الأربعاء، 28 ديسمبر 2022

محمد أسد من قلق الكفر إلى سكينة الإيمان

محمد أسد من قلق الكفر إلى سكينة الإيمان

     من أثمن ما يقع عليه المرء في حياته، أن يُوَفَّقَ للصلة بعقول ذكية مؤمنة سواءً عن طريق الصلة الشخصية المباشرة، أو عن طريق الكتب والمؤلفات.

     إنّ مثل هذه الصلة حين تكون جادة إيجابية، مصحوبة بنشاط عقلي، وهدف نبيل، تُثري العمر، وتضاعف الخبرة، وتخصب الحياة، وتجعل خطوات الإنسان أعمق وأغنى وأرسخ، ومسيرته على جادة الهداية أقوى وأصح وأصدق.

     وفي تقديري، ودون أن أزكي على الله أحداً، أنّ الأستاذ المعروف، محمد أسد (ليوبولد فايس سابقاً) الذي أسلم بعد معاناة غنية ثرية، من العقول المؤمنة الذكية التي يجد الإنسان عندها كثيراً مما يمتع ويفيد، ولعلنا إذا طفقنا نجوب ذهنه الحي، وعقله النشيط وخياله المحلّق نجد مصداق ذلك.
***

× انظر إليه كيف يتحدث عما كان يعانيه من قلق وسخط، وشعور غامض بأن يكون له انتماء يحدد وجهته في الحياة:

- كنتُ في أعماقي ساخطاً غير راض، لا أعرف هدفي الحقيقي، وفي الوقت نفسه مقتنعاً بكبرياء الشباب الباطلة بأني سأعرفه يوماً من الأيام. وهكذا كنتُ أتأرجح على رقّاص رضاء قلبي وسخطه، شأن كثير من الشباب في تلك السنوات الغريبة، ذلك أنه في حين أنّ أحداً منا لم يكن غير سعيد حقاً، فإن قليلاً جداً بَدَوْا وكأنهم سعداء وشاعرون بسعادتهم.

     لم أكن غير سعيد، ولكن عدم قدرتي على مشاركتي أولئك الذين كانوا من حولي، أيّ فريق منهم، مختلفَ آمالهم الاقتصادية والسياسية نما مع الزمن إلى شعور غامض بأني لستُ واحداً منهم. هذا الشعور الغامض كان مصحوباً أيضاً برغبة في أن أكون واحداً، ممّن؟ أن أكون جزءاً من شيء، ولكنْ ممَّ ذلك الشيء؟

× وإذن؛.. فالرجل ساخط مضطرب، وهو يتلمس درباً ينتسب به إلى شيء يجهله وينتمي به إلى قبيل لم يعرفه بعد. كان غريباً بين قومه، وفي أعماقه شوق مجهول، وحنين لا يدري وجهته، ولكنْ ألم يكن لديه أي علم عن الإسلام؟ إنه رجل مثقف فكيف يرضى لنفسه أن يتخذ من الحياة عموماً موقفاً رافضاً دون أن يعرف وجهة نظر الإسلام في كبريات أمور الحياة؟

- يقول: لو أنّ أحداً قال لي في ذلك الحين: إن معرفتي بالإسلام ستذهب إلى أبعد جداً من حدود عطلة اختيارية، نويتُ القيام بها إلى العالم الإسلامي، وإنها ستصبح في الحق نقطة تحول في حياتي، لو أن أحداً قال لي ذلك إذن لضحكتُ من الفكرة، واعتبرتُها بعيدة عن الصواب بالكلية. لم يكن ذلك لأنني لم أكن من ذلك النوع الذي لا يتأثر بإغراءات البلاد التي كان تفكيري فيها مصحوباً بالجو الرومانتيكي لألف ليلة وليلة، شأن معظم الأوروبيين، لا، فقد كنتُ أحب التغيير والتقاليد الغريبة والمقابلات البهيجة، ولكنْ لم يخطر في بالي قط أن أتوقع هناك في ديار المسلمين مغامرات في عالم الروح أيضاً.

× من الواضح من خلال ما يقرره الرجل، أنّ الإسلام غريب في ثقافة الرجل الغربي الذي تجد عنده اهتماماً بفلسفة الهنادك أو البوذيين. يدل على غربة الإسلام الثقافية عند القوم أنّ صاحبنا سمّى رحلته إلى ديار المسلمين مغامرات، مغامرات في عالم الروح. ترى أليس ذلك أمراً جديراً بالتنبّه؟ أليس استغراق الثقافة الغربية في نفسها وازدراؤها لما عند الآخرين أمراً غريباً حقاً؟ على هذا النحو يجيب الرجل على ذلك:

- إنّ كل الأفكار والانطباعات التي صادفتني سابقاً نسَبْتُها غريزياً إلى النظرة العالمية الغربية، آملاً أن أتحقق بمدى أوسع من الشعور والإدراك ضمن المحيط الثقافي الوحيد الذي كان معروفاً لدي. لقد كنتُ شاباً أوروبياً ناشئاً على الاعتقاد بأن الإسلام وكل تعاليمه لم يكن أكثر من طريق فرعي لتاريخ الإنسان غير جدير بالاحترام من الناحيتين الروحية والأخلاقية، وأنه لذلك لم يكن ليوضع في المنزلة نفسها، بل لم يكن ليُقارنَ بالدينين اللذَيْنِ يعتبرهما الغرب جديرين بالنظر إليهما نظرة جدية: المسيحية واليهودية.

     انحراف أوروبي غامض ضد الأمور الإسلامية، كان يشكل خلفيتي الثقافية. لقد بدأت رحلتي الأولى في صيف عام 1922م، وإذ كنتُ لا أستطيع، إنصافاً لنفسي أن أقول: إنني كنتُ مستغرقاً في أموري الخاصة فحسب، فإنني أستطيع أن أقول مع ذلك: إنني كنت فريسة لتلك العقلية الغربية المستغرقة في ذاتها، التي طالما تميّز بها الغرب في جميع الأزمنة.

× لكنّ الرجل الذكي المنصف أخذ يتحرر من تعصّب العقلية الغربية، وأخذ يكتشف ما في الإسلام من عظَمة وصحّة وتفوّق، وأخذ إعجابُه بهذا الدين ينمو ويزداد، حتى انتهى به الأمر في خاتمة المطاف إلى أن يسلم، بل إلى أن يتحول إلى مفكر مسلم جاد قدّم لنا مجموعة من الكتب النافعة، يقع المرء فيها على ملاحظات ذكية عميقة، وفهم نفّاذ بصير.

     تأمل قوله عن الحياة الاجتماعية وكيف جدّد الروح القرآني صياغتها:

- لقد تأثرت الحياة الاجتماعية بتعاليم القرآن، ففي الزمن الذي كان الوباء يُعتبر فيه في أوروبا المسيحية، قصاصاً من الله لم يكن للإنسان إلا أن يخضع له بأناة وصبر في ذلك الزمن، وقبله بوقت طويل اتبع المسلمون وصية نبيهم صلى الله عليه وسلم التي أمرتهم بمحاربة الأوبئة عن طريق عزل البلدان والمناطق المصابة، وفي الزمن الذي كان الاستحمام يُعتبر حتى في نظر حكام أوروبا وأشرافها نعيماً ورفاهاً يكاد يكون شائناً معيباً كان في بيوت المسلمين، حتى أفقرهم، غرفة استحمام واحدة على الأقل. أما الحمامات العامة المتقنة فقد كانت شيئاً عادياً في كل مدينة إسلامية. وذلك كله استجابة لقول النبي صلى الله عليه وسلم "النظافة من الإيمان". ولم يجد المسلم تعارضاً قط بين مطالب الحياة الروحية ومطالب الحياة الجسدية.
*****

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة