبر 2005 ، حيث نشرت 12 صورة كاريكاتيرية، وفي 10 يناير 2006 قامت الصحيفة النرويجية Magazinet، والصحيفة الألمانية دي فيلت، والصحيفة الفرنسية France Soir ، وصحف أخرى في أوروبا بإعادة نشر تلك الصور الكاريكاتيرية. واستنكر العالم الإسلامي ذلك، ومنهم شاعرنا. انظر:. https://ar.wikipedia.org/wiki/
[5] ديوان من يطفئ الشمس؟ ص159. حيدر الغدير، ط1، دار المؤيد، الرياض، 1427ه-2006م.
[6] هلكوا.
[7] ديوان من يطفئ الشمس؟ ص 103.
[8] ديوان من يطفئ الشمس؟ ص110.
[9] ديوان من يطفئ الشمس؟ ص137.
[10] ديوان من يطفئ الشمس؟ ص 145.
[11] ديوان غداً نأتيك يا أقصى، ص160، حيدر الغدير، ط1، مكتبة البستان، عمّان، 1427ه-2007م.
[12] ديوان غداً نأتيك يا أقصى، ص19.
[13] صحيح البخاري رقم الحديث (3855)، باب أحد يحبنا ونحبه، والحديث عن أنسٍ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هذا جبل يحبنا ونحبه".
[14] في صحيح البخاري أن ابن عمر رضي الله عنهما: ... كان يأتيه كل سبت، فإذا دخل المسجد كره أن يخرج منه حتى يصلي فيه، قال: وكان يحدث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزوره راكبا وماشياً.
[15] نشرت في مجلة الأدب الإسلامي، ص (44)، العدد (80) خاص بالمدينة المنورة، المجلد (20)، مجلة فصلية، ذو الحجة 1434-صفر 1435ه، الموافق تشرين الأول-كانون الأول 2013م.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة