الأربعاء، 28 ديسمبر 2022

محمد أسد بين الأحد والجمعة

محمد أسد بين الأحد والجمعة

     في ديار المسيحية يتميز يوم الأحد بمظهر وسلوك خاص، يطبعه بطابع معين، وفي ديار المسلمين يتميز يوم الجمعة بمثل ذلك.

     ترى كيف يبدو الأمر بين "جُمُعتنا" و"أَحَدهم" في نظر عقل ذكي بصير، شهد النوعين من الحياة، حياتهم وحياتنا، وعرف "أَحَدهم" و"جُمُعتنا"!؟

     واستقر آخر المطاف في رحاب الإسلام المباركة الواسعة، بعد دراسة وقناعة ومعايشة، ومغامرات في عالَمَي الجسد والروح على السواء.

     كان ذلك في دمشق في الربع الأول من القرن العشرين، حين حلّ بها الأستاذ محمد أسد، وكانت أول جمعة يتعرف إليها قبل إسلامه.

     في يوم الجمعة كنتَ تشاهد تبدلاً في أسلوب الحياة في دمشق، إعصار خفيف من المرح البهيج، وفي الوقت نفسه خشوع ومهابة. ولقد فكرتُ في أيام آحادنا في أوروبا، في شوارع المدينة الصامتة، والمخازن المغلقة، وذكرتُ كل تلك الأيام الفارغة، وضيق الصدر الذي كان ينتج عن ذلك الفراغ.
***

× ولكنْ لماذا لا بد أن يكون الحال كذلك؟ ترى ما الذي يمكن أن نجده جواباً على ذلك عند المهتدي الغربي المثقف؟

- الآن بدأتُ أفهم، لأن الحياة اليومية بالنسبة إلى معظم الناس في الغرب، عبء ثقيل لا يريحهم منه سوى أيام الآحاد. إنّ يوم الأحد لم يعد يوم راحة فحسب، بل أصبح أيضاً مهرباً إلى غير الحقيقي، نسياناً خادعاً تكمن وراءه أيام الأسبوع مضاعفة الثقل والنذر.

× إنه لَأمر يبعث على الدهشة، على الأقل حتى نتبين السبب، ترى لماذا يحاول الغربي من حيث يعلم أو لا يعلم الهروب مما هو فيه؟

- لقد ضاعت روح الإنسان الأوروبي في ضوضاء الآلة الخانقة التي تزداد مع الأيام جرأة وغرابة، وتفقد أيضاً غرضها الأصلي، وهو أن تصون الحياة الإنسانية. إنها تتطور إلى صنم مفترس من الفولاذ، والظاهر أن كهنة هذا المعبود، والمبشّرين به، غير مدركين أنّ سرعة التقدم التكنولوجي الحديث هي نتيجة، ليس لنمو المعرفة الإيجابي فحسب، بل لليأس الروحي أيضاً.

     إن الانتصارات العظيمة التي على ضوئها يعلن الإنسان الغربي أنه سيحقق السيادة على الكون هي في حقيقتها ذات صبغة دفاعية، فخلف واجهتها البراقة يكمن الخوف من الغيب والمجهول.

× غريب هذا الذي يقوله ويؤكده الرجل، لكنَّ ثمة شواهد كثيرة تسنده، وتدل على أنّ إنسان الحضارة الغربية يبدو في بعض الأحيان، وكأنه هارب شارد من أشباح ومخاوف وألوان من اليأس، تطارده وتسبب له فنوناً شتى من المنغّصات. ترى كيف بدا لصاحبنا يوم الجمعة عند المسلمين، بالمقارنة مع يوم الأحد عند المسيحيين في ظلال ذلك الهرب والشرود؟

- بالنسبة للمسلمين، لم يكن يوم الجمعة يبدو فرصة لنسيان أعمالهم، لا لأنَّ ثمار الحياة كانت تتساقط بسهولة ويُسْر ودون عناء، بل لأن عملهم، حتى أكثره إجهاداً لم يكن يبدو أنه يتعارض مع رغباتهم الشخصية.

     كانت هناك صلة باطنية بين العامل وعمله، مما جعل الراحة غير ضرورية له، إلّا إذا شعر بالتعب، ومثل هذا التوافق بين الإنسان وعمله، لا بد أن يكون الإسلام قد تصوّره الحالةَ الفطرية للأشياء، ولذلك لم يفرض أي راحة إجبارية يوم الجمعة.

     كان الصنّاع وأصحاب الدكاكين الصغيرة في أسواق دمشق يعملون ساعات قليلة ثم يتركون دكاكينهم بضع ساعات، ينصرفون خلالها إلى المساجد، فيؤدون صلاة الجمعة، ويَلقَوْنَ أصدقاءهم بعد ذلك في أحد الأمكنة، ثم يعودون إلى عملهم من جديد، ليعملوا على رِسْلهم بضع ساعات أخرى، وكما يشاء كل منهم.

× لا بد أن الرجل قد زار الجامع الأموي بدمشق يومذاك، فهو من أبرز معالمها المشهورة. ترى، أي ذكرى يحملها عن تلك الزيارة؟

- في يوم من أيام الجمعة ذهبتُ مع صديقي الذي كنتُ ضيفاً عنده إلى الجامع الأموي، كانت الأعمدة الرخامية الكثيرة التي تحمل السقف المقبّب تلمع تحت أشعة الشمس التي كانت تتساقط من النوافذ ذات الأعتاب الحجرية.

     كانت رائحة المسك منتشرة في هواء الجامع، وكانت أرضه مغطاة بقطع من السجاد الأزرق والأحمر. وفي صفوف طويلة مستقيمة، كان يقف مئات الرجال وراء الإمام الذي كان يؤدي الصلاة، كانوا يركعون ويسجدون.. فيلمسون الأرض بجباههم، ثم ينهضون ثانية في وحدة منظمة كالجنود سواءً بسواء. كان كل شيء هادئاً جداً، وبينما كان الحشد وقوفاً، كان باستطاعة المرء أن يسمع صوت الإمام الشيخ من الأعماق البعيدة في القاعة الكبيرة يتلو آيات من القرآن الكريم.

· جميل حقاً هذا الوصف الشائق يقدمه لنا الأوروبي المهتدي. ترى كيف بدت له صلة هؤلاء الناس بالله عز وجل إبّان عبادتهم؟

- في تلك اللحظة أدركتُ مبلغ قرب هؤلاء الناس من ربّهم ومن دينهم. إنّ صلاتهم لم تكن تبدو منفصلة عن يوم عملهم، مستقلة عنه، بل كانت قسماً منه، لم يُقصد بها أن تساعدهم على نسيان الحياة، بل على ذكر الله بطريقة أفضل، وقلتُ لصاحبي؛ إذ كنا نغادر المسجد: ما أغرب وأدهش أن تشعروا أنّ الله عز وجل قريب منكم إلى هذا الحد!.. أود لو أستطيع أن أشعر نفسي هذا الشعور.

× ملاحظة جميلة، وأمنِية طيبة، ترى بماذا رد عليه صاحبه الذي كان ضيفاً عنده؟

- لقد قال لي: وكيف يمكن أن يكون الأمر غير ذلك يا أخي؟ أليس الله تعالى كما يقول كتابنا الطاهر: ﴿ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾؟ [ق:16].

× لعلّ إدراكاً جديداً تشكّل عند الرجل في أعقاب هذا كله. ترى ما أثر هذا الإدراك الجديد في نفسه؟

- لقد كان لهذا الإدراك الجديد أبلغ الأثر في نفسي، فقضيتُ معظم أيامي في دمشق أطالع كل ما تصل إليه يدي من الكتب عن الإسلام. ومهما كانت تلك الدراسات والأحاديث مؤلفة من نتف وشذرات، فإنها كانت بمثابة رفع الغشاوة عن عيني. لقد بدأتُ أميّز عالماً من الأفكار كنتُ حتى ذلك الحين أجهله جهلاً كلياً.
*****

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة