الأحد، 30 مايو 2021

أربع ظواهر لافتة في شعر حيدر الغدير - د.عبد الباسط بدر

أربع ظواهر لافتة في شعر حيدر الغدير

د.عبد الباسط بدر
نائب رئيس رابطة الأدب الإسلامي العالمية
المدينة المنورة - 28/6/1436هـ


     لكل شاعر صفات يلتقي في بعضها مع نظرائه من الشعراء الآخرين، ويتميز في بعضها الآخر عنهم، حتى لتصبح صفاته المتميزة خصائص تحمل طوابعه الشخصية وسمات إبداعه، كأنها البصمة التي تدل عليه وحده. وقد أضاء كاتبا المقدمتين الضافيتين لهذا الديوان[1] – الدكتور أحمد البراء الأميري، والأستاذ عبد الرزاق ديار بكرلي - تلك الطوابع والسمات، ولم يعد التقديم يتسع لغير نظرة خاطفة في أبرز الظواهر التي تتبدى لمتصفح الديوان، ولكي لا أثقل على القارئ، ولا أستأثر بشيء من حقه في استجلاء شاعرية صاحبه، ومعايشة ظواهرها في آفاقها الواسعة، أستأذنه في الإشارة إلى أربع ظواهر شدتني في الديوان وصاحبه.
***

     أول ما لفت نظري ظاهرة نادرة في شعرنا القديم والحديث يصح أن أسميها "ظاهرة النابغة" التي تمتد جذورها إلى النابغة الذبياني، أحد فحول شعرائنا قبل الإسلام، فقد اشتهر بلقب النابغة لأن قريحته تفجرت بعد أن مضى به العمر طويلاً، وهدر عطاؤها قوياً يسامق عطاء فحول الشعراء الآخرين، ويعلو عند بعض النقاد حتى على شعر امرئ القيس - باستثناء ريادة هذا في سبقه الزمني - وقد أعاد شاعرنا حيدر هذه الظاهرة عندما احتبس قريحته عقوداً طويلة، مثلما يحتبس السد ماء النهر، فإذا تجمعت مياهه وصارت بحيرة كبيرة عميقة الأغوار فتح بوابة السد فاندفعت المياه قوية غزيرة تروي مساحات شاسعة من الأرض العطشى.

     وقد ثارت في نفسي وأنا أتأمل هذه الظاهرة تساؤلات عدة: هل كان الاحتباس فطرياً لا يد لحيدر فيه كنبع لم يترقرق ماؤه حتى امتلأت جيوب الأرض تحته؟ أم أن حيدر احتبس رقراق النبع لغاية في نفسه حتى بلغها؟ ألم تستهوه - وهو في أول العطاء - أحلام الشهرة ومجد البيان؟ ألم يتصور - وهو في شبابه - ما سيحظى به إن أطلق شعره من إعجاب المعجبين، وباهر الأضواء؟ وهل كان في أعماقه أمر آخر يستعلي على تلك المغريات كلها، ويجعل الشعر والشاعرية رسالة ومسؤولية؟.

***
     الظاهرة الثانية التي استلفتتني هي "تثقيف القريحة"، فقد أمضى حيدر سنوات عدة – كما بين الدكتور أحمد البراء الأميري في تقديمه للديوان - مكباً على دواوين أعلام مختارين من شعرائنا قديماً وحديثاً، هم القمم العالية ولاشك، حتى هضمها قبل أن يأذن لقريحته ببدء العطاء، فأعاد إلى أذهاننا رواية رواها أبو بكر الصولي في كتابه "أخبار أبي تمام" أن أحمد بن طاهر دخل على أبي تمام فوجد بين يديه شعر أبي نواس ومسلم بن الوليد، فسأله: ما هذا؟ فقال: هما اللات والعزى وأنا أعبدهما منذ ثلاثين سنة!.

     ولئن لم يوفق أبو تمام في التعبير عن حرصه الشديد على تثقيف قريحته بشعر شعراء يعجب بشاعريتهم، فإنه رسَّخ في أذهان النقاد والدارسين أهمية "تثقيف القريحة"، وأن من أراد أن يكون شاعراً مبدعاً فعليه أن يبحر في شعر الفحول، حتى إن أبا هلال العسكري سمى كتابه عن الكتابة والشعر: كتاب (الصناعتين). وقد سلك حيدر هذا المسلك بتخطيطٍ واعٍ، وانتقائيةٍ موفقةٍ، وجَـلَـدٍ عجيب.

***
     الظاهرة الثالثة في طوابع حيدر وسمات إبداعه "الشمولية"؛ فقد انتشر شعره على مساحات واسعة من أحداث الواقع المعاصر، الدامية والمفرحة، واستوعب قضايا الفرد العربي بخاصة، والفرد المسلم بعامة، وهموم المجتمع، والأمة. ولعل أميز ما في هذه الشمولية (صور الحياة العائلية) التي تبرز فيها الأبوة الحانية، والروابط الأسرية التي تكتنفها مشاعر حميمة من الحب للأبناء والبنات والأحفاد والحفيدات، حتى لتبدو في إطار من المثالية العالية، وهذه الصور – وللأسف – نادرة في دواوين شعرائنا المحدثين، وأندر في دواوين شعرائنا القدماء بما فيهم فحولهم الأفذاذ.

     وقد أشعرتني هذه الشمولية بأن قريحة الشاعر تنتقم لاحتباسها الطويل، وتسابق زمنها ليحتوي عطاؤها كل حدث وقضية، ولتستفرغ كل ما في الوجدان من عواطف وأحاسيس، وليمتد نَفَسُها إلى التفصيلات الصغيرة، فتستكثر منها، وتصنع المطولات التي تتجاوز أبياتها مئة وسبعين بيتاً.

***
     الظاهرة الأخيرة التي أشير إليها هي "الوقدة الإيمانية العالية" التي تتجلى في سائر موضوعاته، تتجلى في استغراق شعري خاشع بين يدي الله سبحانه وتعالى، وفي حضور ظاهر لمواقع مقدسة خاصة مكة والمدينة في شعره، وفي مصالحة مع الموت بيقينية إيمانية عالية، وفي وطنياته التي تصدر عن رؤية تجعل حب الوطن من الإيمان، وفي عروبياته التي يتلبسها الإسلام، وفي تجسيد أوجاع المسلمين ولو نأت أوطانهم، حتى في قصائده العائلية التي نعدها – كما أسلفت – من الدرر النادرة في دواوين الشعراء، فقد اصطبغت هذه القصائد بألوان إيمانية زاهية، تمتزج فيها عواطف الأبوة بمسؤولية الراعي فيما استرعاه الله من الأبناء والأحفاد إرشاداً وتوجيهاً.

***
     وبعد: فهذه نظرة عابرة في سِفْرٍ كبير، أحسب - ولا أتألى على الله – أن صاحبه احتبس إبداعه طويلاً، وثقفه كثيراً، ليجعله رسالة سامية، ومسؤولية كبيرة ينهض بها في زمن صعب، فالمسلم كما يقول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: (يجاهد بسيفه ولسانه)، وليكون السِّفْرُ كلمة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، يخاطب بها المتلقين في عصره وفي عصور قادمة إن شاء الله، ويترسخ صدقة جارية من بعده. ولئن تأخر الشاعر في نشره، ولم تُتَحْ له المنابر الإعلامية والنقدية التي توفيه حقه، وتوصله إلى الجماهير العريضة، فإنه في يقيني المنجمُ الغني بكنوزه، الذي سيجد فيه متذوقو الشعر قريباً وبعيداً آفاقاً واسعة للجمال البياني العذب، وسيجد فيه الدارسون والنقاد ميادين كثيرة وكبيرة للبحث والدراسة.

     أسأل الله أن يحقق للشاعر ما يصبو إليه من هذه الرسالة النبيلة السامية، وأن يثيبه عليها أجر المحسنين، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.

----------------------
[1] "ديوان حيدر الغدير"، الجزء الأول، صدر عن مكتبة التوبة في الرياض، في 556 صفحة، مقاس 17×24، الطبعة الأولى، 1436هـ-2015م.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة