الجمعة، 11 يونيو 2021

فلسطين في شعر حيدر الغدير - أ.شمس الدين درمش

فلسطين في شعر حيدر الغدير

أ.شمس الدين درمش

     للقضية الفلسطينية حضور قوي في وجدان كل عربي ومسلم، ولها في وجدان الشعراء والأدباء حضور آخر، حيث إنهم أقدر على التعبير عن مكنونات أنفسهم، وصياغة الوجدان الجمعي تعبيرا عن رؤية الأمة في قضاياها المصيرية. ولأن القضية الفلسطينية حية حاضرة متجددة بأحداثها المتوالية التي لم تنقطع يوما منذ ما يزيد على ستين عاما حين اغتصبت بمؤامرة دولية، فأعطى من يملك لمن لا يستحق، كما قيل.

     وحيدر الغدير بشاعريته المتألقة تجاوب مع هذه القضية، وعايش أحداثها، وسجل رؤيته، ومشاعره نحوها، وتناول عدة أمور مهمة في القضية، يعد المسجد الأقصى في الذروة منها، حتى إنه سمى أحد دواوينه: غدا نأتيك يا أقصى!

     ومن هنا أبدأ بما قاله عن الأقصى في ديوانه هذا ودواوينه الأخرى، ولنبدأ بالقصيدة التي حملت الديوان عنوانها (غدا نأتيك يا أقصى، ص 9)، حيث يعطي الأقصى عهدا بالتحرير، والخلاص من اليهود، وأن هذا الغد آت بإذن الله ومتحقق، فيقول:

لعهدك أيها الأقصى، وعهدك جمرة فينا
وحلم في مآقينا
ينادينا فلا ننسى، وكل خلية فينا هي الأخرى تنادينا
إلى الأقصى إلى الأقصى

     وهذا الغد الآتي مرتبط بالماضي يأخذ منه شرعيته، وأمله، ويرسم طريقه، فهو ينظر إلى معركة النصر القادمة مع اليهود من خلال معركة حطين، وغزوة خيبر، فيقول:

سنــــأتي في غـد نــــارا
وبركانـــــاً وإعصــــارا
لنصنــــــع مرة أخــرى
وقــد لاحت لنـا البشرى
بعـــــــون الله حِطيــــنـا
ونغضب غضبة كبـرى
ونصنـــع خَيبراً أخـرى
ونحمي الأرض والدينـا

     والشاعر يرسم هوية هؤلاء الآتين إلى الأقصى غدا، فهم يحملون كتاب الله في أيديهم، وموعد الغد هذا في كتاب الله الذي يحملونه، إنه وعد الآخرة الذي إذا وقع أرسل الله عبادا فجاسوا خلال الديار وتبروا ما علوا تتبيرا، إنه الوعد الذي لا مناص منه، يقول حيدر الغدير:

غداً نأتيك يا أقصى
كتاب الله في يدنا، ينادينا لموعدنا
وموعدنا صباح ظافر ضاحك
وموعدهم مساء خاسر حالك
وإن الصبح يا باغون يا عادون يا قتلة
سيأتيكم ويأتينا، ليرديكم ويبقينا، فنمضي نَعْمُرُ الدنيا، ونمضي نحرس الدينا
غدا نأتيك يا أقصى سراعاً ذادةً خُمْصا
كتائب حرة تمضي، لصون الحق والعرض، ترى التحرير كالفرض
ولا ترتد أو تحصى، ولا تعصى، تنادي أيها الأقصى
لقد جئناك سارينا، مساعيراً ميامينا، كتاب الله هادينا، وصوت الثأر حادينا
وفي اليمنى مواضينا، وفي اليسرى أمانينا
لنزرع في روابينا، وقد طهرت رياحينا
ونهدي أهلها أمناً، وزيتوناً، ونسرينا
ونسقي من بغى سماً، وزقوماً، وغسلينا
فقل: يا رب آمينا

     فهؤلاء الآتون بيدهم كتاب الله يبنون ولا يهدمون، ويزرعون ولا يحرقون، وينشرون الأمن والسلام بدلا من الخوف والرعب، يزرعون الزيتون والورود، وتصون الأرض والعرض.

     وفي ديوان (عادت لنا الخنساء قصيدة بعنوان: بل أنت يا أقصى لنا، ص 53)، يجعلها "برقية شعرية إلى المسجد الأقصى المبارك في ذكرى إحراقه" ويرى "في الأفق ملامح يوم قادم، فيه بشير ونذير، أما البشير فإنه يحمل للمسلمين أناشيد النصر، وأما النذير فإنه يحمل لليهود أصوات الناعين"، وهو يؤكد في هذه القصيدة أحقية المسلمين بالأقصى، كما أكد في قصيدته السابقة (غدا نأتيك يا أقصى) أنهم قادمون لتحرير من اليهود. ويكرر في هذه القصيدة عبارة (بل أنت يا أقصى لنا) في كل مقطع، كما كرر هناك (غدا نأتيك يا أقصى)، يقول الغدير:

بل أنت يــــا أقصى لنا ... والدهر يشــهد والسنــا
ومعـــــاهد ومســــاجد ... في القدس قد عزت بنا
وحضـــــارة ميـــمونة ... عمرت رحـابك أزمنـا
شـدنا صروح فخارها ... حسنــــاً ينافس أحسـنا
***

بل أنت يـــا أقصى لنا ... وتظل أنت الموطنـــا
للمسـلمين على المدى ... من قبــــلنا أو بعـــدنا
أمـا اليهـــــود فـــإنهم ... إفك تســــلل موهنــــا
وغداً يــــزول فإنــــه ... بالشر قـــــام وأمعنــا
***

بل أنت يـا أقصى لنا ... وتظل يـــا أقصى لنا
أما اليهــــــود فربما ... يجدون قربك مدفنــا

     فالشاعر يؤكد على أحقية المسلمين بالأقصى، أما اليهود فإنهم إفك تسللوا بغير حق، فلا بد أن يزولوا يوما، وعند ذاك قد يجدون موضعا يكون قبرا لهم أو لا يجدون.

     ويؤكد على هذه المعاني في قصيدته (يا حماة الأقصى، ص 59، من ديوان عادت لنا الخنساء)، حيث لا يمكن أن يعود الأقصى لنا، ولا يمكن أن نأتيه غدا من دون أن تقوم فئة مؤمنة مجاهدة تدافع عن الأقصى، امتثالا لأمر الله سبحانه، برد العدوان عن مساجده، والأقصى ثالث المساجد المقدسة في الإسلام، يقول الشاعر الغدير واصفا هؤلاء الحماة مناديا إياهم في بداية كل مقطع من القصيدة:


يا حماة الأقصى عليكم ســـلام
               أنتـــم السيــــف سلّه الإســـلام
وحفـــاظٌ من المروءات غـــالٍ
               ويقين فــوق المدى واعتصــام
أنتـــم الأشجعــون عقــلاً وقلباً
               ركبــــوا كل شدّة وأقـــــــاموا
       *****

يا حماة الأقصى عليكم ســـلام
               من ملايينَ لم تــزل تشـتـــــام
رادةً ذادةً فكـنـــــــتم منـــــاها
               ورجاها إذ تصــــــدق الأحلام
وطلعتم لها صقــــور اقتحـــام
               زان أحلامهــا فدىً واقتحــــام
       *****

يا حماة الأقصى وأنتـــم بروق
               صادقـــات تهمي وأنتم سهــام
فوَّقـتهـــا الأقدارُ فهي جنــــود
               ليس تخطي إذا رمت فالهــــام
أنتــــم النــور في علاه ويــوم
               سيّـــــد حيــن تذكر الأيــــــام
وليوث تحمي العرين غضاب
               ما عراهـــــا يوم الكريهـة ذام


    فهذه الأوصاف التي أضفاها الشاعر على حماة الأقصى من الإيمان والشجاعة والريادة والصدق وحملة النور هي صفات الفئة المؤمنة المجاهدة التي بشر بها الرسول صلى الله عليه وسلم أنهم في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، ولذلك يطلب من سائر الأمة بلسانهم أن تعينهم في حربهم مع اليهود، فيقول:

أيهـا المســلمون لا تخذلونا
               نحن دين وإخــــــوة وذمام
انصرونا فنحن للقدس قمنا
               إنما ينصـــر الكرامَ الكرام
قد دعانــــا إليه أغلى منـادٍ
               فأجيـــبوا فإنــه الإســــلام

     وحيدر الغدير التفت في عدد من قصائده إلى الرموز اليهودية المجرمة التي تقود الحرب على الإسلام والمسلمين في فلسطين كلها، وفي القدس والأقصى بخاصة، فقول في قصيدة بعنوان (أعماك حقدك، ص 67، من ديوان عادت لنا الخنساء)، ومن هؤلاء رموز دينية مؤثرة في المجتمع الصهيوني في فلسطين المحتلة، فوجه خطابه إلى "الحاخام عوفاديا يوسف الزعيم الروحي لحزب شاس في فلسطين المحتلة لما عرف عنه من سفاهة وبذاءة، حيث سب العرب سباً قبيحاً ودعا إلى إبادتهم وقطع نسلهم"، حسب المقدمة التي وطأ بها للقصيدة، يقول الغدير:

أعماك حقـــدك أيها الحاخـــــام
               والحقـــد عند ذويه ليس ينـــــام
فهو الضنى فيــــهم وسم قاتــــل
               وسعـــار محموم الحشا وضِرام
يسطو بهم ويســــومهم ويشينهم
               فــــإذا بهم في أسره أيتـــــــــام
يتطاولون وهم أذل من الحصى
               وهم الدمى تلهــــو بها الأقــوام
ويفـــاخرون وهم عبيد ضـلاله
               ويســـــابقون وهم به أقــــــزام
ويكـــــابرون وهم بقـــايا أنفس
               محقــــورة لم يطوهن رجـــــام

     ويكرر في كل مقطع من القصيدة الشطر الأول: "أعماك حقدك أيها الحاخام "للدلالة على شدة تفاعله مع الموقف السيئ لهذا الحاخام، بما جعله يصب غضبه عله سياطا لاهبة موجعة.
     وفي قصيدة (ونحن الحق، ص 51، من ديوان عادت لنا الخنساء) وقفة أخرى للشاعر حيدر الغدير مع الحاخام عوفاديا، فيوجه "برقية شعرية إلى حاخام جاهل" يقول في مقدمة القصيدة: " قال الحاخام عوفاديا يوسف الزعيم الروحي لحزب شاس في المسلمين كلاماً سيئاً يمتلئ بالحقد والشر والكفر والجهل، معتمداً في ذلك على التلمود، فباح ببعض ما في صدره وما في تلموده من آثام"، ويختم قصيدته قائلا:

تأمل أيهــا الحاخــــــام دهـراً
               وتاريخــاً لكم بالإثــــم فـــاحا
لـتعــــلم أن دولتــكم ستمضي
               كحــــلم مرَّ لمحــــاً ثم راحــا
وما تبقى الزيوف وإن تمادت
               ويبقى الحق ما الإصباح لاحا
ونحن الحق يا حاخــــام نبقى
               لنــملأ هذه الدنيـــا صلاحـــا
وأمجـــــاداً مطهــرة حسـانـاً
               لبسن على وضاءتها السماحا
وأنتــــم في غد خبـــــر دميم
               يقيـــــم عليه أهلـــوكم نواحا

     وفي قصيدة بعنوان (احفر ضريحك، ص 73، من ديوان عادت لنا الخنساء)، يخاطب مجرم الحرب شارون في دولة إسرائيل المغتصبة، عندما تمادى في عدوانه على الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية وغيرهما، فرأى الشاعر في ذلك التمادي قرب نهاية الظالم، فاختار لقصيدته هذا العنوان اللافت للنظر، فيقول بعد أن يعدد جرائمه التي فاق بها مجرمي الحرب المشاهير في التاريخ من أمثال جنكيز خان في الشرق، ونيرون في الغرب، يخاطبه قائلا:

يا أيهــــا الغـــــرُّ الذي أزرت به
               أحـــــلامه الحمقى وهن منــــون
هلاّ أفقــــت ولن تفيـــــــق وإنما
               يصحو الفتى الميمون لا الملعون
إبليــس أورثــــك العناد بكبــــره
               فـــــإذا بك المغرور والمفتــــون
وغداً ستعنـــو للقصــــاص لأننا
               آتون كالأقــــــدار يا شــــــارون
فاحفر ضريحك كي يضمك جثة
               أوْ، لا، فإنـــــك في العرا مدفون
تـذرو بقــــاياك الريــــاح ذميمة
               وتعــــافها الحشرات حيث تكون

     وتوجه الشاعر الغدير إلى شارون بقصيدة أخرى بعنوان (الصبح موعدكم، ص 84، من ديوان عادت لنا الخنساء)، وخطاب العنوان بضمير جمع المخاطب المقصود به اليهود الإسرائيليون كلهم، وخصص فيها شارون بالخطاب لأنه هو الذي كان يقود الأعمال الحربية الإجرامية ضد غزة خاصة، يقول الشاعر مخاطبا الإسرائيليين:

الصبــح موعدكم فأين المهربُ؟
               والشرق نحن يحيطكم والمغربُ
أدمنتم الآثـــــــام وهي سخـــائم
               تعدو بكم وهي الضـلال الأكذب
في أسـرها أنتم وفي غـــمراتها
               أنـّى اتجهتــم حاضرون وغيّب
أعمت خطاكم فالجهــــالة دينكم
               تملي عليكم ما تشـــــاء وتكتـب
أنتـــم خلاصة سمّها وزيوفـــها
               وأذل من رأت القرون وأعجب

     ثم يتوجه بالخطاب إلى شارون بعد أن يصفه بأوصافه من النقيصة والغرور والفساد والمكر، فيقول:

فاستقبـــــلوا يوم الردى وتأهبوا
               شـــارون إن الظلم يقتل أهــــله
رعنـــــاء أغراها سراب خـلّب
               لمصيــــركم إذ تنطوون كفرية
تبقى لنا ولهـــا الجلال الأرحب
               والقدس مصيدة الطغاة ولحدهم
وجنــوده من كل صوب موكب
               والخـــــالد الإسلام في أعراسه

     فالشاعر في مطلع القصيدة أشار إلى الآية الكريمة التي أوعدت قوم لوط بالعذاب، فقال تعالى على لسان ملائكته مخاطبين لوطا عليه السلام، يبثون في نفسه الطمأنينة: [إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب]، وهكذا يعطينا الشاعر هذا المعنى الدلالي العميق بقرب نهاية الظالمين. وفي البيت ما قبل الآخر ذكر الشاعر القدس، وأنها مصيدة الطغاة ولحدهم، فكم غزاها من طغاة وظالمين، وآل أمرهم إلى الزوال!.

     وفي قصيدته (أيها المعتدون، ص 105، من ديوان غدا نأتيك يا أقصى) يرسل الشاعر كلماته شواظا من نار على المعتدين، وعلى رأسهم شارون، وفي مقدمة نثرية يوجه قصيدته رسالة مفتوحة: "إلى شارون ومَنْ معه، ومن قبله، ومن بعده، من أعداء الدين والوطن، والأرض والعرض، والحرية والعدل، والشجر والبشر، والهواء والماء، في فلسطين المحتلة." ويقول في مطلع القصيدة:

أيها المعتدون كيف النجــــــاءُ
               نحن طلاّبكم ونحن القضــــاءُ
أنتـــم الظالمون والظلم يردي
               صــــانعيه فهم به أشقيـــــــاء
سنــــة الله منذ كانت وتبــــقى
               أنْ سيأتي مثل الصنيع الجزاء

     ويظهر الشاعر تماسك الأمة في وجه الاعتداء الصهيوني، والظلم اليهودي على فلسطين والقدس والأقصى وشعبها، ويعرب عن يقينه بزوال العدوان والظلم مهما تكبر وتجبر، فيقول:

أيها الراكضون في القدس تيهاً
               أنتــــم الواهمون والأغبيـــــاء
إنكم فلتـــــة وتمضي سريعــاً
               كالســـوافي، وفرية رعنـــــاء
وبقـــايا من الخرافــات حمقى
               زوّرتها السخــــائم الشوهـــاء
لن تظلوا في دارنـــا غير ليل
               وضحـــــاه ثم المـآل هبــــــاء

وهنا يستنجد الشاعر بالرموز التاريخية التي صنع الله سبحانه النصر على يدها فيذكر عددا من الأسماء، ويتبعها بأسماء معاصرة أيضا، فيقول:

أيهـــا المعتـــــدون نحن المنــايـا
               قـــاهرات ومـالهـــــا إبطــــــــاء
نحــن آتـــون عنــــوة واقتـــداراً
               وسيـــوفاً ظمــأى ونحن ظمـــاء
كلنــــا حمــــزة وزيــد وسعـــــد
               والمثــــنى ومصعـــب والبـــراء
والحسيـــــــنيّ يوم هـبَّ فأبــــلى
               والشهيــــد القســـــام وهو اللـواء
وعبيــــر وبســـمة وسعــــــــــاد
               وسنــــــاء وفـــــاطم ووفــــــــاء
والمصونات من ذؤابـــات قومي
               هن زهــــر المنى وهـــن العطاء
يتنـــــافسن في الثواب احتســـاباً
               مسرعات وحيـــن يدعو النــــداء
في الطريق الذي مشتـــه قـــديماً
               وهي تتـــــلو أســـماء والخنســاء
ومشته البتول «آيات»[1] جذلى
               وجُــــــــذاها الآيـــــــات والآلاء
سيـــــدٌ إثر سيـــــدٍ وفتـــــــــــاة
               إثــر أخرى ويصعب الإحصــاء

     وبذلك يرسم لوحة جميلة من صور وتاريخ هذه الأسماء العظيمة رحالا ونساء، وفتيانا وفتيات، بما يؤكد زوال دولة قتلة الأنبياء في فلسطين أرض الأنبياء.

     وفي قصيدة بعنوان (شَرَك، ص 105، من ديوان عادت لنا الخنساء) يتحدث حيدر الغدير عن البغي بصفة عامة، وعاقبته السيئة، وأن شرك لصاحبه يرديه ولو بعد، كما قدم بذلك للقصيدة. وهو في السياق يقدم المثال الواضح والصارخ لهذا البغي والباغي وعاقبته المنتظرة اليهود، فيقول عن المعاملة الحسنة من المسلمين لليهود، ثم بغيهم على المسلمين:

منا السخـــاء وكان الخوف قـــد هـرأه
               جـــــــاء اليهوديُّ يرجونـــــــــا فأمَّنه
سوط من الرعب مثل السيف قد وجأه
               أنـّى مشى في فجـــــاج الأرض أرّقه
والســـــوء يسكن أخراه ومبتـــــــدأه
               حيـــــاته نقــمة من بعـــــــــدها نقــم
ونحـن من حـــــاطه فيه ومن كـــلأه
               وَوَحْـدَنــــــا نحن من أهداه مأمنـــــه

     وهذا الذي يذكره الشاعر وصف لحالة اليهود في بلاد كثيرة عبر التاريخ وآخرها ما تعرضوا له في الأندلس من إبادة وتهجير مع من هجر من المسلمين إلى المغرب وإلى الدولة العثمانية، فأقاموا فيها في دعة وأمن وسلام، ولكن قابلوا المعروف بالإنكار، وكشفوا عن جلد الذئب بعد الظهور بثوب الحمل، يقول الشاعر:

حتى تفرعن والشيـــــــطان من درأه
               دار الزمان بنــــــا في غفـــــــلة وبه
كما يعيــــث بها الطاغوت والـهُـزَأة
               فسار في الأرض إعصاراً يعيث بها
والوهـــم قد طمّه والبغي قـــــد ردأه
               وجاءنـــــا مجرماً تغــــــلي سخائمه
نيــــرانه ورجــــوماً حُمِّلت وبـــــأه
               يُصْـــلي حمانـــا الذي آواه ملتجئـــاً
وسوف يصــــرعه جهراً وإن نسـأه
               إن الغـــدور له من بغيــه شــــــرك
تـذرو السوافي إلى كل الدنى نبـــأه
               غـــــداً سيقتـــــله في لمحــــة وغداً

     فهذه حالتنا مع اليهود، وإن غدا لناظره قريب.

     وحيدر الغدير مسكون بهم المسجد الأقصى وعودته إلى المسلمين، وعندما يتلاشى الأمل القريب في الواقع الذي نعيشه للأمة لا يصيبه اليأس، وينبعث الأمل لديه في الحلم ولو في سنة من النوم، وهكذا يعنون لقصيدته بـ (أمل، ص71، من ديوان غدا نأتيك يا أقصى)، ويقدم لها بهذه المقدمة الكاشفة عن لحظة التجربة الشعرية التي ولدت القصيدة، فيقول: "في سِنةٍ أصدق من النوم واليقظة، رأيت أمل المسلمين في عودة الأقصى عزيزاً محرراً قد تحقق، وبعض الآمال كبعض الرؤى تأتي مثل فلق الصبح".

     ويصف لنا أمل الفتح هذا أنه يطوي اليهود في فلسطين كما طواهم من قبل في خيبر وقريظة، وهو يستند إلى حديث البشارة بقتل اليهود على يد المسلمين حتى إن الحجر والشجر سينادي هذا يهودي مختبئ ورائي تعال فاقتله! وسيكون ذلك القائد مثل من سبقه من فاتحي القدس الفاروق أولا، ثم صلاح الدين ثانيا، فيقول:

أمل يضيء وبالبشـــــــائر يبــــرقُ
               جذلان يستبـــــق الخطوب فيسبــقُ
أملي الذي ملأ الجـــــوانح بهجــــة
               ومشى بما أرجو وأزهـــــــو يغدق
أني سمعــــت الثــــــأر يدعو أمتي
               فــــإذا صـداه وقد تهادى الفيـــــلق
يمضي به ويقـــــــــــوده ذو هــمة
               للنصــــر فيه أو الممات تشــــــوق
يطوي اليهود كما طوتهم خيـــــــبر
               وطوى قريظة يوم خــــانوا الخندق
حتى الحجارة سوف تصبــح عونه
               في زحفـــــه يوم اللقـــــــاء وتنطق
والموعـــد الأقصى وراية أحـــــمد
               ستجـــــوز آفــــاق السماء وتخفــق
والفـــــاتح المنصور بين جنــــوده
               بالنصــــر زاه بالوقـــــار مطــوق
عنـــــت الـيهـود لأمره وجبـــــينه
               لله عـــــان مستــــــكين مطـــــرق
وسعى له الفاروق يشــــكر صنعه
               وصـــلاح وهو بشــــاشة تتـــدفق
وتعــــانقوا فإذا الجميـــع قــــلادة
               قبل الصدور على القــــلوب تعلق
وعلا على الأقصى الأذان مظفراً
               فــــإذا العيــــون بدمعها تغرورق

     والشاعر يعيش هذا الأمل هاجسا لا يفارقه، لأنه عقيدة يؤمن بها، فهو جزء من كيانه في اليقظة والنوم، فيقول فيه أكثر من قصيدة، ويكرر ذكره في سياق قصائده الأخرى، ويرقب الفاتح الثالث للقدس، ويسميه (الثالث الميمون، ص97، من ديوان غدا نأتيك يا أقصى)، ويقدم لها قائلا: "إلى الثالث الميمون الذي سينقذ القدس من الاحتلال اليهودي، كما فعل من قبل الفاتحان العظيمان: عمر بن الخطاب الذي أنقذها من الاحتلال الروماني، وصلاح الدين الأيوبي الذي أنقذها من الاحتلال الصليبي. إليه وهو من ترقبه الأمة بإجلال واشتياق، وقد صار لها سري رؤاها، ونجي مناها، وحلمها الدائم" ويبحث عنه في كل مكان؛ في الأرض وفي السماء، ممتطيا أحلامه، وخواطره البيض، ومصطحبا طيوفا لا ترى من الأصحاب، فيقول مجيبا من يسأله:

وتســــــألني الأفــــــلاك عما أريــــــــده
               فأهتـــــف حتى أســـــمع الصم والبكـــما
وحتى تراني الشمس في النــــــاس حادياً
               أهـــز موات الحي والميــــــــــت قد رمَّا
أريــــد الفتى الآتي على صهـــوة الردى
               إلى القدس مثل السيف يستـــأصل الظلما
يحـــرر أقصـــــاها ويحمي ذمـــــــارها
               ويمحـــو عن التـــــاريخ والأمة الوصما
هو الثــــــالث الميمون والله صـــــــاغه
               فكان الفتى السبـــــــاق والهدي والحزما
أمانيه «محض الرشد في محض قدرة»
               ورايــــــاته الأمجاد لم تعرف الغشــــما
إليه ومنــــه اليـــوم وهج قصيــــــــدتي
               وحب إذا طــــــال انتظــــاري له أرمى

     وهكذا يجعل الشاعر قصائده إلى هذا الثالث الميمون الفاتح المنتظر للقدس، ومنه تتفجر تعابير سامية محلقة في الفضاءات العالية. ويناديه واصفا إياه سليل العلا، ويبثه ما يعيثه اليهود من فساد في القدس الطاهرة، طالبا أن يطهرها من فسادهم ورجسهم، فيقول:

سليل العلا في القدس تعبث عصبة
               على الغدر والعصيان قد نشأت قِدْما 
وفَيْنا لهم دوماً فخـــــانوا عهودنا
               وصاروا لنا حرباً وكنا لهم سلما
تداعوا إلى القدس التي نحن أهلها
               وفيهم سُعار كالجنون أو الحمى 
أتوها نفوساً كالِحـــاتٍ دميمةً
               وأفئدةً حرّى و أغربةً عُصْما
فيا ويحها تصلى بنيران بطشهم
               فأيامها شكوى وأرجاؤها كَلْمَى
تنادي علينا راعفــاتٍ جراحُها
               ألا من شجاع إن رمى سهمَه أصمى 
ونادت مع القدس الأسيرة صبية
               وطفل رضيع كابد الجوع واليتما
ونادت محاريب ونادت قوانت
               نريد خيولَ الثأرِ لا النثرَ والنظما

     ويلتفت الشاعر حوله، وينظر هنا وهناك، وتدور عيون الملهوفين، ويتراءى له قادم، فيقول الشاعر: كنه أيها الثالث الميمون منقذ القدس من اليهود:

ودارت عيون الناس تستشرف المنى 
               تسائل: أين الشهم؟ هل جــاء أم لمَّا
فكنه؛ تكن للقدس أروع مفتـــــد
               وكنه؛ تكن للقدس فارسها الشهما
وإن لنا في القدس يوماً مظـــفراً
               يكون لنا عيداً ويغدو لهم شؤما
ولا بد أن يأتي ففي الآي وعده
               وفي السنة الزهراء والنخوة العظمى 
وفيه ستعـــلو في فلسطين رايــــة
               عليها سنا التوحيد صافحت النجما 

     غير أن رفاقه ليسوا معه في الرؤية والرؤيا المباركة المتفائلة، ويستبعدون ما يتوقعه، واصفين ذلك بأنه خيال شاعر، يعيش في غير واقعه وعالمه، فيجيبهم:

يقول رفاقي: إنه حُـــلْمُ شـــاعرٍ
               فقلت: هبوه نحن من يجعل الحُلْما
حقائقَ مثلَ الشمس والناس والدنا 
               وقد شمخت هاماً وقد كرمت حِلْما 
ونحن سنبقى، واليهودُ خُرافـــةٌ
               ستمضي وتغدو مثلهم في الدنا ذما 
حقائق هذا اليوم أحلام أمسنـــــا
               وها هو حلم اليوم من غدنا أوما
يقول: غدُ الإسلام مجدٌ مظفرٌ
               سيأتي كما يأتي القضاء إذا حما

     وإذ يرد على رفاقه المثبطين فإنه يرى في حماة الأقصى، والمجاهدين في أكناف بيت المقدس إرهاصات قدوم ذلك الثالث الميمون، فيقول:

أحيي بـــــأولى القبــــلتين عصـــــــــابةً
               إذا هي قـــــالت كانت العــــمل الضخما
يبـــــاركها الله الذي بــــــــــارك الحمى
               وجلت مقـــــــادير الإله لهـــا حكـــــــما
تنادت لتحمي الأرضَ والعرضَ والهدى
               وتفدي ثرى الأقصى العزيــز وما ضمّا
على يدهـــــــا اليمنى كتـــــاب وسنــــة
               وفي يدها اليســـــرى تلاقي القنا الصما
كتـــــائب فيها ألْفُ عــــــمرٍو وخــــالدٍ
               وألــف همُـــــامٍ يأنف الذل والضيـــــما
وألف حَصَـــــانٍ تقتــــــدي بسميـــــــةٍ
               وقد عشقــــت حب الشهــــــادة أو أسما
وشيــب وشبـــــان وطفـــل وصبيـــــة
               وفيهم عنـــــاد الحر لا يعرف الســوما
على كفــــهم مقـــــلاع داود ظـــــافراً
               وداود منـــــا، نحن منـــــــه، ولا لوما

     وفي البيت الأخير يوغل الشاعر في التاريخ؛ تاريخ بين إسرائيل أنفسهم، فيجعل مقلاع أطفال الحجارة مقلاع داود عليه السلام الذي يجعله اليهود أحد أعمدة عز دولتهم في الماضي، فيقلب الشاعر عليهم الأمر ويقول: إن داود رسول حق في سلسلة مواكب الأنبياء والرسل، فهو منا ونحن منه، وهؤلاء الظالمون المعتدون ليس لهم منه شيء.

     ويأوي الشاعر إلى الراحة بعد ذلك الجدل بينه وبين رفاقه المشككين في أحلامه فتأخذ غفوة يرى فيها ما يراه من قبل، كأنه رأي العين فإذا هم؛ هم أنفسهم الثلاثة الميامين، فاتحي القدس السابقين والثالث المنتظر، فيقول مصورا رؤياه:

ومر بنا طيفٌ ملامحه الرضا
               وإن عليه من بشــــاشته بَسْما 
فقال: تأملْ ها هنـــــاك بشارة
               عليها الوعود الخضر ضاحكةً شَمَّا
تأملتها حيناً فكانت ثـــــــــلاثةً
               هم النصر لم يعرف خداعاً ولا إثما
هنا عمر الفاروق يسجد شـــاكراً
               هناك صلاح الدين بالمجد معتما
وثالثهم لم أبصر اليوم وجــــهه
               ولكنه بدر الســـــــماء إذا تمـــا
منِ الثـــالثُ الميمونُ؟ الله وحده
               سيأتي به نعمى ويأتي به رغما
أكان اسمه عمراً؟ أكان عبادةً؟
               أنا لا أسميه، فربي الذي سمى

     وهكذا نكاد نرى ما يراه الشاعر بأم أعيننا يقظة لا مناما، لقوة إحساسه بما يعتقد من قرب تحرير فلسطين والقدس والأقصى.

     وتتكرر هذه الرؤية والرؤيا لدى الشاعر في قصيدته (صباح مؤمن، ص88، من ديوان غدا نأتيك يا أقصى)، فيقول: "رأيت فارساً من فرسان الفتح، على صهوة جواد أبيض فحملني هذه البشارة." فقد كان الشاعر في جو حزين لما يقع في القدس من عدوان اليهود، فتأتيه البشارة لتفرج همه وكربه، وتبعث الأمل بالنصر القريب، فيصور لنن الجو الذي كان فيه فيقول:

أطرقت في أسف حزيناً مَوهَنا
               والليل يمضي مثل حالي مُوهَنا
والنجم مثلي ناظري ومسامري
               أرنو له وأراه نحوي قــد رنا
والقدس أحزان تطول ثقيــلة
               تغشى الديار وأهلها والأعينا
فطيورها تشدو ولكن للشجا
               وأذانها يعلو ولكنْ محــــزنا
والمسلمون عدا عليهم وهنهم
               والوهن أفتك بالذليل من القنا

     ففي هذا الجو الكئيب الحزين الثقيل تأتيه البشارة:

ولمحت في الظلماء صهوة فارس
               يعدو فيسبق نفسـه حتى دنـــا
من أنت قلت: أخـالد أم طارق
               أم سعد أم عمرو أجبـني إننا
نهفو لمثــلك نحن حولك أمة
               طالت مواجعها وطال بها العنا
والقدس ترقب مثل سيفك ظافراً
               والناس والتاريخ يرقب والدنا
من أنت يا أغلى البشارات التي
               شمنا بها الوعد المظفر والمنى

     فيأتيه الجواب من ذلك الفارس:

فأجاب: كل المسلمين أنا همُ
               وأجاب: كلُّ الفاتحين همُ أنا
هم أرسلوني كي أزف بشارة
               لك بل لهم بل لي سناها بل لنا
النصر آت قد دنت أقــــداره
               فأجبت في لهف وطار بي الهنا
ماذا ومن ومتى وأين الملتقى
               فأجاب حيث المسلمون وهاهنا

     ويخاطب القدس في ختام قصيدته، معرفا بعنوانها: صباح مؤمن، فيقول:

يا قدس موعدنا صباح مؤمن
               يأتي به الأنجاد نضراً مؤمنا
صنعوه من نصر تزيّن بالتقى
               وتزيّنوا للقــــائه وتزيّنـــــا
هم مؤمنون ومحسنون فهل ترى
               نصراً لهم إلا نبيلاً محسـنا

     وهذه الرؤية المستبشرة لا تغادر الشاعر، ونجدها في سياق قصائد أخرى، يقول في قصيدته (غدا نأتيك يا أقصى، ص9):

سنلقى نصرنا طلقا، يعانق حسنه الحقا، ويقفو رعده البرقا
على أهداب مئذنة، وفي أوراق سوسنة، وفي إنشاد مؤمنة
وفي أحلام رابية، وفي ماء وساقية
وفي يافا، وفي عكا، وفي صفد، وفي الرملة
وفي النارنج والليمون والتفاح والفل، سقاها الطل في الليل
وفي زيد، وفي سعد، وفي حسنى، وفي لبنى
وفي الخيل التي تعدو، وفي الطير التي تشدو

      وبعد هذه الجولة في كل مكان استطاع أن يفكر به، ويستذكره يلتقي الفاتحين الثلاثة فيقول:

ونلقى الفاتح الأولْ، أبا حفص بهيبته
ونلقى الفاتح الثاني، صلاحاً في وضاءته
ونلقى الفاتح الثالثْ، فنعرفه بطلعته
وقامته التي شمخت، وسطوته، ورحمته
ونسجد كلنا شكراً، لواهب زحفنا النصرا

     ونقف في ختام تجوالنا مع الشاعر حيدر الغدير في حدائق رياضه الشعرية على أرض فلسطين، وفي ربوع القدس الشريف، وفي المسجد الأقصى المبارك؛ نقف مع أولئك النخبة الأطهر الذي اختارهم الله سبحانه تكرمة شهداء في سبيله فكتب لهم حياة دائمة إذ يظنهم الناس أمواتا، فيقول في قصيدة (الشهداء، ص74، من ديوان عادت لنا الخنساء) وقد جعل إهداءها: "إلى الشهيدة السعيدة، الصغيرة الكبيرة، آيات الأخرس ومَنْ قبلها ومَنْ بعدها من أبطال فلسطين، رجالاً ونساءً، صغاراً وكباراً، الذين يصنعون للأمة نصرها القادم بدمائهم الطاهرة".

أنتم الخــــالدون والأصفيــاء
               أنتــم البـــاذلون والأوفيــــاء
أنتم المفتدون أرضاً وعرضاً
               والذؤابـــات باركتها السـماء
إن أغلى ما في الحيــاة شهيد
               بردتــــاه هما السنـــا والسناء
والذي يصنـع الحيـــاة ويبني
               مجــدها باذخاً هم الشــــهداء

     والشاعر جعل قصيدته هذه للشهداء عامة، فلم يذكر فيها أسماء بعينها من فلسطين ولا غيرها، إلا أنه ربها بأرض الإسراء فقال وهو يصف جراح الشهيد:

الجراح التي عليه هتاف ... والهتاف الذي لديه دعاء
والدعاء الذي لديه براق ... والبـراق الذي له إسراء
وله من فم الزمان ثنــاء ... سطرته قصيدة عصماء

     وللشاعر وقفة مع الأم الفلسطينية التي تدفع بابنها إلى الجهاد والشهادة راضية، ثابتة الجنان، فهو يوجه إلى تحية إكبار وتقدير، ويجعل مثالا للأمهات المجاهدات اللاتي أعدن سيرة الخنساء، وخصوصا أن القصيدة في ديوان (عادت لنا الخنساء، ص79، بعنوان أودعتك الله)، يقول في إهداء القصيدة: "إلى الأم الفلسطينية البطلة التي جاء ابنها يستأذنها ويودعها قبل انطلاقه إلى عملية استشهادية، فشجعته ودعت له وربطت على قلبه، وهي في غاية السعادة والثبات، ذلك أنها على يقين أنه ذاهب ليموت فيحيا." فهو من هنا يشبهها بأسماء بنت أبي بكر الصديق، وبالخنساء رضي الله عنهما:

وأنت - واليوم صنوُ الأمس - خنساء
               بل أنت في عزة الإيمان أسمـــــاء

     ويصور موقف النساء الأخريات اللاتي لا يملكن شجاعتها ويقينها فيقول:

يركضن يسألن من هذي؟ وكيف أتت؟
               وكيف أهدت فتاها؟ أهي حمقاء؟
كلا ولـكـنـــــها أم تملّــــــــــكـها
               يقيـــــنها وهو أطيــــــاف ولألاء
فبـــــاعت الله أغلى ما حبـــاه لها
               وقـلبــها بالرضــــا مسك وأنــداء

     وهذا موقف صعب على الرجال، فضلا عن المرأة، فما بالك بالأم تدفع فلذة كبدها على الموت! يقول الشاعر في وصف موقف الوداع:

أتأذنين؟ وســــال الدمع مؤتلقـــاً
               والصمت بوح وإغماض وإغفاء
وللعيـــــون ابتــــهالات وأدعية
               وللســـرائـــر إخفــــاء وإفشـــاء
قالتْ وما نبستْ، أغضتْ وما سكتتْ
               وما عراهــن فيما قــلن إعيـــاء
والدمع يملي وللأشـــواق لهفتها
               وللســـؤال كمـــا للدمع إمــــلاء
أذنــتُ، كلا، نعم قــلـبي يحدثني
               أني سأفقـــده والخــــوف إزراء
إذن تلين قنــــاتي وهي شــامخة
               والإذن كالمنع ضــرّاء وســراء
من قــــــال أفقــده؟ إني سأربحه
               إني أذنــت ولا عَــــوْد وإبطــاء
إني أذنت، وقل لي، كيف أمنعه
               من عشقه وهو إعتاق وإرضاء؟
وَهْو الجدير بما يرجوه وَهْو فتى
               في هجـــعة النـــاس قوَّام وبَـكَّاء

     هذا الموقف المشحون بالعواطف الجياشة المتناقضة المتضاربة، تنتصر فيها الأم بعقيدتها وبإيمانها بسمو الشهادة، ومكانة الشهيد عند الله سبحانه، وترى في استشهاد ولدها ربحا لا خسارة، لذلك تأذن له راضية قائلة بلسان حالها:

يا موت خذه فتى يحمي عرينــته
               وموته عرســــه والسعــد مشّــاء
في عرسه سوف تلقوني مزغردة
               وفي يميــــني التي ربته حِنّـــــاء

     وتدعو الله سبحانه، مسمعة ولدها أنه وديعة عند الله، وعند الله لا تضيع الودائع:

أودعتـــك الله جل الله يا ولـــــدي
               والملتـــقى جنـــة زهراء غنــــاء

     وينطلق ولدها فتخر لله ساجدة شاكرة:

وخرّت الأم للرحمن ســــــاجدة
               تبكي وتضحك والحالان نعــماء
وروحها في سماوات عَلَوْنَ بـها
               وحولها الملأ الأعلى وقد جاؤوا
والطير تشدو لها والسعد توأمها
               والبشر من حولها روّاحُ غـــدّاء
قــالت: أيا رب إن ابني به ظمأ
               إلى الشهادة فهي الحلم والمـــاء
إن الشـــهادة حسناء تعشَّــــقها
               والعشــــق توق وأفراح ولأواء
يعتــــاده فهو مجنــون به كلف
               وللجنـــون ابتـهالات وإيحــــاء
ورِيُّــــه دمه ينــــــهـلُّ في مَـــرَحٍ
               على ثرى القدس والأعضاء أشلاء
هبــها له إنــــه أهــــل لهـا وبهـــا
               يساكن الطير جذلى وهي خضراء
وإن ينــــلها فإني فرحة سرحـــت
               وبســمتي كالدنى الفيحــاء فيحــاء
أمّا رضـــاك فأغلى ما نؤمـــــلـه
               وهو المنى البيض جادتهن سحّـاء

     وقد أبدع الشاعر في وصف حالة الأم التي ودعت ولدها، وما جال في خاطرها من أفكار ومعان، وما يؤمله الفتى الذي ذهب لمواجهة الموت النبيل راضيا مشتاقا.

     ويختم هذه القصيدة الرائعة بأبعادها المعنوية والنفسية، وحسن رصدها وتصويرها، مشيدا بفعلها الإيماني الذي يندر أمثاله في التاريخ، فيقول:

لله أنـــت وتبقيــــن المــدى مثــــلاً
               يروى وتتبعــــه هنــد وشيــــــماء
شجــــاعة أنت لا بل أنت أشجعنــا
               برئــت من وهننــا إذ غالنا الــــداء
والوهن موت الفتى من قبل موعده
               ومن قضـــوا في سبيل الله أحيـــاء

     وبهذا نستطيع القول: إن فلسطين عامة، والقدس والأقصى بخاصة هي في بؤرة اهتمام الشاعر حيدر الغدير، وقصائده فيها ليست قصائد مناسبات، وإنما هي تفاعل مع قضية مصيرية مقدسة لدى المسلمين، وينطلق في رؤيته للقضية التي تحولت إلى رؤى حالمة دائمة؛ ينطلق فيها من عقيدة راسخة بما ورد في القرآن الكريم، وما ورد في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم من حتمية الصراع بين المسلمين واليهود، وحتمية انتصار المسلمين، لذلك فهو لا يأبه للمثبطين، ويشد على يد المجاهدين، ويبارك مواقف المجاهدات.

     وقد تصدى في قصائده لبعض زعماء اليهود الدينيين مثل الحاخام عوفاديا يوسف، والسياسيين مثل شارون، واستقى كثيرا من الأمل بالنصر من مواقف أبطال المسلمين من الصحابة ومن بعدهم الذين عملوا على تحرير بيت المقدس، حتى موقف انتصار داود عليه السلام مع الملك طالوت جعله نصرا للمسلمين، وليس لليهود، وذلك انطلاقا من وحدة الدين الحق.

     وفي رأيي يبقى ما كتبه دون المتوقع من شاعر تمكنت القضية الفلسطينية من قلبه إلى هذا الحد، فبالتأمل في مجمل القصائد نجدها عامة، سيطرت عليها شمولية المعاني بما يمكن وصفه بالتكرار، ولم نجد قصائد في رموز القضية الفلسطينية لا مدحا وإشادة، ولا ندبا ورثاء، ولم يمر ذكرهم إلا أسماء عابرة من دون توقف وإضاءة.

     ألا يستحق عز الدين القسام، وعبد القادر الحسيني وأحمد ياسين والرنتيسي وغيرهم قصائد مستقلة؟ وألا تستحق مدن مثل القدس، والخليل ونابلس وجنين وغزة ورفح وغيرها قصائد مستقلة؟

     إن فلسطين وما فيها ومن فيها وما مر عليها تستحق ملحمة شعرية متكاملة مستقلة على غرار ما كتبه الشاعر عدنان النحوي من ملاحم؛ ملحمة الأقصى، ملحمة القدس، وملحمة فلسطين، وملحمة جنين وغيرها. وإن الوقوف عند الصور الجزئية في أحيان كثيرة لها مدلول عميق بالإحساس بالشيء، مثل تصويره موقف الأم التي ودعت ولدها في قصيدة: أودعتك الله! في ديوانه عادت لنا الخنساء.

--------------------------
[1] هي إحدى الشهيدات الفلسطينيات.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة