الأحد، 30 مايو 2021

جولة في ديوان "من يطفئ الشمس؟!" - أ.صدقي البيك

جولة في ديوان "من يطفئ الشمس؟!"

أ. صدقي البيك
نشر في مجلة المستقبل الصادرة عن الندوة العالمية للشباب الإسلامي
العدد (188) - ذو الحجة 1427هـ، الرياض


     إذا كان هناك تعبيرٌ شائع عن "إمبراطوريَّة لا تَغيب عنها الشَّمس"، فإنَّ هنا ما هو أبلغ من ذلك في التعبير عن الإسلام، وامتِداده المكاني والزَّماني، فهو شمس، وأنَّى لأحدٍ أن يُطْفئها؟!

     هكذا أراد الشَّاعر الدكتور حيدر الغدير أن يُبْدِي اعتِزازَه بالإسلام، وإعْجابه بِما قدَّمه المسلِمون قديمًا، وما يُمكِن أن يقدِّموه على مدى الأزْمان المقْبِلة.

مَنْ يُطْفِئُ الشَّمْسَ نَحْنُ الشَّمْسُ خَالِدَةً
               أَمَّــــــا عَدَانَـــــا فَــــــآلٌ ثُمَّ يَنْحَـــسِرُ

     ومِن هنا حمَّل ديوانه الأوَّل هذا العنوان المتميِّز، وصدَّره بقصيدةٍ تَحمل العنوان نفسه، ويضم الديوان 50 قصيدةً يمتدُّ تاريخ نظمِها من أواخر عام 1413 هـ الموافق لأواسط عام 1993 م، إلى ربيع هذا العام 1427 هـ الموافق 2006 م، وقد رتَّب الشاعر قصائدَه ترتيبًا زمنيًّا، بالسَّنة والشَّهر واليوم بالتَّاريخيْن الهجري والميلادي، وصدرتْ طبعته الأولى في هذا العام.

     وتتنوَّع القصائد فيه، وأكثرها إخوانيَّات بين ثناء ورثاء ومداعبة (22 قصيدة)، ثم رُوحانيات (13 قصيدة)، وتسْع قصائد فكريَّة عامَّة، وست قصائد وطنيَّة، وكلُّ هذه القصائد عموديَّة إلا قصيدتيْن كانتا من الشِّعْر الحر - شعْر التفعيلة - أولاهما (ستار) في ذكرى موت نِزار قباني رثاءً له، وقد اتَّخذ الشَّاعر من موتِه عظةً وعِبرة ممَّا يصير إليه الإنسان، مهما علا شأنه في دنيا الشعر، ومهْما مشتْ في موكب جنازتِه القصائد والقُلوب والمُعْجبون، ولكن:

"ماذا وجدت وقدْ صحوْتَ وأنت وحْدَك يا نزارْ
فانطِق فقد سُدِل الستارْ
وانطِق فقد كُشِف الستارْ"

     والثَّانية "يا خالقي ما أكرمك!" وهي من روحانيَّاته، يجول في مقاطعِها مسبِّحًا لله معلقًا عليه رجاءَه، مستجْديًا كرمَه، خاتمًا كلَّ مقطع منها بـ "يا خالقي ما أكرمك!".

دفاعًا عن رسول الله:

وإذا كان قد قدَّم آخِر قصيدة له زمنيًّا، لتكون فاتحةَ الديوان ومانحة له عنوانه، فإنه جعل خاتمة الديوان مكانًا وزمانًا دفاعًا عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم – في قصيدته "أبا الزَّهراء"، وهي أطول قصائد الديوان، 100 بيت - بعد أن تعرَّض جنابه الكريم لهَجْمة ممَّن أعماهم حقْدُهم على الإسلام، عن أن يقدِّروا أهْل القدر ويعطوهم حقَّهم من الإجلال والتعظيم، الذي أعْطاه إيَّاه واحدٌ من المنصفين منهم، هو مايكل هارت مؤلِّف "المئة الأوائل" الأكثر تأثيراً في العالم، حين جعَله على رأْس هؤلاء المئة في تأْثِيرهِم الحضاري على الإنسانيَّة، ويفتتح الدكتور حيدر دِفاعه عن رسول الله بافْتِدائه فيقول:

فِـدَاؤُكَ قَبْـــلَ قَافِيَتِي الجَنَـــانُ
               وَقَبــْلَ السَّيْفِ رُوحِي وَالبَيَانُ

     مندِّدًا بهؤلاء الحمقى الذين سينضمُّون إلى قافلة المتحطِّمين على صخْرة الإسلام:

وَأَمَّـــــا شَانِئُـــــوكَ فَهُمْ بُغَاثٌ
               وَفِرْيَةُ أَحْمَقٍ هَانَتْ وَهَانُـــــوا
سَتَطْـــوِيهِمْ ضَلالَتُـــهُمْ لِيَغْدُوا
               نِفَايَــــــاتٍ يُطَارِدُهَا اللِّعَــــانُ
عِدَاكَ وَأَيْنَ هُمْ؟ هَلَكُوا وَبَادُوا
               وَبَادَ ضَجِيجُهُمْ وَالْهَيْلَمَــــــانُ

     ويخاطب عيسى - عليه السلام - شاكيًا له مَن يدَّعون اتِّباعه، وهم أبْعد النَّاس عن طُهْرِه ونقائه:

وَيَا عِيسَى، فَدَيْتُكَ جِئْتُ أَشْكُو
               وَأَنْتَ الطُّهْرُ نَضْرًا وَالحَنَـانُ
أَذَاةَ ذَوِيكَ، قَدْ جَهِلُوا وَضَـلُّوا
               وَعَــــاثُوا بِالنُّبـُوَّةِ وَاسْتَهَـانُوا

     ويختم قصيدته هذه بأن ينْقل إلى الرسول - عليْه الصلاة والسلام - تحيَّات مئات ملايين المُسْلمين، وآمالَهم وتضحيَّاتهم وافتِداءاتِهم له:

وَيَا مَوْلايَ حَمَّلَنِي سَــــلامًا
               لَكَ المِلْيَارُ أَخْلَصَهُ الجَنَــانُ
وَعَهْدًا أَنْ يُفَدُّوكَ احْتِسَـــابًا
               وَهُمْ صُدُقٌ وَأَفْئِدَةٌ هِجَــــانُ
وَأَسْيَـــافٌ مُظَفَّرَةٌ وَخَيْــــلٌ
               لَهَا فِي الخَطْبِ إِقْدَامٌ وَشَانُ

     ولا يفوته أن يغْني قصيدتَه بأشطُر من بائيَّة شوقي التي سارتْ بها الركبان، وترنَّمت بسماع أدائها الآذان: "أَبَا الزَّهْرَاءِ قَدْ جَاوَزْتُ قَدْرِي"، "وَمَا نَيْلُ المَطَالِبِ بِالتَّمَنِّي"، "وَمَا اسْتَعْصَى عَلَى قَوْمٍ مَنَالُ".

وهكذا يا رسول الله:

سَتَبْقَى النُّـــورَ مَا بَقِيَ الزَّمانُ
               وَمَا زَانَ الرِّيـــاضَ الأُقْحُوَانُ
وَمَا طَلَعَتْ عَلَى الآفَاقِ شَمْسٌ
               وَمَا صَـــــدَحَ الْمُؤَذِّنُ وَالْأَذَانُ

       ***

إخوانياته:

     وفي إخوانياته أَثنى على عدد من زملائه ومعارفه، وهجا بعض مَن أساء إليه بغدره وقِلَّة وفائه، وداعَب آخرين بروح مَرِحة، ورثى مَن أدركهم الموتُ من الشخصيات الإسلامية المتميِّزة في الفكر الإسلامي والأدب والصحوة، ممن يُكِنُّ لهم المحبَّة والتقدير؛ منهم: محمود محمد شاكر، وعبد العزيز بن باز، وعلي الطنطاوي، وكذلك رثى أخاه ووالدته.

***

رثاؤه لأمه:

وفي رثائه لوالدته تتفجَّر مكامن العاطفة في صدره، ويحزُّ في قلبه أنه لم يتمكَّن من رؤيتها قبل أن يبعدها عنه الرَّدى، فيقول:

قَدْ كُنْتُ أَرْجُو أَنْ أَضُمَّ ثَرَاكِ
               وَتَرَيْنَنِي قَبْــلَ الرَّدَى وَأَرَاكِ
وَأُقَبِّـلَ الْكَفَّ الطَّهُورَ مُتَمْتِمًا
               بِالْآيِ آمُلُ أَنْ أَحُوزَ رِضَاكِ

     ولكن يشاء الله - الذي لا رادَّ لقضائه - أن تقضي أمُّه وهو بعيد عنها؛ فيعيش في حسرتين: حسرة بُعده عنها، وحسرة وفاتها من غير أن يراها وينام بين يديها هانئًا سعيدًا كأنه طفل رضيع، وإن كان قد بدأ الشيب يغزو رأسه، وكان هذا المقطع الأول من القصيدة مفعَمًا بالحب والتَّوق إلى أمه:

وَأَنَامُ بَيْنَ يَدَيْكِ نَوْمَــــــةَ هَــــانِئٍ
               وَكَأَنَّنِي وَبِيَ الْمَشِيـــــبُ فَتَـــــاكِ
وَكَأَنَّنِي الطِّفْلُ الَّذِي رَضَعَ الْهُدَى
               وَالدَّرَّ مِنْــــــــكِ وَدِفْأَهُ وَحَجَـــاكِ

     ويرنو إلى وجهها موزِّعًا نظراته فيه فلا تشبع عينه من هذا التمتُّع، ويتبادل مع أمه نظرات السعادة والغِبطة:

وَتَجُولُ فِي الْوَجْهِ الْمُكَرَّمِ مُقْلَتِي
               وَتَجُولُ فِيَّ سَعِيدَةً عَيْنَــــــــــاكِ

     وكل هذه الأماني طواها الرَّدى، وسبقته أمه في رحلتها الأبدية التي لا مفرَّ لأحد منها:

لَكِنْ سَبَقْتِ، وَكُلُّنَا فِي رِحْـــــلَةٍ
               يَجْتَازُهَا الرَّاضِي بِهَا وَالشَّاكِي

     ولذلك يعود إلى ذكرياته معها لعلَّه يجد فيها ما يُسَلِّي به نفسه عن هذه الخسارة الفادحة، وأجلُّ هذه الذكريات مقابلته لها في حجها إلى الديار المقدَّسة، وهو فيها مقيم، فتُورِق فرحته ويتحقَّق حلمها برؤية ولدها وهي تمتطي إليه شوقها القديم، فيغمرها الرضوان وتبكي فرحًا لهذا اللقاء ولتأديتها الحج وهو أكبر أمنيَّاتها، ويشير إلى صبرها على ما لاقته من عَنَت الظالمين، حتى أراحها من أهوالهم الموت:

وَصَبَرْتِ وَالْأَهْوَالُ حَوْلَكِ جَمَّةٌ
               صَبْرَ الْحَرَائِرِ فْي الْأَذَى الْفَتَّاكِ
حَتَّى لَقِيـــتِ الْمَوْتَ مُنْيَةَ وَامِقٍ
               فَأَتَيْتِهِ مُشْتَاقَــــــــةً وَأَتَــــــــاكِ

     ولا يفوت شاعرَنا في هذه القصيدة أيضًا أن يستحضر ما يتردد على أذهان السامعين وآذانهم، وألسنتهم من شعر ردَّدته الحناجر الندية فيُضمِّن منها "وَالذُّكْرَيَاتُ صَدَى السِّنِينِ الْحَاكِي" لأمير الشعراء شوقي.

     فليتغمد الله برحمته هذه الأمَّ الحنون الصابرة على بُعد ولدها، وليلطف الله بهذا الولد البارِّ الذي عزَّ عليه اللقاء بأمه وصعب عليه فراقها الطويل فيصيح:

أُمَّاهُ، إِنْ عَزَّ اللِّقَــــاءُ وَفَاتَنِي
               فَغَدًا يَطِيبُ عَلَى الْجَنَانِ لِقَاكِ

       ***

دعاباته:

     وإذا كنا قد شاركنا شاعرنا أحزانه ولَوْعاته بفَقْده والدته الغالية، فلنشاركْه في دعاباته الأخوية لأهل حمص في قصيدته "يا حمص"، وهي مدينة يُوصَف أهلها بالفطرة وطيبة القلب والبساطة أو سَمَّها ما شئت، ويقدِّم قصيدته برغبته الحارة "أن أكون حمصيًّا لأن لدي عددًا من المؤهلات التي تجعلني جديرًا بهذه النسبة"، ويلقيها في حفل زفاف، فيكون لهذه الدعابة من الأثر ما يمتع المحتفلين، مفتونًا بأبنائها الغُرِّ الكرام وصباياها الحسان معدِنًا ومنظرًا:

يَا حِمْصُ إِنِّي عَاشِقٌ مَفْتُـــــــــونُ
               بِخِصَـــالِكِ الْحُسْنَى وَهُنَّ فُنُــــونُ
أَبْنَاؤُنَا الْغُرُّ الكِرَامُ جَـــــــــــدَاوِلٌ
               وَبَنَـــاتُكِ الرَّيْحَــــــــانُ وَالنَّسْرِينُ
يَا حِمْصُ عِنْدِي فِي هَوَاكِ شَوَاهِدٌ
               وَقَصَـــــــــــــائِدٌ وَحَقَائِقٌ وَظُنُونُ

     وما ندري ما هذه الظنون بعد الحقائق؟

يَا حِمْصُ جُودِي لِي بِمَا أَهْفُو لَهُ
               لِأَظَــــــــلَّ أَعْلُو سَيِّدًا وَأَكُـــونُ
كَبَنِيكِ حَيْثُ "جُنُونُهُمْ وَفُنُونُـهُمْ"
               وَأَظَلُّ أَحْفَظُ عَهْدَهُمْ وَأَصُـــونُ
يَا حِمْصُ أَعْطِينِي مُنَايَ فَإِنَّنِي
               أَرْجُو الْوِصَالَ وَإِنَّنِي مِسْكِيــنُ
جِنْسِيَّةً أَزْهُو بِهَــا في صُحْبَتِي
               وَكَأَنَّنِي فِي عَرْشِهِ هَــــــارُونُ

     وإذا كان يجوز للحمصي بالولاء أن يستجيب لرغبته وأن يحقق له مناه، فإنني أرحِّب به أخًا حمصيًّا كريمًا، وكان باستطاعته أن ينال هذا الشرف من غير إلحاحٍ في الطلب، لو أنه عرَّج على حمص في سعيه إلى دمشق لاختيار شريكة حياته، ولو فعل ذلك لتغنى بحمص جادًّا تغنِّيه بدمشق ومَن فيها:

يَا شَـامُ أَنْتِ عَلَى الزَّمَانِ وِسَامُ
               بَـــاقٍ بَقَاءَ الْخُلْدِ لَيْسَ يُضَــــامُ
يَا شَــــامُ تَعْرُونِي لِذِكْرِكِ هِزَّةٌ
               أُمَوِيَّةٌ هِيَ فِي الْعِظَـــــامِ غَرَامُ
وَأَنَا الَّذِي شَـاقَتْهُ مِنْكِ عَوَارِفٌ
               جَلَّــــتْ، وَيَشْتَاقُ الْكِرَامَ كِرَامُ

فهنيئًا لشاعرنا هذا التغنِّي وتلك الدعابات، ونحن نترقَّب صدور إخوة ديوانه هذا بفارغ الصبر، بعد أن تفرَّغ شاعرنا لجمع ما تناثر من قصائده وإبداعاته؛ لتأخذ أمكنتها في أرفف مكتباتنا، وتستمتع بها أذواقنا، وتغني بها عقولنا وقلوبنا.

***

أمة الإسلام لا تنطفئ شمسها - د. محمد علي الهاشمي

أمة الإسلام لا تنطفئ شمسها

الدكتور محمد علي الهاشمي - رحمه الله
الرياض - شوال 1428ﻫ - أكتوبر 2007م


     أصدر الشاعر الدكتور حيدر الغدير ديوانه الأول: وجعل عنوانه: "من يطفئ الشمس؟"[1]، وهو عنوان قصيدته الأولى في هذا الديوان.

     في هذه القصيدة حشد الشاعر الأحداث والتصورات والقيم والأمجاد التي عرفت بها الأمة المسلمة منذ أخرجها الله للناس خير أمة، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتؤمن بالله، كما في قوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله)[2]، وخلص إلى النتيجة التي يحملها عنوان هذه القصيدة الكبير، وهو أن الأمة المسلمة لا تنطفئ شمسها مهما عتت الأرزاء وتكالبت عليها الأعداء.

     فأمة الإسلام التي وعت هدي دينها، والتزمت أوامر ربها ونواهيه، هي أمة الخلود والأمجاد والظفر المبين، يشهد لها بذلك: الدهر والكون وما فيه:

نحن الخلود ونحن المجد والظفر
               والشـاهد الدهر والأفلاك والسير

     إنها لتقف شامخة فوق هامة الأيام، تعتز بما أثلت للإنسانية من مكارم وأمجاد:

ونحن في هامة الأيام هامتــــــها
               ونحن شامتها والطيب والغـــــرر

     عرفتها الخطوب الداميات، كما عرفها الجود المنهمر، والخلائق الحسان:

لنــــا يد في الخطوب الـــدُّهْم صـــــائلة
               وأختــــها ديــــمة بالجــــود تنهمــــــــر
ودارة نحن للأخلاق وارفــــــــــــــــــة
               تحبو العوارف من غابوا ومن حضروا

     وإنها لحارسة معقل الإسلام العظيم، وحامية صرحه المجيد، وهي درعه الحصين، وسيفه البتار المكلل بالظفر والنصر، تحفظ الحق, ويحفظها الحق، وتلوذ دوماً بملجأ الله الآمن:

ومعقـــل نحــــن للإســلام نحرسـه
               ونفتدي صرحه الغــــالي ونصطبر
ونحن أمة طــــه نحـــن أدرعـــــه
               ونحن سيــــف له عاداته الظفــــــر
ونحن عصبتــــه للحــــــق حافظةٌ
               بالحق محفوظة والخالق الوزر[3]

     إذا حاقت بها الهزيمة فلا يأس ولا خور يتسرب إلى نفوس أبنائها، وإذا تكللت هاماتهم بالنصر أقاموا صرح العدل، فلا ظلم ولا بطر ولا فجور، ذلك أنهم في كلأ الرحمة والهداية الربانية ورشدها قبل أن يمتشقوا السلاح البتار:

إذا غُلِبْنا فلا يأس ولا خـــــــــور
               وإن غَلَبْنــا فلا ظلــــــم ولا أشر
ونحن يحرسنا قبل الرماح هدىً
               ونحن تكلؤنــــا قبل الظُّبا السور

     وأمة الإسلام تنهدُّ للأمر العظيم، وتبعثها الشدائد والنوازل، ويوقظ الظلم إذا وقع عليها كل قاعد متهاون، ويوقد البغي والعدوان عزيمة كل فاتر متكاسل، فإذا المحن والشدائد الجسام التي بعثت كل غافل فيها، أعطية ثمينة، ومنحة جميلة، لا يضاهي حسنها القمر الفتان، وإذا الثأر من المعتدي الغاشم على كرامتها يصبح ناراً تتأجج في الأحشاء، وإذا الموت يغدو من أسمى الأماني التي يسعى لنيلها المجاهد في سبيل الله:

ونحن تصقلنا الجُلَّى وإن عظمت
               ونحن تبعثنا الأرزاء والنــــــــذر
ويوقظ الظلم منا كل من همـــدوا
               ويوقد البغي منا كل من فتــــروا
فتصبح المحنة الحمراء أعطيــة
               ومنحة دونها في حســـــنه القمر
ويصبح الثأر في أحشائنا حُرَقـاً
               والموت أمنيــــــة تُرْجى وتُبْتدر

     إن تاريخنا ليشهد برفعتنا، وسمو نجدتنا في الخطوب الكوالح، وأننا حين يشتد الخطب نزداد استعاراً وحدة وشوقاً لدفع العدوان، وأن غضبنا قدسي متقد حين يشتد الخطر وتكبر التحديات:

تاريخنا شاهد أنـــــا ذوو صيد
               وأننا حين يربو الخطب نستعر
وأننا الغضـــــب القدسي متقداً
               عند التحدي وإذ يستعلن الخطر

     ولقد حبانا الله جرأة عجيبة، فإذا نحن نعبر جسر المخاطر غير هيابين ولا وجلين، بل نعبره ونحن نبتسم، وتجتازه جموعنا المجاهدة في كل زمان، جيلاً بعد جيل:

إن المخــــــاطر جسرٌ نحن نعبره
               ونحن نبســـم لا خوف ولا حَـــذَرُ
نمشي عليه جموعاً لا انقضاء لها
               فما مضت زمـــــرة إلا أتت زمرُ

     وبعزيمتنا الشماء نحن أقوى من المصائب التي تحل بنا، وأشد ثباتاً منها حين تنفجر:

ونحن أضرى من الضراء إن عصفت
               ونحن أثبـــــت منها حيــــن تنفجــــــر

     وكلما اشتدت الأخطار والنكبات، وَادْلهمَّت الخطوب، كنا أكثر ثقة أننا سننتصر. وأقرب ما يكون النصر منا حين يسخر العدو من إسلامنا، ويجوس خلال ديارنا، ويعيث فيها فساداً:

وكلما كانت الأخطـــــار فادحــــــــة
               كنا على ثقـــــــــــة أننا سننتصــــــر
والنصر أقربه منـــــا وأسرعــــــــه
               إذا الطواغيت من إسلامنـــا سخروا
واستمرؤوا الظلم حتى صار ديدنهم
               فينا، وجــاسوا خلال الدار وائتمروا

     فالرزايا والنكبات تنجب فينا الأبطال الميامين الذين يتصدون لها، ويستولدون منها الغلبة والنصر، ومن هنا كانت أمتنا غنية بالعظماء والفاتحين، من أمثال أبي بكر وعمر والمثنى والرشيد:

وذاك أن الرزايا كُن منجبـــــــــــة
               وما يزلن، ومنها يولـد الظفـــــــــر
لذاك أمتـنا حبلى بكـــــــــــــل فتى
               هو المثــنى أو الصدِّيق أو عمـــــر
أو الرشيــد تحدى غيمـــــة عبرت
               فاستســلمت وهمى من فوره المطر
فجاءه فيئها عجــلان في وجـــــــل
               والقلب مضطرب والطرف منكسر

     في كل بقعة من بقاع الأرض لنا مآثر وأمجاد يتمنى رؤيتها ومعرفتها السمع والبصر، وإنها لمآثر وأمجاد حق كلها في جوهرها ومرآها، وإنها لعدل ونصح، لا ظلم فيه ولا غش ولا خديعة، أدهش الناس الذين سمعوا به، فعكفوا على استجلاء محاسنه، مسحورين بصنيع قومي الذين كانوا بمثابة نجوم الهدى، وعبروا هذه الأرض وخلدوا فيها هذه الأمجاد:

في كل أرض لنا من مجدنــــا أثـــر
               وفيه ما يتمنى السمع والبصـــــــــر
الحق جوهره والحــــسن منظــــره
               والعدل مخبره والنصح لا الغــــرر
يقول للنــــاس زاروه فأدهشــــــهم
               قومي نجوم الهدى من ههنا عبروا
والناس مطروفة فيه محـــــاجرهم
               ترنو إليه وتستجلي وتعتصـــــــــر
يطول منهم عكوف في محــــاسنه
               كأنما شدهوا بالحسن أو سحــــروا

     وهذا المجد المؤثل لا تزيده الأيام إلا نضارة وعطراً، بما غرس فيه أهلوه من مكارم وأمجاد، ومن علوم ومن فنون، أودعوا فيها عقائدهم وقيمهم، فطاب غرسهم وطاب ثمرهم، وكان صنيعهم كمعادنهم هو الفضائل بعينها، وهو العدل الذي رفعوا لواءه، وهو النور الذي نشروا هديه، وهو الروح التي تألقت فيه، فازدان بالفضائل والمكرمات:

يمضي الزمان ويبقى في نضــارته
               أزكى من العطر تاريخ له عــــــطر
كأنـــما فيه من أهليــه ما ابتدعــــوا
               من الفنون وما صاغوا وما ابتكروا
كأنما أودعوا فيــــــــــــــه عقائدهم
               فطيبته وطــــــــــاب الغرس والثمر
كأنما صنعوه من معادنـــــــــــــهم
               فهو الفضائل والغـار الذي ضفروا
كأنما صرحه العدل الذي رفعــــوا
               كأنما نوره الهدي الذي نشــــــروا
كأنما روحهـــــم فيه قد ائتلقــــــت
               فهو المروءات والإحســـان والأثر

     لكأن صنيع أمة الإسلام الحضاري شاهد خالد للدنيا، يقدم للناس النصيحة والعبرة، وهو ثابت راسخ في عالم الناس وآفاقهم وعصورهم، يبسط ظلاله، ويمد أجنحته، في رواق التاريخ والكتب التي يقرؤها الناس. إذا أصاب أقواماً ضجر وتعب ونصب، فطووا أعلام المد الحضاري، فإن حاملي لواء الحضارة الإسلامية لا ينالهم شيء من ذلك، بل إنهم يرون الهناءة والنعيم في قطع الآفاق، والسفر المستمر الدائم في مواصلة المد الحضاري:

كأنما هو مذ شــــادوه راويــــــــة
               وناصح أَمَّه الزوار فاعتبـــــــروا
ثاوٍ ولكن له مذ كــــان أجنحـــــة
               آمادها النـــاس والآفاق والعُصُــر
وما روت كتب واستوعبت مهـج
               وأمعنت أعين ترنو وتدخــــــــــر
إذا طوى الناس من أَيْنٍ رواحلهم
               لم يطوها منه لا أَيْنٌ ولا ضجــر
كأنه الخِضْر في الآفاق يقطعــها
               فعشقه سفـــــــر من بعده سفــــر

     إن البانين للأمجاد في أمتنا خير من الصرح الحضاري الرائع الذي قدموه للإنسانية، إذ المعول في بناء الحضارات على النفوس الزكية الطيبة التي شادت البناء، وعلى الفكر النبيل العالي الذي أحكم البنيان:

خير من الصرح قد راع الضحى نضراً
               نفس لبــــانيه، وهي المعــــدن النضــــر
والصرح زينته قبل الســــــــراب رؤىً
               فالســــابق الفكر والتـــــالي هو الحجــر
أمجادنا مثلنا خير ومرحمــــــــــــــــــة
               بها المفــــــاخر قبل الناس تفتــــــــــخر
صرنا لهم ولها أنشودة صدحـــــــــــت
               يزينها الشـــائقان: الشعر والوتــــــــــر

     وكما كنا أنشودة ترنم بها الناس، كنا قصة جميلة ممتعة لسامعيها يروونها لمن وراءهم ببهر وشوق وإعجاب، حتى صرنا حديث الناس في أسمارهم، يتلقفونها ويتلهفون لسماعها صباح ومساء:

وقصةً حسنت تُجْلى لسامعــــــــها
               مثل العــروس عليها الدل والخفـر
يروونها أبداً في توقِ والهـــــــــةٍ
               دنت مناها فزاد الشوق والبــــــهر
فنحن في الصبح في أخلادهم سير
               ونحـن في الليل في أسمارهم سمر

     حتى إذا رأونا رأي العين قالوا: بملء أفواههم: والله ما سمعنا عنهم من أخبار ساحرة باهرة ليس بأعظم مما نراه فيهم من سيرة حسنة وخلق كريم، وأعلنوها صريحة لزائريهم: لقد جل المظهر والمخبر، ووافق الخُبْرُ الخَبَر:

حتى رأونا فلا والله ما سمعت
               أذن بأطيب مما عاين البصـــر
وحينما رجعوا قالوا لزائرهـم
               إنا رأينا فجل الخُبْرُ والخَبَـــــر

     ولا بدع أن يفنى المظهر المزيف المزور من كل خَلْق وخُلُق، ولا يبقى خالداً إلا الحقُّ الأبلج الصراح، ونحن باقون بحقنا، تسمو بنا هويتنا، وهي رسالة الإسلام العظيم الخالد لا ما زيف البشر وادعوا من مُثُل ومبادئ، إننا بتمسكنا بديننا كالشمس، فمن يستطيع إطفاء الشمس؟ أما عدانا المتربصون بنا فسراب خُلب، سرعان ما ينحسر ويزول:

يفنى المزور من خَــــلق ومن خُــــلق
               والخــالد الحق لا الأشبــــاح والصور
ونحن باقون تعلينـــــــــــــا هويتنــــا
               وهي الرسالة لا ما زيف البشــــــــــر
من يطفئ الشمس نحن الشمس خالدة
               أما عِــــــــــدانا فآل ثم ينحســــــــــر

     لقد استعرض الشاعر الدكتور حيدر الغدير سيرة أمة الإسلام حين تكون مسلمة بحق، وصور ما أحدثته هذه الأمة في حياة البشرية حين تناقلت الدنيا سيرتها ومثلها العليا، وعدد أبرز أوصافها في الثبات على خط الجهاد، وما أحدثت هذه الأوصاف في نفوس الأقوام التي شاهدت قوافل الفاتحين، واحتكت بهم، ورأت أخلاقهم وحسن معاملتهم، وتمسكهم بالحق والأمانة والعدل، وخلص إلى أن أمة هذا شأنها، أخرجها الله لتكون خير أمة أخرجت للناس، هي كالشمس لا تنطفئ.

     وقد عرض الشاعر خواطره وأفكاره بأسلوب جزل متين، قوامه اللفظ الكريم الجزل، والتركيب الرصين المحكم، يعمره الإيقاع الفخم الهادئ، المنبعث من الألفاظ المتخيرة، والروي الرائي المضموم، والصورة المجنحة الطليقة، وهي خصائص أسلوبية جميلة تشمل قصائد الديوان كله. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.

----------------------------------
[1] هذا هو الإصدار الأول للشاعر، وهو الآن مع غيره في ديوانه الجامع "ديوان حيدر الغدير".
[2] سورة آل عمران آية 110.
[3] الوزر: الملجأ.

النبل الآسر - أ.عبد الله عيسى السلامة

النبـل الآسـر

أ.عبد الله عيسى السلامة
عمّان 5/ صفر/1431ﻫ - 21/ 1/ 2010م

أخي العزيز، النبيل حقاً، الدكتور حيدر .. أيدك الله ورعاك ..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وحياك الله بما يحيي به عباده الصالحين.


     أعترف بأني تأخرت كثيراً، في الرد على قصيدتكم الغراء، التي ألبستني ثياباً فضفاضة، هي أكبر من حجمي، بكثير! بل كل منها، يتسع لعشرة من أمثالي! وأعلم أن ما دفعك إلى هذا، إنما هو كرم النفس، وسُموُّ الخلق، وحسن الظن بأخيك، وحب الخير له؛ إذ ترغب أن يكون أكبر مما هو عليه، بكثير! فشكر الله لك، وسامحك، وعفا عنك!

     وأعترف أن الانشغال الشديد، لم يكن، وحده، سبب التأخر، أو التأخير.. بل، ثمة سبب آخر، ربما كان أهم من الأول؛ وهو إحساسي بالعجز، عن كتابة قصيدة، مكافئة لفضلك ونبلك!

     فأرجو أن يشفع لي، عن تأخيري، ما اعترفت به! وأما ما لم أعترف به، من بوادر الشيخوخة، ومقتضياتها، وتوابعها، ولواحقها.. فهذا مما أحسبك تقدره، أو تتوقعه.. دون اعتراف!

     راجياً أن تجد، لديكم، الأبيات المتواضعة، نوعاً من القبول، ولو على مضض.. فهي جهد المقل. والكريم من عذر. وقد سلكت بي، في الوزن والقافية كما تلاحظ طريقاً آخر، غير طريق صاحبتها الهمزية.. وهذا من طبيعة الشعر، وتقلبات مزاجه! وأنت أعرف مني، به وبمزاجه!

     وأرجو أن تراها، فجر السبت، منشورة، في موقع: رابطة أدباء الشام. فقد اضطررت إلى إرسالها، إلى أخينا العزيز، أبي أسامة الطنطاوي، قبل إرسالها إليك، ليجد وقتاً كافياً لإعدادها للنشر.

     تحياتي لك، ولسائر الإخوة الأحبة، قبلك.. وفي المقدمة، الأخ العزيز، الأستاذ عبد الرزاق، أبو علاء.. حفظه الله ورعاه! والذي أرجو أن يعذرني، على مراسلتك، عبر إيميله المخزن، لدي .. بعد أن بحثت عن إيميل لك، فلم أجد!

     مع أطيب تحياتي، وأخلص تمنياتي، لكم، بالسداد والتوفيق، والصحة والهناء!

أخوك: عبدالله عيسى السلامة

***

       الـنبــْــل الآســـر!

هو السـكْر، إلا أنني أمقُت الخمــــــــــــرا
               فقد أسكرتني، اليوم، مُسْكــرةٌ أخـــــــرى
بــلى.. إنها أبيـــاتُ شـــــــعرٍ بديعــــــــةٌ
               ولم أرَ، يوماً، كَرمة تعصر الشعــــــــــرا

       ***

أحيـــدرُ، إن الفضل يستــوجب الشكـــــرا
               ويا رُبَّ فضلٍ سابغٍ خلـــــــــد الذكـــــــرا
وقد كنتَ سبـــاقاً إلى الفضــــل، موجبــــاً
               لشكرٍ، إذا لم أزجــه، لم أجـــد عــــــــذرا
فرُبَّ نبيـــلٍ يأســــر النـــــــفس نُبلــــــــه
               ورُبَّ لطيـــفٍ لطفه يكســـــــــــر الظهرا
فــلو كان كل الشعر بيتـاً لكنتَــــــــــــــــه
               فكـان الهـــدى شطراً، وكان النهى شطرا
فـــأنت الأخ البَــرُّ الـــــــذي لم أزل أرى
               خلائقَـه تســـمو، وأفضــــــالَه تتـــــــرى
وفي جدِّنـــا الشيخِ، الفـــراتِ، لنا، معــــاً
               وشــــائجُ قربى، لم تـــزل أمهـــا بِكــــرا

       ***

أخا الود والإسلام، والنبـــل والحــــــجى
               جمعت، إلى الشعـــر، الحصــافة والفكرا
فلو لم تكـــن أنت الذي كنت كالـــــــــذي
               سما في رحاب الشمس حتى استوى بدرا

       ***

أحيدرُ، رفقـــــــاً، يا غديرُ، بمهـــــــــجةٍ
               شواها الجوى شيّاً، وألقمها جــــــــــــمرا
فإن تك قد أعليت قدري بمدحـــــــــــــــة
               فقدرك أعلى، لي، برفعته، القـــــــــــدرا
ففي قَدَر الإنســـــــــــــــــان، يولـد قَدْره
               وليس منيل القدر قصراً، ولا قبــــــــــرا
وما المرء، إلا طينـــــــــة، أو عجينــــة
               تُشكِّلها الأقدار.. تجري بها أمــــــــــــرا
وللمرء، بين المهد واللحد، ساعـــــــــــة
               متى بدأت، لف الأصيــــل، بها، الفجـرا
وميلاده والمـــــــــــوت، ليسا بإذنـــــــه
               وبينهما يجري، كما شاء، أو يُجـــــــرى
وحَدُّ اختيار المرءِ، رهنُ اقتـــــــــــداره
               فإن يكُ ذا رِطلا، يكن ذا، به، فِتـــــــــرا
فيـا رُبَّ دهرٍ، دون غرس، مضى سُدىً
               ويا رُبَّ شهرٍ غرسه طاول الدهـــــــــرا
وما العيش إلا رحلة في متاهــــــــــــــة
               إلى حيث يُدرى ما المصير.. ولا يُدرى
فمن لم يعظه الدهر، بالقهر، لم تــــــزل
               تصب دلاء الدهر، في قلبه، القهـــــــرا
ومن كان في دنيا الورى، محض ناطق
               فمثواه دنيا الصِفر، إن لم يكن صِــــفرا
ومن لم ينم في روض رحمـــــــــة ربه
               قضى يومه، في تيه غربته الكبـــــــرى

       ***

أحيدرُ، هذا الشعر من ذوب مهجـــــــة
               تحب.. فخُذْ، أو فَانْسَ، أو وَسِّعِ الصدرا

       ***

الشاعر وما شعر - أ.عبد الله الطنطاوي

الشاعر وما شعر

أ.عبدالله الطنطاوي
عَمّان 13/ 11/ 1437هـ - 16/ 8/ 2016م

     وبه أستعين على الظالمين.
     لست أدري سبب ترددي في الكتابة عن شاعر إنسان، عرفته منذ عرفته قبل نصف قرن من الزمان المتقلب بسرائه وبأسائه، وكان ذلك مع أخي وصديقي الحبيب الشاعر مصطفى الغدير، تغمده الله برحماته ورضوانه، وهو الأخ الشقيق الأصغر لشاعرنا حيدر.. فرأيت فيه - في حيدر - من قيم الشهامة والمروءة والنبل، والذوق، والتسامي عن الصغائر ومحقّرات الذنوب، بله الأكبر منها، والتعلق بالقيم العربية الإسلامية، والوفاء، ما جعل حبال المودة والإخاء بيننا تزداد قوة ومتانة مع الأيام، فالأسلاك ساخنة، تحمل ما تحمل من صدق الإخاء، وكرم الأرومة، وشموخ العروبة، ودفق العاطفة الصافية، وكأنها من عذوبة (الفرات) الذي ارتوى منه أيام النشأة في دير الزور، وعذوبة (النيل) الذي ارتوى منه أيام الطلب في القاهرة.

     ذوق، ولطف، ثقافة ووعي، التزام صادق هادئ ولكنه صارم، بأخلاق الإسلام، ذلك ما جعل أحاديثه ومكالماته ورسائله عسلاً مصفى، لا شائبة تشوبها سوى غربتها، فهي تحيا في زمن ضلّ أهلوه، أو كثير منهم، سبل الرشد والرشاد.

     وكانت قصائده تغذو، بقيمها الغنية الأصيلة، قيمه في الحياة، وهي قيم عربية إسلامية إنسانية أصيلة، فهي منها في تجذّرها وأصالتها، وليست إليها حسب، فللإنسان منها النصيب الأوفى. وهذا هو شعره أمامكم، تأملوه وتدبروه، لتكونوا شهداء معي على صدق ما أقول ولا أزعم.

     هذا بضع من الشاعر الإنسان حيدر الذي كان (غديراً) عندما تعرفت إليه أواخر ستينيات القرن الفائت، ثم ما لبث أن صار فرعاً من فروع (الفرات) العظيم، الذي يمتد من عروس الشرق السوري، مدينة (دير الزور) إلى مدينة (الرياض) التي تبهرني ضخامتها، وخاصة بعد أن احتضنت ابن الفرات (حيدر) وفرحت به، شاعراً فراتياً فذاً، هي في مسيس الحاجة إليه وإلى أمثاله من الشبان - كانوا - المثقفين، الذين حطوا رحالهم في رحابها، وهم ذوو همم عالية، وثقافات باذخة، ووفاء لعمتهم (الرياض) منهم كاتبا المقدمتين[1] المتميزتين لهذا الديوان المتميز برصانته، وتنوع موضوعاته، وبشموخه على كثير من الشعر الذي نقرأ في هذه الأيام.. وهاتان المقدمتان لم تتركا لكاتب مثلي - مدمن على كتابة المقدمات لعشرات الدواوين والأجناس الأدبية الأخرى - ما يقوله في الشاعر وما شعر.

***

     شاعرنا حيدر، يأتي في الطبقة الأولى من فحول الشعراء ولا غرابة، فهو شاعر إسلامي عروبي، مشبع بروح التحدي والإصرار على كلمة الحق، يقولها ولا يبالي بتبعاتها وتداعياتها، ومواقفه الصارمة إلى جانب الحق وأصحابه، أفقدته بعض (أصدقائه)... وهذه قوة أخلاقية كريمة استمدها من دينه، ومن ثقافته، ومن بيئته المعتزة بعروبتها وإسلامها، تلك التي جبلته بالكرم والكرامة والصراحة والشجاعة الأدبية، كما استمدها من حياته الفكرية، فهو مدمن قراءة، لا يكاد يدع كتاباً ذا بال، إلا بعد أن يقرأه قراءة الدارس المتمكن، لا قراءة الهواة من شداة الشعر والأدب، وقد أفادته أسفاره واطلاعه على أحوال الشعوب الشيء الكثير، فقد أغنت شعره وخياله، وفكره، ومفرداته.

     كما أفادته صلاته بالكبار: محمود محمد شاكر، وشوقي ضيف، وبدوي طبانة، وأبو الحسن الندوي، ومحمد محمد حسين، ومصطفى الزرقا، وعلي الطنطاوي، وسواهم، أفادته في حياته الفكرية، والأدبية، والاجتماعية، أخذ من خير ما عندهم، من علم ولغة، وأصول اجتماعية، وفكر، ودين، وتجاوز عما سواها.

***

الديوان:

     لا أحب الفصل بين الشاعر وشعره، لأني أحس أني أفصل بين الوالد وما ولد، وهذا عندي من الكبائر الموجعات، والديوان مما ولد الشاعر، ويا لروعة هذا المولود الذي سيكون حبيب كل من له مسكة من ذوق رهيف، وعقل حصيف.

     في هذا الديوان: (ديوان حيدر الغدير)، حديث عن الحياة التي يحياها الشاعر ويحياها الناس أو يعيشونها، وحديث عن الموت الذي هو غاية كل حي، فيه أشجان تغلف الأحلام والواقع المرير لأمة ضائعة، تاهت فانحطت، ولكن الشاعر الذي استعصى على التشاؤم، يأمل ويعمل لإقالة عثراتها، وانتشالها من الوهدات التي تردّت فيها، لتنهض وتتغلب على أعدائها في الداخل المتخلف، والخارج الذي يأبى نهوضها، ويعمل على تقويض معالم الحياة والتمدن والتحضر فيها.

     عالم حيدر فسيح، وروحه تكاد تختنق في الأطر التي فرضها عليه تخلفٌ عُمُرُه مئات السنين.

     إنه ليحزنني ما أطالع في الديوان الكبير، كما في حياته، من حزن دفين، يتوارى خلف ابتسامات ومرح ودعابات تتبدى في بعض مقطوعاته، في بعض المناسبات، كالأعراس والولادات وسواها، يريد إدخال البهجة على عُمّارها الذين تأكل أحزانهم وجوههم، إنهم يرقصون ويوارون ما يعانون خلف ضحكاتهم المفتعلة، وصيحاتهم الملفوفة بهالات الكآبة الكئيبة في غربتهم القسرية المغمسة بدماء المأساة، فيرقص الشاعر بمقطّعاته معهم، ورؤوس الأحزان الدفينة تشرئب بشيء من الخجل، لأنها في محفل فرح، لا ترح. وهيهات لهم وللشاعر الذي يطلق الفكاهات والنكات، أن يتمكن من آلامه الجوانية، فيحاول ويجهد نفسه في إعادتها إلى أعطافها ومنحنيات النفس التي أوغلت فيها.

     هذه صورة من الصور الحية التي كنت أشاهدها في عرس صحبت فيه الشاعر في مدينة (جدة) المعمورة بخيرة الشيوخ والأولاد والحفدة من أبنائها ومن أضيافها.

     شاعرنا أبو معاذ إنسان مرهف الأحاسيس، ويعلم من يعلم: ما الإنسان، وما أحاسيسه؟

     ومن هنا تنوعت موضوعاته، واشتدت اهتماماته بقضايا الإنسان، حيث كان.

***

     وتحدث الشاعر المجيد عن حياته في مراحلها المختلفة، عن شغبه في أفراحه وأتراحه، عن آماله وأشواق قلبه، عن مخاوفه ومحاذره، عن البطولة التي يعشقها حيدر، لأنه حيدر في قلبه الذي لا يعرف الخوف من الفقر ولا الموت، وبالتالي لا يخشى الطغاة فيبرز إليهم في شعره المقاتل، ولو أجابوه لصاح فيهم: هل من مبارز؟.

     تعرض للسلبيات التي يكرهها ويتناءى عنها: عن البخل، والجبن، والعجز، والغدر. وسواها من الموبقات.

     شعره عالمه الكبير المترامي الأطراف، من طنجة إلى جاكارتا، إلى الأندلس السليبة الباكية، وما بينها من آلام ومواجع للإسلام والعروبة، والإنسانية جمعاء.

     زار الأندلس، وقف أمام الحمراء الدرة اليتيمة، وصلى في مسجدها المحزون: مسجد قرطبة، وأذن فيه، كما أذن من قبله شيخنا وأستاذنا الجليل سعيد الأفغاني الذي صعد مئذنة الجامع، ورفع صوته بالأذان، وفي وضح النهار، وأمام العرب والفرنجة.

     وبكى الشاعر غرناطة - التي أسميت كبرى بناتي باسمها - بكى أبا عبدالله الصغير الذي لم يحافظ على ما استؤمن عليه، واكتفى بالبكاء مثل النساء، كما قالت له أمه الحرة، بكى على (الكبار) الذين كانوا صغاراً في اهتماماتهم وخلافاتهم التي ضيعت الأندلس الحبيبة ذات الحضارة السامقة.
***

     وإذا كان لا بد من كلمة في هذا الشعر الباذخ في معجمه اللفظي، لأنه يكتب بلغة شاعرة جعلت نثره شعراً، فكيف شعره؟

     كيف شعر شاعر مدمن قراءة واطلاع وتنقيب عن الحق والجمال معاً، والأول وكد الرجال الذين يحترمون أنفسهم، والجمال مسكون في الشعراء خاصة، ولعل حب الجمال قاده إلى الشاعر العملاق عمر أبي ريشة، بمفرداته وصوره وموسيقاه فجاءت مفردات منتقيات مترفات.

     أنا في نشوة من أشذاء كثير من قصائده المطولات والمقطوعات ويا لها من أشذاء! هل أضرب أمثلة على ذلك؟ ها هو ذا الديوان كله أمثلة حية ناطقة تفوح منها تلك الأشذاء.

     نظراء الشاعر في هذا الزمان الذي كثر فيه الشعراء وقلّ فيه الشعر قلة.. كيف؟ إنهم وإنه أمامك، فاقرأ، ولا أنصحك أن تستمع، ثم احكم، فاعجب لهذا القول إن شئت أن تعجب.

     كما أقول: كثر الذكور في هذا الزمان وقلّ الرجال، وكثرت الإناث وقلت الأنوثة.

     ما أروع ما غنى، وما بكى فيه، وما أنشد!.

***

     ديوان خلا من الخطأ، حتى المطبعي، لشدة احتفال الشاعر بشعره، مقروءاً أو مسموعاً، فهو محترف في إنشاده، كما هو في رسمه على الورق المترف، وهذا غريب في المكتبة العربية، هنا وهناك وهنالك.

     في شعره البديع والرائع، وفيه دون ذلك، كسائر الشعراء في القديم والحديث، وهذا لا يضير الشاعر، فقد كان لدى الشاعرين الكبيرين: أبي تمام والبحتري، جيد ورديء من الشعر، يقران به ولا ينكرانه، ولو سألت أي شاعر عاقل غير مغتر بشعره وشخصيته، لاعترف بهذا، أما المغرور فلا، لأن الغرور هبة الغباء للنفوس الصغيرة، من الشعراء والفنانين، إلى السياسيين والوجهاء والمتزعمين.. سواء بسواء.

     وأشهد ويشهد معي كل من عرف الشاعر الإنسان حيدر، يشهد له بالتواضع، والوقوف عند الحق، وتجنبه الكذب والادعاء والغرور، وهذه قيمة من القيم الإسلامية الإنسانية الرفيعة.

     ومع ذلك، لم أقع على رديء في شعره، حتى المباسط منه.

     مفرداته حافلة بالكلمات القرآنية، وكذلك أساليبه، فهو ليس ذا أسلوب بل أساليب، في الذروة من الرصانة والفصاحة والأصالة، حتى إنك لتظنه شاعراً من فصاح الشعراء العباسيين. بيد أنه لم يقلد ولم يكرر واحداً منهم. وإذا وقع بعض من هذا، كما لاحظ الدكتور الشاعر الناقد أحمد البراء الأميري في بعض شعر حيدر، فهو نادر، وقد يتأتى للشاعر كما يتأتى للمفكر والعادي من الناس.

     هل هو من عبيد الشعر؟ فقد قلت: إنه يُعنى به بشدة، ويغيّر ويبدل في مفرداته، ولا ينشره إلا بعد لأي.. حتى تستوي القصيدة على سوقها، وليس ساقها. وإذا شعر بأهمية قصيدة يكتبها أعطاها عناية خاصة، وتعب فيها جداً، كان ذلك على سبيل المثال في قصيدته "صلاح الدين"، التي ظل يعمل فيها ثلاثة أشهر، نظراً لأهمية ممدوحه البطل العظيم "صلاح الدين الأيوبي".

     هل هو من عبيد الشعر إذن؟

     لا.. إنه يكره العبودية لغير الله، وهذا شعره ونثره وأحاديثه، كلها تشهد له بهذا..

     ارتقى الغدير بشعره، لغة وصورة، وموسيقا، واستثمر التراث استثماراً جيداً أغنى شعره وحياته كلها، فللموروث الثقافي فاعليته فيما شعر (حيدر) ونثر.

     إنه شاعر ويتذوق الشعر، وقد يقدم بعض الشعراء على نفسه، على شعره، وبأريحية نفتقدها لدى كثير من الشعراء والأدباء والكتاب والمفكرين والفنانين.

***

     هذه كلمات حييات عن أخ أثير، عن شاعر كبير مبدع، لم يأخذ حظه من الشهرة والتكريم، مثل العشرات من الرجال الأسوياء المبدعين، لأن حيدراً والعشرات الذين أعنيهم، منتمون ملتزمون بمبادئ أعظم دين، بأخلاقياته وقيمه، ولأنهم يهملون أنفسهم كما يهملون إخوانهم، مهما كانوا بارعين في نتاجهم الشعري والأدبي والفكري والفني، لماذا؟ حتى لا يقصم بعضهم رقاب بعض بكلمة نقدية أو تعريفية فيها ثناء، ولهذا ندر النقاد الإسلاميون، ومن هم في سلوكهم.

***

     أبا معاذ، أيها الشاعر الكبير!

     أنت إنسان عرف زمانه، واستقامت طريقته، فقد كنت السوي في سلوكك وتوجهاتك وصلاتك مع عصرك وأبناء عصرك، وسوف تجوز الصراط المستقيم - إن شاء الله - بما أوتيت من فروسية، وعفة، ورقة، وشفافية، وإيمان، في رجولة، سداها ولحمتها نفسك المعجونة بقيم الإسلام والعروبة.

     عرفتك إنساناً قبل أن أعرفك شاعراً.

     عرفتك شاباً مثقفاً بعيد مرامي النظر، بعيد تطلعات الروح التي تمزقه بحيويتها وانطلاقتها نحو أمداء إنسانية تقاصرت همم الكبار أو الذين نحسبهم كباراً، دونها.. عرفتك راضياً بدنياك، وضائعاً فيها في آن. لقد كنت - ولم أزل – أشفق على الروح من الإهاب، وعلى الإهاب من الروح المتوثبة في خفة الشباب، وصرامة الكبار من الرجال.

     رأيتك بينهم، ورأيتهم بينك. أجل رأيتهم بينك. وفي فمي ماء يمنعني من البوح.

     ولا أملك بعد هذه الكليمات الحييات إلا أن أقول:

     أبا معاذ أيها الشاعر الشاعر، سلام عليك في الخالدين.

---------------------
[1] للديوان مقدمتان نفيستان، الأولى "أخي حيدر الإنسان"، للأستاذ عبد الرزاق ديار بكرلي، والثانية "أخي حيدر الشاعر"، للدكتور أحمد البراء الأميري.

أربع ظواهر لافتة في شعر حيدر الغدير - د.عبد الباسط بدر

أربع ظواهر لافتة في شعر حيدر الغدير

د.عبد الباسط بدر
نائب رئيس رابطة الأدب الإسلامي العالمية
المدينة المنورة - 28/6/1436هـ


     لكل شاعر صفات يلتقي في بعضها مع نظرائه من الشعراء الآخرين، ويتميز في بعضها الآخر عنهم، حتى لتصبح صفاته المتميزة خصائص تحمل طوابعه الشخصية وسمات إبداعه، كأنها البصمة التي تدل عليه وحده. وقد أضاء كاتبا المقدمتين الضافيتين لهذا الديوان[1] – الدكتور أحمد البراء الأميري، والأستاذ عبد الرزاق ديار بكرلي - تلك الطوابع والسمات، ولم يعد التقديم يتسع لغير نظرة خاطفة في أبرز الظواهر التي تتبدى لمتصفح الديوان، ولكي لا أثقل على القارئ، ولا أستأثر بشيء من حقه في استجلاء شاعرية صاحبه، ومعايشة ظواهرها في آفاقها الواسعة، أستأذنه في الإشارة إلى أربع ظواهر شدتني في الديوان وصاحبه.
***

     أول ما لفت نظري ظاهرة نادرة في شعرنا القديم والحديث يصح أن أسميها "ظاهرة النابغة" التي تمتد جذورها إلى النابغة الذبياني، أحد فحول شعرائنا قبل الإسلام، فقد اشتهر بلقب النابغة لأن قريحته تفجرت بعد أن مضى به العمر طويلاً، وهدر عطاؤها قوياً يسامق عطاء فحول الشعراء الآخرين، ويعلو عند بعض النقاد حتى على شعر امرئ القيس - باستثناء ريادة هذا في سبقه الزمني - وقد أعاد شاعرنا حيدر هذه الظاهرة عندما احتبس قريحته عقوداً طويلة، مثلما يحتبس السد ماء النهر، فإذا تجمعت مياهه وصارت بحيرة كبيرة عميقة الأغوار فتح بوابة السد فاندفعت المياه قوية غزيرة تروي مساحات شاسعة من الأرض العطشى.

     وقد ثارت في نفسي وأنا أتأمل هذه الظاهرة تساؤلات عدة: هل كان الاحتباس فطرياً لا يد لحيدر فيه كنبع لم يترقرق ماؤه حتى امتلأت جيوب الأرض تحته؟ أم أن حيدر احتبس رقراق النبع لغاية في نفسه حتى بلغها؟ ألم تستهوه - وهو في أول العطاء - أحلام الشهرة ومجد البيان؟ ألم يتصور - وهو في شبابه - ما سيحظى به إن أطلق شعره من إعجاب المعجبين، وباهر الأضواء؟ وهل كان في أعماقه أمر آخر يستعلي على تلك المغريات كلها، ويجعل الشعر والشاعرية رسالة ومسؤولية؟.

***
     الظاهرة الثانية التي استلفتتني هي "تثقيف القريحة"، فقد أمضى حيدر سنوات عدة – كما بين الدكتور أحمد البراء الأميري في تقديمه للديوان - مكباً على دواوين أعلام مختارين من شعرائنا قديماً وحديثاً، هم القمم العالية ولاشك، حتى هضمها قبل أن يأذن لقريحته ببدء العطاء، فأعاد إلى أذهاننا رواية رواها أبو بكر الصولي في كتابه "أخبار أبي تمام" أن أحمد بن طاهر دخل على أبي تمام فوجد بين يديه شعر أبي نواس ومسلم بن الوليد، فسأله: ما هذا؟ فقال: هما اللات والعزى وأنا أعبدهما منذ ثلاثين سنة!.

     ولئن لم يوفق أبو تمام في التعبير عن حرصه الشديد على تثقيف قريحته بشعر شعراء يعجب بشاعريتهم، فإنه رسَّخ في أذهان النقاد والدارسين أهمية "تثقيف القريحة"، وأن من أراد أن يكون شاعراً مبدعاً فعليه أن يبحر في شعر الفحول، حتى إن أبا هلال العسكري سمى كتابه عن الكتابة والشعر: كتاب (الصناعتين). وقد سلك حيدر هذا المسلك بتخطيطٍ واعٍ، وانتقائيةٍ موفقةٍ، وجَـلَـدٍ عجيب.

***
     الظاهرة الثالثة في طوابع حيدر وسمات إبداعه "الشمولية"؛ فقد انتشر شعره على مساحات واسعة من أحداث الواقع المعاصر، الدامية والمفرحة، واستوعب قضايا الفرد العربي بخاصة، والفرد المسلم بعامة، وهموم المجتمع، والأمة. ولعل أميز ما في هذه الشمولية (صور الحياة العائلية) التي تبرز فيها الأبوة الحانية، والروابط الأسرية التي تكتنفها مشاعر حميمة من الحب للأبناء والبنات والأحفاد والحفيدات، حتى لتبدو في إطار من المثالية العالية، وهذه الصور – وللأسف – نادرة في دواوين شعرائنا المحدثين، وأندر في دواوين شعرائنا القدماء بما فيهم فحولهم الأفذاذ.

     وقد أشعرتني هذه الشمولية بأن قريحة الشاعر تنتقم لاحتباسها الطويل، وتسابق زمنها ليحتوي عطاؤها كل حدث وقضية، ولتستفرغ كل ما في الوجدان من عواطف وأحاسيس، وليمتد نَفَسُها إلى التفصيلات الصغيرة، فتستكثر منها، وتصنع المطولات التي تتجاوز أبياتها مئة وسبعين بيتاً.

***
     الظاهرة الأخيرة التي أشير إليها هي "الوقدة الإيمانية العالية" التي تتجلى في سائر موضوعاته، تتجلى في استغراق شعري خاشع بين يدي الله سبحانه وتعالى، وفي حضور ظاهر لمواقع مقدسة خاصة مكة والمدينة في شعره، وفي مصالحة مع الموت بيقينية إيمانية عالية، وفي وطنياته التي تصدر عن رؤية تجعل حب الوطن من الإيمان، وفي عروبياته التي يتلبسها الإسلام، وفي تجسيد أوجاع المسلمين ولو نأت أوطانهم، حتى في قصائده العائلية التي نعدها – كما أسلفت – من الدرر النادرة في دواوين الشعراء، فقد اصطبغت هذه القصائد بألوان إيمانية زاهية، تمتزج فيها عواطف الأبوة بمسؤولية الراعي فيما استرعاه الله من الأبناء والأحفاد إرشاداً وتوجيهاً.

***
     وبعد: فهذه نظرة عابرة في سِفْرٍ كبير، أحسب - ولا أتألى على الله – أن صاحبه احتبس إبداعه طويلاً، وثقفه كثيراً، ليجعله رسالة سامية، ومسؤولية كبيرة ينهض بها في زمن صعب، فالمسلم كما يقول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: (يجاهد بسيفه ولسانه)، وليكون السِّفْرُ كلمة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، يخاطب بها المتلقين في عصره وفي عصور قادمة إن شاء الله، ويترسخ صدقة جارية من بعده. ولئن تأخر الشاعر في نشره، ولم تُتَحْ له المنابر الإعلامية والنقدية التي توفيه حقه، وتوصله إلى الجماهير العريضة، فإنه في يقيني المنجمُ الغني بكنوزه، الذي سيجد فيه متذوقو الشعر قريباً وبعيداً آفاقاً واسعة للجمال البياني العذب، وسيجد فيه الدارسون والنقاد ميادين كثيرة وكبيرة للبحث والدراسة.

     أسأل الله أن يحقق للشاعر ما يصبو إليه من هذه الرسالة النبيلة السامية، وأن يثيبه عليها أجر المحسنين، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.

----------------------
[1] "ديوان حيدر الغدير"، الجزء الأول، صدر عن مكتبة التوبة في الرياض، في 556 صفحة، مقاس 17×24، الطبعة الأولى، 1436هـ-2015م.

السبت، 29 مايو 2021

أخي حيدر الإنسان - أ.عبد الرزاق دياربكرلي

أخي حيدر الإنسان

(نشر في مقدمة الجزء الأول من ديوان حيدر الغدير)

عبد الرزاق ديار بكرلي - سورية

يطيب لي أن أكتب هذه المقدمة الضافية لديوان أخي وصديقي وزميلي الأخ الدكتور حيدر الغدير، وهو الديوان الذي يجمع شعره كاملاً ما نشر منه، وما لم ينشر، وقد اعتمدت في إعداد هذه المقدمة على صلتي الوثيقة به، التي تمتد أكثر من أربعين عاماً، وهي صلة طيبة كريمة جداً، ملأى بالود والاحترام، أنبتها وشدَّ عراها تماثل في الولاء والاهتمام والطباع والتخصص، يكاد يصل إلى درجة التطابق في كثير من الأحيان، ولا عجب فالأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف، كما قال نبينا الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام، كما أني اعتمدت فيها على مجموعة من أوراقه الخاصة التي اطلعت عليها.

وإني إذ أشكر الله عز وجل على ما يسر وأعان، أقرر أن هذه المقدمة يمكن أن توصف بأنها "شهادة من الداخل" حاولت أن أكون فيها أميناً ودقيقاً وموضوعياً.

***

ولد أخي حيدر في مدينة دير الزور الواقعة في بادية الشام على ضفاف شاطئ الفرات في سوريا، عام 1358هــــ - 1939م، وهي مدينة مسلمة عربية عشائرية، فيها شيء من سمات البادية، وشيء من سمات العراق، وشيء من سمات الشام، وكان الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله يصفها بأنها "سفارة عراقية في سورية" لما رآه من طباع أهلها وعاداتهم وأزيائهم وأمزجتهم، فيما يصف آخرون مدينة الموصل العراقية بأنها سفارة سورية في العراق.

وهو ينتمي إلى القبيلة العربية الشهيرة (شَمَّر)، وجده الذي تحمل عائلته اسمه (الغدير) ولد على ضفة أحد الغدران في بادية الشام، ومن هنا جاءت تسميته وتسمية أسرته من بعده، وقد كان لأخيه الأكبر (هشام) رحمه الله ولعٌ بالغٌ بقضية القبائل والنسب، والأصول والفروع، وقد استطاع أن يصل بسلسلة نسبهم إلى الجد الثاني عشر (محمد البشر العلي) رحمه الله الذي هاجر أيام الدولة العثمانية من منطقة حائل واستوطن بادية الشام قريباً من نهر الفرات، ويزيد من قيمة معلوماته وصدقها أنها تأكدت من مصادر أخرى لها احترامها.

***

وفي دير الزور حصل على الشهادة الابتدائية عام 1952م، والمتوسطة عام 1956م، والثانوية عام 1959م، وبعد ذلك شدَّ الرحال إلى مصر فدرس في قسم اللغة العربية، بكلية الآداب، في جامعة القاهرة، وتخرج فيها بتفوق عام 1383هـــ - 1963م، ثم حصل على الدبلوم العام في التربية من جامعة دمشق عام 1384هـــــ - 1964م، وعلى الماجستير في اللغة العربية من كلية الآداب بجامعة القاهرة عام 1410هــــ - 1990م، وكان موضوع رسالته (الرثاء في شعر البارودي وشوقي وحافظ)، ثم حصل على الدكتوراه في اللغة العربية من كلية الآداب بجامعة عين شمس عام 1414هـــ - 1994م، وكان موضوع رسالته (عمر أبو ريشة: دراسة فنية) وقد طبعها بعد تعديل وحذف وإضافة باسم (عاشق المجد عمر أبو ريشة شاعراً وإنساناً).

ولعلي أعرف الجميع بهذه الرسالة، لأني تابعتها منذ كانت فكرة في رأس مؤلفها، فمذكرة تقدم بها إلى الجامعة، فبحثاً تجيزه اللجنة العلمية المناقشة، فكتاباً مطبوعاً.

***

بصمات ومؤثرات:

في حياة كل إنسان مجموعة من الظروف المتنوعة، التي تمر به، وتضع آثارها عليه بدرجات متفاوتة، وحظ الإنسان من النجاح والتوفيق يساوي حظه من هذه الظروف، خيراً كان أم شراً، تفوقاً كان أم إخفاقاً، وهنا نعرض أهم ما مرَّ بشاعرنا من ظروف تركت بصماتها عليه.

* الإسلام:

الإسلام هو أكبر المؤثرات في حياته على الإطلاق، وهو إسلام فطري استمده من بيئته المسلمة المتدينة بفطرتها وطبيعتها، تلاه بعد ذلك إسلام واعٍ شامل النظرة، محيط بقضايا البلاد والعباد والعصر، أخذه من أساتذته الدعويين الذين أثروا فيه، ومن قراءاته الطويلة عن الإسلام، وتاريخه، وأعلامه، وحركات الإحياء والتجديد فيه، ومع اعتزازه الواعي بدينه فهو يكره الغلو والتكلف، ويميل إلى الوسطية والسماحة، وهو يصر على أن أول أعداء العمل الدعوي هم المشوهون في عقولهم وضمائرهم، حتى لو كانوا مخلصين، والمتاجرون بهذا العمل الشريف الذين يتخذون منه وسيلة لتحقيق مطامعهم الدنيوية، الشائنة أياً كان نوعها ودرجتها، وقد أحب الإسلام حباً جماً ملأ عليه أقطار نفسه، ومنحه ولاءه وإخلاصه، وكلما ازداد خبرة وسناً ازداد يقيناً بأن هذا الدين الخاتم هو سبيل الفوز لنا أجمعين، أفراداً وجماعات، في الدنيا والآخرة، ومع الزمن، ومع إدمان القراءة، وإطالة التفكير في صواب العمل الإسلامي وخطئه، تشكلت لديه وجهات نظر خاصة، توافق أحياناً وتخالف حيناً ما هو شائع في بعض بيئات العمل الدعوي.

* دير الزور:

أثرت هذه المدينة فيه أثراً بالغاً، فهذه المدينة المسلمة، العربية، العشائرية، التي تتعانق فيها البادية مع الحاضرة، والشام مع العراق، في تناغم وانسجام عجيبين، زرعت فيه حب العرب، والإعجاب بأخلاق الفرسان النبيلة، ولقد سكنت هذه المعاني في أعماقه، وقد حاول أن يكون على مستواها ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.

* المرحلة الجامعية:

لقد تركت السنوات الجامعية فيه أثراً بالغاً، فقد كان طالباً جاداً متفوقاً متفرغاً للقراءة والاطلاع والعلم، في قسم اللغة العربية، في كلية الآداب، في جامعة القاهرة ( 1959 – 1963م)، ومن أكبر ما انتفع به في تلك المرحلة حرصه الشديد على حضور مناقشات الماجستير والدكتوراه، وكان يختار مكاناً قصياً في قاعة المناقشة، ويسمع ويتأمل ويختزن، فتعلم الكثير من مناهج البحث، وقواعد التدقيق، وضوابط البحث العلمي. وكان في غاية السعادة، لأنه تلقى العلم على أيدي كوكبة من الأساتذة الأجلاء، ومنهم: شوقي ضيف، يوسف خليف، عبد العزيز الأهواني، زكي نجيب محمود، عبد الحليم النجار، حسين نصار، سهير القلماوي، عبد الحميد يونس، شكري عياد، محمد رشاد سالم، وغيرهم، وكان يحظى من بعضهم بالإعجاب والتشجيع.

* القراءة:

كان أخي حيدر وما يزال مولعاً بالقراءة إلى درجة الإدمان، ويقرأ في مجالات متنوعة، وتراه إذا أقيم معرض للكتاب يتفرغ له عدة أيام باحثاً عن الجديد في اللغة والشعر خاصة، وفي مختلف ألوان المعرفة التي تلامس اهتماماته وتطلعاته، وفي السنوات الأخيرة أصبح يركز على الشعر والسياسة أكثر من سواهما، وعلى هموم الأمة، وعنده أن القراءة كالرياضة يحتاج إليهما الجميع، وحاجة الكبار إليهما أكبر؛ فالقراءة تؤخر الشيخوخة العقلية، والرياضة تؤخر الشيخوخة البدنية، وكلتاهما معاً تبقي للمرء حضوراً اجتماعياً فاعلاً في وسطه ومحيطه.

وكان من أمنياته أن يدرس علوم الأصول في الفقه والتفسير والحديث، لأنها مفخرة العقل المسلم من ناحية، ولأنها من ناحية أخرى تحمي المرء من الخطأ، وتعيده إلى الصواب إذا حاد عنه، إنها ضوابط محكمة صاغتها عقول نادرة صياغة في غاية الدقة والإيجاز، جمعت بين النظر الشرعي السديد والبصر العقلي العميق.

* الأسفار:

لقد أكرمه الله عز وجل بأن سافر إلى عدد من البلدان، وأعانه على ذلك أنه عمل في "الندوة العالمية للشباب الإسلامي" في الرياض، أكثر من عشر سنوات، ومن طبيعة أعمال الندوة إقامة المخيمات والمؤتمرات، وكان يحرص في أسفاره على التجوال والتعرف إلى الطباع، والعادات، والثقافات والأحوال السياسية والثقافية والاجتماعية للبلد الذي يزوره، ويقتني كل ما يمكن أن يقع تحت يده من الكتب والمراجع التي تتحدث عن هذا البلد أو ذاك، ويقرأ ما فيها بتمعن، ويحرص على زيارة معظم الأماكن والمواقع المهمة الواردة فيها ليشاهدها مشاهدة معاينة، وقد أورد في كتابه "صلاة في الحمراء" الكثير من القصص التي عايشها وهو يتجول في إسبانيا لأنه زارها أكثر من سواها بدوافع دينية وتاريخية وسياحية وأدبية، وفي هذا النوع من التجوال متع وفوائد ومعلومات لا يجدها الإنسان في المراجع والكتب.

* الندوة العالمية للشباب الإسلامي:

عمل أخي حيدر في هذه المؤسسة المباركة أكثر من عشر سنوات، ولها فضل كبير عليه، من حيث السفر، والمعلومات والعلاقات، ومن أهم أفضالها عليه أنها عرَّفته بالإمكانات الهائلة التي تملكها الأمة، وبالمستقبل الواعد الذي ينتظرها، كما عرَّفته بأخطاء العمل الدعوي، وهو ما جعله عميق الإيمان بأهمية التقويم والمراجعة والتصحيح، وإعلان هذه الأخطاء جهاراً نهاراً حتى لا تكررها الأجيال القادمة من الدعاة، وهو يصف ذلك بأنه واجب شرعي وضرورة عقلية، ويصف السكوت عن هذا الإعلان بأنه تفريط يصل إلى درجة الجريمة، كما أنه يرى أن عملية التقويم والمراجعة والتصحيح والإعلان، ينبغي أن تسير جنباً إلى جنب مع عملية اكتساب مواقع جديدة للعمل الدعوي، بل ربما يجب أن تتقدم عليها، والقاعدة الشرعية التي تقول: "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح" خير شاهد على ذلك.

* عهود كريمة:

لقد قطع على نفسه مجموعة من العهود الكريمة التي جعلها نبراساً له في حياته يعتز بها كثيراً، ويستحضرها دائماً، ويحرص على العمل بها، وهي:

- تحري الصدق والتزامه.
- كتمان السر.
- الإخلاص في النصيحة لمن يطلبها منه، وقبولها ممن يهديها إليه.
- عدم مقابلة الإساءة بمثلها.
- شجاعة الاعتذار لمن يخطئ في حقهم.
- حفظ الجميل لمن أحسن إليه.
- بذل المروءة في حالة القدرة، والاعتذار عنها في حالة العجز.
- تكوين الرأي بنزاهة وتمحيص، والاعتزاز به، ووجوب التبديل إذا دعت إليه دواعٍ كريمة.
- للمسلم أن يأخذ بالرخصة، ولكن ليس له أن يأخذ بالدنية.
- من لم يستطع أن يقول الحق عليه على الأقل ألا يقول الباطل.

* هو والشعر:

لقد تعلق د. حيدر بالشعر منذ صباه الأول على ما كان يذكره لي من ميول وهوايات، وازداد تعلقه به مع الزمن حتى كاد يصبح هاجسه الأول، وبدأ النشر وهو في حدود الخمسين من عمره خوفاً من أن ينشر شيئاً يندم عليه بعد ذلك، والشعراء المفضلون لديه هم: المتنبي: أحمد شوقي، بدوي الجبل، عمر أبو ريشة، وكثيراً ما يعيد قراءة دواوينهم مرات ومرات، وهو يحبُّ النظم في الأوقات التي يفرغ فيها البال، ويعتدل المزاج، وتغيب الصوارف، وتطول الخلوة، وتجتمع الشوارد، وقد سمعت منه أكثر من مرة أنه ألقى على زملائه الطلاب وهو في المرحلة المتوسطة قصيدة من شعر غيره في حفل مدرسي عام، وألقى عليهم وهو في المرحلة الثانوية قصيدة من شعره المبكر، وأنه كان في منتهى السعادة.

والنصوص التي تطيب له جداً من شعر المتنبي، وشوقي، وبدوي الجبل، وعمر أبو ريشة، وغيرهم من قدامى ومعاصرين، يعطيها عناية خاصة، وربما قرأ الواحد منها ثلاثين مرة قراءة تأمل وتذوق في خلوات تطول أو تقصر، وتتباعد أو تتقارب.

وفي هذا النوع من القراءة فوائد جمة، لأنها قراءة اختزان واستيعاب وتمثل، من شأنها أن تصل صاحبها بأروع نصوص الشعر العربي، فترتقي بشاعريته، وتعلو بقدراته، وربما وضعت بصماتها عليه، ولا حرج في ذلك، فالشاعر لا بد له أن يتأثر بهذا أو ذاك، والأفضل له أن يتاثر بالشعراء المحلقين.

* الخلوة:

إنه مولع بالخلوة بين الحين والآخر، ويجد فيها سعادة بالغة، ويحرص على أن تكون الخلوة إيجابية من ناحية، وألا تطول من ناحية أخرى، وبذلك أصبحت الخلوة له مدرسة حقيقية للمراجعة والمحاسبة والتجديد، وترتيب الأولويات، واكتشاف البدائل والحلول، وقد انتفع من ذلك كثيراً وهو يقول عنها: إنها أستاذ حقيقي له.

* الدعاء:

لقد أولع الأخ حيدر بالدعاء منذ أوائل شبابه، حسب ما ذكره لي في مرات كثيرة، فقد حفظ مجموعة من المأثورات الطيبة من الآيات الكريمة، والأحاديث الشريفة، واعتاد على قراءتها مرتين في اليوم، صباحاً ومساءً، يضاف إلى ذلك ما يقوله المسلم كل يوم، لدى استيقاظه، ونومه مروراً بكل تفاصيل حياته ومجرياتها، وأول كتاب عني به في هذا المجال هو كتاب "الأذكار" للإمام النووي.

ومع الزمن أخذ يضيف إلى ذلك ما يطيب له من أدعية مختلفة تمر به، ويحفظها، ويضعها في مكانها المناسب من نفسه، وبين أوراقه، وصار الوقت الذي يستغرقه ليقرأها كلها ساعة كاملة يجد فيها سعادة بالغة جداً، وتجده مشدوداً بقوة إلى وقتها المحدد لها، وإذا فاتته – وقلَّ أن تفوته – فإنه يشعر بضيق شدديد ويلوم نفسه لوماً شديداً. كما كان يعطي الدعاء عناية خاصة في الأوقات الشريفة، والأمكنة الشريفة، والأحوال الشريفة، وفي يوم الجمعة، وليلة القدر، وحين يكون في أحد الحرمين حيث تزداد العناية لديه بهذا الأمر زيادة بالغة، الأمر الذي كان يدعوني إلى تجنب الاتصال به هاتفياً، أو إطالة الحديث معه في تلك الأوقات لعلمي أنه سيتضايق من ذلك كثيراً بسبب إشغالي له عن هذا الأمر الذي هو عاكف عليه، ومتفرغ له في تلك الأزمنة أو الأمكنة، وقد عرف بين أهله وخاصة صحبه بولعه بالدعاء، فإذا حدثته ووجدته غير منتبه لي أقول له: لا بد أنك الآن تتبتل فادع لي. وأخونا أبو عمر د. أحمد البراء الأميري يقول له: لا أعرف أحداً بين أصدقائنا هو أحفى منك بالدعاء.

ومن الطريف أن هناك من يتصل به بالهاتف، من الداخل والخارج، ليطلب منه أن يدعو له، ويسمي له حاجته، فإذا وعده فعل ذلك.

وقد جمع الكثير من كتب الدعاء فوجد أكثرها تكراراً وإعادة، لكنه حينما قرأ كتاب الشيخ محمد الغزالي "فن الذكر والدعاء عند خاتم الأنبياء" وجد شيئاً آخر، فقد وجد الشيخ يحلل، ويفسر، ويعقب، ويكتب بروح العالم الثبت، والمحب العاشق، والأديب الملهم، وفي لغة مشرقة، وبيان رائع. وقد قرأ هذا الكتاب عدة مرات، ووجد فيه متعة بالغة، وفوائد جمة، وإشارات ذكية، وكان يشتري منه نسخاً ويهديها لخاصته ولمن يحب، ويعود إليه المرة بعد المرة، وينصح من حوله بشرائه واقتنائه والعمل بما ورد فيه من أدعية ومأثورات.

وأحبُّ أحوال الدعاء إليه هي حين يمشي منفرداً، فالوحدة تعين على التركيز، والمشي يعين على الانسجام بين حركة الجسد وأشواق الروح، وحينذاك كان يعيد على مسمعي أنه قد ظفر باثنتين: "ساونا جسدية" مردها إلى حركة الجسد، و"ساونا روحية" مردها إلى أشواق الروح.

* المجالس الأدبية والثقافية:

كان أخي حيدر حريصاً على الحضور إلى البيوت العلمية التي تقام فيها أمسيات جميلة أدبية وثقافية، ويتفاوت حظها من الأهمية بطبيعة الحال، وكان يرى أن هذه المجالس هي "مدارس حقيقية" إذا أحسن الإنسان الاستفادة منها، حيث تزداد معرفته، وتتجدد خبرته، ويتعلم الإنسان فيها فن الحوار، وفن الصمت، وفن التفكير، وفن المشاركة.

ولقد حضر مجالس كثيرة في مصر كان أبرزها مجلس الأستاذ العقاد، ومجلس شيخ العربية الأكبر محمود محمد شاكر، وفي السعودية كان يحضر مجلس عبد العزيز الربيع في المدينة المنورة. ومجلس عبد العزيز الرفاعي، وملجس أنور عشقي، ومجلس أحمد باجنيد، ومجلس راشد المبارك، ومجلس عثمان الصالح في الرياض. وقد زادت هذه المجالس من معلوماته، ووسعت من علاقاته وعدَّلت في آرائه، وشجعته على مراجعة نفسه تجاه العديد من المواقف والقضايا.

ومن أهم أفضال هذه المجالس عليه، أنها أتاحت له فرصة ثمينة ليتعرف من خلالها على أعلام كبار من داخل المملكة وخارجها، ما كان له أن يعرفهم لولاها، وأتاحت له الفرصة ليعلق فيها على رأي هذا الضيف أو ذاك مرة، ولينشد شيئاً، من شعره مرة، وليحاضر في موضوع يُطلب منه مرة، وكان يعد محاضراته التي تطلب منه إعداداً متقناً جداً، احتراماً لنفسه، واحتراماً لسامعيه، ولأفضال هذه المجالس عليه كان يقول: إنها حقيقة بمنزلة أستاذ كبير لي تعلمت منه الكثير.

* العرب والعربية:

أحب حيدر قومه العرب حباً جماً دون أن يتجاوز في هذا الحب الحد السوي. وعنده أن الفطرة السوية تدفع المرء إلى حب قومه والاعتزاز بهم، وهو دليل على كرم النفس ونقاء الطبع. وحب العربي لقومه مرده إلى النزعة الفطرية لديه من ناحية، ومرده من ناحية أخرى إلى أن للعرب – في الجملة – مزايا عالية من العقل الذكي، والطبع السوي، وسعة الأفق، وكرم اليد، وحب الخير، وهو ما جعلهم يتفوقون في ذلك على سواهم. والعصبية المذمومة هي العصبية الجاهلية، أما العصبية الرشيدة فهي خير عميم، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (خيركم المدافع عن عشيرته ما لم يأثم). وهذه المزايا هي التي جعلتهم جديرين بحمل رسالة الإسلام، فقد اختارهم الله عز وجل لهذه المهمة الجليلة بسبب ذلك (والله أعلم حيث يجعل رسالته)، ولقد كان العربي مكاناً وزماناً ولساناً وإنساناً، هو الأجدر بذلك التكليف، وذلك فضل يؤتيه الله من يشاء، وعلى العربي أن ينظر إلى هذه الميزة على أنها تكليف لا تشريف، ومسؤولية لا مفاخرة، وكان يردد بإعجاب جملة أعجبته ونسي قائلها، ولعله الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله، وهي: "القليل من العصبية يُعمِّر، والكثير منها يُدمر" يضاف إلى ذلك أن العقل العربي المسلم – في الجملة – فهم الإسلام أفضل من فهم العقل المسلم غير العربي، وهي حقيقة لها شواهد كثيرة جداً، وشهد بها عدد من أعلام الإسلام غير العرب، ومرد ذلك إلى أن اللغة هي أداة للفهم والتعبير من ناحية، وهي طريقة في البناء العقلي والتفكير من ناحية أخرى.

لذلك، فإنه لا غرابة أن أحب العربية حباً جماً، لمزاياها الكثيرة، وأهمها أنها لغة القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ومعظم التراث الإسلامي، ولأنها اللغة التي رضعها منذ نشأته، ولأنه درسها في الجامعة عن رغبة تصل إلى حد العشق، وقد مرت به في قراءاته فكرة أعجبته كثيراً، وهي أنه حيث انتشر الإسلام مقترناً بانتشار اللغة العربية معه، كان ذلك أفضل من ناحيتين، من حيث صحة فهم الإسلام، ومن حيث ثبات الإسلام ورسوخه، والدرس المستفاد من ذلك أن على الدعاة أن يحرصوا على نشر الإسلام والعربية معاً، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، وهو يرى أن أعظم أخطاء الدولة العثمانية أنها لم تتعرب، ولو أنها تعربت لكان فهمها للإسلام أصح ولكان رسوخه أقوى وأخلد، ولكان نجاح أتاتورك في فصلها عنه أضعف.

وما قيل عن حق العرب في الاعتزاز بجنسهم ولغتهم، يقال عن حق المسلمين غير العرب في ذلك، المهم أن يبقى اعتزاز الجميع في الحدود السوية الرشيدة، وفي ذلك خير للجميع.

* فضيلة الصدق:

إنه صادق جداً، يحب الصدق فطرة وديناً، ويكره الكذب فطرة وديناً، وقد عُرف هذا الأمر عنه بين أصدقائه وخصومه على السواء، وهو يرجو أن ينال بذلك منزلة "الصديق" عند الله عز وجل، وهي منزلة كبرى يرجو بها الفوز يوم القيامة، وكان يردد دائماً، إنه لا يستطيع أن يصل إلى مستوى العباد والزهاد والمجاهدين والعلماء والدعاة، ولكنه يرجو أن يقترب منهم بفضيلة الصدق التي أكرمه الله بها، واعترافاً بفضل الله عليه والشكر له، كان يصر على أن هذه الفضيلة هي فضيلة "وهبية" لا "كسبية" لم ينلها بجهده، وإنما برحمة الله عز وجل وتفضله عليه بها.

* طبع سوي:

وهو سوي الطبع، يكره التكلف والمتكلفين، والمتشدقين والمتفاصحين، ويرى أننا نستطيع أن نقول أحسن الكلام وأصدقه وأصحه وأعمقه، في بيان واضح قريب، يفهمه الجميع على اختلاف مستوياتهم، ويرى أن على المفكرين عامة، والدعويين منهم خاصة أن يخاطبوا الناس بكلام سهل مفهوم لا يحتمل إلا معنى واحداً، لأن مثل هذا الكلام يقع موقع القبول فيفهمونه ويتبنونه، خلافاً للكلام الغامض الملتف المعقد الذي لا يصرح ولا يحسم ولا يجزم، والذي ينفر المرء السوي منه ولا يتقبله.

ويرى أن الذين يلجؤون إلى هذا النوع من الكلام هم ما بين متفاصح أو مدعٍ يريد أن يضفي على نفسه صفة الإبداع والتميز، أو خائف لا يريد أن يقول ما عنده بصراحة، أو هو إنسان يعاني من عجمة فكرية، أو لسانية، فهو بسببها لا يعرف بالضبط ما يريد فكراً، ولا يستطيع أن يعبر عنه بياناً.

* نفس حرة:

إنه رجل حر بكل معنى الكلمة، لذلك تراه يجمع بين التواضع والعزة معاً، فعزته مبرأة من الكبرياء، وتواضعه مبرأ من الضعف، فهو يأبى أن يظلم أحداً خاصة إذا كان من ضعفة الناس، ولا يقبل أن يظلمه أحدٌ أياً كان ولو كان من أكابر الناس أو من أعلاهم نفوذاً. وهو يأخذ بالرخصة لكنه لا يأخذ بالدنية، ويغضب ولا يحقد، ولا يحسد أحداً على نعمة آتاه الله تعالى إياها لأن الحسد عنده كما سمعته منه عدة مرات: حرام في الدين، ودناءة في الطبع، ولأن الحاسد بحسده للآخرين كأنه يتهم الله جل جلاله بالظلم، وبسبب هذا الطبع السوي السمح، وبسبب نفسه المبرأة من الحسد والأثرة، وبسبب فضائل مبادئ الإسلام والعروبة التي تعلق بها فإنه يحب الخير للناس عامةً، ويفرح لأي خير عام أو خاص يصيب القريب أو البعيد، ويفرح أكثر حين يشرفه الله عز وجل بخير يصنعه لمن حوله، ويرى أن هذا نعمة من الله تعالى تستوجب الشكر، وإذا طلب أحد منه مروءة يقدر عليها فإنه يفرح بذلك، وإذا وجد نفسه غير قادر عليها اعتذر ابتداء فأراح واستراح.

* ثقة مبررة:

ولأنه قارئ جيد مدمن للقراءة، ولأنه متابع لمجريات الحوادث، ولأنه يكون آراءه بنزاهة، وأناة وحياد، ولأنه مولع بالخلوة والمراجعة والتقويم، فهو معتز برأيه جداً، متمسك به، يصر عليه مهما كان ذلك الرأي مخالفاً لمن حوله حتى إنه ليبدو عنيداً جداً في بعض الأحيان، وصدق أحد رؤسائه في العمل حين وصفه بأنه يكوِّن رأيه بنزاهة ثم يصر عليه. وفي كثير من الأحيان كان يتبنى فكرة تبدو غريبة ومستبعدة، ربما لامه الآخرون عليها كثيراً أو قليلاً ثم تثبت الأيام صحتها، ومع ذلك فعنده القدرة على التراجع عن فكرة كان يقول بها إذا تبين له خطؤها، وكان يقول: الذين لا يغيرون آراءهم هم الأغبياء فقط، لأنهم يتوهمون أنهم لا يخطئون. ويربط تغيير الرأي بشرط مهم وهو أن تكون الدواعي إليه كريمة، مبرأة من الخوف والطمع والنفاق، وقائمة على تحري الحق والتماس الصواب، ولذلك يمكن لي أن أصفه بأنه يجمع بين الثقة المبررة والتغيير الحميد.

* ذنوب وعيوب:

فطر الله عز وجل الإنسان على الصواب والخطأ، وأعطاه برحمته وكرمه فرصة التوبة ووعده بالقبول.

أما ذنوب أخي حيدر – كما كان يقول لي مراراً – فهي ذنوب لازمة غير متعدية، وكان يخاف كثيراً جداً من حقوق العباد، وربما تساهل في الحق الذي هو له، لكنه لا يتساهل قط في الحق الذي هو عليه. وقد حفظ دعاء جميلاً سمعته منه فأعجبني، كان كثير الترداد له، وهو: اللهم لا تجعل عليَّ تباعة لأحد. ومرد إعجابه بهذا الدعاء أن حقوق الله عز وجل مبنية على المسامحة، خلافاً لحقوق العباد المبنية على المشاحَّة.

أما عيوبه فأبرزها - وهو يوافقني فيها – أن فيه حياءً بالغاً، وطيبة زائدة، وحسن ظن بالآخرين يصل أحياناً إلى درجة الغفلة، وأنه بطيء كثيراً في اتخاذ القرار وأنه عمل فيما لم يخلق له، وأن أحزانه على بعض ما أصابه طالت بأكثر مما ينبغي، وقد أطمعت هذه العيوب فيه أهل السوء، وأضاعت عليه كثيراً من الفرص وأشهد أنه انتبه إليها جيداً، وحاول أن يتخلص منها وله في ذلك نجاح ملحوظ.

الأكثر مشاهدة