الأحد، 30 مايو 2021

الشاعر وما شعر - أ.عبد الله الطنطاوي

الشاعر وما شعر

أ.عبدالله الطنطاوي
عَمّان 13/ 11/ 1437هـ - 16/ 8/ 2016م

     وبه أستعين على الظالمين.
     لست أدري سبب ترددي في الكتابة عن شاعر إنسان، عرفته منذ عرفته قبل نصف قرن من الزمان المتقلب بسرائه وبأسائه، وكان ذلك مع أخي وصديقي الحبيب الشاعر مصطفى الغدير، تغمده الله برحماته ورضوانه، وهو الأخ الشقيق الأصغر لشاعرنا حيدر.. فرأيت فيه - في حيدر - من قيم الشهامة والمروءة والنبل، والذوق، والتسامي عن الصغائر ومحقّرات الذنوب، بله الأكبر منها، والتعلق بالقيم العربية الإسلامية، والوفاء، ما جعل حبال المودة والإخاء بيننا تزداد قوة ومتانة مع الأيام، فالأسلاك ساخنة، تحمل ما تحمل من صدق الإخاء، وكرم الأرومة، وشموخ العروبة، ودفق العاطفة الصافية، وكأنها من عذوبة (الفرات) الذي ارتوى منه أيام النشأة في دير الزور، وعذوبة (النيل) الذي ارتوى منه أيام الطلب في القاهرة.

     ذوق، ولطف، ثقافة ووعي، التزام صادق هادئ ولكنه صارم، بأخلاق الإسلام، ذلك ما جعل أحاديثه ومكالماته ورسائله عسلاً مصفى، لا شائبة تشوبها سوى غربتها، فهي تحيا في زمن ضلّ أهلوه، أو كثير منهم، سبل الرشد والرشاد.

     وكانت قصائده تغذو، بقيمها الغنية الأصيلة، قيمه في الحياة، وهي قيم عربية إسلامية إنسانية أصيلة، فهي منها في تجذّرها وأصالتها، وليست إليها حسب، فللإنسان منها النصيب الأوفى. وهذا هو شعره أمامكم، تأملوه وتدبروه، لتكونوا شهداء معي على صدق ما أقول ولا أزعم.

     هذا بضع من الشاعر الإنسان حيدر الذي كان (غديراً) عندما تعرفت إليه أواخر ستينيات القرن الفائت، ثم ما لبث أن صار فرعاً من فروع (الفرات) العظيم، الذي يمتد من عروس الشرق السوري، مدينة (دير الزور) إلى مدينة (الرياض) التي تبهرني ضخامتها، وخاصة بعد أن احتضنت ابن الفرات (حيدر) وفرحت به، شاعراً فراتياً فذاً، هي في مسيس الحاجة إليه وإلى أمثاله من الشبان - كانوا - المثقفين، الذين حطوا رحالهم في رحابها، وهم ذوو همم عالية، وثقافات باذخة، ووفاء لعمتهم (الرياض) منهم كاتبا المقدمتين[1] المتميزتين لهذا الديوان المتميز برصانته، وتنوع موضوعاته، وبشموخه على كثير من الشعر الذي نقرأ في هذه الأيام.. وهاتان المقدمتان لم تتركا لكاتب مثلي - مدمن على كتابة المقدمات لعشرات الدواوين والأجناس الأدبية الأخرى - ما يقوله في الشاعر وما شعر.

***

     شاعرنا حيدر، يأتي في الطبقة الأولى من فحول الشعراء ولا غرابة، فهو شاعر إسلامي عروبي، مشبع بروح التحدي والإصرار على كلمة الحق، يقولها ولا يبالي بتبعاتها وتداعياتها، ومواقفه الصارمة إلى جانب الحق وأصحابه، أفقدته بعض (أصدقائه)... وهذه قوة أخلاقية كريمة استمدها من دينه، ومن ثقافته، ومن بيئته المعتزة بعروبتها وإسلامها، تلك التي جبلته بالكرم والكرامة والصراحة والشجاعة الأدبية، كما استمدها من حياته الفكرية، فهو مدمن قراءة، لا يكاد يدع كتاباً ذا بال، إلا بعد أن يقرأه قراءة الدارس المتمكن، لا قراءة الهواة من شداة الشعر والأدب، وقد أفادته أسفاره واطلاعه على أحوال الشعوب الشيء الكثير، فقد أغنت شعره وخياله، وفكره، ومفرداته.

     كما أفادته صلاته بالكبار: محمود محمد شاكر، وشوقي ضيف، وبدوي طبانة، وأبو الحسن الندوي، ومحمد محمد حسين، ومصطفى الزرقا، وعلي الطنطاوي، وسواهم، أفادته في حياته الفكرية، والأدبية، والاجتماعية، أخذ من خير ما عندهم، من علم ولغة، وأصول اجتماعية، وفكر، ودين، وتجاوز عما سواها.

***

الديوان:

     لا أحب الفصل بين الشاعر وشعره، لأني أحس أني أفصل بين الوالد وما ولد، وهذا عندي من الكبائر الموجعات، والديوان مما ولد الشاعر، ويا لروعة هذا المولود الذي سيكون حبيب كل من له مسكة من ذوق رهيف، وعقل حصيف.

     في هذا الديوان: (ديوان حيدر الغدير)، حديث عن الحياة التي يحياها الشاعر ويحياها الناس أو يعيشونها، وحديث عن الموت الذي هو غاية كل حي، فيه أشجان تغلف الأحلام والواقع المرير لأمة ضائعة، تاهت فانحطت، ولكن الشاعر الذي استعصى على التشاؤم، يأمل ويعمل لإقالة عثراتها، وانتشالها من الوهدات التي تردّت فيها، لتنهض وتتغلب على أعدائها في الداخل المتخلف، والخارج الذي يأبى نهوضها، ويعمل على تقويض معالم الحياة والتمدن والتحضر فيها.

     عالم حيدر فسيح، وروحه تكاد تختنق في الأطر التي فرضها عليه تخلفٌ عُمُرُه مئات السنين.

     إنه ليحزنني ما أطالع في الديوان الكبير، كما في حياته، من حزن دفين، يتوارى خلف ابتسامات ومرح ودعابات تتبدى في بعض مقطوعاته، في بعض المناسبات، كالأعراس والولادات وسواها، يريد إدخال البهجة على عُمّارها الذين تأكل أحزانهم وجوههم، إنهم يرقصون ويوارون ما يعانون خلف ضحكاتهم المفتعلة، وصيحاتهم الملفوفة بهالات الكآبة الكئيبة في غربتهم القسرية المغمسة بدماء المأساة، فيرقص الشاعر بمقطّعاته معهم، ورؤوس الأحزان الدفينة تشرئب بشيء من الخجل، لأنها في محفل فرح، لا ترح. وهيهات لهم وللشاعر الذي يطلق الفكاهات والنكات، أن يتمكن من آلامه الجوانية، فيحاول ويجهد نفسه في إعادتها إلى أعطافها ومنحنيات النفس التي أوغلت فيها.

     هذه صورة من الصور الحية التي كنت أشاهدها في عرس صحبت فيه الشاعر في مدينة (جدة) المعمورة بخيرة الشيوخ والأولاد والحفدة من أبنائها ومن أضيافها.

     شاعرنا أبو معاذ إنسان مرهف الأحاسيس، ويعلم من يعلم: ما الإنسان، وما أحاسيسه؟

     ومن هنا تنوعت موضوعاته، واشتدت اهتماماته بقضايا الإنسان، حيث كان.

***

     وتحدث الشاعر المجيد عن حياته في مراحلها المختلفة، عن شغبه في أفراحه وأتراحه، عن آماله وأشواق قلبه، عن مخاوفه ومحاذره، عن البطولة التي يعشقها حيدر، لأنه حيدر في قلبه الذي لا يعرف الخوف من الفقر ولا الموت، وبالتالي لا يخشى الطغاة فيبرز إليهم في شعره المقاتل، ولو أجابوه لصاح فيهم: هل من مبارز؟.

     تعرض للسلبيات التي يكرهها ويتناءى عنها: عن البخل، والجبن، والعجز، والغدر. وسواها من الموبقات.

     شعره عالمه الكبير المترامي الأطراف، من طنجة إلى جاكارتا، إلى الأندلس السليبة الباكية، وما بينها من آلام ومواجع للإسلام والعروبة، والإنسانية جمعاء.

     زار الأندلس، وقف أمام الحمراء الدرة اليتيمة، وصلى في مسجدها المحزون: مسجد قرطبة، وأذن فيه، كما أذن من قبله شيخنا وأستاذنا الجليل سعيد الأفغاني الذي صعد مئذنة الجامع، ورفع صوته بالأذان، وفي وضح النهار، وأمام العرب والفرنجة.

     وبكى الشاعر غرناطة - التي أسميت كبرى بناتي باسمها - بكى أبا عبدالله الصغير الذي لم يحافظ على ما استؤمن عليه، واكتفى بالبكاء مثل النساء، كما قالت له أمه الحرة، بكى على (الكبار) الذين كانوا صغاراً في اهتماماتهم وخلافاتهم التي ضيعت الأندلس الحبيبة ذات الحضارة السامقة.
***

     وإذا كان لا بد من كلمة في هذا الشعر الباذخ في معجمه اللفظي، لأنه يكتب بلغة شاعرة جعلت نثره شعراً، فكيف شعره؟

     كيف شعر شاعر مدمن قراءة واطلاع وتنقيب عن الحق والجمال معاً، والأول وكد الرجال الذين يحترمون أنفسهم، والجمال مسكون في الشعراء خاصة، ولعل حب الجمال قاده إلى الشاعر العملاق عمر أبي ريشة، بمفرداته وصوره وموسيقاه فجاءت مفردات منتقيات مترفات.

     أنا في نشوة من أشذاء كثير من قصائده المطولات والمقطوعات ويا لها من أشذاء! هل أضرب أمثلة على ذلك؟ ها هو ذا الديوان كله أمثلة حية ناطقة تفوح منها تلك الأشذاء.

     نظراء الشاعر في هذا الزمان الذي كثر فيه الشعراء وقلّ فيه الشعر قلة.. كيف؟ إنهم وإنه أمامك، فاقرأ، ولا أنصحك أن تستمع، ثم احكم، فاعجب لهذا القول إن شئت أن تعجب.

     كما أقول: كثر الذكور في هذا الزمان وقلّ الرجال، وكثرت الإناث وقلت الأنوثة.

     ما أروع ما غنى، وما بكى فيه، وما أنشد!.

***

     ديوان خلا من الخطأ، حتى المطبعي، لشدة احتفال الشاعر بشعره، مقروءاً أو مسموعاً، فهو محترف في إنشاده، كما هو في رسمه على الورق المترف، وهذا غريب في المكتبة العربية، هنا وهناك وهنالك.

     في شعره البديع والرائع، وفيه دون ذلك، كسائر الشعراء في القديم والحديث، وهذا لا يضير الشاعر، فقد كان لدى الشاعرين الكبيرين: أبي تمام والبحتري، جيد ورديء من الشعر، يقران به ولا ينكرانه، ولو سألت أي شاعر عاقل غير مغتر بشعره وشخصيته، لاعترف بهذا، أما المغرور فلا، لأن الغرور هبة الغباء للنفوس الصغيرة، من الشعراء والفنانين، إلى السياسيين والوجهاء والمتزعمين.. سواء بسواء.

     وأشهد ويشهد معي كل من عرف الشاعر الإنسان حيدر، يشهد له بالتواضع، والوقوف عند الحق، وتجنبه الكذب والادعاء والغرور، وهذه قيمة من القيم الإسلامية الإنسانية الرفيعة.

     ومع ذلك، لم أقع على رديء في شعره، حتى المباسط منه.

     مفرداته حافلة بالكلمات القرآنية، وكذلك أساليبه، فهو ليس ذا أسلوب بل أساليب، في الذروة من الرصانة والفصاحة والأصالة، حتى إنك لتظنه شاعراً من فصاح الشعراء العباسيين. بيد أنه لم يقلد ولم يكرر واحداً منهم. وإذا وقع بعض من هذا، كما لاحظ الدكتور الشاعر الناقد أحمد البراء الأميري في بعض شعر حيدر، فهو نادر، وقد يتأتى للشاعر كما يتأتى للمفكر والعادي من الناس.

     هل هو من عبيد الشعر؟ فقد قلت: إنه يُعنى به بشدة، ويغيّر ويبدل في مفرداته، ولا ينشره إلا بعد لأي.. حتى تستوي القصيدة على سوقها، وليس ساقها. وإذا شعر بأهمية قصيدة يكتبها أعطاها عناية خاصة، وتعب فيها جداً، كان ذلك على سبيل المثال في قصيدته "صلاح الدين"، التي ظل يعمل فيها ثلاثة أشهر، نظراً لأهمية ممدوحه البطل العظيم "صلاح الدين الأيوبي".

     هل هو من عبيد الشعر إذن؟

     لا.. إنه يكره العبودية لغير الله، وهذا شعره ونثره وأحاديثه، كلها تشهد له بهذا..

     ارتقى الغدير بشعره، لغة وصورة، وموسيقا، واستثمر التراث استثماراً جيداً أغنى شعره وحياته كلها، فللموروث الثقافي فاعليته فيما شعر (حيدر) ونثر.

     إنه شاعر ويتذوق الشعر، وقد يقدم بعض الشعراء على نفسه، على شعره، وبأريحية نفتقدها لدى كثير من الشعراء والأدباء والكتاب والمفكرين والفنانين.

***

     هذه كلمات حييات عن أخ أثير، عن شاعر كبير مبدع، لم يأخذ حظه من الشهرة والتكريم، مثل العشرات من الرجال الأسوياء المبدعين، لأن حيدراً والعشرات الذين أعنيهم، منتمون ملتزمون بمبادئ أعظم دين، بأخلاقياته وقيمه، ولأنهم يهملون أنفسهم كما يهملون إخوانهم، مهما كانوا بارعين في نتاجهم الشعري والأدبي والفكري والفني، لماذا؟ حتى لا يقصم بعضهم رقاب بعض بكلمة نقدية أو تعريفية فيها ثناء، ولهذا ندر النقاد الإسلاميون، ومن هم في سلوكهم.

***

     أبا معاذ، أيها الشاعر الكبير!

     أنت إنسان عرف زمانه، واستقامت طريقته، فقد كنت السوي في سلوكك وتوجهاتك وصلاتك مع عصرك وأبناء عصرك، وسوف تجوز الصراط المستقيم - إن شاء الله - بما أوتيت من فروسية، وعفة، ورقة، وشفافية، وإيمان، في رجولة، سداها ولحمتها نفسك المعجونة بقيم الإسلام والعروبة.

     عرفتك إنساناً قبل أن أعرفك شاعراً.

     عرفتك شاباً مثقفاً بعيد مرامي النظر، بعيد تطلعات الروح التي تمزقه بحيويتها وانطلاقتها نحو أمداء إنسانية تقاصرت همم الكبار أو الذين نحسبهم كباراً، دونها.. عرفتك راضياً بدنياك، وضائعاً فيها في آن. لقد كنت - ولم أزل – أشفق على الروح من الإهاب، وعلى الإهاب من الروح المتوثبة في خفة الشباب، وصرامة الكبار من الرجال.

     رأيتك بينهم، ورأيتهم بينك. أجل رأيتهم بينك. وفي فمي ماء يمنعني من البوح.

     ولا أملك بعد هذه الكليمات الحييات إلا أن أقول:

     أبا معاذ أيها الشاعر الشاعر، سلام عليك في الخالدين.

---------------------
[1] للديوان مقدمتان نفيستان، الأولى "أخي حيدر الإنسان"، للأستاذ عبد الرزاق ديار بكرلي، والثانية "أخي حيدر الشاعر"، للدكتور أحمد البراء الأميري.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة