الأربعاء، 28 ديسمبر 2022

محمد أسد.. شهر رمضان ونصف كعكة

محمد أسد .. شهر رمضان ونصف كعكة

     في كثير من الأحيان تحجب الألفة عن الإنسان جوانب كان ينبغي أن تأخذ المساحة المناسبة لها من الاهتمام والعناية، ذلك أن العادة تشكل غالباً جداراً يمنع نفاذ الرؤية وعمق الإدراك. ومن كُتِبَ له الحج مرات كثيرة يمكن أن يدرك ذلك جيداً، حين يقارن بين حالته في الحجة الأولى، وحالته فيما بعد ذلك.

     لكنّ مَقْدَمَ إنسان غريب، يمتلك ذكاءً وإنصافاً وبُعدَ نظر إلى بيئة جديدة تغاير بيئته وتعامله معها للمرة الأولى، من شأنه أن يجعل له من المقدرة على الملاحظة والفهم وحسن الإدراك، ما يهيئ له فرصة الفوز بملاحظات ثمينة قد لا يفوز بها ابن البيئة ذاتها، ذلك لأن هذا الغريب لم ينشأ في حسّه جدار من الألفة، ولا حاجز كثيف من العادة.
***

× خذ شهر رمضان المبارك مثلاً، إن له صورته الخاصة عند المسلمين، ولكنْ كيف تبدو صورته عند أوروبي يشهده للمرة الأولى؟

- يحدّثنا عن ذلك مثقف غربي منصف قدِّرَ له فيما بعد أن يُسلِمَ، ويدوّن قصة هدايته في سيرة ذاتية شائقة ممتعة جداً، إنه الأستاذ المهتدي محمد أسد (ليوبولد فايس سابقاً). لقد شهد الرجل أول رمضان عرَفه في ديار المسلمين في القاهرة في العشرينات من هذا القرن. وهكذا مضى يتحدث عن مشاعره إزاءه:

     كان ذلك في القاهرة في اليوم الثالث بعد وصولي إياها، سمعتُ عند الغروب صوت مدفع خفيض من القلعة، وفي اللحظة نفسها انبعث هالة من النور في أعالي المئذنتين القائمتين على جانبي مسجد القلعة.

     واقتدت جميع مآذن المدينة بذلك، فأضاءت أنوارها، فعلى كل مئذنة هالة من نور. وفي القاهرة القديمة قامت حركة غريبة، وأصبحت خطوات الناس أعجل، وفي الوقت نفسه أكثر ابتهاجاً، كما أصبحت الجلبة المتعددة النغمات في الشوارع أكثر علوّاً ووضوحاً. لقد كان باستطاعتك أن تحسّ وأن تسمع تقريباً، توتراً جديداً، يسري ويرتعش في جميع الجهات.

     كل هذا حدث لأن الهلال الجديد أعلن قدوم الشهر الجديد، وكان ذلك رمضان، الشهر الحبيب عند المسلمين. إنه يعيد ذكرى ذلك الوقت الذي مضى عليه أكثر من ثلاثة عشر قرناً والذي أُنزِلَ فيه القرآن الكريم.

     إنّ الصيام يحقق هدفين مزدوجين، فالفرد إذ يمتنع عن الطعام والشراب، يشعر في جسمه بما يشعر به الفقراء والجائعون، وبها تثبت المسؤولية الاجتماعية في الوعي البشري كمطلب ديني، هذه هي الأولى. أما الثانية فهي ضبط النفس، وهي ناحية من نواحي أخلاق الفرد التي تشدد عليها التعاليم الإسلامية.

     وفي هذين العنصرين، الأخوة الإسلامية، وضبط النفس، بدأتُ أميّز الخطوط الكبرى في استشراف الإسلام الأخلاقي.

     على أنّ رمضان المبارك يُحدِثُ من الأثر في حياة المسلمين ما يجعله يحتل من اهتمامهم مساحة واسعة، وهذه المساحة كفيلة بأن تجعل امرأً غريباً عن بيئتنا، يتوقف عنده ويفكّر فيه.

× ترى هل ثمة حوادث صغيرة قد لا نعيرها اهتماماً بسبب حاجز الألفة والعادة، لكن غيرنا يجد فيه مغزى أكبر ودلالة بعيدة؟ سوف نتجه بهذا السؤال الآن لصاحبنا نفسه الأستاذ محمد أسد:

     من خلال الذي كتبت عرفنا أن الإسلام دخل إلى أعماقك دخولاً هادئاً.. لكنه عميق مكين، هل بإمكانك أن تتذكر المرة الأولى التي بدأ معها هذا الدين يدخل إلى أعماقك؟

     سنرى الإجابة قد تبدو غريبة، ذلك أنّ ما يعتبره الرجل شيئاً ذا بال وواحداً من أبواب الهداية إلى الحق، هو أمر يبدو لنا في منتهى اليسر والبساطة. لكنْ ربما كانت الألفة هي التي تجعله يبدو لنا كذلك، والجِدة هي التي جعلته عند الرجل يبدو شيئاً مهماً ذا بال.

- كان ذلك في عام 1922م في رحلتي الأولى إلى دياركم، كنتُ مسافراً من مصر إلى فلسطين بالقطار، ووقفنا مراتٍ عديدة في محطات صغيرة، وكان الأولاد السمر وعلى أجسامهم خرق بالية يركضون هنا وهناك، يحملون السلال، ويعرضون على المسافرين التين والبيض المسلوق وأرغفة الخبز العربي الطازج.

     ونهض البدوي الذي كان جالساً معي ببطء، وحلّ كوفيته ثم فتح الشباك.. فإذا به دقيق الوجه أسمر اللون، واحد من تلك الوجوه الصقرية التي تتطلع دائماً إلى الأمام بعزيمة وتصميم، لقد ابتاع قطعة من الكعك ثم استدار، وكان على وشك الجلوس عندما وقعت عيناه عليّ. ودون أن ينطق بكلمة قسم كعكته إلى نصفين وقدّم لي أحدهما. وعندما رأى دهشتي وترددي، ابتسم وقال كلمة لم أفهمها يومئذ، ولكني أعرفها الآن: تفضل. وأخذتُ قطعة الكعك وشكرتُه بإيماءة من رأسي، وتطوع للترجمة مسافر قال بلغة إنكليزية متقطعة: إنه يقول لك: أنت مسافر وهو مسافر، والطريق واحدة.

× هذا الحادث يمثل جزئية من الجزئيات الكثيرة في السلوك اليومي عند المسلمين، وهي بلا ريب تعكس مع مثيلاتها الكثيرات من تفاصيل الحياة الصغيرة طريقةَ المسلمين في الحياة، وعقيدتهم ومشاعرهم وأخلاقهم. لذلك لا غرابة إن وجدنا الرجل يقول عن ذلك الحادث الجزئي، الصغير العابر:

- عندما أفكر الآن بذلك الحادث البسيط، يُخيّلُ إليّ أنّ حبي كله للأخلاق المسلمة فيما بعد قد تأثر به، ذلك أنّ في بادرة هذا البدوي الذي شعر رغم جميع حواجز الغربة بصداقة رفيق عابر له في السفر فقاسمه الخبز، نفحةً من الإنسانية أحسستُ بها خالية من أي تصنّع أو تكلّف.
*****

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة